المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في قضاة الحنابلة] - التاريخ المعتبر في أنباء من غبر - جـ ٣

[مجير الدين العليمي]

الفصل: ‌[فصل في قضاة الحنابلة]

ثم عُزل عن القضاء في آخر عمره، واستمر إلى أن توفي بنابلس، في شهر رمضان، سنة إحدى وثمانين وثمان مئة - رحمه الله تعالى، وعفا عنه -.

* * *

459 -

قاضي قضاة الحنابلة شيخ الإسلام شمس الدين أبو بكر، وأبو عبد الله محمد ابن الشيخ عماد الدين إبراهيم بن عبد الواحد بن علي ابن سرور، المقدسي، الحنبليُّ: ولد في رابع عشر صفر، سنة ثلاث وست مئة بدمشق، ثم انتقل إلى مصر بعد الأربعين وست مئة، وسكنها، وولي مشيخة خانقاه سعيد السعداء، وتدريسَ المدرسة الصالحية، ثم ولي قضاء القضاة بالديار المصرية مدة، ثم عزل منه، وذلك في دولة الملك الظاهر بيبرس، وهو أول من ولي التدريس بالصالحية للحنابلة، وأول من ولي قضاء القضاة منهم بالديار المصرية.

توفي يوم السبت، ثاني عشر المحرم، سنة ست وسبعين وست مئة بالقاهرة، ودفن من الغد بالقرافة - رحمه الله تعالى -.

* * *

[فصل في قضاة الحنابلة]

460 -

وأولُ من ولي قضاء الحنابلة بالشام: قاضي القضاة شيخ الإسلام شمس الدين أبو محمد، وأبو الفرج عبد الرحمن ابن الشيخ أبي عُمَر محمد بن أحمد بن قُدَامَةَ، المقدسيُّ الصالحيُّ: الفقيه الإمام،

ص: 275

الزاهد الخطيب، مولده في المحرم، سنة سبع وتسعين وخمس مئة بسفح قاسيون، وكان الشيخ محيي الدين النووي رضي الله عنه يقول: هو أجلُّ شيوخي، ولي القضاء بالشام في دولة الملك الظاهر بيبرس في سنة أربع وستين وست مئة على كُرْه منه، وباشر مدة تزيد على اثنتي عشرة سنة، ثم عزل نفسه.

وتوفي ليلة الثلاثاء، سلخ ربيع الآخر، سنة اثنتين وثمانين وست مئة، ودفن من الغد عند والده بسفح قاسيون، وكانت جنازته مشهورة.

461 -

وأولُ من ولي قضاء الحنابلة بحلب: قاضي القضاة شرف الدين أبو البركات موسى ابن الشيخ جمال الدين أبي الجود فياض بن عبد العزيز بن فياض، الفنداقيُّ النابلسيُّ: الشيخ الإمام الحبر، ولي القضاء بها في سنة ثمان وأربعين وسبع مئة في دولة الملك المظفر حاجي ابن الناصر محمد بن قلاوون، أو في دولة أخيه الناصر حسن؛ فإن كلًّا منهما كان سلطاناً في هذه السنة، ثم أعرض عن وظيفة القضاء، وأقبل على العبادة إلى أن توفي في ذي القعدة، سنة ثمان وسبعين وسبع مئة بحلب.

462 -

وأولُ من ولي قضاء الحنابلة بمكة المشرفة، والمدينة الشريفة - على الحالِّ بها أفضلُ الصلاة والسلام -: قاضي القضاة السيد الشريف، الحسيب النسيب، سراجُ الدين أبو المكارم عبد اللطيف بن محمد بن أبي الفتح، الحسنيُّ، الفاسيُّ الأصل، المكيُّ: مولده في شعبان، سنة تسع وثمانين وسبع مئة بمكة المشرفة، ولي إمامة الحنابلة بالمسجد الحرام، ثم ولي القضاء بمكة المشرفة في سنة تسع وثمانين

ص: 276

في دولة الملك الظاهر جقمق، وتوفي بمكة المشرفة في ضحى يوم الاثنين، سابع شهر شوال، سنة ثلاث وخمسين وثمان مئة، ودفن بالمعلاة رحمه الله.

463 -

وأولُ من ولي قضاء الحنابلة بالقدس الشريف: قاضي القضاة عز الدين أبو البركات عبد العزيز بن علي بن العز، البغداديُّ الأصل، ثم المقدسيُّ البكريُّ، الشيخُ الإمامُ العالمُ المفسِّر: ولي القضاء بالقدس الشريف بعد فتنة تمرلنك في سنة أربع وثمان مئة، في دولة الملك الناصر فرج بن برقوق، ثم ولي قضاء دمشق، ثم قضاء الديار المصرية، ثم أعيد إلى قضاء دمشق، وقيل: إنه كان يسمى بقاضي الأقاليم؛ لأنه يقال: ولي القضاء ببغداد والعراق، ثم ولي قضاء بيت المقدس ومصر والشام، فسمي بقاضي الأقاليم.

توفي بدمشق، ليلة الأحد، مستهل ذي القعدة، سنة ست وأربعين وثمان مئة، ودفن بمقابر باب كيسان.

464 -

وأولُ من ولي قضاء الحنابلة بمدينة سيدنا الخليل عليه السلام، والرملة: قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد، العمريُّ العُلَيميُّ الحنبلي - المتقدم ذكره في ترجمته قريباً -، وقد ذكرنا في ترجمته: أن ولايته لقضاء الرملة كان في سنة ثمان وثلاثين وثمان مئة، وذلك في دولة الملك الأشرف برسباي، ثم لمَّا ولي قضاء بيت المقدس، أضيف إليه في أواخر عمره قضاء بلد سيدنا الخليل عليه السلام في المحرم، سنة إحدى وسبعين وثمان مئة، في دولة الملك

ص: 277

الظاهر خشقدم، وتقدم في ترجمته تاريخ وفاته رحمه الله.

465 -

وأولُ من ولي قضاء الحنابلة بحمص: القاضي شمس الدين محمد بن خالد بن موسى المعروف بابن زَهرة - بفتح الزاي -، توفي في ثالث عشر رجب، سنة ثلاثين وثمان مئة.

466 -

وأول من ولي قضاء الحنابلة ببعلبك: القاضي أمين الدين ابن النجيب: وكانت ولايته في ربيع الآخر، سنة ثمان وثمانين وسبع مئة، ولاه قاضي دمشق، وهو قاضي القضاة شمس الدين بن التقي المرداوي بمرسوم ورد بالإذن في ذلك، وذلك في دولة الملك الظاهر برقوق، ثم عزل في سنة تسع وثمانين وسبع مئة، ولم أطلع على تاريخ وفاته.

467 -

وأول ما تجدَّد منصب الحنابلة بصفد في سنة ست وثمانين وسبع مئة في دولة الملك الظاهر برقوق، وليه رجل من أهلها لا أعرف اسمه، وكان قليل العلم، ولم يتيسر الاطلاع على غير ذلك من أهل هذه المملكة.

468 -

وأما إقليم العراق، فإن منصب الحنابلة فيه قديم من عهد الإمام أحمد رضي الله عنه في زمن الخلفاء الراشدين؛ فإن ولد الإمام أحمد هو أبو الفضل صالح، ولي قضاء أصبهان، وكان ولي قبله قضاء طرسوس، وتوفي بأصبهان في شهر رمضان، سنة ست وستين ومئتين.

469 -

ومن أصحاب الإمام أحمد الذين عاصروه، ورووا عنه:

ص: 278

أحمد البواري، كان قاضياً بتكريت.

470 -

ومن قضاة بغداد: القاضي الموقر أبو عبد الله بن ماكولا الحنبليُّ: توفي في جمادى الآخرة، سنة سبع وثلاثين وأربع مئة.

471 -

ومنهم القاضي الكبير: أبو يَعْلَى محمد بن الحسين بن الفرَّاء إمام الحنابلة، وعنه انتشر مذهب الإمام أحمد، توفي ليلة الاثنين بعد العشاء، تاسع عشر رمضان، سنة ثمان وخمسين وأربع مئة.

472 -

ومنهم: القاضي نصير الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن الحسين السامريُّ: الفقيهُ الفرضي، صاحب كتاب "المستوعب" في فقه مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، ولي القضاء ببلدة سامراء، ثم ولي القضاء والحسبة ببغداد، ولقب في أيام ولايته: مُعَظِّم الدين، توفي ببغداد ليلة الثلاثاء، سابع عشري رجب، سنة ست عشرة وست مئة.

473 -

ومنهم: قاضي القضاة شيخ الوقت عماد الدين أبو صالح نصرُ بن عبد الرزاق بن السيد عبد القادر، الحنبليُّ الكيلانيُّ: ولد في سحر رابع عشر ربيع الآخر، سنة أربع وستين وخمس مئة، ولما ولي أمير المؤمنين الظاهر بأمر الله أبو النصر محمد ابن الإمام الناصر لدين الله العباسي الخلافة بعد أبيه، قلده قضاء القضاة بجميع مملكته، والنظر في جميع الوقوف العامة، ووقوف المدارس الشافعية والحنفية، وغيرهما.

وهو أول من دُعي بقاضي القضاة من أصحابنا، وأول من استقل منهم بولاية قضاء القضاة، ثم عزل في خلافة المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله، ولما عزله المستنصر، أنشد عند عزله:

ص: 279

حَمِدْتُ اللهَ عز وجل لَمَّا

قَضَى لِي بِالخَلَاصِ مِنَ القَضَاءِ

وَلِلْمُسْتَنْصِرِ المَنْصُورِ أَشْكُرْ

وَأَدْعُو فَوْقَ مُعْتَادِ الدُّعَاءِ

وقام بعد عزله يدرِّس ويُفتي، ويحضر المجالس والمحافل، ثم فوض إليه المستنصرُ رباطاً بناه بدير الروم، وجعله شيخاً به، وكان يعظمه ويبجله، ويبعث إليه أموالاً جزيلة ليفرقها.

وتوفي في سحر يوم الأحد، سادس عشر شوال، سنة ثلاث وثلاثين وست مئة، وكلهم دفن بمقبرة الإمام أحمد - رحمة الله عليهم أجمعين -.

وقضاة الحنابلة بإقليم العراق كثيرون، ولو استوعبنا ذكر أسمائهم، لخرجنا عن حد الاختصار، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق.

* * *

474 -

شيخ الإسلام نجم الدين أبو البقاء محمد ابن قاضي القضاة برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن قاضي القضاة شيخ الإسلام جمال الدين أبي محمد عبد الله بن جماعة، الكنانيُّ الشافعيُّ: سبطُ قاضي القضاة شيخ الإسلام سعد الدين الديري الحنفي.

ولد بالقدس الشريف في سنة ثلاث وثلاثين وثمان مئة، ونشأ بها، وهو من بيت علم ورئاسة، واشتغل من بداية أمره بالعلم الشريف، ودأب، وحصَّل، وصار من علماء بيت المقدس، وتأهل للإفتاء والتدريس

ص: 280

في حياة جده شيخ الإسلام جمال الدين.

وكان جده ولي قضاء الشافعية بالقدس الشريف، ثم صرف عن القضاء وولي مشيخة المدرسة الصلاحية، وتوفي في سنة خمس وستين وثمان مئة.

وكان ولده قاضي القضاة، برهان الدين والد شيخ الإسلام نجم الدين - حين ذلك - متولياً لقضاء الشافعية، فتُكُلم له في مشيخة الصلاحية عند الملك الظاهر خشقدم، فأنعم له بها، وكتب له التوقيع بولايتها، ثم عَنَّ لقاضي القضاة برهان الدين أن يكون لولده؛ لاشتغاله هو بمنصب القضاء، والنظر في أحوال الرعية، فروجع السلطان في ذلك، فأجاب، وأنعم بولايتها للشيخ نجم الدين، فباشرها أحسن مباشرة، وحضر معه درسَها علماء ذلك العصر، منهم: الشيخ ماهر، وغيره من العلماء المعتبرين، وأثنوا عليه ثناء حسناً، ولم تزل بيده إلى أن توفي والده في التاريخ المتقدم في ترجمته.

واستقر شيخ الإسلام في قضاء الشافعية عوضاً عن والده مضافاً لمشيخة الصلاحية، وذلك في أواخر دولة الظاهر خشقدم، في أوائل سنة اثنتين وسبعين وثمان مئة، ثم انفصل من الوظيفتين في أواخر السنة المذكورة، وكان قد باشر القضاء تلك المدة بعفة ونزاهة وصيانة، مع لين جانب، ولم يلتمس على القضاء الدرهم الفرد، حتى تنزه عن معاليم الأنظار، واستمر في منزله يفتي، ويشغل الطلبة، وباشر وظيفة الخطابة بالمسجد الأقصى إلى سنة ثمان وسبعين وثمان مئة أعيد إلى وظيفة مشيخة

ص: 281

الصلاحية، وباشرها، وهو مستمر بها إلى وقتنا (1) - عامله الله بلطفه -.

* * *

475 -

[

] (2) الحنفيُّ، شيخ الإسلام: كان من أهل العلم والدين، باشر نيابة القضاء بالديار المصرية في أيام قاضي القضاة سعد الدين الديري ومن بعده، ثم تنزه عن الحكم مدة، ثم استقل بالقضاء عوضاً عن قاضي القضاة محب الدين بن الشحنة، في شهور سنة سبع وسبعين وثمان مئة، وباشر بعفة، وعمر الأوقاف، وضبط أحوال النواب في الأحكام، وقمع المناحيس والمفسدين، وكان يقول الحق، ولا يخاف في الله لومة لائم، وعلت كلمته، ونفذ أمره.

وكان شيخاً ربعة، أبيض الوجه واللحية، نيِّراً، حسن الشكل، متواضعاً.

وكان قد أبطل الألقاب التي تكتب للقضاة في السجلات، وأمر الشهود بعدم كتابة ذلك، واستمر على القضاء إلى أن توفي في يوم الاثنين، خامس عشر رمضان، سنة خمس وثمانين وثمان مئة، ودفن في مقابر باب النصر رحمه الله.

(1) قال في "شذرات الذهب"(8/ 9 - 10): "وتوفي بالقدس في حدود هذه السنة"؛ أي سنة إحدى وتسع مئة.

(2)

ما بين معكوفتين غير واضح في الأصل.

ص: 282

476 -

قاضي القضاة شرف الدين بن محمد بن عيد، الدمشقيُّ الحنفيُّ: شيخ الإسلام، كان من أهل العلم والدين، وباشر نيابة القضاء بدمشق، ثم تنزه عن الحكم، فلما توجه مولانا السلطان الملك الأشرف قايتباي إلى المملكة الشامية، في شهور سنة اثنتين وثمانين وثمان مئة، صادف قدومه دمشق وفاة قاضي القضاة علاء الدين ابن قاضي عجلون الحنفي قاضي دمشق، فطلب من يصلح للقضاء، فذكر له القاضي شرف الدين بن عيد، فطلبه، وولاه قضاء دمشق على كُره منه، واستمر بها نحو سنتين، فحضر القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن عربشاه الحنفي إلى القاهرة، وسعى في وظيفة قضاء الحنفية بالشام، فتوقف السلطان في عزل ابن عيد، وامتنع من ذلك، فانتمى ابن عربشاه إلى الأمير قانصوه خمس مئة الدوادار الثاني يوم ذاك، فترامى على السلطان إلى أن ولي ابن عربشاه في شهر رجب، سنة أربع وثمانين وثمان مئة، واستمر ابن عيد معزولاً بدمشق.

فلما توفي القاضي شمس الدين الأمشاطي المذكور قبله، عينه السلطان لقضاء مصر، وأحضره إلى القاهرة، فوصل إليها في يوم الخميس، سابع عشر ذي القعدة، سنة خمس وثمانين وثمان مئة، وتمثَّل بالحضرة الشريفة، وفوض إليه القضاء يوم السبت، تاسع عشر الشهر المذكور، وأكرمه حين قدومه عليه، وعظمه، وأجلسه إلى جانبه، بعد أن نزل عن سرير الحكم، وكنت حاضراً ذلك المجلس، وكان يوماً مشهوداً، واستمر إلى يوم الأحد، سابع عشر المحرم، سنة ست وثمانين وثمان مئة،

ص: 283

فجلس في ذلك اليوم بالإيوان البحري المنسوب للحنابلة بالمدرسة الصالحية بخط بين القصرين، وأحضر له ملوطة جديدة قد خِيطت له، فلبسها، فلما استقرت على جسده، قال: اللهم كما ألبستني جديداً، أمتني شهيداً، وجلس وهو لابسها، فلم يمض على ذلك غير لحظة يسيرة، ووقعت الزلزلة، فنهض من صدر الإيوان إلى حافته، فوقعت عليه شرافة من ظهر الإيوان، فمات من وقته بعد العصر من يوم الأحد المذكور، واستمر إلى بكرة يوم الاثنين، ثامن عشر المحرم، سنة ست وثمانين وثمان مئة، وغسل، وجرد من الملوطة وهو على سرير غسله، وحُمل إلى سبيل المؤمنين بالرميلة، وصلى عليه السلطان وأركان الدولة، الخاصُّ والعام، وكان يوماً مشهوداً، ودفن بتربة السلطان، فكانت مدته ثمانية وخمسين يوماً رحمه الله.

وقد أنشد فيه الشعراء أشياء كثيرة، منها:

لِفَقْدِ ابْنِ عِيدٍ بَكَتْ مُقْلَتِي

تُوُفِّي شَهِيداً كَمَا قَالَهَا

وَحِينَ تُوُفِّيَ مَاجَ الوَرَى

وَزُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا

وكان حسن السيرة في مباشرته بالشام ومصر، عفيفاً ورعاً - تغمده الله برحمته -.

* * *

477 -

قاضي القضاة شيخ الإسلام أبو الفضل محمد بن محمد ابن محمد بن الشحنة، الحلبيُّ الحنفيُّ: كان من أهل العلم، وهو من

ص: 284

بيت كبير بحلب، ولي القضاء بها، وكان والده - أيضاً - قاضيها، وباشر برئاسة وشهامة، ثم حضر إلى القاهرة، وولي كتابة السر بها، ثم غضب عليه الملك الأشرف أينال، وأخرجه إلى القدس، فأقام بها في سنة ثمان أو تسع وخمسين وثمان مئة.

ثم أعيد إلى القاهرة، وباشر كتابة السر إلى أيام الملك الظاهر خشقدم، فولي قضاء الحنفية بالديار المصرية في أوائل سنة سبع وستين وثمان مئة عوضاً عن قاضي القضاة سعد الدين الديري - كما تقدم في ترجمته -، ثم عزل بابن الصواف قاضي حماة، فتوفي ابن الصواف بعد مدة يسيرة، ثم أعيد إلى القضاء، ثم عزل هو وقاضي القضاة شرف الدين يحيى المناوي الشافعي في يوم واحد، في شهور سنة سبعين وثمان مئة، واستقر قاضي القضاة برهان الدين الديري أخو الشيخ سعد الدين الديري في قضاء الحنفية، وقاضي القضاة صلاح الدين أحمد المكيني في قضاء الشافعية، واستمر القاضي برهان الدين الديري سبعة أشهر، ثم عزل، وأعيد القاضي محب الدين بن الشحنة في شهور سنة إحدى وسبعين وثمان مئة، واستمر إلى أيام السلطان الملك الأشرف قايتباي، وعزل في شهور سنة سبع وسبعين وثمان مئة؛ بسبب واقعة حكم بها نائبه الشيخ خير الدين الشَّنَشي، واستقر عوضه القاضي شمس الدين الأمشاطي - كما تقدم في ترجمته -، واستمر معزولاً من القضاء إلى حين وفاته.

ولما توفي الشيخ سيف الدين شيخ الشيخونية، ولي مكانه بالشيخونية، في شهور سنة اثنتين وثمان مئة، واستمر بها إلى أن توفي،

ص: 285

وكان قد ضعف جسده، وقلَّت قوته، وانقطع في منزله في أواخر عمره.

ومولده في سنة أربع وثمان مئة، وتوفي في شهور سنة تسعين وثمان مئة، واستقر ولده الشيخ سري الدين عبد البر في مشيخة الشيخونية عوضاً عنه - رحمه الله تعالى -.

* * *

478 -

الشيخ الجلال البكري أبو البقاء محمد بن عبد الرحمن، البكريُّ الشافعيُّ شيخُ الإسلام: باشر نيابة الحكم بالديار المصرية في أيام شيخ الإسلام شهاب الدين بن حجر ومن بعده من القضاة إلى أيام القاضي ولي الدين الأسيوطي، ثم تنزه عن الحكم، وانقطع بمنزله للاشتغال بالعلم، والفتوى والتدريس، وصنف "حاشية على الروضة"، و"حاشية على المنهاج".

وكان متواضعاً، سخياً، مع الفاقة الزائدة، وفي أواخر عمره ولي مشيخة البيبرسية تجاه الدرب الأصفر، وتوفي بها في سنة إحدى وتسعين وثمان مئة - رحمه الله تعالى -.

* * *

479 -

الشيخ تاج الدين أبو الوفا محمد ابن الشيخ تقي الدين أبي بكر بن أبي الوفا، الحسينيُّ الشافعيُّ العالمُ الصالحُ: كان من أهل العلم، وله وجاهة عند الناس، وكان شيخ الفقراء الوفائية بالأرض

ص: 286

المقدسة، وله تصانيف في التصوف وغيره، وسكن مصر مدة، ثم عاد إلى وطنه، وقدر أنه تزوج بالرملة، وكان يتردد إليها، فتوفي بها في يوم عاشوراء، وحُمل إلى القدس الشريف، فغسِّل، وصُلي عليه يوم الحادي عشر من المحرم، سنة إحدى وتسعين وثمان مئة، ودفن بماملا ظاهر القدس من جهة الغرب عند والده، بجوار الزاوية القلندرية رحمه الله.

* * *

480 -

قاضي القضاة قطب الدين محمد بن محمد الخيضري الشافعي شيخ الإسلام: باشر قضاء الشام عوضاً عن القاضي جمال الدين الباعوني، وأضيف إليه كتابة السر، وباشرها نحو عشر سنين، ثم طُلب إلى القاهرة في أواخر سنة ثمانين وثمان مئة، ورسم له بالإقامة بها، وتزوج بابنة أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف - تغمده الله برحمته - في سنة إحدى وثمانين بإشارة السلطان، واستمر قضاءُ الشام بيده، ونوابه يباشرون إلى سنة ست وثمانين وثمان مئة، فعزل منه بسؤاله، وولي بعده القاضي صلاح الدين العدوي، وألبس التشريف، واستمر نحو الأسبوع أو دونه، ثم اقتضى الحال عزله، فاستقر في القضاء القاضي شهاب الدين أحمد بن الفرفور، مضافاً إليه نظر الجيش بالشام، وأُلبس التشريف من الحضرة الشريفة.

واستمر القاضي قطب الدين بالقاهرة، وكان يدرِّس بالجامع الأزهر، وغيرِه، ويجتمع عنده الفقهاء، وغيرهم، وبنى له تربة بالقرافة على باب

ص: 287

مقام الإمام الشافعي رضي الله عنه، ودفن بها في شهور سنة خمس وتسعين وثمان مئة رحمه الله.

* * *

481 -

قاضي القضاة شيخ الإسلام بدر الدين أبو المعالي محمد ابن الشيخ ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن خالد بن إبراهيم، السعديُّ الحنبليُّ: الشيخ الإمام، الحَبْر البحر الهمام، العالم العامل العلامة، القدوة المحقق، شيخنا، عالم المذهب، رحلة الطلب.

مولده في سنة خمس، أو ست وثلاثين وثمان مئة، قرأ العلوم وحققها، وحصَّل أنواعاً من الفنون وأتقنها، وبرع في مذهب إمامنا المبجل أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وصار من أعيانه، وأخذ عن علماء الديار المصرية، وغيرِهم ممن ورد إلى القاهرة، ولازم شيخه قاضي القضاة عز الدين الكناني الحنبلي - المتقدم ذكره في حرف الهمزة -، وفضل عليه، وأجازه بالإفتاء، واستخلفه في الأحكام الشرعية بالديار المصرية، وشهد بأهليته، وندبه للوقائع المهمة، والأمور المشكلة، فَسَادَ على أقرانه، وعظُم أمره، وعلا شأنه، وباشر الحكم نيابة أكثر من خمس عشرة سنة، وصار مفتي دار العدل، وكانت مباشرته للحكم حسنة، بعفة وصيانة ونزاهة، فلما قدر الله تعالى بوفاة شيخه المشار إليه في يوم السبت، حادي عشر جمادى الأولى، سنة ست وسبعين وثمان مئة، عين السلطان لقضاء الديار المصرية قاضيَ القضاة برهانَ الدين بن مفلح قاضي دمشق،

ص: 288

وطلبه للحضور، واستمر المنصب بغير قاض مدة طويلة، فلم يُقدر لابن مفلح بالحضور، فأجمعت الآراء على تولية شيخنا المشار إليه بحكم استحقاقه لذلك، وأهليته، وعدم نظير له بالديار المصرية، فاقتضى والي مولانا السلطان الملك الأشرف أبي النصر قايتباي، وأركان دولته استقراره فيها.

ولقد أصاب في ذلك التوفيق؛ فإنه وضع الشيء في محله، وكانت توليته في يوم ختم "البخاري" بقلعة الجبل المنصورة بالقصر الشريف، في نهار الأحد، ثامن عشري رمضان المعظم، سنة ست وسبعين وثمان مئة، وألبس التشريف من حضرة السلطان، ونزل في خدمته قضاة القضاة، ومشايخ العلم والفقهاء، وخلفاء الحكم، وغيرهم إلى المدرسة الصالحية النجمية، ثم إلى منزله، وحصل بولايته الجمال للديار المصرية، بل ولسائر مملكة الإسلام، وتزايد السرور عند الخاص والعام، وانتصب للنظر في الأحكام الشرعية، وجعل مجلس حكمه بالمدرسة الصالحية بقاعة الحكم، وسلك في مباشرته طريقةَ شيخه قاضي القضاة عز الدين في الورع والعفة، حتى في قبول الهدية، والتوقف في الأمور التي يُقدم عليها كثير من الحكام، وعظم أمره، وعلت كلمته، وحسنت سيرته، ومع ذلك، فهو متواضع، لين الجانب، لا يحب الفخر ولا الخيلاء، وعنده بشاشة وحسنُ لقاء لمن يَرِدُ عليه.

ولقد أكرم مثواي عند تمثُّلي بين يديه، في شهور سنة ثمانين وثمان مئة، وأقمت تحت نظره للاشتغال بالعلم الشريف، فتفضل عليَّ، وأحسن

ص: 289

إلىَّ، وأفادني العلم، وعاملني بالحلم، ومكثت بالديار المصرية نحو عشر سنين، إلى أن سافرت منها في سنة تسع وثمانين وثمان مئة، وأنا مشمول منه بالصِّلات، ومتصل من فضله بالحسنات، وكان السبب في سفري: ما قدره الله تعالى من ولايتي لمنصب القضاء بالرملة، ولما عزمت على السفر، حضرت بين يديه، واستأذنته في السفر، فتألم لذلك، وشق عليه، وكان من لفظه الكريم أن قال: يعز علينا فراقك؛ لأننا قد اعتدنا بك، فقبَّلت يده، وتوجهت من حضرته، وقد حصل عندي غاية الشوق لمشاهدة ذاته الجميلة؛ فإنه عاملني بالإكرام، وشكرُ المنعم واجب، فجزاه الله عني خيراً.

وأما حلمه، وسلوكه طريقةَ السلف، وتلطفه بالطلبة، فلا يكاد يوصف، ويجلس في مجلس حكمه بلا حاجب ولا بواب؛ عملاً بما نص عليه الفقهاء رضي الله عنهم، وهو متصف بالصفات المعتبرة المشترطة في القاضي، قوي من غير عنف، لين من غير ضعف، حليم ذو (1) أناة، وانتهت إليه في عصرنا رئاسة هذا المذهب الشريف بالديار المصرية، بل وسائر المملكة.

وخطه حسن، وعبارته في الفتوى مفيدة وجيزة، وفصاحته في الخط واللفظ إليها النهاية، وصنف "مناسك الحج" على الصحيح من المذهب، وهو في غاية الحسن.

(1) في الأصل: "ذا".

ص: 290

وسافرت من القاهرة، ولم أطَّلع له على تصنيف غيره، ولما قدر الله تعالى بولايتي لمنصب القضاء بالقدس الشريف، في سنة إحدى وتسعين وثمان مئة، بلغني عنه كل جميل من الجبر، وإظهار السرور بذلك، وتنفيذ ما يُعْرَض عليه من الأحكام الواردة على يد أربابها، ولقد شاهدت ذلك بعد عود المستندات إلى القدس الشريف، وهو مستمر في منصب الحكم العزيز إلى وقتنا - أمتع الله الإسلام والمسلمين بطول بقائه (1) -.

* * *

482 -

قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن شيخ الإسلام شمس الدين أبي عبد الله محمد ابن قاضي القضاة شيخ الإسلام شمس الدين أبي عبد الله محمد، الديريُّ العبسيُّ الحنفيُّ: مولده في ليلة الخامس عشر من شعبان، سنة خمس عشرة وثمان مئة بالقدس الشريف، وكان جده قاضي القضاة بالديار المصرية، وهو والد قاضي القضاة سعد الدين - المتقدم ذكره -، ووالده كان من أعيان العلماء، وهو من بيت علم ورئاسة.

باشر نيابة الحكم بالقدس الشريف عن أخيه القاضي جمال الدين عبد الله - المتقدم ذكره - مدة ولايته، ثم ولي القضاء استقلالاً عوضاً عن

(1) ذكره في "شذرات الذهب"(7/ 366) في وفيات سنة تسع مئة.

ص: 291

القاضي خير الدين بن عمران، ووردت إليه الولاية في تاسع عشري صفر، سنة تسع وسبعين وثمان مئة، وأقام بها إلى شعبان، سنة أربع وتسعين، فانفصل عنها، ثم أعيد إليها في أواخر ذي القعدة من السنة، ثم صرف عن القضاء في أواخر سنة خمس وستين وثمان مئة، فكانت ولايته نحو سبع عشرة سنة، وكانت مباشرته حسنة، والناس راضون منه، وعنده تواضع، ولقد أحسن إلينا في ولايته - عامله الله بلطفه -.

* * *

483 -

شيخ الإسلام كمال الدين أبو المعالي ابن الأمير ناصر الدين محمد بن أبي شريف، المقدسيُّ الشافعيُّ: الإمام القدوة المحقق، شيخ المذهب، رحلة الطلب، صاحب التصانيف المفيدة.

ولد في سنة اثنتين وعشرين وثمان مئة، ونشأ بالقدس الشريف، ثم سافر إلى الديار المصرية، ولقي جماعة من أعيان العلماء، وأخذ العلم عنهم، فصار نادرة وقته، وأعجوبة زمانه، وانتهت إليه رئاسة المذهب، وصار قدوة بيت المقدس ورئيسها ومفتيها.

ثم وقعت حادثة في القدس في رمضان، سنة خمس وسبعين وثمان مئة أوجبت سفره إلى القاهرة المحروسة، والاجتماع بالسلطان، فلما رآه السلطان، وجالسه، وعرف مقامه، أنعم عليه باستقراره في مشيخة الصلاحية بالقدس الشريف، فتوقف في القبول، فألزم به.

وتمثل بالحضرة الشريفة في شهر صفر، سنة ست وسبعين وثمان

ص: 292

مئة، فلما قدم على السلطان، نزل عن سرير الملك، وتلقاه، وأكرمه، وفوض إليه الوظيفة المشار إليها، وألبسه التشريف، وكان صحبته الشيخ شهاب الدين العميري - المتقدم ذكره -، فألبس جنده، وقرر في مشيخة المدرسة الأشرفية التي هدمت، وبني مكانها المدرسة الموجودة الآن بالمسجد الأقصى، التي هي بيد شيخ الإسلام الكمالي المشار إليه، والقاضي شهاب الدين أحمد بن عبية الشافعي استقر في قضاء الشافعية بالقدس، والقاضي خير الدين بن عمران في قضاء الحنفية، وأُلبس كل منهما تشريفاً، وحصل لهم الجبر من المقام الشريف.

ثم سافر شيخ الإسلام المشار إليه، وصحبته القاضيان المشار إليهما من القاهرة، ودخلوا إلى القدس الشريف في يوم الاثنين، ثاني عشري شهر ربيع الأول، سنة ست وسبعين وثمان مئة، وكان يوماً مشهوداً، وباشر المدرسة الصلاحية مباشرة حسنة، وعمرها، وصرف المعاليم، وعمل بها الدروس المشهورة، وأقام نظامها أحسن قيام، واستمر بها نحو سنتين.

ثم استقر بها الشيخ نجم الدين محمد ابن قاضي القضاة برهان الدين ابن جماعة في شهور سنة ثمان وسبعين وثمان مئة، وتوفي والده الأمير ناصر الدين - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى، سنة تسع وسبعين وثمان مئة عن ست وثمانين سنة.

وكان شكلاً حسناً، مهيباً - رحمه الله تعالى، وعفا عنه -.

ص: 293

واستمر شيخ الإسلام كمال الدين المشار إليه منقطعاً للاشتغال بالعلم والفتوى على عادته إلى سنة إحدى وثمانين وثمان مئة، فتوجه إلى القاهرة، واستوطنها، وأقام بها نحو تسع سنين، والطلبةُ يترددون إليه، ويشتغلون عليه في العلوم، وانتفع الناس به، وعظُمت هيبته، وارتفعت كلمته عند السلطان وأركان الدولة.

فلما رسم السلطان بهدم المدرسة الأشرفية القديمة الكائنة بالمسجد الأقصى، وجدَّد المدرسة الموجودة الآن بمكانها، وانتهت عمارتها، قدر الله تعالى بوفاة الشيخ شهاب الدين العميري الشافعي - رحمه الله تعالى - في شهر ربيع الأول، سنة تسعين وثمان مئة قبل تقرير أمرها، وترتيب وظائفها، فبرز أمر السلطان باستقرار شيخ الإسلام المشار إليه فيها، وتوجه من الأبواب الشريفة، وصحبته القاضي أبو البقاء بن الجيعان، والمهتار رمضان، وحضروا إلى القدس الشريف في شهر رجب، سنة تسعين وثمان مئة، ورتبت الوظائف بالمدرسة المشار إليه، واستقر أمرها، وباشرها شيخ الإسلام، وحصل للمدرسة المذكورة، بل وللأرض المقدسة، ولسائرِ المملكة الجمالُ والهيبة والوقار بوجود شيخ الإسلام المشار إليه، وانتظم أمر الفقهاء، وحكام الشريعة المطهرة بوجوده، وبركة علومه، ونشرَ العلم، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وازداد شأنه عظماً، وعلت كلمته.

ونفذت أوامره عند السلطان فمَنْ دونه، وبرزت إليه المراسيم الشريفة في كل وقت بما يحدث من الوقائع، والنظر في أمور الرعية،

ص: 294

وترجم فيها بالجناب العالي شيخ الإسلام، ووقع له ما لم يقع لغيره ممن تقدمه من العلماء والأكابر؛ فإنه تقدم في الجلوس وغيره على شيخ الصلاحية، ولم تجر به عادة في الزمن القديم؛ فإن العادة جرت أن شيخ الصلاحية يكون هو المقدَّم على كل أحد من طائفة الفقهاء وغيرهم، فتقدم شيخ الإسلام المشار إليه على شيخ الصلاحية في الجلوس والكتابة، وقُدم اسمه على اسمه في المراسيم الواردة من السلطان، وفيما يكتب من الأوراق بالقدس، وسُلِّمَ إليه القول والفعل، وقَلَّدَهُ أهل المذاهب كلها، وقبلت فتواه على مذهبه ومذهب غيره، وكل ذلك ببركة ما حواه من العلوم الشريفة.

ومن أعظم محاسنه التي شكرت له في الدنيا، ويرفع الله بها درجته في الآخرة: ما فعله في القبة المستجدة عند دير صِهْيَون، فإن الفرنج المقيمين بدير صهيون ظاهر القدس الشريف أحدثوا عند الدير المذكور بالقرب منه قبة، زعموا أن مكانها مقام السيدة مريم، وبنوها وأحكموها غاية الإحكام، وبنوا بها صفة هيكل، على عادة ما يفعل بالكنائس، وشرعوا يجتمعون فيها في أوقات عبادتهم، ويعظمونها، حتى صارت كنيسة محدثة في دار الإسلام، ثم شرع النصارى في انتزاع القبو المجاور للدير المشهور أنَّ به قبر سيدنا داود عليه السلام، وساعدهم على ذلك مَنْ لَمْ يَخَفِ الله تعالى، فبادر شيخ الإسلام المشار إليه بالمكاتبة للسلطان، وأعلمه بما وقع من أحداث القبة المذكورة، وأن قبر سيدنا داود عليه السلام. بأيدي المسلمين مدة طويلة، وبُني به قبلة لجهة

ص: 295

الكعبة المشرفة، وأن النصارى يقصدون انتزاعه من أيدي المسلمين.

فورد إلى شيخ الإسلام الجواب على يد الأمير أزبك الخاصكي، الوارد من الأبواب الشريفة بالكشف على الأمير دقماق ناظر الحرمين ونائب القدس بالنظر في أمر القبة المذكورة، وقبر سيدنا داود، والعمل في ذلك بما يقتضيه حكم الشرع الشريف، وهدم البناء المستجد المخالفِ للشرع الشريف.

فتوجه شيخ الإسلام المشار إليه، وصحبته الخاصكي، وناظر الحرمين دقماق، والشيخ نجم الدين شيخ الصلاحية، والقضاة الأربعة، وجماعة من الفقهاء والأعيان، والخاص والعام، وجلسوا بالقبة المذكورة، وقامت البينة عند قضاة الشرع بأن هذه القبة محدَثة، فأفتى شيخ الإسلام بهدمها، ووافقه شيخ الصلاحية، فحكم القضاةُ بهدمها، فهُدمت بحضورهم في يوم جلوسهم بها، وهو يوم السبت، ثاني رجب سنة خمس وتسعين وثمان مئة، وقرأ عند قبر سيدنا داود ما تيسر من القرآن، والذكر، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأهدي في صحائف السلطان.

وكان يوماً مشهوداً، أظهر الله فيه الإسلام، وأخمد الكفر.

وكان إحداث القبة المذكورة في صفر، سنة أربع وتسعين وثمان مئة، فكان بقاؤها نحو سنة وأربعة أشهر، ولما هدمت بقي بعض آثارها، فورد مرسوم شريف ثانٍ على شيخ الإسلام المشار إليه بإكمال هدمها، ومحو أثرها، فتوجه شيخ الإسلام، وصحبته ناظر الحرمين الشريفين،

ص: 296

ونائب السلطنة الشريفة الأمير خضر بك، وشيخ الصلاحية، والقضاة، وهُدمت ثانياً بحضورهم، ومحي أثرها، ونبش أساسها، وكان يوماً مشهوداً، وحصل للرهبان بدير صهيون بذلك من القهر ما لا يوصف، وكان ذلك في شهر رمضان، سنة ست وتسعين وثمان مئة، وأعلى الله كلمة الإسلام، وقمع عبدة الأصنام.

وبالجملة: فمحاسن شيخ الإسلام المشار إليه كثيرة، ولكن المقصود من هذا الكتاب الاختصار - أعز الله به الدين -.

* * *

484 -

قاضي القضاة الإمام العلامة خير الدين أبو الخير محمد ابن الشيخ العلامة القدوة شمس الدين محمد بن عمران الغزيُّ، ثم المقدسيُّ الحنفيُّ: كان من أهل العلم والدين، وكان والده المشار إليه شيخ القراء بالقدس الشريف، ومن أعيان المحدِّثين، روى عنه جماعة من الأكابر، ومولده في سادس عشر شعبان، سنة أربع وتسعين وسبع مئة، وكان صالحاً ورعاً زاهداً، توفي في شهر رمضان، سنة ثلاث وسبعين وثمان مئة.

ثم بعد وفاته قام ولده القاضي خير الدين المشار إليه مقامه في علم القراءة والحديث الشريف، ثم سافر إلى القاهرة، وأقام بها، وأخذ العلم عن جماعة من أعيان علمائها، وبرع وفضل في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، ثم تولى قضاء الحنفية بالقدس الشريف بعد القاضي جمال

ص: 297

الدين الديري، وكانت ولايته مع ولاية الشيخ كمال الدين بن أبي شريف مشيخة الصلاحية في اليوم الذي تولى فيه، وألبس التشريف من حضرة السلطان - كما تقدم في ترجمة الشيخ كمال الدين -، وسافر صحبته، ودخل معه إلى القدس في يوم الاثنين، ثاني عشري ربيع الأول، سنة ست وسبعين وثمان مئة، وباشر القضاء بعفة وشهامة، وكانت سيرته حسنة، واستمر نحو سنتين، ثم عزل بالقاضي جمال الدين الديري، في ربيع الأول، سنة ثمان وسبعين، فدخل القاضي جمال الدين إلى القدس وهو متوعك، فأقام أربعة عشر يوماً، وتوفي، فاستقر القاضي خير الدين المشار إليه في وظيفة القضاء ثانياً، واستمر نحو تسعة أشهر، ثم عزل بالقاضي شمس الدين الديري أخي القاضي جمال الدين في سلخ صفر، سنة تسع وسبعين وثمان مئة.

وتنزه عن القضاء، ولم يتكلم فيه بعد ذلك، وانقطع في منزله للعبادة والإشغال بالعلم وقراءة القرآن والحديث، وانتهت إليه رئاسة مذهب أبي حنيفة بالقدس، وتصدى للفتوى والتدريس، وحج إلى بيت الله الحرام، وعظُم أمره عند الناس، وصار له الهيبة والوقار، ونسخ بخطه الكثير من المصاحف الشريفة، و"البخاري"، وغير ذلك، وعمل طريقة في المصحف الشريف في مقابلة الأحرف لم يسبق إليها، وانتشر هذا المصحف في غالب المملكة، وله ربعة شريفة بالحرم الشريف النبوي - على ساكنه الصلاة والسلام -.

وكان متواضعاً، حسن اللفظ والشكل، توفي إلى رحمة الله تعالى

ص: 298

في يوم الخميس، الثلاثين من شهر رمضان، سنة أربع وتسعين وثمان مئة، ودفن في يومه بعد صلاة العصر إلى جانب قبر والده بتربة ماملا ظاهر القدس الشريف، وعمره يوم وفاته نحو خمس وخمسين سنة - تقريباً -. رحمه الله، وعفا عنه، وعوضه الجنة.

* * *

485 -

قاضي القضاة شمس الدين، أبو عبد الله محمد بن علي بن الأزق المغربي، الأندلسيُّ المالكيُّ: كان من أهل العلم والصلاح، وكان قاضياً بمدينة غرناطة بالأندلس، فلما استولى عليها الفرنج، خرج منها مستنفراً لملوك الأرض في نجدة صاحب غرناطة، فتوجه لملوك المغرب، فلم يحصل منهم بنتيجة، فحضر إلى الملك الأشرف قايتباي، فاحتج عليه باشتغاله بقتال ابن عثمان، فتوجه إلى مكة المشرفة، وجاور بها، وزار المدينة الشريفة ورجع إلى القاهرة المحروسة في أول سنة ست وتسعين وثمان مئة، فتُكُلم له في شيء يحصل له منه ما يستعين به على القوت، فأنعمت الصدقات الشريفة له بقضاء المالكية بالقدس الشريف، فاستقر بها في رابع رمضان من السنة المذكورة، ثم قدم إلى القدس في يوم الاثنين، سادس عشر شوال، سنة ست وتسعين وثمان مئة، وأقام بها نحو الشهر وهو يتعاطى الأحكام بعفة من غير تناول شيء، ثم حصل له توعك واستمر إلى أن توفي في يوم الجمعة بعد فراغ الصلاة، سابع عشر ذي الحجة الحرام، سنة ست وتسعين وثمان مئة، ودفن في يومه

ص: 299

بعد صلاة العصر بتربة ماملا إلى جانب حوش البسطامي من جهة الغرب، فكانت مدة إقامته بالقدس إلى حين وفاته نحو شهرين.

وذكر عنه أنه قال: إن عمره خمس وستون سنة رحمه الله، وعفا عنه -.

ص: 300