الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الذاهبون إلى حياته)
ومن الناس من قال بحياته، وهو موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية على ما قاله النووي، ونقل عن الثعلبي المفسر: أن الخضر نبي معمر على جميع الأقوال، محجوب عن أبصار أكثر الرجال. وقال ابن الصلاح: هو حي اليوم، وإنما ذهب إلى إنكار حياته بعض المحدثين، واستدلوا على ذلك بأخبار كثيرة.
منها: ما يروى عن ابن عباس أنه قال: الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال. ومثله لا يقال من قبل الرأي.
ومنها: ما أخرجه ابن عساكر، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا أصحابنا أن آدم عليه السلام لما حضره الموت جمع بنيه، فقال: يا بني إن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذاباً فليكن جسدي معكم في المغارة حتى إذا هبطتم فابعثوا بي وادفنوني بأرض الشام، فكان جسده معهم، فلما بعث الله تعالى نوحاً ضم ذلك الجسد، وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض فغرقت زماناً، فجاء نوح حتى نزل بابل، وأوصى بنيه الثلاثة أن يذهبوا بجسده إلى المغار الذي أمرهم أن يدفنوه به، فقالوا الأرض وحشة لا أنيس بها ولا نهتدي الطريف ولكن كف حتى يأمن الناس ويكثروا، فقال لهم نوح: إن آدم قد دعا الله تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة، فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه، فأنجز الله تعالى له ما وعده فهو يحيا إلى ما شاء الله تعالى له أن يحيا. وفي هذا سبب طول بقائه وكأنه سبب بعيد وإلا فالمشهور فيه أنه شرب من عين الحياة حين دخل الظلمة مع ذي القرنين وكان على مقدمته.
ومنها: ما أخرجه الخطيب وابن عساكر، عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي وأخذنا في جهازه خرج الناس وخلا الموضع، فلما وضعته على المغتسل إذا بهاتف يهتف من زاوية البيت بأعلى صوته: لا تغسلوا محمداً، فإنه
طاهر مطهر، فوقع في قلبي شيء من ذلك وقلت ويلك من أنت فإن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أمرنا وهذه سنته، وإذا بهاتف آخر يهتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته غسّلوا محمداً فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون حسد محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدخل قبره مغسولاً. فقلت: جزاك الله تعالى خيراً قد أخبرتني بأن ذلك إبليس فمن أنت؟ قال: أنا الخضر حضرت جنازة محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن علي كرم الله وجهه قال: بينما أنا أطوف بالبيت إذا رجل متعلق بأستار الكعبة يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم بالحجاج الملحين، أذقني برد عفوك، وحلاوة رحمتك. قلت: يا عبد الله أعد الكلام، قال: أسمعته؟ قلت: نعم. قال: والذي نفس الخضر بيده -وكان هو الخضر- لا يقولهن عبد دبر الصلاة المكتوبة إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج، وعدد المطر، وورق الشجر.
ومنها: ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" عن جابر، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الصحابة؛ دخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح، فتخطى رقابهم فبكى، ثم التفت إلى الصحابة فقال: إن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة، وعوضاً من كل فائت، وخلفاً من كل هالك، فإلى الله تعالى فأنيبوا، وإليه تعالى فارغبوا، وننهره سبحانه إليكم في البلاء؛ فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر، فقال أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما: هذا الخضر عليه السلام1.
1 أخرجه الحاكم (3/57) والطبراني في "الأوسط"(2/ 388/1234- مجمع البحرين) من طريق: كامل بن طلحة الجحدري، ثنا عباد بن عبد الصمد، ثنا أنس بن مالك به.
وقد وهم المصنف في نقله أن الخبر من حديث جابر.
تال الحاكم: "هذا شاهد لما تقدم؛ وإن كان عباد بن عبد الصمد ليس من شرط هذا الكتاب". وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 3) : "عباد ضعّفه البخاري وقد اعتذر الحاكم عن إيراده" قلت: عباد بن عبد الصمد أبو معمر، ضعيف جداً كما قال أبو حاتم، وقال البخاري:"منكر الحديث فيه نظر".
إلى غير ذلك مما لم يدل على حياته اليوم بل يدل على أنه كان حياً في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من حياته إذ ذاك حياته اليوم.
والنافون أجابوا عن هذه الأحاديث، وقالوا: إن الأخبار التي ذُكر فيها الخضر عليه السلام وحياته كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد، ومن ادّعى الصحة فعليه البيان.
ثم إن المشايخ لم يتفقوا على القول بحياته، فقد نقل الشيخ صدر الدين إسحق القونوي في كتابه (تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي) أن وجود الخضر عليه السلام في عالم المثال. وذهب عبد الرزاق الكاشي إلى أن الخضر عبارة عن البسط وإلياس عن القبض. وذهب بعضهم إلى أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر الذي كان في زمن موسى عليهما السلام، إلى غير ذلك من الأقوال المذكورة في "روح المعاني".
وفيه أيضاً: ثم اعلم بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته أي مساعدة، وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة، ولا مقتضى للعدول عن تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية -والله أعلم بصحتها- عن بعض الصالحين الأخيار. هذا ملخص ما في تفسير "روح المعاني" مما يرغم أنف لنبهاني، فتمسك بما قاله أئمة المحدّثين، فهم أعلم الناس بشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
الوجه الثامن من الوجوه الدالة على فساد قول النبهاني: أن ما نقله عن ابن حجر المكي وما وقع له مع شيخه وأبي يحيي زكريا الأنصاري وأن أبا يحيي قال لشيخ ابن حجر- وكان منكراً للأقطاب والأبدال-: هكذا يا شيخ محمد. وكرر ذلك عليه، حتى قال له الشيخ محمد: يا مولانا شيخ الإسلام آمنت بذلك وصدقت به وقد تبت. فقال: هذا هو الظن بك
…
إلخ-؛ لا يقوم حجة على المنكرين، إذ مدار الاستدلال على الكتاب والسنة، لا بمثل قول أبي يحيي للشيخ
محمد عند إنكاره هكذا يا شيخ محمد مكرراً ذلك.
ومثل هذه الخرافات يأنف عن نقلها أرباب العقول السليمة، ففي "روح المعاني"- عند الكلام على قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} 1 بعد نقل عبارة الفتوحات في النقباء من أنواع الأولياء- قال: "وقد عد الشيخ أنواعاً كثيرة، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء، ففي بعض فتاوى ابن تيمية: وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة "فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى، ولا هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله وجهه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن فيهم- يعني أهل الأبدال- أربعين رجلاً، كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً"2 ولا توجد أيضاً في كلام السلف" انتهى. غير أني رأيت في موضع آخر من (روح المعاني) عند الكلام على قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} 3: "ولهم في تعريفه عبارات شتى تقدم بعضها، وفي (الفتوحات) هو الذي تولاه الله تعالى في مقام مجاهدته الأعداء الأربعة: الهوى، والنفس، والشيطان، والدنيا، وفيها تقسيم الأولياء إلى عدة أقسام: منها الأقطاب، والأوتاد، والأبدال، والنقباء، والنجباء، وقد ورد ذلك مرفوعاً وموقوفاً من حديث عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأنس، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وعوف بن مالك، ومعاذ بن جبل، وواثلة بن الأسقع، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأم سلمة، ومن مرسل الحسن، وعطاء،
1 سورة المائدة: 12.
2 حديث موضوع؛ انظر "الضعيفة"(935، 936) .
3 سورة يونس: 62- 64.
وبكر بن خنيس، ومن الآثار عن التابعين ومن بعدهم ما لا يحصى، وقد ذكر ذلك الجلال السيوطي في رسالة مستقلة له، وشيد أركانه، وأنكره كما قدمنا بعضهم، والحق مع المثبتين، وأنا والحمد لله تعالى منهم، وإن كنت لم أشيد قبل أركان ذلك، والأئمة والحواريون والرجبيون والختم والملامية والفقراء وسقيط الرفرت بن ساقط العرش والأمناء والمحدثون إلى غير ذلك ".
وفي موضع آخر من تفسير (روح المعاني) عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 قال بعد كلام طويل: "إن الآية متضمنة الوعد منه عز وجل لأهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم إن ينتهوا عما ينهون عنه، ويأتمروا بما يأمرهم به؛ يُذْهِبْ عنهم- لا محالة- مبادىء ما يُسْتَهْجَن، ويحليهم أجل تحلية بما يستحسن، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم، وترتب الآثار الجميلة عليها قطعاً، ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم، من حيث أن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك، ولذا تجد عباد أهل البيت أتم حالاً من سائر العباد المشاركين لهم في العبادة الظاهرة، وأحسن أخلاقاً وأزكى نفساً، وإليهم تنتهي سلاسل الطرائق التي مبناها- كما لا يخفى على سالكيها- التخلية والتحلية، اللتان هما جناحان للطيران إلى حظائر القدس، والوقوف على أركان الأنس، حتى ذهب قوم إلى أن القطب في كل عصر لا يكون إلا منهم، خلافاً للأستاذ أبي العباس المرسي حيا ذهب- كما نقل عنه تلميذه التاج بن عطاء الله- إلى أنه قد يكون من غيرهم.
قال: ورأيت في مكتوبات الإمام الفاروقي الرباني مجدد الألف الثاني ما حاصله: أن القطبية لم تكن على سبيل الأصالة إلا لأئمة أهل البيت المشهورين، ثم إنها صارت بعدهم لغيرهم على سبيل النيابة عنهم، حتى انتهت النوبة إلى السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني، فنال مرتبة القطبية على سبيل الأصالة، فلما عرج بروحه القدسية إلى أعلى عليين نال من نال بعده تلك الرتبة على سبيل النيابة عنه،
1 سورة الأحزاب: 33.