الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد حان أن نشرع بالمقصود، والذب عن شريعة صاحب المقام المحمود، والحوض المورود. اللهم اجعلني أصول بك عند الضرورة، وأسألك عند الحاجة، وأتضرع إليك عند المسكنة، ولا تفتني بالاستعانة بغيرك إذا اضطررت، ولا بالخضوع لسؤال غيرك إذا افتقرت، ولا بالتضرع إلى من هو دونك إذا رهبت، فأستحق بذلك خذلانك ومنعك وإعراضك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعل ما يلقي الشيطان في روعي من التمنّي والتطني والحسد ذكراً لعظمتك، وتفكّراً في قدرتك، وتدبيراً على عدوك، وما أجري على لساني من لفظة فحش، أو انتهاك عرض، أو شهادة باطل، أو اغتياب مؤمن غائب، أو سب حاضر، وما أشبه ذلك؛ نطقاً بالحمد لك، واعترافاً في الثناء عليك، وذهاباً في تمجيدك، وشكراً لنعمتك، واعترافاً بإحسانك، وإحصاءً لمننك، إنك مجيب الدعاء.
ولا بد قبل الخوض في إبطال الباطل، ورد الكلام العاطل، من معرفة أمور تزيد من علمها بصيرة في التمييز بين الخطأ والصواب، وتعين على الوقوف على الحق من طرق هذا الباب، ومن الله نستمد التوفيق، وبيده أزمة التدقيق والتحقيق.
(الأمور التي يجب التنبيه عليها، والإشارة بيسير العبارة إليها)
الأمر الأول: إن الكتب المصنفة في حقائق الدين وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا تحصى كثرة في كل عصر من الأعصار، ولاسيما في هذه الأزمان الأخيرة، فقد انتشرت الكتب الإسلامية -بواسطة صناعة الطبع -انتشاراً لم يُعْهَدُ مثله في الأعصر الخالية، ومع ذلك لم تؤثر في القلوب القاسية شيئاً.
فإن أمثال النبهاني1 المعرضين عن الحق المتبعين لأهوائهم، كثيرون في الأقطار والبلاد، ودلائل الحق واضحة جلية، ولم يلتفتوا إليها، ولا عرجوا عليها، وهذا وإن اغترَّ به العوام، والجهلة الطغام، فهو لا يضر الحق ولا يمس شرف
1 تقدمت ترجمته في مقدّمة الكتاب.
أهله، فإن الأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جداً، كما ذكر ذلك الحافظ ابن القيم في الهداية1.
فمنها: الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئاً عاداه وعادى أهله، فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من قبول الحق أقوى، فإن انضاف إلى ذلك إلفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظّمه قوي المانع، فإن انضاف إلى ذلك توهّمه أن الحق الذي دُعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعن شهواته وأغراضه قوي المانع من القبول جداً، فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما نرى كثيراً ممن ينتسب إلى العلم من أهل المناصب والجرايات ينتسبون إلى الطرائق المبتدعة، ويظهرون ما يروج من العقائد لدى حكومتهم ودولتهم، ويتجنبون من العقائد السّلفية، وإظهار السنن النبوية مع علمهم بحقية حقائقها، ووقوفهم على دقائقها محافظة على الزخارف الدنيوية، والسفاسف الدنية، وأعرف من هؤلاء عددا ًكثيراً؛ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 2.
فإذا كان الأمر على ما ذكر ازداد المانع من قبول الحق قوة، فإن هرقل عرف الحق وهمّ بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه، وخافهم على نفسه، واختار الكفر على الإسلام بعدما تبين له الهدى، وقصته مشهورة3.
ومن أعظم هذه الأسباب؛ الحسد، فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه، وأوتي ما لم يؤتَ نظيره، فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟! فإنه لما رآه قد
1 أي "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى"، وقد حقّقتُه- ولله الحمد- عن مخطوطتين؛ يسّر الله نشره.
2 سورة البقرة: 16.
3 انظر قصّته في "صحيح البخاري"(رقم: 7- وانظر أطرافه هناك) .
فضل عليه ورفع فوقه؛ غص بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة.
وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا علمًا لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى، فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان، وأطبقوا عليه، وهم أمة فيهم الأحبار والعلماء والزهّاد، والقضاة والملوك والأمراء، هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعة تخالفها ولم يقاتلهم وإنما أتى بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفاً ورحمة وإحساناً، وجاء مكمّلاً لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الإيمان.
فكيف يكون حالهم مع نبيّ جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع، مبكتاً لهم بقبائحهم، ومنادياً على فضائحهم، ومخرجاً لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم، ويعلو هو وأصحابه، وهم معه دائماً في سفاك؟ فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟ وأين تقع حالهم معه من حالهم مع المسيح، وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى، وهذا السبب وحده كاف في رد الحق، فكيف إذا انضاف إليه زوال الرياسات والمآكل كما تقدم؟! وقد أطنب ابن القيم الكلام، وأتى بما تعشقه الأسماع والأفهام، وله كلام مفصل يتعلق بهذا الباب ذكره في كتاب (مفتاح دار السعادة) ولعلنا نذكر منه شيئاً فيما سيأتي إن شاء الله.
والمقصود؛ أن لعدم قبول الحق والإذعان له أسباباً كثيرة كلها موجودة في الغلاة، والغالب منها قسوة قلوبهم، كما أخبر الله تعالى عن اليهود بقوله:
1 سورة البقرة: 74.
وفي (باب فضل من علم وعلم) من كتاب (صحيح الإمام البخاري) حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"1.
قال شارحه الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني -بعد كلام له ناقلاً عن الإمام القرطبي وغيره-: "ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم: العالم العامل المعلم؛ فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم: الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله ولم يتفقه فيما جمع، لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: "نضّر الله امرأً سمع مقالتي فأداها كما سمعها" 2. ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره؛ فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها. وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها والله أعلم.
قال: ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني:
1 أخرجه البخاري (79) ومسلم (45) .
2 حديث صحيح، مروي عن جمع من الصحابة، وقد توسّعتُ في تخرجيه في تحقيقي لـ "شرف أصحاب الحديث" للخطيب البغدادي؛ فأنظره هناك.
الأولى منه: من دخل في الدين ولم يسمع العلم، أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم:"من لم يرفع بذلك رأساً" أي: أعرض عنه لم ينتفع به ولا نفع، والثانية منه: من لم يدخل في الدين أصلاً بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض الصماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم:"ولم يقبل هدى لله الذي جئت به". وقال الطيبي: بقي من أقسام الناس قسمان: أحدهما: الذي انتفع بالعلم ولم يعلمه غيره. والثاني: من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره. قلت: والأول داخل في الأول، لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبت الأرض فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيماً، وأما الثاني: فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه، وإن ترك الفرائض أيضاً فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم من لم يرفع بذلك رأساً والله أعلم". انتهى كلام الإمام العسقلاني1.
والمقصود: أن الحديث قد دل على أن بعض القلوب كالأرض النقية التي قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، كقلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن تبعهم بإحسان.
وبعضها: كالأجادب التي أمسكت الماء، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"رب مبلغ أوعى من سامع"2.
وبعضها: كالقيعان التي لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ، كقلوب كثير من الغلاة وأهل البدع والضلالات، فإنها لا يؤثر فيها الهدى والعام، كما أن الأرض السبخة لاتمسك ماءً ولا تنبت كلأً.
الأمر الثاني: أنه ورد في الحديث المتفق على صحته: "إنكم لتتبعن سنن من
1 انظر"فتح الباري"(1/ 212- 213) .
2 هو جزء من حديث"نضّر الله امرأً..".
كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"1.
أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في أمته من يحذو حذو الأمم السابقة، وهم جاهلية الكتابيين وغيرهم، كما فُسّر في الحديث، ولا شك أن ما أخبره به صلى الله عليه وسلم كائن لا محالة، فإنه الصادق المصدوق، وما ينطق عن الهوى، ومن اليقين أن من استمسك بهديه، واتبع ما ثبت من سنته غير مقصودين بالحديث، لما ثبت في حديث الفرق أنهم الفرقة الناجية، وهم من كان على ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما هو الوارد2؛ فلا بد أن يكون الذين يحذون حذوهم هم من بدَّل وغير، وابتدع وحرف، وحاكى الذاهبين الأوّلين في أفعالهم وأعمالهم، من بناء المشاهد والمساجد على قبور صالحيهم، وندائهم في المهمات والملمات، وغير ذلك مما كان يفعله اليهود والنصارى والمشركون، مما دلت عليه الأحاديث الصحيحة.
وفي الغلاة ومبتدعة أهل القبور من خصال الجاهلين من الكتابيين والمشركين ما يصدق به عليهم اتباع سننهم حذو القذة بالقذة، ونحن نذكر بعض ذلك ليكون كالمثال الموضح لما نحن بصدده.
فمن خصالهم: أنهم كانوا يتعبدون بإشراك الصالحين في عبادة الله تعالى، ويرون ذلك من تعظيمهم الذي يحبه الله، ويقصدون به أيضاً التقرب والزلفى والفوز بشفاعتهم، لظنهم أن الصالحين يحبون ذلك منهم، وقد أخبر القرآن عن هذه الخصلة قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ
1 أخرجه البخاري (4356، 7320) ومسلم (2669) .
2 في"سنن الترمذي" رقم (2641) بإسناد فيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي؛ وهو ضعيف.
لكن الحديث صحيح بطرقه وشواهده؛ انظر"الصحيحة"رقم (203، 204) . وانظر "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله" للمعلمي (ص 72- 73 ط المكتبة العصرية) فقد ذكرت شواهد الحديث هناك.
اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1 وعبادة المشركين لهم كانت بدعائهم لهم وطلب حاجاتهم منهم، والذبح والنذر لهم، والحلف بهم. وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2.
وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بالإخلاص وأخبرهم أنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه، وأن من فعل ما استحسنه حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وهذه المسألة هي الدين كله ولأجلها تفرق الناس بين مسلم وكافر، وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد، قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 3، ومن المعلوم أن للغلاة الحظ الوافر من خصلة أسلافهم هذه كما هو المشاهد.
ومن خصالهم: أن دينهم كان مبنياً على أصول أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع من كان قبل ظهور الإسلام من الأمم الأولى، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 4. فأمرهم الله تعالى أن يتبعوا الحق فقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 5. وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} 6. إلى غير ذلك مما يدل على أن أهل الجاهلية كانوا مقيدين بربقة التقليد لا يحكّمون لهم رأياً، ولا يستعملون نظراً، ولا يشغلون فكراً، فلذلك
1 سورة الزمر: 2- 3.
2 سورة يونس: 18.
3 سورة الأنفال: 39.
4 سورة الزخرف: 23- 24.
5 سورة الأعراف: 3.
6 سورة البقرة: 170.
تاهوا في أودية الجهالة، وقضوا أعمارهم في الضلالة، وهكذا الغلاة وعبدة الأموات قلّدوا آباءهم في تلك العادات، فلا يمكن نقلهم عنها ولو ظهرت الآيات البينات، ولكم بحثت مع عقلائهم فما زادهم ذلك إلا نفوراً، وعتوا على الحق وغرّهم غروراً، فطابق بين الفريقين تجد الموافقة ظاهرة لكل ذي عينين.
ومن خصالهم: الإقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم، قال تعالى محذراً للمؤمنين أن يحذوا حذوهم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1. وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2 إلى آيات أخر تنادي ببطلان الإقتداء بالفسقة والغواة الضالين المضلين.
ومن نظر إلى حال النبهاني وأضرابه الصادّين عن سبيل الله تجده على ما كان عليه القرون الأولى الجاهليون.
ومن خصالهم: الاحتجاج بما كان عليه القرون السالفة من غير تحكيم للعقل ولا أخذ بالدليل الصحيح، كما دل على ذلك قوله تعالى:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى} 3. وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 4. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ
1 سورة التوبة: 34.
2 سورة المائدة: 77.
3 سورة طه: 49- 54.
4 سورة القصص: 36- 37.
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} 1. وقال تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 2.
فهؤلاء الأمم كلهم جعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول ما جاءت به الرسل أنه لم يكن عليه أسلافهم، ولا عرفوه منهم، فانظر إلى سوء مداركهم، وجمود قرائحهم، ولو كانت لهم قلوب يفقهون بها وآذان يسمعون بها وأعين يبصرون بها لعرفوا الحق بدليله، وانقادوا لليقين من غير تزييفه ولا تعليله، وهكذا أخلافهم وورّاثهم، هذا النبهاني لم يفد فيه ما ألف من الكتب المفصلة لإثبات الحق وإبطال الباطل، ولم يلتفت إليها بسبب مخالفتها لما كان عليه السبكي3، وابن حجر المكي4.
ومن خصائصهم: الاعتماد على الكثرة، والاحتجاج بالسواد الأعظم، وإبطال الشيء بسبب قلة أهله، فأبطل الله تعالى ذلك بقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
1 سورة المؤمنون: 23- 25.
2 سورة ص: 6- 7.
3 هو: تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الخزرجي الأنصاري السبكي الشافعي المصري.
ولد بسبك- من أعمال المنوفية- بمصر، سنة 683. تفقه على والده وجماعة؛ آخرهم ابن رفعة. ولي قضاء دمشق، وفي آخر عمره رجع إلى مصر فأقام بها، وتوفي في جمادى الآخرة في القاهرة سنة 756هـ.
انظر "ذيل تذكرة الحفاظ"(5/39) .
4 هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حجر الوائلي السعدي الهيثمي المكي. ولد سنة 909 في محلة أبي الهيثم من إقليم الغربية بمصر، وتوفي في مكة المكرمة سنة 973.
من مؤلفاته: "تحفة المحتاج شرح المنهاج"و "الصواعق المحرقة" و"الفتح المبين في شرح الأربعين" و"الزواجر عن اقتراف الكبائر" وغيرها.
انظر "البدر الطالع" للشوكاني (1/109) .
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1 فالكثرة على خلاف الحق لا تستوجب العدول عن اتباعه لمن كان له بصيرة وقلب، فالحق أحق بالاتباع وإن قلَّ أنصاره، كما قال تعالى:{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} 2. فأخبر الله سبحانه عن أهل الحق أنهم قليلون غير أن القلة لا تضرهم، وما أحسن قول القائل 3:
تعيرنا أنا قليل عديدنا
…
فقلت لها إن الكرام قليل
والمقصود؛ أن من له بصيرة ينظر إلى الدليل، ويأخذ بما يستنتجه البرهان وإن قلّ العارفون به والمنقادون له، ومن أخذ ما عليه الأكثر وما أَلِفَتْهُ العامة -كما هو ديدن الغلاة وعادتهم من غير نظر لدليل -فهو مخطىء سالك غير سبيل المؤمنين، متبع سنن الجاهلية، مقدوح عند أهل البصائر، وهذه مكيدة عظيمة للغلاة، ولذلك ترى النبهاني لم يزل يردّد في كتابه هذا القول في تصحيح عقائده، ويقول: ما نحن عليه مذهب الجمهور، ومقصوده جمهور العوام الذين هم كالأنعام.
ومن خصائصهم: الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريباً، فرد الله تعالى ذلك بقوله:{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} 4.
ومعنى الآية: (فلولا كان) تحضيض فيه معنى التفجّع، أي: فهلاّ كان (من القرون) أي: الأقوام المقترنة في زمان واحد (من قبلكم أولوا بقية) أي: ذوو
1 سورة الأنعام: 116- 117.
2 سورة ص: 24.
3 القائل هو السموأل، وتمام البيت:
وما ضرّنا أنا قليل وجارنا
…
عزيز وجار الأكثرين ذليل
4 سورة هود: 116.
خصلة باقية من الرأي والعقل، أو ذوو فضل، على أن يكون البقية اسماً للفضل، والهاء للنقل، ومن هنا يقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم، ومنه قولهم: في الزواية خبايا، وفي الرجال بقايا.
(ينهون عن الفساد في الأرض) الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم وفسر الفساد بالكفر وما اقترن به من المعاصي.
(إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) استثناء منقطع، أي: ولكن قليلاً منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون.
والغلاة يقولون: إن كثيراً من الصلحاء وأهل الطرائق يستغيثون بغير الله ويندبون الصالحين، وأرواحهم تتصرف في هذا العالم، والقول بعدم جواز ذلك غريب جداً لا نلتفت إليه، وأرواح الصالحين تتصرف وتدبر، والقول المخالف له أيضاً نادر شاذ لا يلتفت إليه، وهذا كثيراً ما يكرره النبهاني، ويقول: إن أقوال ابن تيمية شاذة ونحو ذلك، فانظر تشابه قلوبهم، واحمد الله تعالى على السلامة في الدنيا والدين.
ومن خصالهم: الغلوّ في الصالحين من العلماء والأولياء، قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1. فاتخاذ أحبار الناس أرباباً يحلّلون ويحرّمون، ويتصرّفون في الكون، وينادون في رفع ضرّ أو جَلْبِ نفعٍ من جاهلية الكتابيين، ثم سَرَتْ إلى غيرهم من جاهلية العرب، ولهم اليوم بقايا في مشارق الأرض ومغاربها وهم الغلاة في أهل القبور، فإنك ترى غالب الناس اليوم معرضين عن الله، وعن دينه
1 سورة التوبة: 30- 32.
الذي ارتضاه، متوغلين في البدع، تائهين في أودية الضلال الأشنع، معادين لكتاب الله والسنة ومن قام بهما، فأصبح الدين منهم في أنين، والإسلام في بلاء مبين، والنبهاني له من ذلك الحظ الوافر، كما أخبر عنه بذلك من يعرفه وأيدته كتبه، والله المستعان.
ومن خصالهم: الاعتياض عن شرع الله ووحيه بالخوارق الكاذبة وكتب السحر، قال تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} 1 الآية. والكلام عليها في كتب التفسير مشهور.
وعلى هذه الخصلة اليوم كثير من الناس، لاسيما بعض الغلاة المنتسبين إلى بعض المشايخ والصالحين -وهم بريئون منهم- فإنهم قد تعاطوا بعض الأعمال السحرية من إمساك الحيات، وضرب السلاح، والدخول في النيران، وغير ذلك مما وردت الشريعة بإبطاله، ولم يلتفتوا إليه، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما ألقنه إليهم شياطينهم، وادّعوا أن ذلك من الكرامات وخوارق العادات! ومن المعلوم أن الكرامة لا تصدر عن فاسق ومخالف للشريعة، ومن يتعاطى تلك الأعمال فسقه ظاهر للعيان، وقد اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، وليت شعري لم اختصّت الكرامة بمسك بعض الحيّات والعقارب، والضرب بسلاح مخصوص، والضرب بأيديهم؟! فهلا وقفوا أمام مدفع من المدافع فدلع لسانه عليهم وقرأ سورة الدخان وأطلق كراته على وجوههم لنرى كراماتهم حينئذ أين تبقى؟! ومن مشايخ النبهاني -على ما سمعت- من هو أبو هذه الخبائث وأمها، وسَنُلِمُّ إن شاء الله تعالى على هؤلاء الزائغين مرة بعد أخرى.
ومن خصالهم: التحريف لكتب الدين، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
1 سورة البقرة: 101- 102.
يََقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} 1.
ومن نظر إلى متصوفة زماننا وغلاته وما صرفوه من النصوص إلى ما تقتضيه شهواتهم وبدعهم رأى أمراً منكراً، وهكذا كثير من القضاة والحكام، وما تلاعبوا به من الأحكام.
ومن خصالهم؛ معاداة الدين الذي دانوا به، وموالاتهم للزائغين، كما فعل اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاهم بما أتى به موسى أعرضوا عنه واتبعوا كتب السحر، وهو من دين آل فرعون، والغلاة هجروا السنة وعادوها، ونصروا أقوال شيوخ القرامطة2 والباطنية وأمثالهم.
ومن خصالهم: التعصب لباطلهم، فإنهم لما افترقوا خطأ كل فريق منهم الآخرين، قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 3. وهكذا تجد الغلاة من أهل الطرائق المبتدعة، فالرفاعي يقول: ليس القادري على شيء، والقادري يقول: ليس الرفاعي على شيء، وهذا يقول شيخي أخذ زنبيل4 الأرواح من عزرائيل5 وأعاد كل روح إلى جسدها، وهذا يقول: مرّ شيخي على جهنم فأراد أن يطفيها ببزاقه فحالت الملائكة بينها وبينه!! ومن اتبع العيدروسي يقول:
1 سورة البقرة: 78- 79.
2 سمّوا بذلك نسبة إلى حمدان قرمط. وكان ظهوره سنة (270) -والقرامطة: فرقة من الزنادقة الملاحدة، أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون بنبوة زرادشت ومزدك، وكانوا يبيحون المحرمات
…
انظر "البداية والنهاية"(1/61) .
3 سورة البقرة: 113.
4 الزنبيل: الجراب أو الوعاء يحمل فيه. قال ابن منظور: "وقيل الزنبيل خطأ، وإنما هو زبيل".
5 لا يصح تسمة ملك الموت باسم (عزرائيل) لعدم ورود ذلك وثبوته. وانظر "معجم المناهي اللفظية" للشيخ بكر أبو زيد (ص390) .
العيدروسي كان يُحيي
…
من الأموات من قد مات دهراً
وهكذا تجدهم يتضاربون بالأقوال، ولم يزالوا قائمين على ساق المخاصمة والجدال، والحازم ينظر إلى الدليل فما أداه إليه نظره من الحق أخذ به وترك ما سواه.
ومن خصالهم: التعبُّد بما لم يأذن به الله، قال تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} 1.
المراد بالفاحشة في الآية؛ عبادة الأصنام، وكشف العورة في الطواف ونحو ذلك مما كان عليه مشركوا العرب في الجاهلية، وفي الآية حذف، أي: وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، محتجين بأمرين: تقليد الآباء، والافتراء على الله.
وكان من سنة الحمس أنهم لا يخرجون أيام الموسم إلى عرفات إنما يقفون بالمزدلفة، وكانوا لا يسلؤون ولا يأتقطون، ولا يربطون عنزاً ولا بقرة، ولا يغزلون صوفاً ولا وبراًَ، ولا يدخلون بيتاً من الشَّعر والمدر، وإنما يكتنون في القباب الحمر في الأشهر الحرم، ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وأن يتركوا ثياب الحل ويستبدلوها بثياب الحرم، إما شراء وإما عارية، وإما هبة، فإن وجدوا ذلك فبها وإلا طافوا بالبيت عَرايا، وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك، غير أن المرأة كانت تطوف في درج مفرج القوائم والمآخير، قالت امرأة وهي تطوف بالبيت:
اليوم يبدو بعضه أوكله
…
وما بدا منه فلا أحله
أحثم مثل القعب باد ظله
…
كان حمى خيبر لا تمله
1 سورة الأعراف: 28، 29.
وكلفوا العرب أن يفيضوا من مزدلفة وقد كانوا يفيضون من عرفة، إلى غير ذلك من الأمور التي ابتدعوها وشرعوها مما لم يأذن به الله، وقد فصلت في كتب أحوالهم، ومع ذلك كانوا يدعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم عليه السلام.
وقد حذا حذوهم حذو القذة بالقذة غلاة هذه الأمة ومتصوفتها، ترى طائفة منهم قد اتخذوا ضرب المعازف وآلات اللهو عبادة يتعبدون بها في بيوت الله ومساجد، وطائفة اتخذوا الطواف على قبور الصالحين أعظم طاعة وعبادة وقصدوها في طلب الحاجات ونذروا لها، ومنهم من ابتدع الرهبانية والحيل الشيطانية والمكائد التي لم تهتد إليها النفوس الإنسانية، وزعم أنه سلك سبيل الزهاد، وطريق العباد، ومقصده الأعلى نيل شهواته الحيوانية، والفوز بزخارف هذه الدنيا الدنية، إلى غير ذلك مما يطول، ولا يعلم الموحد ماذا يقول.
إلى ديان يوم الدين نمضي
…
وعند الله تجتمع الخصوم
ولبعض أكابر أهل العلم رسالة جمع فيها المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، وهي ما يزيد على مائة مسألة، ولنا عليها شرح مفصل1، وخصالهم كلها صادقة على الغلاة ولاسيما النبهاني منهم. وما ذكرناه كاف في التمثيل، ويتبين منه أنه حذا حذو أسلافه الجاهليين، نسأله تعالى العافية في الدنيا والدين.
الأمر الثالث؛ من الأمور التي يجب التنبيه عليها، والإشارة بصريح العبارة إليها: أن من مكايد الغلاة؛ التشنيع على أهل الحق ودعاة التوحيد من المؤمنين أنهم يكفّرون المسلمين، ومقصودهم من ذلك تنفير القلوب عنهم، ولذلك يلقبونهم بألقاب مشعرة بالذم، كالمجسّمة والحشوية، وفي هذه الأزمنة يلقبونهم
1 هي رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب "مسائل الجاهلية"وقد شرحها المصنف كما ذكر، وطُبعت طبعات عدة.
بالوهَابية، وبالمنكرين ونحو ذلك، وقد برأهم الله تعالى من كل ما لا يرضيه سبحانه، ومعلوم أن المسلمين من يعتقد عقيدة الإسلام، وقد فُسِّرت في حديث جبريل المشهور1، فمن كان معتقداً تلك العقيدة كان مسلماً، ولا يخرج عن الإسلام إلا إذا أخل بتلك العقيدة، كأن يعتقد أن مع الله إلهاً آخر يعبده بأي عبادة كانت، فإنها أنواع مختلفة، فحينئذ يخرج عن الإسلام، ولا يقال لمن عبد غيره تعالى مسلماً، ولا لمن كفّره أنه كفر مسلماً، ومنه يُعلم أمر الغلاة، وأما أهل البدع فلم يكفَرهم أهل الحق.
وقد سئل شيخ الإسلام عن المسائل التي وقع فيها خلاف ونزاع بين أهل السنة والخوارج والروافض فهل يستوجب ذلك التكفير؟ فإنهم كفّروا المسلمين وأهل السنة بمخالفتهم فيما ابتدعوه، وأصلوه، ووضعوه، وذهبوا إليه وانتحلوه.
فأجاب الشيخ بقوله: "أصل التكفير للمسلمين من الخوارج والروافض الذين يكفّرون أئمة المسلمين بما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك قوله لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق ولا يأثم، فإن الله قال في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 2. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أن الله قال: قد فعلت" إلخ3.
وقال رحمه الله في أثناء كلام له في النهي عن التفرق والاختلاف وترك التعصب لمذهب أو قبيلة أو طريقة، قال: "فليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً ولا عاصياً، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في
1 وهو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم (8) وغيره.
2 سورة البقرة 286.
3 أخرجه مسلم (126) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وكلام شيخ الإسلام السابق انظره في "مجموع الفتاوى"(28/ 550- 501) .
كتابه في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وثبت في الصحيح "أن الله قال: قد فعلت". لاسيما وقد يكون من يوافقكم في أخص من الإسلام، مثل أن يكون مثلكم على مذهب الشافعي، أو منتسباً إلى الشيخ عدي، ثم بعد هذا قد يخالف في شيء وربما كان الصواب معه، فكيف يستحل عرضه أو دمه أو ماله مع ما قد ذكر الله من حقوق المسلم والمؤمن، وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله؟! وهذا التفرق الذي حصل بين الأمة- علمائها ومشائخها وأمرائها وكبرائها- هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليهم، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 1. وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، ديان الفرقة عذاب، وجماع ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إلى قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2. فمن الأمر بالمعروف؛ الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة، ومن النهي عن المنكر؛ إقامة الحدود على من خرج عن شريعة الله تعالى، فمن اعتقد في بشر أنه إله أو دعا ميتاً، أو طلب منه الرزق والنصر والهداية، وتوكّل عليه، وسجد له؛ فإنه يستتاب فإن تاب وإلاّ ضُربت عنقه"3 انتهى.
فعُلم منه حكم من ابتدع وحكم الغلاة، فإن من اعتقد في بشر أنه إله أو دعا ميتاً أو طلب منه الرزق وغير ذلك ليس حكمه حكم المبتدع كما قال، ولا يشترط في الخروج عن الدين- والعياذ بالله- أن يكفر المكلّف بجميع ما جاء به الرسول، بل يكفي في الكفر والردة أن يأتي بما يوجب ذلك ولو في بعض الأصول، وهذا ذكره الفقهاء من أهل كل مذهب، ومن أراد الوقوف على جزئيات وفروع في الكفر
1 سورة المائدة: 14.
2 سورة آل عمران: 102- 104.
3 "مجموع الفتاوى"(3/ 420- 421) .
والردة فعليه بما صنف في ذلك (كالإعلام بقواطع الإسلام) وما عده الفقهاء من أهل كل مذهب في باب حكم المرتد، فمن نطق بالشهادتين ثم أتى بما يعارضهما فلا تنجيانه.
قال الشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في "الرسالة السنية"- لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم قال:- "فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه -مع عبادته العظيمة حتى أمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم- فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام وذلك بأسباب؛ منها بالغلوّ الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} 1.
وعليّ بن أبي طالب حرّق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خُدّت لهم عند باب كندة فقُذِفوا فيها، واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر الصحابة، وقصتهم معروفة عند العلماء2.
وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل. فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليُعْبَدَ وحده لا يُجعل معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
1 سورة النساء: 171.
2 القصة في "صحيح البخاري"(3017، 6922) و"مسند الإمام أحمد"(1/ 17، 282) و"سنن أبي داود"(4351) و"الجامع الصحيح" للترمذي (1179) و "سنن النسائي"(7/104) وغيرها.
زُلْفَى} 1 ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2 فبعث الله رسولَهُ ينهى أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى:{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً *أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 3 قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة، فأنزل الله هذه الآية، ثم ذكر آيات في المعنى. انتهى4.
والمقصود منه: أنه جعل عُبّاد القبور من شر الخوارج المارقين، فهم شر أصناف الخوارج، وقد توقف بعض السلف في تكفير الخوارج، قيل لعلي: أكفّار هم؟ صال:"من الكفر فرّوا"5.
وعُبّاد القبور لم يتوقّف أحد من أهل العلم- الذين يرجع إليهم- في كفره.
غاية ما قالوا: لا يقتل حتى يستتاب، أو لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة أو نحو هذا الكلام، والمسلمون لم يكفّرهم أحد من أهل العلم، ولشيخ الإسلام نصوص أخر في هذا المعنى ننقلها تتميماً للفائدة:
قال رحمه الله في كتاب "الاستغاثة" الذي رد به على ابن البكري:"إن أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفّرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلِكَ ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله تعالى، فلا يكفر إلا من كفّره الله ورسوله. وأيضاً فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يكفر.
1 سورة الزمر: 3.
2 سورة يونس: 18.
3 سورة الإسراء: 56- 57.
4 انظر "فتح القدير" للشوكاني (3/ 329- ط. دار الوفاء) .
5 أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(15/332) بإسناد صحيح.
ولما استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون وأصحابه شرب الخمر- وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحاً على ما فهموه من آية المائدة1 -اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصَرُّوا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جُلدوا، فلم يكفّروهم بالاستحلال ابتداءً لأجل الشبهة التي عرضت لهم حتى يتبين لهم الحق2، فإذا أصرَّوا على الجحود كفروا، وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله:"إذا أنا مت فاسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذّبه أحداً من العالمين. فأمر الله سبحانه البرّ فردَّ ما أخذ منه، وأمر البحر فردّ ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له"3. فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده، أو جوّز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلاً لم يتبيّن له الحق بياناً يكفر بمخالفته فغفر الله له.
ولهذا كنتُ أقول للجهمية من الحلولية والنفاة والذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش- لما وقعت محنتهم-: أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهّال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وفضلائهم، وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم من قصور في معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، وكان هذا خطابنا. فلذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذباً عليه لم يكن له أن يشهد عليه بالزور، ولا أن يقذفه بالفاحشة". انتهى المقصود منه4.
1 وهو قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا..} الآية [سورة المائدة: 93] .
والخبر أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(9/240/ 17075، 17076) .
2 وهذه قاعدة مهمة في مسألة التكفير؛ فاعقلها.
3 أخرجه البخاري (7506) ومسلم (2756) .
4 "الاستغاثة والرد على البكري"(2/ 492- 494- ط. الغرباء الأثرية) .
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: "إذا خاض هذا- يعني ابن البكري- في مسألة لم يسبقه إليها عالم، ولا معه فيها نقل عن أحد، ولا هي من مسائل النزاع بين العلماء فيختار أحد القولين، بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة عن الرسول، فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لأحد لا لحيّ ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام.
وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجتهم بدعائه أو الدعاء به أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف" انتهى.