المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌حَرْفُ المِيْمِ 327 - الإمام مالك بن أنس بن مالك بن - التاريخ المعتبر في أنباء من غبر - جـ ٣

[مجير الدين العليمي]

الفصل: ‌ ‌حَرْفُ المِيْمِ 327 - الإمام مالك بن أنس بن مالك بن

‌حَرْفُ المِيْمِ

327 -

الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان - بغين معجمة -، ويقال: عثمان - بعين مهملة -، الأصبحيُّ المدنيُّ: إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأعلام، أخذ القراءة عَرْضًا عن نافع بن أبي نعيم، وسمع الزهري، ونافعًا مولى ابن عمر، وأخذ العلم عن ربيع الرأي، وكان إذا أراد أن يُحَدِّث توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرَّح لحيته، وتمكن من جلوسه بوقار وهيبة، فقيل له في ذلك، فقال: أحبُّ أن أعظِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يركب في المدينة، مع ضعفه وكبر سنه، ويقول: لا أركب في مدينة فيها جثةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفونة.

وسُعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو ابن عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: إنه لا يرى أيمانَ بيعتكم هذه بشيء، فغضب جعفر، ودعا به، وجرَّده، وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب فيه أمرًا عظيمًا، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علوِّ [و] رفعةِ، وكأنما كانت تلك السياط حُليًا حُلِّي به.

ص: 131

وذكر ابن الجوزي في سنة مبع وأربعين ومئة: أن فيها ضُرب مالك ابن أنس سبعين سوطًا؛ لأجل فتوى لم تكن غرض السلاطين (1).

وكانت ولادته سنة خمس وتسعين للهجرة، وحُمل به ثلاث سنين، وتوفي في بكرة رابع عشر شهر ربيع الأول، سنة تسع وسبعين ومئة رضي الله عنه، وعاش أربعًا وثمانين سنة، وقال الواقدي: تسعون سنة، وقيل غير ذلك، وكانت وفاته بالمدينة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام -، ودفن بالبقيع.

وكان شديد البياض إلى الشقرة، طويلًا، عظيم الهامة، أصلع، يلبس الثياب العَدَنية الجياد، ويكره حلق الشارب، ويَعِيبه، ويراه من المُثْلة، ولا يغيِّر شيبه.

والأصبحي: نسبة إلى ذي أصبح، واسمه: الحارثُ بن عوف بن مالك، وهو من يَعْرُبَ بن قحطان، وهي قبيلة كبيرة باليمن، وإليها تنسب السياط الأصبحية.

* * *

328 -

الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع بن السائب بن عبيدة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، المطلبيُّ الشافعيُّ: يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مَنَاف المذكور، وباقي النسب إلى مَعَدِّ بن عدنان، لقي جذُه شافعٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم،

(1) انظر: "المنتظم" لابن الجوزي (8/ 105).

ص: 132

وهو مترعرع، وكان أبوه السائب صاحبَ راية بني هاشم يومَ بدر، فأُسر، وفَدَى نفسه، ثم أسلم.

وكان الشافعي كثير المناقب، جَمَّ المفاخر، منقطع القرين، اجتمعت فيه من العلوم: كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة رضي الله عنه وآثارهم، واختلافهم، واختلاف أقاويل العلماء، وغير ذلك من معرفة كلام العرب، واللغة العربية، والشعر.

وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في حقه: الشافعي كالشمس للدنيا، والعافية للبدن، فهل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض؟

ولما حملت به أمه، رأت كأن المشتري خرج من فرجها، ثم انقضَّ بمصر، ثم وقع في كل بلدة منه شظية، فتأول أصحابُ الرؤيا أن يخرج عالم يخصُّ عله أهلَ مصر، ثم يتفرق في سائر البلدان.

حفظ "الموطأ"، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة.

وقال أحمد بن حنبل: ما من أحد بيده محبرة أو ورق إلا للشافعي في رقبته منة.

ومن دعائه: اللهمَّ يا لطيفُ أسألك اللطفَ فيما جرت به المقادير.

وهو مشهور بين العلماء بالإجابة، وأنه مجرب.

وفضائله أكثر من أن تحصر.

ولد سنة خمسين ومئة، وقد قيل: إنه ولد في اليوم الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، وكانت ولادته بمدينة غزة، وهو الأصح، وقيل:

ص: 133

بعسقلان، وقيل: باليمن، وحُمل من غزة إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها، ورحل إلى مالك بن أنس، وقدم بغداد سنة خمس وتسعين ومئة، فأقام بها شهرًا، ثم خرج إلى مصر، وكان وصوله إليها في سنة تسع وتسعين ومئة، وقيل: سنة إحدى ومئتين، ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الجمعة، آخر يوم من رجب سنة أربع ومئتين، ودفن بعد العصر من يومه بالقرافة الصغرى، وقبره يزار بها بالقرب من المقطم رضي الله عنه، والقبة المبنية على قبره بناها الملك الكامل بعد العشرين وست مئة، ومات وعمره أربع وخمسون سنة.

ورئي له منامات حسنة، وله أشعار كثيرة، فمن المنسوب إليه:

رَامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ

وَمِنَ البِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقَا

ومن شعره:

كُلَّمَا أَدَّبَنِي الدَّهْرُ

أَرِانِي نَقْصَ عَقْلِي

وَإِذَا مَا ازْدَدْتُ عِلْمًا

زَادَنِي عِلْمًا بِجَهْلِي

وهو القائل:

وَلَوْلَا الشِّعْرُ بِالعُلَمَاءِ يُزْرِي

لَكُنْتُ اليَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ

وَلَوْلَا خَشْيَةُ الرَّحْمَنِ رَبِّي

جَعَلْتُ النَّاسَ كُلَّهُمُ عَبِيدِي

ومناقبه وأخباره كثيرة مشهورة، رضي الله عنه، ونفعنا به.

* * *

ص: 134

329 -

السيد تاج العارفين أبو الوفا محمد بن محمد بن محمد ابن زيد بن حسن بن المرتضى أكبر عوض بن زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الشريفُ الحسينيُّ القوسانيُّ: السيد الجليل، قطب زمانه، وعلامة أوانه.

مولده - على الصحيح - في ثاني عشر رجب، سنة سبع عشرة وأربع مئة، واختلف الترجيح في مذهبه، فقيل: حنبلي، وقيل: شافعي.

توفي في العشرين من شهر ربيع الأول، سنة إحدى وخمس مئة بقلمينا - بلدة إلى جانب بغداد -، رضي الله عنه، ونفعنا به.

* * *

330 -

أبو يحيى، مالك بن دينار البغويُّ، وهو من موالي بني أسامة بن لؤي، القرشيُّ: كان عالمًا زاهدًا، كثير الورع، قنوعًا، لا يأكل إلا من كسب يده، وكان يكتب المصاحف بالأجرة، وله مناقب عديدة، وآثار مشهورة، وكان من كبار السادات.

توفي سنة إحدى وثلاثين ومئة بالبصرة قبل الطاعون بيسير رحمه الله، وعفا عنه -.

* * *

331 -

أبو السعادات المبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم، الشيبانيُّ المعروف بابن الأثير، الجزريُّ، الملقب مجد

ص: 135

الدين: أشهر العلماء ذكرًا، وأكبر النبلاء قدرًا، وأحد الفضلاء المشار إليهم، وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم، له المصنفات البديعة، ولد بجزيرة ابن عمر في أحد الربيعين، سنة أربع وأربعين وخمس مئة، ونشأ بها، ثم انتقل إلى الموصل سنة خمس وستين وخمس مئة، ثم عاد إلى الجزيرة، ثم إلى الموصل، وتنقل إلى الولايات بها، ثم عرض له مرض كف يديه ورجليه، فمنعه من الكتابة، وأقام في داره يغشاه الأكابر والعلماء.

وقيل: إنه صنف كتبه كلها في مدة العطلة، فإنه تفرغ لها، وكان عنده جماعة يعينونه في الاختيار والكتابة.

وتوفي بالموصل في سلخ ذي الحجة، سنة ست وست مئة في نهار الخميس، ودفن برباطه بدرب دراج داخل الموصل.

وجزيرة ابن عمر: مدينة فوق الموصل على دجلتها، سميت جزيرة؛ لأن دجلة محيط بها، بناها رجل من أهل برقعيد، يقال له: عبد العزيز بن عمر.

* * *

332 -

أبو الميمون، المبارك بن كامل بن علي بن مقلد بن نصر، ابن منقذ، الملقب: سيف الدولة، الكنانيُّ، مجد الدين: كان من أمراء الدولة الصلاحية، وشاد الديوان بالديار المصرية، وهو من بيت كبير، ولم يزل سيفُ الدولة مقدَّمًا، كبير القدر، نبيه الذكر، رئيسًا عالي الهمة،

ص: 136

وكانت فيه فضيلة، وكان يحب أربابها، ومدحه جماعة من مشاهير الشعراء، وله شعر جيد، فمن ذلك: قوله في البراغيث:

وَمَعْشَرٍ يَسْتَحِلُّ النَّاسُ قَتْلَهُمُ

كَمَا اسْتَحَلُّوا دَمَ (1) الحجَّاجِ فِي الحَرَمِ

إِذَا سَفَكْتُ دَمًا مِنْهُمْ فَمَا سَفَكَتْ

يَدَايَ مِنْ دَمِهِ المَسْفُوكَ غَيْرَ دَمِي

هكذا رواهما عز الدين أبو القاسم عبد الله بن أبي علي الحسين بن رواحة الأنصاري الحَمَوي.

ومولد أبي القاسم المذكور بساحل صقلية سنة ستين وخمس مئة، ومات سنة ست وأربعين وست مئة في جب التركماني المنزلة التي بين حلب وحماة وهو راكب على الجمل، وكانت ولادته في مركب، ومات على جمل.

وكانت ولادة سيف الدولة بقلعة شَيْزَر سنة ست وعشرين وخمس مئة، وتوفي بالقاهرة يوم الثلاثاء، ثامن شهر رمضان، سنة تسع وثمانين وخمس مئة.

والذروي: نسبة إلى ذروى، وهي قرية بصعيد مصر،

* * *

(1) في الأصل: "دماء".

ص: 137

333 -

أبو البركات المبارك بن أبي الفتح أحمد بن المبارك بن موهوب بن غنيمة، اللخميُّ، الملقب: شرف الدين، المعروف بابن المستوفي الإربلي: كان رئيسًا جليل القدر، كثير التواضع، واسع الكرم، لم يصل إلى إربل أحد من الفضلاء إلا وبادر إلى زيارته، وحمل إليه ما يليق بحاله.

وكان جمَّ الفضائل، عارفًا بعدة فنون، بارعًا في علم الديوان وحسابه، وله مصنفات في التاريخ والشعر، والأدب والتفسير، فمن شعره: بيتان فَضَّلَ فيهما البياض على السمرة، ومنه:

لَا تَخْدَعَنَّكَ سُمْرَةٌ وَغِرَارَةٌ

مَا الحُسْنُ إِلَّا لِلبَيَاضِ وَجِنْسِهِ

فَالرُّمْحُ يَقْتُلُ بَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ

وَالسّيْفُ يَقْتُلُ كُلُّهُ مِنْ نَفْسِهِ

ومن أشعاره التي يُتغنى بها قوله:

يَا لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ سَهِرْتُهَا

قَابَلْتُ فِيهَا بَدْرَهَا بِأَخِيهِ

سَمَحَ الزَّمَانُ بِهَا فَكَانَتْ لَيْلَةً

عَذُبَ العُبَابُ بِهَا لِمُجْتَذِبِيهِ

أَحْيَيْتُهَا وَأَمَتُّهَا عَنْ حَاسِدٍ

مَا هَمُّهُ إِلَّا الحَدِيثُ يَشِيهِ

وَمُعَانِقِي حُلْوُ الشَّمَائِلِ أَهْيَفٌ

جُمِعَتْ مَحَاسِنُ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ

يَخْتَالُ مُعْتَدِلًا فَإِنْ عَبَثَ الصَّبَا

بِقَوَامِهِ مُتَعَرِّضا يَثْنِيه

نشوانُ تَهْجُمُ بِي عَلَيْهِ صَبَابَتِي

وَيَرُدُّنِي وَرَعِي فَأَسْتَحْيِيهِ

ص: 138

عَلِقَتْ يَدِي بِعِذَارِهِ وَبِخَدِّهِ

هَذَا أُقَبِّلُهُ وَذَا أَجْنِيهِ

لَوْ لَمْ تُخَالِطْ زَفْرَتِي أَنْفَاسَهُ

كَادَتْ تَنِمُّ بِنَا إِلَى وَاشِيهِ

حَسَدَ الصَّبَاحُ اللَّيْلَ لَمَّا ضَمَّنَا

غَيْظًا وَفَرَّقَ بَيْنَنَا دَاعِيهِ

ولد في شوال، سنة أربع وستين وخمس مئة بقلعة إربل، وهو من بيت كبير، وكان عمه فاضلًا، وهو الذي نقل "نصيحة الملوك" تصنيف حجة الإسلام أبي حامد الغزالي من اللغة الفارسية إلى العربية، فإن الغزالي وضعها بالفارسية، وتوفي بالموصل يوم الأحد، لخمسٍ خلون من المحرم سنة سبع وثلاثين وست مئة، ودفن بالمقبرة خارج باب الجَصَّاصة، وكان مستوفي الديوان بإربل، والاستيفاء بتلك البلاد بمنزلة عَلِيَّة تِلْو الوزارة، ثم بعد ذلك تولى الوزارة في المحرم، سنة تسع وعشرين وست مئة، وشُكرت سيرته فيها رحمه الله.

* * *

334 -

أبو بكر المبارك بن أبي طالب المبارك بن أبي الأزهر سعيد، الملقب: الوجيه، المعروف بابن الدهان، النحويُّ الضريرُ الواسطيُّ: ولد ببلده، ونشأ بها، وحفظ القرآن، واشتغل بالعلم، ثم قدم بغداد، واستوطنها، وتفقه على مذهب أبي حنيفة بعد أن كان حنبليًّا، ثم شَغَر منصب تدرشى النحو بالنظامية، وشرط الواقف أنه لا يفوض إلا إلى شافعي المذهب، فانتقل الوجيهُ المذكور إلى مذهب الشافعي وتولاه، وفي ذلك يقول المؤيد أبو البركات التكريتي:

ص: 139

فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنّي الوَجِيهَ رِسَالَةً

وَإِنْ كَانَ لَا تُجْدِي إِلَيْهِ الرَّسَائِلُ

تَمَذْهَبَ لِلنُّعْمَانِ بَعْدَ ابْنِ حَنْبَل

وَذَلِكَ لَمَّا أَعْوَزَتْكَ المَآكِل

وَمَا اخْتَرْتَ رَأْيَ الشَّافِعِيّ [تَدَيُّنًا]

وَلَكِنَّمَا تَهْوى الَّذِي مِنْهُ حَاصِلُ

وَعَمَّا قَلِيلٍ إِنَّمَا أَنْتَ صَائِرٌ

إِلَى مَالِكٍ فَانْظُرْ لِمَا أَنْتَ قَائِلُ

وكان الوجيه فيه شَرَهُ نفس، وتوسُّع في القول، وكان كثير الدعاوى.

ولد سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة بواسط، وتوفي ليلة الأحد السادس والعشرين من شعبان، سنة اثنتي عشرة وست مئة ببغداد، ودفن من الغداة بالوردية.

* * *

335 -

أبو المعالي مُجَلِّي بن جميع بن نَجا، القرشيُّ المخزوميُّ الأرسوفيُّ الأصل، المصريُّ الدار والوفاة، الفقيهُ الشافعيُّ: كان من أعيان الفقهاء المشار إليهم في وقته، وصنف في الفقه "الذخائر"، وهو مبسوط، جمع من المذهب شيئًا كثيرًا، وفيه نقل غريب ربما لا يوجد في غيره، وتولى القضاء بمصر سنة سبع وأربعين وخمس مئة بتفويض من

ص: 140

العادل علي؛ فإنه كان صاحب الأمر في ذلك الوقت، ثم صُرف عن القضاء في أول سنة تسع وأربعين وخمس مئة، وتوفي في ذي القعدة سنة خمسين وخمس مئة، ودفن بالقرافة الصغرى.

والأرسوفي: نسبة إلى أرسوف، وهي بليدة على ساحل البحر بالقرب من رملة فلسطين، كان بها جماعة من العلماء والمرابطين، ثم استولى عليها الفرنج - خذلهم الله - مدة، ثم انتزعها السلطان الملك الظاهر ركنُ الدين أبو الفتح بيبرس الصالحيُّ النجميُّ من أيديهم في شهور سنة ثلاث وستين وست مئة، في سادس عشر رجب، بعد أن ملك قيسارية، وخربها، وعَفَّى آثارها، مع الكثير من البلاد الساحلية التي تجاورها؛ كيافا وغيرها؛ فإنه خربها بعد أن ملكها رحمه الله، وعفا عنه -.

* * *

336 -

القاضي أبو علي المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد، التنوخيُّ: قال الثعالبي في حقه - بعد أن ذكر فضيلة أبيه -: هلال ذلك القمر، وغصن هاتيك الشجر، والشاهد العدل بمجد أبيه وفضله، والفرع المشيد لأصله، والنائب عنه في حياته، والقائم مقامه بعد وفاته.

وفيه يقول أبو عبد الله بن الحجاج الشاعر:

إِذَا ذُكِرَ القُضَاةُ وَهُمْ شُيُوخٌ

تَخَيَّرْتُ الشَّبَابَ عَلَى الشُّيُوخِ

ص: 141

وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ أَصْفَعْهُ إِلَّا .. بِحَضْرَةِ سَيّدِي القَاضِي التَّنُوخِي

وله كتاب "الفرج بعد الشدة"، و"المستجاد من فعلات الأجواد".

ولي القضاء بجزيرة ابن عمر، وله ديوان شعر، وتقلَّد القضايا بأعمال كثيرة في نواحٍ مختلفة، ومن شعره:

قُلْ لِلمَلِيحَة فِي الخِمَارِ المُذْهَبِ

أَفْسَدْتِ نُسْكَ أَخِي التُّقَى المُتَرَهِّبِ

نُورُ الخِمَارِ وَنُورُ خَدِّكِ تَحْتَهُ

عَجَبًا لِوَجْهِكِ كَيْفَ لَمْ (1) يَتَلَهَّبِ

وَجَمَعْتِ بَيْنَ المَذْهَبَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ

لِلْحُسْنِ عَنْ ذَهَبَيْهِمَا مِنْ مَذْهَبِ

وَإِذَا أتتْ عَيْنٌ لِتَسْرِقَ نَظْرَةً

قَالَ الشُّعَاعُ لَهَا اذْهَبِي لَا تَذْهَبِي

وما ألطف قوله: اذهبي لا تذهبي، وله أشياء حسنة.

ولد ليلة الأحد، لأربعٍ بقين من شهر ربيع الأول، سنة سبع وعشرين وثلاث مئة [بالبصرة، وكانت وفاته ليلة الاثنين، لخمسٍ بقين

(1) في الأصل: "لا".

ص: 142

من المحرم، سنة أربع وثمانين وثلاث مئة] (1) ببغداد.

[وللشاعر مسكين الدارمي]، وهو من مجيدي الشعراء نظيرُ هذه الأبيات:

قُلْ لِلْمَلِيحَةِ فِي الخِمَارِ الأَسْوَدِ

مَاذَا أَرَدْتِ بِنَاسِكٍ مُتَعَبّد

قَدْ كَانَ شَمَّرَ لِلصَّلَاةِ إِزَارَهُ

حَتَّى قَعَدْتِ لَهُ بِبَابِ المَسْجِدِ

* * *

337 -

أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب، المعروف بابن الحنيفيةِ: أمُّه الحنفية خولةُ بنتُ جعفر بن قيس بن سلمة بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة، وأما كنيته أبو القاسم، فيقال: إنها رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال لعلي رضي الله عنه:"سيولد لكَ بعدي غلامٌ، وقد نحلتُه اسمي وكُنيتي، ولا تحلُّ لأحدٍ من أمتي بعده"(2).

وممن تسمى محمدًا، وتكنى أبا القاسم: محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن سعد بن أبي وقاص،

(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 162).

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(5/ 91)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(54/ 330)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 143

ومحمد بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن حاطب بن أبي بلتعة، ومحمد بن الأشعث بن قيس.

وكان محمد المذكور كثير العلم والورع، وكان شديد القوة، وكانت راية أبيه يوم صِفِّين بيده، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وتوفي في أول سنة إحدى وثمانين للهجرة، وقيل: سنة ثلاث وثمانين بالمدينة الشريفة، وصَلَّى عليه أَبانُ بن عثمان رضي الله عنه، وكان والي المدينة، ودفن بالبقيع.

وكان المختار بن أبي عبيد الثقفي يدعو إلى إمامة محمد بن الحنفية، ويزعم أنه المهدي، والفرقة الكيسانية تعتقد إمامته، وأنه مقيم بجبل رَضْوى في شعْبٍ فيه، ولم يمت، دخل إليه ومعه أربعون من أصحابه، ولم يوقَف لهم على خبر، وهم أحياء يرزقون، وأنه مقيم في هذا الجبل بين أسد ونمر، وعنده عينان نضَّاختان تجريان عسلًا وماء، وأنه يرجع إلى الدنيا، فيملؤها عدلًا، وانتقلت إمامته إلى ولده أبي هاشم عبد الله، ومنه إلى محمد بن علي والد السفاح والمنصور.

ورَضْوى: جبلُ جُهَينة، وهو [في] عمل ينبُع، وهو من المدينة الشريفة على سبع مراحل، وهو على ليلتين من البحر، ومن هذا الجبل تُحمل حجارة المِسَنِّ إلى سائر الأمصار.

* * *

338 -

أبو جعفر محمد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي

ص: 144

ابن أبي طالب رضي الله عنه، الملقَّب: الباقر: أحد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية، وهو والد جعفر الصادق، كان عالمًا سيدًا كبيرًا، وقيل له البادر؛ لأنه تبقر في العلم؛ أي: توسع، والتبقُّر: التوسع، وفيه يقول الشاعر:

يَا بَاقِرَ العِلْمِ لأِهْلِ التُّقَى

وَخَيْرَ مَنْ لَبَّى عَلَى الأَجْبُلِ

ولد يوم الثلاثاء، سنة سبع وخمسين للهجرة، وكان عمره يوم قُتل جده الحسين ثلاث سنين (1)، وتوفي في شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث عشرة ومئة، ودفن بالبقيع في القبر الذي فيه أبوه، وعمُّ أبيه الحسنُ بن علي رضي الله عنه، في القبة التي فيها قبر العباس.

* * *

339 -

أبو جعفر محمد بن علي الرِّضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر المذكور قبله، المعروفُ بالجواد: أحد الأئمة الاثني عشر - أيضًا -، كان يروي مسندًا عن أبيه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال لي وهو يوصيني: "يَا عَلِيُّ! مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ، يَا عَلِيُّ! عَلَيْكَ بِالدُّلْجَةِ - وهو السير في آخر الليل - فَإِنَّ الأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ

(1) في الأصل: "ثلاث وستين سنة".

ص: 145

مَا لَا تُطْوَى بِالنَّهَارِ، يَا عَلِيُّ! اغْدُ؛ فَإِنَّ اللهَ بَارَكَ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا" (1)، وكان يقول: من استفادَ أخًا في الله، فقد استفادَ أنيسًا في الجنة.

ولد في خامس رمضان، سنة خمس وتسعين ومئة، وتوفي يوم الثلاثاء، لخمسٍ خلون من ذي الحجة، سنة عشرين ومئتين ببغداد، ودفن عند جده موسى بن جعفر في مقابر قريش، وصلَّى عليه الواثقُ بن المعتصم.

* * *

340 -

أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي ابن محمد الجواد المذكور قبله: ثاني عشر الأئمة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية، المعروف بالحجة، وهو الذي تزعم الشيعة أنه المنتَظَر، والقائم، والمهدي، وهو صاحب السِّرداب عندَهم، وأقاويلهم فيه كثيرة، وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان من السرداب بسُرَّ مَنْ رأى.

وكانت ولادته منتصف شعبان، سنة خمس وخمسين ومئتين.

والشيعة يقولون: إنه دخل في السرداب في دار أبيه، وأمُّه تنظر إليه، فلم يعد يخرج إليها، وذلك في سنة خمس وستين ومئتين، وقيل: ست وخمسين، وهو الأصح، ولما دخل السرداب، كان عمره أربع سنين، وقيل: سبع عشرة، والله أعلم أي ذلك كان.

(1) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(3/ 54).

ص: 146

والأئمة الاثنا عشر هم: علي بن أبي طالب، ثم ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثم محمد الباقر بن زين العابدين، ثم جعفر الصادق بن محمد الباقر، ثم موسى الكاظم بن جعفر الصادق، ثم علي الرضا بن موسى الكاظم، ثم محمد الجواد بن علي الرضا، ثم علي الزكي بن محمد الجواد، ثم الحسن العسكري بن علي الزكي، ثم محمد المنتظر بن الحسن العسكري رحمهم الله أجمعين -.

* * *

341 -

محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار، الأنصاريُّ الكوفيُّ: كان من أصحاب الرأي، وتولى القضاء بالكوفة، وأقام حاكمًا ثلاثًا وثلاثين سنة، وَلِيَ لبني أمية، ثم لبني العباس، وكان فقيهًا مفتيًا، وكانت بينه وبين أبي حنيفة وحشة يسيرة، وكان يجلس للعلم في مسجد الكوفة، فيحكى: أنه انصرف يومًا من مجلسه فسمع امرأة تقول: يا بن الزانيين، فامر بها، فأخذت، ورجع إلى مجلسه، وأمر بها، فضُربت حَدَّين وهي قائمة، فبلغ ذلك أبا حنيفة، فقال: أخطأ القاضي في هذه الواقعة في ستة أشياء:

في رجوعه إلى مجلسه بعد قيامه منه، ولا ينبغي له أن يرجع بعد قيامه منه.

وفي ضربه الحد في المسجد، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إقامة

ص: 147

الحدود في المساجد.

وفي ضربه المرأة قائمةً، وإنما تضرب النساء قاعدات كاسيات.

وفي ضربه إياها حدين، وإنما يجب على القاذف إذا قذف جماعة بكلمة واحدة حدّ واحد، ولو وجب - أيضًا - حدان، لا يُوالى بينهما، بل يضرب أولًا، ثم يترك حتى يبرأ من آلام الأول.

وفي إقامته الحدّ عليها بغير طالب.

فبلغ ذلك محمد بن أبي ليلى، فسير إلى والي الكوفة، وقال: هاهنا شاب يقال له: أبو حنيفة يعارضني في أحكامي، ويفتي بخلاف حكمي، ويشنِّع عليَّ بالخطأ، فأريد أن تزجره عن ذلك.

فبعث إليه الوالي، ومنعه من الفتوى.

فيقال: إن ابنته سألته عن مسألة، فقال لها: سلي أخاك حماد [اً]؛ فإن الأمير منعني من الفتوى. وهذه من مناقب أبي حنيفة رضي الله عنه، وحسنِ تمسكه بامتثال إشارة ولي الأمر.

ولد محمد المذكور سنة أربع وسبعين للهجرة، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومئة بالكوفة، وهو باق على القضاء، فجعل أبو جعفر المنصور ابن أخيه مقامه.

* * *

342 -

ذكر محمد بن سيرين البصري: كان أبوه عبدًا لأنس بن مالك، كاتَبَه على أريعين ألفًا، وقيل: عشرين ألفًا، وأدَّى الكتابة، وكانت

ص: 148

أمه صفيةُ مولاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، روى عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعمران بن الحصين، وأنس بن مالك رضي الله عنهم، وهو من أَجَلِّ العلماء من أهل البصرة، والمشهور بالورع في وقته، وكانت له اليد الطولى في تعبير الرؤيا، وكانت ولادته لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، توفي يوم الأحد، تاسع شوال، سنة عشر ومئة بالبصرة، بعدَ الحسن البصري بمئة يوم رضي الله عنهما، وكان بَزَّازًا.

وولد له ثلاثون ولدًا من امرأة واحدة، ولم يبق منهم غيرُ عبد الله، فلما مات، كان عليه ثلاثون ألف درهم دينًا فقضاها ولده عبد الله، فما مات عبد الله حتى قُوِّم مالُه بثلاث مئة الف.

* * *

343 -

أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد، الشيبانيُّ بالولاء، الفقيهُ الحنفيُّ: أصله من قرية على باب دمشق في وسط الغوطة اسمها: حرستا، وقدم أبوه من الشام إلى العراق، وأقام بواسط، فولد له بها محمد المذكور، ونشأ بالكوفة، وطلب الحديث، ولقي جماعة من أعلام الأئمة، وحضر مجلس أبي حنيفة سنتين، ثم تفقه على صاحبه أبي يوسف، وصنف الكتب الكثيرة، ونشر علم أبي حنيفة، وكان من أفصح الناس.

ولما دخل الإمام الشافعي بغداد، كان بها، وجرى بينهما مجالس ومسائل بحضرة هارون الرشيد، وقال الشافعي: ما رأيت سمينًا ذكيًا إلا

ص: 149

محمد بن الحسن، وكان الرشيد ولاه قضاء الرقة، ثم عزله عنها.

ولد محمد بن الحسن سنة خمس، وقيل: سنة إحدى، وقيل: اثنتين وثلاثين ومئة، ومات لما خرج صحبة الرشيد إلى الري خَرْجَتَه الأولى في سنة تسع وثمانين ومئة، مات هو والكسائي في يوم واحد بالرَّيِّ - رحمهما الله تعالى -.

* * *

344 -

أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف، الجعفيّ بالولاء، البخاريُّ: الحافظ، الإمام في علم الحديث، صاحب "الجامع الصحيح"، و"التاريخ".

رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدِّثي الأمصار، وكتب بخراسان، ومدن العراق، والحجاز، والشام، ومصر، وقدم بغداد، واجتمع إليه أهلُها، واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية.

وكان ابنُ صاعد إذا ذكره، يقول: الكبشُ النطَّاح.

ونقل عنه محمد بن يوسف الفِرَبري أنه قال: ما وضعتُ في كتاب "الصحيح" حديثًا إلا اغتسلتُ قبل ذلك، وصليت ركعتين.

وعنه أنه قال: صنفت كتابي "الصحيح" لست عشرة سنة، خرَّجته من يست مئة الف حديث، وجعلته حجةً فيما بيني وبين الله عز وجل.

وقال الفربري: سمع "صحيح البخاري" تسعون الف رجل، فما بقي أحد يرويه غيري.

ص: 150

ولد البخاري يوم الجمعة بعد الصلاة، لثلاثَ عشرةَ ليلة خلت من شوال، سنة أربع وتسعين ومئة، وتوفي ليلة السبت، عند صلاة العشاء، ليلة عيد الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر، سنة ست وخمسين ومئتين بِخَرْتَك - بالباء الموحدة والخاء المعجمة والراء الساكنة والتاء المفتوحة المثناة والكاف (1)، وهي قرية من قُرى سمرقند، وكان شيخًا نحيفَ الجسم، لا بالطويل ولا بالقصير.

والبخاريُّ: نسبة إلى بخارى، ونسبة البخاريِّ إلى الجُعْفِيِّ هو سعيد بن جعفر الجُعفي والي خراسان، وكان له عليهم الولاء، فنُسِبوا إليه.

* * *

345 -

أبو الحسين مسلم بن الحجاج، القُشَيْريُّ النيسابوريّ: صاحب "الصحيح"، أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدِّثين، رحل إلى العراق، والحجاز، والشام، ومصر، وسمع من يحيى النيسابوري، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، قدم بغداد غير مرّة، وآخر قدومه إليها سنة تسع وخمسين ومئتين، وصنف "المسند الصحيح" من ثلاث مئة الف حديث مسموعة.

وتوفي عشية يوم الأحد، ودفن بنصر أباد ظاهر نيسابور يوم الاثنين،

(1) المشهور أنها خرتنك، انظر:"وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 191) وغيره.

ص: 151

لخمسٍ، وقيل: لستٍّ بقين من رجب، سنة إحدى وستين ومئتين، وعمره خمس وخمسون سنة.

* * *

346 -

أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر، الترمذيُّ الفقيهُ الشافعيُّ: لم يكن في الفقهاء الشافعية إلى وقته أرأَسُ منه، ولا أكثرُ نقلًا، سكن بغداد، وحدَّث بها، وكان ثقة، من أهل العلم والفضل، والزهدِ في الدنيا، وكانْ لا يسأل أحدًا شيئًا، وكان يقول: تفقهت على مذهب أبي حنيفة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة عام حججت، فقلت: يا رسول الله! قد تفقهتُ بقول أبي حنيفة، أفآخذ (1)، قال: لا، فقلت: آخذ بقول مالك بن أنس؟ فقال: خذ منه ما وافق سنتي، فقلت:[أ] فآخذ بقول الشافعي؟ فقال: ما هو بقوله، إلا أنه أخذ بسنتي، وردَّ على من خالفها.

قال: فخرجت إثر هذه الرؤيا إلى مصر، وكتبتُ كُتُبَ الشافعي.

وكان ثقة مأمونًا، كتب الحديث تسعًا وعشرين سنة.

ولد في ذي الحجة، سنة مئتين، وقيل: عشر ومئتين، وتوفي لإحدى عشرةَ ليلة خلت من المحرم، سنة خمس وتسعين ومئتين.

والترمذي: نسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر بَلْخ الذي يقال

(1) في الأصل: "فأخذته".

ص: 152

له: جيحون، وقد اختلف في كيفية هذه النسبة بين فتح التاء وضمها وكسرها، والمتداوَلُ على لسان أهل ذلك البلد - بالفتح، وكسر الميم - وهي في حساب ما وراء النهر من ذلك الجانب.

* * *

347 -

أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل، القفَّالُ الشاشِيُّ الشافعيّ: إمام عصره بلا مدافعة، وله مصنفات كثيرة، وهو أول من صنف الجدل الحَسَنَ من الفقهاء، وعنه انتشر مذهب الشافعي في بلاده.

ولد سنة إحدى وتسعين ومئتين، وتوفي في عاشر ذي الحجة، سنة خمس وستين وثلاث مئة - رحمه الله تعالى -.

* * *

348 -

أبو زيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد، المروزيُّ القاشانيُّ الشافعيّ: كان من الأئمة الأجلاء، حسن النظر، مشهورًا بالعلم، حافظًا للمذهب، وله فيه وجوه غريبة.

دخل بغداد، وحدث بها، ثم خرج إلى مكة، فجاور بها سبع سنين، وكان في ابتداء أمره فقيرًا، ثم أقبلت عليه الدنيا في آخر عمره، وقد أسنَّ وقد تساقطت أسنانه، فكان لا يتمكن من المضغ، وبطلت منه حاسية الجِماع، فكان يقول مخاطبًا للنعمة: لا باركَ الله فيكِ، أقبلتِ حيثُ لا نابٌ، ولا نِصاب.

ص: 153

وكان بعض الفضلاء قد أثرى، وصارت له نعمة، وهو في عشر الثمانين، فأنشد:

مَا كُنْتُ أَرْجُوهُ إِذْ كُنْتُ ابْنَ عِشْرِينَا

مَلَكْتُهُ بَعْدَ أَنْ جَاوَزْتُ سَبْعِينَا

يَطُفْنَ بِي مِنْ بَنَاتِ الرُّومِ أَرْبَعَةٌ

يَحْكِينَ بِالحُسْنِ حُورَ الجَنَّةِ العِينَا

يَغْمِزْننِي بِأَسَارِيع مُنَعَّمَةٍ

تَكَادُ تَنْفُذُ مِنْ أَطْرَافِهَا لِينَا

يُرِدْنَ إِحْيَاءَ مَيْتٍ لَا حَرَاكَ لَهُ

وَكَيْفَ يُحْيِينَ مَيْتًا صَارَ مَدْفُونًا

قَالُوا أَنِينُكَ طُولَ اللَّيْلِ يُقْلِقُنَا

فَمَا الَّذِي تَشْتَكي؟ قُلْتُ الثَّمَانِينَا

توفي يوم الخميس، ثالث عشر رجب، سنة إحدى وسبعين وثلاث مئة بمرو رحمه الله.

* * * *

349 -

أبو عبد الله محمد بن أحمد، الخِضْريُّ المروزيُّ الفقيهُ: إمام مرو، ومقدَّم الفقهاء الشافعية، أقام بمرو ناشرًا فقهَ الشافعي، وكان يُضرب به المثل في قوة الحفظ، وقلة النسيان، وله في المذهب وجوه

ص: 154

غريبة، وكانت له معرفة بالحديث، وكان ثقة، وتوفي في عشر الثمانين وثلاث مئة.

والخِضْري - بكسر الخاء المعجمة، وسكون الضاد المعجمة -: نسبة إلى بعض أجداده، واسمه الخضر.

* * *

350 -

أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد، الغَزَاليُّ، الملقب: حُجَّة الإسلام، زينُ الدين، الطوسيُّ الشافعيُّ: لم يكن للطائفة الشافعية في آخر عصره مثلُه، واشتغل في بداية أمره بطوس، ثم قدم نيسابور، واختلف في دروس إمام الحرمين، وجدَّ في الاشتغال حتى تخرج في مدة قريبة، وصار من الأعيان المشار إليهم في زمن أستاذه، وصنف في ذلك الوقت، وكان أستاذه يتبجَّح به، واشتهر اسمه، وفوض إليه تدريس النظَّامية ببغداد، وارتفعت منزلته، ثم ترك جميع ما كان عليه في ذي القعدة، سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، وسلك طريق الزهد، وحج إلى الشام، فأقام بها مدة، ثم انتقل منها إلى بيت المقدس، ثم قصد مصر، وأقام بالإسكندرية، ثم عاد إلى وطنه بطوس، وصنف الكتب في عدة فنون، منها:"الوسيط"، و"البسيط"، و"الوجيز"، و"الخلاصة"، و"إحياء علوم الدين"، وهو من أنفس الكتب، وله غير ذلك من الكتب الكثيرة النافعة.

ثم عاد إلى نيسابور، وترك وطنه، واتخذ خانقاه للصوفية، ولازم

ص: 155

العلم والخير إلى أن انتقل إلى ربه، ويروى له شعر:

حَلَّتْ عَقَارِبُ صُدْغِهِ فِي خَدِّهِ

قَمَرٌ يَجِلُّ بِهِ عَنِ التَّشْبِيهِ

وَلَقَدْ عَهِدْنَاهُ يَحُلُّ بِبُرْجِهَا

وَمِنَ العَجَائِبِ كَيْفَ حَلَّتْ فِيهِ

ولد سنة خمسين وأربع مئة، وتوفي يوم الاثنين، رابع عشر جمادى الآخرة، سنة خمس وخمس مئة بطوس، ودفن بظاهر الطابران.

والطابران: بلد في طوس.

* * *

351 -

أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين، الفارقيُّ، المعروف بالمستظهريِّ، الملقَّبُ: فخر الإسلام، الفقيهُ الشافعيُّ: كان فقيه وقته، تفقه أولًا بِمَيَّافارقين، ثم رحل إلى بغداد، ودخل نيسابور، ثم تعين بعد أُستاذه الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وانتهت إليه رئاسة الطائفة الشافعية، وصنف التصانيف الحسنة، منها:"حلية العلماء" في المذهب، ثم ضم إلى كل مسألة اختلاف الأئمة فيها، وجمع من ذلك أشياء كثيرة، وسماه "المستظهري"؛ لأنه صنف للإمام المستظهر بالله، وتولى تدريس النظامية ببغداد سنة أربع وخمس مئة، وكان قد تولاها أبو إسحاق، وأبو نصر بن الصباغ صاحب "الشامل"، وأبو سعيد المُتولِّي، وأبو حامد الغزالي،

ص: 156

فلما انقرضوا، تولاها هو.

وذكر بعض المشايخ: أنه يوم الدرس وضع منديله على عينيه، وبكى كثيرًا وهو جالس على السدَّة التي جرت عادة المدرسين بالجلوس عليها، وكان ينشد:

خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّدِ

وَمِنَ البَلَاءِ تَفَرُّدِي بِالسُّؤْدَدِ

وهذا إنصاف منه، واعتراف لمن تقدَّمه بالفضل والرجحان عليه.

ولد بميافارقين في المحرم، سنة تسع وعشرين وأربع مئة، وتوفي في الخامس والعشرين من شوال، سنة سبع وخمس مئة ببغداد، ودفن مع شيخه أبي إسحاق في قبر واحد، وقيل: إلى جانبه، بباب أبرز.

* * *

352 -

أبو نصر محمد بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله، الأرغيانيُّ الفقيهُ الشافعيُّ: قدم من بلده إلى نيسابور، واشتغل على إمام الحرمين، وبرع في الفقه، وكان إماما مفننًا، ورَعًا، كثير العبادة، وسمع الحديث من الواحدي صاحبِ التفاسير، وروي عنه تفسير قوله تعالى:{إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94]: أن ريح الصَّبا استأذنت ربها عز وجل أن تأتي يعقوبَ بريح يوسف - على نبينا وعليهما الصلاة والسلام - قبل أن يأتيه البشير بالقميص، فأذن لها، فأتته بذلك، فلذلك تروّح كل محزون

ص: 157

بريح الصبا، وهي [من] ناحية المشرق، إذا هبت على الأبدان، نعّمتها، وليَّنتها، وهيَّجت الأشواق إلى الأوطان والأحباب، وأنشد:

أَيَا جَبَلَيْ نُعْمَانَ بِاللهِ خَلِّيَا

نَسِيمَ الصَّبَا يَخْلُصْ إِلَيَّ نَسِيمُهَا

فَإِنَّ الصَّبَا رِيحٌ إِذَا مَا تَنَسَّمَتْ

عَلَى نَفْسِ مَهْمُومٍ تَجَلَّتْ هُمُومُهَا

ولد في سنة أربع وخمسين وأربع مئة، وتوفي ليلة الرابع والعشرين من ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وخمس مئة بنيسابور، ودفن بظاهرها، بموضع يقال له: الجيزة، على الطريق.

* * *

353 -

أبو المعالي محمد بن أبي الحسن علي بن محمد بن يحيى ابن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن ابن الوليد بن عبد الرحمن بن أبان ابن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، الأمويُّ القرشيُّ، الملقب: محيي الدين، المعروف بابن زكلي الدين، الدمشقيُّ الفقيهُ الشافعيُّ: كان ذا فضائل عديدة من الفقه والأدب وغيرهما، وله النظم المليح، والخطب والرسائل، تولى القضاء بدمشق في ربيع الأول، سنة سبع وثمانين وخمس مئة، وكان له المنزلة العالية، والمكانة المكينة عند السلطان صلاح الدين - رحمه الله تعالى -، ولما فتح السلطان حلب يوم السبت، ثامن عشر صفر، سنة تسع وسبعين

ص: 158

وخمس مئة، أنشده القاضي محيي الدين المذكور قصيدة بائية (1)، وأجاد فيها، ومن جملتها بيت، وهو متداوَلٌ بين الناس:

وَفَتْحُكَ القَلْعَةَ الشَّهْبَاءَ فِي صَفَرِ (2)

مُبَشِّرٌ بِفُتُوحِ القُدْسِ فِي رَجَبِ (3)

فكان كما قال؛ فإن القدس فُتحت في ثلاثة بقين من رجب، سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة. فقيل لمحيي الدين: من أين لك هذا؟ فقال: أخذتُه من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4]، وذكر له حسابا طويلًا، وطريقًا في استخراج ذلك حتى حرَّره من قوله:{بِضْعِ سِنِينَ} .

ولمَّا ملك السلطان حلب، فوض الحكمَ والقضاء بها إليه في ثالث عشر ربيع الآخر من السنة، ولما فتح القدس، تطاولَ إلى الخطابة يوم الجمعة كل واحد من العلماء الذين كانوا في خدمته حاضرين، وجهز كل واحد منهم خطبة بليغة؛ طمعًا أن يكون هو الذي تعين لذلك، فخرج المرسوم إلى القاضي محيى الدين أن يخطب هو.

(1) في الأصل: "رائية".

(2)

في الأصل: "رجب".

(3)

في الأصل: "صفر".

ص: 159

وحضر السلطان وأعيان دولته في أول جمعة صُليت بالقدس بعد الفتح، فلما رقي المنبر، استفتح بسورة الفاتحة، وقرأها إلى آخرها، ثم قال:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]، ثم خطب خطبة بليغة أتى فيها بمعان بديعة، ثم دعا للسلطان، وختم على العادة.

وكانت ولادته سنة خمسين وخمس مئة بدمشق، وتوفي بها في سابع شعبان، سنة ثمان وتسعين وخمس مئة، ودفن من يومه بسفح قاسيون.

* * *

354 -

أبو حامد محمد ابن القاضي كمال الدين، الشهرزوريُّ: دخل العراق للاشتغال، وتفقه على ابن الرزاز وغيره، ثم صعد الشام، وتولى قضاء دمشق نيابة عن والده، وتولى قضاء حلب، وحكم بها نيابة عن أبيه - أيضًا - في رمضان، سنة خمس وخمسين وخمس مئة، وعزله ابن أبي جرادة المعروف بابن العديم.

وبعد وفاة والده، تمكن من المملكة الصالح إسماعيل صاحبُ حلب غايةَ التمكُّن، وفوض إليه تدبير مملكة حلب.

ثم في سنة ثلاث وسبعين رأى المصلحة في مفارقة حلب، والرجوع إلى بلد الموصل، فانتقل إليها، وتولى قضاءها، وتمكن من صاحب الموصل عز الدين بن مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي، وتوجه

ص: 160

من جهته رسولًا إلى بغداد مرارًا.

وكان جوادًا سخيًا، وقيل: إنه أنعم عليه في بعض رسائله إلى بغداد بعشرة آلاف دينار، فأمر بها، ففرقت على الفقهاء والأدباء والشعراء.

ويقال: إنه في مدة حكمه بالموصل لم يعتقل غريمًا على دينارين فما دونهما، بل كان يوفيهما من عنده.

ويحكى عنه مكارم كثيرة، ورئاسة ضخمة، وله أشعار جيدة، فمن ذلك: في وصف جرادة، وهو تشبيه حسن:

لَهَا فَخِذَا بَكْرٍ وَسَاقَا نَعَامَةٍ

وَقادِمَتَا نَسْرٍ وَجُؤْجُؤُ ضَيْغَمِ

حَكَاهَا أَفَاعِي الرَّمْلِ بَطْنًا وَأَنْعَمَتْ

عَلَيْهَا جِيَادُ الخَيْلِ بِالرَّأْسِ وَالفَمِ

وقوله في وصف نزول الثلج من الغيم:

وَلَمَّا شَابَ رَأْسُ الدَّهْرِ غَيْظًا

لِمَا قَاسَاهُ مِنْ فَقْدِ الكِرَامِ

أقامَ يُمِيطُ عَنْهُ الشَّيْبَ غَيْظًا

وَيَقْسِمُ مَا أَمَاطَ عَلَى الأَنَامِ

ولد سنة عشر، وقيل: تسععشرة وخمس مئة، وتوفي بكرة نهار الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمس مئة

ص: 161

بالموصل، ثم نقل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وكان له أخ يقال له: عماد الدين أحمد توجَّه رسولًا إلى بغداد عن نور الدين سنة تسع وستين وخمس مئة، ومدحه ابن التعاويذي بقصيدة من جملتها:

وَقَالُوا رَسُولٌ أَعْجَزَتْنَا صِفَاتُهُ

فَقُلْتُ صَدَقْتُمْ هَذِهِ صِفَةُ الرُّسْلِ

* * *

355 -

أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي، التيميُّ البكريُّ، الطبرستانيُّ الأصل، الرازيُّ المولد، الملقب: فخر الدين، المعروف بابن الخطيب، الفقيهُ الشافعيُّ: فريد عصره، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات، وعلم التأويل، وله المصنفات المفيدة في فنون عديدة، منها:"تفسير القرآن الكريم" جمع فيه كل غريب وغريبة، وهو كبير جدًا، لكنه لم يُكمله، وشرح سورة الفاتحة في مجلدة، وكل كتبه ممتعة نافعة، وانتشرت تصانيفه في البلاد، ورزق فيها سعادة عظيمة، وكان يعظ باللسانين العربي والعجمي، وكان يلقب بهراة: شيخَ الإسلام.

ثم قصد خُوارزم، وقد تمةَر في العلوم، فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى المذهب والاعتقاد، فأُخرج من البلد، وقصد ما وراء النهر، ثم عاد إلى الري، ثم عاد إلى خراسان، واتصل بالسلطان محمد

ص: 162

ابن تكش المعروف بخوارزم شاه، وحظي عنده، ونال أسنى المراتب، ولم يبلغ أحد منزلته عنده.

ومناقبه كثيرة، وكان العلماء يقصدونه من البلاد، وتشد إليه الرحال من الأقطار، وكان له نظم، منه:

نِهَايَةُ إِقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ

وَأَكْثَرُ سَعْيِ العَالَمِينَ ضَلَالُ

وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا

وَحَاصِلُ دميلْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ

وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا

سِوَى أَنَّ جَمْعًا فِيهِ قِيلٌ وَقَالُ

وَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ رِجَالٍ وَدَوْلَةٍ

فَبَادُوا جَمِيعا مُسْرِعِينَ وَزَالُوا

وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتِهَا

رِجَالٌ فَزَالُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ

اشتغل في المذهب على والده، ووالده على أبي محمد الحسين ابن مسعود الفَرَّاء البغوي، وهو على القاضي الحسين، وهو على القفال، وهو على ابن سُريج، وهو على الأنماطي، وهو على المُزَني، وهو على الإمام الشافعي رضي الله عنه.

ص: 163

ولد في خامس عشري شهر رمضان، سنة أربع وأربعين وخمس مئة بالري، وتوفي يوم الاثنين، وكان عيد الفطر، سنة ست وست مئة بمدينة هراة، ودفن آخر النهار بقرية بالقرب من هراة يقال لها: مُزداخان.

* * *

356 -

أبو حامد محمد بن يونس بن منعة بن مالك بن محمد، الملقب: عماد الدين، الفقيهُ الشافعيُّ: كان إمام وقته في المذهب، وله صِيت عظيم في زمانه، وقصده الفقهاء من البلاد البعيدة، وكان مبدأ اشتغاله بالموصل، ثم توجه إلى بغداد، وتفقه، ثم عاد إلى الموصل، ودرَّس بها، وصنَّف كتبًا كثيرة في المذهب، وتولى القضاء بالموصل مدة يسيرة، ثم انفصل عنه بأبي الفضائل القاسم بن يحيى الشهرزوري.

وكان شديد الورع والتقشف، وكان لطيف الخلوة، ملاطفا بحكايات وأشعار، وكان كثير المباطنة لنور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل، ولم يزل معه حتى انتقل إلى مذهب الشافعي بعد مذهب أبي حنيفة. ولم يوجد في بيت أتابكٌ - مع كثرتهم - شافعيٌّ سواه.

ولد بقلعة إربل سنة خمس وثلاثين وخمس مئة، في بيت صغير منها، ولما وصل إلى إربل في رسالة، دخل ذلك البيت، [و] تمثل بالبيت المشهور:

بِلَادٌ بِهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمَائِمِي

وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابُهَا

ص: 164

وتوفي يوم الخميس، تاسع عشر جمادى الآخرة، سنة ثمان وست مئة بالموصل.

* * *

357 -

أبو بكر محمد بن داود بن علي بن خلف الأصفهاني المعروف بالظاهري: كان فقيهًا أديبًا شاعرًا ظريفًا، ولما توفي أبوه، جلس مكانه، فاستصغروه، فدسّوا عليه رجلًا سأله: متى يكون الإنسان سكرانًا؟ فقال: إذا غَرَبت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم، فاستُحسن ذلك منه، وعُرِف موضعه من العلم.

وصنف كتابه الذي سماه: "الزَّهرة" مجموع أدب أتى فيه بكل غريبة، ومن شعره:

أَنُزِّهُ فِي رَوْضِ المَحَاسِنِ مُقْلَتِي

وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمًا

وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقْلِ الهَوَى مَا لَوَ أَنَّهُ

يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الأَصَمِّ تَهَدَّمَا

وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجَمِ خَاطِرِي

فَلَوْلَا اخْتِلَاسِي رَدَّهُ لَتَكَلَّمَا

أَرَأَيْتُ الهَوَى دَعْوَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ

فَمَا إِنْ أَرَى حُبًّا صَحِيحًا مُسْلَّمَا

ص: 165

وجاءه رجل، ودفع له رقعة فيها:

يا بْنَ دَاوُدَ يَا فَقِيهَ العِرَاقِ

أَفْتِنَا فِي قَوَاتِلِ الأَحْدَاقِ

هَلْ عَلَيْهِنَّ فِي الجُرُوحِ قِصَاصٌ

أَمْ مُبَاحٌ لَهَا دَمُ العُشَّاقِ

وإذا الجواب:

كَيْفَ يُفْتِيكُمُ قَتِيلٌ صَريعٌ

بِسِهَامِ الفِرَاقِ وَالاشْتِيَاقِ

وَقَتِيلُ التَّلَاقِ أَحْسَنُ حَالًا

عِنْدَ دَاوُدَ مِنْ قَتِيلِ الفِرَاقِ

وكان عالمًا بالفقه، وله تصانيف عديدة، توفي يوم الاثنين، سابع رمضان، سنة سبع وتسعين ومئتين.

وفي يوم وفاته توفي يوسف بن يعقوب القاضي - رحمه الله تعالى -.

* * *

358 -

أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان، القرشيُّ الفهريُّ الأندلسيُّ الطرطوشيُّ، الفقيه المالكي، الزاهد المعروف

ص: 166

بابن أبي رُندَقَة: دخل بغداد بعد حجه، والبصرة، ورحل واشتغل، وسكن الشام، ودرَّس بها، وكان إمامًا عالمًا، زاهدًا ورعًا، دينًا متواضعًا، متقشفًا متقللًا من الدنيا، راضيا منها باليسير، وكان يقول: إذا عرض لك أمران؛ أمر دنيا، وأمر آخره، فبادر بأمر الآخرة، يحصل لك أمر الدنيا والآخرة، وكان كثيرًا ما ينشد:

إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا فُطَنَا

طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الفِتَنَا

فَكَّرُوا فِيَها فَلَمَّا عَلِمُوا

أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ وَطَنَا

جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا

صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا

ومن شعره:

إِذَا كُنْتَ فِي حَاجَةٍ مُرْسِلًا

وَأَنْتَ بِإنْجَازِهَا مُغْرَمُ

فَدَعْ عَنْكَ كُلَّ رَسُولٍ سِوَى

رَسُولٍ يُقَالُ لَهُ الدِّرْهَمُ

وقد أتى أحمد بن فارس اللغوي بمعنى ذلك بشعره:

ص: 167

إذَا كُنْتَ فِي حَاجَةٍ مُرْسِلًا

وَأَنْتَ بِهَا كَلِفٌ مُغْرَمُ

فَأَرْسِل حَكِيمًا وَلَا تُوصِه

وَذَاكَ الحَكِيمُ هُوَ الدِّرْهَمُ

ولد سنة إحدى وخمسين وأربع مئة - تقريبًا -، وتوفي ليلة السبت، لأربعٍ بقين من جمادى الأولى، سنة عشرين وخمس مئة بثغر الإسكندرية، ودفن بمقبرة وعلة قريبًا من البرج الجديد قبلي الباب الأخضر.

والطرطوشي: نسبة إلى طرطوشة، وهي مدينة بالأندلس في آخر بلاد المسلمين في شرق الأندلس على ساحل البحر، ورُندَقَة: لفظة إفرنجية معناها: ردّ بقال (1).

* * *

359 -

أبو الهُذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبديُّ، المعروفُ بالعلَّاف: كان شيخ البصريين في الاعتزال، وهو من أكبر علمائهم، وصاحبُ مقالاب في مذهبهم، ومناظرات ومجالسَ، وهو مولى عبد القيس، ووصف العشقَ بقوله: العشق يختم على النواظر، ويطبع على الأفئدة، مرتعُه (2) في

(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 265)، وفيه: دارندقة معناها: رد تعال".

(2)

في الأصل: "موقعه".

ص: 168

الأجسام، ومشرعهُ (1) في الأكباد، وصاحبه متصرف الظنون، متفنن (2) الأوهام، لا يصفو له مرجو، ولا يسلم له موعود، تُسرع إليه النوائب، وهو جرعة من نقيع الموت، وبقعة من حياض الثَّكلى، غير أنه من أريحية تكون في الطبع، وحلاوة تكون في الشمائل، وصاحبه جواد لا يُصغي إلى داعية المنع، ولا يُصيخ لنازع العذل.

ويحكى: أن أعرابية وصفت العشق، فقالت في صفته: خَفِيٌّ عن أن يُرى، وجَلَّ عن أن يختفي، فهو كامن كمونَ النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى، وإن لم يكن شعبة من الجنون، فهو عُصارة من السحر.

وكانت وفاته سنة خمس وثلاثين ومئتين بسُرَّ مَنْ رأى عن مئة سنة.

وكان قد كُفَّ بصرُه، وخَرِفَ في آخر عمره.

* * *

360 -

أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حُمران بن أَبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، المعروف بالجُبَّائي، أحدُ أئمة المعتزلة: وكان إمامًا في علم الكلام، وله في مذهب الاعتزال مقالات مشهورة، وعنه أخذ أبو الحسن الأشعري علمَ الكلام، ولما فارق الأشعريُّ مجلس أستاذه الجُبَّائي، وترك مذهبه، وكثر اعتراضه

(1) في الأصل: "وصرعه".

(2)

في الأصل: "متنفس".

ص: 169

على أقاويله، عظُمت الوحشة بينهما.

ولد سنة خمس وثلاثين ومئتين، وتوفي في شعبان سنة ثلاث وثلاث مئة.

* * *

361 -

أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك، السُّلميُّ، الضريرُ الترمذيُّ: الحافظ المشهور، أحد الأئمة الذين يُقتدى بهم في علم الحديث، صنف "الجامع"، و"العلل" تصنيفَ رجل متقن، وبه كان يضرب المثل، وهو تلميذ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، وتوفي لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، سنة تسع وسبعين ومئتين.

* * *

362 -

أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة، الرَّبَعيُّ بالولاء، القزوينيُّ: الحافظ المشهور، مصنف كتاب "السنن" في الحديث، كان إما ما فيه، عارفا بعلومه، ارتحل إلى العراق، والبصرة، والكوفة، وبغداد، ومكة، والشام، ومصر، والري، وله تاريخ مليح، وكتابه "الحديث" أحد الصحاح الستة.

ولد سنة سبع ومئتين، وتوفي يوم الاثنين، لتسع بقين من رمضان، سنة ثلاث وسبعين ومئتين.

والرَّبَعي: منسوب إلى ربيعة.

ص: 170

والقزويني إلى قزوين، أشهرِ مدن عراق المعجم، خرج منها جماعة من العلماء.

* * *

363 -

أبو الحسن محمد بن أحمد [بن أيوب] بن الصَّلت بن شنبوذ، المقرئُ البغداديُّ: كان من مشاهير القُراء، تفرد بقراءة من الشواذ، وكان يقرأ بها في المحراب، فأنكر عليه، وبلغ ذلك الوزير أبا علي محمد بن مُقلة، فاستحضره أول شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة، واعتقل، ثم استحضره بحضرة القاضي أبي الحسين عمر بن محمد، وأبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المقرئ، وجماعة من أهل القرآن، فأغلظ في الخطاب للوزير، والقاضي، وأبي بكر بن مجاهد، ونسبهم إلى قلة المعرفة، واستصبى القاضي، فأمر الوزيرُ بضربه، فضُرب، فدعا وهو يُضرب على الوزير ابن مقلة بأن الله يقطع يده، ويشتِّت شملَه، فكان الأمر كذلك - كما سيأتي في خبر ابن مقلة -، ثم استتابوه، فتاب، وقال: إنه رجع عما كان يقرؤه، وإنه لا يقرأ إلا بمصحف عثمان رضي الله عنه، وبالقراءة المتعارفة، فكتب عليه الوزير محضرًا بما قاله، وأمره أن يكتب خطه في آخره، فكتب ما يدل على توبته، وذلك لسبع خلون من شهر ربيع الآخر، سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة، يوم الأحد، وتوفي يوم الاثنين، لثلاث خلون من صفر، سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة ببغداد.

* * *

ص: 171

364 -

أبو العباس محمد بن صبيح مولى بني عِجْل، المعروف بابن السَّمَّاك، القاصُّ الكوفيُّ الزاهدُ المشهور: كان عابدًا زاهدًا، حسن الكلام، صاحب مواعظ، لقي جماعة من الصدر الأول، وأخذ عنهم، وروى عنه أحمد بن حنبل وأنظاره، وقدم بغداد زمن هارون الرشيد، ثم رجع إلى الكوفة، ومات بها، ومن كلامه: خَفِ اللهَ كَأَنَّكَ لَمْ تُطِعْهُ، وَارْجُ اللهَ كَأَنَّكَ لَمْ تَعْصِهِ.

وكان هارون الرشيد قد حلف أنه من أهل الجنة، فاستفتى العلماء، فلم يفته أحد أنه من أهل الجنة، فأحضر ابنَ السماك، وسأله، فقال له: هل قدر أمير المؤمنين على معصية فتركها خوفًا من الله تعالى؟ فقال: نعم، كان لبعض الناس جارية، فهويتها وأنا إذ ذاك شابّ، ثم إني ظفرت بها مرّة، وعزمت على ارتكاب الفاحشة بها، ثم إني فكرت في النار وهولها، وأن الزنا من الكبائر، فأشفقت من ذلك، وكففت عن الجارية مخافةً من الله، فقال له ابن السماك: أبشر يا أمير المؤمنين؛ فإنك من أهل الجنة، فقال هارون الرشيد: من أين لك هذا؟ قال: من قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41]، فَسُرَّ هارونُ بذلك.

ومن كلامه: من جَرَّعته الدنيا حلاوتَها بميله إليها، جرعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها.

وأخباره ومواعظه كثيرة.

توفي سنة ثلاث وثمانين ومئة بالكوفة، وقيل: ببغداد.

ص: 172

وابن السماك: نسبة إلى بيع السمك وصيده.

* * *

365 -

أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم، القرشيُّ الهاشميُّ: العبد الصالح الزاهد، صاحب الكرامات الخارقة، والأحوال الظاهرة، وعَدَّ جماعتُه الذين صحبوه مواعيد من الولايات والمناصب العلية، وصَحَّت كلها.

وكان من السادات الأكابر، والطراز الأول، وهو مغربي، ولما وصل إلى مصر، انتفع به من صحبه أو شاهده، ثم سافر إلى الشام قاصدًا زيارة بيت المقدس، فأقام به إلى أن مات في السادس من ذي الحجة، سنة تسع وتسعين وخمس مئة، ودفن بظاهر القدس الشريف من جهة الغرب، بالتربة التي تسمى: ماملا، وأصل تسميتها: الملة، وقيل: ما مِن الله، وقيل: باب الله، ودفن إلى جانبه الشيخُ شهاب الدين أحمد بن أرسلان - المتقدم ذكره في حرف الهمزة -، ودفن حوله جماعة من أعيان بيت المقدس وعلمائها وصلحائها؛ كالشيخ شمس الدين الديري العالم الكبير، وغيره.

وأصله من الجزيرة الخضراء في بر الأندلس، وهي مدينة في قبالة سبتة من بر العدوة، ومات - رحمه الله تعالى - عن خمس وخمسين سنة.

ونقل عنه: أن الإنسان إذا خاف التخمة من كثرة الأكل وقال عقيب رفع المائدة وفراغه من الأكل: قال أبو عبد الله القرشي: اليوم يوم عيد، لم يضره ذلك.

ص: 173

والدعاء عند قبره مستجاب، وقد جُرِّب ذلك - رحمه الله تعالى، ورضي عنه -.

* * *

366 -

أبو بكر محمد بن أبي محمد القاسم بن محمد بن بشار (1) ابن الحسن بن سماعة بن فروة، الأنباريُّ النحويُّ، صاحب التصانيف المشهورة في النحو والأدب: كان علامة وقته في الأدب، وكان ثقة دَيِّنًا خَيِّرًا، من أهل السنة، وصنَّف كتبًا كثيرة في علوم القرآن، وغريب الحديث، والوقف والابتداء.

وكان أبوه عالمًا بالأدب، سكن بغداد، وروى عنه جماعة.

ولد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب، سنة إحدى وسبعين ومئتين، وتوفي ليلة عيد النحر، سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة.

ومن جملة أماليه لبعض العرب:

وَبِالعَرْصَةِ البَيْضَاءِ إِنْ زُرْتَ أَهْلَهَا

مَهًا (2) مُهْمَلَاتٌ مَا عَلَيْهِنَّ سَائِسُ

خَرَجْنَ لِحُبِّ اللَّهْوِ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ

عَفَائِفَ بَاغِي اللَّهو مِنْهُنَّ آيِسُ

* * *

(1) في الأصل: "سيَّار".

(2)

في الأصل: "معًا".

ص: 174

367 -

أبو عبد الله محمد بن القاسم بن خلاد، الهاشميُّ بالولاء، الضرير، مولى أبي جعفر المنصور، المعروف بابي العيناء، صاحب النوادر والشعر والأدب: أصله من اليمامة، ومولده بالأهواز، ومنشؤه بالبصرة، وبها طلب الحديث، وكتب الأدب.

وكان من أحفظ الناس، وأفصحهم لسانًا، وكان من ظرفاء العالم، وله أخبار حسان، وأشعار مِلاح.

ووقف عليه رجل من العامة، فلما أحسَّ به، قال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم، فقال أبو العيناء: مرحبًا بك، أطال الله بقاءك، ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع.

وصار يومًا إلى دار صاعد بن مخلد، فاستأذن عليه، وكان قَبْلَ الوزارة نصرانيًا، فقيل: هو مشغول بالصلاة، فقال أبو العيناء: لكلِّ جديد لذة.

ومرَّ بباب عبد الله بن منصور، وهو مريض، وقد انصلح، فقال لغلامه: كيف خُبْرُه، قال: كما تحب، فقال: ما لي لا أسمع الصراخَ عليه؟

وذكر له أن المتوكل قال: لولا أنه ضرير، لنادمناه، فقال: إن أعفاني من رؤية الأهلَّة، وقراءة نقوش الفصوص، أصلُحْ للمنادمة.

ودخل على المتوكل في قصره المعروف بالجعفريّ، سنة ست وأربعين ومئتين، فقال له: ما تقول في دارنا هذه؟ فقال: إن الناس بنوا

ص: 175

الدور في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن كلامه.

وأحواله ونوادره كثيرة.

ولد سنة إحدى وتسعين ومئة بالأهواز، ونشأ بالبصرة، وكُفَّ بصره وقد بلغ من العمر أربعين سنة، وسكن بغداد، وعاد إلى البصرة.

وكان جده أكبر لقي عليَّ بن أبي طالب، فأعياه المخاطبة معه، فدعا عليه بالعَمَى له ولولده، فكل من عمي من ولد أبي العيناء، فهو صحيح النسب فيهم.

وخرج من البصرة وهو بصير، وقدم سُرَّ مَن رأى، فاعتلَّت عيناه، وعمي، وعاد إلى البصرة، وتوفي بها في جمادى الآخرة، سنة ثلاث وثمانين ومئتين.

ولقب بأبي العيناء؛ لأنه سأل أبا يزيد الأنصاريَّ عن تصغير عَيْناء، فقال: عُيَيْناء يا أبا العيناء، فبقي عليه.

* * *

368 -

أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد، الواقديُّ المدنيُّ، مولى بني هاشم: كان إمامًا عالمًا، له التصانيف في المغازي وغيرها، سمع من مالك بن أنس، وغيره، وتولى القضاء بشرقي بغداد، وكان المأمون يكرم جانبه، ويبالغ في رعايته.

ولد في أول سنة ثلاثين ومئة، وتوفي عشية يوم الاثنين، حادي عشر ذي الحجة، سنة سبع ومئتين، وهو يومئذ قاضٍ ببغداد في الجانب

ص: 176

الغربي، وقيل: بالجانب الشرقي، ودفن بمقبرة الخيزران.

* * *

369 -

أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى بن سعيد بن عبيد الله الكاتب، المَرْزُبانيُّ، الخراسانيُّ الأصل، البغداديُّ المولد، صاحبُ التصانيف المشهورة، والمجاميع الغريبة: كان ثقة في الحديث، ومائلًا إلى التشيع في المذهب، وهو أول من جمع ديوان شعر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي، واعتنى به، ومنه الأبيات العينية، والتي منها:

إِذَا رُمْتَ مِنْ لَيْلَى عَلَى البُعْدِ نَظْرَةً

لِتُطْفِي جَوًى بَيْنَ الحَشَا وَالأَضَالِعِ

تَقُولُ نِسَاءُ الحَيِّ تَطْمَعُ أَنْ تَرَى

مَحَاسِنَ لَيْلَى مُتْ بِدَاءِ المَطَامعِ

وَكَيْفَ تَرَى لَيْلَى بِعَيْنٍ تَرَى بِهَا

سِوَاهَا وَمَا طَةَرْتَهَا بِالمَدَامعِ

وَتَلْتَذُّ مِنْهَا بِالحَدِيثِ وَقَدْ جَرَى

حَدِيثُ سِوَاهَا فِي حُرُوفِ المَسَامعِ

أُجِلُّكِ يَا لَيْلَى عَنِ العَيْنِ إِنَّمَا

أَرَاكِ بِقَلْبٍ خَاشعٍ لَكِ خَاضِعِ

ص: 177

ولد سنة سبع وتسعين ومئتين، وتوفي ثاني شوال، سنة أربع وثمانين وثلاث مئة ببغداد، ودفن بداره بشارع عمرو الرومي.

* * *

370 -

أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس بن محمد ابن صُول تكين الكاتب، المعروف بالصّولي الشطرنجيّ: أحد الأدباء الفضلاء المشاهير، روى عن أبي داود السجستاني، وغيره، وروى عنه: الدارقطني، وغيره، وله التصانيف المشهورة، وكان ينادم الخلفاء، وله رواية واسعة، ومحفوظات كثيرة.

وكان حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، أوحدَ وقته في لعب الشطرنج، والناس يضربون به المثل، فيقولون لمن يبالغ في لعبه: العبُ من الصولي واضعِ الشطرنج، وهو غلط، فإن الذي وضعه صِصَّه بن داهر الهندي بن قاسم، والملكُ الذي وضعه له شهرام، وكان أزدشير بن بابك أول ملوك الفرس الأخيرة، وقد وضع النرد، ولذلك قيل له: نردشير، نسبوه إلى واضعه المذكور، فافتخرت الفرس بوضع النرد، فلما وضع صِصَّه الشطرنج، فقضت حكماء ذلك العصر بترجيحه على النرد.

وتوفي الصُّولي المذكور سنة خمس، وقيل: سنة ست وثلاثين وثلاث مئة مستترًا بالبصرة؛ لأنه روى خبرًا في حق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فطلبه الخاصة والعامة ليقتلوه، وكان قد خرج من بغداد لضائقة لحقته.

* * *

ص: 178

371 -

أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن علي بن عبد الله المعروف بابن تيمية، الحرانيُّ، الملقب: فخر الدين، الخطيبُ الواعظُ الفقيهُ الحنبليُّ: كان فاضلًا، تفرد في بلده بالعلم، وكان المشارَ إليه في الدين، وقدم بغداد وتفقه بها، وصنف في مذهب الإمام أحمد مختصرًا أحسن فيه، وله ديوان خُطب مشهور، وله تفسير القرآن الكريم، ونظم حسن، ولم يزل أمره جاريا على السَّداد والصلاح ولد بمدينة حران في الثامن والعشرين من شعبان سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة، ومن شعره:

أَحْبَابَنَا قَدْ نَذَرَتْ مُقْلَتِي

لَا تَلْتَقِي بِالنَّوْمِ أَوْ نلتَقِي

رِفْقًا بِقَلْب مُغْرَمٍ وَاعْطِفُوا

عَلَى سَقَامِ الجَسَدِ المفرَّقِ

كَمْ تَمْطُلُونِي بِلَيَالِي اللِّقَا

قَدْ ذَهَبَ العُمْرُ وَلَمْ نَلْتَقِ

وكان أبوه أحدَ الأبدال الزهاد، وسئل عن تيمية: ما معناه؟ قال: حج أبي أو جدي، وكانت امرأته حاملًا، فلما كان بتيماء، رأى جويرية قد خرجت من خِباء، فلما رجع إلى حران، وجد امرأته قد وضعت جارية، فلما رفعوها إليه، قال: يا تيمية! يعني: أنها تشبه التي رآها بتيماء، فسمي به، أو كلامًا هذا معناه.

ص: 179

وتيماء: بُليدة في بادية تبوك، إذا خرج الإنسان من خيبر إليها، تكون على نصف طريق الشام، وتيمية منسوبة إلى هذه البليدة، وكان ينبغي أن يكون: تيماوية؛ لأن النسبة إلى تيماء: تيماوي، ولكنه هكذا قال.

وتوفي بحران في حادي عشر صفر، سنة إحدى وعشرين وست مئة، وقيل: يوم الخميس بعد العصر، عاشر صفر، سنة ثلاث وعشرين وست مئة رحمه الله، وعفا عنه -.

* * *

372 -

أبو سعيد محمد بن أبي السعادات عبد الرحمن بن محمد ابن مسعود المرزرودي الملقب: تاج الدين، الخراسانيُّ البندهيُّ الفقيهُ الشافعيُّ الصوفيُّ: كان أديبًا فاضلًا، اعتنى بالمقامات الحريرية، فشرحها، وأطال شرحها، وكان مقيمًا بدمشق في الخانقاه السمساطية، والناس يأخذون عنه.

ولد وقت المغرب من ليلة الثلاثاء، غرة شهر ربيع الآخر، سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة، وكان كثيرًا ما ينشد:

قَالَتْ عَهِدْتُكَ تَبْكِي

وَمَا حِذَارَ التَّنَائِي

فَلِمْ تَعَوَّضْتَ عَنْهَا

بَعْدَ الدِّمَاءِ بِمَاءِ

ص: 180

فَقُلْتُ مَا ذَاكَ مِنّي

لِسَلْوَةٍ وَعَزَائِي

لَكِنْ دُمُوعِيَ شَابَتْ

مِنْ طُولِ عُمْرِ بُكَائِي

توفي ليلة السبت، التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وثمانين وخمس مئة بدمشق، ودفن بسفح قاسيون، والمسعودي: نسبة إلى جده مسعود.

والبندهي: نسبة إلى بنج ديه من أعمال مروروذ، ومعناه بالعربي: خمس قرى، خرج منها خلق كثير من العلماء.

* * *

373 -

أبو عبد الله محمد بن أبي المعالي سعيد بن أبي طالب يحيى بن علي بن الحجاج المعروف بابن الدبيثي، الفقيهُ الشافعيُّ المؤرخُ الواسطيُّ: سمع الحديث، وكانت له محفوظات حسنة، وكان في الحديث وأسماء رجاله والتاريخ من الحفاظ المشهورين، وصنف كتابا جعله ذيلًا على تاريخ سعد بن عبد الكريم السمعاني المذيل على "تاريخ بغداد" للخطيب، وهو ثلاث مجلدات، وصنف غيره، ولم يزل على اجتهاده وجمعه وتعليقه إلى أن توفي في يوم الاثنين، لثمانٍ خلون من شهر ربيع الآخر، سنة سبع وثلاثين وست مئة ببغداد، ودفن بالوردية.

* * *

ص: 181

374 -

أبو عبد الله محمد بن [أبي] محمد بن محمد بن ظفر الصقلي، المنعوت بحجة الدين: أحد الأدباء والفضلاء، صاحب التصانيف الممتعة، منها:"سلوان المطاع في عدوان الاتباع"، وغيره من التصانيف الظريفة.

وكان قصير القامة، دميم الخلقة، غير صبيح الوجه، وله شعر منه:

حَمَلْتُكَ فِي قَلْبِي فَهَلْ أَنْتَ عَالِمٌ

بِأَنَّكَ مَحْمُولٌ وَأَنْتَ مُقِيمُ

أَلَا إنَّ شَخْصًا فِي فُؤَادِي مَحَلُّهُ

وَأَشْتَاقُهُ شَخْصٌ عَلَيَّ كَرِيمُ

وكانت نشأته بمكة، ومولده بصقلية، وتنقَّل في البلاد، وسكن آخر الوقت حماة، وتوفي بها سنة خمس وستين وخمس مئة، ولم يزل يكابد الفقر إلى أن مات.

وقيل: إنه زوَّج ابنته بحماة بغير كفؤ من الحاجة والضرورة، وأن الزوج رحل بها من حماة وباعها في بعض البلدان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

* * *

375 -

أبو عبد الرحمن محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية، القرشيُّ الأمويُّ المعروفُ بالعتبي، الشاعرُ المصريُّ المشهور: كان

ص: 182

أديبًا فاضلًا، شاعرًا مجيدًا، روى عن سفيان بن عُيينة، وغيره، وقدم بغداد، وحدَّث بها، وأخذ عنه أهلها.

وله تصانيف كثيرة، ومن شعره:

لَمَّا رَأَتْنِي سُلَيْمَى قَاصِرًا بَصَرِي

عَنْها وَفِي الطَّرْف عَنْ أَمْثَالِهَا زَرَرُ

قَالَتْ عَهِدْتُكَ مَجْنُونًا فَقُلْتُ لَهَا:

إِنَّ الشَّبَابَ جُنُونٌ بُرْؤُهُ الكِبَرُ

وهذا البيت من الأمثال السائرة.

وروي عنه: أنه كان يقول: الزرافة - بفتح الزاي وضمها - الحيوان المعروف، وهي مولَّدة من ثلاث حيوانات: الناقة الوحشية، والبقرة الوحشية، والضبعان وهو المذكور من الضباع، فيقع الضبعان على الناقة، فيأتي بولد من الناقة والضبع، فإن كان الولد ذكرًا، وقع على البقرة، فتأتي بالزرافة، وذلك في بلاد الحبشة، ولذلك قيل لها: الزُّرافة، والزرافة في الأَصل: الجماعة، فلما ولدت من جماعة، قيل لها: الزرافة.

والعجم يسمونها: أشتركاوبكتك؛ لأن الأشتر: الجمل، والكاو: البقرة، والبكتك: الضبع.

* * *

376 -

أبو بكر محمد بن العباس، الخوارزميُّ الشاعرُ المشهور:

ص: 183

وهو ابن أخت [محمد بن] جرير، و [محمد بن] جرير الطبري صاحب "التاريخ"، وكان إمامًا في اللغة والأنساب، وأقام بالشام مدة، وسكن نواحي حلب، وكان يشار إليه في عصره.

ومن شعره:

يَا مَنْ يُحَاوِلُ صِرْفَ الرَّاحِ يَشْرَبُهَا

وَلَا يَفُكّ لِمَا يَلْقَاهُ قِرْطَاسَا

الكَاسُ وَالكِيسُ لَا يُرْجَى اجْتِمَاعُهَا

فَفَرِّغِ الكِيسَ حَتَّى تَمْلأَ الكَأَسَا

ونوادره كثيرة.

ولما رجع من الشام، سكن نيسابور، ومات بها في نصف رمضان، سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة.

* * *

377 -

أبو الحسن محمد بن عبيد (1) الله بن محمد بن محمد بن يحيى، المخزوميُّ الشاعرُ المشهورُ، السُّلاميُّ: وهو من ولد المغيرة المخزومي أخي خالد بن الوليد، وهو من أشعر أهل العراق قولًا بالإطلاق، وشهادة بالاستحقاق، قال الشعر وهو ابن عشرين سنة، ونشأ

(1) في "وفيات الأعيان": "عبد"(4/ 403).

ص: 184

ببغداد، وخرج منها إلى الموصل، وارتفع مقامه عند الأكابر، وأول شيء قال وهو في المكتب:

بَدَائِعُ الحُسْنِ فِيهِ مُفْتَرِقَة

وَأَعْيُنُ النَّاسِ غَيْرُ مُتَّفِقَه

سِهَامُ أَلْحَاظِهِ مُفَوَّقَة

فَكُلُّ مَنْ رَامَ لَحْظَهُ رَشَقَهْ

قَدْ كَتَبَ الحُسْنُ فَوْقَ وَجْنَتِهِ

هَذَا مَلِيحٌ وَحَقِّ مَنْ خَلَقَهْ

ومن شعره أيضًا:

لَمَّا أُصِيبَ الخَدُّ مِنْكَ بِعَارِضٍ

أَضْحَى بسِلْسِلَةِ العِذَارِ مُقَيَّدَا

ومن هاهنا أخذ التلَّعفريُّ:

هَبْ أَنَّ خَدَّكَ قَدْ أُصِيْبَ بِعَارِضٍ

فَعَلَامَ صُدْغُكَ رَاحَ وَهْوَ مُسَلْسَلُ

وتوفي يوم الخميس، رابع جمادى الأولى، سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة.

والسلامي: نسبة إلى دار السلام.

ص: 185

ومات عن سبعة وخمسين سنة.

* * *

378 -

أبو الحسن محمد بن عبد الله بن محمد المعروف بابن سكرة الهاشميُّ البغداديُّ الشاعرُ المشهور: وهو من ولد علي بن مهدي ابن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، يقال: إن ديوان ابن سكرة يربو على خمسين ألف بيت.

فمن بديع تشبيهه: ما قاله في غلام رآه وفي يده غصن، وعليه زهر:

غُصْنُ بَانٍ بَدَا وَفِي اليَدِ مِنْهُ

غُصُنٌ فِيهِ لُؤْلُؤٌ مَنْظُومُ

فَتَحَيَّرْتُ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فِي ذَا

قَمَرٌ طَالِعٌ وَفِي ذَا نُجُومُ

وله في غلام أعرج:

قَالُوا بُلِيتَ بِأَعْرَجٍ فَأَجَبْتُهُمْ

العَيْبُ يَحْدُثُ فِي غُصُونِ البَانِ

إِنِّي أُحِبُّ حَدِيثَهُ وَأُرِيدُهُ

لِلنَّوْمِ لَا لِلْجَرْيِ فِي المَيْدَانِ

وله في الشباب:

ص: 186

لَقَدْ بَادَ الشَّبَابُ وَكَانَ غُصْنًا

إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ مَاتَ كَلُّكْ

وَكَانَ البَعْضَ مِنْكَ فَمَاتَ فَاعْلَمْ

إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ مَاتَ كَلُّكْ

وله شعر كثير.

توفي يوم الأربعاء، حادي عشر ربيع الآخر، سنة خمس وثمانين ومئتين.

* * *

379 -

الشريف الرضِيُّ أبو الحسن محمد بن الطاهر ذي المناقب الحسين بن موسى بن محمد الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروفُ بالموسويِّ، صاحبُ ديوان الشعر: وكان أبوه قديمًا يتولى نقابة الطالِبِيِّين، والنظر في المظالم، والحج بالناس، ثم رُدَّت هذه إلى ولده المذكور في سنة ثمان وثمانين وثلاث مئة، وأبوه حي.

ومن غرر شعره: ما كتبه إلى الإمام القادر بالله أبي العباس [أحمد ابن، المقتدر من جملة قصيدة:

عَطْفًا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ فَإِنَّنَا

فِي دَوْحَةِ العَلْيَاءِ لَا نَتَفَرَّقُ

ص: 187

مَا بَيْنَنَا يَوْمَ الفَخَارِ تَفَاوُتٌ

أَبَدًا كِلَانا فِي المَعَالِي مُعْرِقُ

إِلَّا الخِلَافَةَ مَيَّزَتْكَ فَإِنَّنِي

أَنَا عَاطِلٌ مِنْها وَأَنْتَ مُطَوَّقُ

ولد سنة تسع وخمسين وثلاث مئة ببغداد، وتوفي بكرة يوم الخميس، سادس المحرم، سنة ست وأربع مئة ببغداد.

* * *

380 -

ذو الوزارتين أبو بكر محمد بن عمار، الأندلسيُّ الشاعرُ المشهور: وهو وابن زيدون القرطبي - المتقدم ذكره في الهمزة - فَرَسا رهان، ورضيعًا لَبان، في التصرف في فنون البيان، كانا شاعري ذلك الزمان، وكانت ملوك الأندلس تخاف ابن عمار؛ لبذاءة لسانه، وبراعة إحسانه.

ومن مشاهير قصائده: قوله:

أَدِرِ الزُّجَاجَةَ وَالنَّسِيمُ قَدِ انْبَرَى

وَالنَّجْمُ قَدْ صَرَفَ العِنَانَ عَنِ السُّرَى

وَالصُّبْحُ قَدْ أَهْدَى لَنَا كَافُورَهُ

لَمَّا اسْتَرَدَّ اللَّيْلُ مِنَّا العَنْبَرَا

وكان المعتمد على الله بن عباد صاحبُ غرب الأندلس استوزره،

ص: 188

ثم سيَّره نائبًا على مدينة تدمير، فعصى بها، فلم يزل يحتال عليه حتى وقع في قبضته، وقتله بيده ليلًا في قصره بمدينة إشبيلية.

وكانت ولادته سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة.

ومن أسباب قتله - أيضًا -: أنه هجاه بشعر ذكر فيه أم بنيه المعروفة بالرُّميكية، وكانت سُريَّة المعتمد، اشتراها من رُميك بن حجاج، فنُسبت إليه، وكان قد اشتراها في أيام أبيه المعتضد، وأفرط في الميل إليها، وتغلبت عليه، واسمها: اعتماد، واختار لنفسه لقبًا يناسب اسمها، وهو المعتمد، وتوفيت بأغمات قبل المعتمد، فلم تَرُقْ له عليها عَبرة، ولا فارقته الحسرة حتى قضى نحبه، وهي التي أغرت المعتمد على قتل ابن عمار؛ لكونه هجاها.

* * *

381 -

أبو بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد ابن مروان، الأندلسيُّ الإشبيليُّ: هو من أهل بيت كلهم علماء ورؤساء، وحكماء ووزراء، ونالوا المراتب العلية، وكان ذا مال وافر، وشعر جيد، وكان يعرف بابن زهر.

ومن المنسوب إليه في كتاب جالينوس المسمى "حيلة البرء * - وهو من أجل كتبهم وأكبرها - قوله:

حِيلَةُ البُرْءِ صُنِّفَتْ لِعَلِيل

يَتَرَجَّى الحَيَاةَ أَوْ تَعْلِيلَهْ

ص: 189

فَإِذَا جَاءَتِ المَنِيَّةُ قَالَت

حِيلَةُ البَرْء لَيْسَ فِي المَوْتِ حِيلَهْ

ومن شعره:

إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى المِرْآةِ إِذْ جُلِيَتْ

فَأَنْكَرَتْ مُقْلَتَالِي كُلَّ مَا رَأَتَا

رَأَيْتُ فِيهَا شُوَيْخًا لَسْتُ أَعْرِفُهُ

وَكُنْتُ أَعْهَدُهُ مِنْ قَبْلِ ذَاكَ فَتَى

فَقُلْتُ: أَيْنَ الَّذِي بِالأَمْسِ كَانَ هُنَا

مَتَى تَرَحَّلَ عَنْ هَذَا المَكَانِ مَتَى

فَاسْتَضْحَكَتْ ثُمَّ قَالَتْ وَهْيَ مُعْجَبَةٌ

إِنَّ الَّذِي رَأَتَاهُ مُقْلَتَاكَ أَتَى

كَانَتْ سُلَيْمَى تُنَادِي يَا أُخَيَّ وَقَدْ

صَارَتْ سُلَيْمَى تُنَادِي اليَوْمَ يَا أَبَتَا

ولد سنة سبع (1) وخمس مئة، وتوفي في آخر سنة خمس وتسعين (2) وخمس مئة.

* * *

(1) في الأصل: "تسع"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(4/ 434).

(2)

في الأصل: "وسبعين"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(4/ 434).

ص: 190

382 -

أبو الفتيان محمد بن سلطان بن محمد بن حَيُّوس، اللغويُّ، الملقب: مصطفى الدولة، الشاعرُ المشهور: كان يدعى بالأمير؛ لأن أباه كان من أمراء العرب، له ديوان شعر كبير، لقي جماعة من الملوك والأكابر، ومدحهم، وأخذ جوائزهم، ومن غُرر قصائده: قوله:

هُوَ ذَاكَ رَبْعُ المَالِكِيَّةِ فَارْبَعِ

وَاسْأَلْ مَصِيفًا عَافِيًا عَنْ مَرْبعِ

وَاسْتَسْقِ لِلدِّمَنِ الخَوَالِي بِالحِمَى

غُرَّ السَّحَائِبِ وَاعْتَذِرْ عَنْ أَدْمُعِي

لَوْ تُخْبِرُ الرُّكْبَانُ عَنِّي حَدَّثُوا

عَنْ مُقْلَةٍ عَبْرَى وَقَلْبٍ مُوجَعِ

رُدِّي لَنَا زَمَن الكَثِيبِ فَإِنَّه

زَمَنٌ مَتَى يَرْجِعْ وِصَالُكِ يَرْجِعِ

لَوْ كُنْتِ عَالِمَةً بِأَدْنىَ لَوْعَتِي

لَرَدَدْتِ أَقْصَى نيلِكِ المُسْتَرْجَعِ

بَلْ لَوْ قَنِعْتِ مِنَ الغَرَامِ بِمُظْهَرٍ

عَنْ مُضْمَرٍ بَيْنَ الحَشَا وَالأَضْلُعِ

ص: 191

أَعْيَنْتِ إِثْرَ تَعَفُّفٍ وَوَصَلْتِ بَعْـ

ـدَ تَجَنُّب وَبَذَلْتِ بَعْدَ تَمَنُّعِ

وَلَوَ أَنَّنِي أَنْصَفْتُ نَفْسِي صُنْتُهَا

عَنْ أَنْ أَكُونَ كَطَالِبٍ لَمْ يَنْجَعِ

إِنِّي دَعَوْتُ نَدَى الكِرَامِ فَلَمْ يُجِبْ

فَلأَشْكُرَنَّ نَدًى أَجَابَ وَمَا دُعِي

وَمِنَ العَجَائِبِ وَالعَجَائِبُ جَمَّةٌ

شُكْرٌ بَطِيٌّ عَنْ نَدًى مُتَسَرِّعِ

توفي يوم السبت، سلخ صفر، سنة أربع وتسعين وأربع مئة بحلب رحمه الله (1).

وحَيُّوس: - بحاء مهملة مفتوحة، وياء مد مشددة مثناة من تحتها وضمها، وواو ساكنة، وسين مهملة -، وليس هو ما يتوهمه الناس من أن المغربي يقال له: ابن حبوس - بباء موحدة من تحتها -، وهو غلط.

* * *

383 -

أبو المظفر محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي

(1) كذا في الأصل، وفي "وفيات الأعيان":"وكانت ولادة ابن حيوس يوم السبت سلخ صفر سنة أربع وتسعين وثلاث مئة بدمشق، وتوفي في شعبان سنة ثلاث وسبعين وأربع مئة بحلب".

ص: 192

العباس أحمد بن إسحاق ابن زهر أبي الفتيان، القرشيُّ الأمويُّ الأَبِيوَزدِيُّ الشاعرُ المشهور: كان من الأدباء المشاهير، راوية نسَّابة، شاعرًا ظريفًا، وكان ينسب إلى معاوية الأصغر.

ومن محاسن شعره قوله:

مَلَكْنَا أقالِيمَ البِلَادِ فَأَذْعَنَت

لَنَا رَهْبَةً أَوْ رَغْبَة عُظَمَاؤُهَا

فَلَمَّا انتُهَتْ أَيَّامُنَا عَلِقَتْ بِنَا

شَدَائِدُ أَيَّامٍ قَلِيل رَخَاؤُهَا

وَكَانَ إِلَيْنَا فِي الشُرُورِ ابْتِسَامُهَا

فَصَارَ عَلَيْنَا فِي الهُمُومِ بُكَاؤُهُا

وَصِرْنَا نُلَاقِي النَّائِبَاتِ بِأَوْجُه

رِقَاقِ الحَوَاشِي كَادَ يَقْطُرُ مَاؤُهَا

إِذَا مَا هَمَمْنَا أَنْ نَبُوحَ بِمَا جَنَتْ

عَلَيْنَا اللَّيَالِي لَمْ يَدَعْنَا حَيَاؤُهَا

وقوله أيضًا:

فَسَدَ الزَّمَانُ فَكُلُّ مَنْ صَاحَبْتَهُ

رَاح يُنَافِقُ أَوْ مُدَاجٍ خَاشِي

ص: 193

وَإِذَا اخْتَبَرْتَهُمُ ظَفِرْتَ بِبَاطِنٍ

مُتَجَهِّمٍ وَبِظَاهِرٍ هَشَّاشِ

وله تصانيفُ كثيرة لم يُسبق إلى مثلها.

وكان حسن السيرة، توفي يوم الخميس بين الظهر والعصر، لعشرين خلت من ربيع الأول، سنة سبع وخمس مئة مسمومًا بأصبهان.

والأَبِيْوَرْدي - بفتح الهمزة، وكسر الباء الموحدة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وفتح الواو، وسكون الراء، وبعدها دال مهملة -: نسبة إلى أبي ورد، ويقال لها: أبا ورد وهي بليدة بخراسان، خرج منها جماعة من العلماء.

* * *

384 -

أبو الحسن محمد بن علي بن الحسن بن عُمر، المعروف بابن أبي الصقر، الواسطيُّ: كان فقيها شافعيَّ المذهب، لكنه غلب عليه الأدب والشعر، واشتهر به، وكان شديد التعصب للطائفة الشافعية، وكان كاملًا في البلاغة والفضل وحسن الخط.

ومن شعره:

وَحُرْمَةِ الوُدِّ مَالِي عَنْكُمُ عِوَضُ

لأِنَّنِي لَيْسَ لِي فِي غَيْرِكُمْ غَرَضُ

ص: 194

أَشْتَاقُكُمْ وَمُرَادِي لَوْ يُوَاصِلُنِي

لَكُمْ خَيَالٌ وَلَكِنْ لَسْتُ أَغْتَمِضُ

وَقَدْ شَرَطْتُ عَلَى قَوْمٍ صَحِبْتُهُمُ

بِأَنَّ قَلْبِي لَكُمْ مِنْ دُونِهِمْ وَرَضُوا

وَمِنْ حَدِيثي بِكُمْ قَالُوا بِهِ مَرَضٌ

فَقُلْتُ لَا زَالَ عَنِّي ذَلِكَ المَرَضُ

وكانت ولادته ليلة الاثنين، ثالث عشر ذي القعدة، سنة تسع وأربع مئة، أو توفي يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وأربع مئة، بواسط.

* * *

385 -

الشريف أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح بن حمزة بن عيسى بن محمد، الهاشميُّ العباسيُّ المعروفُ بابن الهَبَّارية، الملقب: نظام الدين، البغداديُّ الشاعرُ المشهور: كان حسن المقاصد، لكنه غلب على شعره الهجاء والهزل.

ومن شعره:

خُذْ جُمْلَةَ الأَشْيَا وَدع تَفْصِيلَهَا

مَا فِي البَرِيَّةِ كُلِّهَا إِنْسَانُ

ص: 195

وَإِذَا البَيَادِقُ فِي البُيُوتِ تَفَرْزَنَتْ

فَالرَّأْيُ أَنْ يَتَبَيْدَقَ الفِرْزَانْ

وله - على سبيل الخلاعة والمجون -:

يَقُولُ أَبُو سَعِيدٍ إِذْ رَآنِي

عَفِيفًا مُنْذُ عَامٍ مَا شَرِبْتُ

عَلَى يَدِ أَيِّ شَيْخٍ تُبْتَ قُلْ لِي

فُقُلْتُ: عَلَى يَدِ الإِفْلَاسِ تُبْتُ

توفي بكَرمان، سنة أربع وخمس مئة، وقيل: بعد سنة تسعين وأربع مئة، وهو منسوب إلى هَبَّار جدِّه لأبيه.

* * *

386 -

أبو عبد الله محمد بن نصر بن صغير بن داغر، الخالديُّ المخزوميُّ الحلبيُّ، الملقبُ: شرف المعالي، المعروفُ بابن القَيْسَراني، الشاعرُ المشهور: كان فاضلًا في علم الأدب والفقه.

ومن محاسن شعره:

كَمْ لَيْلَةٍ بِتُّ مِنْ كَاسي وَرِيقَتِهِ

نَشْوَانَ أَمْزِجُ سَلْسَالًا بِسَلْسَالِ

وَبَاتَ لَا تَحْتَمِي عَنّي مَرَاشِفُهُ

كَأَنَّمَا ثَغْرُهُ ثَغْرٌ بِلَا وَالِي

ص: 196

وله في مدح الخطيب:

شَرَحَ المِنْبَرُ صَدْرًا

لِتَلَقِّيكَ رَحِيبَا

أَتُرَى ضَمَّ خَطِيبًا

أَمْ تُرَى ضُمِّخَ طِيبَا

وهذا الجناس في غاية الحسن.

وحضر مرّة في سماع، وكان المغني حسن الغناء، فلما طربت الجماعة، وتواجدت، قال:

وَاللهِ لَوْ أَنْصَفَ العُشَّاقُ أَنْفُسَهُمْ

فَدَوْكَ مِنْهَا بِمَا عَزُّوا وَمَا هَانُوا

مَا أَنْتَ حِينَ تُغَنِّي فِي مَجَالِسِهِمْ

إِلَّا نَسِيمُ الصَّبَا وَالقَوْمُ أَغْصَانُ

ولد سنة ثمان وتسعين وأربع مئة بعكا، وتوفي ليلة الأربعاء، الحادي والعشرين من شعبان، سنة ثمان وأربعين وخمس مئة بدمشق، ودفن بمقبرة باب الفراديس.

والخالدي: نسبة إلى خالد بن الوليد المخزومي رضي الله عنه.

وقيل: إن خالدًا انقطع نسلُه منذ زمان، وانفصل نسبه، والله أعلم.

ص: 197

والقيسراني - بفتح القاف، وسكون الياء المثناة من تحت، وفتح السين المهملة، والراء المهملة -: نسبة إلى قيسارية، وهي بُليدة بالشام (1) على ساحل البحر.

* * *

387 -

أبو عبد الله محمد بن بخيتار بن عبد الله المعروف بالأبله، البغداديُّ الشاعرُ المشهور: وشعره رقيق حلو الصناعة، ومن أبياته السائرة من جملة قصيدة قوله:

لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ

وَلَا الصَّبَابَةَ إِلَّا مَنْ يُعَانِيهَا

ومن رقيق شعره قوله:

دَعْنِي أُكَابِدُ لَوْعَتِي وَأُعَانِي

أَيْنَ الطَّلِيقُ مِنَ الأَسِيرِ العَانِي

آلَيْتُ لَا أَدعُ الغَرَامَ يَغُرُّني

مِنْ بَعْدِ مَا أَخَذَ الغَرَامُ عِنَانِي

أَوْ لِي بِرَوْضِ العَاذِلَاتِ وَقَدْ أَرَى

رَوْضَاتِ حُسْنٍ فِي خُدُودِ حِسَانِ

(1) في الأصل: "بالبقاع".

ص: 198

وَلَدَيَّ يَلْتَمِسُ السُّلُوَّ وَلَمْ أَزَلْ

حَيُّ الصَّبَابَةِ مَيِّتُ السُّلْوَانِ

يَا بَرْقُ إِنْ تَجُزِ العَقِيقَ فَطَالَمَا

أَغْنَتْهُ عَنْكَ سَحَائِبُ الأَجْفَانِ

هَيْهَاتَ أَنْ أَنْسَى رُبَاكَ وَوَقْفَة

فيها أَغِيرُ بِهَا عَلَى الغَيْرَانِ

وَمُهَفْهَفٍ سَاجِي اللِّحَاظِ حَفِظْتُهُ

فَأَضاعَنِي وَأَطَعْتُهُ فَعَصَانِي

يُصْمِي قُلُوبَ العَاشِقِينَ بِمُقْلَةٍ

طَرَفُ السِّنَانِ وَطَرْفُهَا سِيَّانِ

خُنْتُ الدَّلَالَ لِشَعْرِهِ وَبِشَعْرِهِ

يَوْمَ الوَدَاعِ أَضَلَّنِي وَهَدَانِي

مَا قَامَ مُعْتَدِلًا يَهُزُّ قَوَامَه

إِلَّا وَبَانَتْ خَجْلَةٌ فِي البَانِ

يَا أَهْلَ نُعْمَانٍ إِلَى وَجَنَاتِكُمْ

تُعْزَى الشَّقَائِقُ لَا إِلَى نُعْمَانِ

ص: 199

توفي في جمادى الآخرة، سنة تسع وسبعين (1) وخمس مئة ببغداد، ودفن بباب أبرز.

والأبله معروف، وإنما قيل له ذلك؛ لأنه كان في غاية الذكاء، وهو من أسماء الأضداد؛ كما قيل للأسود: كافور.

* * *

388 -

أبو الفتح محمد بن عبد الله، الكاتبُ المعروف بابن التعاويذيِّ، الشاعرُ المشهور: كان شاعر وقته، وكان كاتبًا بديوان الإقطاعات ببغداد، وعمي في أواخر عمره سنة تسع وسبعين وخمس مئة، ولما عمي، كان له راتب في الديوان، فالتمس أن ينقل باسم أولاده، فلما نقل، كتب إلى الإمام الناصر أبياتًا يسأله أن يجدد له راتبًا مدة حياته، فأنعم عليه أمير المؤمنين بالراتب، فكانوا يوصلونه من الخشكار الردي، فكتب إلى فخر الدولة صاحب المخزن أبياتًا يشكو من ذلك بقوله:

مَوْلَايَ نُورَ الدِّينِ أَنْتَ إِلَى النَّدَى

عَجِلٌ وَغَيْرُكَ مُحْجِمٌ مُتَبَاطِي

حَاشَاكَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ جِرَايَتِي

كَجِرَايَةِ البَوَّابِ وَالنَّفَّاطِ

(1) في الأصل: "تسعين"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(4/ 465).

ص: 200

سَوْدَاءَ مِثْلَ اللَّيْلِ سِعْرُ قَفِيزِهَا

مَا بَيْنَ طسُّوجٍ إِلَى قِيرَاطِ

أَخْنَتْ عَلَيْهَا الحَادِثَاتُ وَأَفْرَطَتْ

فِيهَا الرَّدَاءَةُ أَيَّمَا إِفْرَاطِ

قَدْ كَدَّرَتْ عَيْشِي الهَنِيَّ وَغَيَّرَتْ

طَبْعِي السَّلِيمَ وَعَفَّنَتْ أَخْلَاطِي

فَتَوَلَّ تَدْبِيرِي فَقَدْ أَنْهَيْتُ مَا

أَشْكُوهُ مِنْ مَرَضٍ إِلَى بُقْرَاطِ

وله أخبار ونوادر كثيرة، وأشعار حسنة.

ولد في عاشر رجب، يوم الجمعة، سنة تسع (1) عشرة وخمس مئة، وتوفي في ثاني شوال، سنة أربع، وقيل: ثلاث وثمانين وخمس مئة ببغداد.

والتعاويذي - بفتح التاء المثناة من فوق، والعين المهملة، وكسر الواو، وسكون الياء المثناة من تحت، وكسر الذال المعجمة، وسكون الياء الأخيرة -: نسبة إلى كتابة التعاويذ، وهي الحروز، واشتُهر بها (2).

* * *

(1) في الأصل: "سبع"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(4/ 472).

(2)

كذا في الأصل: "واشتهر بها"، وفي "وفيات الأعيان" الشهرة عن أبي محمد المبارك بن المبارك، ولم تشتهر عن المترجم له.

ص: 201

389 -

أبو الغنائم محمد بن علي بن فارس بن علي بن عبد الله ابن الحسين بن القاسم المعروف بابن المعلِّم، الواسطيُّ الهدوليُّ (1)، الملقب: نجم الدين، الشاعرُ المشهور: وهو أحد من سار شعره، وانتشر ذكره.

فمن نظمه: قوله من قصيدة طويلة أولها:

رَدُّوا عَلَيَّ شَوَارِدَ الأَظْعَانِ

مَا الدَّارُ إِنْ لَمْ تَغْنَ مِنْ أَوْطَانِ

وَلَكَمْ بِذَاكَ الجِزْعِ مِنْ مُتَمَنِّعٍ

هَزَأَتْ مَعَاطِفُهُ بِغُصْنِ البَانِ

فَمَتَى اللِّقَاءُ وَدُونَهُ مِنْ قَوْمِهِ

أَبْنَاءُ مَعْرَكَةٍ وَأُسْدُ طِعَانِ

نَقَلُوا الرِّمَاحَ وَمَا أَظُنُّ أَكُفَّهُمْ

خُلِقَتْ لِغَيْرِ ذَوَابِلِ المُرَّانِ

وَتَقَلَّدُوا بِيضَ السُّيُوفِ فَمَا تَرَى

فِي الحَيِّ غَيْرَ مُهَنَّدٍ وَسِنَانِ

وَلَئِنْ صَدَدْتُ فَمِنْ مُرَاقَبَةِ العِدَا

مَا الصَّدّ عَنْ مَلَلٍ وَلَا سُلْوَانِ

(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (5/ 5)، وفيه:"الهرثي".

ص: 202

يَا سَاكِنِي نُعْمَانَ أَيْنَ زَمَانُنَا

بِطُوَيْلِع يَا سَاكِنِي نُعْمَانِ

كانت ولادته في ليلة سابع عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى وخمسين و [خمس] مئة.

* * *

390 -

أبو شجاع محمد بن علي بن شعيب، المعروفُ بابن الدهان، الملقب: فخر الدين، البغداديُّ الفَرَضيُّ الحاسبُ الأديبُ: هو من أهل بغداد، وانتقل إلى الموصل، ثم تحول إلى خدمة السلطان صلاح الدين، فولاه ديوان مَيَّافارِقين، ولم يمش له حالٌ مع واليها، فدخل دمشق، ثم ارتحل إلى مصر سنة ست وثمانين وخمس مئة، ثم عاد إلى دمشق، وجعلها دار إقامته.

وصنف في الفرائض، وغريب الحديث، وجمع تاريخًا، وكان قلمه أبلغ من لسانه.

وله أشعار، منها: ما كتبه إلى بعض الرؤساء وقد عوفي من مرضه:

نَذَرَ النَّاسُ يَوْمَ بُرْئكَ صَوْمًا

غَيْرَ أَنِّي نَذَرْتُ وَحْدِيَ فِطْرَا

عَالِمًا أَنَّ يَوْمَ بُرْئِكَ عِيدٌ

لَا أَرَى صوْمَه وَإِنْ كَانَ نَذْرَا

ص: 203

توفي في صفر، سنة تسعين وخمس مئة.

وكان سبب موته: أنه حج من دمشق، وعاد على طريق العراق، ولما وصل إلى الحلة، وقع جمله هناك، فأصاب وجهه بعض خشب الجمل، فمات لوقته.

وكان شيخًا دميم الخلقة، مسنون الوجه، مسترسلَ اللحية خفيفَها، أبيضَ تعلوه صفرة.

* * *

391 -

أبو المحاسن محمد بن نصر الله بن الحسين بن عُنَيْن الأنصاريُّ، الملقب: شرف الدين، الكوفيُّ الأصل، الدمشقيُّ المولد، الشاعرُ المشهور: خاتمة الشعراء، لم يأت بعده مثلُه، ولا كان في أواخر عصره مَنْ يقاس به.

وكان السلطان صلاح الدين قد نفاه من دمشق بسبب وقوعه في الناس بالهجاء؛ فإنه عمل قصيدة طويلة جمع فيها خلقًا من رؤساء دمشق، سماها:"مقراض الإعراض"، فلما نُفي طاف البلاد من الشام والعراق، والجزيرة وأذربيجان، وخراسان وخوارزم، وما وراء النهر، ثم دخل الهند واليمن، ثم رجع [إلى] الحجاز والديار المصرية، وعاد إلى دمشق.

ولمَّا مات السلطان صلاح الدين، وملك الملك العادل دمشق كان غائبًا في السفرة التي نفي فيها، فسار متوجهًا إلى دمشق، وكتب إلى الملك العادل قصيدة يستأذنه في الدخول إليها، ويصف دمشق، ويذكر

ص: 204

ما قاساه في الغربة، وقد أحسن فيها كلّ الإحسان، واستعطفه أبلغ الاستعطاف، فأذن له العادل في الدخول إلى دمشق، فلما دخلها أنشد:

هَجَوْتُ أكَابِرَ مِنْ جِلَّقٍ

وَرُعْتُ الوَضِيعَ بِسَبِّ الرَّفِيعِ

وَأُخْرِجْتُ مِنْهَا وَلَكِنَّنِي

رَجَعْتُ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ الجَمِيعِ

وكان وافر الحرمة عند الملوك، وتولى الوزارة بدمشق في آخر دولة المعظم عيسى، ومدة ولاية الملك الناصر بن المعظم، وانفصل منها لما ملكها الملك الأشرف، وأقام في بيته، ولم يباشر بعدها خدمة.

ولد بدمشق يوم الاثنين، تاسع شعبان، سنة تسع وأربعين وخمس مئة، وتوفي عشية نهار الاثنين، العشرين من ربيع الأول، سنة ثلاثين وست مئة بدمشق، ودفن من الغد بمسجده الذي أنشأه بأرض المزة، وهي قرية على باب دمشق، وقيل: بل دفن بمقابر باب الصغير، بالقرب من قبر بلال مؤذنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

392 -

أبو القاسم محمد المعتمد بن المعتضد بالله أبي عمر (1) عباد بن الظافر المؤيد بالله أبي القاسم محمد قاضي إشبيلية، من ولد

(1) في "وفيات الأعيان"(5/ 31): "أبي عمرو".

ص: 205

النعمان بن المنذر اللخميِّ أحدِ ملوك الحيرة: وكان المعتمد المذكور صاحب قرطبة وإشبيلية، وما والاهما من جزيرة الأندلس، وفيه وفي أبيه المعتضد امتدحته الشعراء، وكانا من بلاد المشرق، وهما من أهل العريش: المدينة القديمة الفاصلة بين الشام والديار المصرية في أول الرمل من جهة الشام.

وللمعتمد أشعار منها: أنه عزم على إرسال حظاياه من قرطبة إلى إشبيلية، فخرج معهن يُشَيِّعهن، فسايَرَهُنَّ من أول الليل إلى الصبح، فودَّعهن، ورجع، وأنشد أبياتًا قال فيها:

سَايَرْتُهُم وَاللَّيْلُ شَمَّرَ ثَوْبَه

حَتَّى تَبَدَّى لِلنَّوَاظِرِ مُعْلِمًا

فَوَقَفْتُ ثَمَّ مُوَدِّعًا وَتَسَلَّمَتْ

مِنِّي يَدُ الإِصْبَاحِ تِلْكَ الأَنْجُمَا

وفي وداعهن - أيضًا -:

وَلَمَّا وَقَفْنَا لِلْوَدَاعِ عَشِيَّةً

وَقَدْ خَفَقَتْ فِي سَاحَةِ القَصْرِ رَايَاتُ

بَكَيْنَا دَمًا حَتَّى كَأَنَّ عُيُوننًا

لِجَرْيِ الدُّمُوعِ الحُمْرِ فِيهَا جُمَانَاتُ

وكان المعتمد بن عباد أكبرَ ملوك الطوائف، وأكثرهم بلادًا، ووقع

ص: 206

له وقائع مع الفرنج، وثبت في وقعاتهم ثباتًا عظيمًا، وشُهد له بالشجاعة.

وكان ابن يعقوب يوسفُ بن تاشفين ملكُ المسلمين صاحبَ مراكش، فجعل خواصُّه يعظِّمون عنده بلاد الأندلس، ويحسِّنون له أخذَها، ويُغَيِّرون قلبه على المعتمد بأشياء نقلوها عنه، فتغير عليه، وقصده، فلما انتهى إلى سَبْتَةَ، جهز إليه العساكر، وقدَّم عليها بشرَ بن أبي بكر الأندلسي، فوصل إلى إشبيلية، وبها المعتمد، فحاصرها أشد محاصرة، وظهر من مصابرة المعتمد وشدة بأسه وتراميه على الموت بنفسه ما لم يُسمع بمثله، فلما كان يوم الأحد، العشرين من رجب، سنة أربع وثمانين وأربع مئة، هجم عسكر الأمير يوسف على البلد، وشنُّوا فيه الغارات، ولم يتركوا لأحد شيئًا، وخرج الناس من منازلهم يسترون عوراتهم بأيديهم، وقُبض على المعتمد وأهله، وقُتل له ولدان، وقَيَّدوا المعتمد من ساعته، وجَعلوا أهله في سفينة، وحُملوا إلى الأمير يوسف بمراكش، فأمر بإرسال المعتمد إلى مدينة أغمات، واعتقل بها، ولم يخرج منها إلى الممات، وفي اعتقاله يقول أبو بكر الدَّاني قصيدته التي مطلعها:

لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأَشْياءِ مِيقَاتُ

وَلِلمُنَى مِنْ مَنَايَاهُنَّ غَايَاتُ

وَالدَّهْرُ فِي صبغَةِ الحِرْبَاءِ مُنْغَمِسٌ

ألْوَانُ حَالاتِهِ فِيهَا اسْتِحَالَاتُ

ص: 207

وَهَكَذَا لَاعِبُ الشِّطْرَنْجِ فِي يَدِهِ

فَرُبَّمَا قُمِرَتْ بِالبَيْدَقِ الشَّاهُ

قال ابن خلكان: وهذا غلط؛ فإن الشاه بالهاء المهملة، ومعناه: الملك بالعجمي.

ويقول:

انْفُضْ يَدَيْكَ مِنَ الدُّنْيَا وَسَاكِنِهَا

فَالأَرْضُ قَدْ أَقْفَرَتْ وَالنَّاسُ قَدْ مَاتُوا

وَقُلْ لِعَالَمِهَا الأَرْضِيِّ قَدْ كَتَمَتْ

سَرِيرَةَ العَلَمِ العُلْوِيِّ أَغْمَاتُ

ولد المعتمد في شهر ربيع الأول، سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة بمدينة باجة من بلاد الأندلس، وتوفي في سجن أغمات، لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال، وقيل: في ذي الحجة، سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، ونودي في جنازته: الصلاة على الغريب، بعد عِظم سلطانه، وجلالة شأنه، فتبارك من له البقاء والكبرياء.

واجتمع عند قبره جماعة من الشعراء الذين كانوا يقصدونه بالمدائح، ويجزل لهم المنائح، فرثوه بقصائد، وأنشدوها عند قبره، وبكوا عليه رحمه الله، وعفا عنه -.

وأغمات - بالغين المعجمة، والميم والألف والتاء المثناة -: بليدة

ص: 208

وراء مراكش، بينهما مسافة يوم، وخرج منها جماعة من المشاهير.

* * *

393 -

أبو يحيى محمد بن معن بن محمد بن أحمد بن صُمادح، المنعوتُ بالمعتصم، التجيبيُّ: صاحب المرية وبجاية والصمادحية من بلاد الأندلس، كان جده محمد بن أحمد صاحب مدينة وشقة وأعمالها، وكان المعتصم رحبَ اللقاء، جزيل العطاء، حليمًا عند الدماء، طافت به الآمال، واتسع في مدحه المقال.

وله أشعار حسنة، فمن ذلك: ما كتبه إلى أبي بكر محمد بن عمار الأندلسي يعاتبه:

وَزَهَّدَنِي فِي النَّاسِ مَعْرِفَتِي بِهِمْ

وَطُولُ اخْتِبَارِي صَاحِبًا بَعْدَ صَاحِبِ

فَلَمْ تُرِنِي الأَيَّامُ خِلًّا يَسُرُّنِي

بَوَادِيهِ إِلَّا سَاءَنِي فِي العَوَاقِبِ

وَلَا صِرْتُ أَدْعُوُهُ لِدَفْعِ مُلِمَّة

مِنَ الدَّهْرِ إِلَّا كَانَ إِحْدَى النَّوَائِبِ

توفي المعتصم عند طلوع الشمس، يوم الخميس، لثمانٍ بقين من شهر ربيع الأول، سنة أربع وثمانين وأربع مئة بالمريَّة، ودفن عند باب الخوخة في تربته.

* * *

ص: 209

394 -

أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن أبان المعروف بابن الزيات: وزير المعتصم، وكان جده من قرية يقال لها: الدسكرة، يجلب الزيت إلى بغداد من مواضعه، وكان محمد المذكور من أهل الأدب الظاهر، والفضل الباهر، أديبا فاضلًا بليغا، عالمًا بالنحو واللغة، وكان في أول أمره من جملة الكتاب، وكان أحمد بن أبي خالد الأحول وزير المعتصم، فورد على المعتصم كتاب من بعض الأعمال، فقرأه الوزير عليه، وكان في الكتاب ذكر الكلأ، فقال له المعتصم: ما الكلأ؟ فقال: لا أعلم، وكان قليل المعرفة بالأدب، وكان المعتصم ضعيف الكتابة، فقال المعتصم: خليفةٌ أُمِّي، ووزير عامِّيٌّ ثم قال: انظروا مَنْ بالباب من الكتاب، فوجدوا محمد بن عبد الملك، فأدخلوه إليه، فقالوا له: ما الكلأ؟ فقال: العشب على الإطلاق، وإن كان رطبًا، فهو الخلا، وإذا يبس، فهو الحشيش، وشرع في تقسيم أنواع النبات، فعلم المعتصم فضله، فاستوزره، وحَكَّمَهُ، وبسط يده.

وله أشعار رائقة، فمن ذلك: قوله:

سَمَاعًا يَا عِبَادَ اللهِ مِنِّي

وَكُفُوا عَنْ مُلَاحَظَةِ المِلَاحِ

فَإِنَّ الحُبَّ آخِرُهُ المَنَايَا

وَأَوَّلُهُ شَبِيهٌ بِالمُزَاحِ

ص: 210

وَقَالُوا دع مُرَاقَبَةَ الثُّرَيَّا

وَنَمْ بِاللَّيْلِ مُسْوَدِّ الجَنَاحِ

فَقُلْتُ وَهَلْ أَفَاقَ القَلْبُ حَتَّى

أُفَرِّقَ بَيْنَ لَيْلِي وَالصَّبَاحِ

وله أشياء غير ذلك.

وكان له تنور من حديد، وأطراف مساميره المحدودة إلى داخل، وهي قائمة مثل رؤوس المسال في أيام وزارته، وكان يعذِّب فيه المصادَرين، فمتى انقلب منهم واحد، وتحرك من حرارة العقوبة، تدخل المسامير في جسمه، فيجدون لذلك أشدَّ الألم، وكان إذا قال له واحد منهم: أيها الوزير! ارحمني، فيقول: الرحمة جورٌ في الطبيعة.

ولما مات المعتصم، وقام بالأمر ولدُه الواثق، أقره على ما كان عليه، فلما مات، وتولى المتوكل، كان في نفسه منه، فقبض عليه، واستصفى أمواله، وأمر بإدخاله التنور، فقال: يا أمير المؤمنين! ارحمني، فقال: الرحمة جور في الطبيعة، واستمر في التنور إلى أن مات، وكانت مدة إقامته في ذلك التنور أربعين يوما، وكان القبض عليه لثمانٍ بقين من صفر، سنة ثلاث وثلاثين ومئتين.

وابن الزيّات هذا هو الذي أغرى المعتصمَ في محنة الإمام أحمد ابن حنبل؛ لأنه كان يقول بخلق القرآن، ولما دخل في التنور، قال له خادمه: قد صرتَ إلى ما صرتَ إليه وليس لك حامد، فقال له: صدقت.

ص: 211

وتقدم ذكرُه في خلافة المعتصم، وفي خلافة المتوكل.

* * *

395 -

أبو الفضل محمد بن أبي عبد الله الحسين بن محمد المعروف بابن العميد: والعميد لقبُ والده، وكان وزير ركن الدولة أبي علي الحسن بن بُوَيْه الديلمي والدِ عضد الدولة، وتولى وزارته سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة.

وكان كامل الرئاسة، جليل المقدار، من بعض أتباعه الصاحبُ ابن عباد، ولأجل صحبته قيل له: الصاحب، فيقال: بدأت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد.

وكان الصاحب بن عباد قد سافر إلى بغداد، فلما رجع، قيل له: كيف وجدتها فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد.

وكان يقال له: الأستاذ، وتوفي في سنة ستين وثلاث مئة، وقيل: سنة تسع وخمسين وثلاث مئة.

وروي: أن الصاحب بن عباد مَرَّ على باب داره بعد وفاته، فلم يحيى هناك أحدًا، بعد أن كان الدهليز يغص بزحام الناس، فأنشد:

أَيُّهَا الرَّبْعُ لِمْ عَلَاكَ اكْتِئَابُ

أَيْنَ ذَاكَ الحِجَابُ وَالحُجَّابُ

أَيْنَ مَنْ كَانَ يَفْزَعُ الدَّهْرُ مِنْهُ

فَهُوَ اليَوْمَ فِي التُّرَابِ تُرَابُ

ص: 212

قَالَ مِنْ غَيْرِ رُقْيَةٍ وَاحْتِشَامٍ

مَاتَ مَوْلَايَ فَاعْتَرَانِي اكْتِئَابُ

ولما مات، تولى دستَ الوزارة بعده ولدُه أبو الفتح علي ذو الكفايتين، ولم يزل في وزارة ركن الدولة إلى أن توفي، وقام بالأمر ولده مؤيدُ الدولة، فاستوزره - أيضًا -، ثم قَبض عليه، وقَطَعَ أنفَهُ، وجَزَّ لحيتَه، وقطع يده، وما زال يعرضه على العذاب حتى مات.

وكانت ولادته سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة، وقُبض عليه يوم الأحد، ثامن شهر ربيع الأول، سنة ست وستين وثلاث مئة، وتولى موضعه الصاحبُ بن عباد.

وكان أبو حيان علي بن محمد التوحيديُّ البغدادي قد وضع كتابًا سماه: "مثالب الوزيرين"(1)، ضمنه معايب أبي الفضل بن العميد، والصاحب بن عباد، وبالغ في التعصب عليهما، وسلبهما ما استقر عنهما من الفضائل، وهذا الكتاب ما ملكه أحد إلا وانعكست أحواله، وجُرِّب ذلك، وكان أبو حيان فاضلًا مصنفًا، وكان موجودًا في سنة الأربع مئة.

* * *

396 -

أبو علي محمد بن علي بن مُقْلة، الكاتبُ المشهور: كان في أول أمره يتولى بعض أعمال فارس، ويجني خَراجها، وتنقلت

(1) في الأصل: "الوزراء".

ص: 213

أحواله إلى أن استوزره الإمام المقتدر سنة ست عشرة وثلاث مئة، وعُزِل سنة سبع عشرة، ثم أعاده الإمام القاهر بالله سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، ثم عزله، ولما ولي الراضي بالله سنة اثنتين وعشرين، استوزره - أيضًا -، ثم غضب عليه، وقلَّد الوزارة إلى عبد الرحمن بن عيسى بن الجراح، والسبب في ذلك: ما كان بينه وبين المظفر بن ياقوت من الوحشة، وكان ابن ياقوت مستحوذًا على أمور الراضي، وسُلِّم ابن مقلة إلى عبد الرحمن بن عيسى يضربه بالمقارع، ويجري عليه من المكاره بالعقوبة، وأخذ خطه بألف ألف دينار، ثم خلص، وجلس بطَّالًا في بيته، ثم إن أبا بكر محمد بن رائق استولى على الخلافة، وخرج عن طاعتها، فانفذ إليه الراضي، واستماله، وفوض إليه تدبير المملكة، وجعله أمير الأمراء، وأمر أن يخطب له على جميع المنابر، فقوي أمره، وعظم شأنه، وتصرف على حسب اختياره، واحتاط على أملاك ابن مقلة وضياعه، فحضر إليه ابن مقلة، وإلى كاتبه، وتذلَّل لهما في معنى الإفراج عن أملاكه، فلم يحصل منهما إلا على المواعيد، فأخذ ابن مقلة في السعي بابن رائق من كل جهة، وكتب إلى الراضي يشير عليه بإمساكه، وضمن له إن فعل ذلك، وقلده الوزارة، ليستخرجنَّ له ثلاثة آلاف ألف دينار، فأطمعه الراضي بالإجابة، فلما استوثق ابن مقلة من الراضي، ركب من داره، وقد بقي من شهر رمضان ليلة واحدة، واختار هذا الطالع؛ لأن القمر يكون تحت الشعاع، وهو يصلح للأمور المستورة، فلما وصل إلى دار الخليفة، لم يمكنه من الدخول إليه، واعتقل عليه في

ص: 214

حجره، ووجه الراضي إلى ابن رائق، وأخبره بما جرى، وأنه احتال على ابن مقلة حتى وقع في أسره، فلما كان رابع عشر شوال، سنة ست وعشرين وثلاث مئة، أظهر الراضي أمر ابن مقلة، وأخرجه من الاعتقال، وأحضر صاحب ابن رائق، وجماعة من القواد، وكان ابن رائق قد التمس قطع يد ابن مقلة التي كتب بها تلك المطالعة، فقطعت يده اليمنى، ورُدَّ إلى مجلسه، ثم ندم الراضي على ذلك، وأمر الأطباء بملازمته للمداواة، فلازموه حتى برئ، وكان ذلك نتيجة دعاء أبي الحسن محمد بن شنبوذ المقرئ عليه بقطع اليد، وهو من عجيب الاتفاق، وكان ينوح على يده، ويقول: خدمتُ بها الخلفاء، وكتبت بها القرآن مرتين تقطع كما تقطع أيدي اللصوص! وينشد:

إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا

فَإِنَّ البَعْضَ بَعْضٍ قَرِيبُ

ثم عاد وأرسل إلى الراضي من الحبس بعد قطع اليد، وأطمعه في المال، وطلب الوزارة، وقال: إِنَّ قطع اليد ليس مما يمنع الوزارة، وكان يشد القلم على ساعده، ويكتب به، ولما قرب محكم من بغداد، وكان من جماعة ابن رائق، فأمر بقطع لسانه، فقطع، وأقام في الحبس مدة طويلة، ولحقه فقر، ولم يكن له من يخدمه، وكان يستقي الماء لنفسه من البئر، فيجذب بيده اليسرى جذبة، ويمسك الحبل بفمه، ثم يجذب بيده.

وله أشعار في شرح حاله، وما انتهى إليه أمره، منها:

ص: 215

وَإِذَا رَأَيْتَ فَتىً بَأَعْلَى رُتْبَةٍ

فِي شَامخٍ مِنْ عِزِّهِ المُتَرَفِّعِ

قَالَتْ لِيَ النَّفْسُ العَرُوفُ بِقَدْرِهَا

مَا كَانَ أَوْلَانِي بِهَذَا المَوْضِع

ويقي على هذا الحال إلى أن توفي يوم الأحد، عاشر شوال، سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة، ودفن في مكانه، ثم نبش بعد زمان، وسُلِّم إلى أهله.

وكانت ولادته يوم الخميس بعد العصر، لسبعٍ بقين من شوال، سنة اثنتين وتسعين ومئتين ببغداد.

وأبو علي بن مقلة المذكور هو أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين إلى هذه الصورة، وابن البواب تبع طريقته، ونقَّح أسلوبه.

وكان أخوه أبو عبد الله الحسين بن علي بن مقلة كاتبًا أديباً بارعاً، ولد يوم الأربعاء سلخ رمضان، سنة ثمان وتسعين ومئتين، وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.

وأما ابن رائق، فإنه قدم دمشق، وأَخْرَجَ منها بدراً الإخشيدي، ثم توجه إلى مصر، وتواقع هو وصاحبها محمد بن طغج الإخشيد، فهزمه الإخشيد، فرجع إلى دمشق، ثم توجه إلى بغداد، وقُتل بالموصل سنة ثلاثين وثلاث مئة.

ص: 216

397 -

الوزيو أبو الطاهر محمد بن محمد بن بقيَّة الملقب: نصير الدولة: وزير عزِّ الدولة ابن بُوَيْه، كان من أجلة الرؤساء، وأكابر الوزراء، وأعيان الكرماء، كان راتب شمعه في كل شهر ألفُ مَنٍّ، وكان من أهل أوانا (1) من عمل بغداد.

وكان في أول أمره صاحب مطبخ معز الدولة، وحسنت حالته عنده، وعند ابنه عز الدولة ورعى له خدمتَه لأبيه، فاستوزره يوم الاثنين، لسبع ليال خلون من ذي الحجة، سنة اثنتين وستين وثلاث مئة، ثم إنه قبض عليه لسبب اقتضى ذلك، وحاصله: أنه حمله على محاربة ابن عمه عضد الدولة، والتقيا على الأهواز وكُسر عز الدولة، فنسب ذلك إلى رأيه ومشورته، وقبض عليه يوم الاثنين، لثلاثَ عشرةَ ليلة بقيت من ذي الحجة، سنة لست وستين وثلاث مئة بمدينة واسط، وسَمَل عينيه، ولزم بيته، فلما قُتل عزُّ الدولة، وملك عضدُ الدولة بغداد، ودخلها، طلب ابنَ بقية المذكور، وألقاه تحت أرجل الفيلة، فلما قتلته، صلبه عند البيمارستان العضدي ببغداد في يوم الجمعة، لست خلون من شوال، سنة سبع وستين وثلاث مئة، ولم يزل مصلوبًا إلى أن توفي عضد الدولة في التاريخ المتقدم في ترجمته سنة اثنتين وسبعين وثلاث مئة، فأُنزل عن الخشبة، ودفن في موضعه.

* * *

(1) في الأصل: "أزانا"، والصواب المثبت.

ص: 217

398 -

أبو غالب محمد بن علي بن خلف الملقب: فخر الملك وزير بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة ابن بُويه: وكان من أعظم وزراء آل بويه على الإطلاق بعدَ ابن العميد، والصاحبِ بن عَبَّاد، وكان واسع النعمة، جمَّ الفضائل والأفضال، جزيل العطايا والنوال، قصده جماعة من أعيان الشعراء، ومدحوه، وأجازهم.

ولد بواسط سنة أربع وخمسين وثلاث مئة.

وَرَفَعَ إليه شخص قصة يسعى فيها بهلاك شخص، فوقف عليها، وقلبها، وكتب في ظهرها: السعاية قبيحة، صمان كانت صحيحة، فإن كنت أجريتَها مجرى النصح، فخسارتك فيها أكثرُ من الربح، ومعاذ الله أن نقبل من مهتوك في مستور (1)، ولولا أنك في خفارة، لقابلناك بما يشبه فعالك، وَيرْدعَ أمثالك، فاكتمْ هذا العيب، واتقِ مَنْ يعلم الغيب، والسلام.

ومحاسنُ فخر الملك كثيرة، ولم يزل في عِزّه إلى أن نقم عليه مخدومُه بهاء الدولة لسبب اقتضى ذلك، فحبسه، ثم قتله بسفح جبل قريب من الأهواز يوم السبت، لثلاثٍ بقين من شهر ربيع الأول، سنة سبع وأربع مئة، ودُفن هناك، ولم تعمق حفرته، فنبشته الكلاب وأكلته، ثم أعيد دفن رمَّته، فشفع فيه بعض أصحابه، فنقلت عظامه إلى مشهد

(1) في الأصل: "في منهوك في ستور"، والمثبت من "سير أعلام النبلاء"(17/ 283).

ص: 218

هناك، فدفنت فيه سنة ثمان وأربع مئة، فسبحان الفعال لما يريد.

* * *

399 -

أبو نصر محمد بن محمد بن جهير (1)، الملقب: فخر الدولة مؤيد الدين، التغلبيُّ الموصليُّ: كان ذا رأي وعقل، وحزم وتدبير، خرج من الموصل، وصار ناظر الديوان بحلب، ثم صُرف عنه، وانتقل إلى آمد مدة بطالاً، ثم توصل إلى أن استوزره الأمير نصر الدولة أحمدُ بن مروان الكردي صاحب مَيَّافارقين وديار بكر، وكان نافذ الكلمة، مطاع الأمر، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي نصر الدولة، وقام بالأمر ولدُه نظام الدين، فأقبل عليه، وزاد في إكرامه، فرتب أمور ديوانه، وأجراها على الأوضاع التي كانت في أيام أبيه، وكان عزل من الوزارة، ثم أعيد إليها، فأنشده بعضهم قصيدة يقول فيها:

قَدْ رَجَعَ الحَقُّ إِلَى نِصَابِهْ

وَأَنْتَ مِنْ كُلِّ الوَرَى أَوْلَى بِهْ

مَا كُنْتَ إِلَاّ السَّيْفَ سَلَّتْة يَدٌ

ثُمَّ أَعَادتْهُ إِلَى قِرَابِهْ

هَزَّتْهُ حَتَّى أَبْصرَتْهُ صَارِمًا

وَبَرِيقُهُ (2) يُغْنِيهِ عَنْ ضِرَابِهْ

وهي قصيدة طويلة، وكانت ولادته بالموصل سنة ثمان وتسعين وثلاث مئة، وَمَلَك نصيبين ثم الموصل وسنجار، والرحبة والخابور،

(1) في الأصل: "جعفر"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 127).

(2)

في الأصل: "وريقه".

ص: 219

وديار ربيعة أجمع، وخُطب له على سائر منابرها نيابة عن السلطان، وأقام بالموصل إلى أن توفي بها في رجب سنة ثلاث وثمانين (1) وأربع مئة.

وأما ولده عميد الدولة، فانتشر عنه الوقار والهيبة والعفة، وخدم ثلاثة من الخلفاء، ووَزَرَ لاثنين منهم، ولم يكن يُعاب بأشدَّ من الكبر الزائد رحمه الله، وعفا عنه -.

* * *

400 -

أبو شجاع محمد بن الحسين بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم الملقب: ظهير الدين، الروذراوريُّ (2) الأصل، الأهوازيُّ المولد: تولى الوزارة للإمام المقتدي بالله، بعد عزل عميد الدولة أبي منصور ابن فخر الدولة، وذلك في سنة ست وسبعين (3) وأربع مئة، ثم عزل، وأعيد عميد الدولة.

ولمَّا قرأ أبو شجاع التوقيع بعزله، أنشد:

تَوَلَاّهَا وَلَيْسَ لَهُ عَدُوٌّ

وَفَارَقَهَا وَلَيْسَ لَهُ صَدِيقُ

وخرج بعد عزله ماشياً يوم الجمعة من داره إلى الجامع، وثارت عليه العامة يسفِّهون عليه، وأُلزم بالقعود في داره، ثم خرج إلى روذراور،

(1) في الأصل: "ثلاث وثلاثين"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 136).

(2)

في الأصل: " الزودباري"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 134).

(3)

في الأصل: "أربعين".

ص: 220

وهي وطنه قديماً، ثم حج منها في سنة سبع وثمانين (1) وأربع مئة، وجاور بعد الحج بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقام بالمدينة إلى حين وفاته، ودفن عند قبر إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم بالبقيع.

ولما قرب أمره، وحان ارتحاله من الدنيا، حُمل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف عند الحضرة، وبكى، وقال: يا رسول الله! قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وقد جئتك معترفاً بذنوبي وجرأتي، أرجو شفاعتك، وبكى، وتوفي من يو مه، وكانت سيرته حسنة، وعنده سخاء وبِرٌّ ورأفة، وله شعر حسن، ومن شعره:

وَإِنِّي لأُبْدِي فِي هَوَاكَ تَجَلُّداً

وَفِي القَلْبِ مِنِّي لَوْعَةٌ وَغَلِيلُ

فَلَا تَحْسَبَنْ أَنِّي سَلَوْتُ فَرُبَّمَا

تُرَى صِحَّة بِالمَرْءِ وَهْوَ عَلِيلُ

* * *

401 -

أبو نصر محمد بن منصور بن محمد، الملقب: عميد الملك، الكندريُّ: كان من رجال الدهر، جوادًا شهمًا، واستوزره السلطان طَغْرِلْبك السّلجوقي، ونال عنده الرتبة العالية، والمنزلة الجليلة، وهو أول وزير كان لهذه الدولة، وكان ممدوحاً، مَقْصَداً للشعراء، ولم يزل في دولة طغرلبك عظيمَ الشأن والحرمة إلى أن توفي السلطان، وقام

(1) في الأصل: "أربعين"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 135).

ص: 221

بالمملكة ابن (1) أخيه ألب أرسلان، وأقرَّه على حاله، وزاد في إكرامه.

ثم إنه أرسله إلى خوارزم شاه ليخطب ابنته، فارجف أعداؤه أنه خطبها لنفسه، وشاع ذلك بين الناس، فبلغ عميدَ الملك، فخاف تغيرَ قلب مخدومه عليه، فعمد إلى لحيته، فحلقها، وإلى مَذاكيره، فجَبَّها، ثم إن ألب أرسلان عزله عن الوزارة لسبب يطول شرحه، وفوض الوزارة إلى نظام الملك أبي علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، وَحَبَس عميد الملك بنيسابور، ثم نقله إلى مرو، وحبسه في دار، وكانت عياله في حجرة بتلك الدار، وكان له بيت واحد لا غير، فلما أحس بالقتل، دخل الحجرة، وأخرج كفنه، وودع عياله، وأغلق باب الحجرة، واغتسل وصلى ركعتين، وأعطى للذي ندب لقتله مئة دينار، وقال: حقي عليك أن تكفنني في الثوب الذي غسلته بماء زمزم، وقال لجلاده: قل للوزير نظام الملك: بئس ما صنعت، علَّمت الأتراك قتل الوزراء، ومن حفر مهواة، وقع فيها، ومن دَقَّ سنة سيئة، فعليه وزرُها ووزر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة، ورضي بقضاء الله المحتوم، وقُتل يوم الأحد، سادس عشر ذي الحجة، سنة ست وخمسين وأربع مئة، وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة.

ومن العجائب: أنه دفنت مذاكيره بخوارزم، وأريق دمه بمرو، ودفن جسده بقريته كُندُر، ورأسه بنيسابور. وكان نظام الملك هناك،

(1) في الأصل: "لابن".

ص: 222

وفي ذلك عبرة لمن اعتبر بعد أن كان رئيس عصره.

وكُندُر - بضم الكاف والدال، وسكون النون، والراء -: قرية من قرى طُرَيث - بضم الطاء وفتح الراء، وسكون الياء المثناة من تحتها، ويعدها ثاء مثلثة - وهي كورة من نواحي خراسان، خرج منها جماعة من العلماء.

* * *

402 -

أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور، الفقيهُ الملقب: جمال الدين، المعروف بالجواد الأصفهاني: وزير صاحب الموصل أتابك زنكي بن آق سنقر، وكان حسن المحاضرة، مقبول المُفاكهة، ولما قتل زنكي على قلعة جعبر، أقره سيف الدين غازي بن أتابك زنكي على وزارته، وفوَّض إليه الأمر، وإلى زين الدين علي والد مظفر الدين صاحب إربل، ولم يزل يبذل ويعطي الأموال، ويبالغ في الإنفاق حتى عرف بالجواد، وصار ذلك كالعَلَم عليه حتى لا يقال: إلا جمال الدين الجواد، وأثر آثاراً جميلة، وأجرى الماء إلى عرفات أيام الموسم من مكان بعيد، وعمل الدَّرَجَ من أسفل الجبل إلى أعلاه، وبنى سور مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان خرب من مسجده.

وكان يحمل في كل سنة إلى مكة والمدينة من الأموال والكسوات للفقراء والمنقطعين ما يقوم بهم مدة سنة، وكان قصده كل خير، حتى جاء في سنةٍ غلاء مفرط، فواسى الناس، حتى إنه لم يبق له شيء.

ص: 223

واستمر على ذلك إلى أن توفي مخدومه غازي، وقام بالأمر بعده أخوه قطب الدين مودود، فاستولى عليه مدة، ثم قبض عليه في رجب، سنة ثمان وخمسين وخمس مئة، ولم يزل مسجونًا إلى أن توفي في العشر الأخير من رمضان، سنة تسع وخمسين وخمس مئة، وصُلِّيَ عليه، وكان يومًا مشهوداً؛ من ضجيج الضعفاء والأرامل والأيتام حول جنازته، ودُفِنَ بالموصل، ثم نُقل إلى مكة - حرسها الله تعالى -، وطِيفَ به حول الكعبة بعد أن صعدوا به ليلة الوقفة إلى جبل عرفات، وكانوا يطوفون به كل يوم مرارًا مدة بقائهم بمكة، وكان يوم دخوله بمكة يومًا مشهوداً؛ من اجتماع الخلق والبكاء عليه، ثم حمل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودُفن بالبقيع بعد أن أُدخل المدينة، وطيف به حول الحجرة مراراً - رحمه الله تعالى -.

وكان ولده أبو الحسن علي الملقب: جمال الدين من الأدباء الفضلاء البلغاء، توفي سنة أربع وسبعين (1) وخمس مئة بمدينة دُنَيْسَر - بضم الدال المهملة وفتح النون وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح السين المهملة وبعدها راء مهملة -، وهي مدينة بالجزيرة بين نصيبين ورأس العين، تطرقها التجار من جميع الجهات، وهي مجمع الطرقات، ولهذا قيل لها: دنيسر، وهو لفظ مركب، وأصله: دنيا سر، ومعناه: رأس الدنيا، وعادة العجم في الأسماء المضافة [أن] يؤخروا المضاف

(1) في الأصل: "خمسين".

ص: 224

عن المضاف إليه، وسَرْ بالعجمي: رأس.

* * *

403 -

أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي الفرج محمد بن نفيس الدين أبي الرجاء حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود، المعروف بابن أخي العزيز، الملقب: عماد الدين الكاتب الأصبهاني، المعروف - أيضاً - بابن أخ العزيز: كان فقيهاً شافعي المذهب، تفقه بالمدرسة النظامية زماناً، وأتقن الخلاف، وفنون الأدب، وله من الشعر والرسائل ما يغني عن الإطالة في شرحه.

نشأ بأصبهان، وقدم بغداد، وتعلق بالوزير عون الدين يحيى بن هُبَيْرَة ببغداد، وتولى النظر بالبصرة، ولم يزل ماشي الحال مدة حياته، فلما توفي، تشتت شمل أتباعه، ثم انتقل إلى دمشق سنة اثنتين وستين وخمس مئة، وسلطانها الملكُ العادل نور الدين الشهيد، ومدبر دولته القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري، فتعرف به، وحمد محاسنه، فأحسن إليه وأكرمه، وميَّزه عند الأعيان والأماثل، ثم نوَّه بذكره عند السلطان نور الدين، وعدَّد فضائله، وأهَّله لكتابة الإنشاء، فَجَبُنَ عنها في الابتداء، فلما باشرها، هانت عنيه، وأجاد فيها، وأتى بالغرائب، فكان ينشئ الرسائل باللغة العجمية - أيضاً -، وعلت منزلته عند نور الدين، وصار صاحب سِرِّه، وأرسله إلى دار السلام ببغداد رسولاً في أيام الإمام المستنجد.

ص: 225

ولم يزل مستقيم الحال إلى أن توفي نور الدين، وقام ولده الملك الصالح إسماعيل مقامه، وكان صغيرًا، فاستولى عليه جماعة كانوا يكرهون العماد، فضايقوه، وأخافوه إلى أن ترك جميع ما كان فيه، وسافر قاصدًا بغداد، فوصل إلى الموصل، فمَرِضَ بها مرضًا شديدًا، فلما بلغه خروج السلطان صلاح الدين من الديار المصرية لأخذ دمشق، عزم على العودة إلى الشام، فوصل إليها ثامن جمادى الآخرة، سنة سبعين وخمس مئة، وصلاح الدين نازل على حلب، ثم قصد خدمته، فحضر بين يديه، ولزم بابه في رحيله ونزوله، حتى نظمه في سلك جماعته، واعتمد عليه، وقرب منه، وصار من جملة الصدور المعدودين، والأماثل المشتهرين، وكان القاضي الفاضل أكثر الأوقات ينقطع عن خدمة السلطان، والعمادُ ملازم الباب، وهو صاحب السر المكتوم.

وصنف التصانيف النافعة، منها: كتاب "الفتح القدسي" في مجلدين يتضمن فتح بيت المقدس وغيره.

وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لِطاف، فمن ذلك: ما يُحكى عنه: أنه لقيه يومًا وهو راكب على فرس، فقال له العماد: سِرْ فَلَا كَبَا بِكَ الفرس، فقال له الفاضل: دامَ عُلا العماد.

وهذا مما يقرأ مقلوبًا ومستقيمًا بالسواء.

وكان القاضي الفاضل قد حج في سنة أربع وخمس مئة، وركب البحر في طريقه، فكتب إليه العماد ألفاظًا، منها:

ص: 226

فطوبى للحِجْر والحَجون من ذي الحِجر والحجى، ومُنير الدجى، ولندى الكعبة من كَعْب الندى، وللهدايا المشعَرات من مشعر الهُدى، والمقام الكريم من مقام كريم، ومتى ركب البحرُ البحرَ، وملك البَر البَرَّ، ويا عجبًا للكعبة يقصدها كعبة الفضل والإفضال، والقبلة يستقبلها قبلة القبول والإقبال، والسلام.

ولم يزل العماد على رفعة منزلة إلى أن توفي السلطان صلاح الدين، فاختلفت أحواله، ولزم بيته، وأقبل على الاشتغال بالتصانيف، وتوفي يوم الاثنين، ثاني جمادى الآخرة، وقيل: في شعبان، سنة سبع وتسعين وخمس مئة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية.

وألُهْ - بفتح الهمزة وضم اللام، وسكون الهاء -، وهو اسم عجمي معناه بالعربي: العُقاب، وهو الطائر المعروف، وقد قيل: إن العُقاب لا يوجد فيه ذَكَر، بل جميعه أنثى، وإن الذي يسافده طائر آخر من غير جنسه، وقيل: إن الثعلب يسافده، وهو من العجائب.

ولابن عُنين هَجْوٌ في شخص يقال له ابن سِيده:

مَا أَنْتَ إِلَاّ كَالعُقَابِ فَإِنَّهَا

مَعْرُوفَةٌ وَلَهَا أَبٌ مَجْهُولُ

* * *

404 -

أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ (1)، الفارابي

(1) في الأصل: "أزرع"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 153).

ص: 227

التركيُّ (1)، الحكيمُ المشهور: صاحب التصانيف في المنطق والموسيقا وغيرهما من العلوم، وهو من أكبر فلاسفة المسلمين.

ولد في بلده، ونشأ بها، ثم خرج، وتقلبت به الأسفار إلى أن وصل بغداد، وهو يعرف اللسان (2) التركي، وعدة لغات غير العربي، فشرع في اللسان العربي، فتعلَّمه وأتقنه، ثم اشتغل بعلوم الحكمة، ثم ارتحل إلى مدينة حرَّان، ولم يزل مُكِبًا على الاشتغال بهذا العلم، والتحصيل له إلى أن فاق فيه أهلَ زمانه، وألَّف معظم كتبه.

ثم سافر إلى دمشق، وتوجه إلى مصر، ثم عاد إلى دمشق، فأقام بها، وسلطانُها يومئذ سيفُ الدولة بن حمدان، فأحسن إليه.

ويحكى: أن الآلة المسماة بالقانون من وضعه، وهو أول من رَكَّبها هذا التركيب، وكان منفرداً بنفسه، لا يجالس الناس، وكان مدة إقامته بدمشق في تأليف كتبه، وكان أزهدَ الناس في الدنيا، لا يحتفل بأمرِ مكسب ولا مسكن، وأجرى عليه سيف الدولة كلَّ يوم من بيت المال أربعة دراهم، واقتصر عليها إلى أن مات في سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة بدمشق، وصلى عليه سيف الدولة في أربعة من خواصه، وقد ناهز ثمانين سنة، ودفن خارج الباب الصغير.

ومما ينسب إليه من النظم: قوله:

(1) في الأصل: "المتولي"، والمثبت من "وفيات الأعيان".

(2)

في الأصل: "باللسان".

ص: 228

أَخِي خَلِّ حَيِّزَ ذِي بَاطِلٍ

وَكُنْ لِلحَقَائِقِ فِي حَيِّزِ

فَمَا الدَّارُ دَارَ مُقَامٍ لَنا

وَلَا المَرْءَ فِي الأَرْضِ بِالمُعْجِزِ

يُنَافِرُ هَذَا لِهَذَا عَلَى

أَقَلَّ مِنَ الكَلِمِ المُوجَزِ

وَهَلْ نَحْنُ إِلَاّ خُطُوطٌ وَقَعْنَ

عَلَى يَقْظِهِ وَقْعَ مُسْتَوْفِزِ

مُحِيطُ السَّمَوَاتِ أَوْلَى بِنَا

فَمَاذَا التَّنَافُسُ فِي المَرْكَز

والفارابي - بفاء موحَّدة، وبالباء الموحَّدة من أسفل -: نسبة إلى فاراب، وهي مدينة فوق الشَّاش: قرية من مدينة فلاساغون، وجميع أهلها على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهي قاعدة من قواعد همدان، وهي في أطراف بلاد فارس، وفلاساغون: بلدة وراء نهر سيحون بالقرب من كَاشْغَر، وهي من المدن العظام في تُخوم الصين.

* * *

405 -

أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، الطبيبُ المشهور: هو الذي دبر مارستان بغداد أيام المكتفي، وكان في أيام شبيبته يضرب

ص: 229

بالعود، ويغني، فلما التحى وجهه، قال: كل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يُستطرب، فنزع عن ذلك، وأقبل على دراسة كتب الطب حتى صار تُشَدُّ إليه الرحال في أخذها عنه، وصنف فيها الكتب النافعة.

ومن كلامه فيها: إذا كان الطبيب عارفًا، والمريض مطيعًا، فما أقلَّ لبثَ العلة.

وطال عمره، وعَمِيَ في آخر مدته، وتوفي في سنة إحدى عشرة وثلاث مئة.

* * *

406 -

أبو عبد الله محمد بن جابر، بن سنان الحراني (1) الأصل، الحايسبُ، البَتَّانيُّ المشهور: صاحب "الزيج"، الصابئ، له الأعمال العجيبة، والأرصاد المتقنة.

كان أوحد عصره، توفي سنة سبع عشرة وثلاث مئة عند رجوعه من بغداد بموضع يقال له: قصر الحضر.

والبَتَّاني - بالباء الموحدة، والتاء المثناة من فوق المشددة، ونون مكسورة -: نسبة إلى بَتَّان، وهي ناحية من أعمال حرَّان.

والحضر: مدينة بالقرب من الموصل.

* * *

(1) في الأصل: "الدقي"، والصواب المثبت.

ص: 230

407 -

أبو عبد الله محمد بن موسى بن شكر: أحد الإخوة الثلاثة الذين ينسب إليهم حيل (1) بني موسى، وهم مشهورون بهذا، واسم أخويه: أحمد، والحسن، وكانت لهم همم عالية في تحصيل العلوم القديمة، وكتب الأوائل، أتعبوا أنفسهم في تبيانها، وكان الغالب عليهم من العلوم: الهندسة والحِيَل والحركات، والموسيقا والنجوم، وكان لهم أوضاع نادرة غريبة، توفي محمد المذكور في شهر ربيع الأول، سنة تسع وخمسين ومئتين.

* * *

408 -

أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر، الخوارزميُّ الزمخشريُّ: الإمام الكبير في التفسير والحديث، والنحو واللغة وعلم البيان، كان إمام عصره من غير مدافع، تشُد إليه الرحال في فنونه، وصنف التصانيف البديعة، منها:"الكشاف" في تفسير القرآن العزيز، وتصانيف كثيرة، وكان شروعه في تأليف "المفصَّل" في غرة شهر رمضان، سنة ثلاث عشرة وخمس مئة، وفرغ منه في غرة المحرم، سنة خمس عشرة وخمس مئة، وكان قد سافر إلى مكة - حرسها الله تعالى -، وجاور بها زمانا، فصار يقال له: جار الله، وكان هذا الاسم عَلَماً عليه.

وكانت إحدى رجليه قد سقطت من برد شديد وثلج أصابه في

(1) في الأصل: "جبل"، والصواب المثبت.

ص: 231

بعض أسفاره ببلاد خُوارزم، وكان يمشي في خُفّ خشب، وكان بيده محضر فيه شهادة خلق كثير ممن اطلعوا على حقيقة ذلك، خوفًا من أن يظن به من لم يعلم صورة الحال أنها قطعت لريبة، والثلج والبرد كثيراً ما يوقر في الأطراف في تلك البلاد، فيسقطها، خصوصا بخوارزم.

وكان الزمخشري معتزليَّ الاعتقاد، يُظاهر به، حتى نُقل عنه: أنه كان إذا قصد صاحبا له، واستأذن عليه في الدخول، يقول لمن يأخذ له الإذن: قل له: أبو القاسم المعتزلي بالباب.

وأول ما صنف "الكشاف" كتب استفتاح الخطبة: الحمد لله الذي خلق القرآن.

فقيل له: متى تركته على هذه الهيئة، هجره الناس، ولا يرغب فيه أحد، فغيَّره بقوله: الحمد لله الذي جعل القرآن. والجعلُ عندهم بمعنى: الخلق.

والبحث في ذلك يطول، وفي كثير من النسخ: الحمد لله الذي أنزل القرآن، وهذا إصلاح الناس، لا إصلاح المصنف.

ومما أنشده لغيره في كتابه "الكشاف" عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26].

فإنه قال: أنشدت لبعضهم:

يَا مَنْ يَرَى مَدَّ البَعُوضِ جَنَاحَهَا

فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ البَهِيمِ الأَلْيَلِ

ص: 232

وَيَرَى مَنَاطَ عُرُوقِهَا فِي نَحْرِهَا

وَالمُخَّ فِي تِلْكَ العِظَامِ النُّحَّلِ

وَيَرَى خَرِيرَ دِمَائِهَا فِي جِلْدِهَا

مُتَنَقِّلاً مِنْ مَفْصِلٍ فِي مَفْصِلِ

امْنُنْ عَلَيَّ بِتَوْبَةٍ أَمْحُو بِهَا

مَا كَانَ مِنِّي فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ

وُلِدَ الزمخشري يوم الأربعاء، السابع والعشرين من رجب، سنة سبع وستين وأربع مئة بزمخشر - قرية من قرى خُوارزم -، وتوفي في ليلة عرفة، سنة ثمان وثلاثين وخمس مئة بجرجانية خُوارزم بعد رجوعه من مكة.

* * *

409 -

أبو القاسم محمود بن ناصر الدولة أبي منصور سُبُكْتِكين: الملقب أولاً: سيف الدولة، ثم لقَّبه الإمامُ القادر بالله لمَّا سلطنه بعد موت أبيه: يمينَ الدولة، وأمينَ الملة، واشتهر به، وانتظم له الأمر، وملك بلاد خراسان في سنة تسعين وثلاث مئة، وثبت له الملك، وأرسل له الإمام القادر خلعة السلطنة، ولقَّبه بالألقاب المذكورة، واتفقت له الأمور عن آخرها، وفرض على نفسه في كل عام غزوَ الهند.

ثم إنه ملك سجِستان سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة، ولم يزل يفتح بلاد الهند حتى انتهى إلى ما لم يبلغه غيرُه في الإسلام، وبنى بها

ص: 233

مساجد وجوامع، وكسر الصنم المعروف عند الهنود أنه يُحيي ويُميت ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويأتونه من كل فجٍّ عميق.

وكان مشغول اللسان بالذكر والقرآن، خضعت له الملوك، ومهدت له البلاد، وحَسُن ذكرُه، وكان على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان مولَعًا بعلم الحديث، ثم أعرض عن المذهب المشار إليه، وتمسَّك بمذهب الشافعي.

ومناقبه كثيرة، وسيرته من أحسن السير.

وُلِدَ ليلة عاشوراء، سنة إحدى وستين وثلاث مئة، وتوفي في شهر ربيع الأول (1)، سنة إحدى، وقيل: اثنتين وعشرين وأربع مئة بغزنة.

وقام بالأمر من بعده ولدُه محمد بوصيةٍ من أبيه، وكان سيء التدبير، فاجتمع الجند على عزله، وتفويض المُلْكِ إلى أخيه أبي سعيد مسعود، ففعلوا ذلك، وقبضوا عليه، وحملوه إلى قلعة سُبُكْتِكِين - بضم السين المهملة، والباء الموحدة، وسكون الكاف، وكسر التاء المثناة من فوقها والكاف الثانية -، وتفسير ذلك: ورقتان خضراوتان، وهو معنى قوله تعالى في سورة الرحمن:{مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64].

* * *

410 -

أبو السمط مروان، وقيل: أبو الهيذام (2) بن أبي حفصة

(1) في "وفيات الأعيان"(5/ 180): "الآخر".

(2)

في الأصل: "أبو المقدام"، وفي "وفيات الأعيان" (5/ 189):"أبو الهندام".

ص: 234

سليمان بن يحيى بن أبي حفصة، الشاعرُ المشهورُ: كان من الشعراء المجيدين، والفحول المتقدمين.

ولد سنة خمس ومئة، وتوفي سنة إحدى وثمانين ومئة ببغداد، ودفن في مقبرة نصر بن مالك الخزاعي، وحَفَدَهُ مروان الأصغر هو: أبو السمط مروان بن أبي الحتوف بن مروان الأكبر المذكور، وكان في عصره من المشاهير المتقدمين.

* * *

411 -

أبو العز مظفر (1) بن إبراهيم بن جماعة بن علي بن شامي ابن أحمد بن ناهض، العيلاني، الحنبليُّ المذهب، الملقب: موفق الدين، الشاعرُ المشهورُ المصريُّ: كان أديباً شاعراً، صنَّف في العَروض مختصراً جيداً، وله ديوان شعر رائق، وكان ضريراً، ومن شعره:

قَالُوا عَشِقْتَ وَأَنْتَ أَعْمَى

ظَبْيًا كَحِيلَ الطَّرْفِ أَلْمَى

وَحُلَاهُ مَا عَايَنْتَهَا

فَتَقُولُ: قَدْ شَغَلَتْكَ وَهْمَا

فَأَجَبْتُ إِنِّي مُوسَوِيُّ

العِشْقِ إِنْصَاتًا وَفَهْمَا

أَهْوَى بِجَارِحَةِ السَّمَاعِ

وَلَا أَرَى ذَاتَ المُسَمَّى

ولد بمصر، لخمسٍ بقين من جمادى الآخرة، سنة أربع وأربعين وخمس مئة، وتوفي بها سَحَرَ يوم السبت، التاسع من المحرم، سنة

(1) في الأصل: "المظفر"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 263).

ص: 235

ثلاث وعشرين وست مئة، ودفن من الغد بسفح المُقَطَّم.

* * *

412 -

أبو مسلم معاذ بن مسلم الهرا (1)، النحويُّ الكوفيُّ: من موالي محمد بن كعب القرظي، قرأ عليه الكسائي، وروى الحديث، وحُكيت عنه في القراءات حكايات كثيرة، وصنف في النحو كثيراً، ولم يظهر له شيء من التصانيف، وله شعر كشعر النحاة، وكان في عصره مشهوراً بالعمر الطويل، وكان له أولاد وأولادُ أولادٍ، فمات الكل وهو باق.

وقال عثمان بن أبي شيبة: رأيت معاذ بن مسلم الهرا (2) وقد شدَّ أسنانه بالذهب من الكِبَر، توفي سنة تسعين ومئة، وقيل: في السنة التي نكُبت فيها البرامكة، وهي سنة سبع وثمانين، وهو الأصح، وكان يكنى: أبا مسلم، فولد له ولد سماه: علياً، فصار يُكنى به.

* * *

413 -

القاضي أبو الفرج المُعَافَى بن زكريا بن يحيى بن حميدي (3) ابن حماد، المعروف بابن طرارا الجريري، النهروانيُّ: كان فقيهاً أديباً

(1) في الأصل: "الفرا".

(2)

في الأصل: "الفرا".

(3)

في الأصل: "حمد"، والمثبت من "وفيات الأعيان"(5/ 221).

ص: 236

شاعرًا، عالماً بكل فن، ولي القضاء ببغداد بباب الطاق نيابة عن ابن صبر، روى عن جماعة من الأئمة، وروى عنه جماعة.

وكان أبو محمد عبد الباقي يقول: إذا حضر القاضي أبو الفرج: قد حضرت العلوم كلها، ولو أوصى رجل بثلث ماله لأعلمِ الناس، لوجبت أن تُدفع لأبي الفرج المعافى.

وكان ثقة، وله شعر حسن، فمن ذلك:

أَلَا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِداً

أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْتَ الأَدَبْ

أَسَأْتَ عَلَى اللهِ فِي فِعْلِهِ

لِأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ

فَجَازَاكَ عَنْهُ بَأَنْ زَادَنِي

وَسَدَّ عَلَيْكَ وُجُوهَ الطَّلَبْ

ولد يوم الخميس، لسبعٍ خلون من رجب، سنة ثلاث، وقيل خمس وثلاث مئة، وتوفي يوم الاثنين، الثامن والعشرين (1) من ذي الحجة، سنة تسعين وثلاث مئة بالنهروان - رحمه الله تعالى -.

* * *

414 -

أبو محفوظ معروف بن فيروز، الكرخيُّ، الصالحُ المشهور: هو من موالي علي بن موسى الرضا، وكان أبواه نصرانيين، وأسلماه إلى مؤدب أولاد النصارى وهو صبي، فكان المؤدب يقول له: قل ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فيضربه المؤدب ضرباً

(1) في "وفيات الأعيان"(5/ 224)"عشر" مكان "والعشرين".

ص: 237

مبرحاً، فهرب منه، فكان أبواه يقولان: ليته يرجع إلينا على أي دين شاء نوافقه عليه، ثم إنه أسلم على يد علي بن موسى الرضا، ورجع إلى أبويه.

وكان مشهوراً بإجابة الدعاء، وأهلُ بغداد يستسقون بقبره، ويقولون: قبر معروف تِرياقٌ مجرَّب.

وكان سَرِيٌّ السَّقَطي تلميذه، فقال له يوماً: إذا كان لك إلى الله حاجة، فأقسمْ عليه بي.

وأخباره ومحاسنه أكثرُ من أن تعد.

وتوفي في سنة مئتين، وقيل: إحدى ومئتين (1)، وقبره مشهور ببغداد يزار، ورئي له منامات عظيمة.

والكَرْخِي - بفتح الكاف، وسكون الراء المهملة، وكسر الخاء المعجمة، وسكون الياء في آخرها -: هذه نسبة إلى الكرخ وهو اسم لتسع مواضع، أشهرُها كرخُ بغداد، والصحيح أن معروفاً الكرخي منه، وقيل: من كرخ جدان، وهي بُليدة في العراق.

* * *

415 -

المعز بن باديس بن المنصور بن بلكين (2)، ويعرف بباديس ابن زيري، الحميريُّ الصنهاجيُّ: صاحب إفريقية وما والاها من بلاد

(1) في الأصل: "وتوفي سنة ثلاثين. وقيل: إحدى وثلاثين ومئتين"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 233).

(2)

في الأصل: "بلبكين"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 233).

ص: 238

المغرب، وكان الحاكمُ صاحمبُ مصر لقَّبه: شرف الدين، وأرسل إليه تشريفاً.

وكان ملكا جليلاً، عالي الهمة، محبا لأهل العلم، كثير العطاء، وكان مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه بإفريقية أظهرَ المذاهب، فحمل المعز المذكور جميع أهل المغرب على التمسك بمذهب الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، وحسم مادة الخلاف في المذاهب، واستمر الحال في ذلك إلى الآن.

وكان قطعَ خطبة المستنصر بالله العُبيدي، وخلع طاعته، وخطب للإمام القائم بأمر الله خليفةِ بغداد، واستمر على قطع الخُطبة، ولم يخطب بعد ذلك لإفريقية لأحد من المصريين إلى اليوم.

وأخباره كثيرة.

ولد بالمنصورية من أعمال إفريقية يوم الخميس، لخمسٍ بقين من جمادى الأولى، سنة ثمان وتسعين وثلاث مئة، وبويع بالمحمدية من أعمال إفريقية بعد أبيه باديس يوم السبت، لثلاثٍ مضين (1) من ذي الحجة، سنة لست وأربع مئة، وتوفي رابع شعبان، سنة أربع وخمسين وأربع مئة بالقيروان بمرض ضعف الكبد.

وهذا المعز لا يعرف له اسم [سوى المعز].

* * *

(1) في الأصل: "بقين"، والمثبت من "وفيات الأعيان"(5/ 334).

ص: 239

416 -

أبو الوليد معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدةَ بن مطر بن شريك، الشيبانيُّ: كان جوادًا شجاعاً، جَزِلَ العطاء، كثير المعروف، مقصوداً، وكان في أيام بني أمية مشتغلاً في الولايات، فلما انتقلت الدولة إلى بني العباس، جرى بين أبي جعفر المنصور، وبين يزيدَ بن هُبيرة الفزاري أمير العراقين من محاصرته بمدينة واسط، فلما قتل يزيد، خاف معنٌ من المنصور، واستتر عنه؛ لأنه كان منقطعًا إلى يزيد، وجرى له في مدة استتاره غرائب، ولم يزل مستتراً حتى كان يوم الهاشمية، وهو يوم مشهور، ثار فيه جماعة من أهل خراسان على المنصور، وجرت بينهم مَقْتَلَة وبين أصحاب المنصور بالهاشمية، وهي التي بناها السفاح بالقرب من الكوفة، وكان معن متوارياً بالقرب منهم، فخرج متنكِّراً متلثماً، وتقدم إلى القوم، وقاتل بين يدي المنصور قتالاً شديداً أبان فيه عن نَجْدة وشهامة وفَرَّقهم، فلما أفرج عن المنصور قال: مَنْ أنت ويحك؟ فكشف عن لثامه، وقال: أنا طُليبك يا أمير المؤمنين معنُ بن زائدة، فأمَّنه المنصور، وأكرمه، وحيَّاه وزيَّنه، وصار من جملة خواصه.

ولمعنٍ أشعار كثيرة، وأكثرها في الشجاعة، ومن كلامه:

إَنَّ الأَكَابِرَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً

وَلَا تَرَى لِلِئَام النَّاسِ حُسَّادَا

وله أخبار ومحاسن كثيرة، وكان قد ولي سجستان في أواخر عمره، وانتقل إليها، وله فيها آثار وماجَرَياتٌ، قصده الشعراء بها، فلما كان سنة إحدى وخمسين ومئة، كان في داره صنَّاع يعملون له شغلاً، واندسَّ

ص: 240

بينهم قوم من الخوارج، فقتلوه وهو يحتجم، ثم تبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة، فقتلهم بأسرِهم، وكان قَتْلهُ بمدينة بُسْت، رثاه الشعراء بأحسنِ المراثي - رحمه الله تعالى، وعفا عنه -.

* * *

417 -

أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير، الأزديُّ بالولاء، الخراسانيُّ المروزيُّ: أصله من بَلْخ، وانتقل إلى البصرة، ودخل بغداد، وحدَّث بها، وكان مشهورًا بتفسير كتاب الله تعالى، وكان من العلماء الأجلاء.

وحُكي عن الشافعي رضي الله عنه: أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة: مُقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام.

وروي: أن أبا جعفر المنصور كان جالسًا، فسقط عليه الذباب، فطيَّره، فعاد إليه، وألحَّ عليه، وجعل يقع على وجهه، وأكثرَ من السقوط عليه حتى أضجره، فقال المنصور: انظروا من بالباب، فقيل له: مقاتل ابن سليمان، فقال: عليَّ به، فلما دخل عليه، قال له: هل تعلم لماذا خلق الله تعالى الذباب؛ قال: نعم، ليذل الله تعالى به الجبابرة، فسكت المنصور.

وقد اختلف العلماء في أمره، فمنهم من وافقه في الرواية، ومنهم من نسبه إلى الكذب.

ص: 241

وقال أبو عبد الرحمن النسائي: الكذَّابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بن سليمان بخراسان، ومحمد بن سعيد المعروف بالمصلوب بالشام.

وقال البخاري: مقاتل بن سليمان ليس حديثه بشيء.

وقال أحمد بن حنبل: مقاتل بن سليمان صاحب التفسير ما يعجبني أن أروي عنه شيئاً.

والكلام في حقه كثير، والله متولي السرائر.

* * *

418 -

أبو حسان المقلد بن المسيب بن رافع بن المقلد بن جعفر ابن عمرو (1) بن المُهَنَّا عبد الرحمن بن زيد، العقيليُّ، الملقب: حسام الدين، صاحبُ الموصل: كان أخوه أبو الدؤاد محمدُ بن المسيب أولَ من تغلَّب على الموصل وملكَها من أهل هذا البيت، وذلك في سنة ثمانين وثلاث مئة، فلما مات أبو الدؤاد في سنة سبع وثمانين، قام أخوه المقلد المذكور من بعده، وكان أعور، وفيه عقل وسياسة وحسن تدبير، واتسعت مملكته.

ولقبه الإمام القادر بالله، وكناه، وأنفذ إليه باللواء والخِلَع، وكان

(1) في الأصل: "عمر"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 360).

ص: 242

فيه فضل ومحبة لأهل الأدب ونظم الشعر.

وبينما هو في مجلس أُنْسِهِ وهو بالأنبار، إذ وثب عليه غلام تركي، فقتله في صفر، سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة، وحُكي أن هذا الترير سمعه وهو يقول لرجل ودَّعه وهو يريد الحج: إذا جئت ضريحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قفْ عنده، وقل له عني: لولا صاحبُك، لزرتُك.

* * *

419 -

أبو الحسن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب: أحد الأئمة الاثني عشر، كان يدعى بالعبد الصالح.

روي: أنه دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسجد سجدة في أول الليل، وهو يقول في سجوده: عظم الذنب عندي، وحسن العفو عندك، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة، وجعل يرددها حتى أصبح.

وكان سخيًا كريماً، يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه، فيبعث إليه الصرة فيها ألف دينار، وكان يصر الصرر ثلاث مئة دينار، وأكثر وأقل، ثم يقسمها بالمدينة.

وكان يسكن بالمدينة، فأورده المهدي بغداد، وحبسه، فرأى في النوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: يا محمد! {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].

فأحضر موسى بن جعفر، وعانقه، وأجلسه إلى جانبه، وذكر له

ص: 243

ما رأى، وقال له: أفتؤمني أن تخرج عليَّ أو على أَحَدٍ مِنْ أولادي؟ فقال: والله! لا فعلتُ ذلك، ولا هو من شأني، قال: صدقت، وأعطاه ثلاثة آلاف دينار، ورده إلى المدينة إلى أهله، وأقام بها إلى أيام هارون الرشيد، فقدم هارون المدينة منصرفاً من عمرة رمضان سنة تسع وسبعين ومئة، فحمل موسى معه إلى بغداد، وحبسه إلى أن توفي في محبسه.

ونقل عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، فقال له: يا موسى! حُبِسْتَ مظلومًا، فَقُل هذه الكلمات؛ فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس، فقال: بأبي وأمي ما أقول: فقال: قل يا سامعَ كلِّ صوت، ويا سابقَ كلِّ فَوْت، ويا كاسيَ العظام لحماً، يا منشرَها بعدَ الموت، أسألك بأسمائك الحسنى، وباسمك الأعظم الأكبر، المخزون المكنون الذي لا ينقطع أبداً، ولا يُحصى عدداً، فَرِّجْ عني.

وله أخبار ونوادر كثيرة.

ولد يوم الثلاثاء قبل طلوع الفجر سنة تسع وعشرين ومئة، وقيل: سنة ثمان وعشرين بالمدينة، وتوفي لخمسٍ بقين من رجب، سنة ثلاث وثمانين ومئة، وقيل: إنه توفي مسمومًا، ودُفن في مقابر الشونيزية بخارج القبة، وقبره هناك مشهور يزار، وعليه مشهد عظيم، فيه قناديل الذهب والفضة، وأنواعُ الآلات والفرش، وهو في الجانب الغربي.

* * *

420 -

أبو الفتح موسى بن أبي الفضل يونس بن محمد [بن

ص: 244

منعة] (1) بن مالك بن محمد، الملقب: كمال الدين، الفقيهُ الشافعيُّ: تفقه بالموصل، ثم توجه إلى بغداد سنة إحدى وسبعين وخمس مئة، فتميز وتمهر، ثم صعد إلى الموصل، ودرَّس واشتهرَ وفاق القدماء، وتبحر في جمع الفنون، وجمع من العلوم ما لا يجمعه أحد، وتفرد بعلم الرياضة، وكان جماعة من الطائفة الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم، ويحل لهم مسائل "الجامع الكبير" أحسن حل، مع ما هي عليه من الإشكال المشهور.

وكان أهل الذمَّة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، ويشرح لهما هذين الكتابين شرحًا يعتوفون أنهم لا يجدون من يوضحها لهم مثله.

وكان فى كل فن كأنه لا يعرف سواه؛ لقوته فيه، وكان في الفقه والعلوم الإسلامية شيخ وقته.

كَمَالُ كَمَالِ الدِّينِ لِلعِلْمِ وَالعُلَا

فَهَيْهَاتَ سَاع فِي مَسَاعِيكَ يَطْمَعُ

إِذَا اجْتَمَعَ النُّظَّارُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ

فَغَايَةُ كُلٍّ أَنْ تَقُولَ (2) وَيَسْمَعُوا

فَلَا تَحْسَبُوهُمْ مِنْ عِنَادٍ تَطَيْلَسُوا

وَلَكِنْ حَيَارَى بِاعْتِرَافٍ تَقَنَّعُوا

(1) ما بين معكوفتين من "وفيات الأعيان"(5/ 311).

(2)

في الأصل: "يقولوا".

ص: 245

وللعماد فيه - أيضًا -:

تَجُرُّ المَوْصِلُ الأَذْيَالَ فَخْرًا

عَلَى كُلِّ المَنَازِلِ وَالرُّسُومِ

فَذَا بَحْرٌ تَدَفَّقَ وَهْوَ عَذْبٌ

وَذَا بَحْرٌ وَلَكِنْ مِنْ عُلُومِ

ولد يوم الخميس، خامس صفر، سنة إحدى وخمسين وخمس مئة، وتوفي رابع عشر شعبان، سنة تسع وثلاثين وست مئة، ودفن بالموصل.

* * *

421 -

أبو الفتح موسى بن نُصير، اللخميُّ بالولاء، صاحبُ فتح الأندلس: وكان من التابعين، وروى عن تميمٍ الداريّ، وكان عاقلًا كريمًا شجاعًا، تقيًا لله تعالى، تولَّى إفريقية والمغرب عن معاوية، ثم عن الوليد ابن عبد الملك سنة سبع وسبعين، فأرسله إليها ومعه جماعة من الجند، ففتح بلادًا كثيرة، ولم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نُصير، ووجد أكثر مدن إفريقية خالية؛ لاختلاف أيدي البربر عليها، وكانت البلاد في قحط شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة، وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء، ومعه سائر الحيوانات، وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصراخ والضجيج من كل جانب، فأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صلى، وخطب، ولم يذكر الوليدَ بنَ عبد الملك،

ص: 246

فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ فقال: هذا مقام لا ندعو فيه لغير الله عز وجل، فسُقُوا حتى رَوُوا، ثم خرج موسى غازيًا (1)، وتتبع البربر، وقتل فيهم وسبى، فلما رأى البربر ما نزل بهم، استأمنوا، وبذلوا له الطاعة، فقبل منهم، وولَّى عليهم واليا، وترك عندهم من يعلمهم القرآن وشرائع الإسلام، ورجع إلى إفريقية، ولم يبق بالبلاد من ينازعه من البربر، ولا من الروم.

فلما استقرت له القواعد، كتب إلى مولاه طارق بن زياد، وكان استعمله على طنجة وأعمالها يأمره بغزو الأندلس في جيش من البربر، وليس فيه من العرب إلا قدر يسير، فامتثل طارق أمره، وركب البحر من سبتة إلى الجزيرة الخضراء من بر الأندلس، وصعد إلى جبل يعرف اليوم بجبل طارق؛ لأنه نُسب إليه لما حصل عليه، وكان صعوده إليه يوم الاثنين، لخمسٍ خلون من رجب، سنة اثنتين وتسعين للهجرة.

وذُكر عن طارق: أنه كان نائمًا في المركب وقت التعدية (2)، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يمشون على الماء حتى مروا، فبشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، وأمره بالرفق بالمسلمين، والوفاء بالعهد، ولما حلَّ طارق بالجبل، كتب إلى موسى بن نُصير: إني فعلت ما أمرتني، سهَّل الله تعالى لي الدخول، فندم موسى على تأخره، وعلم أنه إن فتح، نُسب

(1) في الأصل: "غارقًا".

(2)

في الأصل: "المتعدية"، والمثبت من "وفيات الأعيان"(5/ 320).

ص: 247

الفتح إليه دونه، فجمع العساكر، وتبعه فلم يدركه إلا بعد الفتح.

وكان أول من اختطها: أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام، فسميت باسمه، ولم يزل طارق يفتح، وموسى معه، إلى أن بلغ إلى الخليفة، وهو على جانب البحر المحيط.

ونقم موسى على طارق إذ عبر بغير إذنه، وسجنه وهَمَّ بقتله، ثم ورد عليه كتاب الوليد بإطلاقه، وخرج معه إلى الشام، وكان خروج موسى من الأندلس وافدًا على الوليد، فأخبره بما فتح الله على يده، وما معه من الأموال في سنة أربع وتسعين للهجرة، ولمَّا وصل موسى إلى الشام، مات الوليد بن عبد الملك، وقام من بعده سليمان أخوه، وحج في سنة تسع وتسعين للهجرة، وحج معه موسى بن نصير، ومات في الطريق بوادي القُرَى.

وكانت ولادته في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة تسع عشرة للهجرة.

* * *

422 -

أبو عمران موسى بن عبد الملك، الأصفهانيُّ، صاحبُ ديوان الخراج: كان من جملة الرؤساء، وفضلاء الكتاب وأعيانهم، تنقَّل في الخدمة في أيام جماعة الخلفاء، وكان صاحبَ ديوان السواد وغيره في أيام المتوكل، وكان مترسِّلاً، وله ديوان رسائل، وله شعر رائق، فمن ذلك قوله:

ص: 248

لَمَّا وَرَدْنَا القَادِسِيَّةَ

حَيْثُ مُجْتَمَعُ الرِّفَاقِ

وَشَمَمْتُ مِنْ أَرْضِ الحِجازِ

نَسِيمَ أَنْفَاسِ العِرَاقِ

أَيْقَنْتُ لِي وَلِمَنْ أُحِبُّ

بِجَمْعِ شَمْلٍ وَاتِّفَاقِ

وَضَحِكْتُ مِنْ فَرَحِ اللِّقَاءِ

كَمَا بَكَيْتُ مِنَ الفِرَاقِ

لَمْ يَبْقَ إِلَاّ جِسْمُ

هَذِهِ السَّبع السَّوَاقِي

حَتَّى يَطُولَ حَدِيثُنَا

بِصِفَاتِ مَا كُنَّا نُلَاقِي

والقادسية: قرية من قرى الكوفة، وبها كانت الوقعة المشهورة زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولموسى المذكور أخبار كثيرة، توفي في شوال، سنة ست وأربعين ومئتين - رحمه الله تعالى -.

* * *

423 -

أبو سعيد المؤيد بن محمد بن علي بن محمد، الألوسيُّ، الشاعرُ المشهور: وكان من أعيان شعراء عصره، كثير الغزل والهجاء،

ص: 249

ومدح جماعة من رؤساء العراق، وله ديوان شعر، وله قبول حسن، واقتنى أملاكًا وعقاراً، ثم عثر به الدهر عشرة، ضعُف منها انتقاشُه، وبقي في حبس الإمام المكتفي أكثر من عشر سنين إلى أن خرج في أول خلافة الإمام المستنجد، سنة خمس وخمسين وخمس مئة، وقد غطى بصره من ظلمة المطمور.

وله شعر حسن، فمن ذلك: قوله في وصف القلم:

وَمُثَقَّفٍ يُغْنِي وَيُفْنِي دَائِمًا

فِي طوري المِيعَادِ والإيْعَادِ (1)

وَهَبَتْ لَهُ الآجَامُ حِينَ نَشَابِهَا

كَرَمَ السُّيُولِ وَهَيْبَةَ الآسَادِ

وكان خروجه من بغداد سنة ست وخمسين وخمس مئة.

وحكى: أن المستنجد رأى في منامه في حياة والده المقتفي كأن مَلَكًا من السماء كتب في كفه أربع خاءات، فلما استيقظ، طلب مُعَبِّرَ الرؤيا، فقال له: تلي الخلافة في سنة خمس وخمسين وخمس مئة، وكان الأمر كذلك.

* * *

(1) في الأصل: "طرفي الإيعاد والإبعاد"، والمثبت من "وفيات الأعيان"(5/ 347).

ص: 250

424 -

أبو سعيد المهلَّبُ بن أبي صُفرة ظالم بن سراق بن صبح ابن كندي بن عمرو بن عدي، الأزديُّ البصريُّ: وفد أبو صفرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو شيخ أبيضُ الرأس واللحية، فأمره أن يخضِبَ، فخضب، وقد ولد له المهلَّب، وهو من أصاغر ولده قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم[بسنتين، وولد له قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم](1) بثلاثين سنة وأكثر.

وكان المهلب من أشجع الناس، وحمى البصرةَ من الخوارج، وله معهم وقاخُ مشهورة بالأهواز، وكان سيداً جليلاً، وكان يعارض الخوارج بالكلمة، ويورِّي بها عن غيرها، ويُرهب بها الخوارج، فكانوا يسمونه: الكذَّاب، ويقولون: راح يكذب.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد حرباً، وَرَّى بغيرها عنها.

وكان فقيهًا عالمًا بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "كُلُّ كَذَّابٍ يُكْتَبُ كَذَّابا إِلَّا ثَلَاثَةً: الكَذِبُ في الصُّلْحِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَكَذِبُ الرَّجُلِ لاِمْرَأَتِهِ يَعِدُهَا بِالكَذِبِ، وَكَذِبُ الرَّجُلِ بِالحَرْبِ يَتَوَعَّدُ وَيَتَهَدَّدُ"(2).

وأخباره كثيرة، وتقلبت به الأحوال، وآخر ما ولي خراسان من جهة

(1) ما بين معكوفتين من "وفيات الأعيان" لابن خلكان (5/ 351).

(2)

في "صحيح مسلم"(2605)، و"سنن أبي داود"(4921) واللفظ له، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرِّخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا أعدُّه كاذبًا؛ الرجل يصلح بين الناس يقول القول ولا يريد به إلا الإصلاح، والرجل يقول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها".

ص: 251

الحجاج بن يوسف الثقفي، فإنه كان أميرَ العراقين، وضمَّ إليه عبد الملك خراسانَ، فاستعملَ عليها المهلبَ سنة تسع وسبعين للهجرة، واستمر بها إلى أن مات، وعهد إلى ولده يزيد، فأوصاه بقضايا وأسباب، من جملة ما قال له: يا بُنَي! استعقلِ الحاجب، واستظرفِ الكاتب، فإن حاجبَ الرجل وجهُه، وكاتبه لسانُه.

ثم توفي في ذي الحجة، سنة ثلاث وثمانين للهجرة بقرية يقال لها: زاغول (1)، ورثاه الشعراء، وخلَّف أولاداً نجباء كرماءَ أجواداً.

ويقال: إنه وقع على الأرض من صلبه ثلاث مئة ولد، وله عقب بخراسان يقال لهم: المهالبة، وفيهم يقول بعض شعراء الحماسة:

نَزَلْتُ عَلَى آلِ المُهَلَّبِ شَاتِياً

بَعِيداً عَنِ الأَوْطَانِ فِي زَمَنِ المَحْلِ

فَمَا زِلْتُ فِي مَعْرُوفِهِمْ وَافْتِقَادِهِمْ

وَبِرِّهِمُ حَتَّى حَسِبْتُهُمُ أَهْلِي

* * *

425 -

أبو الحسن مَهْيار بن مَرْزَوَيه (2)، الكاتبُ الفارسيُّ الديلميُّ الشاعرُ المشهورُ: كان مجوسياً، وأسلم، ويقال: إن إسلامه على يد

(1) في الأصل: "راعون"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 353).

(2)

في الأصل: "مردويه"، والتصويب من "وفيات الأعيان"(5/ 359).

ص: 252

الشريف الرضي أبي الحسن محمد الموسوي، وهو شيخه.

وكان شاعراً جزلَ القول، مقدَّمًا على شعراء وقته، ومن شعره:

أَرِقْتُ فَهَلْ لِهَاجِعَةٍ بِسَلْعٍ

عَلَى الأَرِقِينَ أَفْئِدَةٌ تَرِقُّ

نَشَدْتُكَ بالمَوَدَّةِ يَا بْنَ وُدِّي

وَأَنَّكَ بِي مِنِ ابْنِ أَبِي أَحَقُّ

أَسِلْ بِالجِزْعِ دَمْعَكَ إِنَّ عَيْنِي

إِذَا اسْتَبْرَرْتُها دَمْعًا تَعِقُّ

فَإِنْ شَقَّ البُكَاءَ عَلَى المُعَافَى

فَلَمْ أَسْأَلْكَ إِلَا مَا يَشُقُّ

توفي ليلة الأحد، لخمسٍ خلون من جمادى الآخرة، سنة ثمان وعشرين وأربع مئة، وفي تلك السنة توفي الرئيس علي بن سينا الحكيمُ المشهور، وقيل: إنه توفي سنة ست وعشرين، والأول أصح.

ومهيارُ، ومَرْزَوَيه: اسمان فارسيان، قال ابن خلكان: لا أعرف لهما معنى.

* * *

426 -

أبو الفتح، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن سيد الناس، الأندلسيُّ الإشبيليُّ، ثم المصريُّ الشافعيُّ: ولد

ص: 253

بالقاهرة سنة إحدى وسبعين وست مئة، وكان إمامًا حافظًا، مصنفًا شاعرًا، ومصنفاته في عدة فنون، وشرع في شرح "جامع الترمذي"، فما أكمله؛ لأن الأجل أعجله وما أمهله، ودخل عليه واحد من الإخوان يوم السبت، حادي عشر شعبان، سنة أربع وثلاثين وسبع مئة، فقام لدخوله، ثم سقط من قامته، فلقف ثلاث لقفات، ومات من ساعته رحمه الله.

* * *

427 -

محمد بن وفا الشاذليُّ، الشيخُ الصالح صاحبُ الأَتباع والمعتقدين: وهو جد بني وفاء المصريين، توفي في ربيع الآخر، سنة خمس وستين وسبع مئة.

* * *

428 -

بدر الدين أبو المعالي محمد الإمام البارع ابن الإمام العلامة تقي الدين أبي الفتح محمد ابن القاضي قطب الدين عبد اللطيف بن صدر الدين علي بن تمام، الأنصاريُّ السبكيُّ:

مولده بالقاهرة سنة خمس، أو أربع، أو لست وثلاثين وسبع مئة، وحصَّل عدة فنون، وكان له همة عالية في الطلب، حسنَ العبارة في التدريس، وولي قضاء العسكر، وناب لخاله تاج الدين، وكان شابًا حسنَ الشكل، والناس مجتمعون على محبته، توفي بالقدس الشريف في

ص: 254

شوال، سنة إحدى وسبعين وسبع مئة (1)، ودفن بباب الرحمة.

* * *

429 -

الأمير سيف الدين منجك، الناصريُّ اليوسفيُّ: أصله من مماليك الملك الناصر، وتقلبت به الأحوال، وولي حاجبَ الحجَّاب بدمشق، ثم صار مقدَّمًا بمصر، ووزيراً، ثم قُبض عليه في شوال سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، وسُجن بالإسكندرية، ثم أطلق، ثم ولي نيابة صفد، ثم طرابلس، ثم حلب، ثم دمشق، ثم أعيد إلى نيابة صفد، ثم طلب إلى مصر، فهرب، واختفى نحو سنة، ثم ظهر بدمشق، فحُمل إلى مصر، وأطلق إلى القدس، فعمَّر هناك مدرسته المعروفة بالقرب من باب الناظر على المسجد الأقصى، ثم ولي دمشق، ثم طُلب إلى مصر في شوال، سنة خمس وسبعين وسبع مئة، وله المآثر والصدقات، وله الأوقاف، وعَمَّر المدارس والخوانق والخانات، ويقال: إنه ظفر بشَعَر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا يفارقه، توفي بالقاهرة في ذي الحجة، سنة ست وسبعين وبسبع مئة عن بضع وستين سنة، ودفن بتربته عند خانقاناته وجامعه بالقرب من قلعة الجبل.

* * *

430 -

قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عبد البر بن

(1) في الأصل: "توفي بالقدس الشريف في شوال سنة خمس وستين وسبعمائة"، والتصويب من "شذرات الذهب"(6/ 223).

ص: 255

يحيى بن علي بن تمام، السبكيُّ الأنصاريُّ المصريُّ الدمشقيُّ الشافعيُّ: ولد في شهر ربيع الأول، سنة سبع وسبع مئة، وتفقه، وروى الحديث عن جماعة بمصر والشام، ودرَّس بمصر، ثم انتقل إلى دمشق، وناب في الحكم، ثم ولي قضاء الشام مدة، ثم سكن القاهرة، وولي قضاء العسكر، وناب في الحكم بمصر، ثم استقل بالقضاء نحو سبع سنين، ثم درَّس بقبَّة الشافعي رضي الله عنه، ثم ولي في آخر عمره قضاء الشام، وباشره، وتوفي في ربيع الآخر، سنة سبع وسبعين وسبع مئة، وله سبعون سنة كاملة، ودفن بسفح قاسيون بتربة القاضي تاج الدين - رحمه الله تعالى -.

* * *

431 -

أبو عبد الله محمد شمس الدين الشيخ العلامة بن يوسف ابن علي، الكرمانيُّ، ثم البغداديُّ الشافعيُّ: ولد في جمادى الآخرة، سنة سبع عشرة وسبع مئة، أخذ عن والده وجماعةٍ بكرمان، ثم طاف البلدان، واستوطن بغداد، وشرح "البخاري" شرحاً جيداً في أربع مجلدات، وكان مشاراً إليه بالعراق، لا يتردد إلى أبناء الدنيا، قانعاً باليسير، شريف النفس، توفي آيبًا من الحج في المحرم، سنة ست وثمانين وسبع مئة، ونقل إلى بغداد، ودفن بمقبرة أبرز بوصية منه في موضع أعده لنفسه، ثم بنى عليه ابنه قبة.

وأما ولده تقي الدين يحيى، فمولده سنة اثنتين وستين وسبع مئة، وله مصنفات جيدة، وحصل له بعد الدولة المؤيدية خمول، ومات في

ص: 256

جمادى الآخرة، سنة ثلاث وثلاثين وثمان مئة.

* * *

432 -

قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن القاضي خير الدين خليل الحنفي، المتقدم ذكر والده في حرف الخاء.

مولده في سنة خمس وثمانين وسبع مئة، باشر نيابة الحكم بالقدس الشريف، ثم ولي القضاء استقلالاً وطالت مُدَّتُه، وباشر بشهامة، وكان له إقدام وسطوة، وعُزِلَ عن القضاء في سنة إحدى وخمسين وثمان مئة، واستمر إلى أن توفي مسمومًا في أحد الجمادين سنة خمس وخمسين وثمان مئة، ودفن عند والده بماملا - رحمه الله تعالى -.

433 -

أكمل الدين محمد الشيخ العالم بن محمد بن محمود، الروميُّ المصريُّ الحنفيُّ، شيخ الخانقاه الشيخونية، ومدرِّس الحنفية بها: كان له وجاهة عند الأمير شيخون، وولَاّه مشيخة خانقاته، ولما أراد أن يجلس في المشيخة، قام الأمير بنفسه، وبسط له السجادة، وازدادت حرمته باتصاله بالملك وأكابر الأمراء، ونفذت كلمته، حتى إن الملك الظاهر كان يقف على باب الخانقاه حتى يخرج إليه ويحدثه.

وله مؤلفات مفيدة في فنون عديدة، ودفن بتربة الأمير شيخون إلى جانبه، وحضر جنازته السلطان فمَنْ دونَه في سنة ست وثمانين وسبع مئة.

* * *

ص: 257

434 -

أبو عبد الله محمد شمس الدين بن الخطيب: الإمام العلامة، فقيهُ القدس ومفتيه على مذهب الشافعي، وعليه انتفع فقهاء بيت المقدس، وأخذ عنه الشيخ سعد الدين الديريُّ الأصولَ، وأخذ عنه غيره من العلماء علومًا كثيرة.

توفي بالمدينة النبوية، ودفن بالبقيع في سنة ست وثمانين وسبع مئة.

* * *

435 -

القاضي بدر الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن شجرة، التدمريُّ الأصل، الشيخُ الفقيهُ الدمشقيُّ الشافعيُّ: ولي القضاء بمعاملات الشام، وآخر ما ولي قضاء القدس في أيام البلقيني، وشكاه أهل القدس، فعُزِل، وقدم دمشق، وكان يفهم جيداً، وله قدرة على استخراج المسائل والحوادث من أصولها، توفي في ربيع الأول، سنة سبع وثمانين وسبع مئة، وهو في عشر السبعين.

* * *

436 -

الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان، الذهبيُّ: الحافظ الكبير، مؤرخ الإسلام، صاحب التصانيف المشهورة المفيدة.

ولد في ربيع الآخر، سنة ثلاث وسبعين وست مئة، وتوفي في

ص: 258

ثالث ذي القعدة، سنة ثمان وأربعين وسبع مئة رحمه الله.

* * *

437 -

أبو عبد الله محمد الشيخ الصالح الزاهد بن أحمد بن عثمان ابن عمر التركستانيُّ الأصل، المعروف بالقرمي: كان أحد أفراد زمانه عبادةً وزهدًا وورعًا، متصديًا لزيارة الأولياء القادمين من البلاد على القدس، وتأتي الملوك إلى أبوابه، ولم يكن في زمانه أشهر بالصلاح منه.

وله خَلَوات ومجاهدات، وكان يقرأ القرآن كثيرًا، يقرأ في اليوم والليلة ثلاث ختمات، ولما احتضر، حضر عنده الشيخ عبد الله البسطامي، فقال له: إن الناس قد أكثروا فيك القول، فما تقرأ من الختم في اليوم؟ فأخبرني قال: أنا لا أضبط ذلك، ولكن ثَمَّ من ضبط أني قرأت من الصبح إلى العصر خمس ختمات.

وكان نشأ بدمشق، ثم أقام ببيت المقدس، وبنى له زاوية، وكان يقيم في الخلوة أربعين يومًا لا يخرج إلا للجمعة، وسمع "الصحيح" من الحجار بالجامع الأموي تحت [قبة] النسر، سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، ومن غيره - أيضًا -، وكان يُسأل في الحديث، فيمتنع، ثم حدَّث في آخر عمره، سمع منه الشيخ شهاب الدين بن أرسلان، وغيرُه.

ومولده في سابع عشر ذي الحجة، سنة عشرين وسبع مئة، وتوفي بالقدس في نهار الأحد، التاسع من صفر، سنة ثمان وثمانين وسبع مئة، وحمل جنازته العلماء والمشايخ والصلحاء، ولم يتأخر بمدينة القدس

ص: 259

أحد عن دفنه.

ودُفن بزاويته بخط مرزبان بالقرب من حمام علاء الدين البصير رحمه الله، ونفعنا به -.

* * *

438 -

أبو عبد الله محمد بن يوسف القونوي الحنفي: الشيخ العالم الزاهد، شيخ الحنفية في وقته.

ولد سنة خمس، أو ست عشرة وسبع مئة، وقدم دمشق بعد الأربعين، وكان أحد العلماء الأعلام والأعيان، أفتى، وكان إمامًا في علوم كثيرة، وكان له اختيارات يخالف فيها مذهبه لأجل الحديث، وكان لا يقبل لأحد شيئًا، ولا يلي وظيفة، وكان له حرمة عند السلطان فمَنْ دونه، ويعظمونه وهو لا يلتفت إليهم، ولا يسمى أحداً إلا باسمه، ويكتب لهم الأوراق، ويخاطبهم بأسوأ خطاب، فيكتب إلى النائب تارة: إلى فلان المكاس، أو الظالم، ويكتب إلى السلطان، فيسميه باسمه.

وكان كثير من الناس لا يجتمعون به، لِلَجَاجة كلامه، وكان لا يخرج من بيته، توفي مطعونًا في جمادى الآخرة، في سنة ثمان وثمانين وسبع مئة، ودفن بمقبرة المزة بظاهر دمشق، وصنف كتاب "درر البحار" في مذهب أبي حنيفة.

* * *

439 -

برد الدين أبو اليمن محمد ابن الشيخ العلامة سراج الدين

ص: 260

أبي حفص عمر ابن الشيخ بهاء الدين رسلان بن نصر بن صالح، البلقينيُّ المصريُّ الشافعيُّ، سبطُ الشيخ بهاء الدين بن عقيل: درَّس وأفتى، وولي قضاء العسكر وغيره من المناصب، وكان كَلِفاً بالجود لا متكلفًا، مطبوعاً على مكارم الأخلاق لا متطبعًا، وله النظم البديع الرائق.

توفي بالاستسقاء في شعبان، سنة إحدى وتسعين وسبع مئة، ودفن بمدرسة والده التي أنشأها بحارة بهادر عن نيف وثلاثين سنة.

* * *

440 -

أبو عبد الله محمد بدر الدين بن مزهر: اشتغل بالعلم، وربي على طريقة حسنة، وولي كتابة السر بدمشق مرتين عشرَ سنين، ونحوَ ثمانية أشهر، وباشر بعفة ونزاهة، وكان شكلًا حسناً.

توفي بالقدس الشريف في ذي القعدة، سنة ثلاث وتسعين وسبع مئة.

* * *

441 -

أمين الدين محمد بن الحسن الأنفي، الشيخ المحدث أمين الدين، الدمشقيُّ المالكيُّ: قرأ الفقه والحديث، وكان حسن الشكل، حلو العبارة.

ولد في شوال سنة ثلاث عشرة وسبع مئة، وتوفي بدمشق في سنة ثلاث وتسعين وسبع مئة.

* * *

ص: 261

442 -

أبو عبد الله محمد بدر الدين بن بهادر بن عبد الله، المصريُّ الشافعيُّ، المعروف بالزركشي: أخذ عن الشيخين: الأسنوي، والبلقيني، وانقطع إلى التصنيف، وأتم شرح "المنهاج" للأسنوي، ثم أكمل الشرح لنفسه، لكن الربع الأول منه مسودة، وله مصنفات أخرى.

ولد سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وتوفي في رجب سنة أربع وتسعين وسبع مئة، ودفن بالقرافة الصغرى.

* * *

443 -

نجم الدين محمد بن عبد الرحيم إبراهيم بن جماعة، المقدسيُّ الخطيبُ الشافعيُّ: اشتغل بالعلم، وكان من أحسن الناس شكلاً، ولي تدريس الصلاحية، ومات بعد أيام فجأة بمصر في ذي القعدة، سنة خمس وتسعين وسبع مئة، ومولده في حدود سنة خمس وعشرين.

وكان شيخًا طويلاً، صالحًا ناسكًا، كثير العبادة، أخبر عنه بعض خدام الأقصى: أنه كان يخرج في الليل من دار الخطابة هو وزوجته، فيصليان بجامع النساء طول الليل، فإذا قرب الشغل، دخلا، وهو الذي قلع عين قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة وهما صغيران يلعبان من شق الباب.

* * *

444 -

أبو المعالي، محمد صدر الدين بن شرف الدين إبراهيم

ص: 262

ابن بهاء الدين إسحاق بن إبراهيم، المناويُّ المصريُّ: ولد في رمضان، سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، واشتغل بالعلم، وسمع الحديث، ودرَّس وأفتى، وناب في القضاء، ثم ولي القضاء في دولة مِنْطاش في شوال، سنة إحدى وتسعين وسبع مئة، ثم لما أراد منطاش الخروج إلى الشام، امتنع من الخروج، فعزل بعدَ مباشرة سبعة وأربعين يومًا، ثم ولي بعد ذلك قضاء مصر ثلاث مرات، وباشر نحو خمس سنين.

وكان رئيساً عنده كرم وقوة نفس، وكان كثير التودد إلى الناس، مُهابًا شهماً، معظَّمًا عند الخاص والعام.

وكان يهاب الملكَ الظاهر، فلما مات، أمنَ على نفسه، وتحقق أنهم لا يقدرون على عزله؛ لِمَا تقرَّر له في القلوب من المهابة، فسافر مع العسكر لقتال اللَّنك، فلما هرب السلطان، قبض عليه، وجيء بهم إلى تمرلنك، فأسره، وأهانه جدًا، وسافر به وهو في قيد، فغرق في نهر الفرات في شوال، سنة ثلاث وثمان مئة.

* * *

445 -

أبو عبد الله محمد ناصر الدين بن السفَّاح، الحلبيُّ: انتقل من حلب إلى القاهرة، وغاية أمره: أنه صار موقع الدوادار يشبك، وإليه الأمر، وعليه الاعتماد، توفي في ذي الحجة، سنة ست وثمان مئة.

* * *

446 -

أبو الفضل كمال الدين محمد، الشيخُ الإمام العالم ابن

ص: 263

موسى الدَّمِيريُّ المصريُّ: أخذ العلم عن الأسنوي وغيره، واجتهد، وحصَّل، ودرَّس، وصنَّف مصنفات حسنة، منها شرح "المنهاج" للنووي، وكتاب "حياة الحيوان"، وهو كتاب مفيد.

وكان كثير العبادة، دائمًا للصوم، عديم النظر في وقته على طريقة السلف.

ولد سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، وتوفي في جمادى الأولى، سنة ثمان وثمان مئة.

* * *

447 -

أبو عبد الله محمد الشيخ الصالح القدوة، العيزريُّ، الغَزيُّ: ومن نظمه:

عَدُوُّكَ إِمَّا مُعْلِنٌ أَوْ مُكَاتِمٌ

وَكُلٌّ بِأَنْ تَخْشَاهُ أَوْ تَتَّقِي قَمِنْ

وَزِدْ حَذَراً مِمَّنْ تَجِدْهُ مُكَاتِمًا

فَلَيْسَ الَّذِي يَرْمِيكَ جَهْرًا كَمَنْ كَمَنْ

توفي سنة ثمان وثمان مئة.

* * *

448 -

أبو عبد الله محمد بن تقي الدين إسماعيل القرقشنديُّ: الشيخ الإمام، شيخ القدس، وعالم تلك الناحية، أخذ عن والده، وصار

ص: 264

مقصد الحاضر والبادي للفتوى والأشغال، وأخذ عنه خلق كثير، ومن نظمه:

لَمْ أَرَ مِثْلِي مُذْنِباً عَاصِياً

عَلَى مَعَاصِي رَبِّهِ أَجْرَا

من الجرأة.

نَفْسِي حَرُونٌ فَإِذَا شَهْوَةٌ

لَاحَتْ فَمَا رِيحُ الصَّبَا أَجْرَا

من الجري.

إِنِّي عَلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ

أَنَالُ مِنْ رَبِّ العُلَا أَجْرَا

من الأجر.

توفي في رجب، سنة تسع وثمان مئة، ودفن بمقبرة ماملا ظاهر القدس، عند والده وأخيه في الحوش المقابل لزاوية القلندري وتربة بهادر، وقد بلغ ثلاثاً وستين سنة.

* * *

449 -

القاضي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد المغراويُّ المالكىُّ: كان رجلاً مباركاً يحفظ القرآن، ولي القضاء بالرملة مدة طويلة،

ص: 265

ثم ولي قضاء القدس في سنة أربع وخمسين وثمان مئة، وعزل مرات، وتوفي وهو باق على القضاء في نصف شعبان، سنة ثلاث وسبعين وثمان مئة، ودفن بماملا رحمه الله.

* * *

450 -

أبو عبد الله محمد أوحد الأدباء جلال الدين ابن خطيب داريا شهاب الدين أحمد بن سليمان، الأنصاريُّ الدمشقيُّ، البيسانيُّ الأصل والوفاة: ولد سنة خمس وأربعين وسبع مئة، واشتهر بالأدب ونظم الشعر الرائق، وله اشتغال في العلم، وفهمٌ جيد، وكان حسن الشكل، رَبعة، وله نوادر وأشياء حسنة، فمن نظمه:

شَهِدَتْ جُفُونُ مُعَذِّبِي بِمَلَالِهِ لِهِ

مِنِّي وَأَنَّ وِدَادَهُ تَكْلِيفُ

لَكِنَّنِي لَمْ أَنْأَ عَنْهُ لأِنَّهُ

خَبَرٌ رَوَاهُ الجَفْنُ وَهْوَ ضَعِيفُ

وله - أيضاً -:

لَكَ اللهُ إِنِّي فِي بِلَادِكَ مُفْرَدٌ

غَرِيبٌ كَمَا فِي الحُسْنِ أَنْتَ غَرِيبُ

كِلَانَا غَرِيبٌ يَا حَبِيْبِي فَرِقَّ لِي

فَكُلُّ غَرِيبٍ لِلغَرِيبِ نَسِيبُ

ص: 266

وأقام في آخر عمره مدة بالقاهرة، ثم انتقل إلى بِيْسان، وأقام بها، وكان له بها مواضع موقوفة عليه وعلى أقاربه، وله مدح في خلق من الأعيان، توفي في بيسان، في ربيع الأول، أو صفر، سنة عشر وثمان مئة.

* * *

451 -

أبو عبد الله محمد شمس الدِّين الصَّفَدي: مفتي الشافعية ومدرِّسهم، ومعيدُ المدرسة الصلاحية بالقدس، كان فَرَضياً، ويعرف النحوَ والحساب، وإنما أَخَّره تعاطيه الشهادة، توفي سنة اثنتي عشرة وثمان مئة.

* * *

452 -

الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الصالح القدوة خليفة بن مسعود، المالكيُّ: - المتقدمُ ذكرُ والده في حرف الخاء -.

ولد في ليلة ثاني عشر رمضان، سنة إحدى وثمان مئة، وحفظ القرآن وأتقنه لأبي عمرو، وحفظ "الرسالة" في فقه الإمام مالك، ولقي جماعة من مشايخ الصوفية، وأخذ الحديث عن جماعة، واستقر في إمامة المالكية بالمسجد الأقصى الشريف ومشيخة المغاربة بعد وفاة والده، وكان شيخاً أسمر، ذا همة ومروءة، وعُمِّر، ثم خرجت عنه مشيخة المغاربة في آخر عمره، وترك النساء، وتعزَّب من سنة اثنتين

ص: 267

وسبعين وثمان مئة، وتوفي ليلة الخامس عشر من شهر جمادى الآخرة، سنة تسع وثمانين وثمان مئة، ودفن بماملا - رحمه الله تعالى -.

* * *

453 -

أبو الوليد محب الدين بن محمد بن محمد بن محمد، الحلبيُّ المعروفُ بابن الشحنة، الحنفيُّ: طلب العلم وفضل، ثم ولي قضاء الحنفية بحلب، وصار ينازع ابنَ العديم في ذلك، وجرت له أمور من الدخول في أمور الدولة، وأراد السلطان الظاهر قتلَه، فنجَّاه الله، ثم في دولة الناصر صُودِرَ وأُخِذَت أمواله إلى أن افتقر، وذلك بسبب حُكْمٍ حَكَم به، ولي قضاءَ الشام في أيام الأمير شيخ، ثم قبض عليه السلطان، وعفا عنه، وأحسن إليه، واستصحبه معه إلى مصر، وحضر معه إلى دمشق، فلما قُتل السلطان، أعطي قضاء حلب، وتوجَّه صحبة الأمير نوروز، فمات هناك في ربيع الأول، سنة خمس عشرة وثمان مئة في عُشر السبعين ظناً، وكان فاضلاً في العلوم المتعلقة بالكشاف والأدب، وغير ذلك، وينظم حسناً.

* * *

454 -

أبو عبد الله بن محمد بن محمد، الجزريُّ الدمشقيُّ الأصل الشافعيُّ: ولد سنة إحدى وخمسين وسبع مئة، واعتنى بالقراءات فأتقنها، ومَهر فيها، وقدم القاهرة، وسمع من المسند ابن بهاء، وبنى بدمشق داراً للقرآن، وعُيّن لقضاء الشافعية، فلم يتم ذلك، ثم تحول إلى بلاد الروم

ص: 268

في سنة سبع وتسعين وسبع مئة، فاستمر بها إلى أن طرق تمرلنك بلاد الروم في سنة أربع وثمان مئة، ثم تحول إلى بلاد فارس، ثم ولي قضاء شيراز، ثم قدم القاهرة في سنة سبع وعشرين، وحج منها، ورجع إلى القاهرة في أول سنة تسع وعشرين، ثم سافر رسولاً من سلطان مصر إلى سلطان شيراز في ربيع الآخر من السنة المذكورة، وجاء الخبر بموته في سنة ثلاث وثلاثين وثمان مئة.

* * *

455 -

أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد، الدمشقيّ الأصل، المصريّ، الشهير بابن البشتكي: الأديب الفاضل، الناثر الناظم، ولد سنة ثمان وأربعين وسبع مئة بجوار جامع بشتك، فنسب إليه، وحفظ كتاباً في مذهب أبي حنيفة، ثم تحول إلى مذهب الشافعي، وشارك في فنون كثيرة، وإليه المنتهى في التجلد على النَّسْخ، وكانت وفاته في ثالث عشر جمادى الآخرة، سنة ثلاثين (1) وثمان مئة في حَمَّام الصاغة فجأة.

* عجيبة:

وفي هذه السنة سقط بَرَدٌ كأمثال الحية والفأرة والضفدع، وقَتل خلقاً كثيراً من الوحش وغيره، وكان ذلك ليلاً ببلاد ابن بشارة.

(1) في الأصل: "خمس وعشرين"، والتصويب من "الضوء اللامع"(6/ 278)، و"شذرات الذهب"(7/ 195).

ص: 269

* وفيها: عزل القاضي ولي الدين العراقي من قضاء الديار المصرية، وتولى القاضي علم الدين صالح البلقيني، ولم يستحسن الناس ذلك من السلطان، وتألم الناس، وتألم القاضي ولي الدين كثيراً، وكان ذلك في ذي الحجة من السنة.

وفي سابع عشر منه جاء إلى مكة المشرفة سيلٌ عظيم، ودخل المسجد، وارتفع إلى أن وصل عتبة باب الكعبة السفلى، ومات تحت الهدم الذي هدمه السيل بمكة جماعةٌ، منهم: زوجة القاضي الشافعي بنت الشيخ عفيف الدين اليافعي، وابنٌ لها - رحمهما الله تعالى -.

* * *

456 -

الشيخ ماهر بن عبد الله بن نجم، الأنصارىُّ الشافعىُّ: العالم الصالح، شيخ القدس في وقته، لقي جماعة من العلماء، وأخذ عنهم، وأصله من بلاد مصر، ثم قدم بيت المقدس، واستوطنها، واشتغل عليه جماعة من الأعيان، وانتفعوا به، منهم: شيخ الإسلام كمال الدين بن أبي الشريف، وغيره، وكان ورعاً زاهداً متواضعاً، توفي بالقدس الشريف في سلخ ربيع الأول، سنة سبع (1) وستين وثمان مئة، ودفن بباب الرحمة، وقد أكمل تسعين رحمه الله.

(1) في "الأنس الجليل"(2/ 186)"تسع".

ص: 270

457 -

قاضي القضاة شمس الدين العمري العُلَيْمِيُّ الحنبليُّ (1): هو أبو عبد الله محمد ابن الشيخ زين الدين أبي هريرة عبد الرحمن ابن الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جمال الدين يوسف بن شرف الدين عيسى ابن الشيخ تقي الدين عبد الواحد ابن الشيخ عبد الرحيم بن شمس الدين محمد ابن الشيخ عبد المجير ابن الشيخ تقي الدين عبد السلام ابن إبراهيم بن أبي الفياض ابن الشيخ الرباني القدوة العارف أبي الحسن علي المدفون بشاطئ البحر المالح بساحل أرسوف - قدس الله روحه، ونوَّر ضريحه - ابن الشيخ عليل، وهو المشهور بين الناس: علي بن عُلَيْم، وأما نسبه الصحيح الثابت: عليل - باللام -، وهذا الشيخ علي بن عليل صاحب المناقب المشهورة، والكرامات الظاهرة، ووفاته في يوم السبت، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، سنة أربع وسبعين وأربع مئة، وهو ابن محمد بن يوسف بن يعقوب بن عبد الرحمن بن السيد الجليل الزاهد، العابد الصّوام القوّام، الصحابي عبد الله رضي الله عنه ابن مولانا وسيدنا أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب العدويّ القرشي رضي الله عنه، وعن سائر أصحاب رسول الله أجمعين -.

ولد القاضي شمس الدين المشار إليه في سنة سبع (2) وثمان مئة

(1) قلت: هو والد المؤلف صاحب هذا الكتاب، ولم يشر إلى ذلك رحمه الله، كما لم يشر إلى أنه والده في كتابه الآخر "الأنس الجليل"(2/ 262) حين ترجم له.

(2)

في "الأنس الجليل"(2/ 262): "ست".

ص: 271

بالرملة، ونشأ بها، واشتغل بالعلم، وكلُّ أهل بيته شافعية، لم يكن فيهم مَنْ هو على مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه سواه.

وكان يتحمل الشهادة، ثم اجتهد في تحصيل العلم، وسافر إلى الشام ومصر وبيت المقدس، وأخذ عن علماء المذهب، وبرع في الفقه، وأخذ الحديث عن جماعة من الأعيان، وقرأ "البخاري"، و"الشفا" مراراً، وكتب بخطه الكثير من نسخ "البخاري" كتابة جيدة مضبوطة قائمة الإعراب.

وكان إماماً في النحو والفرائض، وقراءة القرآن برواية عاصم، وأتقنها، وأُجيز بها من مشايخ القراءة، وباشر القضاء بالرملة على قاعدة مذهبه نيابة عن القضاة الشافعية، ثم وليها استقلالاً في سنة ثمان وثلاثين وثمان مئة، لم يُعلَم أن حنبلياً قبلَه وَلِيها في هذه الأزمنة.

ثم ولي قضاء القدس الشريف في أواخر دولة الملك الأشرف برسبان، في شهر رمضان، سنة إحدى وأربعين وثمان مئة، ثم بعد وفاة الأشرف عُزل عن قضاء القدس الشريف، وأعيد إلى قضاء الرملة.

ثم في دولة الملك الظاهر جقمق أُعيد إلى قضاء القدس الشريف في سنة ثلاث وخمسين وثمان مئة، وأقام عشرين سنة متوالية قاضيها، وأضيف إليه قضاء الرملة، ثم أضيف إليه قضاء بلد سيدنا الخليل عليه السلام.

وهو أول من وليه من الحنابلة، وباشر نيابة الحكم بدمشق، وولي قضاء صفد في دولة الملك الأشرف أينال في سنة ثلاث وستين وثمان

ص: 272

مئة، فامتنع من مباشرتها، واختار الإقامة ببيت المقدس وانتهت إليه رئاسة الحنابلة بالأرض المقدسة، وصار المعوَّلَ عليه في الفتوى.

وكان حسن الشكل، متواضعاً، سخياً، مُكرِماً لمن يرد عليه، لا يحب الفخر ولا الخيلاء، ويدخل إلى المسجد الأقصى في أوقات الصلاة بمفرده، مع ما هو عليه من الهيبة والوقار.

وكان خطيباً بليغاً، وباشر القضاء بالقدس الشريف وغيرها، وأفتى نحو أربعين سنة، ومات وهو باق على أُبَّهته ووقاره، لم تحصل له محنة ولا إهانة.

وأما معرفته بطريق الأحكام، ومصطلح القضاء والشهادة، فإليه النهاية، وخطُّه في غاية الوضوح.

ولما كان في آخر عمره، عُزل عن القضاء في شهر جمادى الأولى، سنة ثلاث وسبعين، ثم ورد عليه توقيع السلطان الملك الأشرف قايتباي بقضاء الرملة، فتوجه إليها من القدس في نهار الأحد، خامس شهر رمضان من السنة المذكورة، وأقام بها تسعة وخمسين يوماً.

وتوفي بالطاعون في الريا بعد أذان الظهر من يوم الثلاثاء، رابع شهر ذي القعدة، سنة ثلاث وسبعين وثمان مئة بالدار الكائنة بداخل مسجد شيخه الشيخ شهاب الدين بن أرسلان بحارة الباشقردي، وصُلِّي عليه بعد العصر من يومه بجامع السوق، ودفن على باب الجامع الأبيض ظاهر مدينة الرملة من جهة الغرب، بجوار حوش ملاصق لحائط الجامع، به قبور جماعة من الصالحين.

ص: 273

ويقال: إن بالحوش قبرَ الإمام الحافظ النسائي صاحب "السنن"، وكان يوماً مشهوداً بجنازته.

ورؤيت له المنامات الصالحة، وصُلِّي عليه صلاة الغائب بالمسجد الأقصى الشريف رحمه الله، وعفا عنه -.

* * *

458 -

قاضي القضاة بدر الدين أبو عبد الله محمد ابن قاضي القضاة شرف الدين أبي حاتم عبد القادر ابن شيخ الإسلام شمس الدين أبي عبد الله محمد، الجعفريُّ النابلسيُّ الحنبليُّ: كان جده من أعيان مشايخ الحنابلة، ووالده كان من أهل العلم، وولي قضاء الشام نحو سنة ونصف، وتوفي مسموماً.

ومولد القاضي بدر الدين في سنة اثنتين وتسعين وسبع مئة، اشتغل بالعلم، وله سند في الحديث، باشر القضاء بنابلس نيابة، ثم استقل به في سنة ست وأربعين وثمان مئة، وباشر القضاء بالقدس الشريف مرتين عوضاً عن القاضي شمس الدين العليمي المذكور قبله، وكل مرة يقيم مدة يسيرة، ثم يعاد إلى قضاء نابلس، ويعاد القاضي شمس الدين إلى قضاء القدس، وولي - أيضاً - قضاء الرملة، وباشر نيابة الحكم بالديار المصرية.

وكان حسن السيرة، عفيفاً في مباشرة القضاء، وكان مهاباً عند الناس، وعُمِّر، ورُزق الأولاد، وأَلحق الأحفادَ بالأجداد، ومُتِّع بدنياه،

ص: 274