الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. مثل هذه الأخبار، ومئات أمثالها قد استفاضت بها كتب التاريخ، وهى تدل دلالة قاطعة على ما كان عليه الصحابة من الشجاعة، والأمانة، والجرأة فى الحق، والتفانى فى الدفاع عنه، بحيث يستحيل أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعاً لهوى أو رغبة فى دنيا، إذ لا يكذب إلا الجبان، كما يستحيل عليهم أن يسكتوا عمن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين لا يسكتون عن اجتهاد خاطئ؛ يذهب إليه بعضهم بعد فكر وإمعان نظر.
وهذا غاية ما يكون بينهم من خلاف فقهى لا يتعدى اختلاف وجهات النظر فى أمر دينى وكل منهم يطلب الحق وينشده (1) .
و
ما يرد من ألفاظ التكذيب على ألسنة بعضهم، فإنما هو تخطئة بعضهم لبعض
، وبيان ما وقع فيه بعضهم من وَهَم الكلام.
…
والكذب بهذا المعنى لا يعصم منه أحد، لا من الصحابة، ولا ممن دونهم، وقد جاءت كلمة "الكذب" فى أحاديث كثيرة بمعنى الخطأ، من ذلك مايلى:
قول النبى صلى الله عليه وسلم: "كذب من قال ذلك"(2) فى الرد على من ظن أن عامر بن الأكوع (3) : "قتل نفسه فى غزوة خيبر حيث أصابه سيفه، وهو يبارز "مرحباً" ملك اليهود.
(1) السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 76 - 78 بتصرف.
(2)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر 6/404 رقم 1802، وباب غزوة ذى قرر وغيرها 6/419 رقم 1807.
(3)
عامر بن الأكوع: صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 2/785 رقم 1317، واسد الغابة 3/114 رقم 2680، وتجريد أسماء الصحابة 1/283، والإصابة 3/350 رقمى 364، 393.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل (1) ، ليس كما قال، قد حللت فانكحى". وذلك فى الرد على أبى السنابل الذى قال لسبيعة بنت الحارث (2) ، وقد وضعت حملها بعد وفاة زوجها
بأيام: إنك لا تحلين حتى تمكثى أربعة أشهر وعشراً. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " كذب أبو السنابل، ليس كما قال "(3) .
…
وعلى نحو هذا الإستعمال لكلمة "كذب" جاء استعمال الصحابة لها.
1-
كقول ابن عباس رضي الله عنهما عن نوف البكالى (4) : "كذب نَوْف" عندما قال صاحب الخضر ليس موسى بنى إسرائيل، وإنما موسى آخر - ونوف من الصالحين العبا، ومقصود ابن عباس: اخطأ نوف (5) .
2-
ومنه قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "كذب أبو محمد" حيث قال: " الوتر واجب ".
(1) أبو السنابل: هو حَبَّةُ بن بَعْكَكٍ، صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 1/318 رقم 468، أسد الغابة 1/669 رقم 1030، وتاريخ الصحابة ص 77 رقم 299، ومشاهير علماء الأمصار ص 28 رقم 84، والإصابة 1/304 رقم 1565.
(2)
سبيعة بنت الحارث: صحابية جليلة لها ترجمة فى: تاريخ الصحابة ص130 رقم 630، والاستيعاب 4/1859 رقم 3370، واسد الغابة 7/138 رقم 6979، والإصابة 4/326 رقم 11278.
(3)
أخرجه سعيد بن منصور فى سننه كتاب الطلاق، باب فى عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 1/350 رقمى 1506، 1508.
(4)
نَوْف البكالى: هو نَوْف، بفتح النون وسكون الواو، ابن فَضَالة، بفتح الفاء والمعجمة، البكالى، بكسر الموحدة وتخفيف الكاف، ابن امرأة كعب، شامى مستور، وإنما كذب ابن عباس ما رواه عن أهل الكتاب، مات سنة بعد التسعين من الهجرة. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/255 رقم 7239، والجرح والتعديل 8/505 رقم 2311.
(5)
انظر: الفكر المنهجى عند المحدثين للدكتور همام عبد الرحيم ص 52.
3-
ومنه قول عائشة - رضى الله عنها - لما بلغها أن أبا هريرة يحدث بأنه "لا شؤم إلا فى ثلاث" قالت: "كذب - والذى أنزل على أبى القاسم - من يقول: " لا شؤم إلا فى ثلاث - ثم ذكرت الحديث " (1) .
4-
"واسْتَمَعَ الزبير بن العوام رضي الله عنه، إلى أبى هريرة يحدث، فجعل يقول كلما سمع حديثاً: كذب
…
صدق
…
كذب، فسأله عروة ابنه: يا أبت ما قولك: صدق
…
كذب. قال: يا بنى: أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك فيه، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه " (2) .
فعائشة والزبيررضي الله عنهما لا يريدان بقولهما - كذب أى اختلق - حاشاهم من ذلك – وإنما المراد اخطأ فى فهم بعض الأحاديث؛ ووضعها فى غير محل الإستشهاد بها، كما صرح الزبير بن العوام رضي الله عنه، فعدالة أبى هريرة بين الصحابة أعظم من أن تمس بجرح، وما اتهم به كذباً من أعداء الإسلام تصدى للرد عليه رهط من علماء الإسلام (3) .
(1) أخرجه أبو داود كتاب الصلاة، باب فيمن لم يوتر 2/62 رقم 1420، والنسائى فى سننه كتاب الصلاة، باب المحافظة على الصلوات الخمس والمحافظة عليها 1/230 رقم 461، والموطأ كتاب صلاة الليل، باب الأمر بالوتر 1/120 رقم 13.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير 8/ 112، وانظر: توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 34.
(3)
ينظر بعض من تصدى للدفاع عنه فى المبحث السابع " أبو هريرة راوية الإسلام رغم آنف الحاقدين".