المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت) - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ١

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌خطبة الكتاب

- ‌(الأمور التي يجب التنبيه عليها، والإشارة بيسير العبارة إليها)

- ‌(ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود)

- ‌[كلام النبهاني على الاجتهاد، والرد عليه]

- ‌[الكلام على كتب التفسير والاحتياج إلى تفسير موافق لأفكار أهل العصر]

- ‌[الكلام على قول النبهاني: إن الذي يتصدّى لطلب تفسير مشتمل على العلوم العصرية ملحد]

- ‌[الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم]

- ‌(أجوبة لشيخ الإسلام على بعض اعتراضات الأخنائي)

- ‌(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت)

- ‌(الكلام على شبه الخصم وإبطالها)

- ‌(ذكر شبة أخرى للمجوّزين للاستغاثة وإبطالها)

- ‌(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية)

- ‌(كلام مفيد في تعريف البدعة)

- ‌[الرد على النبهاني فيما ادّعاه من أن ابن تيمية مُخِلٌّ بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية]

- ‌(الذاهبون إلى حياته)

- ‌[الكلام على كتاب "منهاج السنة" لشيخ الإسلام]

- ‌الكلام على كتاب "جلاء العينين

- ‌(ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وقدس روحه)

- ‌عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

الفصل: ‌(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت)

الانتماء إليه من المبتدعة الغلاة، وأنه لم يزل على المنهج المستقيم والصراط القويم، فمن البعيد عنه الزيارة البدعية التي وردت عن الجهلة الشيطانية، بل لا بد أن يزور الزيارة التي ذكرها الأئمة الأعلام، وأساطين دين الإسلام، وقد مر بيان ذلك مفصلاً فيما نقلناه من كتابي الشيخ، فكيف يسوغ لمن تأدب بالآداب النبوية أن يتجاسر في ذلك المقام، ويطلب منه ما لم يطلبه غيره من أكابر الصحابة وأئمة أهل البيت وغيرهم؟ ويقول له: امدد يمينك كي تحظى بها شفتي. فهل هذا إلا قول أفاك أثيم أراد أن يروّج زيف كلامه على الجهلة والعوام الطغام؟

فمن اليقين لدى العارفين أن هذه القصة كذب وزور لعن الله من وضعها وافتراها.

ص: 296

(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت)

قد ذكرنا سابقاً بعض الوجوه على القدح برواية مد اليد وقصدنا الاختصار في القول، إذ الكلام عليه طويل جداً، وقد آن أن نتكلم على المقام الثاني وهو أيضاً من بعض الوجوه السابقة، فنقول وبالله التوفيق:

إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم قد ادّعاها قوم كثيرون بعد وفاته بزمن طويل، وقد ألف الجلال السيوطي رسالته المسماة (بتنوير الحلك في رؤية النبي والملك) لأجل تأييد هذا القول، وحال السيوطي وتلونه معلوم، حتى جعله بعض أهل العلم حاطب ليل، وبعد أن نقل عنه صاحب "روح المعاني" في هذه المسألة ما نقل وكذا عن غيره قال في تفسيره:

ثم إني أقول بعد هذا كله: إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه؛ لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، وإلى أبي بكر وعلي ينتهي أغلب سلاسل الصوفية

ص: 296

الذين تنسب إليهم تلك الرؤية، ولم يبلغنا أن أحداً منهم ادّعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره.

وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور: "ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه" ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال. وقد وقفتَ على اختلافهم في حكم الجد مع الأخوة، فهل وقفت على أن أحداً منهم ظهر له الرسول صلى الله عليه وسلم فأرشده إلى ما هو الحق فيه؟

وقد بلغك ما عري فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك، فهل بلغك عنه عليه الصلاة والسلام أنه ظهر لها كما يظهر للصوفية قبل لوعتها وهوّن حزنها وبين الحال لها؟

وقد سمعتَ بذهاب عائشة إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل، فهل سمعت تعرضه صلى الله عليه وسلم لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه؟ إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة.

والحاصل؛ أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة والسلام لأحد من أصحابه وأهل بيته مع احتياجهم الشديد لذلك، وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء محض وبهت بحت.

وبالجملة؛ عدم ظهوره لأولئك الكرام وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام، ولا يحسن مني أن أقول كل ما يحكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدّعيه، وكذا لا يحسن مني أن أقول إنهم إنما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم مناماً فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة، فقالوا رأينا يقظته لما فيه من البعد، ولعل في كلامهم ما يأباه، وغاية ما أقول إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السلام، وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جداً، وأنى يرى النجم

ص: 297

تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع، فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه، ويمكن أن يقال: إنه لم يقع لحكمة الابتلاء، أو لخوف الفتنة، أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلى الله عليه وسلم، أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنته صلى الله عليه وسلم فيما يهمهم، فيتسع باب الاجتهاد، وتنشر الشريعة، وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد، أو لنحو ذلك، وربما يدعي أنه عليه الصلاة والسلام ظهر ولكن كان مستتراً في ظهوره، كما روي أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ير صورة نفسه. فهذا كالظهور الذي يدّعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرآة وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى مرآته عليه الصلاة والسلام، وملاحظة أنه كثيراً ما ظهرت فيها صورته حسبما ظنه ابن خلدون، فإن قبل قولي هذا وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت، وإلا فالأمر مشكل فاطلب لك ما يحله، والله سبحانه الموفق للصواب" انتهى كلامه.

وتوجيهه الذي وجه به غير مقبول، إذ لا يدل عليه كتاب ولا سنّة صحيحة، وليس الأمر مشكلاً إذا لم يقبل توجيهه كما زعمه، لأن غلط الحس كثير، فإذا صدقوا بروايتهم نجيب حينئذ بما أجاب شيخ الإسلام في كتابة "الجواب الباهر" وقد ذكرناه سابقاً برمته فإنه قد قال: "وكان الصحابة خير القرون، وهم أعلم الناس بسنته وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى المسجد لا يذهب أحد منهم إلى قبره لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، وكانت الحجرة في زمانه يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة فيها وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلوه إليه لا لسلام، ولا لصلاة، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاماً وسلاماً فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم، فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم ويأمرهم

ص: 298

وينهاهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجاً من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت من القبر تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا مناماً، فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة ففهموا من مقاصده وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم، وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم" إلى آخر ما ذكره هناك.

ثم إنه يؤيد ما ذكره الشيخ أن العرب في الجاهلية كثيراً ما كانوا يسمعون كلاماً من أصنامهم كما سمعوا من صنمهم المسمى بالجلسد وهو صنم كان بحضرموت. وفي كتاب أبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري قال: أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرني عمي الحسين بن دريد، قال: أخبرني حاتم بن قبيصة المهلبي، عن هشام بن الكلبي، عن أبي مسكين، قال: كان بحضرموت صنم يسمى الجلسد تعبده كنده وحضرموت، وكانت سدنته بني شكامة بن شبيب بن السكون بن أشرس بن ثور بن مرتع وهو كنده، ثم إلى أهل بيت منهم يقال لهم: بنو علاق، وكان الذي يسدنه منهم يسمى الأخزر بن ثابت، وكان للجلسد حمى ترعاه سوامه وغنمه، وكانت هوا في الغنم إذا رعت حمى الجلسد حرمت على أربابها، وكانوا يكلمون منه، وكان كجثة الرجل العظيم، وهو من صخرة بيضاء لها كالرأس أسود، وإذا تأمله الناظر رأى فيه كصورة وجه الإنسان (قال الأخزر) : إني كنت يوماً عند الجلسد وقد ذبح له رجل من بني الأمري بن مهرة ذبحاً إذ سمعنا فيه كهمهمة الرعد فأصغينا، فإذا قائل يقول: شعار أهل عدم، إنه قضاء حتم، إن بطش سهم، فقد فاز سهم، فقلنا: ربنا وضاح وضاح. فأعاد الصوت وهو يقول: ناء نجم العراق، يا أخزر بن علاق، هل أحسست جمعاً عما، وعدد أجما، يهوى من يمن وشام، إلى ذات الآجام، نور أظل وظلام أفل، وملك انتقل من محل إلى محل. ثم سكت فلم ندر ما هو، فقلنا: هذا أمر كائن، فلما كان في العام المقبل-

ص: 299

وقد راث علينا ما كنا نسمع من كلام الصنم وساءت ظنوننا، وقربنا قرباناً ولطخنا بدمه وكذلك كنا نفعل -فإذا الصوت قد عاد إلينا فتباشرنا، فقلنا عم صباحاً ربنا لا مصد عنك ولا محيد، تشارت الشؤون وساءت الظنون، فالعياذ من غضبك والإياب إلى صفحك. فإذا النداء من الصنم يقول: قلبت النبات، وعزاها واللات، وعلياها ومناة، منعت الأفق فلا مصعد، وحرست فلا مقعد، وأبهمت فلا متلدد، وكان قد ناجم نجم، وهاجم الجم، وصامت زجم، وقابل رجم، وداع نطق، وحق سبت، وباطل زهق، ثم سكت. فتحدثت القبائل بهذا في مخاليف اليمن، فإنا لعلى أفان ذلك، إذ أضل رجل من كندة إبلاً فأقبل إلى الجلسد فنحر جزوراً واستعار ثوبين من ثياب السدنة واكتراهما فلبسهما- وكذلك كانوا يفعلون- ثم قال:- أنشدك يا رب أبكراً ضخماً مدمومة دماً مخلوقة بالأفخاذ، مخلوطة بألحاذ، أضللتها بين جماهير النخرة، حيث الشقيقة والصفرة، فاهد رب وأرشد فلم يجب. قال الأخزر فانكسر لذلك، وقد كان فيما مضى يخبرنا بالأعاجيب، فلما جن علينا الليل بت مبيتي عنده، فإذا هاتف يقول: لا شأن للجلسد ولا رثي لهدد، استقام الأود، وعبد الواحد الصمد، وأكفى الحجر الأصلد، والرأس الأسود، قال: فنهضت مذعوراً فأتيت الصنم فإذا هو منقلب على رأسه، وكان لو اجتمع فئام من الناس ما حلحلوه، فوالذي نفسي بيده ما عرجت على أهل ولا مال حتى أتيت راحلتي وخرجت حتى أتيت صنعاء، فقلت: هل من خائبة خبر؟ فقيل: ظهر رجل بمكة يدعو إلى خلع الأوثان، ويزعم أنه نبي، فلم أزل أطوف في مخاليف اليمن حتى ظهر الإسلام، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمتُ. وفي أشعارهم:

بات يجتاب شقارى كما

بيقر من يمشي إلى الجلسد

والبيقر: مشية يطأطىء الرجل فيها رأسه. والبيت للمثقب العبدي. ومنهم من قال: إنه لعدي بن الرقاع، ويروى: كما كبر من يمشي إلى الجلسد.

وسمعوا أيضاً كلاماً من صنمهم المسمى بالضِمار- وهو بكسر الضاد المعجمة وميم مخففة بعدها ألف ثم راء مهملة- كأن صنماً لبني سليم، ولما

ص: 300

حضرت مرداساً الوفاة قال للعباس ولده: أي بني اعبد ضماراً فإنه ينفعك ويضرك. فبينما عباس يوماً عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار منادياً يقول:

من للقبائل من سليم كلها

أودى ضمار وعاش أهل المسجد

إن الذي ورث النبوة والهدى

بعد ابن مريم من قريش مهتد

أودى ضمار وكان يعبد مدة

قبل الكتاب إلى النبي محمد

فحرق عباس ضماراً ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وفي لفظة: أن عباس بن مرداس كان في لقاح له نصف النهار إذ طلع عليه راكب على نعامة بيضاء وعليه ثياب بيض فقال له: يا عباس؛ ألم تر أن السماء قد تعب أحراسها، وأن الحرب قد حرقت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي نزل عليه البر والتقوى صاحب الناقة القصوا؟ فقال عباس: فراعني ذلك فجئت وثناً لنا يقال له الضمار كنا نعبده، ونكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به، فإذا صائح يصيح من جوفه:

قل للقبائل من قريش كلها

هلك الضمار وفاز أهل المسجد

هلك الضمار وكان يعبد مدة

قبل الصلاة على النبي محمد

إن الذي ورث النبوة والهدى

بعد ابن مريم من قريش مهتد

قال عباس: فخرجت مع قوم بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلت المسجد، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم، فقال: يا عباس؛ كيف إسلامك؟! فقصصت عليه القصة، فقال: صدقت وأسلمت أنا وقومي".

وما كفى مبتدعة الرفاعية وغلاتهم تلك الأكذوبة الظاهرة العوار، البينة الفساد حتى اتخذوا لها يوم عيد، ولا يأكلون قبله بسبعة أيام شيئاً من اللحوم، وبعد انقضائها يكون العيد فيهنىء بعضهم بعضاً به ويسمونه عيد مد اليد.

ولهم في ذلك رسائل ومصنفات، منها "القواعد المرعية في أصول الطريقة الرفاعية" وفيها قاعدة في الخلوة الأسبوعية المحرمية، وفيها اشترط رجال هذه

ص: 301

الطريقة العلية دخول الخلوة المحرمية في كل سنة في اليوم الثاني عشر من محرم الحرام إلى مساء اليوم السابع عشر، وقد اشترطوا ذلك على كل من انتسب إلى هذه الطريقة، وقالوا يلزم المختلي أن يتخذ له فراشاً خالصاً لا يشاركه فيه النساء، وأن يديم الوضوء كلما حدث له ناقض جدده، ولا يتكلم بما لا يعنيه، ولا يكثر الكلام لغير ضرورة، وليلزم بيته إلا لعذر وينفرد، وليكن طعامه خالياً عن كل ذي روح، ثم ذكر ما يشرع للسالك في تلك الأيام من أوراد وأذكار.

ومنها "الفخر المخلد في منقبة مد اليد" وفيها بيان ما يشرع ليلة عيد الخلوة المحرمية من البدع والأهواء، ولم ينزل الله بها من سلطان، ولم يتكلم بما حوته عالم من العلماء الأعلام، وكلها قد تلقوها عن إخوانهم الباطنية، والنحل الرافضية.

وليس هذا المقام مقام الرد عليهم، وبيان ما نسب من الضلال إليهم، وقد رد عليهم شيخ الإسلام في عدة مواضع، وألف فيهم كتباً مفصلة، منها كتابه الذي سماه (كشف حال المشائخ الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية) نذكر منه إن شاء الله تعالى ما يناسب مقامه.

وأظن أن ما كتبه النبهاني الغبي في هذه المسألة إنما هو إرضاءً لشيخه شيخ الضلال ومقدمة الدجال، عدو المسلمين، وناصر المبتدعين، الذي، كان قربه من ولى الأمر من أعظم المصائب وأدهى النوائب، وقد روج بدع الرفاعية أي رواج، وعدل بالمسلمين عن سواء السبيل وأقوم منهاج، هذا مع ما هو عليه من الفسق والفجور، والزيغ عن الحق في كل الأمور، وما اكتفى بذلك حتى بث حزبه ومردته يصدون عن الحق في كل سبيل، وأقعدهم على صراط الله المستقيم للإغواء والتضليل، حتى استفحل أمرهم، وعم البر والبحر شرهم، فذكر النبهاني الجاهل هذه القضية التي هي إحدى حبائل شيخه ليستجلب رضاه، فعليه وعلى شيخه ما يستحقان، والردود المؤلفة في القدح على شيخه هذا كثيرة، وكلها مطبوعة ومشتهرة منها كتاب (المسامير) ومنها (الفتح المبين) ومنها (السيف الرباني) ومنها غير ذلك، ولكن الأمر كما قيل:

ص: 302

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

ثم إن النبهاني أخذ يتكلم على فضل المدينة النبوية، وذكر للشيخ البكري أربعين حديثاً في فضلها، والبكري هذا هو الذي رد عليه الشيخ في كتاب (الإستغاثة) - وهو مجلد كبير- ثم ذكر الخلاف في مكة والمدينة أيهما أفضل.. إلخ.

أقول: فضل المدينة مما لا شك فيه، والكتب مملوءة من ذلك، قال ابن خلدون: "اعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه، وجعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثواب وينمو بها الأجور، وأخبرنا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه لطفاً بعباده وتسهيلاً لطرق السعادة لهم، وكانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصحيحين؛ وهي مكة، والمدينة، وبيت المقدس. أما بيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، أمره الله ببنائه وأن يؤذن في الناس بالحج إليه، فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصه القرآن، وقام بما أمره الله فيه وسكن إسماعيل به مع هاجر ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله ودفنا بالحجر منه.

وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام، أمرهما الله ببناء مسجد ونصب هياكله، ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحق عليه السلام حواليه.

قال: والمدينة مهاجر نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، أمره الله تعالى بالهجرة إليها، وإقامة دين الإسلام بها، فبنى مسجده الحرام بها، وكان ملحده الشريف في تربتها.

قال: فهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين، ومهوى أفئدتهم، وعظمة دينهم، وفي الآثار من فضلها ومضاعفة الثواب في مجاورتها والصلاة فيها كثير معروف".

ثم إنه أشار إلى شيء من الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة، وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم.

ص: 303

وقد ذكر ياقوت الحموي ذلك بتفصيل أكثر، على أنه قد أفرد لذلك كتب مخصوصة مشهورة، فلا تتعب القلم بذكرها.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب سؤال ورده؛ عن صحة أصول مذهب أهل المدينة ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم في الإمامة والديانة، وضبط علوم الشريعة عند أئمة علماء الأمصار، وأهل الثقة والخبرة من سائر الأعصار.

أجاب رضي الله عنه؛ "الحمد لله: مذهب أهل المدينة النبوية- دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة، إذ فيها سن الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم سنن الإسلام وشرائعه، وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله، وبها كان الأنصار أنصار الله الذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم- مذهبهم- في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقاً وغرباً، في الأصول والفروع. وهذه الأعصار الثلاثة هي أعصار القرون المفضّلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من وجوه: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"1. فذكر ابن حبان بعد قرنه قرنين بلا نزاع. وفي بعض الأحاديث الشك في القرن الثالث بعد قرنه، وقد رُوي في بعضها بالجزم بإثبات القرن الثالث بعد قرنه فتكون أربعة. واعتمد على ذلك أبو حاتم السُّلمي ونحوه من علماء أهل الحديث في طبقات هذه الأمة، بأن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح".

ثم إنه ذكر أحاديث الثلاثة والأحاديث التي فيها ذكر القرن الرابع- إلى أن قال-: "وفي القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مذهب أهل المدينة، أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسُّون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها، حتى أنهم لا يفتقرون إلى نوع من سياسة الملوك، وأن افتقار العلماء ومقاصد العباد أكثر من افتقار أهل المدينة حيث كانوا أغنى من غيرهم عن ذلك كله بما كان

1 أخرجه مسلم (2535) وابن حبان (6692) .

ص: 304

عندهم من الآثار النبوية التي يفتقر إلى العلم بها واتباعها كل أحد، ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا إجماع أهل مكة ولا الشام، ولا العراق، ولا غير ذلك من أمصار المسلمين. ومن حكى عن أبي حنيفة أو أحد من أصحابه أن إجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعها على كل مسلم فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه في ذلك.

وأما المدينة فقد تكلم الناس في إجماع أهلها، واشتهر عن مالك وأصحابه أن إجماع أهلها حجة، وأن بقية الأئمة ينازعونهم في ذلك. والكلام إنما هو في إجماعهم في تلك الأعصار المفضلة. وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماع أهلها ليس بحجة، إذ كان حينئذ في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها، لاسيما من حين ظهر بها الرفض، فإن أهلها مستمسكون بمذهبهم القديم، منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة أو قبل ذلك أو بعد ذلك، فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم، لاسيما المنتسبون منهم إلى العترة النبوية، وقدم عليهم بكتب أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة، وبذل لهم أموالاً فكثرت البدعة بها من حينئذ.

فأما الأعصار المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين، كما خرج من سائر الأمصار فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منها العلم والإيمان خمسة: البحران، والعراقان، والشامان، منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من أمور الإسلام.

وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية، فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال الفاسد، وانتشر بعد ذلك في غيرها. والشام كان بها النصب والقدر. وأما التجهُّم فإنما ظهر من ناحية خراسان، وهو شر البدع، ولأن ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، وتقدم

ص: 305

بعقوبتها الشيعة من الأصناف الثلاثة الغالية حيث حرّقهم عليُّ بالنار، والمفضّلة حيث تقدم جلدهم ثمانين، والسبائية حيث طلب أن يعاقب ابن سبأ بالقتل أو بغيره فهرب منه، ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية في آخر عصر ابن عمر وابن عباس وجابر وأمثالهم من الصحابة وحدثت المرجئة قريباً من ذلك.

وأما الجهمية؛ فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز، وقد روي أنه أنذر بهم، وكان ظهور جهم بخراسان في خلافة هشام بن عبد الملك، وقد قتل المسلمون شيخهم الجعد بن درهم قبل ذلك، ضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: يا أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولم يكلّمْ موسى تكليماً، تعالى عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه. وقد روى أن ذلك بلغ الحسن البصري وأمثاله من التابعين فشكروا ذلك1.

وأما المدينة النبوية؛ فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك كان عندهم مهاناً مذموماً، إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم، لكن كانوا مذمومين مقهورين، بخلاف التشيع والإرجاء بالكوفة، والاعتزال وبدع النُسَّاك بالبصرة، والنصب بالشام؛ فإنه كان ظاهراً. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال لا يدخلها2.

ويُحْكَى أن عمرو بن عبيد وهو رأس المعتزلة ممن كان يساجي سفيان الثوري ولم يعلم سفيان به فقال عمرو لرجل: من هذا؟ فقال: سفيان الثوري، أو قال: من أهل الكوفة. قال: ولو علمت بذلك لدعوته إلى رأي ولكن ظننته من هؤلاء المدنيين الذين يجيئونك من فوق.

ولم يزل العلم والإيمان بها ظاهراً إلى زمن أصحاب مالك، وهم أصل

1 قصة ذبح خالد القسري للجعد بن درهم لا تصح؛ انظر تخريجها والكلام عليها في "قصص لا تثبت"(3/251- وما بعدها) للشيخ مشهور بن حسن آل سلمان- حفظه الله تعالى.

2 انظر: "صحيح مسلم"(2943) .

ص: 306

القرن الرابع، حيث أخذ ذلك القرن عن مالك وأهل طبقته، كالثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة وأمثالهم، وهؤلاء أخذوا عن طوائف من التابعين، وأولئك أخذوا عمن أدركوا من الصحابة، والكلام في إجماع أهل المدينة في تلك الأعصار.

والتحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة، أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم، وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب:

الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد، وكترك صدقة الخضراوات والأجناس، فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء.

أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك، وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه، قال أبو يوسف رحمه الله وهو أجل أصحاب أبي حنيفة، وأول من لقب قاضي القضاة، لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل، وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر رجع أبو يوسف إلى قوله وقال-: لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت.

فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند غيره، لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه، ويهان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد وتركا قول شيخهما لعلمهما بأن شيخهما كان يقول: إن هذه الأحاديث أيضاً صحّت؛ لكن لم تبلغه. ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن، وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ بالسفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس، لاعتقاده صحّتهما،

ص: 307

وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما. قال: وقد بينا هذا في رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وبتنا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر، بل لهم نحو من عشرين عذراً: مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث، أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم، أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه، كالناسخ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك، والأعذار يكون العالم في بعضها مصيباً فيكون له أجران، ويكون في بعضها مخطئاً بعد اجتهاده، فيثاب على اجتهاده وخطؤه مغفور له، لقوله تعالى:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1. وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقال: "قد فعلت"2. ولأن العلماء ورثة الأنبياء.

وقد ذكر الله عن داود وسليمان أنهما حكما في قضية، وأنه فهمها أحدهما، ولم يجب الآخر، بل أثنى على كل واحد منهما بأنه آتاه حكماً وعلماً، فقال:{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} 3.

وهذه الحكومة تتضمن مسألتين تنازع فيهما العلماء: مسألة نفش الدواب في الحرث بالليل، وهو مضمون عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، وأبو حنيفة لم يجعله مضموناً.

والثانية: ضمان بالمثل والقيمة، وفي ذلك نزاع في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. والمأثور عن أكثر السلف في نحو ذلك يقتضي الضمان بالمثل إذا أمكن، كما قضى به سليمان، وكثير من الفقهاء لا يضمنون ذلك إلا بالقيمة كالمعروف من مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.

والمقصود هنا؟ أن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل حجة باتفاق

1 سورة البقرة: 286.

2 تقدم تخريجه.

3 سورة الأنبياء: 78- 79.

ص: 308

المسلمين، قال مالك لأبي يوسف- لما سأله عن الصاع والمد، وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها على أسلافهم-: أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال: لا والله ما يكذبون، فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق. فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.

وسأله عن صدقة الخضراوات، فقال: هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله تعالى عنهما يعني وهي تنبت فيها الخضراوات.

وسأله عن الأجناس، فقال: هذا جنس فلان وهذا جنس فلان، يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف في كل منهما: قد رجعت يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.

وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء في أنه ليس في الخضروات صدقة كمذهب مالك والشافعي وأحمد، وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كمذهب هؤلاء، وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء.

وإنما قال مالك: برطالكم يا أهل العراق؛ لأنه لما انقرضت الدولة الأموية وجاءت دولة ولد العباس قريباً، فقام أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور فبنى بغداد فجعلها دار ملكه، وكان أبو جعفر يعلم أن أهل الحجاز حينئذ كانوا أعنى بدين الإسلام من أهل العراق.

ويروى أنه قال ذلك لمالك أو غيره من علماء المدينة، قال: نظرت في هذا الأمر فوجدت أهل العراق أهل كذب وتدليس أو نحو ذلك، ووجدت أهل الشام إنما هم أهل غزو وجهاد، ووجدت هذا الأمر فيكم.

ويقال: إنه قال لمالك: وأنت أعلم أهل الحجاز، أو كما قال. فطلب أبو جعفر علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق وينشروا العلم فيه، فقدم عليهم هشام بن عروة، ومحمد بن إسحق، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي

ص: 309

عبد الرحمن، وحنظلة بن أبي شقيق الجُمَحِي، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وغير هؤلاء. وكان أبو يوسف يختلف في مجالس هؤلاء ويتعلم منهم الحديث وأكثر ممن قدم الحجاز.

ولهذا يقال في أصحاب أبي حنيفة: أبو يوسف أعلمهم بالحديث، وزفر أطردهم للقياس، والحسن بن زياد اللؤلؤي أكثرهم تفريعاً، ومحمد أعلمهم بالعربية والحساب، وربما قيل أكثرهم تفريعاً.

فلما صارت العراق دار الملك واحتاج الناس إلى تعريف أهلها بالسنة والشريعة غير المكيال الشرعي برطل أهل العراق، وكان رطلهم بالحنطة الثقيلة والعدس إذ ذاك تسعين مثقالاً، مائة وثمانين وعشرون درهماً وأربعة أسباع الدرهم، فهذا هو المرتبة الأولى لإجماع أهل المدينة وهو حجة باتفاق المسلمين.

المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان، فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريباً أنه الحق، وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها. وقال أحمد: كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة النبوة. ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة، وكذلك بيعة عليّ كانت بالمدينة، ثم خرج منها وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة بيعة. وقد ثبت في الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"1. وفي "السنن" من حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً"2.

1 تقدم تخريجه.

2 أخرجه أبو داود (4646) والترمذي (2226) وأحمد (5/220- 221) وغيرهم، وهو حديث صحيح.

ص: 310

فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان؛ كحديثين وقياسين، جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة؛ ففيه نزاع، فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة.

ولأصحاب أحمد وجهان:

أحدهما: وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل أنه لا يرجح.

والثاني: وهو قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به، قيل: هذا هو المنصوص عن أحمد. ومن كلامه قال: إذا رأى أهل المدينة حديثاً وعملوا به فهو الغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريراً كثيراً، وكان يدل المستفتي على مذاهب أهل الحديث ومذهب أهل المدينة، ويدل المستفتي على إسحاق وأبي عبيدة وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث، ويدله على حلقة المدنيين حلقة أبي مصعب الزهري ونحوه، وأبو مصعب هو آخر من مات من رواة الموطأ عن مالك، مات بعد أحمد بسنة، سنة اثنين وأربعين ومائتين. وكان أحمد يكره أن يرد على أهل المدينة كما يرد على أهل الرأي، ويقول: إنهم اتبعوا الآثار. فهذا مذهب جمهور الأئمة يوافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة.

وأما المرتبة الرابعة: فهي العمل المتأخر بالمدينة؛ فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعها أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه أصول الفقه وغيره، ذكر أن هذا ليس إجماعاً ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل الغرب من أصحابه، وليس معه للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد.

ص: 311

قلت: ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في "الموطأ" إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم، وتارة لا يذكر. ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها- وإن خالفت النصوص- لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان، كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها، وبالإجماع.

وقد عرض عليه الرشيد أو غيره أن يحمل الناس على موطئه فامتنع من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت علم أهل بلدي أو كما قال.

وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأياً، وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة حجة قوية، وتارة مرجحاً للدليل، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين. ومعلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة إذ لم يخرج منها أحد قبل الفتنة إلا وأقام بها من هو أفضل منه، فإنه لما فتح الشام والعراق غيرهما أرسل عمر بن الخطاب إلى الأمصار من يعلمهم الكتاب والسنّة، فذهب إلى العراق عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعمران بن حصين، وسلمان الفارسي وغيرهم. وذهب إلى الشام معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح وأمثالهم. وبقي عنده مثل عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، ومثل أبي بن كعب، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت وغيرهم. وكان ابن مسعود وهو أعلم من كان بالعراق من الصحابة يفتي بالفتيا، ثم يأتي المدينة فيسأل علماء أهل المدينة فيردونه عن قوله فيرجع، كما جرى في مسألة أمهات النساء لما ظن ابن مسعود أن الشرط فيها وفي الربيبة، وأنه إذا طلق امرأته قبل الدخول حلت أمها كما تحل ابنتها، فلما جاء إلى المدينة وسأل عن ذلك أخبره علماء الصحابة أن الشرط في الربيبة دون الأمهات فرجع إلى قولهم، وأمر الرجل بفراق امرأته بعدما حلت.

ص: 312

وكان أهل المدينة فيما يعملون؛ إما سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب.

ويقال: إن مالكاً أخذ جل الموطأ عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن المسيب عن عمر، وعمر محدث. وفي الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر"1.

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر"2.

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"3.

وكان عمر يشاور أكابر الصحابة كعلي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد،

1 أخرجه الترمذي (3686) وأحمد (4/154) والحاكم (3/85) والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(2/500) والطبراني في "المعجم الكبير"(17/رقم: 822) والروياني في "مسنده"(1/171، 174/214، 223) والقطيعي في زوائده على "فضائل الصحابة" للإمام أحمد (519) والأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة"(2/358/341) واللالكاني في "شرح أصول الاعتقاد"(7/1313/2491) والبيهقي في "المدخل"(65) والدينوري في "المجالسة"(2/86- 89/217) وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/65/595) .

من طريق: حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر مرفوعاً. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وقال الشيخ الألباني في "الصحيحة"(1/2/646/رقم: 327) : "وهذا سند حسن، رجاله كلهم ثقات، وفي مشرح كلام لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن، وقد وثقه ابن معين".

وحسن إسناده الشيخ مشهور في تحقيقه على "المجالسة"، ونقل توثيق الفسوي في "المعرفة"(2/500) لمشرح بن هاعان، والله تعالى أعلم.

2 أخرجه البخاري (3689) ومسلم (2398) .

3 أخرجه الترمذي (3662) وابن ماجه (97) وغيرهما من غير واحد من الصحابة؛ وانظر: "الصحيحة"(3/233/1233) .

ص: 313

وعبد الرحمن، وهم أهل الشورى. ولهذا قال الشعبي: انظروا ما قضى به عمر فإنه كان يشاور. ومعلوم أن ما كان يقضي أو يفتي به عمر يشاور فيه هؤلاء أرجح مما يقضي أو يفتي به ابن مسعود أو نحوه رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

وكان عمر- في مسائل الدين والأصول والفروع- إنما يتبع لما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشاور علياً وغيره من أهل الشورى، كما شاوره في المطلقة المعتدة الرجعية في المرض إذا مات زوجها هل ترث؟ وأمثال ذلك.

فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة والفرقة وانتقل عليّ إلى العراق هو وطلحة والزبير لم يكن بالمدينة من هو مثل هؤلاء، ولكن كان بها من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب، ومحمد بن مسلمة، وأمثالهم، من هو أجلّ ممن مع علي من الصحابة، فأعلم من كان بالكوفة من الصحابة علي وابن مسعود، وعليٌّ كان بالمدينة إذ كان بها عمر وعثمان وابن مسعود وهو نائب عمر وعثمان، ومعلوم أن علياً مع هؤلاء أعظم علماً وفضلاً من جميع من معه من أهل العراق، ولهذا كان الشافعي يناظر بعض أهل العراق في الفقه محتجاً على المناظر بقول عليّ وابن مسعود، فصنف الشافعي كتاب "اختلاف علي وعبد الله " يبين فيه ما تركه المناظر وغيره من أهل العلم من قولهما. وجاء بعده محمد بن نصر المروزي صنف في ذلك أكثر مما صنف الشافعي"- إلى أن قال-: "ومما يوضح الأمر في ذلك أن سائر أمصار المسلمين- غير الكوفة- كانوا منقادين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم كأهل الشام ومصر، مثل الأوزاعي ومن قبله وبعده من الشاميين، ومثل الليث بن سعد ومن قبل ومن بعد من المصريين، وإن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بيّن، وكذلك علماء أهل البصرة كأيوب، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي وأمثالهم. ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصار، فإن أهل مصر صاروا ناصرة لقول أهل المدينة، وهم أجلاء أصحاب مالك المصريين كابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وعبد الله بن الحكم. والشاميون مثل الوليد بن مسلم، ومروان بن

ص: 314

محمد، وأمثالهم؛ لهم روايات معروفة عن مالك. وأما أهل العراق؛ كعبد الرحمن بن مهدي، وحماد بن زيد، ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي وأمثالهم، كانوا على مذهب مالك، وكانوا قضاة القضاة، وإسماعيل ونحوه كانوا من أجلّ علماء الإسلام.

وأما الكوفيون بعد الفتنة والفرقة يدعون مكافأة أهل المدينة، وأما قبل الفتنة والفرقة فقد كانوا متّبعين لأهل المدينة ومنقادين لهم، لا يعرف قبل مقتل عثمان أن أحداً من أهل الكوفة أو غيرها يدّعي أن أهل مدينته أعلم من أهل المدينة، فلما قتل عثمان وتفرقت الأمة وصاروا شيعاً ظهر من أهل الكوفة من يساوي بعلماء أهل الكوفة علماء أهل المدينة، ووجهه الشبهة في ذلك أنه ضعف أمر المدينة لخروج خلافة النبوة منها، وقوي أمر أهل العراق لحصول عليّ فيها.

لكن ما فيه الكلام من مسائل الفروع والأصول قد استقر في خلافة عمر، ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر الأمصار قبل الفرقة أولى من قولهم وحديثهم بعد الفرقة.

قال عبيدة السلماني -قاضي عليّ كرم الله وجهه-: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.

ومعلوم أنه كان بالكوفة من الفتنة والتفرق ما دل عليه النص والإجماع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الفتنة من ههنا، الفتنة من ههنا، الفتنة من ههنا، من حيث يطلع قرن الشيطان" 1 وهذا الحديث قد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه.

ومما يوضح الأمر في ذلك؛ أن العلم إما رواية، وإما رأي. وأهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأياً، وأما حديثهم فأصح الأحاديث. وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة، ثم أحاديث أهل البصرة.

1 أخرجه البخاري (7092، 7093) ومسلم (2905) وللشيخ محمد أشرف سند رحمه الله هو رسالة قيمة في شرح هذا الحديث الشريف، موسوعة بـ"أكمل البيان في شرح حديث النجد قرن الشيطان" نشرت بدار المنار بالخرج.

ص: 315

وأما أحاديث أهل الشام؛ فهي دون ذلك، فإنه لم يكن لهم من الإسناد المتصل وضبط الألفاظ ما لهؤلاء، ولم يكن منهم -يعني أهل المدينة، ومكة، والبصرة، والشام- من يعرف بالكذب، لكن منهم من يضبط، ومنهم من لا يضبط.

وأما أهل الكوفة؛ فلم يكن الكذب في أهل بلد أكثر منه فيهم، ففي زمن التابعين كان بها خلق كثير منهم معروفون بالكذب، لاسيما الشيعة، فإنهم أكثر الطوائف كذباً باتفاق أهل العلم، ولأَجْلِ هذا يُذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة أنهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق، لأنهم قد علموا أن فيهم كذّابين، ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب، فأما إذا عَلِمُوا صِدْقَ الحديث فإنهم يحتجون به. كما روى مالك عن أيوب السختياني وهو عراقي، فقيل له ذلك. فقال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه أو نحو هذا.

وهذا القول هو القول القديم للشافعي، حتى روي أنه قيل له: إذا روى سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد الله حديثاً ألا يحتج به؟ فقال: إن يكن له أصل بالحجاز وإلا فلا. ثم إن الشافعي رجع عن ذلك، وقال لأحمد بن حنبل: أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح الحديث فأخبرني به حتى أذهب إليه، شامياً كان أو بصرياً أو كوفياً. ولم يقل مكياً أو مدنياً لأنه كان يحتج بهذا قبل.

وأما علماء أهل الحديث كشعبة، ويحيى بن سعيد، وأصحاب الصحيح والسنن؛ فكانوا يميزون بين الثقات الحفاظ وغيرهم ممن بالكوفة والبصرة من الثقات الذين لا ريب فيهم، وأن فيهم من هو أفضل من كثير من أهل الحجاز، ولا يستريب عالم في مثل أصحاب عبد الله بن مسعود؛ كعلقمة، والأسود، وعبيدة السلماني، والحارث التيمي، وشريح القاضي. ثم مثل إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة وأمثالهم من أوثق الناس وأحفظهم، فلهذا صار علماء الإسلام متفقين على الاحتجاج بما صححه أهل العلم بالحديث من أي مصر كان. وصنف أبو داود السجستاني مفاريد أهل الأمصار يذكر فيه ما انفرد أهل كل مصر من

ص: 316

المسلمين من أهل العلم بالسنة.

وأما الفقه والرأي؛ فقد علم أن أهل المدينة لم يكن فيهم من ابتدع بدعة في أصول الدين، ولما حدث الكلام في الرأي في أوائل الدولة العباسية وفرع لهم ربيعة بن هرمز فرعاً كما فرع عثمان الليثي وأمثاله بالبصرة، وأبو حنيفة وأمثاله بالكوفة، وصار في الناس من يقبل ذلك وفيهم من يرد، وصار الرادون لذلك مثل هشام بن عروة وأبي الزناد والزهري وابن عيينة وأمثالهم، فإن ردوا ما ردوا من الرأي المحدث بالمدينة فهم للرأي المحدث بالعراق أشد رداً، فلم يكن أهل المدينة أكثر من أهل العراق فيما لا يحمد، وهم فوقهم فيما يحمدونه، وبهذا يظهر الرجحان.

وأما ما قال هشام بن عروة: لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى نشأ فيهم المولدون -أبناء سبايا الأمم- فقالوا فيهم بالرأي فضَلُّوا وأضَلُّوا.

قال ابن عيينة: فنظرنا في ذلك فوجدنا ما حدث من الرأي إنما هو من المولدين أبناء سبايا الأمم، وذكر بعض من كان بالمدينة وبالبصرة وبالكوفة، والذين بالمدينة أحمد عند هذا ممن بالعراق من أهل المدينة.

ولما قال مالك رضي الله تعالى عنه عن إحدى الدولتين: إنهم كانوا أتبع للسنن من الدولة الأخرى. قال ذلك لأجل ما ظهر بمقاربتها من الحدثان، لأن أولئك أولى بالخلافة نسباً وقرناً.

وقد كان المنصور والمهدي والرشيد -وهم سادات خلفاء بني العباس- يرجّحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق، كما كان خلفاء بني أمية يرجحون أهل الحجاز على علماء الشام، ولما كان فيهم من لم يسلك هذا السبيل بل عدل إلى الآراء المشرقية كثر الأحداث فيهم وضعفت الخلافة.

ثم إن بغداد إنما صار فيها من العلم والإيمان وترجحت على غيرها بعد موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز، وسكنها من أفشى السنة بها وأظهر حقائق الإسلام، مثل أحمد بن حنبل، وأبي عبيدة، وأمثالهما من فقهاء أهل

ص: 317

الحديث، ومن ذلك الزمان ظهرت بها السنة في الأصول والفروع، وكثر ذلك فيها وانتشر منها إلى الأمصار، وانتشر أيضاً من ذلك الوقت من المشرق والمغرب، فصار في المشرق مثل إسحاق بن إبراهيم بن راهويه وأصحابه، وأصحاب عبد الله بن المبارك، وصار إلى المغرب من علم أهل المدينة ما نقل إليهم من علماء الحديث، فصار في بغداد وخراسان والمغرب من العلم ما يكون مثله إذ ذاك بالحجاز والبصرة، ولم يكن بعد عصر مالك وأصحابه من علماء الحجاز من يفضل على علماء العراق والمشرق والمغرب، وهذا باب يطول تتبعه ولو استقصينا فضل علماء أهل المدينة وصحة أصولهم لطال الكلام.

إذا تبين ذلك؛ فلا ريب عند أحد أن مالكاً رضي الله عنه أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأياً، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه، كان له من المكانة عند أهل الإسلام -الخاص منهم والعام- ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام، وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب أخبار الرواة عن مالك فبلغوا ألفاً وسبعمائة أو نحوها، وهؤلاء الذين اتصل إلى الحديث حديثهم نجعد قريب من ثلاثمائة سنة، فكيف بمن انقطعت أخبارهم ولم يتصل إليه خبرهم؟ فإن الخطيب توفي سنة اثنين وسبعين وأربعمائة، وعصره وعصر ابن عبد البر والبيهقي والقاضي أبي يعلى وأمثال هؤلاء واحد. ومالك توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين، وتوفي أحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين، ولهذا قال الشافعي: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صواباً بعد كتاب الله من موطأ مالك. وهو كما قال الشافعي رضي الله عنه.

وهذا لا يعرض ما عليه أئمة الإسلام من أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من صحيح البخاري ومسلم، مع أن الأئمة على أن البخاري أصح من مسلم، ومن رجح مسلماً فإنه رجحه بجمعه ألفاظ الحديث في مكان واحد، فإن ذلك أيسر على من يريد جمع ألفاظ الحديث.

وأما من زعم أن الأحاديث التي انفرد بها مسلم أو الرجال الذين انفرد بهم

ص: 318

أصح من الأحاديث التي انفرد بها البخاري، ومن الرجال الذين انفرد بهم، فهذا غلط لا يشك فيه عالم. كما لا يشك أحد أن البخاري أعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ، وأنه أفقه منه، إذ البخاري وأبو داود أفقه أهل الصحيح والسنن المشهورة، وإن كان قد يتفق لبعض ما انفرد به مسلم أن يرجح على بعض ما انفرد به البخاري فهذا قليل، والغالب بخلاف ذلك، فإن الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ومسلم، وإنما كانا كذلك لأنه جرد فيهما الحديث الصحيح المسند، ولم يكن القصد بتصنيفهما ذكر آثار الصحابة والتابعين ولا سائر الحديث من الحسن والمرسل وشبه ذلك، ولا ريب أن ما جرد فيه الحديث الصحيح المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أصح الكتب، لأنه أصح منقولاً عن المعصوم من الكتب المصنفة.

وأما "الموطأ" ونحوه فإنه صُنّف على طريقة العلماء المصنفين إذ ذاك، فإن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكتبون القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن، وقال:"من كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه"1. ثم نُسِخَ ذلك عن جمهور العلماء حيث أذن في الكتابة لعبد الله بن عمر، وقال: "اكتبوا لأبي شاه" 2. وكتب لعمرو بن حزم كتاباً.

قالوا: وكان النهي أولاً خوفاً من اشتباه القرآن بغيره، ثم أذن لمّا أَمِنَ ذلك3، فكان الناس يكتبون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكتبون، وكتبوا أيضاً غيره، ولم يكونوا يصنفون ذلك في كتب مصنفة إلى زمن تابعي التابعين، فصنف العلم.

فأول من صنف ابن جريج شيئاً في التفسير، وشيئاً في الأموات، وصنف سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، ومعمر، وأمثال هؤلاء يصنفون ما في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وهذه هي كانت كتب الفقه والعلم

1 أخرجه مسلم (3004) .

2 أخرجه البخاري (112) ومسلم (1355) .

3 انظر في ذلك "تقييد العلم" للخطيب البغدادي- رحمه الله.

ص: 319

والأصول والفروع بعد القرآن. فصنف مالك الموطأ على هذه الطريقة، وصنف بَعْدُ عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغير هؤلاء. فهذه الكتب التي كانوا يعدونها في ذلك الزمان هي التي أشار إليها الشافعي رحمه الله تعالى، فقال: ليس بعد القرآن كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك، فإن حديثه أصح من حديث نظرائه.

وكذلك الإمام أحمد- لما سئل عن حديث مالك ورأيه، وحديث غيره ورأيهم- رجح حديث مالك ورأيه على حديث أولئك ورأيهم، وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة"1. فقد رُوي عن غير واحد كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا: هو مالك.

والذين نازعوا في هذا لهم مأخذان: أحدهما: الطعن في الحديث، فزعم بعضهم أن فيه انقطاعاً.

1 أخرجه أحمد (2/299) أو رقم (7967- شاكر) والترمذي (2680) والحاكم (1/90) وابن حبان (9/52/3736) والبهيقي (1/386) والخطيب البغدادي في "تاريخه"(5/306 و6/376 و13/ 17) وابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل"(ص 11- 12) وابن الجوزي في "مثير العزم الساكن"(2/284/460) والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(1/346- 347) وابن عدي في "الكامل"(1/101) والخليلي في " الإرشاد"(1/210) والقزويني في " التدوين لأخبار قزوين"(1/175) وابن عبد البر في "التمهيد"(1/85) وفي "الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء"(ص20- 21) والذهبي في "سير أعلام النبلاء"(8/55) وغيرهم.

من طريق: سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به مرفوعاً.

وقال الترمذي: "حديث حسن".

وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

قلت: الإسناد ضعيف؛ فإن ابن جريج وأبا الزبير من المشهورين بالتدليس، ولم يصرح أحدهما بالتحديث. وانظر لزاماً "المجالسة"(3/172-174) فللشيخ مشهور بن حسن بحث نفيس هناك. والحديث ضعفه العلامة الألباني في "المشكاة"(246) .

ص: 320

والثاني: أنه أراد غير مالك كالعمري الزاهد ونحوه.

فيقال: ما دل عليه الحديث وأنه مالك أمر مقرر لمن كان موجوداً وبالتواتر لمن كان غائباً، فإنه لا ريب أنه لم يكن في عصر مالك أحد ضرب إليه الناس أكباد الإبل أكثر من مالك. وهذا يقرر بوجهين:

أحدهما: بطلب تقديمه على مثل الثوري، والأوزاعي، والليث، وأبي حنيفة، وهذا فيه نزاع ولا حاجة إليه في هذا المقام.

والثاني: أن يقال: إن مالكاً تأخر موته عن هؤلاء كلهم، فإنه توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وهؤلاء كلهم ماتوا قبل ذلك، فمعلوم أنه بعد موت هؤلاء لم يكن في الأمة أعلم من مالك في ذلك العصر، وهذا لا ينازع فيه أحد من المسلمين، ولا رحل إلى أحد من علماء المدينة ما رحل إلى مالك لا قبله ولا بعده، رحل إليه من المشرق والمغرب، ورحل إليه الناس على اختلاف طبقاتهم من العلماء والزهاد، والملوك والعامة، وانتشر موطئه في الأرض حتى لا يعرف في ذلك العصر كتاب بعد القرآن كان أكثر انتشاراً من "الموطأ". وأخذ الموطأ عنه أهل الحجاز والشام والعراق، ومن أصغر من أخذ عنه الشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهما. وكان محمد بن الحسن إذ حدث بالعراق عن مالك والحجازيين يمتلئ داره، وإذا حدث عن أهل العراق يقل الناس لعلمهم بأن علم مالك وأهل المدينة أصح وأثبت، وأجل من أخذ عنه الشافعي العلم اثنان مالك وابن عيينة، ومعلوم عند كل أحد أن مالكاً أجل من ابن عيينة، حتى أنه كان يقول: إني ومالك كما قال القائل:

وابن اللبون إذا ما لُزّ في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

ومن زعم أن الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم هو العمري الزاهد مع كونه كان رجلاً صالحاً، زاهداً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لم يعرف أن الناس احتاجوا إلى شيء من علمه، ولا رحلوا إليه فيه، وكان إذا أراد أمراً يستشير مالكاً ويستفتيه، كما نقل أنه استشاره لما كتب إليه من العراق أن يتولى الخلافة،

ص: 321

فقال حتى أشاور مالكاً، فلما استشاره أشار عليه أن لا يدخل في ذلك، وأخبره أن هذا لا يتركه ولد العباس حتى تراق فيه دماء كثيرة، وذكر له ما ذكر عمر بن عبد العزيز -لما قيل له: وهذه علوم التفسير والحديث والفتيا وغيرها من العلوم لم يعلم أن الناس أخذوا عن العمري الزاهد منها ما يذكر، فكيف يقرن هذا بمالك في العلم ورحلة الناس إليه؟

ثم هذه كتب الصحيح التي أجل ما مها كتاب البخاري؛ أول ما يستفتح الباب بحديث مالك، وإن كان في الباب شيء من حديث مالك لا يقدم على حديثه غيره، ونحن نعلم أن الناس ضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلم يجدوا عالماً أعلم من مالك في وقته، والناس كلهم مع مالك، وأهل المدينة إما موافق، وإما منازع. فالموافق لهم عضد ونصير، والمنازع لهم معظم لهم مبجل لهم عارف بمقدارهم، وما تجد من يستخف بأقوالهم ومذاهبهم إلا من ليس معدوداً من أئمة العلم، وذلك لعلمهم أن مالكاً هو القائم بمذهب أهل المدينة، وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار، فإن موطأه مشحون إما بحديث أهل المدينة، وإما بما اجتمع عليه أهل المدينة، إما قديماً، وإما حديثاً. وأما مسألة تنازع فيها أهل المدينة وغيرهم فيختار فيها قولاً ويقول هذا أحسن ما سمعت، فإما بآثار معروفة عند علماء المدينة ولو قدر أنه كان في الأزمان المتقدمة من هو أتبع لمذهب أهل المدينة من مالك فقد انقطع ذلك.

ولسنا ننكر أن من الناس من أنكر على مالك مخالفته أولاً لأحاديثهم في بعض المسائل، كما يذكر عن عبد العزيز والدراوردي أنه قال له في مسألة تقدير المهر بنصاب السرقة: تعرقت يا أبا عبد الله- أي: صرت فيها إلى قول أهل العراق الذين يقدرون أقل المهر بنصاب السرقة-، لكن النصاب عند أبي حنيفة وأصحابه عشرة دراهم، وأما مالك والشافعي وأحمد فالنصاب عندهم ثلاثة دراهم أو ربع دينار كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، فيقال أولاً أن مثل هذه الحكاية تدل على ضعف أقاويل أهل العراق عند أهل المدينة، وأنهم كانوا يكرهون للرجل أن

ص: 322

يوافقهم، وهذا مشهور عندهم يعيبون الرجل بذلك، كما قال ابن عمر لما استفتاه عن دم البعوض، وكما قال ابن المسيب لربيعة لما سأله عن عقل أصابع المرأة، وأما ثانياً: فمثل هذا في قول مالك قليل جداً، وما من عالم إلا وله ما يرد عليه، وما أحسن ما قال ابن خويز منداد في مسألة بيع كتب الرأي والإجارة عليها: لا فرق عندنا بين رأي صاحبنا مالك وغيره في هذا الحكم، لكنه أقل خطأ من غيره.

وأما الحديث؛ فأكثره تجد مالكاً قد قال به في إحدى الروايتين، وإنما ترك طائفة من أصحابه، كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع موافقاً للحديث الذي رواه. لكن ابن القاسم ونحوه من البصريين هم الذين قالوا بالرواية الأولى، ومعلوم أن رواية ابن القاسم أصلها مسائل أسد بن فرات التي فرعها أهل العراق، ثم سأل عنها أسد ابن القاسم، فأجابه بالنقل عن مالك، وتارة بالقياس على قوله، ثم أصحها في رواية سحنون، فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى قول أهل العراق، وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة، ثم اتفق أنه لما انتشر مذهب مالك بالأندلس، وكان يحيى بن يحيى عامل الأندلس والولاة يستشيرونه، فكانوا يأمرون القضاة أن لا يقضوا إلا بروايته عن مالك، ثم رواية غيره، ثم انتشرت رواية ابن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها، وقد تكون مرجوحة في المذهب، وعمل أهل المدينة والسنة حتى صاروا يتركون رواية الموطأ- الذي هو متواتر عن مالك، وما زال يحدث به حتى مات- لرواية ابن القاسم، وإن كان طائفة من أئمة المالكية أنكروا ذلك، فمثل هذا إن كان فيه عيب فإنما هو على من نقل ذلك لا على مالك، ويمكن المتبع لمذهبه أن يتبع السنة في عامة الأمور، إذ قل من سنة ألا وله قول يوافقها، بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة فإنهم كثيراً ما يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك.

ثم من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما، حتى أن

ص: 323

الشافعي لما ناظر محمد بن الحسن حين رجع محمد بصاحبه على صاحب الشافعي فقال له الشافعي: بالإنصاف أو بالمكاثرة؟ قال له: بالإنصاف. فقال: ناشدتك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ فقال: بل صاحبكم. فقال: صاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم؟ فقال بل صاحبكم. فقال: صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم؟ فقال: صاحبكم. فقال: ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس ونحن نقول بالقياس، ولكن من كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح.

وقالوا للإمام أحمد: من أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مالك أم سفيان؟ فقال: بل مالك. فقيل له: أيما أعلم بآثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أم سفيان؟ فقال: بل مالك. فقيل له: أيما أزهد مالك أم سفيان؟ فقال: هذه لكم. ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم أهل العراق ذلك الوقت بالفقه والحديث، فإن أبا حنيفة، والثوري، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن بن صالح بن جني، وشريك بن عبد الله النخعي القاضي كانوا متقاربين في العصر، وهم أئمة فقهاء الكوفة في ذلك العصر، وكان أبو يوسف يتفقه أولاً على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي، ثم إنه اجتمع بأبي حنيفة فرأى أنه أفقه منه فلزمه، وصنف كتاب اختلاف أبي حنيفة وأبي ليلى، وأخذه عنه محمد بن الحسن ونقله الشافعي عن محمد بن الحسن، وذكر فيه اختياره، وهو المسمى بكتاب (اختلاف العراقيين) . ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم هذه الطبقة في الحديث مع تقدمه في الفقه والزهد، والذين أنكروا من أهل العراق وغيرهم ما أنكروا من الرأي المحدث بالكوفة لم ينكروا ذلك على سفيان الثوري، بل سفيان عندهم إمام العراق، فتفضيل أحمد لمذهب مالك على مذهب سفيان تفضيل له على مذهب أهل العراق، وقد قال الإمام أحمد في علمه وعلم مالك بالكتاب والسنة والآثار ما تقدم، مع أن أحمد يقدم سفيان الثوري على هذه الطبقة كلها، وهو يعظم سفيان غاية التعظيم، ولكنه كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب أهل الكوفة وعلمائها، وأحمد كان معتدلاً عالماً بالأمور يعطي كل ذي حق حقه،

ص: 324

ولهذا كان يحب الشافعي ويثني عليه ويدعو له ويذب عنه عند من يطعن في الشافعي، أو من ينسبه إلى بدعة، ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها، ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث من خالفه بالرأي وغيره.

وكان الشافعي يقول: سموني ببغداد ناصر الحديث. ومناقب الشافعي واجتهاده في اتباع الكتاب والسنة واجتهاده في الرد على من يخالف ذلك كثير جداً، وهو كان على مذهب أهل الحجاز، وكان تفقه على طريقة المكيين أصحاب ابن جريج، كمسلم بن خالد، والزنجي، وسعيد بن سالم القداح، ثم رحل إلى مالك وأخذ عنه الموطأ، وكمل أصول أهل المدينة، فكان أجل علماً وفقهاً وقدراً من أهل مكة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد مالك، ثم اتفقت له محنة ذهب فيها إلى العراق، فاجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه وناظره، وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه، وأخذ من الحديث ما أخذه على أهل العراق، ثم ذهب إلى الحجاز، ثم قدم إلى العراق مرة ثانية، وفيها صنف كتابه القديم المعروف (بالحجة) واجتمع به أحمد بن حنبل في هذه القدمة بالعراق، واجتمع به بمكة، وجمع بينه وبين إسحاق بن راهويه، وتناظرا بحضور أحمد رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولم يجتمع بأبي يوسف ولا بالأوزاعي وغيرهما، فمن ذكر ذلك في الرحلة المضافة إليه فهو كاذب، فإن تلك الرحلة فيها من الأكاذيب عليه وعلى مالك وأبي يوسف ومحمد وغيرهم من أهل العلم ما لا يخفى على عالم، وهي من جنس كذب القصاص، ولم يكن أبو يوسف ومحمد سعيا في أذى الشافعي قط، ولا كان حال مالك معه ما ذكر في تلك الرحلة الكاذبة.

ثم رجع الشافعي إلى مصر وصنف كتابه الجديد، وهو في خطابه وكتابه ينسب إلى مذهب أهل الحجاز، فيقول: قال بعض أصحابنا- وهو يعني أهل المدينة أو بعض علماء أهل المدينة كمالك- ويقول في أثناء كلامه: وخالفنا بعض المشرقيين. وكان الشافعي عند أصحاب مالك واحداً منهم ينسب إلى أصحابهم، واختار سكنى مصر إذ ذاك لأنهم كانوا على مذهب أهل المدينة ومن يشبههم من

ص: 325

أهل مصر كالليث بن سعد وأمثاله.

وكان أهل الغرب بعضهم على مذهب هؤلاء، وبعضهم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام، ومذهب أهل الشام ومصر والمدينة متقارب، لكن أهل المدينة أجلّ عند الجميع.

ثم إن الشافعي رضي الله عنه لما كان مجتهداً في العلم، ورأى من الأحاديث الصحيحة وغيرها من الأدلة ما يجب عليه اتباعه- وإن خالف قول أصحابه المدنيين- قام بما رآه واجباً عليه، وصنف الإملاء على مسائل ابن القاسم، وأظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه.

وقد أحسن الشافعي فيما فعل، وقام بما يجب عليه، وإن كان قد كره ذلك من كرهه وآذوه، وجرت محنة مصرية معروفة، والله يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

وأبو يوسف ومحمد هما أصحاب أبي حنيفة، وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك، ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك، وكل ذلك اتباعاً للدليل وقياماً بالواجب.

والشافعي قرر أصول أصحابه والكتاب والسنة، وكان كثير الاتباع لما صح عنده من الحديث، ولهذا كان عبد الله بن الحكم يقول لابنه: يا بني، الزم هذا الرجل فإنه صاحب حجج، فما بينك وبين أن تقول قال ابن القاسم فيضحك منك إلا أن تخرج من مصر.

قال محمد: فلما صرت إلى العراق جلست إلى حلقة فيها ابن أبي دؤاد، فقلت قال ابن القاسم، فقال: ومن ابن القاسم؟ فقلت: رجل مفت يقول من مصر إلى أقصى المغرب، وأظنه قال: قلت رحم الله أبي، وكان مقصود أبيه اطلب الحجة لقول أصحابك ولا تتبع. فالتقليد إنما يقبل حيث يعظم المقلد بخلاف الحجة، فإنه يقبل في كل مكان، فإن الله أوجب على كل مجتهد أن يقول بموجب ما عنده من العلم، والله يخص هذا من العلم والفهم ما لا يختص به هذا، وقد

ص: 326

يكون هذا هو المخصوص بمزيد العلم والفهم في نوع من العلم، أو باب منه، أو مسألة، وهذا هو مخصوص بذلك في نوع آخر، لكن جملة مذاهب أهل المدينة النبوية راجحة في الجملة على مذاهب أهل المغرب والمشرق، وذلك يظهر بقواعد جامعة"1.

هذا آخر ما نقلناه من كلام شيخ الإسلام في ترجيح مذهب أهل المدينة؛ وبه يعلم ما كان عليه من الاعتقاد الصحيح، والفطنة الزائدة، والفهم الكثير، فإن كل من تكلم على فضل المدينة تكلم إجمالاً ولم يبين الفضل بالدليل والسبب، وكتابه هذا كتاب جليل، وقد نقلنا منه ما نقلنا حرصاً على حفظ فوائده، وقد بقي منه كلام طويل تكلم فيه على قواعد جامعة تفيد رجحان مذهب المدنيين فعليك به إن أردته.

مقصودنا مما ذكرنا؛ بيان إفلاس النبهاني الجاهل من كل فضيلة، وأنه ينقل في كتابه ما يقصد به تعظيم حجم الكتاب من غير فهم لما ينقله ولا محاكمة، بل إنه يقلد غلاة شيوخه تقليداً أعمى، ومع ذلك يجعل نفسه من المتبعين، ويرمي شيخ الإسلام ومن هو على مسلكه بأنهم من المبتدعين، ولا بدع منه فإنه ممن قال الله فيه:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2.

ثم إن النبهاني عقد فصلاً في ذكر شيء مما لا ينبغي فعله للزائر، ونقل أقوالاً عن ابن حجر وأضرابه ينقض بعضها بعضاً، وساق منها جملة من العبارات، انظر إلى ما قاله ابن حجر في "التحفة" و"الزواجر" مع ما ذكره في "الجوهر المنظم" تجد المناقضة ظاهرة.

قال في "التحفة": "وقد أفتى جمع بهدم كل ما في قرافة مصر من الأبنية، حتى قبة إمامنا الشافعي التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام أخذاً من كلام ابن الرفعة". انتهى.

1 انظر "مجموعة الفتاوى"(20/163- 182) الجديدة.

2 سورة الملك: 10.

ص: 327

وقال في "الزواجر": ومن أعظم أسباب الشرك؛ الصلاة عند القبور، واتخاذها مسجداً، ويجب إزالة كل منكر عليها، ويجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور، إذ هي أضر من مسجد الضرار، لأنها أُسِّسَتْ على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه نهى عن ذلك وأمر بهدم القبور، ويجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه أو نذره"1.

وقال أيضاً في "الزواجر": "ومن الكبائر اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، والصلاة إليها". انتهى2.

وقد نقض ذلك كله في كتابه (الجوهر المنظم) فأباح كل ما منعه في ذينك الكتابين، حتى قال بجواز السجود للقبور إذا غلب الحال على أهل الأحوال، وذكر فيه من الغلو ما فيه قرة لعيون الغلاة، ولولا خوف التطويل لنقلنا كلامه كله والكتاب متداول بين الناس.

ثم إن النبهاني عقد باباً آخر في مشروعية الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم، وضمنه أربعة فصول.

أولها: ذكر فيه أحاديث وردت في اسغاثة الناس به صلى الله عليه وسلم في حياته.

وثانيها: في أحاديث الشفاعة يوم القيامة.

وثالثها: في بعض ما قاله العلماء وأثبتوا به مشروعية الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم.

ورابعها: في توضيح هذه المسألة من قبل مؤلف الكتاب.

أقول- ومن الله المعونة وبيده أزمة التوفيق-: إن الكلام على ما حواه كلامه من الكذب والزور والبطلان يطول جداً، فضلاً عما اشتملت عليه عبارته من الغلط وفساد التركيب وسوء التعبير، فكتابه كله ظلمات بعضها فوق بعض، فلو تكلمنا على ذلك كله لطال الكلام، وكلت عن رقمه الأقلام. فإن النبهاني هذا هو من أعظم الغلاة المحادين لله ورسوله، وكلامه كله باطل، وجهل مركب، وبهت لأهل

1 "الزواجر"(1/287- ط. الباز) .

2 المصدر السابق (1/285) .

ص: 328

الحق، وليس فيه جملة واحدة توافق الحق أصلاً، فالحمد لله الذي خذل أعداء دينه، وجعلهم عبرة لأوليائه وعباده المؤمنين.

أما مشروعية الاستغاثة: ففيها تفصيل، إذ الاستغاثة بالشيء- على ما ذكره بعض المحققين- طلب الإغاثة والغوث منه. كما أن الاستعانة طلب الإعانة منه. فإذا كانت بنداء من المستغيث للمستغاث كان ذلك سؤالاً منه، وظاهره أن ذلك ليس توسلاً به إلى غيره، إذ قد جرت العادة أن من توسل بأحد عند غيره أن يقول لمستغاثه: أستغيثك على هذا الأمر بفلان. فيوجّه السؤال إليه ويقصر أمر شكواه عليه، ولا يخاطب المستغاث به ويقول له: أرجو منك، أو أريد منك، وأستغيث بك، ويقول: إنه وسيلتي إلى ربي. وإن كان كما يقول فما قدر المتوسل إليه حق قدره، وقد رجا وتوكل والتجأ إلى غيره. كيف واستعمال العرب يأبى عنه؟ فإن من يقول: صار لي ضيق فاستغثت بصاحب القبر فحصل الفرج يدل دلالة جلية على أنه قد طلب الغوث منه، ولم يفد كلامه أنه توسل به، بل إنما يراد هذا المعنى إذا قال: توسلت أو استغثت عند الله بفلان، أو يقول لمستغاثه استغثت إليك بفلان، فيكون حينئذ مدخول الباء متوسلاً به. ولا يصح إرادة هذا المعنى إذا قلت: استغثت بفلان، وتريد التوسل به، سيما إذا كنت داعيه وسائله، بل قولك هذا نص على أن مدخول الباء مستغاث وليس مستغاثاً به. والقرائن التي تكتنفه من الدعاء وقصر الرجاء والالتجاء شهود عدول، ولا محيد عما شهدت به ولا عدول، فهذه الاستغاثة وتوجه القلب إلى المسؤول بالسؤال والإنابة محظورة على المسلمين، لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين.

وهل سمعتم أن أحداً في زمانه صلى الله عليه وسلم أو ممن بعده في القرون المشهود لأهلها بالنجاة والصدق- وهم أعلم منا بهذه المطالب وأحرص على نيل مثل تلك الرغائب- استغاث بمن يزيل كربته التي لا يقدر على إزالتها إلا الله؟ أم كانوا يقصرون الاستغاثة على مالك الأمور ولم يعبدوا إلا إياه؟ ولقد جرت عليهم أمور مهمة، وشدائد مدلهمة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، فهل سمعت عن أحد منهم أنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ أو قالوا: إنا مستغيثون بك يا رسول الله؟ أم بلغك أنهم لاذوا

ص: 329

بقبره الشريف وهو سيد القبور حين ضاقت منهم الصدور؟

كلا؛ لا يمكن لهم ذلك، وإن الذي كان بعكس ما هنالك، فلقد أثنى الله عليهم ورضي عنهم، فقال عز من قائل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 1 مبيناً لنا أن هذه الاستغاثة أخص الدعاء وأجلى أحوال الالتجاء، وهي من لوازم السائل المضطر، الذي يضطر إلى طلب الغوث من غيره، فيخص نداءه لدى استغاثته بمزيد الإحسان في سره وجهره، شفي استغاثته بغيره تعالى عند كربته تعطيل لتوحيد معاملته.

فإن قلت: إن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسببية، فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى.

قلنا له: إن كلامنا فيمن يستغاث به عند إلمام مالا يقدر عليه إلا الله، أو لسؤال ما لا يعطيه ويمنعه إلا الله. وأما فيما عدى ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس واستغاثة بعضهم ببعض فهذا شيء لا نقول به، ونعد منعه جنوناً كما نعد إباحة ما قبله شركاً وضلالاً. وكون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعان به، ولا يتوكل عليه، ولا يلتجأ في ذلك إليه، فلا يقال لأحد- حي أو ميت، قريب أو بعيد-: ارزقني أو أمتني، أو أحي ميتي، أو اشفِ مريضي، إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الأحد، الفرد الصمد. بل يقال لمن له قدرة كسبية قد جرت العادة بحصولها ممن أهله الله لها، أعنّي في حمل متاعبي أو غير ذلك.

والقرآن ناطق بخطر الدعاء عن كل أحد لا من الأحياء ولا من الأموات، سواء كانوا أنبياء أو صالحين أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة أو بغيرها، فإن الأمور الغير مقدورة للعباد لا تطلب إلا من خالق القدر، ومنشىء البشر، كيف والدعاء عبادة وهي مختصة به سبحانه؟ أسبل الله علينا بفضله عفوه

1 سورة الأنفال: 9.

ص: 330

ورضوانه، فالقصر على ما تعبدنا فيه من محض الإيمان، والعدول عنه عين المقت والخذلان.

وهذا خلاصة ما ذكروه من جعل الاستغاثة والاستشفاع بغير الله شركاً ظاهراً لا يغفر، ومتعاطيه جاعل لله نداً، فيذبح بأمر الله تعالى، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ويستغفر.

وبالجملة؛ فالاستغاثة والاستعانة والتوكل أغصان دوحة التو-جد، المطلوب من العبيد.

بقي ههنا شيء يورده المجيزون على هؤلاء المانعين؛ وهو أنه لا شك أن من عبد غير الله مشرك حلال الدم والمال، وأن الدعاء المختص بالله سبحانه عبادة، بل هو مخ العبادة، ولكن لا نسلم أن طلب الإغاثة ممن استغيث بهم شرك مطلقاً، وإنما يكون شركاً لو كان المستغيث معتقداً أنهم هم الفاعلون لذلك خلقاً وإيجاداً، فحينئذ يكون من الشرك الاعتقادي قطعاً. أما من اعتقدهم الفاعلين كسباً وتسبباً فليس بمسلَّم، ولئن سلمنا فليس المقصود من طلب الإغاثة منهم وندائهم إلا التوسل بهم وبجاههم، وإن كان اللفظ ظاهراً يدل على الطلب منهم وأنهم المطلوبون بهذا النداء، لكن مقصود المستغيث التشفع والتوسل بهم إلى ربهم، وهو صلى الله عليه وسلم من أشرف الوسائل إلى الله سبحانه، وقد أمرنا سبحانه بطلب ما يتوسل به، فقال تعالى:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1. فكيف تحظرونها بل تجعلونها شركاً مخرجاً عن الملة؟ وليس في قلوب المسلمين إلا هذا المعنى، وإن في ذلك تكفير أكثر الناس، من غير ارتياب والتباس. وكيف تحكمون على أناس قد أظهروا شعائر الإسلام من أذان وصلاة، وصوم وحج، وإيتاء زكاة، يأتون بكلمة التوحيد، ويحبون الله ويحبون سيد المرسلين، ويتبلغون بالقبول التام ما جاء عنهما من أمور الدين، وغاية الأمر أنهم لرهبتهم من ربهم ومعرفتهم بعلو مرتبة نبيهم وما وعده الله

1 سورة المائدة: 35.

ص: 331

سبحانه من إرضاءه في أمته، كما قال سبحانه:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 1 ولا يرضى صلى الله عليه وسلم إلا بأن يقف لأمته في مثل هذه التوسلات فينالوا الرغبات، وليس في أقوالكم هذه إلا تنقص بحق هذا النبي الذي أوجب الله علينا حبه أكثر من محبتنا لأنفسنا، وفي مثل ذلك بشاعة في القول، وشناعة بطريق الأولى؟

فالجواب عنهم: منهم أن قالوا: أما أول اعتراضكم وقولكم إنه ليس مقصودهم إلا التوسل- وإن تكلموا بما يفيد غيره- فإنه يدل على أن الشرك لا يكون إلا اعتقادياً، وأنه لا يكون كفر إلا إذا طابق الاعتقاد، وهذا يقتضي سد أبواب الشرائع بأسرها، ومحو الأبواب التي ذكرها الفقهاء في الردة ومحقها، كيف وأن الله سبحانه يقول:{وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 2 وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 3.

وقد ذكر المفسرون أنهم قالوها على جهة المزح.

وكذلك العلماء كفّروا بألفاظ سهلة جداً، وبأفعال تدل على ما هو دون ذلك، ولو فتحنا هذا الباب لأمكن لكل من تكلم بكلام يحكم على قائله بالردة أن يقول: لم تحكمون بردتي؟ فيذكر احتمالاً ولو بعيداً يخرج به عما كٌفّرَ فيه، ولما احتاج إلى توبة، ولا توجه عليه لوم أبداً، ولساغ لكل أحد أن يتكلم بكل ما أراد، فتنسد الأبواب المتعلقة بأحكام الألفاظ من حد قذف، وكفارة يمين، وظهار، ولانسدت أبواب العقود من نكاح وطلاق، وغير ذلك من الفسوخ والمعاملات، فلا يتعلق حكم من الأحكام بأي لفظ كان- إلا إذا اعتقد المعنى- وإن أفيد بوضع الألفاظ.

وأما ما ذكرتم من أنه أشرف الوسائل؛ فهي كلمة حق أريد بها باطل،

1 سورة الضحى: 5.

2 سورة التوبة: 74.

3 سورة التوبة: 65- 66.

ص: 332

كقولكم إنه ذو الجاه العريض والمقام المنيع، ونحن أولى بهذا المقام منكم لاتّباعِنَا لأقواله وأفعاله، واقتدائنا به صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، مقتفين لآثاره واقفين عند أخباره، فهو صلى الله عليه وسلم نبينا وهادينا إلى سبل الإسلام، ومنقذنا برسالته من مهاوي أولئك الجفاة الطعام، فلا نعمل إلا بأمره، ونتلقى ذلك بالسمع والطاعة في حلوه ومره، وقد أوجب علينا أن نتبع سبيل المؤمنين، ونهانا عن الغلو في الدين، فإن غَلَوْنَا فإننا إذاً عن الصراط ناكبون، ولئن عدلنا إنا إذاً لخاسرون.

وكيف يحسن طريق يؤدّي إلى الإشراك، وأنّى يليق بالموحدين هذا الوجه المؤدي للارتباك؟ وهذا طريق سلفنا الصالح؛ وهو الاعتقاد الصحيح الراجح، هذا وإن النبي صلى الله عليه وسلم -وأرواحنا له الفداء- لا يرضى بما يغضب الرب المتعال، وكيف لا وقد بعث بحماية التوحيد من هذه الأقوال والأفعال، وقد قالت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم:"كان خلقه القرآن"1 يرضى لرضاه ويسخط لسخطه. فليس لنا وسيلة إلى الله إلا الدعاء المبني على أصول الذل والافتقار والثناء، فهو الوسيلة التي أمرنا الله سبحانه بالتوسل به، وجعله من أفضل الوسائل، وأخبرنا أنه مخ عبادته تحقيقاً لعبوديتنا، فسد به عن غيره أبواب الذرائع.

وقد اختلف العلماء -بعد أن اتفقوا على استحباب سؤال الله تعالى به وبأسمائه وبصفاته وأفعاله وبصالح أعمالنا التي حصلت لنا بمحض كرمه وأفضاله -في جواز التوسل بالذوات المنيفة، والأماكن والأوقات الشريفة، فعن العز بن عبد السلام ومن تابعه عدم الجواز إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث صحّ الحديث فيجوز، ويكون ذلك خاصاً به لعلو رتبته.

وعن الحنابلة في أصح القولين مكروه كراهة تحريم.

ونقل الفقهاء الحنفية عن بشر بن الوليد أنه قال: سمعتُ أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به.

وفي جميع متونهم أن قول الداعي المتوسل: بحق الأنبياء والرسل، وبحق

1 أخرجه مسلم (746/139) .

ص: 333

البيت والمشعر الحرام؛ مكروه كراهة تحريم. وقال القدوري: المسألة بخلقه تعالى لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.

وأما أحاديث: "أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، وبحق نبيك والأنبياء من قبلي.." 1 ففيها وهن. وعلى تسليمها فالمراد بهذا الحق ما أوجبه الله تعالى على نفسه، وذلك من أفعاله، لأن حق السائلين الإجابة، وحق المطيعين الإثابة، وحق الأنبياء التقريب والتفضيل بما يخص أولئك العصابة صلى الله عليه وسلم، وذلك كقوله تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 2 وقوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} 3 وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 4. وقوله صلى الله عليه وسلم: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذبهم"5.

والسؤال بالأعمال؛ لأن الممشى إلى الطاعة امتثالاً لأمره عمل طاعة، وذلك من أعظم الوسائل المأمور بها في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 6.

ومن نظر إلى الأدعية الواردة في الكتاب والسنة لم يجدها خارجة عما ذكرنا، قال الله تعالى في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ

1 حديث ضعيف. أخرجه أحمد (3/21) أو رقم (11170) وابن ماجه (778) وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(83) وعلي بن الجعد في "مسنده "(2/791/2118 2) وغيرهم.

وهو حديث ضعيف؛ انظر تفصيل الكلام عليه في "الضعيفة"(24) .

وللشيخ الألمعي علي بن حسن الحلبي- حفظه الله- رسالة مستقلة في بيان علل هذا الخبر، وهي مطبوعة باسم "الكشف والتبيين لعلل حديث:"اللهم إني أسألك بحق السائلين"، وهي مطبوعة بدار الهجرة بالدمام.

2 سورة الروم: 47.

3 سورة التوبة: 111.

4 سورة الأنعام: 54.

5 متفق عليه من حديث معاذ بن جبل، وقد تقدم.

6 سورة المائدة: 35.

ص: 334

آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} 1 وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} 2. وقوله تعالى عن الحواريين: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} .

وكان ابن مسعود يقول: اللهم إنك أمرتني فأطعتك، ودعوتني فأجبتك، فاغفر لي.

ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمعه العلماء لا يخرج عن هذا النمط، وخلاف ذلك يعد كالخروج عن جادة الصواب والشطط، فاتبع أيها الناظر نبيك المصطفى تسلم من اللغط والغلط، هذا ما كان من تحرير مدعي المانعين، وتقريره على وجه أبان عن لبات تلخيصهم بتسطيره. ثم أخذ يذكر الجواب عما استدل به المجوزون فإن أردت الوقوف عليه فارجع إلى كتاب "العقد الثمين".

فتبين مما نقلناه أن الاستغاثة بمخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى مما لا يجوز، فإن الاستغاثة دعاء والدعاء عبادة بل مخ العبادة، وغير الله تعالى لا يعبد بل هو المخصوص بالعبادة، فإذا أصاب الناس جدب وقحط فلا يقال: يا رسول الله؟ ارفع عنا القحط والجدب. وإذا نزل بالناس بلاء أو وباء فلا يقال: يا رسول الله، أو يا جبريل أو يا ميكائيل؛ ارفع عنا البلاء والوباء. وإذا مرض أحد فلا يقول: يا رسول الله، شافني وعافني، ولا غيره. وإذا احتاج أحد إلى رزق فلا يقول: يا رسول الله؟ ارزقني، ولا غيره. وإذا لم يكن لأحد ولد فلا يجوز له أن يقول: يا رسول الله؟ أعطني ولداً. وإذا كان في شدة في بر أو بحر فلا يجوز أن يقول: يا رسول الله؟ أدركني، أو ألتجىء إليك، أو أستغيث بك، أو نحو ذلك. بل كل ذلك شرك مخرج عن الدين، لأنه عبادة لغير الله. ونحن نوضح المسألة فقد زلت فيها أقدام، فنبين أولاً معنى العبادة3، ثم نذكر ما هو من خصائص

1 سورة آل عمران: 193.

2 سورة المؤمنون: 109.

3 وللشيخ العلامة عبد الرحمن المعلّمي اليماني- رحمه الله كتاب في هذا الموضوع، اسمه "العبادة" وهو كتاب نفيس، وقد من الله عليّ بالحصول على مخطوط للكتاب؛ ولكنه كان ناقصاً- وحتى الآن لم أعثر على تتمته- فقمت بنسخ أول الكتاب وتحقيقه، وأخرجته في جزء صغير وسميته بـ"رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله" وهو تحت الطبع بالمكتبة العصرية ببيروت. ولشيخ الإسلام كتاب "العبودية" وهو نفيس في بابه أيضاً.

ص: 335

الألوهية، ومن الله نستمد التوفيق.

أما العبادة؛ فهي في اللغة: الذل والانقياد1.

واصطلاحاً: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ كالتوحيد فإنه عبادة في نفسه، والصلاة، والزكاة، والحج، وصيام رمضان، والوضوء، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والدعاء، والذكر، والقراءة، وحب الله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وغير ذلك مما رضيه وأحبه، فأمر به وتعبد الناس فيه2. قال العلامة عمر بن عبد الرحمن الفارسي في كشفه على الكشاف للزمخشري- عند تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} 3. وهو خطاب لمشركي أهل مكة، ونقل عن علقمة أن كل خطاب بيا أيها الناس فهو مكي، وبيا أيها الذين آمنوا فهو مدني- ما لفظه: "تحرير الكلام فيه أن العبادة قد تطلق على أعمال الجوارح بشرط قصد القربة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد"4. وهي على هذا غير الإيمان بمعنى التصديق، والنية والإخلاص، بل مشروطة بها، وقد تطلق على التحقق بالعبودية بارتسام ما أمر السيد جل وعلا أو نهى، وعلى هذا يتناول الأعمال والعقائد القلبية أيضاً؛ فيدخل فيها الإيمان وهو

1 انظر "لسان العرب"(9/12) .

2 انظر "العبودية" لشيخ الإسلام (ص 19- ط. دار الأصالة، بتحقيق الشيخ علي الحلبي) .

3 سورة البقرة: 21.

4 حديث موضوع. أخرجه الترمذي (2681) وابن ماجه (222) وغيرهما. وقد خرجته في تحقيقي لكتاب "أخلاق العلماء" للآجري رقم (9، 10) .

ص: 336

عبادة في نفسه، وشرط لسائر العبادات". انتهى.

وقال ابن القيم في (شرح منازل السائرين) 1 ما نصه: "فالعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول: طريق معبد أي: مذلل، والتعبد التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له حتى تكون محباً خاضعاً".

ثم قال في مكان آخر من شرحه هذا2: "مراتب العبودية وأحكامها لكل واحد من القلب واللسان والجوارح، فواجب القلب منه متفق على وجوبه، ومختلف فيه، فالمتفق على وجوبه؛ كالإخلاص، والتوكل، والمحبة، والصبر، والإنابة، والخوف، والرجاء، والتصديق الجازم، والنية للعبادة، وهذه قدر زائد على الإخلاص، فإن الإخلاص إفراد المعبود عن غيره.

ونية العبادة لها مرتبتان: (إحداهما) : تمييز العبادة عن العادة. (والثانية) : تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض، والأقسام الثلاثة واجبة. وكذلك الصدق، والفرق بينه وبين الإخلاص أن للعبد مطلوباً وطلباً، فالإخلاص: توحيد مطلوبه. والصدق توحيد الطلب. فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسماً، والصدق: أن لا يكون الطلب منقسماً، فالصدق بذل الجهد، والإخلاص إفراد المطلوب.

واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة، وكذلك النصح في العبودية، ومدار الدين عليه، وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي به، وأصل هذا واجب، وكماله مرتبة المقربين، وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان واجب مستحق وهو مرتبة أصحاب اليمين، وكما مستحب وهو مرتبة المقربين". انتهى بعض ما قاله في بعض عبودية القلب، وعقبه بعبودية اللسان الواجب منها والمستحب،

1 وهو كتاب "مدارج السالكين".

2 " مدارج السالكين"(1/129- 130- ط. الكتاب العربي) .

ص: 337

وعبودية الجوارح الواجب منها والمستحب أيضاً، ومن اشتغل بالنظر إلى أنواع العبادات هان عليه تمييزها، والله الهادي إلى سواء السبيل.

وبالجملة؛ فكل عبادة فهي مقصورة على الإله الواحد من أعمال القلوب والجوارح، فكما لو صلى لغير الله، أو صام على وجه التقرب إليه؛ كان كافراً مشركاً عند جميع الناس، فكذلك من تقرب إليه بالأعمال القلبية المذكورة من التوكل والإنابة والخوف والرجاء، وغير ذلك، لكن لما كانت هذه الأمور القلبية من التألُّه- وكأن الأولون يتألهون بها ويسمون من تأله بها إلهاً، وكان مرجع كل ذلك إلى القلب وأعماله التي هي منبع التوحيد، ومصدر هذا الدين، والمرجع إليه في الشك واليقين، ومع ذلك فهي الفارقة بين الإله الحق الذي اختص بها على الدوام، والإله الباطل الذي لا يحوم الموحد حوله بهذا المقام- كان ذلك هو الداعي للتخصيص والموجب للتنصيص، وأيضاً فالكلام على من حصل منه الشرك بما تألهه في قلبه ورسخ بفؤاده ولبه من الأعمال الغير المختصة بالمسلمين، وأما هذه الأعمال الظاهرة الشرعية المختصة بهم فلا يتعاطاها أحد لمن سواه، ولم نرها تعمل إلا لله، ولم يعبدوا بها إلا إياه، فهذا هو الذي أوجب تخصيصهم لهذه الأعمال القلبية وبعض البدنية، كالسجود وحلق الرأس عبودية، وإلا فجميع العبادات قلبيِّها وقوليِّها وبدنيها مختصة به سبحانه وتعالى لا تصلح إلا له.

قال المحقق السعد التفتازاني في شرحه للمقاصد ما نصه: "اعلم أن حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواتمها، ولا نزاع بين أهل الإسلام أن خلق الأجسام وتدبير العالم واستحقاق العبادة من الخواص" ثم قال في آخر هذا المبحث: "وبالجملة فإن التوحيد في الألوهية واجب شرعاً وعقلاً، وفي استحقاق العبادة شرعاً، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً سبحانه وتعالى عما يشركون". انتهى.

وقد أفرد شيخ الإسلام لتحقيق معنى العبادة رسالة مفيدة وهي رسالة "العبودية" فراجعها.

ص: 338

وأما الثاني- أعني ما هو من خصائص الألوهية-: فاعلم أن توحيد الله تعالى بالتعظيم- كما قاله العلامة القرافي في كتاب "الفروق"1- ثلاثة أقسام: واجب إجماعاً، وغير واجب إجماعاً، ومختلف فيه؛ هل يجب توحيد الله تعالى به أم لا؟

القسم الأول: الذي يجب توحيد الله تعالى به من التعظيم بالإجماع؛ فذلك كالصلوات على اختلاف أنواعها، والصوم على اختلاف رتبه في الفرض والنفل والنذر، فلا يجوز أن يفعل شيء من ذلك لغير الله تعالى، وكذلك الحج ونحو ذلك- أي: كالاستغاثة والاستعانة والالتجاء- وكذلك الخلق والرزق والإماتة والإحياء والبعث والنشر والسعادة والشقاء والهداية والإضلال والطاعة والمعصية والقبض والبسط، فيجب على كل أحد أن يعتقد توحيد الله تعالى وتوحده بهذه الأمور على سبيل الحقيقة، وإن أضيف شيء منها لغيره تعالى فإنما ذلك على سبيل الربط العادي لا أن ذلك المشار إليه فعل شيئاً حقيقة، كقولنا: قتله السم، وأحرقته النار، وأرواه الماء، فليس شيء من ذلك يفعل شيئاً مما ذكر حقيقة، بل الله تعالى ربط هذه المسببات بهذه الأسباب كما شاء وأراد، ولو شاء لم يربطها، وهو الخالق لمسبباتها عند وجودها، لا أن تلك الأسباب هي الموجدة.

وكذلك إخبار الله تعالى عن عيسى عليه السلام أنه كان يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، معناه أن الله تعالى كان يحيي الموتى ويبرىء عند إرادة عيسى عليه السلام لذلك، لا أن عيسى عليه السلام هو الفاعل لذلك حقيقة، بل الله تعالى هو الخالق لذلك، ومعجزة عيسى عليه السلام في ذلك ربط وقوع ذلك الإحياء وذلك الإبراء بإرإدته، فإن غيره يريد ذلك ولا يلزم إرادته ذلك، فاللزوم بإرادته هو معجزته عليه السلام، وكذلك جميع ما يظهر على أيدي الأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات، الله تعالى هو خالقها. وكذلك يجب توحيده تعالى باستحقاق العبادة والإلهية، وعموم تعلق صفاته تعالى، فيتعلق علمه بجميع

(3/738- وما بعدها. ط. دار السلام) .

ص: 339

المعلومات، وإرادته بجميع الكائنات، وبصره بجميع الموجودات الباقيات والفانيات، وسمعه بجميع الأصوات، وخبره بجميع المخبرات فهذا ونحوه توحيد واجب بالإجماع من أهل الحق لا مشاركة لأحد فيه.

(ثم ذكر القسم الثاني) : وهو المتفق على عدم التوحيد فيه والتوحد، ومثل له بالوجود والعلم ونحوهما وأطنب فيه.

(ثم ذكر القسم الثالث) : وهو الذي اختلف فيه هل يجب توحيد الله تعالى به أم لا؟ قال: فهذا هو التعظيم بالقسم، فهل يجوز أن يقسم بغير الله تعالى فلا يكون من التعظيم الذي وجب التوحيد فيه، أو لا يجوز؛ فيكون من التعظيم الذي وجب التوحيد فيه.

وأطال الكلام فيه أيضاً، ومرادنا القسم الأول، لأن فيه قوله: وكذلك يجب توحيده تعالى باستحقاق العبادة،. إلخ. وهذا هو المقصود بالنقل. ولا يخفى ما في كلامه من المخالفة للنصوص بسبب القول بأقوال الكلابية، وليس هذا موضع مناقشته بما ذكر.

وحيث اتسع الكلام بحسب المقام ننقل ما قاله الفاضل ابن القيم في كتابه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) 1 ما نصه:-

"ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء والإنابة، والتوبة، والتوكل والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون له وحده، ويمنع الغير التشبيه ممن لا شبيه له، ولا مثل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة.

1 ويسمى أيضاً "الداء والدواء".

ص: 340

ومن خصائص الإلهية؛ العبودية التي قامت على ساقين لا قِوَام لها بدونهما، وهما غاية الحب مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه غير الله فقد شَبَّهَهُ به في خالص حقه، وهذا من المجال أن تجيء به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله تعالى الحسنى، فأرسل إليهم رسله صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم، فازدادوا بذلك نوراً على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} 1.

إذا عرفتَ هذا فمن خصائص الألوهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.

ومنها: التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها: التوبة، فمن تاب إلى غيره فقد شبهه به. ومنها: الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً، فمن حلف بغيره على هذا الوجه فقد شبهه به" انتهى ما قاله2.

والمقصود من ذلك كله؛ القيام بالقسط الذي هو التوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، قال عز من قائل:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4. فهذا التوحيد أعظم العدل وأقومه، وأصل الدين ومحكمه. وذلك بأن يكون الدين كله لله قولاً وعملاً واعتقاداً بإخلاص هذه الكلمة الطيبة في لفظها ومعناها، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وروح هذه الكلمة إفراد الرب- جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره- بالمحبة والإجلال، والتعظيم والخوف، والرجاء

1 سورة النور: 35.

2 "الداء والدواء"(ص 209- 210. ط. دار ابن الجوزي) .

3 سورة الأعراف: 29.

4 سورة الزخرف: 45.

ص: 341

وتوابع ذلك من التوكل والإنابة، والرغبة والرهبة، فلا يحب سواه، وكلما يحب غيره فإنما يحبه تبعاً لمحبته، وكونه وسيلة إلى زيادة محبته، ولا يخاف سواه، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه، ولا يعمل عملاً قد تعبد الناس به إلا أفرده به، ولا يشرك غيره معه، فيكون قد جمع جميع أنواع العبادات فيه قولاً وعملاً واعتقاداً. وتحقق بما قال وهو كلمة لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره المشركون.

وبهذه الحقوق التي هي حق الله تعالى على جميع عباده، وحكمه الذي أوجبه على سائر مخلوقه، تميز المسلمون، واستسْلم إليه المستسلمون.

ولما كان الدعاء لا يصدر في الغالب إلا ممن قام بقلبه كمال الذل والافتقار، لاسيما في حالة الانكسار والاضطرار؛ كان كما ورد في الحديث:"الدعاء مخ العبادة"1. ومن وُفِّقَ له فقد أوتي الحسنى وزيادة، وهذا الذي ذكرته ملخص ما أشار إليه المحققون. انتهى.

وبما ذكرنا من معنى الاستغاثة واختصاصها بالله تعالى سقط ما ذكره النبهاني وغيره من الغلاة الزائغين من أن الاستغاثة بالأصفياء جائزة، ولو كانت بالأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وهذا شرك محض وعبادة لغير الله تعالى، وهو قول ليس عليه شبهة فضلاً عن الدليل المقبول لدى أهل العلم.

ثم إنه عقد فصلاً ذكر فيه أربعين حديثاً من أحاديث الشفاعة، ولا كلام لنا فيها إذا طلبت منهم يوم القيامة، وأما في الدنيا فإنها تُطلب من الله أن يشفع فيهم من يشفع، وسيأتي بعض الكلام عليها إن شاء الله.

ثم إنه عقد فصلاً آخر- وهو الثالث- زعم أنه ذكر ما قاله أئمة العلماء،

1 الحديث بهذا اللفظ ضعيف. وقد صحّ بلفظ: "الدعاء هو العبادة". أخرجه أحمد (4/267، 271، 276) والترمذي (3372) وابن ماجه (3828) والبخاري في "الأدب المفرد"(714) والطيالسي (1252) وابن المبارك في "الزهد"(1298) والبغوي في "شرح السنة"(5/184) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

ص: 342

وأثبتوا به مشروعية الاستغاثة بغير الله تعالى، ونقل عبارة ابن حجر في (الجوهر المنظم) المشتملة على الاعتراض على الشيخ ابن تيمية في إنكاره الاستغاثة بغير الله تعالى، وأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم حسن في كل حال قبل خلقه وبعد خلقه في الدنيا والآخرة.

قال ابن حجر:

"فمما يدل لطلب التوسل به صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم.. وذكر الحديث؛ وفيه استغاثة آدم به، وذكر حديث الأعمى، وحديث التوسل بالأعمال، وحديث استسقاء الرجل بقبر النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر كلام السبكي الذي نقله ابن حجر بعينه، قال:"وعبارة ابن حجر السابقة وإن كانت كافية وافية فلا بأس بذكر بعض ما ذكره السبكي وإن تكرر بعضه مع ما تقدم عن ابن حجر، لأنه نقل كثيراً من عباراته وإن لم ينسب بعضها إليه" وساق كلام السبكي، ونقل مثل ذلك عن أمثال هؤلاء الغلاة، ثم قال:"وقد يتوسل بذي الجاه إلى من هو أعلى جاهاً منه، والاستغاثة طلب الغوث، والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره وغن كان ذلك الغير أعلى منه، فالتوجه والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره ليس لهما معنى في قلوب المسلمين غير ذلك، ولا يقصد بهما أحد منهم سواه، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث، فهو سبحانه مستغاث به والغوث منه خلقاً وإيجاداً، والنبي مستغاث، والغوث منه سبباً وكسباً". انتهى ما لُخِّصَ من كلامه

أقول- وبالله التوفيق-: أما ما في كلام هذا الجاهل الغبي من فساد التركيب وبشاعة التعبير فلسنا بصدد بيانه، والكلام عليه يطول، والغرض إبطال الدعوى ومعارضتها، والكشف عن حالها وحال أئمته السابقين من الأمم، المعارضين للرسل بآرائهم وأهوائهم، ثم نتكلم إن شاء الله بعد الكلام على هذه المقالة على جميع شبههم الفاسدة.

ص: 343

قال العلامة الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى في كتابه (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) بعد أن نقل عن العراقي مثل ما نقلنا عن النبهاني.

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:-

الأول: أن الله سبحانه إنما خلق خلقه لعبادته الجامعة لمعرفته ومحبته، والخضوع له وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والتضرع بين يديه، وهذه زبدة الرسالة الإلهية، وحاصل الدعوة النبوية، وهو الحق الذي خُلِقَتْ له السموات والأرض، وأنزل به الكتاب، وهو الغاية المطلوبة والحكمة المقصودة من إيجاد المخلوقات، وخلق سائر البريات، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1 ودعا سبحانه عباده إلى هذا المقصود، وافترض عليهم القيام به حسب ما أمر، والبراءة من الشرك والتنديد المنافي لهذا الأصل الذي هو المراد من خلق سائر العبيد، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 3 وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 4.

فالقول بجواز الاستغاثة بغير الله ودعاء الأنبياء والصالحين وجعلهم وسائط بين العبد وبين الله، والتقرب إليهم بالنذور والنحر والتعظيم بالحلف وما أشبهه؛ مناقضة ومنافاة لهذه الحكمة التي هي المقصودة بخلق السموات والأرض، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل، وفتح لباب الشرك في المحبة والخضوع والتعظيم، ومشاقة ظاهرة لله ولرسله، ولكل نبيّ كريم، والنفوس مجبولة على صرف ذلك المذكور من العبادات، إلى من أهلته لكشف الشدائد وسد الفاقات،

1 سورة الذاريات: 56.

2 سورة النساء: 116.

3 سورة المائدة: 72.

4 سورة الحج: 31.

ص: 344

وقضاء الحاجات، من الأمور العامة التي لا يقدر عليها إلا فاطر الأرض والسموات.

الوجه الثاني: أن هذا بعينه قول عُبّاد الأنبياء والصالحين من عهد قوم نوح إلى أن بعث إليهم خاتم النبيين، ولم يزيدوا على ما قال هؤلاء الغلاة فيما انتحلوه من الشرك الوخيم، والقول الذميم، كما حكى الله عنهم ذلك في كتابه الكريم، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 3.

فهذه النصوص المحكمة صريحة في أن المشركين لم يقصدوا إلا الجاه والشفاعة والتوسل، بمعنى جعلهم وسائط تقربهم إلى الله، وتقضي حوائجهم منه تعالى، وقد أنكر القرآن هذا أشد الإنكار، وأخبر أن أهله هم أصحاب النار، وأن الله تعالى حرم عليهم الجنة دار أوليائه الأبرار، وجمهور هؤلاء المشركين لم يدَّعوا الاستقلال ولا الشركة في توحيد الربوبية، بل قد أقروا واعترفوا بأن ذلك لله وحده، كما حكى سبحانه إقرارهم واعترافهم بذلك في غير موضع من كتابه.

فحاصل ما ذكر من جواز الاستغاثة والدعاء والتعظيم بالنذر والحلف –مع نفي الاستقلال، وأن الله يفعل لأجله- هو عين دعوى المشركين، وتعليلهم وشبهتهم لم يزيدوا عليه حرفاً واحداً، إلا أنهم قالوا (قربان وشفعاء) ، والغلاة سموا ذلك توسلاً فالعلة واحدة، والحقيقة متحدة.

الوجه الثالث: أن الله سبحانه أمر عباده بدعائه ومسألته والاستغاثة به،

1 سورة يونس: 18.

2 سورة الزمر: 3.

3 سورة الأحقاف: 28.

ص: 345

وإنزال حاجتهم وفاقتهم وضرورتهم به قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 2. وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 3 الآية. وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} 4. وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 5. وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * َإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 6. وفي الحديث: "من لم يسأل الله يغضب عليه"7. وفيه: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين"8. وحديث النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا،

1 سورة البقرة: 186.

2 سورة غافر: 60.

3 سورة النمل: 62.

4 سورة العنكبوت: 17.

5 سورة الرحمن: 29.

6 سورة الشرح: 7- 8.

7 حديث حسن. أخرجه أحمد (2/442، 477) والبخاري في "الأدب المفرد"(658) والترمذي (3373) وابن ماجه (3827) والحاكم (1/491) والبيهقي في "شعب الإيمان"(1/35/1099) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(10/200) والطبراني في "الدعاء"(2/796/23) وفي "الأوسط"(3/217/2452) وابن عدي في (الكامل" (7/295) وغيرهم.

من طريق: صبيح أبي المليح، عن أبي صالح الخوزي، عن أبي هريرة مرفوعاً.

ورواه بعضهم بلفظ: "من لم يدعُ الله يغضب عليه".

وحسنه الشيخ الألباني في "الصحيحة"(2654) .

8 حديث موضوع. أخرجه أبو يعلى (1/344/439) والحاكم (1/492) وابن عدي في "الكامل"(6/172- ط. دار الفكر) أو (7/372- العلمية) والقضاعي في "مسند الشهاب"(1/116/143) وغيرهم.

من طريق: الحسن بن حماد الكوفي، ثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب مرفوعاً.

قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، فإن محمد بن الحسن هذا هو التل، وهو صدوق في الكوفيين". ووافقه الذهبي.

وذكره الذهبي في "الميزان"(3/513) في ترجمته محمد بن الحسن التل، وقال:"أخرجه الحاكم وصححه، وفيه انقطاع".

وقد وهم الحاكم والذهبي في اعتبار أن محمد بن الحسن الذي في إسناد الحديث هو التل؛ وإنما هو: محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني الكذّاب. وإلى هذا أشار الهيثمي في "المجمع"(10/147) بقوله: "رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد؛ وهو متروك".

وانظر لتفصيل الكلام "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1/328/179) .

ص: 346

يقول تعالى: "هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه"؟ 1. وعلى مذهب الغلاة وقولهم باستحباب الاستغاثة بغير الله تعالى، وجعل الوسائط بين العباد وبينه تعالى يهدم هذا الأصل الذي هو أصل الدين، ويسد بابه، ويستغاث بالأنبياء والصالحين، ويرغب إليهم في حاجات الطالبين والسائلين، وضرورات المضطرين من خلق الله أجمعين.

الوجه الرابع: أن الله تعالى دعا عباده بربوبيته العامة الشاملة لكليات الممكنات وجزئياتها في الدنيا والآخرة، وانفراده بالإيجاد والتدبير، والتأثير والتقدير، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والعز والذل، والإحياء والإماتة، والسعادة والشقاوة، والهداية والمغفرة، والتوبة على عباده، إلى غير ذلك من أفعال الربوبية وآثارها المشاهدة المصنوعة؛ إلى معرفته وعبادته، الجامعة لمحبته والخضوع له، وتعظيمه ودعائه، وترك التعلق على غيره محبة وتعظيماً واستغاثة، قال تعالى:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} إلى قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 4 إلى قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} . فتأمل هذه الآيات وما تضمنته من تقرير أفعال الربوبية التي لا يخرج عنها فرد من أفراد

1 تقدم تخريجه.

2 سورة النمل: 60- 64.

3 سورة المؤمنون: 84- 89.

4 سورة يونس: 31.

ص: 347

الكائنات، وأعرف ما سيقت له ودلت عليه من وجوب محبته تعالى وعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما عبد من دونه من الأنداد والآلهة والبراءة من ذلك.

وانظر هل القوم المخاطبون بهذا زعموا الاستقلال لغير الكبير المتعال، أم أقروا له سبحانه بالاستقلال والتدبير والتأثير، وإنما أتوا من جهة الواسطة والشفاعة، والتوسل بدعاء غير الله وقصده سواه، فيما يحتاجه العبد وما يهواه، وهذا صريح من تلك الحجج البينات، ونص هذه الآيات المحكمات، احتج سبحانه بما أقروا به من الربوبية، والاستقلال على إبطال قصد غيره بالعبادة والدعاء والاستغاثة، كما يفعله أهل الجهل والضلال.

فإذا قيل: تجوز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين ودعاؤهم والنذر لهم على أنهم وسائط ووسائل بين الله وبين عباده وأن الله يفعل لأجلهم؛ انهدمت القاعدة الإيمانية، وانتقضت الأصول التوحيدية، وفتح باب الشرك الأعظم، وعادت الرغباب والرهبات، والمقاصد والتوجيهات، إلى سكان القبور والأموات، ومن دعى مع الله من سائر المخلوقات، وهذه هي الغاية الشركية، والعبادة الوثنية، فنعوذ بالله من الضلال والشقاء والانحراف عن أسباب الفلاح والهدى.

الوجه الخامس: أنه لا فلاح ولا صلاح ولا نجاح ولا نعيم ولا لذة للعبد إلا بأن يكون الله سبحانه هو إلهه ومحبوبه ومستغاثه، الذي إليه مفزعه عند الشدائد، وإليه مرجعه في عامة المطالب والمقاصد، والعبد به فاقة وضرورة وحاجة إلى أن يكون الله هو معبوده ومستغاثه، إليه إنابته ومفزعه، ولو حصلت له كل الكائنات وتوجه إلى جميع المخلوقات لم تسد فاقته، ولا تدفع ضرورته، ولا يحصل نعيمه وفرحه ويزول همه وكربه وشقاؤه إلا بربه الذي من وجده وجد كل شيء، ومن فاته فاته كل شيء، وهو أجب إليه من كل شيء، وهذه فاقة وضرورة وحاجات لا يشبهها شيء فتقاس به، وإنما تشبه من بعض الوجه حاجة العبد إلى طعامه وشرابه وقوته الذي يقوم بدنه به، فإن البدن لا يقوم إلا بذلك، وفقده غاية انعدام البدن وموته.

ص: 348

وأما فقد محبة الله وعبادته ودعائه فعذاب وشقاء، وجحيم في الآخرة والأولى لا ينفك بحال من الأحوال، قال تعالى:{اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} 1. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} 2.

وفي الحديث القدسي- حديث الأولياء- يقول الله تعالى: " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش"3 الحديث.

وعلى القول بجعل الوسائط والشفعاء بين العباد وبين الله تقلع أصول هذا الأصل العظيم، الذي هو قطب رحى الإيمان، وينهدم أساسه الذي ركب عليه البنيان، فأي فرح وأي نعيم وأي فاقة سدت وأي ضرورة دفعت وأي سعادة حصلت وأي أنس، واطمئنان إذا كان التوجه والدعاء والاستغاثة والذبح والنذر لغير الملك الحنّان4 المنّان، سبحان الله ما أجرأ هذا المعترض على الله وعلى رسله وعلى دينه وعلى عباده المؤمنين؟!

اللهم إنا نبرأ إليك مما جاء به هذا المفتري، وما قاله في دينك وكتابك، وعلى عبادك وأوليائك، قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 5. فصلاح السموات والأرض بأن يكون الله سبحانه هو إلهها

1 سورة طه: 123- 127.

2 سورة الرعد: 28- 29.

3 أخرجه البخاري (6502) .

4 الحنّان ليس من أسماء الله الحسنى؛ فتنبه. وانظر لمزيد من التفصيل حول هذا الاسم "معجم المناهي اللفظية"(ص240- 241) .

5 سورة الأنبياء: 22.

ص: 349

دون ما سواه، ومستغاثها الذي تفزع إليه وتلجأ إليه في مطالبها وحاجاتها. وقرر المتكلمون هنا تمانع وجود ربين مدبرين، وأنه لا صلاح للعالم إلا بأن يكون الله قيومه ومدبره. وقرر غيرهم من المحققين امتناع الصلاح بوجود آلهة تُعبد وتُقصد وتُرجى، فالأول يرجع إلى الربوبية، والثاني إلى الإلهية.

ال وجه السادس: أن الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والسنة التي سنّها في قبور الأنبياء والصالحين وعامة المؤمنين تنافي هذا القول الشنيع- الذي افتراه هذا الجاهل- وتبطله وتعارضه، فإنه صلى الله عليه وسلم سن عند القبور ما صحّت به الأحاديث النبوية، وجرى عليه عمل علماء الأمة من السلام عند زيارتها والدعاء لأصحابها، وسؤال الله العافية لهم، من جنس ما شرعه من الصلاة على جنائزهم، ونهى عن عبادة الله عند القبور والصلاة فيها وإليها، وخص قبور الأنبياء والصالحين بلعن من اتخذها مساجد يعبد فيها تعالى ويدعى، وتواترت بذلك الأحاديث؛ خرجها أصحاب الصحيحين وأهل السنن ومالك في موطئه.

فمنها1: قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وحديث ابن مسعود: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وحديث جابر بن عبد الله: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ". وحديث عائشة: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها، فقال- وهو كذلك-:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قالت عائشة: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأُبرز قبره، ولكن

1 وقد تقدم تخريجها.

ص: 350

خشي أن يُتَّخَذَ مسجداً. وفي رواية لمسلم: (وصالحيهم) .

وإنما نهى عن الصلاة عندها واتخاذها مساجد لما يفضي إليه من دعائها والاستغاثة بها، وقَصْدِها للحوائج والمهمات، والتقرّب إليها بالنذور والنحر، ونحو ذلك من القربات، فجاء الغلاة فهتكوا ستر الشريعة، واقتحموا الحمى، وشاقوا الله ورسوله، وقالوا: تُدْعَى ويُسْتَغَاث بها وتُرجى!!

ومن شمَّ رائحة العلم، وعرف شيئاً مما جاءت به الرسل؛ عرف أن هذا الذي قاله الغلاة من جنس عبادة الأصنام والأوثان، مناقض لما دلّت عليه السنة والقرآن، ولا يستريب في ذلك عاقل من نوع الإنسان.

الوجه السابع: أن الله تعالى نهى عن الغلو ومجاوزة الحد فيما شرعه من حقوق أنبيائه وأوليائه، قال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} 1. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله ". وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 3 هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا لهم أنصاباً وصوّروا تماثيلهم، فلما مات أولئك ونسي العلم عُبِدَت..

وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف عكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم، فلما طال عليهم الأمد عبدت. انتهى.

1 سورة النساء: 171.

2 سورة المائدة: 77.

3 سورة نوح: 23.

ص: 351

فانظر إلى ما آل إليه الغلو بالتصاوير والعكوف من غير دعاء ولا عبادة، فكيف بالدعاء والاستغاثة والتوسل؟ والقول بأن الله تعالى يفعل لأجلهم هذا نفس الشرك، والأول وسيلته التي حدث الشرك بسببها.

وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة هذا الشرك، وحمى الحِمَى وسَدَّ الذريعة حتى نهى عن الصلاة عندها، واعتياد المجيء إليها بقوله في أشرف القبور:" لا تجعلوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلّّّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني". ونهى عن رفع القبور، وبعث عليّ بن أبي طالب أن لا يدع تمثالاً إلا طمسه ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّاه. ونهى عن تعظيمها بإيقاد السرج، كل هذا صيانة للتوحيد وحماية لجانبه، فرحم الله امراً آمن بالجنة والنار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامه ومعلمه وقدوته، ولم يلتفت عن غير ما جاء به، ولم يبال بمن خالفه وسلك غير سبيله، وحن إلى ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى في هذا الباب وفي غيره:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 2.

الوجه الثامن: أن من أعرض عن الله وقصد غيره وأعد ذلك الغير لحاجته وفاقته واستغاث به ونذر له ولاذ به فقد أساء الظن بربه، وأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به، فإن المسيء به والظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته، ولهذا توعد سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 3 وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4 وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه

1 سورة الأنعام: 95.

2 سورة آل عمران: 31- 32.

3 سورة الفتح: 6.

4 سورة فصلت: 23.

ص: 352

الصلاة والسلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.

أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره، فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه فقير إليه كل من عداه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشرك فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم، من الرؤساء، فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، من الوسطاء الذين يعينونهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم.

فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء: فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح.

يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده متأله له خاضع ذليل له، والرب تبارك وتعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال، والتأله والخضوع والذل، وهذا في خالص حقه، فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره ويشرك بينه وبينه فيه، ولاسيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه، كما قال تعالى:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 2. أي: إذا كان أحدكم يأنف أن مملوكه

1 سورة الصافات: 85- 87.

2 سورة الروم: 28.

ص: 353

شريكه في رزقه فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به؛ وهي الإلهية التي لا تنبغي لغيري، ولا تصلح لسواي؟ فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري، ولا عظمني حق تعظيمي، ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي.

فما قدَّر الله حق قدره من عبد معه غيره، كما قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.

فما قدّر من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه، فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل.

وكذلك ما قدّره حق قدره من قال إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً ولا أنزل كتاباً بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً عبثاً.

ولا قدره حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فنفى سمعه وبصره، وإرادته، واختياره، وعلوّه فوق خلقه، وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد، أو نفى عموم قدرته وتعلّقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم، فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه، وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاؤون بدون مشيئة الرب تبارك وتعالى، فيكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون، تعالى الله عز وجل عن قول أشباه المجوس علواً كبيراً.

وكذلك ما قدّره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله العبد ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له فيها البتة بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فيعاقب عبده على فعله، وهو سبحانه وتعالى الذي جبر العبد عليه، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق المخلوق، فإذا كان من المستقر في الفطر والعقول

1 سورة الزمر: 67.

ص: 354

أن السيد لو أكره عبده على فعل وألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان قبيحاً؛ فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير، ولا هو واقع بإرادته بل ولا هو فعله البتة، ثم يعاقب عليه عقوبة الأبد؟ تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً.

وقول هؤلاء شر من أقوال المجوس، والطائفتان ما قدروا الله حق قدره.

وكذلك ما قدّره من لم يصنه عن بئر ولا حشٍ ولا مكان يرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان وصانه عن عرشه أن يكون مستوياً عليه، يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وتعرج الملائكة والروح إليه وتنزل من عنده، ويدبرّ الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه، فصانه عن استوائه على سرير الملك1، ثم جعله في كل مكان يأنف الإنسان بل غيره من الحيوان أن يكون فيه.

وما قدره حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته، ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله، ولا من نفى حقيقة فعله ولم يجعل له فعلاً اختيارياً يقوم به، بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه، فنفى حقيقة محبته وإتيانه واستوائه على عرشه، وتكليمه موسى عليه السلام من جانب الطور، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه، إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها وزعموا أنهم بنفيها قدروا الله حق قدره.

وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولداً، وجعله يحل في مخلوقاته وجعله عين هذا الوجود.

وكذلك لم يقدره حق قدره من قال إنه رفع أعداء رسوله وأهل بيته وأهمل ذكرهم وجعل فيهم الملك والخلافة والعفو، ووضع أولياء رسوله وأهانهم وأذلهم، وضرب عليهم الذلة أينما ثقفوا، وهذا يتضمن غاية القدح في الرب-

1 هذه اللفظة لا يصح إطلاقها هكذا، والواجب إثبات صفة الاستواء دون زيادة أو نقص في الألفاظ؛ فنقول كما قال ربنا {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .

ص: 355

تبارك وتعالى عن قول الرافضة علواً كبيراً-. وهذا القول مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين أنه أرسل ملكاً ظالماً فادّعى النبوة لنفسه، وكذب على الله تعالى، ومكث زمناً طويلاً يكذب عليه كل وقت، ويقول قال كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا، وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم، ويقول الله تعالى أباح لي ذلك، والرب تبارك وتعالى يظهره ويؤيده، ويعليه ويقويه، ويجيب دعواته، ويمكنه ممن يخالفه، ويقيم الأدلة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلا ظفر به فيصدقه بقوله وفعله وتقريره، ويحدث أدلة تصدقه شيئاً بعد شيء، ومعلوم أن هذا يتضمن أعظم القدح والطعن في الرب سبحانه وتعالى، وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيته، تعالى عن قول الجاحدين علواً كبيراً.

فوازن بين قول هذا وقول إخوانه من الرافضة تجد القولين:

رضيعا لبان ثدي أم تقاسما

باسحم داج عوض لا يتفرق

وكذلك لم يقدره حق قدره من قال إنه يجوز أن يُعذّب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين ويدخلهم دار الجحيم، وينعم أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين ويدخلهم دار النعيم، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك فمعناه الخبر لا مخالفة حكمته وعدله وقد أنكر سبحانه وتعالى في كتابه على من يجوز عليه ذلك غاية الإنكار وجعل الحكم به من أسوء الأحكام.

وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين المشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.

وكذلك لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه

ص: 356

فضيعه، وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، طاعته المخلوق أهم عنده من طاعته، فلله الفَضْلَةُ من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك لأنه المهم عنده، يستخف بنظر الله إليه وإطلاعه عليه وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه وإطلاعهم عليه بكل قلبه وجوارحه، يستحيي من الناس ولا يستحيي من الله عز وجل، ويخشى الناس ولا يخشى الله عز وجل، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، وإن عامل الله عز وجل عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة إلهه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة، قد فرغ له قلبه وجوارحه، وقدمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام في حق ربه -إن ساعده القدر-1 قام قياماً لا يراه مثله لمخلوق من مخلوقاته، وبدا له ما لم يستح أن يواجه به مخلوقاً لمثله، فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟ وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه نجي محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟ فلو جعل من أقرب الخلق إليه شريكاً في ذلك لكان ذلك جزاؤه، وتوثبا على محض حقه واستهانة به، وتشريكاً بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه وتعالى، فكيف وإنما شرك بينه وبين أبغض الخلق إليه وأهونهم عليه وأمقتهم عنده وهو عدو على الحقيقة، فإنه ما عبد من دون الله إلا الشيطان، كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 2. ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم في نفس الأمر للشيطان، وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3.

1 الصواب أن يقال: إن ساعده الله. ولا يجوز إضافة شيء للقدر أو الأقدار.. لأنها مخلوقة. وانظر: "المجموع الثمين في فتاوى الشيخ ابن عثيمين"(1/115) .

2 سورة يس: 60- 61.

3 سورة سبأ: 40- 41.

ص: 357

فالشيطان يدعو المشرك إلى عبادته ويوهمه أنه ملك.

وكذلك عُبّاد الشمس والقمر والكواكب يزعمون أنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب، وهي التي تخاطبهم وتقضي لهم الحوائج، ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان لعنه الله تعالى فيسجد لها الكفار فيقع سجودهم له وكذلك عند غروبها.

وكذلك من عَبَدَ المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان فإنه يزعم أنه يعبد من أمره لعبادته وعبادة أمه ورضيها لهم وأمرهم بها، وهذا هو الشيطان الرجيم- لعنه الله تعالى- لا عبد الله ورسوله، ونزل هذا كله على قوله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} . فما عبد أحد من بني آدم غير الله عز وجل كائناً من كان إلا وقعت عبادته للشيطان، فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضا الشيطان، ولهذا قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} من إغوائهم وإضلالهم {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1. فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله تعالى، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه يوجب الخلود في النار، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه، بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله، وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك، أو يرضى به، تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً انتهى.

وإنما سقنا هذا المبحث العظيم الذي يعقد عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ؛ لما فيه من الفوائد التي لا يستغنى عنها من نصح نفسه، وإنما الغرض

1 سورة الأنعام: 128.

ص: 358

بيان ما في التوسل والاستغاثة بالأموات والغائبين من سوء الظن بالله رب العالمين.

الوجه التاسع: أن الله تعالى حرم القول عليه بغير علم وجعله أعظم من الشرك، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} 1 الآية. فرتب المحرمات منتقلاً من الأدنى إلى الأعلى، وقال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 2. ومن عرف الشرك حق المعرفة يعلم أن من قال تجوز الاستغاثة والتوسل بالأنبياء والصالحين والنذر لهم والحلف وما أشبهه من التعظيم له نصيب وافر من الكذب على الله وعلى رسوله، ومن الصد عن سبيل الله وابتغاء العوج، والله المستعان، وقال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} 3.

ويتبين كذب الغلاة على الله وعلى رسوله وعلى عباده الصالحين بالكلام على ما ساقه هذا المعترض من الأدلة التي يزعم أنها تدل على دعواه، وتنصر ما قاله وافتراه.

فأما قوله: "اعلم أن المجوزين للاستغاثة بالأنبياء والصالحين مرادهم أنها أسباب ووسائل بدعائهم، وأن الله يفعل لأجلهم لا أنهم الفاعلون استقلالاً من دون الله ".

1 سورة الأعراف: 33.

2 سورة هود: 18- 19.

3 سورة يونى: 68- 70.

ص: 359

فإن هذا كفر بالاتفاق؛ فجواب هذا تقدم في الوجه الثاني، وذكرنا أن المشركين من عهد نوح إلى عهد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم لم يقصدوا سوى هذا، ولم يدعوا لآلهتهم غيره، وأنهم ما زادوا حرفاً واحداً على هذا العراقي وشيعته، وهو يظن أن النزاع في دعواه الاستقلال وليس الأمر كذلك، فإن النزاع بين الرسل وقومهم إنما هو في توحيد العبادة، فكل رسول أول ما يقرع أسماع قومه بقوله:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1 وكان المشركون من الجاهلية يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" فأثبتوا الشرك في العبادة واعتقدوا أن آلهتهم مملوكة لا مستقلة، وهذا ظاهر في القرآن والسنة، لا يجهله من عرف ما الناس فيه من أمر دينهم، وإنما خفي ذلك على هذا المعترض لفرط جهله وقلة فهمه، ولأنه نشأ بين عباد القبور المتوسلين بها وبأهلها، فظن أن هذا هو الإسلام، والمسكين لم يعرف ربه وما يجب له من الحقوق على كافة الأنام، ولم يتخرج على إمام يعتمد في بيان الشرائع والأحكام، مع أن عباد القبور في هذه الأزمان اعتقدوا التدبير والتصريف لمن يعتقدونه، فطائفة قالت يتصرف في الكون سبعة، وطائفة قالت يتصرف أربعة، وطائفة قالت يتصرف سبعون! واختلفوا في قطبهم الذي إليه يرجعون- تعالى الله عما يقول الظالمون- فأهل مصر يرون أنه البدوي، وأهل العراق يرجّحون الشيخ عبد القادر، والرافضة يرون ذلك للأئمة من أهل البيت، وهذا مشتهر عنهم لا ينكره إلا مكابر.

وقد حكم المعترض الجاهل بأن دعوى الاستقلال كفر بالاتفاق، وعلى قول غلاة عباد القبور مصدر التصريف عنهم يستقلون به، لأن الوكيل يستقل بتدبير ما وكل إليه، وحينئذ فإذا لم يعرف العبادة ومسألة النزاع كيف يجادل عن قوم جزم بكفرهم وحكى عليه الاتفاق؟! فالرجل مخلط لا يدري ما يقول.

وأما قوله: ولا "يخطر ببال مسلم جاهل فضلاً عن عالم" إلخ.

1 سورة الأعراف: 59.

ص: 360

فيقال: أين العنقاء لتطلب؟ وأين السمندل ليجلب؟ إذا صح الإسلام لم يرغب أهله إلى دعاء غير الله من العباد والأوثان والأصنام.

وأما قوله: "بل ليس هذا خاصاً بنوع الأموات، فإن الأحياء وغيرهم من الأسباب العادية، كالقطع للسكين والشبع للأكل والري والدفء لو اعتقد أحد أنها فاعلة ذلك بنفسها من غير استنادها إلى الله يكفر إجماعاً".

فيقال: إذا كان إسناد الفعل إليها استقلالاً يكفر فاعله إجماعاً- وهي من الأسباب العادية التي أودع الله تعالى فيها قوة فاعلة- فكيف لا يكفر من أسند ما لا يقدر عليه إلا الله من إغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات إلى غير الله من الصالحين أو غيرهم، وزعم أنهم وسائل، أو أن الله وكّل إليهم التدبير كرامة لهم؟ هذا أولى بالكفر وأحق به ممن قبله.

ويقال للزائغ: أنت لا ترضى تكفير أهل القبور لاحتمال العذر والشبهة، وأنه شرك أصغر، يثاب من أخطأ فيه، فكيف جزمت بكفر من أسند القطع للسكين من غير استناد إلى الله؟ وما الفرق بين من عذرته وجزمت بإثابته وبين من كفرته وجزمت بعقابه؟ ليست إحدى المسألتين بأظهر من الأخرى، وما يقال من الجواب فيما أثبته من الكفر يقال فيما نفيته.

يوماً بجزوء ويوماً بالعقيق

وبالعذيب يوماً ويوماً بالخليصاء

أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.

ويقال: جمهور العقلاء على الفرق بين الأسباب العادية وغيرها، فالشبع والري والدفء أسباب عادية فاعلة، وإنما يكفر من أنكر خلق الله لهذه الأسباب وقال بفعلها دون مدبر عليم حكيم، وهذا البحث يتعلق بتوحيد الربوبية، وأما جعل الأموات أسباباً يُستغاث بها وتُدعى وتُرجى وتُعظّم على أنها وسائط؛ فهذا دين عبَّاد الأصنام، يكفر فاعله بمجرد اعتقاده وفعله وإن لم يعتقد الاستقلال، كما نص عليه القرآن في غير موضع، فالغلاة معارضون للقرآن مصادمون لنصوصه.

ص: 361

وأما قوله: "إن السبكي والقسطلاني والسمهودي وابن حجر في "الجوهر المنظم" قالوا: والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره في معنى التوسل إلى الله تعالى بجاهه" إلخ.

فيقال: مسألة الاستغاثة به وبجاهه ليست هي مسألة النزاع، ومراد أهل العلم أن يسأل الله بجاه عبده ورسوله لا أن يسأل الرسول نفسه، فإن هذا لا يطلق عليه توسل بل هو دعاء واستغاثة، وأن لفظ التوسل صار مشتركاً، فعباد القبور يطلقون التوسل على الاستغاثة بغير الله ودعائه رغباً ورهباً، والذبح والنذر والتعظيم بما لم يشرع في حق مخلوق، وأهل العلم يطلقونه على المتابعة والأخذ بالسنة، فيتوسلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التوسل في عرف القرآن والسنة كما يأتيك مفصلاً إن شاء الله تعالى، ومنهم من يطلقه على سؤال الله ودعائه بجاه نبيه أو بحق عبده الصالح أو بعباده الصالحين، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخرين كالسبكي والقسطلاني وابن حجر.

وبالجملة؛ فما نقله هنا عمن ذكر ليس من مسألة النزاع في شيء، وإن كابر الغلاة وزعموا أنهم قصدوا دعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم أنفسهم وأن هذا يسمى توسلاً، فهذا عين الدعوى والدعوى يحتج لها لا بها، فبطل كلامه على كل تقدير.

وأما قوله: "أو بأن يدعو الله كما في حال الحياة إذ هو غير ممتنع".

فيقال: هذا جرأة على الله وعلى رسوله، وتقدم إليه بما لم يشرعه ولم يأذن فيه، وأعلم الخلق به أصحابه وأهل بيته وأئمة الدين من أمته لم يفعل أحد منهم ذلك ألبتة ولا نقله من يعتد به، وهم أعلم الخلق به وبدينه وشرعه، وما يجوز وما يمتنع، فلا يخلو إما أن تسلم هذه المقامات ويجزم بأن الخروج عن هديهم من أفظع الجهالات وأضل الضلالات، أو تسلم تلك المقدمات ويدعى أن الخلف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون أحق بالصواب والعلم والمتابعة

ص: 362

في تلك المسائل والمقالات، وهذا إخلال بجملة الدين، وقدح في القرون المفضلة بنص سيد المرسلين، وكفى بهذا فضيحة وجهلاً لو كانوا يعلمون.

وأما قوله: "مع علمه بسؤال من سأله والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره".

فيقال: أما دعوى عموم العلم بسؤال السائلين لمن يستغيث به جهلة القبوريين فالأخذ به وإطلاقه على غير الله كفر صريح باتفاق أهل العلم، فإن من زعم إحاطة العلم وعمومه لغير الله أو عموم القدرة أو الرزق أو الخلق لغيره سبحانه يكفر كفراً واضحاً، كما ذكره شراح الأسماء وغيرهم من أهل العلم، وأما دعوى تخصيص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي قال: وإن كانت من جنس ما قبلها في الرد والمنع- تبطل مذهب عباد القبور، ودعائهم لغير الله من الغائبين والأموات، فإن دعاء الغافل الذي لا يعلم بحال الداعي ولا يدريها ضلال مستبين، قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 1.

وأما قوله: "والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره ممن هو أعلى منه وليس لها في قلوب المسلمين غير ذلك" إلى آخره.

فيقال: هذا يدل على جهل هذا الغبي باللغة والشرع، فإن الداعي السائل لغيره لا يسمى مغيثاً، والمغيث من يفعل الإغاثة ويحصل الغوث بفعله.

قال شيخ الإسلام: "من زعم أن مسألة الله بجاه عبده تقتضي أن يسمى العبد مغيثاً، أو يكون ذلك استغاثة بالعبد فهذا جهل، ونسبته إلى اللغة أو إلى أمة من الأمم كذب ظاهر، فإن المغيث هو فاعل الإغاثة ومحدثها لا من تطلب بجاهه وحقه، ولم يقل أحد أن التوسل بشيء هو الاستغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور- كقول أحدهم: نتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو

1 سورة الأحقاف: 5.

ص: 363

باللوح والقلم، أو بالكعبة، في أدعيتهم- يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، وأن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يسأل وإنما يطلب به، فكل أحد يفرق بين المدعو به والمدعو" وتقدم ذلك.

فقول هذا الزائغ: "والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث والغوث منه تسبباً وكسباً".

فيقال: نعم هذا معتقد من يعبد الأنبياء والصالحين ويستغيث بهم، يقول هم سببي وواسطتي، يحصلون لي بكسبهم، والله هو الخالق ولا أدعي غير ذلك، ولا نازع في الخلق والربوبية إلا فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه، وجمهور المشركين على الأول كما تقدم تقريره فبطل تعليله.

وأما قوله: "ولا يعارض ذلك خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ. لأن في سنده ابن لهيعة والكلام فيه مشهور".

فيقال: ابن لهيعة1 خرّج له البخاري ومسلم فجاوز القنطرة، ولا يقدح فيما رواه ابن لهيعة إلا جاهل بالصناعة والاصطلاح، وهو قاضي مصر وعالمها ومسندها، روى عن عطاء ابن أبي رباح، والأعرج، وعكرمة، وخلق، وعنه روى شعبة ابن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وابن وهب وخلق، ومن طعن في ابن لهيعة بقول بعض الناس فيه لزمه الطعن في كثير من الأكابر المحدثين، كسعيد المقبري، وسعيد بن أياس الجريري، وسعيد بن أبي عروبة، وإسماعيل بن أبان، وأزهر بن سعد السمان البصري، وأحمد بن صالح المصري، وأبو اليمان، وأمثالهم ممن خرج له البخاري وغيره من الأئمة.

1 انظر: "التاريخ الكبير"(5/182) و"الجرح والتعديل، (5/145) و"تذكرة الحفاظ" (1/237) و"سير الأعلام" (8/10) و "تهذيب الكمال" (2/728) و"الأخطاء الإسنادية وتصويبها ويليه: ما قيل في الإمام ابن لهيعة المصري" لعبد العزيز العيثم- ط. أضواء السلف.

ص: 364

فدَعْ عنك الكتابة لستَ منها

ولو سوّدتَ وجهك بالمداد

وأما قوله: "وبفرض صحته

" فهو على حد قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم"2.

وهذا من نوادر جهل هؤلاء الضلال، فإن لفظ الاستغاثة طلب الغوث ممن هو بيده لمن أصابته شدة ووقع في كرب. والأنجح والأولى لمن أصابه ذلك أن يستغيث بمن يجيب المضطر إذا دعاه، الموصوف بأنه غيّاث المستغيثين، مجيب المضطرين، أرحم الراحمين. فلفظ الاستغاثة يستعمل في مخّ العبادة وما لا يقدر عليه إلا الله، عالم الغيب والشهادة.

فكره صلى الله عليه وسلم إطلاقه عليه فيما يستطيعه ويقدر عليه حماية لحمى التوحيد، وسداً لذريعة الشرك، وإن كان يجوز إطلاقه فيما يقدر عليه المخلوق فحماية جانب التوحيد من مقاصد الرسول ومن قواعد هذه الشريعة المطهرة، فأين هذا من قوله:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . فإن الرمي المنفي هو إيصال ما رمى به إلى أعين المشركين جملتهم، وهزيمتهم بذلك، والرمي المثبت ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من رمي ما أخذ بكفه الشريفة من التراب واستقبال. وجوه العدو به.

وأما قوله: وكثيراً ما تجيء السنة بنحو هذا من بيان حقيقة العلم ويجيء القرآن من إضافة الفعل إلى مكتسبه، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لن يدخل أحد الجنة بعمله"3. مع قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4. فالأمر ليس كما توهّمه هذا الزائغ، فإن الباء في الحديث باء المعاوضة والمبادلة، وفي الآية هي باء السببية لا باء المعاوضة، فالمنفي غير المثبت. كما نص عليه أهل العلم وأهل التفسير، وكل

1 سورة الأنفال: 17.

2 أخرجه مسلم (1649) .

3 أخرجه مسلم (2816) .

4 سورة النحل: 32.

ص: 365

فاضل وعارف بصير، نعوذ بالله من القول على الله وعلى كتابه بغير علم ولا سلطان منير.

وأما قوله: "إن إطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث ولو تسبباً أمر معلوم لا شك فيه لغة ولا شرعاً".

فقد تقدم كلام شيخ الإسلام في نفي الاستغاثة عمن يسأل الله بجاهه وحقه وعمن يدعو لغيره، وأن من قال ذلك قد كذب على سائر اللغات والأمم، وأما من يسأل ويدعو وينادي -كما يفعله عباد القبور بمن يدعونه- فهذا يسمى استغاثة، كما يسمى عبادة لغير الله وشركاً بالله، وهذا النوع ليس النزاع في اسمه وإنما النزاع في جوازه وحله، وأما حديث الشفاعة فهو فيما يقدر عليه البشر من الدعاء كما يسأل الحي الحاضر أن يدعو الله وأن يستسقي.

وأما كلام الشيخ ابن تيمية الذي نقله عن المصنفين في أسماء الله فهو حجة لنا على عباد القبور، فإنهم استغاثوا بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.

وقوله: وإن حصلت من غيره تعالى فهو مجاز.

جوابه: أن الاستغاثة التي هي من جنس الأسباب العادية التي يقدر عليها المخلوق وفي وسعه، فهذه وإن حصلت من العبد فهي حقيقة لا مجاز، ولا ينازع في هذا من عرف شيئاً من اللغة، والعبد يفعل حقيقة، فيأكل حقيقة، ويشرب حقيقة، ويهب حقيقة، وينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً حقيقة، والله سبحانه خلق العبد وما يعمل، وهذا معروف من عقائد أهل السنة والجماعة، وإنما ينفي الفعل حقيقة عن فاعله ومن قام به القدرية المجبرة الذين يزعمون أن العبد مجبور، وأنه لا اختيار له ولا مشيئة، كما هو مبسوط في موضعه، والغلاة صفر اليدين من هذه المباحث المهمة.

وكذلك قوله: الاستغاثة بمعنى أن يطلب منه ما هو اللائق بمنصبه؛ لا ينازع فيها مسلم، فاللائق بمنصبه الشريف أن يطلب منه ما يستطيعه ويقدر عليه، كالدعاء وسائر الأسباب العادية ونحو ذلك، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله كهداية

ص: 366

القلوب، ومغفرة الذنوب والإنقاذ من النار ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله الواحد القهار؛ فهذا إنما يليق بمقام الربوبية، قال تعالى:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1. وقال: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} 2. وقال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 3. وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 4. وقال رجل: أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد، فقال صلى الله عليه وسلم:"عرف الحق لأهله"5.

وأما قوله: وقد ذكر المجوّزون أنّ جعل النبي صلى الله عليه وسلم متسبباً لا مانع من ذلك شرعاً وعقلاً.

فيقال: هذه العبارة ركيكة التركيب، والمجوزون للاستغاثة الله بغير فيما لا يقدر عليه إلا الله هم خصومنا فلا حجة في كلامهم، بل الشرع والعقل يرد مذهبهم ويبطله كما مر تقريره عن ابن القيم. وأما الأسباب العادية فإنها قد تجب، وقد تُسْتَحَبُّ، وقد تُبَاحُ، وقد تُكْرَه، وليس الكلام، فيها والمستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله لا ينجيه مجرد اعتقاده أن ذلك بإذن الله، بل لا بد من إخلاص الدعاء والاستغاثة، ودعاء المستغيث من أجلّ العبادات، فيجب إخلاصه لله.

وقول الغلاة: ومن أقر بالكرامة وأنها بإذن الله لم يجد بداً من اعترافه بجواز ذلك.

1 سورة القصص: 56.

2 سورة آل عمران: 135.

3 سورة الزمر: 19.

4 سورة آل عمران: 128.

5 حديث ضعيف. أخرجه أحمد (3/435) أو رقم (15629- قرطبة) والحاكم (4/255) والطبراني في " الكبير"(1/رقم: 839، 840) والبيهقي في "شعب الإيمان"(4/103/4225) والدينوري في "المجالسة"(2/387- 388/562) . وصححه الحاكم، وتعقّبه الذهبي.

وانظر: "مجمع الزوائد"(10/199) و"ضعيف الجامع"(رقم: 3705) .

ص: 367

فيقال: بل البد والسعة واليسر في القول بأنه لا يستغاث بالمخلوق فيما يختص بالخالق، ولو كان المخلوق قد ثبت له من الكرامة ما ثبت فالكرامة فعل الله لا فعل غيره، والمستغاث هو الله لا غيره، ولم يكن الصحابة يستغيثون ويسألون من ظهرت له كرامة أو حصلت له خارقة من الخوارق، فهذا الكلام الذي قاله الغلاة جهل مركب يليق بقائله، وكل إناء بالذي فيه ينضح.

وأما قوله: والأخبار النبوية قد عاضدته، والآثار قد ساعدته.

فبالوقوف على ما مر من كلامنا تعرف أن الأخبار النبوية قد عارضته وما عاضدته، بل أبطلته والآثار السلفية قد ردته وما ساعدته.

وأما قوله: ومن جعل الله فيه قدرة كاسبة للفعل مع اعتقاده أن الله هو الخالق؛ كيف يمتنع عليه طلب ذلك الشيء؟

فجوابه: أن الله لم يجعل للعباد قدرة على ما يختص به من الإغاثة المطلقة.

وأما الإغاثة بالأسباب العادية، وما هو في طوق البشر وقدرتهم؛ فهذا ليس الكلام فيه. والأموات لا قدرة لهم على الأسباب العادية، وما يطلب من الحيّ الحاضر، فما هنا ليس من ذلك القبيل، وما يستوي الأحياء ولا الأموات، وقد يجعل الله للعبد قدرة على بعض الأشياء ويمنع من سؤاله وطلبه، وفي الحديث:"لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس على وجهه مزعة لحم"1. وفيه: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً في وجهه"2. فهذا له قدرة، وقد منع السائل الغني من سؤاله، بل والسحرة جعل الله لهم قدرة على أنواع السحر والشعبذة وسؤالهم ذلك من أكبر الكبائر. فبطل قول هذا الزائغ أن من جعل الله له قدرة لا مانع من سؤاله، وكون الله قده قرب أنبياءه ورسله، وأوجب

1 أخرجه مسلم (1040) .

2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/388) وأبو داود (1626) والنسائي (3/97) والترمذي (650) وابن ماجه (1840) وغيرهم، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وصحّحه الشيخ الألباني- رحمه الله.

ص: 368

على العباد برّهم وتعظيمهم لا يقتضي ذلك أن يستغاث بهم أو يطلب منهم مالا يقدر عليهم أحد إلا الله.

والتعظيم اللائق بمناصبهم ليس من هذا الجنس، بل تعظيمهم محبتهم وطاعتهم وتعزيرهم وتوقيرهم، والإقتداء بهديهم، والأخذ بما جاؤوا به، وعباد القبور تركوا هذا التعظيم الواجب، وعظموهم بالاستغاثة والعبادة، والذبح والنذر، من جنس تعظيم أهل الكتاب لأنبيائهم ورهبانهم وأحبارهم، وهذا الزائغ- من جهله- يدعو الناس إلى طريقة الغلاة من أهل الكتاب، ويعرض عما جاءت به الرسل، ويصد عن السنة والكتاب، قال تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} 1.

وأما قوله: وقد خلق الله فيه قوة كاسبة.

فإن أراد القوة العادية البشرية الإنسانية فليس النزاع في هذا، وإن أراد ما يعتقده عُبّاد القبور في معبوداتهم من الصالحين وغيرهم، وأن لهم قدرة على إجابة المضطر، وإغاثة الملهوف، وقضاء حوائج السائلين؛ فهذا شرك في الربوبية لم يبلغه شرك المشركين من أهل الجاهلية، بل هو قول غلاة المشركين الذين يرون لآلهتهم تصرفاً وتدبيراً. وإن أراد أنهم يُدْعَوْنَ ويُسْأَلُونَ ويُستغاث بهم والله يُعطي لأجلهم؛ فهذا هو قول الجاهلية من الأميين والكتابيين. وتقدمت الآيات الدالة على ذلك، وتقدم ما حكاه الشيخ من قول النصارى: يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله. فهم طلبوا منها الشفاعة والجاه ليس إلا، وهذا من كفرهم وشركهم مع ما هم عليه من القول في عيسى وأمه- قاتلهم الله-، فإن كان هذا الزائغ أراد هذا الثاني فهو شرك غليظ، وقد تقدم له التصريح بذلك وعبارته هنا توهم الأول، وهو الغالب على عباد القبور في هذه الأزمان، نسأل الله العفو والعافية.

وأما كون الأولياء والصالحين في حال مماتهم كحال حياته يدعون لمن

1 سورة الأنفال: 22.

ص: 369

قصدهم ويتسببون في إنقاذه فهذا جهل عظيم، وقول على الله بلا علم، لم يرد به كتاب ولا سنة، ولا قاله ولا فعله أحد يعتد به ويقتدى به من أهل العلم والإيمان، وقد مضت القرون الثلاثة المفضلة ولم يعهد عن أحد منهم أنه قال ذلك أو فعله، وعندهم أشرف القبور على الإطلاق ولم يعرف عن أحد منهم أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أو دعاه ولا غيره من الصالحين، وخبر العتبي سيأتي الكلام عليه، وأن فاعل ذلك أعرابي ليس مما يُقتدى به ويُحْتَجُّ بقوله، وإن كان بعض المتأخرين احتج بحكاية الأعرابي فهو احتجاج مدخول، وقد نازعهم من هو أقدم منهم وأجل من الأكابر والفحول.

وأما قوله في قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1. فإن قال قائل: هذا في الحي وله قدرة.

قلنا: لا يجوز نسبة الأفعال إلى أحد حي أو ميت على أنه الفاعل استقلالاً من دون الله.

فهذا الكلام أورده بناء على أن النزاع في دعوى الاستقلال، وبزعمه أنه إذا لم يعتقد الاستقلال فالأسباب العادية كغيرها، ودعاء الأموات والغائبين يجوز عنده إذا لم يعتقد الاستقلال، هذه دعواه كررها مراراً واحتج بها. والدعوى تحتاج لدليل لا تصلح هي دليلاً، لاسيما هذه الدعوى الضالة الكاذبة الخاطئة، والله سبحانه حكى استغاثة المخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه من نصره على عدوه، وهذا جائز لا نزاع فيه، واعتقاد الاستقلال من دون الله وأن العبد يخلق أفعال نفسه هذه مسألة أخرى لم يقل بها إلا قدرية النفاة، والناس مختلفون في تكفيرهم بهذا القول.

وبالجملة؛ فالنزاع في غير هذه المسألة، وإنما هو في دعاء الأموات والغائبين، وإن لم يستقل بذلك المطلوب من دون الله.

1 سورة القصص: 15.

ص: 370

‌عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

ضبة ثم من بني حميس:

ألا تنهى سراة بني حميس

شويعرها فويلية الأفاعي

فسماه شويعراً، وفالية الأفاعي، دويبة فوق الخنفساء، فصغرها أيضاً تحقيراً له. وزعم الحاتمي أن النابغة سئل من أشعر الناس؟ فقال: من استجيد جيده وأضحك رديه. وهذا كلام يستحيل مثله عن النابغة لأنه إذا أضحك رديه كان من سفلة الشعراء إلا أن يكون في الهجاء خاصة.

وقال الحطيئة يصف صعوبة الشعر:

الشعر صعب وطويل سلمه

إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه

زلت به إلى الحضيض قدمه

يريد أن يعربه فيعجمه

وإنما سمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر له غيره، وإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه ولا استطراف لفظ وابتداعه ولا زيادة فيما أجحف به غيره من المعاني أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس هو بفضل مع التقصير.

ولقي رجل آخر فقال له الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر، وماص بظر أُمهِ، فأيهم أنت؟ قال: أما أنا فشويعر، واختصم أنت وامرؤ القيس في الباقي.

وقال بعضهم: الشعر شعران؛ جيد محكك وردي مضحك، س ولا شيء أثقل من الشعر الوسط والغناء الوسط. ويقال: إن الشعر كالبحر أهون ما يكون على الجاهل، أهول ما يكون على العالم، وأتعب أصحابه قلباً من عرفه حق معرفته، وأهل صناعة الشعر أبصر بها من العلماء بالله من نحو وغريب، ومثل وخبر، وما أشبه ذلك، ولو كانوا دونهم بدرجات فكيف أن قاربوهم أو كانوا منهم وقيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي

ص: 325