الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول الدكتور أبو شهبة: "وأحب ألا يعزب عن بالنا أن هذه الخمسة آلاف والثلاثمائة والأربعة والسبعون حديثاً، الكثير منها لا يبلغ السطرين أو الثلاثة، ولو جمعتها كلها لما زادت عن جزء فأى غرابة فى كثرة مروياته مع حداثة صحبته، مع أن السنين الأربع ليست بالزمن القصير فى عمر الصحبة (1)، ولا سيما ما توافر له دون غيره من الصحابة من أمور كانت سبباً فى تفوقه فى الرواية وكثرة مروياته منها:
أسباب كثرة مروياته:
أولاً: شدة ملازمته للنبى صلى الله عليه وسلم منذ قدم مهاجراً إليه سنة سبع من الهجرة يدور معه فى بيوت نسائه يخدمه، ويصلى خلفه، ويحج، ويغزو معه كما حدث عن نفسه، ومما أعانه على التفرغ لذلك أنه كان فقيراً، ولم تكن له زوجه، ولا أولاد حينئذ - ونحو ذلك مما يشغل، مع شدة حرصه على تلقى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم، وشهد له النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الحرص.
(1) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 103، 104.
ومن الآثار الدالة على ذلك: ما جاء فى الصحيح عنه رضي الله عنه قال: "يقولون: إن أبا هريرة قد أكثر والله الموعد. ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه؟ وسأخبركم عن ذلك: إن إخوانى من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم. وإن إخوانى من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق. وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملئ بطنى فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: "أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثى هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لن ينس شيئاً سمعه، فبسطت بردة على حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدرى، فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئاً حدثنى به. ولولا آيتان أنزلهما الله فى كتابه ما حدثت شيئاً أبداً:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (1) .
(1) الآيتان 159، 160 من سورة البقرة، والحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من أبى هريرة 8/290، 292 رقم 2492والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب حفظ العلم 1/258 رقم 118.
ثانياً: دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالحفظ وعدم النسيان، ومما يدل على ذلك الرواية السابقة، وما رواه الحاكم فى المستدرك عن زيد بن ثابت، أن رجلاً جاء إليه فسأله عن شئ فقال له زيد: عليك بأبى هريرة، فإنه بينما أنا وأبو هريرة فى المسجد وفلان فى المسجد ذات يوم ندعوا الله تعالى، ونذكر ربنا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا قال: فجلس وسكتنا. فقال عودوا للذى كنتم فيه، قال زيد فدعوت أنا وصاحبى قبل أبى هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا قال: ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إنى أسألك مثل الذى سألك صاحباى هذان وأسألك علماً لا ينسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمين"فقلنا يا رسول الله! ونحن نسأل الله علماً لا ينسى؛ فقال:"سبقكما بها الدوسى" (1) .
ثالثاً: إن أبا هريرة تميز بقوة ذاكرته وحفظه وحسن ضبطه، خاصة بعد أن دعا له الرسول بالحفظ وعدم النسيان - كما سبق - فكان حافظاً متقناً ضابطاً لما يرويه.
(1) أخرجه النسائى فى سننه الكبرى كتاب العلم، باب مسألة علم لا ينسى 3/440 رقم 5870، والحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة الدوسىرضي الله عنه3/582 رقم6158 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبى فى التلخيص بقوله فيه حماد = =ابن شعيب ضعيف، وكذا قال فى سير أعلام النبلاء 2/600، وفى موضع آخر من السير 2/616 ذكر الخبر بإسناد آخر فيه الفضل بن العلاء بدلاً من حماد، ثم قال: تفرد به الفضل ابن العلاء وهو صدوق، وقال: ابن حجر فى الإصابة 4/208 سند النسائى جيد. وانظر: تهذيب التهذيب 12/266
.. ويدل على ذلك قصة امتحان مروان له فيما رواه الحاكم عن أبى الزُّعَيْزِعَة (1) كاتب مروان بن الحكم، أن مروان بن الحكم دعا أبا هريرة فأقعدنى خلف السرير، وجعل يسأله وجعلت أكتب حتى إذا كان عند رأس الحول، دعا به فأقعده وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا آخر" (2) وقد نقل هذه القصة الذهبى فى سير أعلام النبلاء، ثم عقب بقوله: "قلت هكذا فليكن الحفظ" (3) .
…
وهذه القصة نقلها أيضاً ابن حجر فى الإصابة (4) ، وابن كثير فى البداية (5) ، وهى تدل على قوة حفظه وإتقانه، كما شهد له بذلك الصحابة، والتابعون فمن بعدهم من أئمة المسلمين إلى يومنا هذا على ما سيأتى بعد قليل.
…
وكان رضي الله عنه يراجع ما يسمعه من النبى صلى الله عليه وسلم تأكيداً لحفظه، فقد روى عنه أنه قال: "جزأت الليل ثلاثة أجزاء: ثلثاً أصلى، وثلثاً أنام، وثلثاً أذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) .
رابعاً: أدرك أبو هريرة كبار الصحابة، وروى عنهم كثيراً من الأحاديث فتكامل علمه بها واتسع أُفُقُهُ فيها.
(1) ابن الزعيزعة: ذكره الدولابى فى الكنى فقال: "أبو زعيرة كاتب مروان" ص 183، ثم ذكره باسم أبى الزعيزعة، وذكر له خبراً عن مروان. ينظر الكنى ص 184، روى عن مكحول، وعمرو بن عبيد الأنصارى، والنضر بن محرز. قال أبو حاتم: مجهول، وقال الذهبى: أبو الزعيزعة عن مكحول لا يكاد يعرف. عداده فى الشاميين. ينظر: الجرح والتعديل 9/375 رقم 1734، وميزان الاعتدال 4/525 رقم 10200، ولسان الميزان 7/655 رقم 9985.
(2)
أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/583 رقم 6164، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى.
(3)
سير أعلام النبلاء 2/598.
(4)
الإصابة 4/205.
(5)
البداية والنهاية 8/106.
(6)
المصدر السابق 8/113.
خامساً: امتداد عمره رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث عاش بعده نحو سبعة وأربعين عاماً، واحتياج الناس إليه فكان يحدثهم ويبث بينهم ما يحفظه من أحاديث، وأعانه على ذلك: ابتعاده عن الفتن وغيرها من المشاغل ووجوده فى المدينة، والناس يفدون إليها، وكانت له حلقة فى مسجد الرسول يحدث الناس فيها بالأحاديث النبوية، فساعد ذلك على انتشار مروياته وتداولها، وكثرة أتباعه وتلامذته، حتى بلغوا نحو ثمانمائة من الصحابة والتابعين كلهم يجلونه ويثقون به ويثنون عليه على ما سيأتى بعد قليل.
…
قال الإمام البخارى رحمه الله: "روى عنه نحواً من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيره"(1) . ومن أشهر من روى عنه من الصحابة: زيد ابن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة، وأبو أيوب الأنصارى. ومن أشهر من روى عنه من التابعين: مروان بن الحكم، والحسن البصرى، وسعيد بن المسيب، وعامر الشعبى، وعروة ابن الزبير، وهمام بن منبه - وقد كتب عنه الصحيفة المشهورة (2) . وغيرهم كثير.
(1) ينظر: تهذيب التهذيب 12/265، والبداية والنهاية 8/107، وتذكرة الحفاظ 1/33.
(2)
الإصابة 7/201، 202،وتهذيب التهذيب 12/263 - 265، وتذكرة الحفاظ 1/32، 33، وسير أعلام النبلاء 2/418 - 436، وينظر: من كتب عنه فى دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 1/97 - 99.