الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَرْفُ النُّونِ
486 -
الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطا: الإمام الفقيهُ الكوفيُّ، مولى تيم الله بن ثعلبة، وهو من رهط حمزة الزيات، كان خرازاً يبيع الخرز من أهل كابل، وقيل: بابل.
وزوطا: هو الذي مسه الرق، فأُعتق، وولد له ثابت على الإسلام.
وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: ما وقع علينا رق قط.
وأدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة - رضوان الله عليهم -، وهم: أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يلق أحداً منهم، ولا أخذ عنه، وأصحابه يقولون: لقي جماعة من الصحابة، وروى عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل.
وكان عالماً عاملاً، ورعاً تقياً، كثير الخشوع، دائم التضرع إلى الله تعالى، ونقله أبو جعفر المنصور من الكوفة إلى بغداد، وأراد أن يوليه القضاء، فأبى، وقال: لا أصلح لذلك، فقال له: كذبتَ، أنت تصلح، فقال له: حكمتَ لي على نفسك، كيف يحل لك أن تُولي قاضياً على
أمانتك وهو كذاب؟ ! فأمر به إلى الحبس في الوقت.
وكان يزيد بن عمرو بن هبيرة الفزاري أمير العراقين أراد أن أبا حنيفة يلي القضاء بالكوفة أيام مروان بن محمد آخرِ ملوك بني أمية، فأبى عليه، فضربه مئة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك، خلَّى سبيله.
وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه إذا ذكر ذلك، بكى، وترحَّم على أبي حنيفة، وذلك بعد أن ضُرب أحمد على القول بخلق القرآن.
وكان أبو حنيفة حسن الوجه والخلق، شديد الكرم، حسن المواساة لإخوانه، وكان ربعة من الرجال، وقيل: كان طويلاً تعلوه حمرة، أحسن الناس منطقاً، وأحلاهم نعمة.
ورأى في المنام كأنه نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبعثَ من سأل محمدَ بن سيرين، فقال صاحب هذه الرؤيا يثور علماً لم يسبقه إليه أحد قبله.
قال الشافعي رضي الله عنه: قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيتُ رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً، لقام بحجته.
وقال الشافعي: الناس عيال على هؤلاء الخمسة: من أراد أن يتبحر في الفقه، فهو من عيال أبي حنيفة؛ فإن أبا حنيفة ممن وثق له الفقه، ومن أراد أن يتبحر في الشعر، فهو عيال على زهير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحر في المغازي، فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد أن يتبحر في النحو، فهو عيال على الكسائي، ومن أراد أن يتبحر في
التفسير، فهو عيال على مقاتل بن سليمان.
وكان أبو حنيفة إماماً في القياس، وكان له جار بالكوفة إسكاف يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنَّه الليل، رجع إلى منزله، وقد حمل له لحماً يطبخه، أو سمكة يشويها، ثم لا يزال يشرب، حتى إذا دب الشراب، غرد يصوت وهو يقول:
أَضَاعُونى وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا
…
لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع كلامه كل ليلة، وأبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته، وسأل عنه، فقيل له: أخذه العسس منذ ليالٍ، وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة الفجر من غدوة، وركب بغلته، واستأذن على الأمير، فأذن له، وقال: أَقبِلوا به راكباً، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل، ووسع له الأمير من مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ قال: جار لي إسكاف أخذه العسس منذ ليال بأمر الأمير، فحبسه، فأمر الأمير بإطلاقه، وكل من أُخذ في تلك الليلة أن يخرجوا، ويُخلَّى سبيلهم، فركب أبو حنيفة، والإسكاف يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة، قال للإسكاف: هل أضعناك يا فتى؟ قال: لا، بل حفظتَ ورعيتَ - جزاك الله خيراً عن حرمة الجوار، ورعاية الحق -، وتاب الرجل، ولم يعد إلى ما كان عليه.
ومحاسن أبي حنيفة ومناقبه كثيرة.
وكانت ولادته سنة ثمانين للهجرة، وقيل: سنة إحدى وستين،
والأول أصح، وتوفي في رجب، وقيل: في شعبان، سنة خمسين ومئة، وكان وفاته ببغداد في السجن ليلي القضاء، فلم يفعل، وهذا هو الصحيح، وقيل: لم يمت في السجن، وقيل: إنه توفي في اليوم الذي ولد فيه الإمام الشافعي رضي الله عنه، ودفن بمقبرة الخيزران، وقبره هناك مشهور يزار.
وزُوطا: بضم الزاي المعجمة، وسكون الواو، وفتح الطاء المهملة.
* * *
487 -
أبو عبد الله نافع بن عبد الله مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كان ديلمياً، وأصابه مولاه عبد الله في غزاة، وهو من كبار التابعين، ومن المشهورين بالحديث، ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم، وأهل الحديث يقولون: رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سلسلة الذهب، وتوفي سنة ست عشرة، وقيل: عشرين ومئة.
* * *
488 -
أبو رُوَيْم نافع بن أبي نعيم مولى جعونة بن شعوب المقرئ المدني: أحد القراء السبعة، كان إمام أهل المدينة، وهو من الطبقة الثالثة بعد الصحابة رضي الله عنهم، وكان زنجياً فيه دعابة، وكان أسود شديد السواد، قرأ عليه مالك رضي الله عنهم، وكان قرأ على أبي ميمونة مولى أم سلمة زوجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له راويان: وَرْش، وقالون.
وتوفي نافع سنة تسع وستين ومئة بالمدينة.
وجعونة: اسم الرجل القصير، ثم سمي به الرجل، وإن لم يكن قصيراً، وجعل عليه علماً، وكان جعونة حليف حمزة بن عبد المطلب.
* * *
489 -
أبو القاسم نصر بن أحمد بن نصر المعروف بالخُبزأرزي - بخاء معجمة مضمومة، وباءٍ موحدة، وراء مهملة، ثم همزة ثم راء، ثم زاي، ثم ياءٍ بالتشديد والتخفيف في الأرز -: الشاعر المشهور، كان أمياً لا يتهجى ولا يكتب، وكان يخبز الأرز بمربد البصرة في دكان، وينشد الأشعار، والناس يزدحمون عليه، ويعجبون من حاله، وكان وصل بغداد، وأقام بها دهراً طويلاً، ومن شعره:
رَأَيْتُ الهِلَالَ وَوَجْهَ الحَبِيبِ
…
فَكَانَا هِلَالَيْنِ عِنْدَ النَّظَرْ
فَلَمْ أَدْرِ أيُّهُمَا قَاتِلِي
…
هِلَالُ السَّمَا أَمْ هِلَالُ البَشَرْ
فَلَوْلَا التَّوَرُّدُ فِي الوَجْنتَيْنِ
…
وَمَا رَاعَنِي مِنْ سَوَادِ الشَّعَرْ
لَكُنْتُ أَظُنُّ الهِلَالَ الحَبِيبَ
…
وَكُنْتُ أَظُنُّ الحَبِيبَ القَمَرْ
وله أخبار ونوادر كثيرة، توفي في سنة سبع عشرة وثلاث مئة رحمه الله.
* * *
490 -
أبو الفتوح نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن علي بن عبد القوي بن قلاقس، اللخميُّ الأزهريُّ السَّكَندريُّ، الملقب: القاضي
الأعز، الشاعرُ المشهور: كان شاعراً فاضلاً نبيلاً، وكان كثير الحركات والأسفار، وفي ذلك يقول:
وَالنَّاسُ كَنْزٌ وَلَكِنْ لَا يُقَدَّرُ لِي
…
إِلَاّ مُرَافَقَةُ المَلَاّحِ وَالحَادِي
وفي آخر عمره دخل بلاد اليمن، ثم ركب البحر، فانكسر المركب، فغرق جميع ما معه، فطلع بجزيرة الناموس.
وله في جارية سوداء:
رُبَّ سَوْدَاءَ وَهْيَ بَيْضَاءُ فِعْلٍ
…
نَافَسَ المِسْكَ عِنْدَهَا الكَافُورُ
مِثْلُ حَبِّ العُيُونِ تَحْسَبُهُ النَّا
…
سُ سَوَاداً وَإِنَّمَا هُوَ نُورُ
وله محاسن كثيرة.
ولد بثغر الإسكندرية يوم الأربعاء، ربع شهر ربيع الآخر، سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة، وتوفي في ثالث شوال، سنة سبع وستين وخمس مئة، وكان دخل صقلية، ولما فارقها راجعاً إلى الديار المصرية، وكان في زمن الشتاء، ردَّته الريح إلى صقلية، فكتب إلى أبي القاسم بن الحجر بصقلية، وكان أحسن إليه:
مَنَعَ الشِّتَاءُ مِنَ الوُصُو
…
لِ مَعَ الرَّسُولِ إِلَى دِيَارِي
* * *
491 -
أبو الفتح نصر الله بن أبي الكرم محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيبانيُّ، المعروف بابن الأثير ضياء الدين: ولد بجزيرة ابن
عمر، ونشأ فيها، ثم انتقل مع والده إلى الموصل، وبها اشتغل، وحصَّل العلوم، ثم صار وزير الملك الأفضل نور الدين علي ابن الملك صلاح الدين، وأساء السيرة مع أهل دمشق، ولما أخذت دمشق من الملك الأفضل، هَمَّ أهلها بقتله، فأخرجه الحاجب محاسن بن نجيح مستخفياً في صندوق، وصحبه إلى مصر، ولما استقر الأفضل في شُمَيساط، عاد إلى خدمته، وخرج مغاضباً، وعاد إلى الموصل، ثم سار إلى سنجار، ثم عاد إلى الموصل.
وله مصنفات دالة على غزارة فضله وتحقيقه، وله مراسلات وأشعار، ومن كلامه:
ثَلَاثَةٌ تُعْطِي الفَرَحْ
…
كَأْسٌ وَكُوبٌ وَقَدَحْ
مَا ذُبِحَ الزِّقُّ لَهَا
…
إِلَاّ وَلِلْهَمِّ ذَبَح
وله محاسن كثيرة.
ولد بالجزيرة، في العشرين من شعبان، سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، وتوفي في إحدى الجمادين، سنة سبع وثلاثين وست مئة ببغداد، وقد توجه إليها رسولاً من جهة صاحب الموصل.
* * *
492 -
أبو الحسين (1) النَّضْر بن شُميل، التميميُّ المازنيُّ النحويُّ
(1) في "وفيات الأعيان"(5/ 385) وغيره: "أبو الحسن".
البصريُّ: كان عالماً بفنون من العلم، صدوقاً ثقة، صاحب غريب وشعر، ورواية للحديث، وضاقت المعيشة عليه بالبصرة، فخرج يريد خراسان، فشيعه من أهل البصرة ثلاثة آلاف رجل، ما منهم إلا محدِّث، أو نحوي، أو عروضي، فلما صار بالمِرْبَد، جلس، . وقال: يا أهل البصرة! يعز - والله - عليَّ فراقُكم، والله! لو وجدت في كل يوم كيلجة، ما فارقتكم، فلم يكن منهم أحد يتكلف له ذلك، وسار حتى وصل خراسان، فحصَّل منها مالاً عظيماً.
وكان إقامته بمرو، وله مع المأمون بن الرشيد - لمَّا كان مقيماً بمرو - حكايات ونوادر؛ لأنه كان يجالسه. فمن ذلك: ما حكاه الحريري في كتاب "درة الغواص في أوهام الخواص" في قوله: ما هو سَدَاد من عَوَز، فيلحنون في فتح السين، وصوابه بالكسر، وقد جاء: أن النضر بن شميل المازني استفاد بهذا الحرف ثمانين ألف درهم، ثم ذكر إسناداً انتهى فيه إلى محمد بن واضح الأهوازي، قال: حدثني النضر بن شميل، قال: كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلت ذات ليلة في ثوب مرقوع، فقال: ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقات؟ قلت: يا أمير المؤمنين! حرُّ مَرْو شديد، فأبترد بهذه الخلقات. قال: لا، ولكنك قشف، ثم أخذنا في الحديث، فأجرى هو ذكر النساء، فقال: حدثنا هشيم عن خالد، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا، فَإِنَّ فِيهَا
سَدَاداً مِنْ عَوَزٍ" (1)، فأورده بفتح السين، قال: فقلت: صدقتَ يا أمير المؤمنين، حدثنا هشيم: حدثنا عون بن أبي جميلة عن الحسن، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا، فَإِنَّ فِيهَا سِدَاداً مِنْ عَوَزٍ"، قال: وكان المأمون متكئاً، فاستوى جالساً، وقال يا نضر! كيف قلتَ سِداد؟ قلت: لأن السَّدادَ هاهنا لحنٌ، قال: أَوَتُلحنني؟ قلت: إنما لحن هُشيم، وكان لَحَّانة، فسمع أمير المؤمنين لفظه، قال: فما الفرق بينهما؟ قلت: السَّدَاد - بالفتح -: القصد في الدين والسُّبل، وبالكسر: البُلغة، وكلُّ ما سَدَدْتَ به، فهو سِداد، قال: أو تعرب العربُ ذلك؟ قلت: نعم، فأنشد:
أَضَاعُوني وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا
…
لِيَوْمِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
فقال المأمون: قَبَّح الله مَنْ لا أدب فيه، وأطرق ملياً، ثم قال: ما لك يا نضر؟ قلت: أُرَيضة لي بمرو، قال: أفلا يفيدك مالاً منها؟ قال: قلت: إني إلى ذلك لمحتاج، قال: فأخذ القرطاسَ وأنا لا أدري ما يكتب، ثم قال: يا غلام! امض معه إلى الفضل بن سهل، قال: فلما قرأ الفضل الكتاب، قال: يا نضر! إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب فيه؟ فأخبرته، ولم أَكْذِبه، فقال: لَحَّنْتَ أمير المؤمنين؟ فقلت: كلا، إنما لحن هُشيم، ثم أمر لي بثلاثين ألف درهم، فأخذت ثمانين ألف درهم لحرف استُفيد مني.
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(33/ 294).
والبيت الذي استشهدت به هو لعبد الله بن عمرو بن عثمان الأُموي العرجي، الشاعر المشهور، من جملة قوله:
أَضَاعُوني وَأَيَّ فَتىً أَضَاعُوا
…
لِيَوْم كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
وَصَبْرِي عِنْدَ مُعْتَرَكِ المَنَايَا
…
وَقَدْ شَرَعَتْ أَسِنَّتهَا بِنَحْرِي
أُحَرِّرُ فِي الجَوَامِعِ كُلَّ يَوْمٍ
…
فَبِاللهِ مُطَّلَبِي وَقَبْرِي
كَأَنيِّ لَمْ أَكُنْ فِيهِمْ وَسِيطاً
…
وَلَمْ تَكُنْ نِسْبَتِي مِنْ آلِ عَمْرِو
فَأُجْزَى بِالكِتَابَةِ أَهْلَ وُدِّي
…
وَأُجْزَى بِالضَّغَائِنِ أَهْلَ وَبْرِ
ويحكى: أن السبب لقوله هذه الأبيات: أن محمد بن هشام المخزومي خالَ هشام بن عبد الملك لما كان والي مكة، حبس العرجي لسبب، وأقام في حَبْسه سبع سنين، ثم مات فيه بعد أن ضربه بالسياط، وشهَّره في الأسواق، فعمل هذه الأبيات في السجن.
وأخبار النضر كثيرة.
وتوفي في سلخ ذي الحجة، سنة أربع ومئتين بمدينة مرو من بلاد خراسان، ومولده بها، ونشأ بالبصرة، فلذلك نُسب إليها.
* * *
493 -
النعمان بن محمد بن منصور المكنى بأبي حنيفة: أحد الأئمة الفضلاء المشار إليهم، وكان مالكي المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمامية، وصنف كتابه "ابتداء الدعوة للعُبيديين"، وله مصنفات كثيرة،
وردَّ على أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وعلى ابن سريج، وكان ملازماً صحبة المعز أبي تميم مَعَدِّ بن المنصور، ولما وصل من إفريقية إلى الديار المصرية، كان معه، ولم تطل مدته، ومات في مستهل رجب، سنة ثلاث وستين وثلاث مئة بمصر، وصلَّى عليه المعزُّ.
وكان له أولاد نجباء، منهم: أبو الحسن علي بن النعمان، اشترك مع ابن أسامة الدهلي القاضي بمصر، ولم يزالا مشتركين إلى أن توفي المعز، وقام بالأمر ولدُه العزيز نزار، فقُلِّد القاضي أبو الحسن بن النعمان مستقلاً، فركب إلى جامع القاهرة، وقرئ سجلّه، ثم عاد إلى الجامع العتيق بمصر، وقرئ سجله، وكان فيه القضاء بالديار المصرية والشام، والحرمين والمغرب، وجميع مملكة العزيز، والخطابة والإمامة، والعيار في الذهب والفضة، والموازين والمكاتل، ثم انصرف إلى داره في جمع عظيم.
وكان مفنناً في عدة فنون، وكان شاعراً محموداً، فمن شعره:
رُبَّ خَوْدٍ عَرَفْتُ فِي عَرَفَاتِ
…
سَلَبَتْنِي بِحُسْنِهَا حَسَنَاتِي
حَرَمَتْ حِينَ أَحْرَمَتْ نُورَ عَيْني
…
فَاسْتَبَاحَتْ حِمَامِ بِاللَّحَظَاتِ
وَأفاضَتْ مَعَ الحَجِيجِ فَفَاضَتْ
…
مِنْ جُفُوني سَوَابِقُ العَبَرَاتِ
وَلَقَدْ أَضْرَمَتْ عَلَى القَلْبِ جَمْراً
…
إِذْ مَشَيْنَا بِهَا إِلَى الجَمَرَاتِ
لَمْ أقُلْ فِي مِنًى مُنَى النَّفْسِ لَكِنْ
…
خِفْتُ بِالخَيْفِ أَنْ تَكُوَن وَفَاتِي
ولم يزل أبو الحسن مستمراً على أحكامه، وافر الحرمة عند العزيز، حتى أصابته الحمى وهو بالجامع، فقام ومضى إلى داره، وأقام عليلاً أربعة عشر يوماً، وتوفي يوم الاثنين، لستٍّ خلون من رجب، سنة أربع وسبعين وثلاث مئة، وصلَّى عليه العزيز، ودفن بداره بالحمراء.
والحمراء: محلةٌ بمصر، وهي ثلاث حمراوات، وإنما قيل لها: الحمراء؛ لنزول الروم بها.
وكانت ولادته بالمغرب، في شهر ربيع الأول، سنة تسع وعشرين وثلاث مئة.
وأرسل العزيز إلى أخيه أبي عبد الله محمد، وكان ينوب عن أخيه، فقال: إن القضاء لك بعد أخيك، ولا نخرجه عن هذا البيت، ثم قلده القضاء، وخلع عليه، وكتب له سجلاً مثلَ سجلِّ أخيه.
وكان محمد جيد المعرفة بالأحكام، متقناً في علوم كثيرة، ومن شعره:
أَيَا شَبِيهَ البَدْرِ بَدْرِ السَّمَا
…
لِسَبْعٍ وَخَمْسٍ مَضَتْ وَاثْنَيْنِ
وَيَا كَامِلَ الحُسْنِ فِي شِبْهِهِ
…
شَغَلْتَ فُؤَادِي وَأَسْهَرْتَ عَيْني
فَهَلْ لِي فِي مَطْمَعٍ أَرْتَجِيهِ
…
وَإِلَاّ انْصَرَفْتُ بِخُفَّيْ حُنَيْنِ
وَيشْمَتُ بِي شَامِتٌ فِي هَوَاكَ
…
وَيُصْبِحُ لِي مِنْكَ صِفْرُ اليَدَيْنِ
وارتفعت رتبة القاضي محمد عند العزيز، حتى أقعده معه على السرير يوم عيد النحر، سنة خمس وثمانين وثلاث مئة، وتوفي ليلة الثلاثاء بعد العشاء الأخيرة، رابع صفر، سنة تسع وثمانين وثلاث مئة، وركب الحاكم إلى داره بالقاهرة، وصلى عليه فيها، ووقف على دفنه، ثم انصرف إلى قصره.
وكانت ولادته يوم الأحد، لثلاثٍ خلون من صفر، سنة أربعين وثلاث مئة بالمغرب.
ثم قلد الحاكم القضاءَ أبا عبد الله الحسينَ بن علي النعمان الذي كان ينوب عن عمه محمد، لستٍّ خلون من شهر ربيع الأول، سنة تسع وثمانين وثلاث مئة، وصُرف عن القضاء في يوم الخميس، سادس عشر رمضان، سنة أربع وتسعين وثلاث مئة، واستقر في القضاء ابنُ عمه أبو القاسم عبد العزيز بن محمد.
ثم ضُربت عنق الحسين المذكور يوم الأحد، سادس المحرم،
سنة خمسٍ وتسعين وثلاث مئة في حجرته، وأُحرقت جثته بأمر الحاكم؛ لقضية وقعت، واستقل أبو القاسم بالأحكام، وضم إليه الحاكم النظر في المظالم، ولم يجتمعا قبله لأحد من أهله، وعلت رتبته عنده، ثم صرفه عن ذلك جميعه يوم الجمعة، سادس عشر رجب، سنة ثمان وتسعين وثلاث مئة، وفوض الحكم إلى أبي الحسن مالك بن سعيد الفاروقي، وإخراجه عن أهل بيت النعمان.
ثم إن الحاكم أمر الأتراك بقتل أبي القاسم عبد العزيز وجماعة، فقتلوهم ضرباً بالسيوف في ساعة واحدة، وذلك في يوم الجمعة، ثاني عشري جمادى الآخرة، سنة إحدى وأربع مئة.
وكانت ولادة أبي القاسم يوم الاثنين مستهل ربيع الأول، سنة أربع وخمسين وثلاث مئة.
* * *
494 -
السيدة نفيسة بنت أبي محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنها -: دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق رضي الله عنه، وقيل: بل دخلت مع أبيها، وكانت من الصالحات التقيات، ولما دخل الشافعي إلى مصر، حضر إليها، وسمع عليها الحديث.
وكان للمصريين فيها اعتقاد عظيم، وهو باقٍ إلى الآن.
ولما توفي الشافعي، أدخلت جنازته إليها، وصلَّت عليه في دارها،
وكانت في موضع مشهدها اليوم، ولم تزلْ به إلى أن توفيت في شهر رمضان، سنة ثمان (1) ومئتين، ودفنت به.
وهذا الموضع كان يعرف - يوم ذاك - بدرب الشارع، فخرب الدرب، ولم يبق هناك سوى المشهد، وقبرها معروف بإجابة الدعاء، وهو مجرب.
(1) في الأصل زياده: "وثلاثين"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 424).