الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَرْفُ اليَاءِ
504 -
ياروق التركماني: كان مقدَّمًا جليل القدر في قومه، وإليه تُنسب الطائفة الياروقية من التركمان، وكان عظيم الخِلْقة، هائل المنظر، سكن بظاهر حلب في جهتها القبلية، وبنى على شاطئ قويق [فوق] تل مرتفع هو وأهله [وأتباعه، أبنية كثيرة مرتفعة](1)، وعمائر متسعة، وتعرف الآن بالياروقية، وسكنها هو ومن معه، وهي معمورة، يتردد إليها أهل حلب في أيام الربيع، ويتنزهون على قويق.
وتوفي ياروق في المحرم، سنة أربع وستين وخمس مئة.
وقُوَيق - بضم القاف الأولى وإسكان الثانية، وفتح الواو -: نهر صغير بظاهر حلب، يجري في الشتاء والربيع، وينقطع في الصيف.
* * *
505 -
أبو الدر ياقوت الموصلي، الكاتبُ الملقب: أمين الدين، المعروف بالمليكي؛ نسبة إلى السلطان أبي الفتح ملكشاه بن سلجوق
(1) ما بين معكوفتين من "وفيات الأعيان"(6/ 117).
ابن محمد بن ملكشاه: نزل بالموصل، وأخذ النحو عن ابن الدهان النحوي، وكتب الكثير، وانتشر خطه في الآفاق، وكان في نهاية الحسن، ولم يكن في أواخر زمانه من يجاريه في حسن الخط، ولا يؤدي طريقة ابن البواب في النسخ مثله، مع فضل غزير، ونباهة تامة، وكتب عليه خلق كثير، وقصده الناس من البلاد، وتوفي بالموصل، سنة ثماني عشرة وست مئة، وقد أسنَّ، وتغير خطَّه من الكبر رحمه الله.
* * *
506 -
أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي، الملقب: مهذب الدين، الشاعرُ المشهور، مولى أبي منصور الجيلي التاجر: اشتغل بالعلم، وأكثر من الأدب، واستعمل قريحته في النظم، فأجاد فيه، ولما مهر، سمى نفسه: عبد الرحمن، وكان مقيمًا بالمدرسة النظامية ببغداد، وحفظ القرآن، وقرأ أشياء من الأدب، وكتب خطاً حسنًا، وراق شعره وحفظه الناس، ومن شعره:
جَسَدِي لِبُعْدِكَ يَا مُثِيرَ بَلَابِلِي
…
دَنِفٌ بِحُبِّكَ مَا أَبَلَّ بَلَى بَلِي
يَا مَنْ إِذَا مَا لَامَ فَيهِ لَوَائِمِي
…
أَوْضَحْتُ عُذْرِي بِالعِذَارِ السَّائِلِ
أُتُجِيزُ قَتْلِي فِي "الوَجِيزِ" لِقَاتِلٍ
…
أَمْ حَلَّ فِي "التَّهْذِيبِ" أَمْ فِي "الشَّامِلِ"
أَمْ فِي "المُهَذَّبِ" أَنْ يُعَذَّبَ عَاشِقٌ
…
ذُو مُقْلَةٍ عَبْرَى ودَمْعٍ هَاِئلِ
أَمْ طَرْفُكَ الفَتَّاكُ قَدْ أَفْتَاكَ في
…
تِلْكَ النُّفُوسِ بِسِحْرِ طَرْفٍ بَابِلِي
ووجد ياقوت ميتًا بمنزله ببغداد، في الثاني عشر من جمادى الأولى، سنة اثنتين وعشرين وست مئة، ويقال: إنه توفي قبل ذلك بأيام رحمه الله.
والرومي: نسبة إلى الروم، وهو إقليم مشهور ومتسع.
وهاهنا نكتة غريبة يحتاج إليها، ويكثر السؤال عنها، وهي أن الروم يقال لهم: بنو الأصفر، واستعملته الشعراء في أشعارهم، فمن ذلك: قول عدي ابن زيد العبادي من جملة قصيدة مشهورة:
وَبَنُو الأَصْفَرِ الكِرَامُ مُلُوكُ الـ
…
ـرُّومِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمُ مَذْكُور
فنقل عن العباس عن أبيه، قال: انخرم ملك الروم في الزمان الأول، فبقيت منه امرأة، فتنافسوا في الملك حتى وقع بينهم شر، فاصطلحوا على أن يملكوا أول من يشرف عليهم، فجلسوا لذلك، فأقبل رجل من اليمن معه عبدٌ له حبشي يريد الروم، فأَئقَ العبدُ منه، فأشرف عليهم، فقالوا: انظروا أي شيء وقعتم، فزوجوه تلك الإمرأة، فولدت
غلامًا، فسموه: الأصفر، فجاء مولى العبد، فقال: هذا عبدي، فقال الغلام: صدق، أنا عبده، فأرضوه، فأعطوه حتى رضي، فبسبب ذلك قيل للروم: بنو الأصفر؛ لصفرة لون الولد؛ لكونه مولَّدًا بين الحبش والمرأة البيضاء، والله أعلم.
* * *
507 -
أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله، الروميُّ الجنس، الحَمَوِيُّ المولد، البغداديُّ الدار، الملقب: شهاب الدين: أُسر من بلاده صغيراً، وابتاعه ببغداد رجل يعرف بعسكر بن أبي نصر بن إبراهيم الحموي، وجعله في الكُتَّاب؛ لينتفع به في ضبط تجارته، وكان مولاه عسكر لا يحسن الخط، ولا يعرف شيئًا سوى التجارة، ولما كبر ياقوت، قرأ شيئاً من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار في متاجره، ثم أعتقه، وأبعده عنه.
فاشتغل بالنسخ بالأجرة، وحصلت له بالمطالعة فوائد، ثم عطف عليه، ثم توفي مولاه، فكان يتَّجر، وجعل بعض تجارته كتبًا، وكان متعصباً على علي رضي الله عنه، وكان قد طالع شيئاً من كتب الخوارج، فتشكل في ذهنه منه طَرَف قوي.
وتوجه إلى دمشق، وقعد في بعض أسواقها، وناظر بعض من يتعصب لعلي رضي الله عنه، وجرى بينهما كلام رديء، فثار الناس عليه، وكادوا يقتلونه، فسَلِم منهم، وخرج من دمشق منهزمًا، ووصل إلى حلب
خائفًا يترقب، ووصل إلى الموصل، ثم انتقل إلى إربل، ثم وصل خراسان، واستوطن بمدينة مرو، ومضى إلى خُوارزم، فصادفه خروج التتر في سنة لست عشرة ولست مئة، وانهزم بنفسه، كبعثه يوم الحشر من رمسه، وقاسى في طريقه من الضائقة والتعب ما كان يكلُّ عن شرحه إذا ذكره، ووصل إلى الموصل، وقد انقطعت به الأسباب، ثم انتقل إلى سنجار، وارتحل منها إلى حلب، وأقام بظاهرها في الخان إلى أن مات.
وله مصنفات كثيرة مفيدة، ومراسلات بليغة، وأشعار حسنة، فمن شعره في غلام تركي قد رَمَدت عينه، وعليها وقاية سوداء قوله:
وَمُوَلَّدٍ لِلتُّرْكِ تَحْسَبُ وَجْهَهُ
…
بَدْراً يُضِيءُ سَنَاهُ بِالإِشْرَاقِ
أَرْخَى عَلَى عَيْنَيْهِ فَضْلَ وِقَايَةٍ
…
لِيَرُدَّ فِتْنتَهَا عَنِ العُشَّاقِ
تَاللهِ لَوْ أَنَّ السَّوَابِغَ دُونها
…
نَفَذَتْ فَهَلْ لِوِقَايَةٍ مِنْ رَاقِ
ولد ياقوت المذكور سنة أربع وسبعين وخمس مئة ببلاد الروم، وتوفي يوم الأحد العشرين من شهر رمضان، سنة ست وعشرين وست مئة في الخان بظاهر مدينة حلب، وكان قد وقف كتبه على مسجد الزيدي بدرب دينار ببغداد، وسلمها إلى الشيخ عز الدين أبي الحسن علي بن الأثير صاحب "التاريخ الكبير"، فحملها إلى هناك، ولما تميز ياقوت، واشتهر، سمى نفسه: يعقوب.
قال ابن خلكان: قدمتُ حلب للاشتغال أبها، في مستهل ذي القعدة، سنة وفاته، وكان عقيب موته، وسمعت الناس يُثنون عليه،
ويذكرون فضله وأدبه، ولم يقدَّر لي الاجتماع به (1).
* * *
508 -
أبو محمد يحيى بن أَكْثَم بن محمد بن قطن بن سمعان، التميميُّ الأسديُّ المروزيُّ: من ولد أكثم بن صَيْفِي حكيمِ العرب، كان عالمًا بالفقه، بصيراً بالأحكام، ذكره الدارقطني في أصحاب الشافعي، وكان سليمًا من البدعة، راغبًا في مذهب أهل السنة، وكان أحد أعلام الدنيا ومَن قد اشتُهر أمره، وعرف خيره، ولم يستتر عن الصغير والكبير من الناس فضلُه وعلمه، وسياستهُ ورياسته لأمره وأمر أهل زمانه من الخلفاء والملوك، واسع العلم بالفقه، كثير الأدب، حسن المعارضة، قائم بكل معضلة، وغلب على المأمون، حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعًا، أخذ بمجامع قلبه حتى قلَّده قضاء القضاة، وتدبير أهل مملكته، وكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئاً إلا بعد مطالعته، وكان المأمون أراد أن يولي رجلاً على القضاء، فوُصف له يحيى، فاستحضره، فلما دخل عليه، وكان دميم الخلق، فاستحقره المأمون، فعلم ذلك يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين! سلني إن كان القصد علمي لا خَلقي، فسأله عن مسألة في الفرائض، فأجاب عنها، فقلَّده القضاء.
ولما ولي قضاء البصرة، كان سنه عشرون سنة، فاستصغره أهل البصرة، فقالوا: كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استُصغر، فقال: أنا أكبر
(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 139).
من عتَّاب بن أُسيد حين وجَّهه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً على أهل مكة (1) يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجَّه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيًا على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سعد الذي وجه به عمر رضي الله عنه قاضيًا على أهل البصرة، فجعل جوابه احتجاجاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولَّى عتاب ابن أسيد مكة بعد فتحها، وله إحدى وعشرون سنة، وكان إسلامه يوم فتح مكة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحبك، وأكون معك، فقال:"وَمَا تَرْضَى أَنْ أَسْتَعْمِلَكَ عَلَى آلِ اللهِ تَعَالى"، فلم يزل عليهم حتى قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
وبقي يحيى سنة لا يقبل بها شاهدًا، فتقدم إليه أحد الأمناء، فقال: أيها القاضي! قد وقفت الأمور وترتبت، فقال القاضي: وما السبب؟ قال: في ترك القاضي قبول الشهود، فأجاز في ذلك اليوم منها سبعين شاهداً.
وكانت ولاية القاضي يحيى القضاء بالبصرة سنة اثنتين ومئتين، وعزل عنها في سنة عشر ومئتين (2).
وكانت كتب يحيى في الفقه أجلَّ كتب، فتركها الناس لطولها، وله كتب في الأصول وغيرها، ولم يكن فيه ما يُعاب به سوى ما كان يُتَّهم به
(1) في الأصل: "اليمن".
(2)
انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 149)، وفيه:"عزل يحيى عن قضاء البصرة سنة عشرين ومئتين".
من الهيئات المنسوبة إليه، الشائعة عنه، والله أعلم بحاله فيها.
وذكر لأحمد بن حنبل رضي الله عنه ما يقول الناس عنه من حب الغلمان، فقال: سبحان الله، سبحان الله! من يقول هذا؟ وأنكر ذلك إنكاراً شديداً.
وكان مفننًا، إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه، سأله عن الحديث، وإذا رآه يعلم النحو، سأله عن الكلام؛ ليقطعه ويخجله، فدخل عليه رجل من أهل خراسان ذكي حافظ، فناظره، فرآه مفننًا، فقال له: نظرتَ في الحديث؟ قال: نعم، قال: ما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ عن شريك عن أبي إسحاق عن الحارث: أن علياً رضي الله عنه رجم لوطياً، فأمسك، ولم يكلمه.
وذُكر: أن المأمون قال ليحيى بن أكثم: من الذي يقول:
قَاضٍ يَرَى الحَدَّ في الزِّنَاءِ وَلَا
…
يَرَى عَلَى مَنْ يَلُوطُ مِنْ بَاسِ
قال: أو ما يعلم أمير المؤمنين من القائل له؟ قال: لا، يقول: الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
لَا أَحْسَبُ الجَوْرَ يَنْقَضِي وَعَلَى الْـ
…
أُمَّةِ وَالٍ مِنْ آلِ عَبَّاسِ
فأفحم المأمون خجلاً، وقال: ينبغي أن يُنفى أحمد بن أبي نعيم إلى السِّند.
وأخبار يحيى ونوادره كثيرة، ولم تزل الأحوال تختلف عليه، وتتقلب به إلى أيام المتوكل على الله، فلما عزل محمد ابن القاضي أحمد ابن أبي دؤاد عن القضاء، فوض الولاية إلى القاضي يحيى، وخلع عليه خمس خِلَع، ثم عزله في سنة أربعين ومئتين، وأخذ أمواله، وولى في رتبته جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي، فجاء كاتبه إلى القاضي يحيى، فقال: سلِّمِ الديوان، فقال: شاهدان عدلان أنه أمرني بذلك، فأخذ منه الديوان قهراً، وغضب عليه المتوكل، وأمر بقبض أمواله وأملاكه، وإلزامه بيته، ثم حج، وحمل أخاه معه، وعزم على أن يجاور، فلما اتصل به رجوع المتوكل، بدا له في الرجوع يريد العراق، فلما وصل إلى الرَّبْذة، توفي بها يوم الجمعة، نصف شهر ذي الحجة، سنة اثنتين وأربعين ومئتين، ودفن هناك، وعمره ثلاث وستون سنة.
وأكثم - بفتح الثاء المثلثة -: هو الرجل العظيم البطن.
وحكى أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن سعيد، قال: كان يحيى ابن أكثم القاضي صديقًا لي، وكان يودُّني وأودُّه، فمات يحيى، فكنت أشتهي أن أراه في المنام، وأقول له: ما فعل الله بك؟ فرأيته ليلة في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، إلا أنه وبَّخني، ثم قال لي: يا يحيى! خَلَّطت، فقلت: يا ربي! اتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ قُلْتَ: إِنِّي لأَسْتَحْيِي أَنْ أُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ
بِالنَّارِ"، فقال: قد عفوتُ عنك يا يحيى، وصدق نبيي، إلا أنك خلطت عليَّ في دار الدنيا رحمه الله، وعفا عنه - (1).
* * *
509 -
أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي: الواعظ، أحدُ رجال الطريقة، خرج إلى بَلْخ، وأقام بها مدة، ورجع إلى نيسابور، ومات بها.
وكان يقول: الجوع للمريدين رياضة، وللتابعين تَجْرِبة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مَكْرُمة، والوحدة جليس الصديقين، والفوت أشد من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، والزهد ثلاثة أشياء: القلة، والخلوة، والجوع، ومن خان الله في السر، هتك الله ستره في العلانية.
وكان له إشارات وعبارات حسنة.
ومن دعائه: اللهم إن كان ذنبي قد أخافني، فإن حسن ظني بك قد أجارني، اللهم سترتَ عليَّ في الدنيا ذنوبًا أنا إلى سترها في القيامة أحوجُ، قد أحسنت بي إذْ لم تُظهرها لعصابة من المسلمين، فلا تفضحني ذلك اليوم على رؤوس العالمين، يا أرحم الراحمين.
ودخل على علويّ زائراً له، ومسلّما عليه، فقال له العلوي: أيَّد الله الأستاذ، ما تقول فينا أهل البيت؟ قال: ما أقول في طين عُجن بماء
(1) انظر: "تاريخ دمشق"(64/ 90).
الوحي، وغُرس بماء الرسالة، فهل يفوح منها إلا مسكُ الهدى، وعنبر التقى، فحشا العلويُّ فاه بالدُّرِّ، ثم زاره من غد، فقال يحيى:
إنْ زُرتَنا فبفضلك، وإن زرناكَ فلفضلك، فلك الفضل زائراً ومَزوراً.
وله كل كلام مليح.
وتوفي سنة ثمان وخمسين ومئتين بنيسابور رحمه الله.
* * *
510 -
أبو سليمان، وقيل: أبو سعيد يحيى بن يعمر، العَدْوانيُّ الوشقيُّ النحويُّ البصريُّ: كان تابعيًا، لقي عبد الله بنَ عمر، وعبد الله ابن العباس رضي الله عنهما، وغيرَهما، وانتقل إلى خراسان، وتولى القضاء، وكان عالمًا بالقرآن الكريم، والنحو ولغات العرب.
وكان شيعيًا من الشيعة الأُول، القائلين بتفضيل أهل البيت من غير تَنَقُّص الذين فضل من غيرهم.
وحكى: أن الحجاج بن يوسف الثقفي بلغه أن يحيى بن يعمر يقول في الحسن والحسين رضي الله عنهما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبه من خراسان، فلما قام بين يديه، قال له: أنت الذي تزعم أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُلقِيَنَّ الأكثر منك شَعْراً، أو لتخرجَنَّ من ذلك، قال: أماني إنْ خرجتُ؟ قال: نعم. قال: فإن الله - جل ثناؤه - يقول: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى
…
} [الأنعام: 84 - 85] الآية. قال: وما بين عيسى وإبراهيم أكثرُ مما بين الحسن والحسين، وبين محمد - صلوات الله عليه وسلامه -، فقال له الحجاج: ما أراك إلا وقد خرجت، والله! لقد قرأتُها، وما علمت بها قط.
وهذا من الاستنباطات البليغة الغريبة العجيبة، فلله درُّه ما أحسنَ ما استخرج، وأدقَّ ما استنبط!
وأخباره كثيرة، وفضائله مشهورة.
توفي سنة تسع وعشرين ومئة رحمه الله.
* * *
511 -
أبو بكر (1) يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن بقي، الأندلسيُّ القرطبيُّ: الشاعرُ المشهورُ صاحبُ الموشَّحات البديعة، ومن شعره:
وَمَشْمُولَةٍ فِي الكَأْسِ تَحْسَبُ أَنَّهَا
…
سَمَاءُ عَقِيقٍ رُصِّعَتْ بِالكَوَاكِبِ
بَنَتْ كَعْبَةَ اللَّذَّاتِ فِي حَرَمِ الصِّبا
…
فَحَجَّ إِلَيْهَا الكَرْمُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
(1) في الأصل: "زكريا"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(6/ 202).
ومحاسنه في الشعر كثيرة.
توفي سنة أربعين وخمس مئة.
* * *
512 -
أبو الفضل يحيى بن سلامة بن الحسين بن محمد، الملقبُ: معين الدين، المعروف بالخطيب الحصَكفي: صاحبُ ديوان الشعر والخطب والرسائل، ولد بطيرة (1) ونشأ بحصن كيفا، وقدم بغداد، واشتغل بالأدب، وقرأ الفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وأجاد فيه، ثم رحل عن بغداد راجعاً إلى بلاده، ونزل مَيَّافارقين، واستوطنها، وكان إليه أمرُ الفتوى، وكان علامة الزمان.
قال العماد الأصفهاني: وأنشدني له بعض الفضلاء ببغداد خمسة أبيات كالخمسة السيارات، مستحسنات مطبوعات مصنوعات، وهي قولهُ:
أَشْكُو إِلَى اللهِ مِنْ نَارَيْنِ: وَاحِدَةٍ
…
فِي وَجْنَتَيْهِ وَأُخْرَى مِنْهُ فِي كَبِدِي
وَمِنْ سَقَامَيْنِ: سُقْمٍ قَدْ أَحَلَّ دَمِي
…
مِنَ الجُنُونِ وَسُقْمٍ حَلَّ فِي جَسَدِي
(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 205)، وفيه:"ولد بطنزة".
وَمِنْ نَمُومَيْنِ: دَمْعِي حِينَ أَذْكُرُهُ
…
يُذِيعُ سِرِّي وَوَاشٍ مِنْهُ بِالرَّصَدِ
وَمِنْ ضَعِيفَيْنِ: صَبْرِي حِينَ أَذْكُرُهُ
…
وَوُدِّهِ (1) وَيَرَاهُ النَّاسُ طَوْعَ يَدِي
مُهَفْهَفٌ رَقَّ حَتَّى قُلْتُ مِنْ عَجَبٍ
…
أَخَصْرُهُ خِنْصري أَمْ جِلْدُهُ جَلَدِي
وللخطيب الخطبُ المليحة، والرسائل المنتقاة، ولم يزل على رياسته وجلالته وإفادته إلى أن توفي سنة إحدى، وقيل: ثلاث وخمسين وخمس مئة.
والحَصْكَفي: نسبة إلى حصن كَيْفا: وهي قلعة حصينة شاهقة بين جزيرة ابن عمر وَميَّافارقين.
* * *
513 -
أبو الفضل (2) يحيى بن خالد برمك: وزير هارون الرشيد، وهو والد جعفر والفضل، وكان جدُّهم برمك من مجوس [بلخ]، وكان يخدم النوبهار، وهو معبد المجوس بمدينة بَلْخ، توقد فيه النيران، واشتهر برمك، وكان عظيم المقدار عندهم، وساد ابنه خالد، وتقدم في
(1) في الأصل: "وودَّدني".
(2)
في الأصل: "علي"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(6/ 219).
الدولة العباسية، وتولى الوزارة، وأما يحيى، فإنه كان من العقل وجميع الخلال على أكمل حال، وكان المهدى بن أبي جعفر المنصور قد ضم إليه ولده هارون الرشيد، وجعله في حجره، فلما استخلف هارون، عَرَفَ له حقه، وقال له: أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك وحسن تدبيرك، وقد قلَّدتك الأمر، ودفع إليه خاتمه، وكان يعظِّمه، وإذا ذكره، قال: أبي، وجعل إصدار الأموال وإيرادها إليه، إلى أن نكبت البرامكة، فغضب عليه، وخلَّده في الحبس إلى أن مات، وقَتل ابنه جعفراً، وكان من الكرماء البلغاء العقلاء.
ومن كلامه: ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهدية، والكتاب، والرسول.
ولما قتل هارون جعفر بن يحيى البرمكي، نكب البرامكة، وحبس يحيى والفضل بالرقة، وهي البلد المشهور على شاطئ الفرات.
ويحكى: أن خالد بن يحيى اشتهى في وقت من الأوقات في محبسه وهو مضيق عليه سكباجة، فلم يطق اتخاذها إلا بمشقة، فلما فرغ منها، سقطت القدرة من المتخذ لها، وانكسرت، فأنشد يحيى أبياتًا يخاطب الدنيا وغيرها، وضمنها اليأس وقطع الأطماع.
ولم يزل يحيى في حبس الرقة إلى أن مات في الثالث من المحرم، سنة تسعين ومئة، ومات فجأة من غير علة، وهو ابن سبعين سنة، وقيل: أربع وسبعين، وصلى عليه ابنه الفضل، ودفن في شاطئ الفرات.
ووُجِدَتْ في جبته رقعةٌ فيها مكتوب: قد تقدم الخصم، والمدعى
عليه في الأثر، والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجور، ولا يحتاج إلى بينة، فحُملت الوقعة إلى الرشيد، فلم يزل يبكي يومه كلَّه، وبقي أياماً يتبين الأسى في وجهه، وندم الرشيد على ما كان منه في أمر البرامكة، وتحسَّر على ما فرط في أمرهم.
وحكى: أنه وجد تحت فراش يحيى بن خالد البرمكي رقعةٌ فيها:
وَحَقِّ اللهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُومُ
…
وَإِنَّ الظُّلْمَ مَرْتَعُهُ وَخِيمُ
تَنَامُ وَلَنْ تَنَمْ عَنْكَ المَنَايَا
…
تَقَدَّمْ لِلمَنِيَّةِ يَا نَؤُومُ
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي
…
وَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ
وأخباره في السخاء والكرم والجود كثيرة مشهورة رحمه الله، وعفا عنه -.
* * *
514 -
الوزير عون الدين يحيى [بن هُبيرة] بن محمد بن هُبيرة بن سعيد بن الحسن بن أحمد بن الحسين بن جهم بن عمر [و] بن هبيرة، الشيبانيُّ الحنبليُّ، الملقب: عون الدين، وهو من قرية ببلد العراق تعرف بقرية بني أوقر - بالقاف - من أعمال دُجيل، وكان والده من آحادها، ودخل بغداد في صباه، واشتغل بالعلم، وجالس الفقهاء والأدباء، وكان على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وسمع الحديث، وحصَّل من كل فن طرفًا، وقرأ الكتاب العزيز، وختمه بالروايات، ولازم الكتابة،
وتعلَّم صناعة الإنشاء، وحدَّث عن الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين وغيره.
وأول ولايته الإشراف، ثم قلد في سنة اثنتين وأربعين كتابه ديوان الزمام، ثم ترقى إلى الوزارة في أيام المقتفي؛ لأسباب يطول شرحها.
وتولى الوزارة يوم الأربعاء، ثالث شهر ربيع الآخر، سنة أربع وأربعين وخمس مئة، وكان لقبه: جلال الدين، فلما ولي الوزارة، لقَّبوه: عون الدين.
وكان عالمًا فاضلًا، ذا رأي صائب، وسريرة صالحة، وكان مكرماً لأهل العلم، يحضر مجلسه العلماء، ويجري من البحث والفوائد ما يكثر ذكره، وصنف كتاب "الإفصاح عن شرح معاني الصحاح"، وهو مشتمل على تسعة عشر كتابًا، وله كتاب "العبادات في الفقه" على مذهب الإمام أحمد، ومصنفات كثيرة مفيدة.
ولما توفي الإمام المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر ليلة الأحد، ثاني عشر ربيع الأول، سنة خمس وخمسين وخمس مئة، وبويع ولده المستنجد أبو المظفر يوسف، فدخل عليه، وبايعه، وأقره على وزارته، وأكرمه، وكان خائفاً منه أن يعزله، فلم يتعرض له.
ولم يزل مستمراً في وزارته إلى حين وفاته.
ومدحه جماعة من أماثل شعراء عصره، وكان أكثر ما ينشد:
مَا نَاصَحَتْكَ خَبَايَا الوُدِّ مِنْ أَحَدٍ
…
مَا لَمْ يَنَلْكَ بِمَكْرُوهٍ مِنَ العَذَلِ
مَوَدَّتِي لَكَ تَأْبَى أَنْ تُسَامِحَنِي
…
بِأَنْ أَرَاكَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الزَّلَلِ
ومحاسنه كثيرة.
ولد في ربيع الآخر، سثة تسع وتسعين وأربع مئة، وكان يسأل الله الشهادة، ويتعرض لأسبابها، وكان صحيحًا يوم السبت، ثاني عشر جمادى الأولى، سنة ستين وخمس مئة، فنام ليلة الأحد في عافية، فلما كان وقت السَّحر، قاء، فحضره طبيب كان يخدمه، فسقاه شيئًا، فيقال: إنه سَمَّه، فمات، وسُقي الطبيب بعده بنحو ستة أشهر سما، فكان يقول: سُقيت كما سَقيت، ومات الطبيب.
ولما خرجت جنازة الوزير، غلقت الأسواق ببغداد، ولم يتخلف عن جنازته أحد، وصُلي عليه في جامع المنصور، وحُمل إلى باب البصرة، فدفن في مدرسته التي أنشأها، وقد دثرت الآن، وكان مشكورًا محمودَ الطريقة، محبًا لأهل العلم، ومحاسنه كثيرة رحمه الله، وعفا عنه -.
* * *
515 -
أبو الفضل يحيى بن نزار بن سعيد المنبجي: ذكره الحافظ
أبو سعيد عبد الكريم بن السمعاني، فقال: له شعر مطبوع غير متكلف، ولد في المحرم، سنة ست وثمانين وأربع مئة.
فمن قوله:
لَوْ صَدَّ عَنِّي دَلَالًا (1) أَوْ مُعَاتَبَةً
…
لكُنْتُ أَرْجُو تَلَافِيهِ وأَعْتَذِرُ
لَكِنْ مَلَالًا وَلَا أَرْجُو تَعَطُّفَهَا
…
جَبْرُ الزُّجَاجِ عَسِيرٌ حِينَ يَنْكَسِرُ
وتوفي ليلة الجمعة، سادس ذي الحجة، سنة أربع وخمسين وخمس مئة ببغداد، ودفن بالوردية رحمه الله.
* * *
516 -
أبو الحسين يحيى بن أبي منصور علي (2) بن الجراح بن الحسين بن محمد بن داود بن الجراح، الكاتب المنعوت، تاج الدين: كتب في ديوان الإنشاء بالديار المصرية مدة طويلة، وكان خطه في غاية الجودة، وكان فاضلًا أديباً متقنًا، له فِطرة حسنة، وشِعر فائق، ورسائل أنيقة، سمع الحديث، وحدَّث، وسمع الناسُ عليه.
ولد في ليلة السبت، خامس عشر شعبان [سنة إحدى وأربعين وخمس مئة، وتوفي في خامس شعبان](3) سنة ست عشرة وست مئة
(1) في الأصل: "هلالًا".
(2)
انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 254)، وفيه:"أبو علي منصور".
(3)
ما بين معكوفتين من "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 257).
مئة بدمياط، والعدو المخذول محاصرُها.
ثم إن العدو ملك دمياط يوم الثلاثاء، السابع والعشرين من الشهر المذكور، وكان مدة نزوله عليها ثلاث سنين، وثلاثة أشهر، وسبعة عشر يوماً.
ومن الاتفاق العجيب: نزولهم عليها يوم الثلاثاء بالبر الشرقي، وإحاطتهم بها يوم الثلاثاء، وقد جاء في الخبر: أن الله تعالى خلق المكروه يوم الثلاثاء.
ولفظة دمياط سريانية، وأصلها - بالذال المعجمة -، ويقولونه دمط، وتفسيره: القدرة الربانية، وكأنه إشارة إلى مجمع البحرين: العذب، والمالح، والله أعلم.
* * *
517 -
أبو طالب يحيى بن أبي الفرج سعيد بن أبي القاسم هبة الله ابن علي بن زيادة، الشيبانيُّ، الكاتبُ الواسطيُّ الأصل، البغداديُّ المولد والدار والوفاة، الملقب: قوام الدين: كان من أعيان الأماثل، والصدور والأفاضل، انتهت إليه المعرفة بأمور الكتابة والإنشاء، وغير ذلك، وله النظم الجيد، خدم الديوان من صباه إلى أن توفي، وتولَّى النظر بديوان البصرة وواسط والحلة، ثم رُتِّب حاجباً، ثم قُلد النظر في المظالم، ثم عُزل، ثم أُعيد إليه، ثم قُلد ديوان الإنشاء.
وكان حسن السيرة، متديناً، من نظمه:
إِنِّي لأَعْظَمُ مَا تَلْقَوْننِي جَلَداً
…
لَمَّا تَوَسَّطْتُ هَوْلَ الحَادِثِ النَّكدِ
كَذَلِكَ الشَّمْسُ لَا تَزْدَادُ قُوَّتُهَا
…
إِلَاّ إِذَا حَصَلَتْ فِي زَبْرَةِ الأَسَدِ
وله:
لَا تَغْبِطَنَّ وَزِيراً لِلمُلوُكِ وَإِنْ
…
أَناَلَهُ الدَّهْرُ مِنْهُمْ فَوْقَ هِمَّتِهِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ لَهُ يَوْمًا تَمُورُ بِهِ الـ
…
أَرْضُ الوَقُورُ كَمَا مَارَتْ لِهَيْبَتِهِ
هَارُونُ وَهْوَ أَخُو مُوسَى الشَّقِيقُ لَهُ
…
لَوْلَا الوِزَارَةُ لَمْ يَأْخُذْ بِلِحْيَتِهِ
وله كل معنى مليح.
ولد في صفر، سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة، وتوفي في ذي الحجة، سنة أربع وتسعين وخمس مئة، وصُلي عليه بجامع النصر (1)، ودفن بالجامع الغربي لمشهد الإمام موسى بن جعفر ببغداد.
(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 249)، وفيه:"جامع القصر".
518 -
يحيى بن الحسين بن علي بن حمزة بن إبراهيم بن الحسين ابن مطروح (1)، الملقب: جمال الدين: من أهل صعيد مصر، ونشأ هناك، أقام بقُوص مدة، وتنقلت به الأحوال في الخدم والولايات، ثم اتصل بخدمة السلطان الملك الكامل ابن الملك العادل بن أيوب، وكان - إذ ذاك - نائباً عن أبيه للديار المصرية، ثم اتصل بخدمة الملك الصالح ابن الكامل، ولما ملك الديار المصرية، رتبه ناظراً للخزانة، ولم يزل مقربا عنده إلى أن ملك دمشق، فرتب لها نوابا، وكان ابن مطروح في صورة وزيرها، وحسن حاله، وارتفعت منزلته، ثم عزله السلطان عن ولايته، وتغير عليه لأمور نقمها عليه، واستمر مواظب الخدمة مع الإعراض عنه.
ولما مات الملك الصالح بالمنصورة، وصل ابن مطروح إلى مصر، وأقام بها في داره إلى أن مات.
وكانت أدواته جميلة، وخلاله حميدة، جمع بين الفضل والمروءة والأخلاق المرضية، وله ديوان شعر، فمن ذلك قوله:
عَلِقْتُهُ مِنْ آلِ يَعْرُبَ لَحْظُهُ
…
أَمْضَى وَأَفْتَكُ مِنْ سُيُوفِ عُرَيْبِهِ
(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 258)، وفيه:"أبو الحسين يحيى ابن عيسى بن إبراهيم".
أَسْكَنْتُهُ فِي المُنْحَنَى مِنْ أَضْلُعِي
…
شَوْقًا لِبَارِقِ ثَغْرِهِ وَعُذَيْبِهِ
يَا عَائِبًا ذَاكَ الفُتُورَ بِطَرْفِهِ
…
خَلُّوهُ لِي أَنَا قَدْ رَضِيتُ بِعَيْبِهِ
لَدْنٌ وَمَا مَرَّ النَّسِيمُ بِعِطْفِهِ
…
أَرِجٌ وَمَا نَفَحَ العَبِيرُ بِجَيْبِهِ
وكتب ابن مطروح رقعة إلى بعض الرؤساء تتضمن شفاعة في قضاء شغل بعض أصحابه، فكتب ذلك الرئيس في جوابه: هذا الأمر عليَّ فيه مشقة، فكتب جوابه ثانيًا: لولا المشقة، فوقف عليها ذلك الرئيس، فقضى شغله، وفهم ما قَصَدَه، وهو قول المتنبي:
لَوْلَا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ
…
الجُودُ يُفْقِرُ وَالإِقْدَامُ قَتَّالُ
وهذا من لطيف الإشارات.
ولد يوم الاثنين، ثامن رجب، سنة اثنتين وتسعين وخمس مئة بأسيوط، وتوفي ليلة الأربعاء، مستهل شعبان، سنة تسع وأربعين وست مئة بمصر، ودفن بسفح المقطَّم.
وكان في مدة انقطاعه في داره، وضيق صدره بسبب عطلته، وكثرةِ كلفته، قد حدث في عينيه عمى، وأوصى أن يكتب على رأسه دُوبيت نَظَمَه في مرض موته، وهو:
أَصْبَحْتُ بِقَعْرِ حُفْرَةٍ مُرْتَهَنَا
…
لَا أَمْلِكُ مِنْ دُنْيَايَ إِلَاّ الكَفَنَا
يَا مَنْ وَسِعَتْ عِبَادَهُ رَحْمَتُهُ
…
مِنْ بَعْضِ عِبَادِكَ المُسِيئِينَ أَنَا
* * *
519 -
أبو علي يحيى بن عيسى بن جزلة: الطبيب، صاحب "المنهاج" الذي رتبه على الحروف، كان نصرانياً، ثم أسلم، وصنف رسالة في الرد على النصارى، وبيان عُوار مذاهبهم، ومدح فيها الإسلام، وأقام الحجة على أنه الدين الحق، وذكر فيها قراءة في التوراة والإنجيل من ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي مبعوث، وأن اليهود والنصارى أخفَوا ذلك، ولم يُظهروه، ثم ذكر فيها معايب اليهود والنصارى، وهي رسالة حسنة، وصنف كتباً مفيدة.
واستخلفه القاضي أبو الحسن ببغداد في كتب السجلات، وأوقف كتبه قبل وفاته، وجعلها في مشهد أبي حنيفة، وكان إسلامه في سنة لست وستين وأربع مئة، وقرئت عليه الرسالة التي صنفها في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وأربع مئة (1).
(1) ذكر ابن خلكان في "وفيات الأعيان"(6/ 286): أن ابن جزلة مات سنة ثلاث وتسعين وأربع مئة.
520 -
أبو الفتوح يحيى الملقب: شهاب الدين السهرورديُّ، وبعرف بابن أميرك، الحكيمُ المقتول بحلب، وقيل: اسمه أحمد: كان من علماء عصره، قرأ الحكمة وأصول الفقه، وكان أوحد زمانه في العلوم الحكمية، وكان علمه أكثر من عقله، وكان شافعي المذهب، ويتهم بانحلال العقيدة، واشتهر ذاك عنه، فلما وصل إلى حلب، أفتى علماؤها بإباحة دمه بسبب اعتقاده، وبما ظهر لهم من سوءِ مذهبه، وكان ذاك في دولة الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين، فحبسه، ثم خنقه بإشارة والده صلاح الدين، وكان ذاك في خامس رجب، سنة سبع وثمانين وخمس مئة بقلعة حلب، وعمره ثمان وثلاثون سنة، وصُلب أياماً، ولما تحقَّق القتل، كان كثيراً ما ينشد:
أَرَى قَدَمِي أَرَاقَ دَمِي
…
وَهَانَ دَمِي فَهَا نَدَمِي
رحمه الله، وسامحه -.
* * *
521 -
أبو خالد يزيد بن المهلَّب بن أبي صُفْرة، الأزديُّ: كان والده والياً بخراسان حتى أدركته الوفاة هناك، ولما حضر أجله، عهد إلى ولده يزيد المذكور، ويزيد ابن ثلاثين سنة يومئذ، فعزله عبد الملك بن مروان، وولَّى مكانه في خراسان قُتيبة بنَ مُسلم الباهليَّ، وكان الحجاج
في كل وقت يسأل المنجِّمين ومن يُعاني هذه الصناعة عمن يكون مكانه؟ فيقولون: رجل اسمه يزيد، فلا يرى من هو أهلٌ لذلك سوى يزيد المذكور، والحجاج يومئذ أمير العراقين، وكذا وقع؛ فإنه لما مات الحجاج، ولي يزيد مكانه.
وكان يزيد المذكور جواداً سخيًا، وله في السخاء والإعطاء حكايات مشهورة يطول شرحها.
وقال يوماً: والله! لَلْحياةُ أحبُّ إليَّ من الموت، والفعلُ الحسن أحبُّ إليَّ من الحياة، ولو أني أُعطيت ما لم يُعطَه أحد، لأحببت أن يكون لي أذنٌ أسمع بها ما يقال فيَّ إذا متُّ.
وأجمع علماء التاريخ على أنه لم يكن في دولة بني أمية أكرمُ من بني المهلب، كما لم يكن في دولة بني العباس أكرمُ من البرامكة، وكان لهم في الشجاعة - أيضًا - مواقفُ مشهورة.
ولد يزيد المذكور سنة ثلاث وخمسين، وتوفي مقتولاً يوم الجمعة، لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر، سنة اثنتين ومئة.
وكان ليزيد ولدان نجيبان جليلان سيدان، أحدهما: خالد بن يزيد، والآخر: محمد بن يزيد، وكان موصوفًا بالكرم، وأنه لا يرد طالباً، فإن لم يحضر مال، يَعِدُ، ثم يُعَجِّل العِدَة.
ومدحه أحمد بن صالح، وقيل: أبو الشيص الخزاعي في كتاب "التاريخ" بقوله:
عَشِقَ المَكَارِمَ فَهْوُ مَشْغُولٌ بِهَا
…
وَالمَكْرُمَاتُ قَلِيلَةُ العُشَّاقِ
وأَقاَمَ سُوقاً لِلثَّنَاءِ وَلَمْ يَكُنْ
…
سُوقُ الثَّنَاءِ يُعَدُّ فِي الأَسْوَاقِ
بَثَّ الصَّنَائِعَ فِي البِلَادِ فَأَصْبَحَتْ
…
يُجْبَى إِلَيْكَ مَحَامِدُ الآفَاقِ
وكان خالد بن يزيد قد تولى الموصل من جهة المأمون، فوصل إليها، وفي صحبته أبو الشَّمَقْمق الشاعرُ، فلما دخل إلى الموصل، نشب اللواء الذي لخالد في سقف باب المدينة، فاندقَّ، فتطَيَّر خالد من ذلك، فانشدهُ ارتجالاً:
مَا كَانَ مُنْدَقّ اللِّوَاءِ لِرِيبَةٍ
…
تُخْشَى وَلَا سُوءٍ يَكُونُ مُعَجَّلَا
لَكِنَّ هَذَا الرُّمْحَ أَضْعَفَ مَتْنَهُ
…
صِغَرُ الوِلَايَةِ فَاسْتَقَلَّ المَوْصِلَا
فبلغ الخليفةَ ما جرى، فكتب إلى خالد بن يزيد: قد زدنا في ولايتك ديارَ ربيعة كلَّها؛ لكون رمحك استقلَّ الموصل، ففرح بذلك، وأجاز أبا الشمقمق جائزة حسنة، وتوفي في طريق أرمينية، سنة ثلاثين ومئتين، دفن بمدينة رسل أرمينية - رحمه الله تعالى -.
522 -
أبو يوسف يعقوب الماجشون بن أبي سلمة دينار، ولقِّب بالماجشون، القرشيُّ التيميُّ (1): من موالي آل المنكدر من أهل المدينة، سمع ابن عمر رضي الله عنهما، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهما، وروى عنه جماعة، مات سنة أربع وستين ومئة - رحمه الله تعالى -.
* * *
523 -
أبو يوسف يعقوب - صاحبُ أبي حنيفة - بن إبراهيم بن حبيب بن خُنيس بن سعد بن حبتة الأنصاري: وسعد (2) بن حبتة: أحد الصحابة رضي الله عنهم، وهو مشهور في الأنصار.
كان القاضي أبو يوسف المذكور صاحبُ أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان فقيهًا عالمًا حافظاً، سمع جماعة، وجالسهم، ثم جالس أبا حنيفة النعمان بن ثابت، وكان الغالب عليه مذهب أبي حنيفة، وخالفه في مواضع كثيرة، وروى عنه محمدُ بن الحسن الشيباني الحنفي، وأحمدُ ابن حنبل، وغيرُهما.
وكان قد سكن بغداد، وتولى القضاء بها لثلاثة من الخلفاء: المهدي، وابنه الهادي، ثم الرشيد، وكان الرشيد يكرمه ويبجله، وكان عنده حظيًا، وهو أول من دُعي بقاضي القضاة، وأول من غيَّر لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها في هذا الزمان، وكان ملبوس الناس
(1) في الأصل: "المنبجي".
(2)
في الأصل: "وسعيد".
قبل ذلك واحدًا لا يتميز أحد من أحد بلباسه، وكان كثير الحديث.
وروى الخطيب بإسناد متصل إلى علي بن الجعد، قال: أخبرني أبو يوسف القاضي، قال: توفي أبي، وخلَّفني صغيرًا في حِجْر أمي، فأسلمتني إلى قَصَّار أخدمه، فكنت أدعُ القصار، وأذهب إلى حلقة أبي حنيفة، فتأخذ بيدي، وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعتني بي؛ مما يرى من حضوري، وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي، وطال عليها أمري، قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فسادٌ غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وأنا أطعمه من مِغْزلي، وقصدي أن يكسب دانقًا يعود به على نفسه.
فقال لها أبو حنيفة: اذهبي يا رعناء، ها هو يتعلم أكل الفالُوذَج بدهن الفستق، فانصرفت عنه، وقالت له: أنت شيخ، وقد خَرِفْتَ، وذهب عقلك.
ثم لزمتُه، فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلَّدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد على مائدته، فلما كان في بعض الأيام، قُدِّم إلى الرشيد فالوذجة، فقال لي: يا يعقوب! كل منه، فليس في كل يوم يُعمل لنا مثلُها، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه فالوذجة من الفستق، فضحكتُ، فقال لي: ممَّ تضحك؟ فقلت: خيرًا، أبقى الله أمير المؤمنين، قال: فأخبرْني، وألحَّ عليَّ، فأخبرته القضية من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك، وقال: لعمري! إن العلم لينفع دينًا ودُنيا، فترحَّم على أبي حنيفة، وقال: كان ينظر بعين قلبه ما لا يراه بعين رأسه.
وكان مشهور الفضل، وأفقهَ أهل عصره، ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان نهاية في العلم والحلم، والرياسة والقدر، وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، ونشر مذهبه في أقطار الأرض، ولولاه، ما انتشر مذهب أبي حنيفة.
ومن كلامه: صحبةُ مَنْ لا يخشى العارَ عارٌ يوم القيامة.
وكان يقول: رؤوس النعم ثلاثة: فأولها: نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها.
والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها.
والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها.
وأكثر الناس من العلماء على تفضيله وتعظيمه.
ولد سنة ثلاث عشرة ومئة، وتوفي يوم الخميس، أول وقت الظهر، لخمسٍ خلون من شهر ربيع الأول، سنة اثنتين وثمانين ومئة، ومات وهو على القضاء بالجانب الغربي ببغداد - رحمه الله تعالى، وعفا عنه -.
* * *
524 -
أبو يوسف يعقوب - صاحب المغرب - بن أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد الحق بن علي، القيسيُّ الكوفيُّ، صاحبُ بلاد المغرب: بويع بعد موت والده، وعقدوا له الولاية، ودعوه بأمير المؤمنين كأبيه وجده، ولقبوه: المنصور، فقام بالأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أُبَّهة ملكهم، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وحكم
في الناس على حقيقة الشرع، ونظر في أمور الدين والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، حتى في أهله وعشيرته والأقربين؛ كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه، وعَظُمت الفتوحات، ووقع له مع الفرنج الغزوات، ونصره الله تعالى عليهم.
وكان ملكاً عادلاً جواداً، وبعد هذا اختلفت الروايات في أمره، فمن الناس من يقول: إنه ترك ما كان فيه، وتجرَّد وساح في الأرض، حتى انتهى إلى بلاد المشرق وهو مستخفٍ لا يُعرف، ومات خاملاً.
ومنهم من يقول: إنه توفي في غرة جمادى الأولى، سنة خمس وتسعين وخمس مئة بمراكش.
وكانت ولادته سنة أربع وخمسين وخمس مئة، وكان يصلي بالناس الصلوات الخمس، ويلبس الصوف، ويقف للمرأة والضعيف، ويأخذ لهم الحق، وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق؛ ليترحم عليه من يمر به، وكان يعاقب على ترك الصلاة، وينادي في الأسواق بالمبادرة إليها، وكان قد عظم ملكه، واتسعت دائرة سلطنته، وكان محسنًا للعلماء، مقرَّباً للأدباء، وإليه تنسب الدنانير اليعقوبية المغربية.
وكان قد أرسل إليه السلطان صلاح الدين رسولًا في سنة سبع وثمانين وخمس مئة يستنجده إلى الفرنج الواصلين من بلاد المغرب إلى الديار المصرية وساحل الشام، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين، بل بأمير المسلمين، فعزَّ ذلك عليه، ولم يجبه إلى ما طلب منه.
ولما حضرت الوفاة الأمير يعقوب، وقضى نحبه، بايع الناس ولدَه أبا عبد الله محمدَ بن يعقوب، وتلقب بالناصر، وقُتل في سنة عشر وست مئة.
ثم تولى بعده أبو يعقوب يوسف بن محمد بن يعقوب، وتلقب بالمستنصر بالله، ولم يكن في بني عبد المؤمن أحسن منه وجهًا، ولا أبلغ في المخاطبة، إلا أنه كان مشغولاً براحته - رحمه الله تعالى -.
* * *
525 -
يعقوب بن داود بن عثمان بن عمر بن طهمان السلمي، والي خراسان: كان سخياً جواداً، كثير البر والصدقة، واصطناع المعروف، وكان مقصوداً ممدوحًا، ولما مات المنصور، وقام بالأمر ولدُه المهدي، جعل يعقوبُ يتقرب إليه حتى أدناه، واعتمد عليه، وعلت منزلته عنده، وعظم شأنه حتى خرج كتابه إلى الدواوين: أن أمير المؤمنين قد آخى يعقوب بن داود.
وحج المهدي سنة ستين ومئة، ويعقوب معه، ثم استوزره في سنة ثلاث وستين ومئة، وغلب يعقوب على أمور المهدي كلها، وزيَّن له هواه، فأنفق الأموال، وأَكَبَّ على اللذات والشراب وسماع الغناء، واستقل يعقوب بالتدبير، وكان يعقوب قد ضجر مما كان فيه، وسأل المهدي الإقالةَ وهو ممتنعٌ.
ثم إنه اتهم بميله إلى العلوية، ووقع منه بسبب ذلك ما أوجب تغيرَ
خاطر المهدي، فحبسه، فأقام سنتين وشهورًا إلى أيام الرشيد، ثم ذكر يحيى بن خالد البرمكي أمره، فشفع فيه، وأمر بإخراجه، فأُخرج وقد ذهب بصره، وأحسن إليه الرشيد، وردَّ عليه ماله وخبزه، وخيَّره المقام حيث يريد، فاختار مكة، فأذن له في ذلك، فأقام بها حتى مات في سنة سبع وثمانين ومئة.
ولما أُطلق يعقوب، سأل عن إخوانه، فأُخبر بموتهم، فأنشد:
لِكُلِّ أُنَاسٍ مَقْبَرٌ بِفِنَائِهِمْ
…
فَهُمْ فِي انْتِقَاصٍ وَالقُبُورُ تَزِيدُ
هُمُ جِيرَةُ الأَحْيَاءِ أَمَّا مَحَلُّهُمْ
…
فَدَانٍ وَأَمَّا المُلْتَقَى فَبَعِيدُ
رحمه الله، وعفا عنه -.
* * *
526 -
أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البَرِّبن عاصم، القرطبيُّ: إمام عصره في العلم والحديث والأثر، وما يتعلق بهم (1)، وله مصنفات كثيرة نافعة، وكان موفقًا في التأليف، مُعانًا عليه، وانتفع به خلق كثير، وفارق قرطبة، وكان في غرب الأندلس مدة، ثم تحول في شرق الأندلس، وتولى فضاء الأستون (2) في أيام مَلِكها المظفر.
(1) كذا في الأصل.
(2)
انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (7/ 67)، وفيه:"ولي قضاء الأشبونة، وشنترين".
ولد يوم الجمعة والإمامُ يخطب، لخمسٍ بقين من شهر ربيع الآخر، سنة ثمان وستين وثلاث مئة، وتوفي يوم الجمعة، آخر يوم في شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وستين وأربع مئة بمدينة شاطِبَة من شرق الأندلس، وكان الخطيب أبو بكر البغدادي الحافظ حافظَ الشرق، وابنُ عبد البر حافظَ الغرب، وماتا في سنة واحدة، وهما إمامان في هذا الفن - رحمهما الله تعالى -.
* * *
527 -
أبو موسى يونس بن عبد الأعلى بن موسى، الصدفيُّ المصريُّ: الفقيهُ الشافعي، أحد أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنه، والمكثرين في الرواية عنه، والملازمةِ له، وكان كثير الورع، متينَ الدين، عَلَاّمةً في علم الأخبار، والصحيح والسقيم، لم يشاركه في زمانه أحد، وكان أفضل أهل زمانه.
وقال الشافعي: ما رأيت بمصر أعقلَ من يونس بن عبد الأعلى.
وأخذ عن الشافعي الحديث والفقه، وروى عنه الإمام مسلم، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.
وكان يروي للإمام الشافعي رضي الله عنه هذين البيتين:
مَا حَكَّ جِلْدَكَ مِثْلُ ظُفْرِكْ
…
فَتَوَلَّ أَنْتَ جَمِيعَ أَمْرِكْ
وَإِذَا قَصَدْتَ لِحَاجَةٍ
…
فَاقْصِدْ لِمُعْتَرِفٍ بِقَدْرِكْ
وقال الشافعي رضي الله عنه: يا يونس! دخلتَ بغداد؟ فقال: لا، فقال: ما رأيتَ الدنيا، وما رأيتَ الناس.
وكان مولده في ذي الحجة، سنة سبعين ومئة، وتوفي يوم الثلاثاء، ليومين بقيا من شهر ربيع الآخر، سنة أربع وستين ومئتين، وهي السنة التي مات فيها المزني، وكانت وفاته بمصر، وقبره مشهور بالقرافة.
ومن كلامه: من يشتري ما لا يحتاج إليه، باع ما يحتاج إليه.
وتوفي والده عبدُ الأعلى سنة إحدى ومئتين.
* * *
528 -
يَلْبُغا الأمير الكبير سيف الدين الخاصَكي مولى الملك الناصر حسن: قدمه أستاذه، وصار هو المشار إليه، وقام على أستاذه، وقتله في جمادى الأولى، سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وسلطن المنصور، ثم خلعه، وسلطن الأشرف، واستكثر من المماليك، فكان قتله على يدهم، وكانت الفتن على زمانه قائمة، والشرور متحركة، وأراد في آخر عمره أن يُجلس القاضي الحنفي فوق الشافعي، فرأى بعضهم في منامه الإمام الشافعي، وبيده مسحاة، فسئل عن إسراعه في المشي، وعن المسحاة، فقال: أخرب بيت يَلْبُغا، فقتل بعد قليل، ودفن بتربته التي أنشأها في سنة ثمان وستين وسبع مئة.
* * *
529 -
الشيخ يوسف العجمي - الكبير الزاهد - بن عبد الله بن
عمر، العجميُّ المصريُّ: كان شيخ الطريقة، ومعدن الحقيقة، وهو آخر المشايخ المسلِّكين، توفي في جمادى الأولى، سنة ثمان وستين وسبع مئة، ودفن بزاويته بالقرافة الصغرى، وشهده خلق لا يعلمهم إلا الله، ولم يشاهد بمصر من دهر طويل أكثر جمعًا منه - رحمه الله تعالى، ونفع به -.
* * *
530 -
القاضي جمال الدين يوسف بن غانم بن أحمد بن غانم، المقدسيُّ النابلسيُّ: ولي قضاء نابلس مدة طويلة، ثم ولي قضاء صفد، ثم ولي خطابة القدس في ربيع الآخر، سنة إحدى وثمان مئة بمالٍ بذلَه، ثم سعى عليه جمال الدين بن السايح قاضي الرملة بمئة ألف، ولم يقم بها غير ثلاثة أشهر، ثم عزل بالباعوني.
توفي بدمشق، ودفن بباب الصغير بمقبرة الأشراف، وهو سبط الشيخ تقي الدين القَرقَشَنْدِي - رحمهما الله تعالى -.
* * *
531 -
قاضي القضاة شرف الدين يحيى بن محمد المناوي، الشافعيُّ، شيخُ الإسلام: كان من أهل العلم والصلاح، ولاه الملك الظاهر جقمق قضاء الديار المصرية في سنة ثلاث وخمسين وثمان مئة، واستمر إلى حين وفاة السلطان، فلما تسلطن ولده المنصور عثمان، عزله عن القضاء بالقاضي علم الدين صالح البُلْقيني، واستمر معزولًا إلى آخر
سلطنه الأشرف أينال.
فلما تسلطن الملك الظاهر خشقدم، ولاه، ثم عزله بالقاضي علم الدين، فلما توفي القاضي علم الدين في سنة ثمان وستين وثمان مئة، استقر في القضاء إلى سنة سبعين وثمان مئة، فوقعت حادثة أوجبت عزله هو والقاضي محب الدين بن الشحنة الحنفي، واستمر معزولاً إلى أن توفي، واستقر عوضه القاضي صلاح الدين أحمد المكيني، ثم عزل، واستقر عوضه القاضي بدر الدين أبو السعادات محمد البلقيني، ثم عزل، واستقر عوضه القاضي ولي الدين الأسيوطي - المتقدم ذكره في حرف الهمزة -، وذلك في سنة إحدى وسبعين وثمان مئة، فشق على القاضي شرف الدين المناوي ولاية الأسيوطي، وأنكر ذلك غاية الإنكار؛ لأنه لم يؤهله لذلك، ثم حضر القاضي ولي الدين إلى القاضي شرف الدين ليسلم عليه بعد الولاية، فكان من خطابه له: إذا أشكل عليك أمر، فراجعنا فيه، قال الله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
ثم بعد يسير توفي القاضي شرف الدين المناوي ليلة يسفر صباحها عن نهار الاثنين، ثالث عشر أو ثاني عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وسبعين وثمان مئة.
وكان موصوفًا بالعفة في مباشرته، والورع والتواضع، كثير العبادة والتهجد، وهو شيخ قاضي القضاة زكريا - أمتع الله الأنام بجوده -، وقد سلك غالب طريقته؛ من الورع، والتقشف، وكتب علامته في الحكم،
وهي: الحمد لثه خير الفاصلين رحمه الله، وعفا عنه -.
* * *
532 -
القاضي شرف الدين يحيى بن محمد، الأنصاريُّ الأندلسيُّ المغربيُّ المالكيُّ: كان من أهل العلم، خصوصًا في العربية، قدم من بلاد المغرب، وأقام بحلب وبالقدس، ثم دخل القاهرة في سنة ثمان وثمانين وثمان مئة في أول رمضان، فحضر مجلس القاضي قطب الدين الخيضري، وتكلم في درسه، فظهرت له فضيلة، فتكلم له في قضاء المالكية بالقدس، فولَاّه السلطان في أواخر سنة ثمان وثمانين وثمان مئة، من غير بذل أو كُلفة، ثم حضر إلى القدس في صفر سنة تسع وثمانين وثمان مئة، واستمر بها إلى شهر ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وثمان مئة، فورد كتاب القاضي زين الدين بن مزهر صاحب ديوان الإنشاء بعزله، فتوجه من القدس الشريف إلى القاهرة، وأقام بها أيامًا، ثم توجه إلى جهة الحجاز، ثم ورد في أول سنة ست وتسعين وثمان مئة (1) الخبر إلى القدس الشريف صحبة الحاج بوفاته بأرض اليمن - رحمه الله تعالى، وعفا عنه -.
وكانت ولايته القدس بعد شغورها عن القاضي علاء الدين بن المزوار - المتقدم ذكره - نحوَ سبع سنين، فإن القاضي علاء الدين توجه
(1) قال المصنف رحمه الله في "الأنس الجليل"(2/ 253): "وسافر إلى بلاد جازان، فتوفي بها في شوال سنة خمس وتسعين وثمان مئة".
من القدس في سنة اثنتين وثمانين وثمان مئة، وأقام بالقاهرة، وهو باق على الولاية إلى حين وفاته في سنة خمس وثمانين وثمان مئة، ولم يستخلف أحدًا عنه في الحكم.
ثم استمرت الوظيفة على الشغور نحو أربع سنين بعد وفاته إلى أن استقر بها القاضي شرف الدين، ويقال: إن القاضي شمس الدين محمد ابن الأزرق الأندلسي - المتقدم ذكره في حرف الميم - هو شيخ القاضي شرف الدين يحيى المذكور، اشتغل عليه بالعلم في بلاد الأندلس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
533 -
الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله أبو زكريا يحيى بن شرف الحزامي - بحاء مهملة مكسورة بعدها زاي معجمة - النوويُّ الشافعيُّ: محرّر المذهب ومهذِّبه، ومنقِّحه ومُرتِّبه، صاحب التصانيف المشهورة المباركة النافعة، السابق بالفضائل.
ولد في العشر الأول من المحرم، سنة إحدى وثلاثين وست مئة بنوى من الشام من عمل دمشق، وقرأ بها القرآن، وقدم دمشق سنة تسع وأربعين، وقرأ "التنبيه" في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع "المهذب" في بقية السنة، ومكث قريبًا من سنتين لا يضع جنبه إلى الأرض، وكان يقرأ في اليوم والليلة اثني عشر درسًا على المشايخ في عدة من العلوم.
وكان - رحمه الله تعالى - على جانب كبير من العبادة والعمل
والزهد، والصبر على خشونة العيش، وكان لا يدخل الحمام، ولا يأكل من فواكه دمشق؛ لما في ضمانها من الحيلة والشبهة، وكان يتقوَّت مما يأتي من بلده من عند أبويه، ولا يأكل إلا أكلة واحدة في اليوم والليلة بعد عشاء الآخرة، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، ولم يتزوج.
وكان كثير السهر في العبادة والتصنيف، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يواجه به الملوك فَمْن دونهم، وحج مرتين، تولى دار الحديث الأشرفية سنة خمس وستين، فلم يأخذ من معلومها شيئًا إلى أن توفي، وكان يلبس ثوبا قطنيًا، وكان في لحيته شعرات بيض، وعليه سكينة ووقار في البحث مع الفقهاء، وفي غيره.
ولم يزل على ذلك إلى أن سافر إلى بلده، وزار القدس والخليل، ثم عاد إليها، فمرض بها عند أبويه، وتوفي ليلة الأربعاء، رابع عشري شهر رجب، سنة ست وسبعين وست مئة، ودفن ببلده - رحمه الله تعالى، ورضي عنه، وعفا عنه، ونفعنا ببركته وبركة علومه في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه - أَمين.
وقد انتهى بهرُ من تقدم ذكرُه من الأعيان على الحروف.
* * *
وقد عَنَّ لي أن أذكر أسماء بعض الأعيان من الصحابة رضي الله عنهم فأقول، والله الموفق: