المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكلام على كتاب "جلاء العينين - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ١

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌خطبة الكتاب

- ‌(الأمور التي يجب التنبيه عليها، والإشارة بيسير العبارة إليها)

- ‌(ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود)

- ‌[كلام النبهاني على الاجتهاد، والرد عليه]

- ‌[الكلام على كتب التفسير والاحتياج إلى تفسير موافق لأفكار أهل العصر]

- ‌[الكلام على قول النبهاني: إن الذي يتصدّى لطلب تفسير مشتمل على العلوم العصرية ملحد]

- ‌[الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم]

- ‌(أجوبة لشيخ الإسلام على بعض اعتراضات الأخنائي)

- ‌(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت)

- ‌(الكلام على شبه الخصم وإبطالها)

- ‌(ذكر شبة أخرى للمجوّزين للاستغاثة وإبطالها)

- ‌(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية)

- ‌(كلام مفيد في تعريف البدعة)

- ‌[الرد على النبهاني فيما ادّعاه من أن ابن تيمية مُخِلٌّ بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية]

- ‌(الذاهبون إلى حياته)

- ‌[الكلام على كتاب "منهاج السنة" لشيخ الإسلام]

- ‌الكلام على كتاب "جلاء العينين

- ‌(ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وقدس روحه)

- ‌عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

الفصل: ‌الكلام على كتاب "جلاء العينين

موضوع الأولى ومحمول الثانية، وهي زيارة قبره واجبة، ثم يلزم على هذا لوازم: منها: أن تارك زيارة قبره عاص آثم مستحق للعقوبة منتفي العدالة لا تصح شهادته ولا تقبل روايته ولا فتواه، وفي هذا تفسيق جميع الصحابة إلا من صح عنه منهم الزيارة، ولا ريب أن هذا شر من قول الرافضة الذين فسّقوا جمهورهم بتركهم تولية علي، بل هو من جنس قول الخوارج الذين يكفرون بالذنب، لأن تارك هذه الزيارة عنده تارك لتعظيمه، وتارك تعظيمه كفر أو ملزوم للكفر، فإن تعظيم الرسول من لوازم الإيمان فعدمه مستلزم الكفر، وعلى هذا فكل من لم يزر قبره فهو كافر، لأنه تارك لتعظيمه صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن الروافض والخوارج لم يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء من الجهل والكذب على الله ورسوله وعلى الأمة.

يوضحه الوجه الثاني: أن الخوارج إنما كفّروا الأمة بمخالفة أمره ومعصيته وتمسكوا بنصوص متشابهة لم يردوها إلى المحكم، وأما عباد القبور فكفروا بموافقة الرسول في نفس مقصوده، وجعلوا تجريد التوحيد كفراً وتنقصاً، فأين المكفر بالذنب من المكفر بموافقة الرسول وتجريد التوحيد؟

يوضحه الوجه الثالث: أن زيارة قبره لو كانت تعظيماً له لكانت مما لا يتم الإيمان إلا بها، ولكانت فرضاً معيناً على كل من استطاع إليها سبيلاً من قرب أو بعد، ولما أضاع السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان هذا الفرض، وقام به الخلف الذين خلفوا من بعدهم ويزعمون أنهم بذلك أولياء الرسول، وحزبه القائمون بحقوقه، وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا أهل طاعته، والقيام بما جاء به علماً ومعرفة وعملاً وإرشاداً وجهاداً، الذين جردوا توحيد الخالق وعرفوا للرسول حقه، ووافقوه في تنفيذ ما جاء به والدعوة إليه والذب عنه.

الوجه الرابع: أنه إذا كانت زيارة قبره واجبة على الأعيان كانت الهجرة إلى القبر آكد من الهجرة إليه في حياته، فإن الهجرة إلى المدينة انقطعت بعد الفتح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح". وعند عُبّاد القبور أن الهجرة إلى القبر فرض معين على من استطاع إليه سبيلاً، وليس يخاف أن هذا مراغمة صريحة لما

ص: 283

جاء به الرسول، وإحداث في دينه ما لم يأذن به، وكذب عليه وعلى الله، وهذا من أقبح التنقص.

وقد ذكر السبكي في موضع من كتابه "شفاء السقام" أنه رأى فتيا بخط شيخ الإسلام وفيها: ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية. فالزيارة الشرعية؛ مقصودها السلام على الميت والدعاء له إن كان مؤمناً، وتذكر الموت سواء كان الميت مؤمناً أم كافراً. قال: وقال بعد ذلك: فالزيارة لقبر المؤمن نبياً كان أو غير نبي من جنس الصلاة على جنازته، [يدعى كما يدعى إذا صلى على جنازته] . وأما الزيارة البدعية؛ فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميت، مثل طلب الحوائج منه أو به، أو التمسح بقبره وتقبيله، أو السجود له ونحو ذلك، فهذا كله لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من السلف لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره.

قال السبكي- بعد حكايته هذا الكلام عن الشيخ-: وبقي قسم لم يذكره، وهو أن تكون للتبرك به من غير إشراك به، فهذه ثلاثة أقسام؛ أولها السلام والدعاء له، وقد سلم جوازه وأنه شرعي.

والقسم الثاني: التبرك به والدعاء عنده للزائر. قال: وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية أنه يلحقه بالقسم الثالث، ولا دليل له على ذلك، بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه، وأن المعلوم من الدين وسير السلف الصالحين التبرك ببعض الموتى من الصالحين فكيف بالأنبياء والمرسلين؟ ومن ادعى أن قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء فقد أتى أمراً عظيماً نقطع ببطلانه وخطئه فيه، وفيه حط لرتبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة من سواه من المؤمنين، وذلك كفر بيقين، فإن من حط رتبة النبي صلى الله عليه وسلم عما يجب له فقد كفر. فإن قال: إن هذا ليس بحط ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له؛ قلت: هذا جهل وسوء أدب، وقد تقدم في أول الباب الخامس الكلام في ذلك، ونحن نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم يستحق من التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته، ولا يرتاب من في قلبه شيء من الإيمان. هذا كله كلام المعترض.

ص: 284

فانظر إلى ما تضمنه من الغلو والجهل والتكفير بمجرد الهوى وقلة العلم، أفلا يستحي من هذا مبلغ علمه أن يرمي أتباع الرسول وحزبه وأولياءه برأيه الذي يشهد به عليه كلامه؟ لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً.

الوجه الخامس: أن يقال لهذا المعترض وأشباهه من عباد القبور: أتوجبون كل تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم أو نوعاً خاصاً من التعظيم؟ فإن أوجبتم كل تعظيم لزمكم أن توجبوا السجود لقبره وتقبيله واستلامه والطواف به لأنه من تعظيمه، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من عظمه بما لم يأذن به كتعظيم من سجد له، وقال:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"1. ومعلوم أن مطريه إنما قصد تعظيمه.

وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا:"عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل". فمن عظّمه بما لا يحب فإنما أتى بضد التعظيم، وهذا نفس ما حرمه الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ونهى عنه وحذر منه.

وأيضاً؛ فإن الحلف به تعظيم له، فقولوا: يجب على الحالف أن يحلف به لأنه تعظيم له وتعظيمه واجب، وكذلك تسبيحه وتكبيره والتوكل عليه والذبح باسمه كل هذا تعظيم له، ومعلوم أن إيجاب هذا مثل إيجاب الحج إليه بالزيارة على من استطاع إليه سبيلاً، ولا فرق بينهما.

وإن قلتم: إنما نوجب نوعاً خاصاً من التعظيم طولبتم بضابط هذا النوع وحده، والفرق بينه وبين التعظيم الذي لا يجب ولا يجوز، وبيان أن الزيارة من

1 أخرجه أحمد (3/ 153،241، 249) أو رقم (12573، 13554، 13622) وابن حبان (8/46/ 6207) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(248، 244) وعبد بن حميد في "المنتخب من المسند"(1307) وغيرهم، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في "الصحيحة"(1097) .

ص: 285

هذا النوع الواجب، وإلا كنتم متناقضين موجبين في الدين ما لم يوجبه الله وشارعين شرعاً لم يأذن به الله.

الوجه السادس: أن يقال: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما خطر بالبال تعظيم له فأَوْجِبُوا له هذا التعظيم، واحكموا على من قال لا يجب أنه تارك لتعظيمه، بل احكموا على من قال لا تجب الصلاة عليه كلما ذكر ولا تجب الصلاة عليه في الصلاة، أو لا تجب في العمر، إلا مرة، أو لا تجب أصلاً؛ بأنه تارك للتعظيم لأن الصلاة عليه تعظيم له بلا ريب، فهل كان أئمة الإسلام وعلماء الأمة نافين لتعظيمه تاركين له بنفيهم الوجوب؟ أم كانوا أشد تعظيماً له منكم وأعرف بحقوقه وأحفظ لدينه أن يزاد فيه ما ليس منه؟!

يوضحه الوجه السابع: أن الذين كرهوا من الفقهاء الصلاة عليه عند الذبح يكونون على قولكم تاركين لتعظيمه وذلك قادح في إيمانهم، وكذلك من كره أو حزم الحلف به، وقال: لا تنعقد يمين الحالف به؛ يكون على قولكم تاركاً لتعظيمه لأن الحلف به تعظيم له بلا ريب.

الوجه الثامن: أن القول بعدم وجوب زيارة قبره أو بعدم استحبابها أو بعدم جواز شد الرحال لا يقدح في تعظيمه بوجه من الوجوه، وهو بمنزلة قول من قال من أئمة الإسلام: لا تجب الصلاة عليه في التشهد الأخير. وبمنزلة قول من قال منهم: تكره الصلاة عليه عند الذبح. وبمنزلة قول من قال: لا تستحب الصلاة عليه في التشهد الأول، ولا عند التشهد في الأذان. بل قول من نفى وجوب الزيارة أو جواز شد الرحال إلى القبر أولى أن لا يكون منافياً للتعظيم من قول من نفى وجوب الصلاة عليه أو استحبابها في بعض المواضع، لأن الصلاة عليه مأمور بها، وقد ضمن للمصلّي عليه مرة أن يُصلّى عليه عشراً، بل الصلاة عليه محض التعظيم له، فنفي وجوبها أو استحبابها في موضع ليس بترك للتعظيم وليس إنكار وجوب كل من الأمرين قادحاً في تعظيمه، بل ذلك عين تعظيمه.

يدل عليه الوجه التاسع: أن تعظيمه هو موافقته في محبة ما يحب،

ص: 286

وكراهة ما يكره، والرضى بما يرضى به، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والمبادرة إلى ما رغب فيه، والبعد عما حذر منه، وأن لا يتقدم بين يديه، ولا يقدم على قوله قول أحد سواه، ولا يعارض ما جاء به بمعقول ثم يقدم المعقول عليه كما يقول أئمة هذا المعترض، الذين تلقّى عنهم أصول دينه وقدم آراءهم وهواجس ظنونهم على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم ينسب ورثة الرسول الواقفين مع أقواله المخالفين لما خالفها إلى ترك التعظيم، وأي إخلال بتعظيم وأي تنقص فوق من عزل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن إفادة اليقين، وقدّم عليه آراء الرجال، وزعم أن العقل يعارض ما جاء به، وأن الواجب تقديم المعقول وآراء الرجال على قوله؟!

الوجه العاشر: أن إيجاب زيارة قبره واستحبابه وشد الرحال إليه لأجل تعظيمه يتضمن جعل القبر منسكاً يُحَجُّ إليه كما يُحَجُّ إلى البيت العتيق، كما يفعله عباد القبور، سيما فإنهم يأتون عنده بنظير ما يأتي به الحاج من الوقوف والدعاء والتضرع، وكثير منهم يطوف بالقبر ويستلمه ويقبله ويمسح عليه، فلم يبق عليه من أعمال المناسك إلا الحلق والنحر ورمي الجمار، فإيجاب الوسيلة إلى هذا المحذور واستحبابها من أعظم الأمور منافاة لما شرعه الله ورسوله، وقد آل الأمر بكثير من الجهال إلى النحر عند قبور من يشدون الرحال إلى قبورهم، وحلق رؤوسهم عند قبورهم، وتسمية زيارتها حجاً ومناسك، وصنف فيه بعضهم كتاباً سماه "مناسك حج المشاهد" وكان سبب هذا هو الغلو الذي يظنه من قل علمه تعظيماً، ولا ريب أن هذا أكره شيء إلى الرسول قصداً ووسيلة.

الوجه الحادي عشر: أن هذا الذي قصده عُبّاد القبور من التعظيم هو بعينه السبب الذي لأجله حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، ولعن فاعل ذلك، ونهى عن الصلاة إليها، وحزم اتخاذ قبره عيداً، ودعا ربه أن لا يجعل قبره وثناً يُعْبَد، ولأجله نهى فضلاء الأمة وساداتها عن ذلك. ولأجله أمر عمر بتعفية قبر دانيال لما ظهر في زمان الصحابة. ولأجله منع مالك من نذر إتيان المدينة وأراد القبر أن يوفي بنذره. ولأجله كره الشافعي أن يعظم قبر مخلوق حتى

ص: 287

يجعل مسجداً، كما قال: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً. ولأجله كره مالك أن يقول القائل: زرتُ قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما يوهم هذا اللفظ من أنه إنما قصد المدينة لأجل زيارة القبر، ولما فيه من تعظيم القبر بإضافة الزيارة إليه مع كونه أعظم القبور على الإطلاق وأجلها وأشرف قبر على وجه الأرض، فالفتنة بتعظيمه أقرب من الفتنة بتعظيم غيره من القبور، فحمى مالك رحمه الله تعالى الذريعة حتى في اللفظ، ومنع الناذر من إتيانه، ولو كان إتيانه قربة عنده لأوجب الوفاء به، فإن من أصله أن كل طاعة تجب بالنذر سواء كان من جنسها واجب بالشرع أو لم يكن، ولهذا يوجب إتيان مسجد المدينة على من نذر إتيانه، وقد منع ناذر إتيان القبر من الوفاء بنذره، فلو كان ذلك عنده قربة لألزمه الوفاء به، ومن رد هذا النقل عنه وكذّب الناقل فهو من جنس من افترى الكذب وكذّب بالحق لما جاءه، فإن ناقله ممن له لسان صدق في الأمة بالعلم والأمانة والصدق والجلالة، وهو القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد أحد الأئمة الأعلام، وكان نظير الشافعي، وإماماً في سائر العلوم، حتى قال المبرد: إسماعيل القاضي أعلم مني بالتصريف. وروى عن يحيى بن أكثم أنه رآه مقبلاً فقال: قد جاءت المدنية. وقد ذكر هذا النقل عن مالك في أشهر كتبه عند أصحابه وأجلها عندهم وهو "المبسوط". فمن كذبه فهو بمنزلة من كذّب مالكاً والشافعي وأبا يوسف ونظرائهم، ومن وصل الهوى بصاحبه إلى هذا الحد فقد فضح نفسه وكفى خصمه مؤنته، ومن جمع أقوال مالك وأجوبته وضم بعضها إلى بعض، ثم جمعها إلى أقوال السلف وأجوبتهم قطع بمرادهم، وعلم نصيحتهم للأمة وتعظيمهم للرسول، وحرصهم على اتباعه وموافقته في تجريد التوحيد وقطع أسباب الشرك، وبهذا جعلهم الله أئمة، وجعل لهم لسان صدق في الأمة، فلو ورد عنهم شيء خلاف هذا لكان من المتشابه الذي يرد إلى المحكم من كلامهم وأصولهم، فكيف ولم يصح عنهم حرف واحد يخالفه، فتبين أن هذا التعظيم الذي قصده عباد القبور هو الذي كرهه أهل العلم، وهو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى أمته عنه ولعن فاعله، وأخبر بشدة غضب الله عليه حيث يقول: "اشتد

ص: 288

غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومعلوم قطعاً أنهم إنما فعلوا ذلك تعظيماً لهم ولقبورهم، فعلم أن التعظيم للقبور مما يَلْعَنُ الله فاعله ويشتدّ غضبه عليه.

الوجه الثاني عشر: أن هذا الذي يفعله عباد القبور من المقاصد والوسائل ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه، فالتعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ويصدق هذه المحبة أمران:

أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده، حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، ونهى عن عبادة الله بالتقرب إليه بالنوافل من الصلوات في الأوقات التي يسجد فيها عباد الشمس لها، بل قبل ذلك الوقت بعد أن تصلي الصبح والعصر لئلا يتشبه الموحدون بهم في وقت عبادتهم، ونهى أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان. ونهى أن يُخْلَفَ بغير الله، وأخبر أدن ذلك شرك، ونهى أن يصلى إلى القبر ويتخذ مسجداً أو عيداً أو يوقد عليها سراج، وذم من شرك بين اسمه واسم ربه تعالى في لفظ واحد، فقال له:"بئس الخطيب أنت". بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.

الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه، والرضا بحكمه، والانقياد له والتسليم، والإعراض عمن خالفه، وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله، كما كان ربه تعالى وحده المعبود، المألوه، المخوف، المرجى، المستغاث به، المتوكل عليه، الذي إليه الرغبة والرهبة، وإليه الوجهة والعمل، الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب، الذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده، وأحياهم وحده، ويبعثهم وحده، ويغفر، ويرحم، ويهدي، ويضل، ويسعد،

ص: 289

ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائناً من كان، بل الأمر كله لله، وأقرب الخلق إليه وسيلة وأعظمهم عنده جاهاً وأرفعهم لديه ذكراً وقدراً، وأعمّهم عنده شفاعة؛ ليس له من الأمر شيء، ولا يعطى أحداً شيئاً، ولا يمنع أحداً شيئاً، ولا يملك لأحد ضراً ولا رشداً، وقد قال لأقرب الخلق إليه وهم ابنته وعمه وعمته:"يا فاطمة بنت محمد؛ لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس، عم رسول الله؛ لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية، عمة رسول الله؛ لا أغني عنك من الله شيئاً"1. فهذا هو التعظيم الحق، المطابق لحال المعظم، النافع للمعظم في معاشه ومعاده، الذي هو لازم إيمانه وملزومة.

وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير، فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه فالمغالي المفرط كذلك، وكل منهما شر من الآخر من وجه دون وجه، وأولياؤه سلكوا بين ذلك قواماً.

وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه وإعلاء كلمته، ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه.

وبالجملة؛ فالتعظيم النافع هو تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض لأجله وفيه، وتحكيمه وحده والرضا بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله، فما وافقها من قول الرسول قبله وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد -وكفى بالله شهيداً- وملائكته ورسله وأولياؤه أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك وهم يشهدون على أنفسهم بذلك، وما كان لهم أن ينصروا دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، شاهدين على أنفسهم بتقديم آراء شيوخهم وأقوال متبوعيهم على قوله، وأنه لا يستفاد من كلامه يقين، وأنه إذا عارضته آراء الرجال قدمت عليه وكان الحكم ما تحكم به.

1 تقدم.

ص: 290

أفلا يستحيي من الله من العقلاء من هذا حاله في أصول دينه وفروعه أن يتستر بتعظيم القبر ليوهم الجهال أنه معظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناصر له، منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه؟ ويأبى الله ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون. {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2 انتهى.

وقد أكثر شيخ الإسلام- قدس الله روحه- من الرد على الغلاة القبوريين في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" وغيره من كتبه، وما ذكرناه وافٍ بالغرض على اختصاره، والله أعلم.

ثم إن النبهاني الغبي ذكر قصة بلال التي ذكرها السبكي، وهي أن بلالاً رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؛ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟! فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه.. إلى آخرها. وقد تكلم عليها الحافظ ابن قدامة في كتابه "الصارم المنكى في الرد على السبكي"3 وبيّن ضعفها.

وذكر النبهاني الغبي أيضاً الأكذوبة المشهورة المسندة لأحمد الرفاعي، فقال: "إن الزيارة وصلة مع الحبيب، وقد وقع لبعض العارفين مخاطبته له صلى الله عليه وسلم وردّه عليه، ومن ذلك المعنى ما ذكره بعض العارفين عن القطب الرفاعي في حال زيارته للقبر الشريف من قوله:

في حالة البعد روحي كنت أرسلها

تقبل الأرض عني وهي نائبتي

وهذه دولة الأشباح قد حضرت

فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي

1 سورة الأنفال: 34.

2 سورة التوبة: 105.

(ص 237- وما بعدها) . وانظر: "قصص لا تثبت"(1/ 35- 39) للشيخ يوسف العتيق.

ص: 291

قال: "فمد يده الشريفة من الشباك فقبّلها" انتهى كلامه1.

أقول: الكلام على هذه الخرافة في مقامين؛ المقام الأول: في تكذيب وقوع القصة وافترائها على أحمد الرفاعي.

المقام الثاني: في بيان عدم إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وأن من ادّعى ذلك فهو كاذب.

أما المقام الأول؛ وهو بيان كذب هذه القصة: فمن وجوه كثيرة نذكر منها ما خطر بالبال:

الأول: أنه قد ترجم أحمد الرفاعي هذا جماعة من المؤرخين على اختلافهم المذهب، ولم يذكروا هذه القصة في ترجمته، ولو كانت ثابتة لعدّوها من أعظم مآثره وأكبر مفاخره، لاسيما التاج السبكي لتعصبه للمتصوفة، ولاسيما من هو على مذهبه ونحلته، ومع ذلك لم يذكر هذه القصة في ترجمة أحمد الرفاعي لما ترجمه في "طبقاته"2، فإنه قال:

"أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة، الشيخ الزاهد الكبير أحد أولياء الله العارفين، والسادات المشمرين، أهل الكرامات الباهرة، أبو العباس بن أبي الحسن بن الرفاعي المغربي. قدم أبوه إلى العراق وسكن ببعض

1 القصة أوردها النبهاني في "شواهد الحق" وفي "جامع كرامات الأولياء"(1/ 298) والصيادي في "قلادة الجواهر"(ص 15، 20، 108) . والقصة كذب صراح لا شك في ذلك؛ لأسباب كثيرة أهمها:

1-

أن أصحاب الكتب والتراجم الصوفية القديمة لم تذكر هذه الحادثة.

2-

أن المؤرّخين الذين أرّخوا وترجموا للشيخ أحمد الرفاعي لم يذكروها.

3-

ليس للقصة إسناد قط.

4-

أن القصة لم ينقلها إلا أفراد، فأين العدد الكثير الذين شاهدوا القصة؟!

وانظر في بيان بطلان القصة: "دراسات في التصوف" للشيخ المجاهد إحسان إلهي ظهير-رحمه الله (ص 215- وما بعدها) و "قصص لا تثبت"(3/171- وما بعدها) .

2 "طبقات السبكي"(4/40) .

ص: 292

القرى، وتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد، ورزق منها أولاداً، منهم الشيخ أحمد هذا، لكنه مات وأحمد حمل، فلما ولد رباه وأدبه خاله منصور، وكان مولده في المحرم سنة خمسمائة. وتفقه على مذهب الشافعي، وكان كتابه "التنبيه". ولو أردنا استيعاب فضائله لضاق الوقت، ولكنا نورد ما فيه بلاغ ". ثم ذكر كلاماً في محاسن أخلاقه إلى أن قال:"وقال الشيخ أحمد: سلكتُ كل طريق فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الذل والافتقار والانكسار لتعظيم أمر الله، والشفقة على خلق الله، والإقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يجمع الحطب ويحمله إلى بيوت الأرامل والمساكين، وربما كان يحمل الماء لهم "إلى أن قال: "وكان لا يجمع بين قميصين لا في شتاء ولا في صيف، ولا يأكل إلا بعد يومين أو ثلاثة أكلة". ثم قال: "وعن يعقوب- وقد سُئل عن أوراد سيدي أحمد، فقال-: كان يصلي أربع ركعات بألف (قل هو الله أحد) ويستغفر كل يوم [ألف] مرة، واستغفاره أن يقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت مع الظالمين، عملتُ سوءاً، وظلمتُ نفسي وأسرفتُ في أمري، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت. توفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، ومناقبه أكثر من أن تحصى، وقد أفرد لها بعض الصلحاء كتاباً يخصها" انتهى.

فلم يذكر قصة مد اليد التي هي من أعظم الخوارق وأعجبها لو صحّت! مع أنه ذكر أعظم مفاخره وهي قصة الهرة التي كانت نائمة على كمه فقطع الكم، وقصة البعوضة التي كانت على يده تمتص دمه، وقصة الكلاب التي كانت تأكل التمر من القوصرة في دار الطعام وهم يتهارجون، فوقف على الباب لئلا يدخل إليهم أحد يؤذيهم.

وذكر القاضي أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان"1 ما نصه: "أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بابن

(1/94-95/70) .

ص: 293

الرفاعي، كان رجلاً صالحاً فقيهاً شافعي المذهب، أصله من الغرب، وسكن في البطائح بقرية يقال لها أم عبيدة، وانضم إليه خلق عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه، والطائفة المعروفة بالرفاعية والبطائحية من الفقراء منسوبة إليه ولأتباعه، ولهم أحوال عجيبة من أكل الحيّات وهي حية، والنزول في التنانير وهي تتضرم بالنار فيطفئونها". إلى أن قال:"ولم يكن له عقب، وإنما العقب لأخيه وأولاده يتوارثون المشيخة والولاية على تلك الناحية إلى الآن، وأمورهم مشهورة مستفيضة فلا حاجة إلى الإطالة فيها" انتهى.

فلم يذكر تلك القصة من مناقبه، ولو صحّت روايتها لكانت غرة وجه مناقبه، وهكذا ذكر كل من ترجمه من الثقات وهذه مما اختلقها له أصحابه بعد موته بعدة سنين، كما ادعوا له الانتساب إلى إبراهيم المرتضى بن موسى الكاظم رضي الله عنه ولا أصل له أيضاً، قال في مختصر "عمدة الطالب":"إن الشيخ أحمد رحمه الله لم يدَّعِ ذلك، وإنما ادّعاه البطن الثالث من ولده، ويقولون هم أحمد بن علي بن الحسين بن المهدي بن أبي القاسم بن محمد بن الحسين بن أحمد الأكبر بن موسى أبي شجه بن إبراهيم المذكور. قال أبو نصر البخاري: لا يصح لإبراهيم المرتضى عقب إلا من موسى وجعفر، ومن انتسب إلى غيرهما فهو كاذب" انتهى المقصود منه.

والمقصود؛ أن قصة مد اليد ونحوها من المزايا والمآثر لو صحت لكانت أحق بالذكر من جميع ما ذكروه، فلمّا لم يذكروها علمنا أنها من إفك أفاك أثيم.

الوجه الثاني: أن أحسن من رواها الإمام السيوطي، وقد أسندها إلى بعض المجاميع، ولم يذكر لها سنداً واهياً فضلاً عن أن يكون صحيحاً، مع أن حاله في الرواية معلوم، فقال في كتابه (تنوير الحلك في رؤية النبي والملك) : وفي بعض المجاميع؛ وذكر القصة والبيتين على وجه الاختصار مع أن هذه القصة لو صحّت لتوفرت الدواعي على نقلها، لأنها حادث عظيم وخارق عجيب، فالشيء الذي تتوفر الدواعي على نقله ولم يذكره أحد من الثقات بل ذكره الدجالون الضالون المضلون فهو لا شك تزوير وبهتان، وكذب من إفك شيطان.

ص: 294

الوجه الثالث: أن الدجالين الذين رووا هذه القصة المكذوبة ادعوا أن من كان حاضراً هناك ورأوا اليد وسمعوا رد السلام نحو مائة ألف أو يزيدون! سبحانك هذا بهتان عظيم! كيف يمكن أن يكون هناك هذا العدد الكثير؟ وأي محل في المسجد يسعهم أو يسع عشر معشارهم؟! ثم إن القبر قد أحاطت به الجدران فمن أي شباك خرجت اليد؟!

ومن المعلوم إذا كان أمر عجيب وشيء غريب يتهاجم على رؤيته الراؤون فلا يمكن الرؤية إلا للقريب، وكذلك سماع رد السلام كيف أمكن للجميع؟ فانظر إلى هذه الأكذوبة التي لا تروج حتى على ضعفاء العقول، ومع ذلك فقد تمسك بها قوم سلب الله منهم الحياء واتخذوها حبالة من حبائل مصائدهم، وأغراهم الله على مثل هذه الدعاوي الكاذبة ليفضحهم بها في الدنيا والآخرة انتقاماً لأهل الحق منهم.

الوجه الرابع: أن كثيراً من أهل العلم والأدب نسب البيتين إلى غير أحمد الرفاعي. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في تذكرته: حكي أن ابن الفارض لما اجتمع بالشهاب السهروردي في مكة أنشده

في حالة البعد روحي كنت أرسلها

تقبل الأرض عني وهي نائبتي

وهذه نوبة الأشباح قد حضرت

فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي

وكفى بما ذكره الشيخ صلاح الدين هذا شاهداً على بطلان ما ادعاه غلاة الرفاعية ومبتدعتهم، فإن هذا الشيخ كان إماماً أديباً ناظماً ناثراً، ولد سنة ست وتسعين وستمائة، وقد عقد له ابن السبكي ترجمة مجملة في "طبقاته".

وممن نقل ذلك الشهاب الخفاجي الشافعي في كتابه (طراز المجالس) وأن البيتين من شعر ابن الفارض لما اجتمع بالسهروردي في مكة قال: "وقد نسب هذا لغيره، ولم يذكر الغير ولم يصرح باسمه ".

الوجه الخامس: حسن الظن بأحمد الرفاعي رحمه الله يقتضي عدم مخالفته للسنة النبوية والشريعة المحمدية، فقد كان على ما روى الثقات بخلاف من يدّعي

ص: 295

الانتماء إليه من المبتدعة الغلاة، وأنه لم يزل على المنهج المستقيم والصراط القويم، فمن البعيد عنه الزيارة البدعية التي وردت عن الجهلة الشيطانية، بل لا بد أن يزور الزيارة التي ذكرها الأئمة الأعلام، وأساطين دين الإسلام، وقد مر بيان ذلك مفصلاً فيما نقلناه من كتابي الشيخ، فكيف يسوغ لمن تأدب بالآداب النبوية أن يتجاسر في ذلك المقام، ويطلب منه ما لم يطلبه غيره من أكابر الصحابة وأئمة أهل البيت وغيرهم؟ ويقول له: امدد يمينك كي تحظى بها شفتي. فهل هذا إلا قول أفاك أثيم أراد أن يروّج زيف كلامه على الجهلة والعوام الطغام؟

فمن اليقين لدى العارفين أن هذه القصة كذب وزور لعن الله من وضعها وافتراها.

ص: 296

(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت)

قد ذكرنا سابقاً بعض الوجوه على القدح برواية مد اليد وقصدنا الاختصار في القول، إذ الكلام عليه طويل جداً، وقد آن أن نتكلم على المقام الثاني وهو أيضاً من بعض الوجوه السابقة، فنقول وبالله التوفيق:

إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم قد ادّعاها قوم كثيرون بعد وفاته بزمن طويل، وقد ألف الجلال السيوطي رسالته المسماة (بتنوير الحلك في رؤية النبي والملك) لأجل تأييد هذا القول، وحال السيوطي وتلونه معلوم، حتى جعله بعض أهل العلم حاطب ليل، وبعد أن نقل عنه صاحب "روح المعاني" في هذه المسألة ما نقل وكذا عن غيره قال في تفسيره:

ثم إني أقول بعد هذا كله: إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه؛ لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، وإلى أبي بكر وعلي ينتهي أغلب سلاسل الصوفية

ص: 296

الذين تنسب إليهم تلك الرؤية، ولم يبلغنا أن أحداً منهم ادّعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره.

وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور: "ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه" ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال. وقد وقفتَ على اختلافهم في حكم الجد مع الأخوة، فهل وقفت على أن أحداً منهم ظهر له الرسول صلى الله عليه وسلم فأرشده إلى ما هو الحق فيه؟

وقد بلغك ما عري فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك، فهل بلغك عنه عليه الصلاة والسلام أنه ظهر لها كما يظهر للصوفية قبل لوعتها وهوّن حزنها وبين الحال لها؟

وقد سمعتَ بذهاب عائشة إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل، فهل سمعت تعرضه صلى الله عليه وسلم لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه؟ إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة.

والحاصل؛ أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة والسلام لأحد من أصحابه وأهل بيته مع احتياجهم الشديد لذلك، وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء محض وبهت بحت.

وبالجملة؛ عدم ظهوره لأولئك الكرام وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام، ولا يحسن مني أن أقول كل ما يحكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدّعيه، وكذا لا يحسن مني أن أقول إنهم إنما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم مناماً فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة، فقالوا رأينا يقظته لما فيه من البعد، ولعل في كلامهم ما يأباه، وغاية ما أقول إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السلام، وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جداً، وأنى يرى النجم

ص: 297

تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع، فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه، ويمكن أن يقال: إنه لم يقع لحكمة الابتلاء، أو لخوف الفتنة، أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلى الله عليه وسلم، أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنته صلى الله عليه وسلم فيما يهمهم، فيتسع باب الاجتهاد، وتنشر الشريعة، وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد، أو لنحو ذلك، وربما يدعي أنه عليه الصلاة والسلام ظهر ولكن كان مستتراً في ظهوره، كما روي أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ير صورة نفسه. فهذا كالظهور الذي يدّعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرآة وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى مرآته عليه الصلاة والسلام، وملاحظة أنه كثيراً ما ظهرت فيها صورته حسبما ظنه ابن خلدون، فإن قبل قولي هذا وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت، وإلا فالأمر مشكل فاطلب لك ما يحله، والله سبحانه الموفق للصواب" انتهى كلامه.

وتوجيهه الذي وجه به غير مقبول، إذ لا يدل عليه كتاب ولا سنّة صحيحة، وليس الأمر مشكلاً إذا لم يقبل توجيهه كما زعمه، لأن غلط الحس كثير، فإذا صدقوا بروايتهم نجيب حينئذ بما أجاب شيخ الإسلام في كتابة "الجواب الباهر" وقد ذكرناه سابقاً برمته فإنه قد قال: "وكان الصحابة خير القرون، وهم أعلم الناس بسنته وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى المسجد لا يذهب أحد منهم إلى قبره لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، وكانت الحجرة في زمانه يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة فيها وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلوه إليه لا لسلام، ولا لصلاة، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاماً وسلاماً فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم، فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم ويأمرهم

ص: 298

وينهاهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجاً من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت من القبر تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا مناماً، فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة ففهموا من مقاصده وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم، وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم" إلى آخر ما ذكره هناك.

ثم إنه يؤيد ما ذكره الشيخ أن العرب في الجاهلية كثيراً ما كانوا يسمعون كلاماً من أصنامهم كما سمعوا من صنمهم المسمى بالجلسد وهو صنم كان بحضرموت. وفي كتاب أبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري قال: أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرني عمي الحسين بن دريد، قال: أخبرني حاتم بن قبيصة المهلبي، عن هشام بن الكلبي، عن أبي مسكين، قال: كان بحضرموت صنم يسمى الجلسد تعبده كنده وحضرموت، وكانت سدنته بني شكامة بن شبيب بن السكون بن أشرس بن ثور بن مرتع وهو كنده، ثم إلى أهل بيت منهم يقال لهم: بنو علاق، وكان الذي يسدنه منهم يسمى الأخزر بن ثابت، وكان للجلسد حمى ترعاه سوامه وغنمه، وكانت هوا في الغنم إذا رعت حمى الجلسد حرمت على أربابها، وكانوا يكلمون منه، وكان كجثة الرجل العظيم، وهو من صخرة بيضاء لها كالرأس أسود، وإذا تأمله الناظر رأى فيه كصورة وجه الإنسان (قال الأخزر) : إني كنت يوماً عند الجلسد وقد ذبح له رجل من بني الأمري بن مهرة ذبحاً إذ سمعنا فيه كهمهمة الرعد فأصغينا، فإذا قائل يقول: شعار أهل عدم، إنه قضاء حتم، إن بطش سهم، فقد فاز سهم، فقلنا: ربنا وضاح وضاح. فأعاد الصوت وهو يقول: ناء نجم العراق، يا أخزر بن علاق، هل أحسست جمعاً عما، وعدد أجما، يهوى من يمن وشام، إلى ذات الآجام، نور أظل وظلام أفل، وملك انتقل من محل إلى محل. ثم سكت فلم ندر ما هو، فقلنا: هذا أمر كائن، فلما كان في العام المقبل-

ص: 299

وقد راث علينا ما كنا نسمع من كلام الصنم وساءت ظنوننا، وقربنا قرباناً ولطخنا بدمه وكذلك كنا نفعل -فإذا الصوت قد عاد إلينا فتباشرنا، فقلنا عم صباحاً ربنا لا مصد عنك ولا محيد، تشارت الشؤون وساءت الظنون، فالعياذ من غضبك والإياب إلى صفحك. فإذا النداء من الصنم يقول: قلبت النبات، وعزاها واللات، وعلياها ومناة، منعت الأفق فلا مصعد، وحرست فلا مقعد، وأبهمت فلا متلدد، وكان قد ناجم نجم، وهاجم الجم، وصامت زجم، وقابل رجم، وداع نطق، وحق سبت، وباطل زهق، ثم سكت. فتحدثت القبائل بهذا في مخاليف اليمن، فإنا لعلى أفان ذلك، إذ أضل رجل من كندة إبلاً فأقبل إلى الجلسد فنحر جزوراً واستعار ثوبين من ثياب السدنة واكتراهما فلبسهما- وكذلك كانوا يفعلون- ثم قال:- أنشدك يا رب أبكراً ضخماً مدمومة دماً مخلوقة بالأفخاذ، مخلوطة بألحاذ، أضللتها بين جماهير النخرة، حيث الشقيقة والصفرة، فاهد رب وأرشد فلم يجب. قال الأخزر فانكسر لذلك، وقد كان فيما مضى يخبرنا بالأعاجيب، فلما جن علينا الليل بت مبيتي عنده، فإذا هاتف يقول: لا شأن للجلسد ولا رثي لهدد، استقام الأود، وعبد الواحد الصمد، وأكفى الحجر الأصلد، والرأس الأسود، قال: فنهضت مذعوراً فأتيت الصنم فإذا هو منقلب على رأسه، وكان لو اجتمع فئام من الناس ما حلحلوه، فوالذي نفسي بيده ما عرجت على أهل ولا مال حتى أتيت راحلتي وخرجت حتى أتيت صنعاء، فقلت: هل من خائبة خبر؟ فقيل: ظهر رجل بمكة يدعو إلى خلع الأوثان، ويزعم أنه نبي، فلم أزل أطوف في مخاليف اليمن حتى ظهر الإسلام، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمتُ. وفي أشعارهم:

بات يجتاب شقارى كما

بيقر من يمشي إلى الجلسد

والبيقر: مشية يطأطىء الرجل فيها رأسه. والبيت للمثقب العبدي. ومنهم من قال: إنه لعدي بن الرقاع، ويروى: كما كبر من يمشي إلى الجلسد.

وسمعوا أيضاً كلاماً من صنمهم المسمى بالضِمار- وهو بكسر الضاد المعجمة وميم مخففة بعدها ألف ثم راء مهملة- كأن صنماً لبني سليم، ولما

ص: 300

حضرت مرداساً الوفاة قال للعباس ولده: أي بني اعبد ضماراً فإنه ينفعك ويضرك. فبينما عباس يوماً عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار منادياً يقول:

من للقبائل من سليم كلها

أودى ضمار وعاش أهل المسجد

إن الذي ورث النبوة والهدى

بعد ابن مريم من قريش مهتد

أودى ضمار وكان يعبد مدة

قبل الكتاب إلى النبي محمد

فحرق عباس ضماراً ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وفي لفظة: أن عباس بن مرداس كان في لقاح له نصف النهار إذ طلع عليه راكب على نعامة بيضاء وعليه ثياب بيض فقال له: يا عباس؛ ألم تر أن السماء قد تعب أحراسها، وأن الحرب قد حرقت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي نزل عليه البر والتقوى صاحب الناقة القصوا؟ فقال عباس: فراعني ذلك فجئت وثناً لنا يقال له الضمار كنا نعبده، ونكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به، فإذا صائح يصيح من جوفه:

قل للقبائل من قريش كلها

هلك الضمار وفاز أهل المسجد

هلك الضمار وكان يعبد مدة

قبل الصلاة على النبي محمد

إن الذي ورث النبوة والهدى

بعد ابن مريم من قريش مهتد

قال عباس: فخرجت مع قوم بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلت المسجد، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم، فقال: يا عباس؛ كيف إسلامك؟! فقصصت عليه القصة، فقال: صدقت وأسلمت أنا وقومي".

وما كفى مبتدعة الرفاعية وغلاتهم تلك الأكذوبة الظاهرة العوار، البينة الفساد حتى اتخذوا لها يوم عيد، ولا يأكلون قبله بسبعة أيام شيئاً من اللحوم، وبعد انقضائها يكون العيد فيهنىء بعضهم بعضاً به ويسمونه عيد مد اليد.

ولهم في ذلك رسائل ومصنفات، منها "القواعد المرعية في أصول الطريقة الرفاعية" وفيها قاعدة في الخلوة الأسبوعية المحرمية، وفيها اشترط رجال هذه

ص: 301

الطريقة العلية دخول الخلوة المحرمية في كل سنة في اليوم الثاني عشر من محرم الحرام إلى مساء اليوم السابع عشر، وقد اشترطوا ذلك على كل من انتسب إلى هذه الطريقة، وقالوا يلزم المختلي أن يتخذ له فراشاً خالصاً لا يشاركه فيه النساء، وأن يديم الوضوء كلما حدث له ناقض جدده، ولا يتكلم بما لا يعنيه، ولا يكثر الكلام لغير ضرورة، وليلزم بيته إلا لعذر وينفرد، وليكن طعامه خالياً عن كل ذي روح، ثم ذكر ما يشرع للسالك في تلك الأيام من أوراد وأذكار.

ومنها "الفخر المخلد في منقبة مد اليد" وفيها بيان ما يشرع ليلة عيد الخلوة المحرمية من البدع والأهواء، ولم ينزل الله بها من سلطان، ولم يتكلم بما حوته عالم من العلماء الأعلام، وكلها قد تلقوها عن إخوانهم الباطنية، والنحل الرافضية.

وليس هذا المقام مقام الرد عليهم، وبيان ما نسب من الضلال إليهم، وقد رد عليهم شيخ الإسلام في عدة مواضع، وألف فيهم كتباً مفصلة، منها كتابه الذي سماه (كشف حال المشائخ الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية) نذكر منه إن شاء الله تعالى ما يناسب مقامه.

وأظن أن ما كتبه النبهاني الغبي في هذه المسألة إنما هو إرضاءً لشيخه شيخ الضلال ومقدمة الدجال، عدو المسلمين، وناصر المبتدعين، الذي، كان قربه من ولى الأمر من أعظم المصائب وأدهى النوائب، وقد روج بدع الرفاعية أي رواج، وعدل بالمسلمين عن سواء السبيل وأقوم منهاج، هذا مع ما هو عليه من الفسق والفجور، والزيغ عن الحق في كل الأمور، وما اكتفى بذلك حتى بث حزبه ومردته يصدون عن الحق في كل سبيل، وأقعدهم على صراط الله المستقيم للإغواء والتضليل، حتى استفحل أمرهم، وعم البر والبحر شرهم، فذكر النبهاني الجاهل هذه القضية التي هي إحدى حبائل شيخه ليستجلب رضاه، فعليه وعلى شيخه ما يستحقان، والردود المؤلفة في القدح على شيخه هذا كثيرة، وكلها مطبوعة ومشتهرة منها كتاب (المسامير) ومنها (الفتح المبين) ومنها (السيف الرباني) ومنها غير ذلك، ولكن الأمر كما قيل:

ص: 302

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

ثم إن النبهاني أخذ يتكلم على فضل المدينة النبوية، وذكر للشيخ البكري أربعين حديثاً في فضلها، والبكري هذا هو الذي رد عليه الشيخ في كتاب (الإستغاثة) - وهو مجلد كبير- ثم ذكر الخلاف في مكة والمدينة أيهما أفضل.. إلخ.

أقول: فضل المدينة مما لا شك فيه، والكتب مملوءة من ذلك، قال ابن خلدون: "اعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه، وجعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثواب وينمو بها الأجور، وأخبرنا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه لطفاً بعباده وتسهيلاً لطرق السعادة لهم، وكانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصحيحين؛ وهي مكة، والمدينة، وبيت المقدس. أما بيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، أمره الله ببنائه وأن يؤذن في الناس بالحج إليه، فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصه القرآن، وقام بما أمره الله فيه وسكن إسماعيل به مع هاجر ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله ودفنا بالحجر منه.

وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام، أمرهما الله ببناء مسجد ونصب هياكله، ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحق عليه السلام حواليه.

قال: والمدينة مهاجر نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، أمره الله تعالى بالهجرة إليها، وإقامة دين الإسلام بها، فبنى مسجده الحرام بها، وكان ملحده الشريف في تربتها.

قال: فهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين، ومهوى أفئدتهم، وعظمة دينهم، وفي الآثار من فضلها ومضاعفة الثواب في مجاورتها والصلاة فيها كثير معروف".

ثم إنه أشار إلى شيء من الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة، وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم.

ص: 303

وقد ذكر ياقوت الحموي ذلك بتفصيل أكثر، على أنه قد أفرد لذلك كتب مخصوصة مشهورة، فلا تتعب القلم بذكرها.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب سؤال ورده؛ عن صحة أصول مذهب أهل المدينة ومنزلة مالك المنسوب إليه مذهبهم في الإمامة والديانة، وضبط علوم الشريعة عند أئمة علماء الأمصار، وأهل الثقة والخبرة من سائر الأعصار.

أجاب رضي الله عنه؛ "الحمد لله: مذهب أهل المدينة النبوية- دار السنة ودار الهجرة ودار النصرة، إذ فيها سن الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم سنن الإسلام وشرائعه، وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله، وبها كان الأنصار أنصار الله الذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم- مذهبهم- في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقاً وغرباً، في الأصول والفروع. وهذه الأعصار الثلاثة هي أعصار القرون المفضّلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من وجوه: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"1. فذكر ابن حبان بعد قرنه قرنين بلا نزاع. وفي بعض الأحاديث الشك في القرن الثالث بعد قرنه، وقد رُوي في بعضها بالجزم بإثبات القرن الثالث بعد قرنه فتكون أربعة. واعتمد على ذلك أبو حاتم السُّلمي ونحوه من علماء أهل الحديث في طبقات هذه الأمة، بأن هذه الزيادة ثابتة في الصحيح".

ثم إنه ذكر أحاديث الثلاثة والأحاديث التي فيها ذكر القرن الرابع- إلى أن قال-: "وفي القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مذهب أهل المدينة، أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسُّون بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها، حتى أنهم لا يفتقرون إلى نوع من سياسة الملوك، وأن افتقار العلماء ومقاصد العباد أكثر من افتقار أهل المدينة حيث كانوا أغنى من غيرهم عن ذلك كله بما كان

1 أخرجه مسلم (2535) وابن حبان (6692) .

ص: 304

عندهم من الآثار النبوية التي يفتقر إلى العلم بها واتباعها كل أحد، ولهذا لم يذهب أحد من علماء المسلمين إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة، لا في تلك الأعصار ولا فيما بعدها، لا إجماع أهل مكة ولا الشام، ولا العراق، ولا غير ذلك من أمصار المسلمين. ومن حكى عن أبي حنيفة أو أحد من أصحابه أن إجماع أهل الكوفة حجة يجب اتباعها على كل مسلم فقد غلط على أبي حنيفة وأصحابه في ذلك.

وأما المدينة فقد تكلم الناس في إجماع أهلها، واشتهر عن مالك وأصحابه أن إجماع أهلها حجة، وأن بقية الأئمة ينازعونهم في ذلك. والكلام إنما هو في إجماعهم في تلك الأعصار المفضلة. وأما بعد ذلك فقد اتفق الناس على أن إجماع أهلها ليس بحجة، إذ كان حينئذ في غيرها من العلماء ما لم يكن فيها، لاسيما من حين ظهر بها الرفض، فإن أهلها مستمسكون بمذهبهم القديم، منتسبين إلى مذهب مالك إلى أوائل المائة السادسة أو قبل ذلك أو بعد ذلك، فإنهم قدم إليهم من رافضة المشرق من أهل قاشان وغيرهم من أفسد مذهب كثير منهم، لاسيما المنتسبون منهم إلى العترة النبوية، وقدم عليهم بكتب أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة، وبذل لهم أموالاً فكثرت البدعة بها من حينئذ.

فأما الأعصار المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين، كما خرج من سائر الأمصار فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منها العلم والإيمان خمسة: البحران، والعراقان، والشامان، منها خرج القرآن والحديث والفقه والعبادة وما يتبع ذلك من أمور الإسلام.

وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية، فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء، وانتشر بعد ذلك في غيرها، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال الفاسد، وانتشر بعد ذلك في غيرها. والشام كان بها النصب والقدر. وأما التجهُّم فإنما ظهر من ناحية خراسان، وهو شر البدع، ولأن ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية، وتقدم

ص: 305

بعقوبتها الشيعة من الأصناف الثلاثة الغالية حيث حرّقهم عليُّ بالنار، والمفضّلة حيث تقدم جلدهم ثمانين، والسبائية حيث طلب أن يعاقب ابن سبأ بالقتل أو بغيره فهرب منه، ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية في آخر عصر ابن عمر وابن عباس وجابر وأمثالهم من الصحابة وحدثت المرجئة قريباً من ذلك.

وأما الجهمية؛ فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين بعد موت عمر بن عبد العزيز، وقد روي أنه أنذر بهم، وكان ظهور جهم بخراسان في خلافة هشام بن عبد الملك، وقد قتل المسلمون شيخهم الجعد بن درهم قبل ذلك، ضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: يا أيها الناس ضحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولم يكلّمْ موسى تكليماً، تعالى عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه. وقد روى أن ذلك بلغ الحسن البصري وأمثاله من التابعين فشكروا ذلك1.

وأما المدينة النبوية؛ فكانت سليمة من ظهور هذه البدع، وإن كان بها من هو مضمر لذلك كان عندهم مهاناً مذموماً، إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم، لكن كانوا مذمومين مقهورين، بخلاف التشيع والإرجاء بالكوفة، والاعتزال وبدع النُسَّاك بالبصرة، والنصب بالشام؛ فإنه كان ظاهراً. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال لا يدخلها2.

ويُحْكَى أن عمرو بن عبيد وهو رأس المعتزلة ممن كان يساجي سفيان الثوري ولم يعلم سفيان به فقال عمرو لرجل: من هذا؟ فقال: سفيان الثوري، أو قال: من أهل الكوفة. قال: ولو علمت بذلك لدعوته إلى رأي ولكن ظننته من هؤلاء المدنيين الذين يجيئونك من فوق.

ولم يزل العلم والإيمان بها ظاهراً إلى زمن أصحاب مالك، وهم أصل

1 قصة ذبح خالد القسري للجعد بن درهم لا تصح؛ انظر تخريجها والكلام عليها في "قصص لا تثبت"(3/251- وما بعدها) للشيخ مشهور بن حسن آل سلمان- حفظه الله تعالى.

2 انظر: "صحيح مسلم"(2943) .

ص: 306

القرن الرابع، حيث أخذ ذلك القرن عن مالك وأهل طبقته، كالثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة وأمثالهم، وهؤلاء أخذوا عن طوائف من التابعين، وأولئك أخذوا عمن أدركوا من الصحابة، والكلام في إجماع أهل المدينة في تلك الأعصار.

والتحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة، أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم، وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب:

الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد، وكترك صدقة الخضراوات والأجناس، فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء.

أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك، وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه، قال أبو يوسف رحمه الله وهو أجل أصحاب أبي حنيفة، وأول من لقب قاضي القضاة، لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل، وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر رجع أبو يوسف إلى قوله وقال-: لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت.

فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند غيره، لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه، ويهان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد وتركا قول شيخهما لعلمهما بأن شيخهما كان يقول: إن هذه الأحاديث أيضاً صحّت؛ لكن لم تبلغه. ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن، وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ بالسفر مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس، لاعتقاده صحّتهما،

ص: 307

وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما. قال: وقد بينا هذا في رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وبتنا أن أحداً من أئمة الإسلام لا يخالف حديثاً صحيحاً بغير عذر، بل لهم نحو من عشرين عذراً: مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث، أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم، أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه، كالناسخ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك، والأعذار يكون العالم في بعضها مصيباً فيكون له أجران، ويكون في بعضها مخطئاً بعد اجتهاده، فيثاب على اجتهاده وخطؤه مغفور له، لقوله تعالى:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1. وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقال: "قد فعلت"2. ولأن العلماء ورثة الأنبياء.

وقد ذكر الله عن داود وسليمان أنهما حكما في قضية، وأنه فهمها أحدهما، ولم يجب الآخر، بل أثنى على كل واحد منهما بأنه آتاه حكماً وعلماً، فقال:{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} 3.

وهذه الحكومة تتضمن مسألتين تنازع فيهما العلماء: مسألة نفش الدواب في الحرث بالليل، وهو مضمون عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، وأبو حنيفة لم يجعله مضموناً.

والثانية: ضمان بالمثل والقيمة، وفي ذلك نزاع في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. والمأثور عن أكثر السلف في نحو ذلك يقتضي الضمان بالمثل إذا أمكن، كما قضى به سليمان، وكثير من الفقهاء لا يضمنون ذلك إلا بالقيمة كالمعروف من مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.

والمقصود هنا؟ أن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل حجة باتفاق

1 سورة البقرة: 286.

2 تقدم تخريجه.

3 سورة الأنبياء: 78- 79.

ص: 308

المسلمين، قال مالك لأبي يوسف- لما سأله عن الصاع والمد، وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها على أسلافهم-: أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال: لا والله ما يكذبون، فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق. فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.

وسأله عن صدقة الخضراوات، فقال: هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله تعالى عنهما يعني وهي تنبت فيها الخضراوات.

وسأله عن الأجناس، فقال: هذا جنس فلان وهذا جنس فلان، يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف في كل منهما: قد رجعت يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.

وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء في أنه ليس في الخضروات صدقة كمذهب مالك والشافعي وأحمد، وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كمذهب هؤلاء، وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء.

وإنما قال مالك: برطالكم يا أهل العراق؛ لأنه لما انقرضت الدولة الأموية وجاءت دولة ولد العباس قريباً، فقام أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور فبنى بغداد فجعلها دار ملكه، وكان أبو جعفر يعلم أن أهل الحجاز حينئذ كانوا أعنى بدين الإسلام من أهل العراق.

ويروى أنه قال ذلك لمالك أو غيره من علماء المدينة، قال: نظرت في هذا الأمر فوجدت أهل العراق أهل كذب وتدليس أو نحو ذلك، ووجدت أهل الشام إنما هم أهل غزو وجهاد، ووجدت هذا الأمر فيكم.

ويقال: إنه قال لمالك: وأنت أعلم أهل الحجاز، أو كما قال. فطلب أبو جعفر علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق وينشروا العلم فيه، فقدم عليهم هشام بن عروة، ومحمد بن إسحق، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي

ص: 309

عبد الرحمن، وحنظلة بن أبي شقيق الجُمَحِي، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وغير هؤلاء. وكان أبو يوسف يختلف في مجالس هؤلاء ويتعلم منهم الحديث وأكثر ممن قدم الحجاز.

ولهذا يقال في أصحاب أبي حنيفة: أبو يوسف أعلمهم بالحديث، وزفر أطردهم للقياس، والحسن بن زياد اللؤلؤي أكثرهم تفريعاً، ومحمد أعلمهم بالعربية والحساب، وربما قيل أكثرهم تفريعاً.

فلما صارت العراق دار الملك واحتاج الناس إلى تعريف أهلها بالسنة والشريعة غير المكيال الشرعي برطل أهل العراق، وكان رطلهم بالحنطة الثقيلة والعدس إذ ذاك تسعين مثقالاً، مائة وثمانين وعشرون درهماً وأربعة أسباع الدرهم، فهذا هو المرتبة الأولى لإجماع أهل المدينة وهو حجة باتفاق المسلمين.

المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان، فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريباً أنه الحق، وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها. وقال أحمد: كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة النبوة. ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة، وكذلك بيعة عليّ كانت بالمدينة، ثم خرج منها وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة بيعة. وقد ثبت في الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"1. وفي "السنن" من حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عضوضاً"2.

1 تقدم تخريجه.

2 أخرجه أبو داود (4646) والترمذي (2226) وأحمد (5/220- 221) وغيرهم، وهو حديث صحيح.

ص: 310

فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان؛ كحديثين وقياسين، جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة؛ ففيه نزاع، فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة.

ولأصحاب أحمد وجهان:

أحدهما: وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل أنه لا يرجح.

والثاني: وهو قول أبي الخطاب وغيره أنه يرجح به، قيل: هذا هو المنصوص عن أحمد. ومن كلامه قال: إذا رأى أهل المدينة حديثاً وعملوا به فهو الغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريراً كثيراً، وكان يدل المستفتي على مذاهب أهل الحديث ومذهب أهل المدينة، ويدل المستفتي على إسحاق وأبي عبيدة وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث، ويدله على حلقة المدنيين حلقة أبي مصعب الزهري ونحوه، وأبو مصعب هو آخر من مات من رواة الموطأ عن مالك، مات بعد أحمد بسنة، سنة اثنين وأربعين ومائتين. وكان أحمد يكره أن يرد على أهل المدينة كما يرد على أهل الرأي، ويقول: إنهم اتبعوا الآثار. فهذا مذهب جمهور الأئمة يوافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة.

وأما المرتبة الرابعة: فهي العمل المتأخر بالمدينة؛ فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعها أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه أصول الفقه وغيره، ذكر أن هذا ليس إجماعاً ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل الغرب من أصحابه، وليس معه للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد.

ص: 311

قلت: ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في "الموطأ" إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم، وتارة لا يذكر. ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها- وإن خالفت النصوص- لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان، كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها، وبالإجماع.

وقد عرض عليه الرشيد أو غيره أن يحمل الناس على موطئه فامتنع من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت علم أهل بلدي أو كما قال.

وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأياً، وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة حجة قوية، وتارة مرجحاً للدليل، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين. ومعلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة إذ لم يخرج منها أحد قبل الفتنة إلا وأقام بها من هو أفضل منه، فإنه لما فتح الشام والعراق غيرهما أرسل عمر بن الخطاب إلى الأمصار من يعلمهم الكتاب والسنّة، فذهب إلى العراق عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعمران بن حصين، وسلمان الفارسي وغيرهم. وذهب إلى الشام معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح وأمثالهم. وبقي عنده مثل عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، ومثل أبي بن كعب، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت وغيرهم. وكان ابن مسعود وهو أعلم من كان بالعراق من الصحابة يفتي بالفتيا، ثم يأتي المدينة فيسأل علماء أهل المدينة فيردونه عن قوله فيرجع، كما جرى في مسألة أمهات النساء لما ظن ابن مسعود أن الشرط فيها وفي الربيبة، وأنه إذا طلق امرأته قبل الدخول حلت أمها كما تحل ابنتها، فلما جاء إلى المدينة وسأل عن ذلك أخبره علماء الصحابة أن الشرط في الربيبة دون الأمهات فرجع إلى قولهم، وأمر الرجل بفراق امرأته بعدما حلت.

ص: 312

وكان أهل المدينة فيما يعملون؛ إما سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب.

ويقال: إن مالكاً أخذ جل الموطأ عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن المسيب عن عمر، وعمر محدث. وفي الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر"1.

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر"2.

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"3.

وكان عمر يشاور أكابر الصحابة كعلي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد،

1 أخرجه الترمذي (3686) وأحمد (4/154) والحاكم (3/85) والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(2/500) والطبراني في "المعجم الكبير"(17/رقم: 822) والروياني في "مسنده"(1/171، 174/214، 223) والقطيعي في زوائده على "فضائل الصحابة" للإمام أحمد (519) والأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة"(2/358/341) واللالكاني في "شرح أصول الاعتقاد"(7/1313/2491) والبيهقي في "المدخل"(65) والدينوري في "المجالسة"(2/86- 89/217) وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/65/595) .

من طريق: حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر مرفوعاً. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وقال الشيخ الألباني في "الصحيحة"(1/2/646/رقم: 327) : "وهذا سند حسن، رجاله كلهم ثقات، وفي مشرح كلام لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن، وقد وثقه ابن معين".

وحسن إسناده الشيخ مشهور في تحقيقه على "المجالسة"، ونقل توثيق الفسوي في "المعرفة"(2/500) لمشرح بن هاعان، والله تعالى أعلم.

2 أخرجه البخاري (3689) ومسلم (2398) .

3 أخرجه الترمذي (3662) وابن ماجه (97) وغيرهما من غير واحد من الصحابة؛ وانظر: "الصحيحة"(3/233/1233) .

ص: 313

وعبد الرحمن، وهم أهل الشورى. ولهذا قال الشعبي: انظروا ما قضى به عمر فإنه كان يشاور. ومعلوم أن ما كان يقضي أو يفتي به عمر يشاور فيه هؤلاء أرجح مما يقضي أو يفتي به ابن مسعود أو نحوه رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

وكان عمر- في مسائل الدين والأصول والفروع- إنما يتبع لما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يشاور علياً وغيره من أهل الشورى، كما شاوره في المطلقة المعتدة الرجعية في المرض إذا مات زوجها هل ترث؟ وأمثال ذلك.

فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة والفرقة وانتقل عليّ إلى العراق هو وطلحة والزبير لم يكن بالمدينة من هو مثل هؤلاء، ولكن كان بها من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب، ومحمد بن مسلمة، وأمثالهم، من هو أجلّ ممن مع علي من الصحابة، فأعلم من كان بالكوفة من الصحابة علي وابن مسعود، وعليٌّ كان بالمدينة إذ كان بها عمر وعثمان وابن مسعود وهو نائب عمر وعثمان، ومعلوم أن علياً مع هؤلاء أعظم علماً وفضلاً من جميع من معه من أهل العراق، ولهذا كان الشافعي يناظر بعض أهل العراق في الفقه محتجاً على المناظر بقول عليّ وابن مسعود، فصنف الشافعي كتاب "اختلاف علي وعبد الله " يبين فيه ما تركه المناظر وغيره من أهل العلم من قولهما. وجاء بعده محمد بن نصر المروزي صنف في ذلك أكثر مما صنف الشافعي"- إلى أن قال-: "ومما يوضح الأمر في ذلك أن سائر أمصار المسلمين- غير الكوفة- كانوا منقادين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم كأهل الشام ومصر، مثل الأوزاعي ومن قبله وبعده من الشاميين، ومثل الليث بن سعد ومن قبل ومن بعد من المصريين، وإن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بيّن، وكذلك علماء أهل البصرة كأيوب، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي وأمثالهم. ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصار، فإن أهل مصر صاروا ناصرة لقول أهل المدينة، وهم أجلاء أصحاب مالك المصريين كابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وعبد الله بن الحكم. والشاميون مثل الوليد بن مسلم، ومروان بن

ص: 314

محمد، وأمثالهم؛ لهم روايات معروفة عن مالك. وأما أهل العراق؛ كعبد الرحمن بن مهدي، وحماد بن زيد، ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي وأمثالهم، كانوا على مذهب مالك، وكانوا قضاة القضاة، وإسماعيل ونحوه كانوا من أجلّ علماء الإسلام.

وأما الكوفيون بعد الفتنة والفرقة يدعون مكافأة أهل المدينة، وأما قبل الفتنة والفرقة فقد كانوا متّبعين لأهل المدينة ومنقادين لهم، لا يعرف قبل مقتل عثمان أن أحداً من أهل الكوفة أو غيرها يدّعي أن أهل مدينته أعلم من أهل المدينة، فلما قتل عثمان وتفرقت الأمة وصاروا شيعاً ظهر من أهل الكوفة من يساوي بعلماء أهل الكوفة علماء أهل المدينة، ووجهه الشبهة في ذلك أنه ضعف أمر المدينة لخروج خلافة النبوة منها، وقوي أمر أهل العراق لحصول عليّ فيها.

لكن ما فيه الكلام من مسائل الفروع والأصول قد استقر في خلافة عمر، ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر الأمصار قبل الفرقة أولى من قولهم وحديثهم بعد الفرقة.

قال عبيدة السلماني -قاضي عليّ كرم الله وجهه-: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.

ومعلوم أنه كان بالكوفة من الفتنة والتفرق ما دل عليه النص والإجماع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الفتنة من ههنا، الفتنة من ههنا، الفتنة من ههنا، من حيث يطلع قرن الشيطان" 1 وهذا الحديث قد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه.

ومما يوضح الأمر في ذلك؛ أن العلم إما رواية، وإما رأي. وأهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأياً، وأما حديثهم فأصح الأحاديث. وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة، ثم أحاديث أهل البصرة.

1 أخرجه البخاري (7092، 7093) ومسلم (2905) وللشيخ محمد أشرف سند رحمه الله هو رسالة قيمة في شرح هذا الحديث الشريف، موسوعة بـ"أكمل البيان في شرح حديث النجد قرن الشيطان" نشرت بدار المنار بالخرج.

ص: 315

وأما أحاديث أهل الشام؛ فهي دون ذلك، فإنه لم يكن لهم من الإسناد المتصل وضبط الألفاظ ما لهؤلاء، ولم يكن منهم -يعني أهل المدينة، ومكة، والبصرة، والشام- من يعرف بالكذب، لكن منهم من يضبط، ومنهم من لا يضبط.

وأما أهل الكوفة؛ فلم يكن الكذب في أهل بلد أكثر منه فيهم، ففي زمن التابعين كان بها خلق كثير منهم معروفون بالكذب، لاسيما الشيعة، فإنهم أكثر الطوائف كذباً باتفاق أهل العلم، ولأَجْلِ هذا يُذكر عن مالك وغيره من أهل المدينة أنهم لم يكونوا يحتجون بعامة أحاديث أهل العراق، لأنهم قد علموا أن فيهم كذّابين، ولم يكونوا يميزون بين الصادق والكاذب، فأما إذا عَلِمُوا صِدْقَ الحديث فإنهم يحتجون به. كما روى مالك عن أيوب السختياني وهو عراقي، فقيل له ذلك. فقال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه أو نحو هذا.

وهذا القول هو القول القديم للشافعي، حتى روي أنه قيل له: إذا روى سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد الله حديثاً ألا يحتج به؟ فقال: إن يكن له أصل بالحجاز وإلا فلا. ثم إن الشافعي رجع عن ذلك، وقال لأحمد بن حنبل: أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح الحديث فأخبرني به حتى أذهب إليه، شامياً كان أو بصرياً أو كوفياً. ولم يقل مكياً أو مدنياً لأنه كان يحتج بهذا قبل.

وأما علماء أهل الحديث كشعبة، ويحيى بن سعيد، وأصحاب الصحيح والسنن؛ فكانوا يميزون بين الثقات الحفاظ وغيرهم ممن بالكوفة والبصرة من الثقات الذين لا ريب فيهم، وأن فيهم من هو أفضل من كثير من أهل الحجاز، ولا يستريب عالم في مثل أصحاب عبد الله بن مسعود؛ كعلقمة، والأسود، وعبيدة السلماني، والحارث التيمي، وشريح القاضي. ثم مثل إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة وأمثالهم من أوثق الناس وأحفظهم، فلهذا صار علماء الإسلام متفقين على الاحتجاج بما صححه أهل العلم بالحديث من أي مصر كان. وصنف أبو داود السجستاني مفاريد أهل الأمصار يذكر فيه ما انفرد أهل كل مصر من

ص: 316

المسلمين من أهل العلم بالسنة.

وأما الفقه والرأي؛ فقد علم أن أهل المدينة لم يكن فيهم من ابتدع بدعة في أصول الدين، ولما حدث الكلام في الرأي في أوائل الدولة العباسية وفرع لهم ربيعة بن هرمز فرعاً كما فرع عثمان الليثي وأمثاله بالبصرة، وأبو حنيفة وأمثاله بالكوفة، وصار في الناس من يقبل ذلك وفيهم من يرد، وصار الرادون لذلك مثل هشام بن عروة وأبي الزناد والزهري وابن عيينة وأمثالهم، فإن ردوا ما ردوا من الرأي المحدث بالمدينة فهم للرأي المحدث بالعراق أشد رداً، فلم يكن أهل المدينة أكثر من أهل العراق فيما لا يحمد، وهم فوقهم فيما يحمدونه، وبهذا يظهر الرجحان.

وأما ما قال هشام بن عروة: لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى نشأ فيهم المولدون -أبناء سبايا الأمم- فقالوا فيهم بالرأي فضَلُّوا وأضَلُّوا.

قال ابن عيينة: فنظرنا في ذلك فوجدنا ما حدث من الرأي إنما هو من المولدين أبناء سبايا الأمم، وذكر بعض من كان بالمدينة وبالبصرة وبالكوفة، والذين بالمدينة أحمد عند هذا ممن بالعراق من أهل المدينة.

ولما قال مالك رضي الله تعالى عنه عن إحدى الدولتين: إنهم كانوا أتبع للسنن من الدولة الأخرى. قال ذلك لأجل ما ظهر بمقاربتها من الحدثان، لأن أولئك أولى بالخلافة نسباً وقرناً.

وقد كان المنصور والمهدي والرشيد -وهم سادات خلفاء بني العباس- يرجّحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق، كما كان خلفاء بني أمية يرجحون أهل الحجاز على علماء الشام، ولما كان فيهم من لم يسلك هذا السبيل بل عدل إلى الآراء المشرقية كثر الأحداث فيهم وضعفت الخلافة.

ثم إن بغداد إنما صار فيها من العلم والإيمان وترجحت على غيرها بعد موت مالك وأمثاله من علماء أهل الحجاز، وسكنها من أفشى السنة بها وأظهر حقائق الإسلام، مثل أحمد بن حنبل، وأبي عبيدة، وأمثالهما من فقهاء أهل

ص: 317

الحديث، ومن ذلك الزمان ظهرت بها السنة في الأصول والفروع، وكثر ذلك فيها وانتشر منها إلى الأمصار، وانتشر أيضاً من ذلك الوقت من المشرق والمغرب، فصار في المشرق مثل إسحاق بن إبراهيم بن راهويه وأصحابه، وأصحاب عبد الله بن المبارك، وصار إلى المغرب من علم أهل المدينة ما نقل إليهم من علماء الحديث، فصار في بغداد وخراسان والمغرب من العلم ما يكون مثله إذ ذاك بالحجاز والبصرة، ولم يكن بعد عصر مالك وأصحابه من علماء الحجاز من يفضل على علماء العراق والمشرق والمغرب، وهذا باب يطول تتبعه ولو استقصينا فضل علماء أهل المدينة وصحة أصولهم لطال الكلام.

إذا تبين ذلك؛ فلا ريب عند أحد أن مالكاً رضي الله عنه أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأياً، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه، كان له من المكانة عند أهل الإسلام -الخاص منهم والعام- ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام، وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب أخبار الرواة عن مالك فبلغوا ألفاً وسبعمائة أو نحوها، وهؤلاء الذين اتصل إلى الحديث حديثهم نجعد قريب من ثلاثمائة سنة، فكيف بمن انقطعت أخبارهم ولم يتصل إليه خبرهم؟ فإن الخطيب توفي سنة اثنين وسبعين وأربعمائة، وعصره وعصر ابن عبد البر والبيهقي والقاضي أبي يعلى وأمثال هؤلاء واحد. ومالك توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين، وتوفي أحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين، ولهذا قال الشافعي: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صواباً بعد كتاب الله من موطأ مالك. وهو كما قال الشافعي رضي الله عنه.

وهذا لا يعرض ما عليه أئمة الإسلام من أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من صحيح البخاري ومسلم، مع أن الأئمة على أن البخاري أصح من مسلم، ومن رجح مسلماً فإنه رجحه بجمعه ألفاظ الحديث في مكان واحد، فإن ذلك أيسر على من يريد جمع ألفاظ الحديث.

وأما من زعم أن الأحاديث التي انفرد بها مسلم أو الرجال الذين انفرد بهم

ص: 318

أصح من الأحاديث التي انفرد بها البخاري، ومن الرجال الذين انفرد بهم، فهذا غلط لا يشك فيه عالم. كما لا يشك أحد أن البخاري أعلم من مسلم بالحديث والعلل والتاريخ، وأنه أفقه منه، إذ البخاري وأبو داود أفقه أهل الصحيح والسنن المشهورة، وإن كان قد يتفق لبعض ما انفرد به مسلم أن يرجح على بعض ما انفرد به البخاري فهذا قليل، والغالب بخلاف ذلك، فإن الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ومسلم، وإنما كانا كذلك لأنه جرد فيهما الحديث الصحيح المسند، ولم يكن القصد بتصنيفهما ذكر آثار الصحابة والتابعين ولا سائر الحديث من الحسن والمرسل وشبه ذلك، ولا ريب أن ما جرد فيه الحديث الصحيح المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أصح الكتب، لأنه أصح منقولاً عن المعصوم من الكتب المصنفة.

وأما "الموطأ" ونحوه فإنه صُنّف على طريقة العلماء المصنفين إذ ذاك، فإن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكتبون القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يكتبوا عنه غير القرآن، وقال:"من كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه"1. ثم نُسِخَ ذلك عن جمهور العلماء حيث أذن في الكتابة لعبد الله بن عمر، وقال: "اكتبوا لأبي شاه" 2. وكتب لعمرو بن حزم كتاباً.

قالوا: وكان النهي أولاً خوفاً من اشتباه القرآن بغيره، ثم أذن لمّا أَمِنَ ذلك3، فكان الناس يكتبون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكتبون، وكتبوا أيضاً غيره، ولم يكونوا يصنفون ذلك في كتب مصنفة إلى زمن تابعي التابعين، فصنف العلم.

فأول من صنف ابن جريج شيئاً في التفسير، وشيئاً في الأموات، وصنف سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، ومعمر، وأمثال هؤلاء يصنفون ما في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وهذه هي كانت كتب الفقه والعلم

1 أخرجه مسلم (3004) .

2 أخرجه البخاري (112) ومسلم (1355) .

3 انظر في ذلك "تقييد العلم" للخطيب البغدادي- رحمه الله.

ص: 319

والأصول والفروع بعد القرآن. فصنف مالك الموطأ على هذه الطريقة، وصنف بَعْدُ عبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغير هؤلاء. فهذه الكتب التي كانوا يعدونها في ذلك الزمان هي التي أشار إليها الشافعي رحمه الله تعالى، فقال: ليس بعد القرآن كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك، فإن حديثه أصح من حديث نظرائه.

وكذلك الإمام أحمد- لما سئل عن حديث مالك ورأيه، وحديث غيره ورأيهم- رجح حديث مالك ورأيه على حديث أولئك ورأيهم، وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة"1. فقد رُوي عن غير واحد كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا: هو مالك.

والذين نازعوا في هذا لهم مأخذان: أحدهما: الطعن في الحديث، فزعم بعضهم أن فيه انقطاعاً.

1 أخرجه أحمد (2/299) أو رقم (7967- شاكر) والترمذي (2680) والحاكم (1/90) وابن حبان (9/52/3736) والبهيقي (1/386) والخطيب البغدادي في "تاريخه"(5/306 و6/376 و13/ 17) وابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل"(ص 11- 12) وابن الجوزي في "مثير العزم الساكن"(2/284/460) والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(1/346- 347) وابن عدي في "الكامل"(1/101) والخليلي في " الإرشاد"(1/210) والقزويني في " التدوين لأخبار قزوين"(1/175) وابن عبد البر في "التمهيد"(1/85) وفي "الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء"(ص20- 21) والذهبي في "سير أعلام النبلاء"(8/55) وغيرهم.

من طريق: سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة به مرفوعاً.

وقال الترمذي: "حديث حسن".

وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

قلت: الإسناد ضعيف؛ فإن ابن جريج وأبا الزبير من المشهورين بالتدليس، ولم يصرح أحدهما بالتحديث. وانظر لزاماً "المجالسة"(3/172-174) فللشيخ مشهور بن حسن بحث نفيس هناك. والحديث ضعفه العلامة الألباني في "المشكاة"(246) .

ص: 320

والثاني: أنه أراد غير مالك كالعمري الزاهد ونحوه.

فيقال: ما دل عليه الحديث وأنه مالك أمر مقرر لمن كان موجوداً وبالتواتر لمن كان غائباً، فإنه لا ريب أنه لم يكن في عصر مالك أحد ضرب إليه الناس أكباد الإبل أكثر من مالك. وهذا يقرر بوجهين:

أحدهما: بطلب تقديمه على مثل الثوري، والأوزاعي، والليث، وأبي حنيفة، وهذا فيه نزاع ولا حاجة إليه في هذا المقام.

والثاني: أن يقال: إن مالكاً تأخر موته عن هؤلاء كلهم، فإنه توفي سنة تسع وسبعين ومائة، وهؤلاء كلهم ماتوا قبل ذلك، فمعلوم أنه بعد موت هؤلاء لم يكن في الأمة أعلم من مالك في ذلك العصر، وهذا لا ينازع فيه أحد من المسلمين، ولا رحل إلى أحد من علماء المدينة ما رحل إلى مالك لا قبله ولا بعده، رحل إليه من المشرق والمغرب، ورحل إليه الناس على اختلاف طبقاتهم من العلماء والزهاد، والملوك والعامة، وانتشر موطئه في الأرض حتى لا يعرف في ذلك العصر كتاب بعد القرآن كان أكثر انتشاراً من "الموطأ". وأخذ الموطأ عنه أهل الحجاز والشام والعراق، ومن أصغر من أخذ عنه الشافعي ومحمد بن الحسن وأمثالهما. وكان محمد بن الحسن إذ حدث بالعراق عن مالك والحجازيين يمتلئ داره، وإذا حدث عن أهل العراق يقل الناس لعلمهم بأن علم مالك وأهل المدينة أصح وأثبت، وأجل من أخذ عنه الشافعي العلم اثنان مالك وابن عيينة، ومعلوم عند كل أحد أن مالكاً أجل من ابن عيينة، حتى أنه كان يقول: إني ومالك كما قال القائل:

وابن اللبون إذا ما لُزّ في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

ومن زعم أن الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم هو العمري الزاهد مع كونه كان رجلاً صالحاً، زاهداً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لم يعرف أن الناس احتاجوا إلى شيء من علمه، ولا رحلوا إليه فيه، وكان إذا أراد أمراً يستشير مالكاً ويستفتيه، كما نقل أنه استشاره لما كتب إليه من العراق أن يتولى الخلافة،

ص: 321

فقال حتى أشاور مالكاً، فلما استشاره أشار عليه أن لا يدخل في ذلك، وأخبره أن هذا لا يتركه ولد العباس حتى تراق فيه دماء كثيرة، وذكر له ما ذكر عمر بن عبد العزيز -لما قيل له: وهذه علوم التفسير والحديث والفتيا وغيرها من العلوم لم يعلم أن الناس أخذوا عن العمري الزاهد منها ما يذكر، فكيف يقرن هذا بمالك في العلم ورحلة الناس إليه؟

ثم هذه كتب الصحيح التي أجل ما مها كتاب البخاري؛ أول ما يستفتح الباب بحديث مالك، وإن كان في الباب شيء من حديث مالك لا يقدم على حديثه غيره، ونحن نعلم أن الناس ضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلم يجدوا عالماً أعلم من مالك في وقته، والناس كلهم مع مالك، وأهل المدينة إما موافق، وإما منازع. فالموافق لهم عضد ونصير، والمنازع لهم معظم لهم مبجل لهم عارف بمقدارهم، وما تجد من يستخف بأقوالهم ومذاهبهم إلا من ليس معدوداً من أئمة العلم، وذلك لعلمهم أن مالكاً هو القائم بمذهب أهل المدينة، وهو أظهر عند الخاصة والعامة من رجحان مذهب أهل المدينة على سائر الأمصار، فإن موطأه مشحون إما بحديث أهل المدينة، وإما بما اجتمع عليه أهل المدينة، إما قديماً، وإما حديثاً. وأما مسألة تنازع فيها أهل المدينة وغيرهم فيختار فيها قولاً ويقول هذا أحسن ما سمعت، فإما بآثار معروفة عند علماء المدينة ولو قدر أنه كان في الأزمان المتقدمة من هو أتبع لمذهب أهل المدينة من مالك فقد انقطع ذلك.

ولسنا ننكر أن من الناس من أنكر على مالك مخالفته أولاً لأحاديثهم في بعض المسائل، كما يذكر عن عبد العزيز والدراوردي أنه قال له في مسألة تقدير المهر بنصاب السرقة: تعرقت يا أبا عبد الله- أي: صرت فيها إلى قول أهل العراق الذين يقدرون أقل المهر بنصاب السرقة-، لكن النصاب عند أبي حنيفة وأصحابه عشرة دراهم، وأما مالك والشافعي وأحمد فالنصاب عندهم ثلاثة دراهم أو ربع دينار كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، فيقال أولاً أن مثل هذه الحكاية تدل على ضعف أقاويل أهل العراق عند أهل المدينة، وأنهم كانوا يكرهون للرجل أن

ص: 322

يوافقهم، وهذا مشهور عندهم يعيبون الرجل بذلك، كما قال ابن عمر لما استفتاه عن دم البعوض، وكما قال ابن المسيب لربيعة لما سأله عن عقل أصابع المرأة، وأما ثانياً: فمثل هذا في قول مالك قليل جداً، وما من عالم إلا وله ما يرد عليه، وما أحسن ما قال ابن خويز منداد في مسألة بيع كتب الرأي والإجارة عليها: لا فرق عندنا بين رأي صاحبنا مالك وغيره في هذا الحكم، لكنه أقل خطأ من غيره.

وأما الحديث؛ فأكثره تجد مالكاً قد قال به في إحدى الروايتين، وإنما ترك طائفة من أصحابه، كمسألة رفع اليدين عند الركوع والرفع منه، وأهل المدينة رووا عن مالك الرفع موافقاً للحديث الذي رواه. لكن ابن القاسم ونحوه من البصريين هم الذين قالوا بالرواية الأولى، ومعلوم أن رواية ابن القاسم أصلها مسائل أسد بن فرات التي فرعها أهل العراق، ثم سأل عنها أسد ابن القاسم، فأجابه بالنقل عن مالك، وتارة بالقياس على قوله، ثم أصحها في رواية سحنون، فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى قول أهل العراق، وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة، ثم اتفق أنه لما انتشر مذهب مالك بالأندلس، وكان يحيى بن يحيى عامل الأندلس والولاة يستشيرونه، فكانوا يأمرون القضاة أن لا يقضوا إلا بروايته عن مالك، ثم رواية غيره، ثم انتشرت رواية ابن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها، وقد تكون مرجوحة في المذهب، وعمل أهل المدينة والسنة حتى صاروا يتركون رواية الموطأ- الذي هو متواتر عن مالك، وما زال يحدث به حتى مات- لرواية ابن القاسم، وإن كان طائفة من أئمة المالكية أنكروا ذلك، فمثل هذا إن كان فيه عيب فإنما هو على من نقل ذلك لا على مالك، ويمكن المتبع لمذهبه أن يتبع السنة في عامة الأمور، إذ قل من سنة ألا وله قول يوافقها، بخلاف كثير من مذهب أهل الكوفة فإنهم كثيراً ما يخالفون السنة وإن لم يتعمدوا ذلك.

ثم من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما، حتى أن

ص: 323

الشافعي لما ناظر محمد بن الحسن حين رجع محمد بصاحبه على صاحب الشافعي فقال له الشافعي: بالإنصاف أو بالمكاثرة؟ قال له: بالإنصاف. فقال: ناشدتك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ فقال: بل صاحبكم. فقال: صاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم؟ فقال بل صاحبكم. فقال: صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم صاحبكم؟ فقال: صاحبكم. فقال: ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس ونحن نقول بالقياس، ولكن من كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح.

وقالوا للإمام أحمد: من أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مالك أم سفيان؟ فقال: بل مالك. فقيل له: أيما أعلم بآثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك أم سفيان؟ فقال: بل مالك. فقيل له: أيما أزهد مالك أم سفيان؟ فقال: هذه لكم. ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم أهل العراق ذلك الوقت بالفقه والحديث، فإن أبا حنيفة، والثوري، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن بن صالح بن جني، وشريك بن عبد الله النخعي القاضي كانوا متقاربين في العصر، وهم أئمة فقهاء الكوفة في ذلك العصر، وكان أبو يوسف يتفقه أولاً على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي، ثم إنه اجتمع بأبي حنيفة فرأى أنه أفقه منه فلزمه، وصنف كتاب اختلاف أبي حنيفة وأبي ليلى، وأخذه عنه محمد بن الحسن ونقله الشافعي عن محمد بن الحسن، وذكر فيه اختياره، وهو المسمى بكتاب (اختلاف العراقيين) . ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم هذه الطبقة في الحديث مع تقدمه في الفقه والزهد، والذين أنكروا من أهل العراق وغيرهم ما أنكروا من الرأي المحدث بالكوفة لم ينكروا ذلك على سفيان الثوري، بل سفيان عندهم إمام العراق، فتفضيل أحمد لمذهب مالك على مذهب سفيان تفضيل له على مذهب أهل العراق، وقد قال الإمام أحمد في علمه وعلم مالك بالكتاب والسنة والآثار ما تقدم، مع أن أحمد يقدم سفيان الثوري على هذه الطبقة كلها، وهو يعظم سفيان غاية التعظيم، ولكنه كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب أهل الكوفة وعلمائها، وأحمد كان معتدلاً عالماً بالأمور يعطي كل ذي حق حقه،

ص: 324

ولهذا كان يحب الشافعي ويثني عليه ويدعو له ويذب عنه عند من يطعن في الشافعي، أو من ينسبه إلى بدعة، ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها، ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر، ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث من خالفه بالرأي وغيره.

وكان الشافعي يقول: سموني ببغداد ناصر الحديث. ومناقب الشافعي واجتهاده في اتباع الكتاب والسنة واجتهاده في الرد على من يخالف ذلك كثير جداً، وهو كان على مذهب أهل الحجاز، وكان تفقه على طريقة المكيين أصحاب ابن جريج، كمسلم بن خالد، والزنجي، وسعيد بن سالم القداح، ثم رحل إلى مالك وأخذ عنه الموطأ، وكمل أصول أهل المدينة، فكان أجل علماً وفقهاً وقدراً من أهل مكة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد مالك، ثم اتفقت له محنة ذهب فيها إلى العراق، فاجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه وناظره، وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه، وأخذ من الحديث ما أخذه على أهل العراق، ثم ذهب إلى الحجاز، ثم قدم إلى العراق مرة ثانية، وفيها صنف كتابه القديم المعروف (بالحجة) واجتمع به أحمد بن حنبل في هذه القدمة بالعراق، واجتمع به بمكة، وجمع بينه وبين إسحاق بن راهويه، وتناظرا بحضور أحمد رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولم يجتمع بأبي يوسف ولا بالأوزاعي وغيرهما، فمن ذكر ذلك في الرحلة المضافة إليه فهو كاذب، فإن تلك الرحلة فيها من الأكاذيب عليه وعلى مالك وأبي يوسف ومحمد وغيرهم من أهل العلم ما لا يخفى على عالم، وهي من جنس كذب القصاص، ولم يكن أبو يوسف ومحمد سعيا في أذى الشافعي قط، ولا كان حال مالك معه ما ذكر في تلك الرحلة الكاذبة.

ثم رجع الشافعي إلى مصر وصنف كتابه الجديد، وهو في خطابه وكتابه ينسب إلى مذهب أهل الحجاز، فيقول: قال بعض أصحابنا- وهو يعني أهل المدينة أو بعض علماء أهل المدينة كمالك- ويقول في أثناء كلامه: وخالفنا بعض المشرقيين. وكان الشافعي عند أصحاب مالك واحداً منهم ينسب إلى أصحابهم، واختار سكنى مصر إذ ذاك لأنهم كانوا على مذهب أهل المدينة ومن يشبههم من

ص: 325

أهل مصر كالليث بن سعد وأمثاله.

وكان أهل الغرب بعضهم على مذهب هؤلاء، وبعضهم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام، ومذهب أهل الشام ومصر والمدينة متقارب، لكن أهل المدينة أجلّ عند الجميع.

ثم إن الشافعي رضي الله عنه لما كان مجتهداً في العلم، ورأى من الأحاديث الصحيحة وغيرها من الأدلة ما يجب عليه اتباعه- وإن خالف قول أصحابه المدنيين- قام بما رآه واجباً عليه، وصنف الإملاء على مسائل ابن القاسم، وأظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه.

وقد أحسن الشافعي فيما فعل، وقام بما يجب عليه، وإن كان قد كره ذلك من كرهه وآذوه، وجرت محنة مصرية معروفة، والله يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

وأبو يوسف ومحمد هما أصحاب أبي حنيفة، وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك، ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك، وكل ذلك اتباعاً للدليل وقياماً بالواجب.

والشافعي قرر أصول أصحابه والكتاب والسنة، وكان كثير الاتباع لما صح عنده من الحديث، ولهذا كان عبد الله بن الحكم يقول لابنه: يا بني، الزم هذا الرجل فإنه صاحب حجج، فما بينك وبين أن تقول قال ابن القاسم فيضحك منك إلا أن تخرج من مصر.

قال محمد: فلما صرت إلى العراق جلست إلى حلقة فيها ابن أبي دؤاد، فقلت قال ابن القاسم، فقال: ومن ابن القاسم؟ فقلت: رجل مفت يقول من مصر إلى أقصى المغرب، وأظنه قال: قلت رحم الله أبي، وكان مقصود أبيه اطلب الحجة لقول أصحابك ولا تتبع. فالتقليد إنما يقبل حيث يعظم المقلد بخلاف الحجة، فإنه يقبل في كل مكان، فإن الله أوجب على كل مجتهد أن يقول بموجب ما عنده من العلم، والله يخص هذا من العلم والفهم ما لا يختص به هذا، وقد

ص: 326

يكون هذا هو المخصوص بمزيد العلم والفهم في نوع من العلم، أو باب منه، أو مسألة، وهذا هو مخصوص بذلك في نوع آخر، لكن جملة مذاهب أهل المدينة النبوية راجحة في الجملة على مذاهب أهل المغرب والمشرق، وذلك يظهر بقواعد جامعة"1.

هذا آخر ما نقلناه من كلام شيخ الإسلام في ترجيح مذهب أهل المدينة؛ وبه يعلم ما كان عليه من الاعتقاد الصحيح، والفطنة الزائدة، والفهم الكثير، فإن كل من تكلم على فضل المدينة تكلم إجمالاً ولم يبين الفضل بالدليل والسبب، وكتابه هذا كتاب جليل، وقد نقلنا منه ما نقلنا حرصاً على حفظ فوائده، وقد بقي منه كلام طويل تكلم فيه على قواعد جامعة تفيد رجحان مذهب المدنيين فعليك به إن أردته.

مقصودنا مما ذكرنا؛ بيان إفلاس النبهاني الجاهل من كل فضيلة، وأنه ينقل في كتابه ما يقصد به تعظيم حجم الكتاب من غير فهم لما ينقله ولا محاكمة، بل إنه يقلد غلاة شيوخه تقليداً أعمى، ومع ذلك يجعل نفسه من المتبعين، ويرمي شيخ الإسلام ومن هو على مسلكه بأنهم من المبتدعين، ولا بدع منه فإنه ممن قال الله فيه:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2.

ثم إن النبهاني عقد فصلاً في ذكر شيء مما لا ينبغي فعله للزائر، ونقل أقوالاً عن ابن حجر وأضرابه ينقض بعضها بعضاً، وساق منها جملة من العبارات، انظر إلى ما قاله ابن حجر في "التحفة" و"الزواجر" مع ما ذكره في "الجوهر المنظم" تجد المناقضة ظاهرة.

قال في "التحفة": "وقد أفتى جمع بهدم كل ما في قرافة مصر من الأبنية، حتى قبة إمامنا الشافعي التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام أخذاً من كلام ابن الرفعة". انتهى.

1 انظر "مجموعة الفتاوى"(20/163- 182) الجديدة.

2 سورة الملك: 10.

ص: 327

وقال في "الزواجر": ومن أعظم أسباب الشرك؛ الصلاة عند القبور، واتخاذها مسجداً، ويجب إزالة كل منكر عليها، ويجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور، إذ هي أضر من مسجد الضرار، لأنها أُسِّسَتْ على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه نهى عن ذلك وأمر بهدم القبور، ويجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه أو نذره"1.

وقال أيضاً في "الزواجر": "ومن الكبائر اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، والصلاة إليها". انتهى2.

وقد نقض ذلك كله في كتابه (الجوهر المنظم) فأباح كل ما منعه في ذينك الكتابين، حتى قال بجواز السجود للقبور إذا غلب الحال على أهل الأحوال، وذكر فيه من الغلو ما فيه قرة لعيون الغلاة، ولولا خوف التطويل لنقلنا كلامه كله والكتاب متداول بين الناس.

ثم إن النبهاني عقد باباً آخر في مشروعية الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم، وضمنه أربعة فصول.

أولها: ذكر فيه أحاديث وردت في اسغاثة الناس به صلى الله عليه وسلم في حياته.

وثانيها: في أحاديث الشفاعة يوم القيامة.

وثالثها: في بعض ما قاله العلماء وأثبتوا به مشروعية الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم.

ورابعها: في توضيح هذه المسألة من قبل مؤلف الكتاب.

أقول- ومن الله المعونة وبيده أزمة التوفيق-: إن الكلام على ما حواه كلامه من الكذب والزور والبطلان يطول جداً، فضلاً عما اشتملت عليه عبارته من الغلط وفساد التركيب وسوء التعبير، فكتابه كله ظلمات بعضها فوق بعض، فلو تكلمنا على ذلك كله لطال الكلام، وكلت عن رقمه الأقلام. فإن النبهاني هذا هو من أعظم الغلاة المحادين لله ورسوله، وكلامه كله باطل، وجهل مركب، وبهت لأهل

1 "الزواجر"(1/287- ط. الباز) .

2 المصدر السابق (1/285) .

ص: 328

الحق، وليس فيه جملة واحدة توافق الحق أصلاً، فالحمد لله الذي خذل أعداء دينه، وجعلهم عبرة لأوليائه وعباده المؤمنين.

أما مشروعية الاستغاثة: ففيها تفصيل، إذ الاستغاثة بالشيء- على ما ذكره بعض المحققين- طلب الإغاثة والغوث منه. كما أن الاستعانة طلب الإعانة منه. فإذا كانت بنداء من المستغيث للمستغاث كان ذلك سؤالاً منه، وظاهره أن ذلك ليس توسلاً به إلى غيره، إذ قد جرت العادة أن من توسل بأحد عند غيره أن يقول لمستغاثه: أستغيثك على هذا الأمر بفلان. فيوجّه السؤال إليه ويقصر أمر شكواه عليه، ولا يخاطب المستغاث به ويقول له: أرجو منك، أو أريد منك، وأستغيث بك، ويقول: إنه وسيلتي إلى ربي. وإن كان كما يقول فما قدر المتوسل إليه حق قدره، وقد رجا وتوكل والتجأ إلى غيره. كيف واستعمال العرب يأبى عنه؟ فإن من يقول: صار لي ضيق فاستغثت بصاحب القبر فحصل الفرج يدل دلالة جلية على أنه قد طلب الغوث منه، ولم يفد كلامه أنه توسل به، بل إنما يراد هذا المعنى إذا قال: توسلت أو استغثت عند الله بفلان، أو يقول لمستغاثه استغثت إليك بفلان، فيكون حينئذ مدخول الباء متوسلاً به. ولا يصح إرادة هذا المعنى إذا قلت: استغثت بفلان، وتريد التوسل به، سيما إذا كنت داعيه وسائله، بل قولك هذا نص على أن مدخول الباء مستغاث وليس مستغاثاً به. والقرائن التي تكتنفه من الدعاء وقصر الرجاء والالتجاء شهود عدول، ولا محيد عما شهدت به ولا عدول، فهذه الاستغاثة وتوجه القلب إلى المسؤول بالسؤال والإنابة محظورة على المسلمين، لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين.

وهل سمعتم أن أحداً في زمانه صلى الله عليه وسلم أو ممن بعده في القرون المشهود لأهلها بالنجاة والصدق- وهم أعلم منا بهذه المطالب وأحرص على نيل مثل تلك الرغائب- استغاث بمن يزيل كربته التي لا يقدر على إزالتها إلا الله؟ أم كانوا يقصرون الاستغاثة على مالك الأمور ولم يعبدوا إلا إياه؟ ولقد جرت عليهم أمور مهمة، وشدائد مدلهمة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، فهل سمعت عن أحد منهم أنه استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ أو قالوا: إنا مستغيثون بك يا رسول الله؟ أم بلغك أنهم لاذوا

ص: 329

بقبره الشريف وهو سيد القبور حين ضاقت منهم الصدور؟

كلا؛ لا يمكن لهم ذلك، وإن الذي كان بعكس ما هنالك، فلقد أثنى الله عليهم ورضي عنهم، فقال عز من قائل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 1 مبيناً لنا أن هذه الاستغاثة أخص الدعاء وأجلى أحوال الالتجاء، وهي من لوازم السائل المضطر، الذي يضطر إلى طلب الغوث من غيره، فيخص نداءه لدى استغاثته بمزيد الإحسان في سره وجهره، شفي استغاثته بغيره تعالى عند كربته تعطيل لتوحيد معاملته.

فإن قلت: إن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسببية، فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى.

قلنا له: إن كلامنا فيمن يستغاث به عند إلمام مالا يقدر عليه إلا الله، أو لسؤال ما لا يعطيه ويمنعه إلا الله. وأما فيما عدى ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس واستغاثة بعضهم ببعض فهذا شيء لا نقول به، ونعد منعه جنوناً كما نعد إباحة ما قبله شركاً وضلالاً. وكون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يستعان به، ولا يتوكل عليه، ولا يلتجأ في ذلك إليه، فلا يقال لأحد- حي أو ميت، قريب أو بعيد-: ارزقني أو أمتني، أو أحي ميتي، أو اشفِ مريضي، إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الأحد، الفرد الصمد. بل يقال لمن له قدرة كسبية قد جرت العادة بحصولها ممن أهله الله لها، أعنّي في حمل متاعبي أو غير ذلك.

والقرآن ناطق بخطر الدعاء عن كل أحد لا من الأحياء ولا من الأموات، سواء كانوا أنبياء أو صالحين أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة أو بغيرها، فإن الأمور الغير مقدورة للعباد لا تطلب إلا من خالق القدر، ومنشىء البشر، كيف والدعاء عبادة وهي مختصة به سبحانه؟ أسبل الله علينا بفضله عفوه

1 سورة الأنفال: 9.

ص: 330

ورضوانه، فالقصر على ما تعبدنا فيه من محض الإيمان، والعدول عنه عين المقت والخذلان.

وهذا خلاصة ما ذكروه من جعل الاستغاثة والاستشفاع بغير الله شركاً ظاهراً لا يغفر، ومتعاطيه جاعل لله نداً، فيذبح بأمر الله تعالى، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ويستغفر.

وبالجملة؛ فالاستغاثة والاستعانة والتوكل أغصان دوحة التو-جد، المطلوب من العبيد.

بقي ههنا شيء يورده المجيزون على هؤلاء المانعين؛ وهو أنه لا شك أن من عبد غير الله مشرك حلال الدم والمال، وأن الدعاء المختص بالله سبحانه عبادة، بل هو مخ العبادة، ولكن لا نسلم أن طلب الإغاثة ممن استغيث بهم شرك مطلقاً، وإنما يكون شركاً لو كان المستغيث معتقداً أنهم هم الفاعلون لذلك خلقاً وإيجاداً، فحينئذ يكون من الشرك الاعتقادي قطعاً. أما من اعتقدهم الفاعلين كسباً وتسبباً فليس بمسلَّم، ولئن سلمنا فليس المقصود من طلب الإغاثة منهم وندائهم إلا التوسل بهم وبجاههم، وإن كان اللفظ ظاهراً يدل على الطلب منهم وأنهم المطلوبون بهذا النداء، لكن مقصود المستغيث التشفع والتوسل بهم إلى ربهم، وهو صلى الله عليه وسلم من أشرف الوسائل إلى الله سبحانه، وقد أمرنا سبحانه بطلب ما يتوسل به، فقال تعالى:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1. فكيف تحظرونها بل تجعلونها شركاً مخرجاً عن الملة؟ وليس في قلوب المسلمين إلا هذا المعنى، وإن في ذلك تكفير أكثر الناس، من غير ارتياب والتباس. وكيف تحكمون على أناس قد أظهروا شعائر الإسلام من أذان وصلاة، وصوم وحج، وإيتاء زكاة، يأتون بكلمة التوحيد، ويحبون الله ويحبون سيد المرسلين، ويتبلغون بالقبول التام ما جاء عنهما من أمور الدين، وغاية الأمر أنهم لرهبتهم من ربهم ومعرفتهم بعلو مرتبة نبيهم وما وعده الله

1 سورة المائدة: 35.

ص: 331

سبحانه من إرضاءه في أمته، كما قال سبحانه:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 1 ولا يرضى صلى الله عليه وسلم إلا بأن يقف لأمته في مثل هذه التوسلات فينالوا الرغبات، وليس في أقوالكم هذه إلا تنقص بحق هذا النبي الذي أوجب الله علينا حبه أكثر من محبتنا لأنفسنا، وفي مثل ذلك بشاعة في القول، وشناعة بطريق الأولى؟

فالجواب عنهم: منهم أن قالوا: أما أول اعتراضكم وقولكم إنه ليس مقصودهم إلا التوسل- وإن تكلموا بما يفيد غيره- فإنه يدل على أن الشرك لا يكون إلا اعتقادياً، وأنه لا يكون كفر إلا إذا طابق الاعتقاد، وهذا يقتضي سد أبواب الشرائع بأسرها، ومحو الأبواب التي ذكرها الفقهاء في الردة ومحقها، كيف وأن الله سبحانه يقول:{وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 2 وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 3.

وقد ذكر المفسرون أنهم قالوها على جهة المزح.

وكذلك العلماء كفّروا بألفاظ سهلة جداً، وبأفعال تدل على ما هو دون ذلك، ولو فتحنا هذا الباب لأمكن لكل من تكلم بكلام يحكم على قائله بالردة أن يقول: لم تحكمون بردتي؟ فيذكر احتمالاً ولو بعيداً يخرج به عما كٌفّرَ فيه، ولما احتاج إلى توبة، ولا توجه عليه لوم أبداً، ولساغ لكل أحد أن يتكلم بكل ما أراد، فتنسد الأبواب المتعلقة بأحكام الألفاظ من حد قذف، وكفارة يمين، وظهار، ولانسدت أبواب العقود من نكاح وطلاق، وغير ذلك من الفسوخ والمعاملات، فلا يتعلق حكم من الأحكام بأي لفظ كان- إلا إذا اعتقد المعنى- وإن أفيد بوضع الألفاظ.

وأما ما ذكرتم من أنه أشرف الوسائل؛ فهي كلمة حق أريد بها باطل،

1 سورة الضحى: 5.

2 سورة التوبة: 74.

3 سورة التوبة: 65- 66.

ص: 332

كقولكم إنه ذو الجاه العريض والمقام المنيع، ونحن أولى بهذا المقام منكم لاتّباعِنَا لأقواله وأفعاله، واقتدائنا به صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، مقتفين لآثاره واقفين عند أخباره، فهو صلى الله عليه وسلم نبينا وهادينا إلى سبل الإسلام، ومنقذنا برسالته من مهاوي أولئك الجفاة الطعام، فلا نعمل إلا بأمره، ونتلقى ذلك بالسمع والطاعة في حلوه ومره، وقد أوجب علينا أن نتبع سبيل المؤمنين، ونهانا عن الغلو في الدين، فإن غَلَوْنَا فإننا إذاً عن الصراط ناكبون، ولئن عدلنا إنا إذاً لخاسرون.

وكيف يحسن طريق يؤدّي إلى الإشراك، وأنّى يليق بالموحدين هذا الوجه المؤدي للارتباك؟ وهذا طريق سلفنا الصالح؛ وهو الاعتقاد الصحيح الراجح، هذا وإن النبي صلى الله عليه وسلم -وأرواحنا له الفداء- لا يرضى بما يغضب الرب المتعال، وكيف لا وقد بعث بحماية التوحيد من هذه الأقوال والأفعال، وقد قالت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم:"كان خلقه القرآن"1 يرضى لرضاه ويسخط لسخطه. فليس لنا وسيلة إلى الله إلا الدعاء المبني على أصول الذل والافتقار والثناء، فهو الوسيلة التي أمرنا الله سبحانه بالتوسل به، وجعله من أفضل الوسائل، وأخبرنا أنه مخ عبادته تحقيقاً لعبوديتنا، فسد به عن غيره أبواب الذرائع.

وقد اختلف العلماء -بعد أن اتفقوا على استحباب سؤال الله تعالى به وبأسمائه وبصفاته وأفعاله وبصالح أعمالنا التي حصلت لنا بمحض كرمه وأفضاله -في جواز التوسل بالذوات المنيفة، والأماكن والأوقات الشريفة، فعن العز بن عبد السلام ومن تابعه عدم الجواز إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث صحّ الحديث فيجوز، ويكون ذلك خاصاً به لعلو رتبته.

وعن الحنابلة في أصح القولين مكروه كراهة تحريم.

ونقل الفقهاء الحنفية عن بشر بن الوليد أنه قال: سمعتُ أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به.

وفي جميع متونهم أن قول الداعي المتوسل: بحق الأنبياء والرسل، وبحق

1 أخرجه مسلم (746/139) .

ص: 333

البيت والمشعر الحرام؛ مكروه كراهة تحريم. وقال القدوري: المسألة بخلقه تعالى لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.

وأما أحاديث: "أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، وبحق نبيك والأنبياء من قبلي.." 1 ففيها وهن. وعلى تسليمها فالمراد بهذا الحق ما أوجبه الله تعالى على نفسه، وذلك من أفعاله، لأن حق السائلين الإجابة، وحق المطيعين الإثابة، وحق الأنبياء التقريب والتفضيل بما يخص أولئك العصابة صلى الله عليه وسلم، وذلك كقوله تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 2 وقوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} 3 وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 4. وقوله صلى الله عليه وسلم: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذبهم"5.

والسؤال بالأعمال؛ لأن الممشى إلى الطاعة امتثالاً لأمره عمل طاعة، وذلك من أعظم الوسائل المأمور بها في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 6.

ومن نظر إلى الأدعية الواردة في الكتاب والسنة لم يجدها خارجة عما ذكرنا، قال الله تعالى في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ

1 حديث ضعيف. أخرجه أحمد (3/21) أو رقم (11170) وابن ماجه (778) وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(83) وعلي بن الجعد في "مسنده "(2/791/2118 2) وغيرهم.

وهو حديث ضعيف؛ انظر تفصيل الكلام عليه في "الضعيفة"(24) .

وللشيخ الألمعي علي بن حسن الحلبي- حفظه الله- رسالة مستقلة في بيان علل هذا الخبر، وهي مطبوعة باسم "الكشف والتبيين لعلل حديث:"اللهم إني أسألك بحق السائلين"، وهي مطبوعة بدار الهجرة بالدمام.

2 سورة الروم: 47.

3 سورة التوبة: 111.

4 سورة الأنعام: 54.

5 متفق عليه من حديث معاذ بن جبل، وقد تقدم.

6 سورة المائدة: 35.

ص: 334

آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} 1 وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} 2. وقوله تعالى عن الحواريين: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} .

وكان ابن مسعود يقول: اللهم إنك أمرتني فأطعتك، ودعوتني فأجبتك، فاغفر لي.

ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي جمعه العلماء لا يخرج عن هذا النمط، وخلاف ذلك يعد كالخروج عن جادة الصواب والشطط، فاتبع أيها الناظر نبيك المصطفى تسلم من اللغط والغلط، هذا ما كان من تحرير مدعي المانعين، وتقريره على وجه أبان عن لبات تلخيصهم بتسطيره. ثم أخذ يذكر الجواب عما استدل به المجوزون فإن أردت الوقوف عليه فارجع إلى كتاب "العقد الثمين".

فتبين مما نقلناه أن الاستغاثة بمخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى مما لا يجوز، فإن الاستغاثة دعاء والدعاء عبادة بل مخ العبادة، وغير الله تعالى لا يعبد بل هو المخصوص بالعبادة، فإذا أصاب الناس جدب وقحط فلا يقال: يا رسول الله؟ ارفع عنا القحط والجدب. وإذا نزل بالناس بلاء أو وباء فلا يقال: يا رسول الله، أو يا جبريل أو يا ميكائيل؛ ارفع عنا البلاء والوباء. وإذا مرض أحد فلا يقول: يا رسول الله، شافني وعافني، ولا غيره. وإذا احتاج أحد إلى رزق فلا يقول: يا رسول الله؟ ارزقني، ولا غيره. وإذا لم يكن لأحد ولد فلا يجوز له أن يقول: يا رسول الله؟ أعطني ولداً. وإذا كان في شدة في بر أو بحر فلا يجوز أن يقول: يا رسول الله؟ أدركني، أو ألتجىء إليك، أو أستغيث بك، أو نحو ذلك. بل كل ذلك شرك مخرج عن الدين، لأنه عبادة لغير الله. ونحن نوضح المسألة فقد زلت فيها أقدام، فنبين أولاً معنى العبادة3، ثم نذكر ما هو من خصائص

1 سورة آل عمران: 193.

2 سورة المؤمنون: 109.

3 وللشيخ العلامة عبد الرحمن المعلّمي اليماني- رحمه الله كتاب في هذا الموضوع، اسمه "العبادة" وهو كتاب نفيس، وقد من الله عليّ بالحصول على مخطوط للكتاب؛ ولكنه كان ناقصاً- وحتى الآن لم أعثر على تتمته- فقمت بنسخ أول الكتاب وتحقيقه، وأخرجته في جزء صغير وسميته بـ"رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله" وهو تحت الطبع بالمكتبة العصرية ببيروت. ولشيخ الإسلام كتاب "العبودية" وهو نفيس في بابه أيضاً.

ص: 335

الألوهية، ومن الله نستمد التوفيق.

أما العبادة؛ فهي في اللغة: الذل والانقياد1.

واصطلاحاً: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ كالتوحيد فإنه عبادة في نفسه، والصلاة، والزكاة، والحج، وصيام رمضان، والوضوء، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، والدعاء، والذكر، والقراءة، وحب الله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وغير ذلك مما رضيه وأحبه، فأمر به وتعبد الناس فيه2. قال العلامة عمر بن عبد الرحمن الفارسي في كشفه على الكشاف للزمخشري- عند تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} 3. وهو خطاب لمشركي أهل مكة، ونقل عن علقمة أن كل خطاب بيا أيها الناس فهو مكي، وبيا أيها الذين آمنوا فهو مدني- ما لفظه: "تحرير الكلام فيه أن العبادة قد تطلق على أعمال الجوارح بشرط قصد القربة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد"4. وهي على هذا غير الإيمان بمعنى التصديق، والنية والإخلاص، بل مشروطة بها، وقد تطلق على التحقق بالعبودية بارتسام ما أمر السيد جل وعلا أو نهى، وعلى هذا يتناول الأعمال والعقائد القلبية أيضاً؛ فيدخل فيها الإيمان وهو

1 انظر "لسان العرب"(9/12) .

2 انظر "العبودية" لشيخ الإسلام (ص 19- ط. دار الأصالة، بتحقيق الشيخ علي الحلبي) .

3 سورة البقرة: 21.

4 حديث موضوع. أخرجه الترمذي (2681) وابن ماجه (222) وغيرهما. وقد خرجته في تحقيقي لكتاب "أخلاق العلماء" للآجري رقم (9، 10) .

ص: 336

عبادة في نفسه، وشرط لسائر العبادات". انتهى.

وقال ابن القيم في (شرح منازل السائرين) 1 ما نصه: "فالعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول: طريق معبد أي: مذلل، والتعبد التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له حتى تكون محباً خاضعاً".

ثم قال في مكان آخر من شرحه هذا2: "مراتب العبودية وأحكامها لكل واحد من القلب واللسان والجوارح، فواجب القلب منه متفق على وجوبه، ومختلف فيه، فالمتفق على وجوبه؛ كالإخلاص، والتوكل، والمحبة، والصبر، والإنابة، والخوف، والرجاء، والتصديق الجازم، والنية للعبادة، وهذه قدر زائد على الإخلاص، فإن الإخلاص إفراد المعبود عن غيره.

ونية العبادة لها مرتبتان: (إحداهما) : تمييز العبادة عن العادة. (والثانية) : تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض، والأقسام الثلاثة واجبة. وكذلك الصدق، والفرق بينه وبين الإخلاص أن للعبد مطلوباً وطلباً، فالإخلاص: توحيد مطلوبه. والصدق توحيد الطلب. فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسماً، والصدق: أن لا يكون الطلب منقسماً، فالصدق بذل الجهد، والإخلاص إفراد المطلوب.

واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة، وكذلك النصح في العبودية، ومدار الدين عليه، وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي به، وأصل هذا واجب، وكماله مرتبة المقربين، وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان واجب مستحق وهو مرتبة أصحاب اليمين، وكما مستحب وهو مرتبة المقربين". انتهى بعض ما قاله في بعض عبودية القلب، وعقبه بعبودية اللسان الواجب منها والمستحب،

1 وهو كتاب "مدارج السالكين".

2 " مدارج السالكين"(1/129- 130- ط. الكتاب العربي) .

ص: 337

وعبودية الجوارح الواجب منها والمستحب أيضاً، ومن اشتغل بالنظر إلى أنواع العبادات هان عليه تمييزها، والله الهادي إلى سواء السبيل.

وبالجملة؛ فكل عبادة فهي مقصورة على الإله الواحد من أعمال القلوب والجوارح، فكما لو صلى لغير الله، أو صام على وجه التقرب إليه؛ كان كافراً مشركاً عند جميع الناس، فكذلك من تقرب إليه بالأعمال القلبية المذكورة من التوكل والإنابة والخوف والرجاء، وغير ذلك، لكن لما كانت هذه الأمور القلبية من التألُّه- وكأن الأولون يتألهون بها ويسمون من تأله بها إلهاً، وكان مرجع كل ذلك إلى القلب وأعماله التي هي منبع التوحيد، ومصدر هذا الدين، والمرجع إليه في الشك واليقين، ومع ذلك فهي الفارقة بين الإله الحق الذي اختص بها على الدوام، والإله الباطل الذي لا يحوم الموحد حوله بهذا المقام- كان ذلك هو الداعي للتخصيص والموجب للتنصيص، وأيضاً فالكلام على من حصل منه الشرك بما تألهه في قلبه ورسخ بفؤاده ولبه من الأعمال الغير المختصة بالمسلمين، وأما هذه الأعمال الظاهرة الشرعية المختصة بهم فلا يتعاطاها أحد لمن سواه، ولم نرها تعمل إلا لله، ولم يعبدوا بها إلا إياه، فهذا هو الذي أوجب تخصيصهم لهذه الأعمال القلبية وبعض البدنية، كالسجود وحلق الرأس عبودية، وإلا فجميع العبادات قلبيِّها وقوليِّها وبدنيها مختصة به سبحانه وتعالى لا تصلح إلا له.

قال المحقق السعد التفتازاني في شرحه للمقاصد ما نصه: "اعلم أن حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواتمها، ولا نزاع بين أهل الإسلام أن خلق الأجسام وتدبير العالم واستحقاق العبادة من الخواص" ثم قال في آخر هذا المبحث: "وبالجملة فإن التوحيد في الألوهية واجب شرعاً وعقلاً، وفي استحقاق العبادة شرعاً، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً سبحانه وتعالى عما يشركون". انتهى.

وقد أفرد شيخ الإسلام لتحقيق معنى العبادة رسالة مفيدة وهي رسالة "العبودية" فراجعها.

ص: 338

وأما الثاني- أعني ما هو من خصائص الألوهية-: فاعلم أن توحيد الله تعالى بالتعظيم- كما قاله العلامة القرافي في كتاب "الفروق"1- ثلاثة أقسام: واجب إجماعاً، وغير واجب إجماعاً، ومختلف فيه؛ هل يجب توحيد الله تعالى به أم لا؟

القسم الأول: الذي يجب توحيد الله تعالى به من التعظيم بالإجماع؛ فذلك كالصلوات على اختلاف أنواعها، والصوم على اختلاف رتبه في الفرض والنفل والنذر، فلا يجوز أن يفعل شيء من ذلك لغير الله تعالى، وكذلك الحج ونحو ذلك- أي: كالاستغاثة والاستعانة والالتجاء- وكذلك الخلق والرزق والإماتة والإحياء والبعث والنشر والسعادة والشقاء والهداية والإضلال والطاعة والمعصية والقبض والبسط، فيجب على كل أحد أن يعتقد توحيد الله تعالى وتوحده بهذه الأمور على سبيل الحقيقة، وإن أضيف شيء منها لغيره تعالى فإنما ذلك على سبيل الربط العادي لا أن ذلك المشار إليه فعل شيئاً حقيقة، كقولنا: قتله السم، وأحرقته النار، وأرواه الماء، فليس شيء من ذلك يفعل شيئاً مما ذكر حقيقة، بل الله تعالى ربط هذه المسببات بهذه الأسباب كما شاء وأراد، ولو شاء لم يربطها، وهو الخالق لمسبباتها عند وجودها، لا أن تلك الأسباب هي الموجدة.

وكذلك إخبار الله تعالى عن عيسى عليه السلام أنه كان يحيي الموتى، ويبرىء الأكمه والأبرص، معناه أن الله تعالى كان يحيي الموتى ويبرىء عند إرادة عيسى عليه السلام لذلك، لا أن عيسى عليه السلام هو الفاعل لذلك حقيقة، بل الله تعالى هو الخالق لذلك، ومعجزة عيسى عليه السلام في ذلك ربط وقوع ذلك الإحياء وذلك الإبراء بإرإدته، فإن غيره يريد ذلك ولا يلزم إرادته ذلك، فاللزوم بإرادته هو معجزته عليه السلام، وكذلك جميع ما يظهر على أيدي الأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات، الله تعالى هو خالقها. وكذلك يجب توحيده تعالى باستحقاق العبادة والإلهية، وعموم تعلق صفاته تعالى، فيتعلق علمه بجميع

(3/738- وما بعدها. ط. دار السلام) .

ص: 339

المعلومات، وإرادته بجميع الكائنات، وبصره بجميع الموجودات الباقيات والفانيات، وسمعه بجميع الأصوات، وخبره بجميع المخبرات فهذا ونحوه توحيد واجب بالإجماع من أهل الحق لا مشاركة لأحد فيه.

(ثم ذكر القسم الثاني) : وهو المتفق على عدم التوحيد فيه والتوحد، ومثل له بالوجود والعلم ونحوهما وأطنب فيه.

(ثم ذكر القسم الثالث) : وهو الذي اختلف فيه هل يجب توحيد الله تعالى به أم لا؟ قال: فهذا هو التعظيم بالقسم، فهل يجوز أن يقسم بغير الله تعالى فلا يكون من التعظيم الذي وجب التوحيد فيه، أو لا يجوز؛ فيكون من التعظيم الذي وجب التوحيد فيه.

وأطال الكلام فيه أيضاً، ومرادنا القسم الأول، لأن فيه قوله: وكذلك يجب توحيده تعالى باستحقاق العبادة،. إلخ. وهذا هو المقصود بالنقل. ولا يخفى ما في كلامه من المخالفة للنصوص بسبب القول بأقوال الكلابية، وليس هذا موضع مناقشته بما ذكر.

وحيث اتسع الكلام بحسب المقام ننقل ما قاله الفاضل ابن القيم في كتابه (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) 1 ما نصه:-

"ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء والإنابة، والتوبة، والتوكل والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرةً أن يكون له وحده، ويمنع الغير التشبيه ممن لا شبيه له، ولا مثل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة.

1 ويسمى أيضاً "الداء والدواء".

ص: 340

ومن خصائص الإلهية؛ العبودية التي قامت على ساقين لا قِوَام لها بدونهما، وهما غاية الحب مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه غير الله فقد شَبَّهَهُ به في خالص حقه، وهذا من المجال أن تجيء به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها، ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله تعالى الحسنى، فأرسل إليهم رسله صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتبه بما يوافق فطرهم وعقولهم، فازدادوا بذلك نوراً على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} 1.

إذا عرفتَ هذا فمن خصائص الألوهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.

ومنها: التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها: التوبة، فمن تاب إلى غيره فقد شبهه به. ومنها: الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً، فمن حلف بغيره على هذا الوجه فقد شبهه به" انتهى ما قاله2.

والمقصود من ذلك كله؛ القيام بالقسط الذي هو التوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، قال عز من قائل:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4. فهذا التوحيد أعظم العدل وأقومه، وأصل الدين ومحكمه. وذلك بأن يكون الدين كله لله قولاً وعملاً واعتقاداً بإخلاص هذه الكلمة الطيبة في لفظها ومعناها، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وروح هذه الكلمة إفراد الرب- جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره- بالمحبة والإجلال، والتعظيم والخوف، والرجاء

1 سورة النور: 35.

2 "الداء والدواء"(ص 209- 210. ط. دار ابن الجوزي) .

3 سورة الأعراف: 29.

4 سورة الزخرف: 45.

ص: 341

وتوابع ذلك من التوكل والإنابة، والرغبة والرهبة، فلا يحب سواه، وكلما يحب غيره فإنما يحبه تبعاً لمحبته، وكونه وسيلة إلى زيادة محبته، ولا يخاف سواه، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه، ولا يعمل عملاً قد تعبد الناس به إلا أفرده به، ولا يشرك غيره معه، فيكون قد جمع جميع أنواع العبادات فيه قولاً وعملاً واعتقاداً. وتحقق بما قال وهو كلمة لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره المشركون.

وبهذه الحقوق التي هي حق الله تعالى على جميع عباده، وحكمه الذي أوجبه على سائر مخلوقه، تميز المسلمون، واستسْلم إليه المستسلمون.

ولما كان الدعاء لا يصدر في الغالب إلا ممن قام بقلبه كمال الذل والافتقار، لاسيما في حالة الانكسار والاضطرار؛ كان كما ورد في الحديث:"الدعاء مخ العبادة"1. ومن وُفِّقَ له فقد أوتي الحسنى وزيادة، وهذا الذي ذكرته ملخص ما أشار إليه المحققون. انتهى.

وبما ذكرنا من معنى الاستغاثة واختصاصها بالله تعالى سقط ما ذكره النبهاني وغيره من الغلاة الزائغين من أن الاستغاثة بالأصفياء جائزة، ولو كانت بالأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وهذا شرك محض وعبادة لغير الله تعالى، وهو قول ليس عليه شبهة فضلاً عن الدليل المقبول لدى أهل العلم.

ثم إنه عقد فصلاً ذكر فيه أربعين حديثاً من أحاديث الشفاعة، ولا كلام لنا فيها إذا طلبت منهم يوم القيامة، وأما في الدنيا فإنها تُطلب من الله أن يشفع فيهم من يشفع، وسيأتي بعض الكلام عليها إن شاء الله.

ثم إنه عقد فصلاً آخر- وهو الثالث- زعم أنه ذكر ما قاله أئمة العلماء،

1 الحديث بهذا اللفظ ضعيف. وقد صحّ بلفظ: "الدعاء هو العبادة". أخرجه أحمد (4/267، 271، 276) والترمذي (3372) وابن ماجه (3828) والبخاري في "الأدب المفرد"(714) والطيالسي (1252) وابن المبارك في "الزهد"(1298) والبغوي في "شرح السنة"(5/184) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

ص: 342

وأثبتوا به مشروعية الاستغاثة بغير الله تعالى، ونقل عبارة ابن حجر في (الجوهر المنظم) المشتملة على الاعتراض على الشيخ ابن تيمية في إنكاره الاستغاثة بغير الله تعالى، وأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم حسن في كل حال قبل خلقه وبعد خلقه في الدنيا والآخرة.

قال ابن حجر:

"فمما يدل لطلب التوسل به صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الحاكم وصححه أنه صلى الله عليه وسلم.. وذكر الحديث؛ وفيه استغاثة آدم به، وذكر حديث الأعمى، وحديث التوسل بالأعمال، وحديث استسقاء الرجل بقبر النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر كلام السبكي الذي نقله ابن حجر بعينه، قال:"وعبارة ابن حجر السابقة وإن كانت كافية وافية فلا بأس بذكر بعض ما ذكره السبكي وإن تكرر بعضه مع ما تقدم عن ابن حجر، لأنه نقل كثيراً من عباراته وإن لم ينسب بعضها إليه" وساق كلام السبكي، ونقل مثل ذلك عن أمثال هؤلاء الغلاة، ثم قال:"وقد يتوسل بذي الجاه إلى من هو أعلى جاهاً منه، والاستغاثة طلب الغوث، والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره وغن كان ذلك الغير أعلى منه، فالتوجه والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره ليس لهما معنى في قلوب المسلمين غير ذلك، ولا يقصد بهما أحد منهم سواه، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث، فهو سبحانه مستغاث به والغوث منه خلقاً وإيجاداً، والنبي مستغاث، والغوث منه سبباً وكسباً". انتهى ما لُخِّصَ من كلامه

أقول- وبالله التوفيق-: أما ما في كلام هذا الجاهل الغبي من فساد التركيب وبشاعة التعبير فلسنا بصدد بيانه، والكلام عليه يطول، والغرض إبطال الدعوى ومعارضتها، والكشف عن حالها وحال أئمته السابقين من الأمم، المعارضين للرسل بآرائهم وأهوائهم، ثم نتكلم إن شاء الله بعد الكلام على هذه المقالة على جميع شبههم الفاسدة.

ص: 343

قال العلامة الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى في كتابه (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) بعد أن نقل عن العراقي مثل ما نقلنا عن النبهاني.

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:-

الأول: أن الله سبحانه إنما خلق خلقه لعبادته الجامعة لمعرفته ومحبته، والخضوع له وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والتضرع بين يديه، وهذه زبدة الرسالة الإلهية، وحاصل الدعوة النبوية، وهو الحق الذي خُلِقَتْ له السموات والأرض، وأنزل به الكتاب، وهو الغاية المطلوبة والحكمة المقصودة من إيجاد المخلوقات، وخلق سائر البريات، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1 ودعا سبحانه عباده إلى هذا المقصود، وافترض عليهم القيام به حسب ما أمر، والبراءة من الشرك والتنديد المنافي لهذا الأصل الذي هو المراد من خلق سائر العبيد، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 3 وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 4.

فالقول بجواز الاستغاثة بغير الله ودعاء الأنبياء والصالحين وجعلهم وسائط بين العبد وبين الله، والتقرب إليهم بالنذور والنحر والتعظيم بالحلف وما أشبهه؛ مناقضة ومنافاة لهذه الحكمة التي هي المقصودة بخلق السموات والأرض، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل، وفتح لباب الشرك في المحبة والخضوع والتعظيم، ومشاقة ظاهرة لله ولرسله، ولكل نبيّ كريم، والنفوس مجبولة على صرف ذلك المذكور من العبادات، إلى من أهلته لكشف الشدائد وسد الفاقات،

1 سورة الذاريات: 56.

2 سورة النساء: 116.

3 سورة المائدة: 72.

4 سورة الحج: 31.

ص: 344

وقضاء الحاجات، من الأمور العامة التي لا يقدر عليها إلا فاطر الأرض والسموات.

الوجه الثاني: أن هذا بعينه قول عُبّاد الأنبياء والصالحين من عهد قوم نوح إلى أن بعث إليهم خاتم النبيين، ولم يزيدوا على ما قال هؤلاء الغلاة فيما انتحلوه من الشرك الوخيم، والقول الذميم، كما حكى الله عنهم ذلك في كتابه الكريم، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 3.

فهذه النصوص المحكمة صريحة في أن المشركين لم يقصدوا إلا الجاه والشفاعة والتوسل، بمعنى جعلهم وسائط تقربهم إلى الله، وتقضي حوائجهم منه تعالى، وقد أنكر القرآن هذا أشد الإنكار، وأخبر أن أهله هم أصحاب النار، وأن الله تعالى حرم عليهم الجنة دار أوليائه الأبرار، وجمهور هؤلاء المشركين لم يدَّعوا الاستقلال ولا الشركة في توحيد الربوبية، بل قد أقروا واعترفوا بأن ذلك لله وحده، كما حكى سبحانه إقرارهم واعترافهم بذلك في غير موضع من كتابه.

فحاصل ما ذكر من جواز الاستغاثة والدعاء والتعظيم بالنذر والحلف –مع نفي الاستقلال، وأن الله يفعل لأجله- هو عين دعوى المشركين، وتعليلهم وشبهتهم لم يزيدوا عليه حرفاً واحداً، إلا أنهم قالوا (قربان وشفعاء) ، والغلاة سموا ذلك توسلاً فالعلة واحدة، والحقيقة متحدة.

الوجه الثالث: أن الله سبحانه أمر عباده بدعائه ومسألته والاستغاثة به،

1 سورة يونس: 18.

2 سورة الزمر: 3.

3 سورة الأحقاف: 28.

ص: 345

وإنزال حاجتهم وفاقتهم وضرورتهم به قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 2. وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 3 الآية. وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} 4. وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} 5. وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * َإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 6. وفي الحديث: "من لم يسأل الله يغضب عليه"7. وفيه: "الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين"8. وحديث النزول كل ليلة إلى السماء الدنيا،

1 سورة البقرة: 186.

2 سورة غافر: 60.

3 سورة النمل: 62.

4 سورة العنكبوت: 17.

5 سورة الرحمن: 29.

6 سورة الشرح: 7- 8.

7 حديث حسن. أخرجه أحمد (2/442، 477) والبخاري في "الأدب المفرد"(658) والترمذي (3373) وابن ماجه (3827) والحاكم (1/491) والبيهقي في "شعب الإيمان"(1/35/1099) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(10/200) والطبراني في "الدعاء"(2/796/23) وفي "الأوسط"(3/217/2452) وابن عدي في (الكامل" (7/295) وغيرهم.

من طريق: صبيح أبي المليح، عن أبي صالح الخوزي، عن أبي هريرة مرفوعاً.

ورواه بعضهم بلفظ: "من لم يدعُ الله يغضب عليه".

وحسنه الشيخ الألباني في "الصحيحة"(2654) .

8 حديث موضوع. أخرجه أبو يعلى (1/344/439) والحاكم (1/492) وابن عدي في "الكامل"(6/172- ط. دار الفكر) أو (7/372- العلمية) والقضاعي في "مسند الشهاب"(1/116/143) وغيرهم.

من طريق: الحسن بن حماد الكوفي، ثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب مرفوعاً.

قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، فإن محمد بن الحسن هذا هو التل، وهو صدوق في الكوفيين". ووافقه الذهبي.

وذكره الذهبي في "الميزان"(3/513) في ترجمته محمد بن الحسن التل، وقال:"أخرجه الحاكم وصححه، وفيه انقطاع".

وقد وهم الحاكم والذهبي في اعتبار أن محمد بن الحسن الذي في إسناد الحديث هو التل؛ وإنما هو: محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني الكذّاب. وإلى هذا أشار الهيثمي في "المجمع"(10/147) بقوله: "رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد؛ وهو متروك".

وانظر لتفصيل الكلام "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1/328/179) .

ص: 346

يقول تعالى: "هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه"؟ 1. وعلى مذهب الغلاة وقولهم باستحباب الاستغاثة بغير الله تعالى، وجعل الوسائط بين العباد وبينه تعالى يهدم هذا الأصل الذي هو أصل الدين، ويسد بابه، ويستغاث بالأنبياء والصالحين، ويرغب إليهم في حاجات الطالبين والسائلين، وضرورات المضطرين من خلق الله أجمعين.

الوجه الرابع: أن الله تعالى دعا عباده بربوبيته العامة الشاملة لكليات الممكنات وجزئياتها في الدنيا والآخرة، وانفراده بالإيجاد والتدبير، والتأثير والتقدير، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والعز والذل، والإحياء والإماتة، والسعادة والشقاوة، والهداية والمغفرة، والتوبة على عباده، إلى غير ذلك من أفعال الربوبية وآثارها المشاهدة المصنوعة؛ إلى معرفته وعبادته، الجامعة لمحبته والخضوع له، وتعظيمه ودعائه، وترك التعلق على غيره محبة وتعظيماً واستغاثة، قال تعالى:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} إلى قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 4 إلى قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} . فتأمل هذه الآيات وما تضمنته من تقرير أفعال الربوبية التي لا يخرج عنها فرد من أفراد

1 تقدم تخريجه.

2 سورة النمل: 60- 64.

3 سورة المؤمنون: 84- 89.

4 سورة يونس: 31.

ص: 347

الكائنات، وأعرف ما سيقت له ودلت عليه من وجوب محبته تعالى وعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما عبد من دونه من الأنداد والآلهة والبراءة من ذلك.

وانظر هل القوم المخاطبون بهذا زعموا الاستقلال لغير الكبير المتعال، أم أقروا له سبحانه بالاستقلال والتدبير والتأثير، وإنما أتوا من جهة الواسطة والشفاعة، والتوسل بدعاء غير الله وقصده سواه، فيما يحتاجه العبد وما يهواه، وهذا صريح من تلك الحجج البينات، ونص هذه الآيات المحكمات، احتج سبحانه بما أقروا به من الربوبية، والاستقلال على إبطال قصد غيره بالعبادة والدعاء والاستغاثة، كما يفعله أهل الجهل والضلال.

فإذا قيل: تجوز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين ودعاؤهم والنذر لهم على أنهم وسائط ووسائل بين الله وبين عباده وأن الله يفعل لأجلهم؛ انهدمت القاعدة الإيمانية، وانتقضت الأصول التوحيدية، وفتح باب الشرك الأعظم، وعادت الرغباب والرهبات، والمقاصد والتوجيهات، إلى سكان القبور والأموات، ومن دعى مع الله من سائر المخلوقات، وهذه هي الغاية الشركية، والعبادة الوثنية، فنعوذ بالله من الضلال والشقاء والانحراف عن أسباب الفلاح والهدى.

الوجه الخامس: أنه لا فلاح ولا صلاح ولا نجاح ولا نعيم ولا لذة للعبد إلا بأن يكون الله سبحانه هو إلهه ومحبوبه ومستغاثه، الذي إليه مفزعه عند الشدائد، وإليه مرجعه في عامة المطالب والمقاصد، والعبد به فاقة وضرورة وحاجة إلى أن يكون الله هو معبوده ومستغاثه، إليه إنابته ومفزعه، ولو حصلت له كل الكائنات وتوجه إلى جميع المخلوقات لم تسد فاقته، ولا تدفع ضرورته، ولا يحصل نعيمه وفرحه ويزول همه وكربه وشقاؤه إلا بربه الذي من وجده وجد كل شيء، ومن فاته فاته كل شيء، وهو أجب إليه من كل شيء، وهذه فاقة وضرورة وحاجات لا يشبهها شيء فتقاس به، وإنما تشبه من بعض الوجه حاجة العبد إلى طعامه وشرابه وقوته الذي يقوم بدنه به، فإن البدن لا يقوم إلا بذلك، وفقده غاية انعدام البدن وموته.

ص: 348

وأما فقد محبة الله وعبادته ودعائه فعذاب وشقاء، وجحيم في الآخرة والأولى لا ينفك بحال من الأحوال، قال تعالى:{اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} إلى قوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} 1. وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} 2.

وفي الحديث القدسي- حديث الأولياء- يقول الله تعالى: " من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش"3 الحديث.

وعلى القول بجعل الوسائط والشفعاء بين العباد وبين الله تقلع أصول هذا الأصل العظيم، الذي هو قطب رحى الإيمان، وينهدم أساسه الذي ركب عليه البنيان، فأي فرح وأي نعيم وأي فاقة سدت وأي ضرورة دفعت وأي سعادة حصلت وأي أنس، واطمئنان إذا كان التوجه والدعاء والاستغاثة والذبح والنذر لغير الملك الحنّان4 المنّان، سبحان الله ما أجرأ هذا المعترض على الله وعلى رسله وعلى دينه وعلى عباده المؤمنين؟!

اللهم إنا نبرأ إليك مما جاء به هذا المفتري، وما قاله في دينك وكتابك، وعلى عبادك وأوليائك، قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 5. فصلاح السموات والأرض بأن يكون الله سبحانه هو إلهها

1 سورة طه: 123- 127.

2 سورة الرعد: 28- 29.

3 أخرجه البخاري (6502) .

4 الحنّان ليس من أسماء الله الحسنى؛ فتنبه. وانظر لمزيد من التفصيل حول هذا الاسم "معجم المناهي اللفظية"(ص240- 241) .

5 سورة الأنبياء: 22.

ص: 349

دون ما سواه، ومستغاثها الذي تفزع إليه وتلجأ إليه في مطالبها وحاجاتها. وقرر المتكلمون هنا تمانع وجود ربين مدبرين، وأنه لا صلاح للعالم إلا بأن يكون الله قيومه ومدبره. وقرر غيرهم من المحققين امتناع الصلاح بوجود آلهة تُعبد وتُقصد وتُرجى، فالأول يرجع إلى الربوبية، والثاني إلى الإلهية.

ال وجه السادس: أن الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والسنة التي سنّها في قبور الأنبياء والصالحين وعامة المؤمنين تنافي هذا القول الشنيع- الذي افتراه هذا الجاهل- وتبطله وتعارضه، فإنه صلى الله عليه وسلم سن عند القبور ما صحّت به الأحاديث النبوية، وجرى عليه عمل علماء الأمة من السلام عند زيارتها والدعاء لأصحابها، وسؤال الله العافية لهم، من جنس ما شرعه من الصلاة على جنائزهم، ونهى عن عبادة الله عند القبور والصلاة فيها وإليها، وخص قبور الأنبياء والصالحين بلعن من اتخذها مساجد يعبد فيها تعالى ويدعى، وتواترت بذلك الأحاديث؛ خرجها أصحاب الصحيحين وأهل السنن ومالك في موطئه.

فمنها1: قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وحديث ابن مسعود: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وحديث جابر بن عبد الله: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ". وحديث عائشة: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها، فقال- وهو كذلك-:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قالت عائشة: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأُبرز قبره، ولكن

1 وقد تقدم تخريجها.

ص: 350

خشي أن يُتَّخَذَ مسجداً. وفي رواية لمسلم: (وصالحيهم) .

وإنما نهى عن الصلاة عندها واتخاذها مساجد لما يفضي إليه من دعائها والاستغاثة بها، وقَصْدِها للحوائج والمهمات، والتقرّب إليها بالنذور والنحر، ونحو ذلك من القربات، فجاء الغلاة فهتكوا ستر الشريعة، واقتحموا الحمى، وشاقوا الله ورسوله، وقالوا: تُدْعَى ويُسْتَغَاث بها وتُرجى!!

ومن شمَّ رائحة العلم، وعرف شيئاً مما جاءت به الرسل؛ عرف أن هذا الذي قاله الغلاة من جنس عبادة الأصنام والأوثان، مناقض لما دلّت عليه السنة والقرآن، ولا يستريب في ذلك عاقل من نوع الإنسان.

الوجه السابع: أن الله تعالى نهى عن الغلو ومجاوزة الحد فيما شرعه من حقوق أنبيائه وأوليائه، قال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} 1. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله ". وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 3 هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا لهم أنصاباً وصوّروا تماثيلهم، فلما مات أولئك ونسي العلم عُبِدَت..

وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف عكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم، فلما طال عليهم الأمد عبدت. انتهى.

1 سورة النساء: 171.

2 سورة المائدة: 77.

3 سورة نوح: 23.

ص: 351

فانظر إلى ما آل إليه الغلو بالتصاوير والعكوف من غير دعاء ولا عبادة، فكيف بالدعاء والاستغاثة والتوسل؟ والقول بأن الله تعالى يفعل لأجلهم هذا نفس الشرك، والأول وسيلته التي حدث الشرك بسببها.

وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم وسيلة هذا الشرك، وحمى الحِمَى وسَدَّ الذريعة حتى نهى عن الصلاة عندها، واعتياد المجيء إليها بقوله في أشرف القبور:" لا تجعلوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلّّّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني". ونهى عن رفع القبور، وبعث عليّ بن أبي طالب أن لا يدع تمثالاً إلا طمسه ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّاه. ونهى عن تعظيمها بإيقاد السرج، كل هذا صيانة للتوحيد وحماية لجانبه، فرحم الله امراً آمن بالجنة والنار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامه ومعلمه وقدوته، ولم يلتفت عن غير ما جاء به، ولم يبال بمن خالفه وسلك غير سبيله، وحن إلى ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى في هذا الباب وفي غيره:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 2.

الوجه الثامن: أن من أعرض عن الله وقصد غيره وأعد ذلك الغير لحاجته وفاقته واستغاث به ونذر له ولاذ به فقد أساء الظن بربه، وأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به، فإن المسيء به والظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته، ولهذا توعد سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 3 وقال تعالى لمن أنكر صفة من صفاته: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4 وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه

1 سورة الأنعام: 95.

2 سورة آل عمران: 31- 32.

3 سورة الفتح: 6.

4 سورة فصلت: 23.

ص: 352

الصلاة والسلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1.

أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره، فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه فقير إليه كل من عداه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشرك فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم، من الرؤساء، فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، من الوسطاء الذين يعينونهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم.

فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء: فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح.

يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده متأله له خاضع ذليل له، والرب تبارك وتعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال، والتأله والخضوع والذل، وهذا في خالص حقه، فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره ويشرك بينه وبينه فيه، ولاسيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه، كما قال تعالى:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 2. أي: إذا كان أحدكم يأنف أن مملوكه

1 سورة الصافات: 85- 87.

2 سورة الروم: 28.

ص: 353

شريكه في رزقه فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به؛ وهي الإلهية التي لا تنبغي لغيري، ولا تصلح لسواي؟ فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري، ولا عظمني حق تعظيمي، ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي.

فما قدَّر الله حق قدره من عبد معه غيره، كما قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.

فما قدّر من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك معه في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه، فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل.

وكذلك ما قدّره حق قدره من قال إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً ولا أنزل كتاباً بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً عبثاً.

ولا قدره حق قدره من نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فنفى سمعه وبصره، وإرادته، واختياره، وعلوّه فوق خلقه، وكلامه وتكليمه لمن شاء من خلقه بما يريد، أو نفى عموم قدرته وتعلّقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم، فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه، وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاؤون بدون مشيئة الرب تبارك وتعالى، فيكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون، تعالى الله عز وجل عن قول أشباه المجوس علواً كبيراً.

وكذلك ما قدّره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده على ما لا يفعله العبد ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له فيها البتة بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فيعاقب عبده على فعله، وهو سبحانه وتعالى الذي جبر العبد عليه، وجبره على الفعل أعظم من إكراه المخلوق المخلوق، فإذا كان من المستقر في الفطر والعقول

1 سورة الزمر: 67.

ص: 354

أن السيد لو أكره عبده على فعل وألجأه إليه ثم عاقبه عليه لكان قبيحاً؛ فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير، ولا هو واقع بإرادته بل ولا هو فعله البتة، ثم يعاقب عليه عقوبة الأبد؟ تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً.

وقول هؤلاء شر من أقوال المجوس، والطائفتان ما قدروا الله حق قدره.

وكذلك ما قدّره من لم يصنه عن بئر ولا حشٍ ولا مكان يرغب عن ذكره، بل جعله في كل مكان وصانه عن عرشه أن يكون مستوياً عليه، يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وتعرج الملائكة والروح إليه وتنزل من عنده، ويدبرّ الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه، فصانه عن استوائه على سرير الملك1، ثم جعله في كل مكان يأنف الإنسان بل غيره من الحيوان أن يكون فيه.

وما قدره حق قدره من نفى حقيقة محبته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته، ولا من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله، ولا من نفى حقيقة فعله ولم يجعل له فعلاً اختيارياً يقوم به، بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه، فنفى حقيقة محبته وإتيانه واستوائه على عرشه، وتكليمه موسى عليه السلام من جانب الطور، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه، إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها وزعموا أنهم بنفيها قدروا الله حق قدره.

وكذلك لم يقدره حق قدره من جعل له صاحبة وولداً، وجعله يحل في مخلوقاته وجعله عين هذا الوجود.

وكذلك لم يقدره حق قدره من قال إنه رفع أعداء رسوله وأهل بيته وأهمل ذكرهم وجعل فيهم الملك والخلافة والعفو، ووضع أولياء رسوله وأهانهم وأذلهم، وضرب عليهم الذلة أينما ثقفوا، وهذا يتضمن غاية القدح في الرب-

1 هذه اللفظة لا يصح إطلاقها هكذا، والواجب إثبات صفة الاستواء دون زيادة أو نقص في الألفاظ؛ فنقول كما قال ربنا {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .

ص: 355

تبارك وتعالى عن قول الرافضة علواً كبيراً-. وهذا القول مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين أنه أرسل ملكاً ظالماً فادّعى النبوة لنفسه، وكذب على الله تعالى، ومكث زمناً طويلاً يكذب عليه كل وقت، ويقول قال كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا، وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم وأموالهم وحريمهم، ويقول الله تعالى أباح لي ذلك، والرب تبارك وتعالى يظهره ويؤيده، ويعليه ويقويه، ويجيب دعواته، ويمكنه ممن يخالفه، ويقيم الأدلة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلا ظفر به فيصدقه بقوله وفعله وتقريره، ويحدث أدلة تصدقه شيئاً بعد شيء، ومعلوم أن هذا يتضمن أعظم القدح والطعن في الرب سبحانه وتعالى، وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيته، تعالى عن قول الجاحدين علواً كبيراً.

فوازن بين قول هذا وقول إخوانه من الرافضة تجد القولين:

رضيعا لبان ثدي أم تقاسما

باسحم داج عوض لا يتفرق

وكذلك لم يقدره حق قدره من قال إنه يجوز أن يُعذّب أولياءه ومن لم يعصه طرفة عين ويدخلهم دار الجحيم، وينعم أعداءه ومن لم يؤمن به طرفة عين ويدخلهم دار النعيم، وأن كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء وإنما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك فمعناه الخبر لا مخالفة حكمته وعدله وقد أنكر سبحانه وتعالى في كتابه على من يجوز عليه ذلك غاية الإنكار وجعل الحكم به من أسوء الأحكام.

وكذلك لم يقدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى، ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين المشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذي يختلفون فيه، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.

وكذلك لم يقدره حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه

ص: 356

فضيعه، وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، طاعته المخلوق أهم عنده من طاعته، فلله الفَضْلَةُ من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك لأنه المهم عنده، يستخف بنظر الله إليه وإطلاعه عليه وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه وإطلاعهم عليه بكل قلبه وجوارحه، يستحيي من الناس ولا يستحيي من الله عز وجل، ويخشى الناس ولا يخشى الله عز وجل، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، وإن عامل الله عز وجل عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة إلهه من البشر قام بالجد والاجتهاد وبذل النصيحة، قد فرغ له قلبه وجوارحه، وقدمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام في حق ربه -إن ساعده القدر-1 قام قياماً لا يراه مثله لمخلوق من مخلوقاته، وبدا له ما لم يستح أن يواجه به مخلوقاً لمثله، فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه؟ وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه نجي محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟ فلو جعل من أقرب الخلق إليه شريكاً في ذلك لكان ذلك جزاؤه، وتوثبا على محض حقه واستهانة به، وتشريكاً بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه وتعالى، فكيف وإنما شرك بينه وبين أبغض الخلق إليه وأهونهم عليه وأمقتهم عنده وهو عدو على الحقيقة، فإنه ما عبد من دون الله إلا الشيطان، كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 2. ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم في نفس الأمر للشيطان، وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3.

1 الصواب أن يقال: إن ساعده الله. ولا يجوز إضافة شيء للقدر أو الأقدار.. لأنها مخلوقة. وانظر: "المجموع الثمين في فتاوى الشيخ ابن عثيمين"(1/115) .

2 سورة يس: 60- 61.

3 سورة سبأ: 40- 41.

ص: 357

فالشيطان يدعو المشرك إلى عبادته ويوهمه أنه ملك.

وكذلك عُبّاد الشمس والقمر والكواكب يزعمون أنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب، وهي التي تخاطبهم وتقضي لهم الحوائج، ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان لعنه الله تعالى فيسجد لها الكفار فيقع سجودهم له وكذلك عند غروبها.

وكذلك من عَبَدَ المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان فإنه يزعم أنه يعبد من أمره لعبادته وعبادة أمه ورضيها لهم وأمرهم بها، وهذا هو الشيطان الرجيم- لعنه الله تعالى- لا عبد الله ورسوله، ونزل هذا كله على قوله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} . فما عبد أحد من بني آدم غير الله عز وجل كائناً من كان إلا وقعت عبادته للشيطان، فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضا الشيطان، ولهذا قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} من إغوائهم وإضلالهم {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1. فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله تعالى، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه يوجب الخلود في النار، وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه، بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله، وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك، أو يرضى به، تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً انتهى.

وإنما سقنا هذا المبحث العظيم الذي يعقد عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ؛ لما فيه من الفوائد التي لا يستغنى عنها من نصح نفسه، وإنما الغرض

1 سورة الأنعام: 128.

ص: 358

بيان ما في التوسل والاستغاثة بالأموات والغائبين من سوء الظن بالله رب العالمين.

الوجه التاسع: أن الله تعالى حرم القول عليه بغير علم وجعله أعظم من الشرك، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} 1 الآية. فرتب المحرمات منتقلاً من الأدنى إلى الأعلى، وقال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 2. ومن عرف الشرك حق المعرفة يعلم أن من قال تجوز الاستغاثة والتوسل بالأنبياء والصالحين والنذر لهم والحلف وما أشبهه من التعظيم له نصيب وافر من الكذب على الله وعلى رسوله، ومن الصد عن سبيل الله وابتغاء العوج، والله المستعان، وقال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} 3.

ويتبين كذب الغلاة على الله وعلى رسوله وعلى عباده الصالحين بالكلام على ما ساقه هذا المعترض من الأدلة التي يزعم أنها تدل على دعواه، وتنصر ما قاله وافتراه.

فأما قوله: "اعلم أن المجوزين للاستغاثة بالأنبياء والصالحين مرادهم أنها أسباب ووسائل بدعائهم، وأن الله يفعل لأجلهم لا أنهم الفاعلون استقلالاً من دون الله ".

1 سورة الأعراف: 33.

2 سورة هود: 18- 19.

3 سورة يونى: 68- 70.

ص: 359

فإن هذا كفر بالاتفاق؛ فجواب هذا تقدم في الوجه الثاني، وذكرنا أن المشركين من عهد نوح إلى عهد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم لم يقصدوا سوى هذا، ولم يدعوا لآلهتهم غيره، وأنهم ما زادوا حرفاً واحداً على هذا العراقي وشيعته، وهو يظن أن النزاع في دعواه الاستقلال وليس الأمر كذلك، فإن النزاع بين الرسل وقومهم إنما هو في توحيد العبادة، فكل رسول أول ما يقرع أسماع قومه بقوله:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1 وكان المشركون من الجاهلية يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" فأثبتوا الشرك في العبادة واعتقدوا أن آلهتهم مملوكة لا مستقلة، وهذا ظاهر في القرآن والسنة، لا يجهله من عرف ما الناس فيه من أمر دينهم، وإنما خفي ذلك على هذا المعترض لفرط جهله وقلة فهمه، ولأنه نشأ بين عباد القبور المتوسلين بها وبأهلها، فظن أن هذا هو الإسلام، والمسكين لم يعرف ربه وما يجب له من الحقوق على كافة الأنام، ولم يتخرج على إمام يعتمد في بيان الشرائع والأحكام، مع أن عباد القبور في هذه الأزمان اعتقدوا التدبير والتصريف لمن يعتقدونه، فطائفة قالت يتصرف في الكون سبعة، وطائفة قالت يتصرف أربعة، وطائفة قالت يتصرف سبعون! واختلفوا في قطبهم الذي إليه يرجعون- تعالى الله عما يقول الظالمون- فأهل مصر يرون أنه البدوي، وأهل العراق يرجّحون الشيخ عبد القادر، والرافضة يرون ذلك للأئمة من أهل البيت، وهذا مشتهر عنهم لا ينكره إلا مكابر.

وقد حكم المعترض الجاهل بأن دعوى الاستقلال كفر بالاتفاق، وعلى قول غلاة عباد القبور مصدر التصريف عنهم يستقلون به، لأن الوكيل يستقل بتدبير ما وكل إليه، وحينئذ فإذا لم يعرف العبادة ومسألة النزاع كيف يجادل عن قوم جزم بكفرهم وحكى عليه الاتفاق؟! فالرجل مخلط لا يدري ما يقول.

وأما قوله: ولا "يخطر ببال مسلم جاهل فضلاً عن عالم" إلخ.

1 سورة الأعراف: 59.

ص: 360

فيقال: أين العنقاء لتطلب؟ وأين السمندل ليجلب؟ إذا صح الإسلام لم يرغب أهله إلى دعاء غير الله من العباد والأوثان والأصنام.

وأما قوله: "بل ليس هذا خاصاً بنوع الأموات، فإن الأحياء وغيرهم من الأسباب العادية، كالقطع للسكين والشبع للأكل والري والدفء لو اعتقد أحد أنها فاعلة ذلك بنفسها من غير استنادها إلى الله يكفر إجماعاً".

فيقال: إذا كان إسناد الفعل إليها استقلالاً يكفر فاعله إجماعاً- وهي من الأسباب العادية التي أودع الله تعالى فيها قوة فاعلة- فكيف لا يكفر من أسند ما لا يقدر عليه إلا الله من إغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات إلى غير الله من الصالحين أو غيرهم، وزعم أنهم وسائل، أو أن الله وكّل إليهم التدبير كرامة لهم؟ هذا أولى بالكفر وأحق به ممن قبله.

ويقال للزائغ: أنت لا ترضى تكفير أهل القبور لاحتمال العذر والشبهة، وأنه شرك أصغر، يثاب من أخطأ فيه، فكيف جزمت بكفر من أسند القطع للسكين من غير استناد إلى الله؟ وما الفرق بين من عذرته وجزمت بإثابته وبين من كفرته وجزمت بعقابه؟ ليست إحدى المسألتين بأظهر من الأخرى، وما يقال من الجواب فيما أثبته من الكفر يقال فيما نفيته.

يوماً بجزوء ويوماً بالعقيق

وبالعذيب يوماً ويوماً بالخليصاء

أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.

ويقال: جمهور العقلاء على الفرق بين الأسباب العادية وغيرها، فالشبع والري والدفء أسباب عادية فاعلة، وإنما يكفر من أنكر خلق الله لهذه الأسباب وقال بفعلها دون مدبر عليم حكيم، وهذا البحث يتعلق بتوحيد الربوبية، وأما جعل الأموات أسباباً يُستغاث بها وتُدعى وتُرجى وتُعظّم على أنها وسائط؛ فهذا دين عبَّاد الأصنام، يكفر فاعله بمجرد اعتقاده وفعله وإن لم يعتقد الاستقلال، كما نص عليه القرآن في غير موضع، فالغلاة معارضون للقرآن مصادمون لنصوصه.

ص: 361

وأما قوله: "إن السبكي والقسطلاني والسمهودي وابن حجر في "الجوهر المنظم" قالوا: والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره في معنى التوسل إلى الله تعالى بجاهه" إلخ.

فيقال: مسألة الاستغاثة به وبجاهه ليست هي مسألة النزاع، ومراد أهل العلم أن يسأل الله بجاه عبده ورسوله لا أن يسأل الرسول نفسه، فإن هذا لا يطلق عليه توسل بل هو دعاء واستغاثة، وأن لفظ التوسل صار مشتركاً، فعباد القبور يطلقون التوسل على الاستغاثة بغير الله ودعائه رغباً ورهباً، والذبح والنذر والتعظيم بما لم يشرع في حق مخلوق، وأهل العلم يطلقونه على المتابعة والأخذ بالسنة، فيتوسلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التوسل في عرف القرآن والسنة كما يأتيك مفصلاً إن شاء الله تعالى، ومنهم من يطلقه على سؤال الله ودعائه بجاه نبيه أو بحق عبده الصالح أو بعباده الصالحين، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخرين كالسبكي والقسطلاني وابن حجر.

وبالجملة؛ فما نقله هنا عمن ذكر ليس من مسألة النزاع في شيء، وإن كابر الغلاة وزعموا أنهم قصدوا دعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم أنفسهم وأن هذا يسمى توسلاً، فهذا عين الدعوى والدعوى يحتج لها لا بها، فبطل كلامه على كل تقدير.

وأما قوله: "أو بأن يدعو الله كما في حال الحياة إذ هو غير ممتنع".

فيقال: هذا جرأة على الله وعلى رسوله، وتقدم إليه بما لم يشرعه ولم يأذن فيه، وأعلم الخلق به أصحابه وأهل بيته وأئمة الدين من أمته لم يفعل أحد منهم ذلك ألبتة ولا نقله من يعتد به، وهم أعلم الخلق به وبدينه وشرعه، وما يجوز وما يمتنع، فلا يخلو إما أن تسلم هذه المقامات ويجزم بأن الخروج عن هديهم من أفظع الجهالات وأضل الضلالات، أو تسلم تلك المقدمات ويدعى أن الخلف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون أحق بالصواب والعلم والمتابعة

ص: 362

في تلك المسائل والمقالات، وهذا إخلال بجملة الدين، وقدح في القرون المفضلة بنص سيد المرسلين، وكفى بهذا فضيحة وجهلاً لو كانوا يعلمون.

وأما قوله: "مع علمه بسؤال من سأله والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره".

فيقال: أما دعوى عموم العلم بسؤال السائلين لمن يستغيث به جهلة القبوريين فالأخذ به وإطلاقه على غير الله كفر صريح باتفاق أهل العلم، فإن من زعم إحاطة العلم وعمومه لغير الله أو عموم القدرة أو الرزق أو الخلق لغيره سبحانه يكفر كفراً واضحاً، كما ذكره شراح الأسماء وغيرهم من أهل العلم، وأما دعوى تخصيص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي قال: وإن كانت من جنس ما قبلها في الرد والمنع- تبطل مذهب عباد القبور، ودعائهم لغير الله من الغائبين والأموات، فإن دعاء الغافل الذي لا يعلم بحال الداعي ولا يدريها ضلال مستبين، قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 1.

وأما قوله: "والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره ممن هو أعلى منه وليس لها في قلوب المسلمين غير ذلك" إلى آخره.

فيقال: هذا يدل على جهل هذا الغبي باللغة والشرع، فإن الداعي السائل لغيره لا يسمى مغيثاً، والمغيث من يفعل الإغاثة ويحصل الغوث بفعله.

قال شيخ الإسلام: "من زعم أن مسألة الله بجاه عبده تقتضي أن يسمى العبد مغيثاً، أو يكون ذلك استغاثة بالعبد فهذا جهل، ونسبته إلى اللغة أو إلى أمة من الأمم كذب ظاهر، فإن المغيث هو فاعل الإغاثة ومحدثها لا من تطلب بجاهه وحقه، ولم يقل أحد أن التوسل بشيء هو الاستغاثة به، بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور- كقول أحدهم: نتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو

1 سورة الأحقاف: 5.

ص: 363

باللوح والقلم، أو بالكعبة، في أدعيتهم- يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، وأن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يسأل وإنما يطلب به، فكل أحد يفرق بين المدعو به والمدعو" وتقدم ذلك.

فقول هذا الزائغ: "والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث والغوث منه تسبباً وكسباً".

فيقال: نعم هذا معتقد من يعبد الأنبياء والصالحين ويستغيث بهم، يقول هم سببي وواسطتي، يحصلون لي بكسبهم، والله هو الخالق ولا أدعي غير ذلك، ولا نازع في الخلق والربوبية إلا فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه، وجمهور المشركين على الأول كما تقدم تقريره فبطل تعليله.

وأما قوله: "ولا يعارض ذلك خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ. لأن في سنده ابن لهيعة والكلام فيه مشهور".

فيقال: ابن لهيعة1 خرّج له البخاري ومسلم فجاوز القنطرة، ولا يقدح فيما رواه ابن لهيعة إلا جاهل بالصناعة والاصطلاح، وهو قاضي مصر وعالمها ومسندها، روى عن عطاء ابن أبي رباح، والأعرج، وعكرمة، وخلق، وعنه روى شعبة ابن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، وعمرو بن الحارث، والليث بن سعد، وابن وهب وخلق، ومن طعن في ابن لهيعة بقول بعض الناس فيه لزمه الطعن في كثير من الأكابر المحدثين، كسعيد المقبري، وسعيد بن أياس الجريري، وسعيد بن أبي عروبة، وإسماعيل بن أبان، وأزهر بن سعد السمان البصري، وأحمد بن صالح المصري، وأبو اليمان، وأمثالهم ممن خرج له البخاري وغيره من الأئمة.

1 انظر: "التاريخ الكبير"(5/182) و"الجرح والتعديل، (5/145) و"تذكرة الحفاظ" (1/237) و"سير الأعلام" (8/10) و "تهذيب الكمال" (2/728) و"الأخطاء الإسنادية وتصويبها ويليه: ما قيل في الإمام ابن لهيعة المصري" لعبد العزيز العيثم- ط. أضواء السلف.

ص: 364

فدَعْ عنك الكتابة لستَ منها

ولو سوّدتَ وجهك بالمداد

وأما قوله: "وبفرض صحته

" فهو على حد قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم"2.

وهذا من نوادر جهل هؤلاء الضلال، فإن لفظ الاستغاثة طلب الغوث ممن هو بيده لمن أصابته شدة ووقع في كرب. والأنجح والأولى لمن أصابه ذلك أن يستغيث بمن يجيب المضطر إذا دعاه، الموصوف بأنه غيّاث المستغيثين، مجيب المضطرين، أرحم الراحمين. فلفظ الاستغاثة يستعمل في مخّ العبادة وما لا يقدر عليه إلا الله، عالم الغيب والشهادة.

فكره صلى الله عليه وسلم إطلاقه عليه فيما يستطيعه ويقدر عليه حماية لحمى التوحيد، وسداً لذريعة الشرك، وإن كان يجوز إطلاقه فيما يقدر عليه المخلوق فحماية جانب التوحيد من مقاصد الرسول ومن قواعد هذه الشريعة المطهرة، فأين هذا من قوله:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} . فإن الرمي المنفي هو إيصال ما رمى به إلى أعين المشركين جملتهم، وهزيمتهم بذلك، والرمي المثبت ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من رمي ما أخذ بكفه الشريفة من التراب واستقبال. وجوه العدو به.

وأما قوله: وكثيراً ما تجيء السنة بنحو هذا من بيان حقيقة العلم ويجيء القرآن من إضافة الفعل إلى مكتسبه، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لن يدخل أحد الجنة بعمله"3. مع قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4. فالأمر ليس كما توهّمه هذا الزائغ، فإن الباء في الحديث باء المعاوضة والمبادلة، وفي الآية هي باء السببية لا باء المعاوضة، فالمنفي غير المثبت. كما نص عليه أهل العلم وأهل التفسير، وكل

1 سورة الأنفال: 17.

2 أخرجه مسلم (1649) .

3 أخرجه مسلم (2816) .

4 سورة النحل: 32.

ص: 365

فاضل وعارف بصير، نعوذ بالله من القول على الله وعلى كتابه بغير علم ولا سلطان منير.

وأما قوله: "إن إطلاق لفظ الاستغاثة لمن يحصل منه غوث ولو تسبباً أمر معلوم لا شك فيه لغة ولا شرعاً".

فقد تقدم كلام شيخ الإسلام في نفي الاستغاثة عمن يسأل الله بجاهه وحقه وعمن يدعو لغيره، وأن من قال ذلك قد كذب على سائر اللغات والأمم، وأما من يسأل ويدعو وينادي -كما يفعله عباد القبور بمن يدعونه- فهذا يسمى استغاثة، كما يسمى عبادة لغير الله وشركاً بالله، وهذا النوع ليس النزاع في اسمه وإنما النزاع في جوازه وحله، وأما حديث الشفاعة فهو فيما يقدر عليه البشر من الدعاء كما يسأل الحي الحاضر أن يدعو الله وأن يستسقي.

وأما كلام الشيخ ابن تيمية الذي نقله عن المصنفين في أسماء الله فهو حجة لنا على عباد القبور، فإنهم استغاثوا بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.

وقوله: وإن حصلت من غيره تعالى فهو مجاز.

جوابه: أن الاستغاثة التي هي من جنس الأسباب العادية التي يقدر عليها المخلوق وفي وسعه، فهذه وإن حصلت من العبد فهي حقيقة لا مجاز، ولا ينازع في هذا من عرف شيئاً من اللغة، والعبد يفعل حقيقة، فيأكل حقيقة، ويشرب حقيقة، ويهب حقيقة، وينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً حقيقة، والله سبحانه خلق العبد وما يعمل، وهذا معروف من عقائد أهل السنة والجماعة، وإنما ينفي الفعل حقيقة عن فاعله ومن قام به القدرية المجبرة الذين يزعمون أن العبد مجبور، وأنه لا اختيار له ولا مشيئة، كما هو مبسوط في موضعه، والغلاة صفر اليدين من هذه المباحث المهمة.

وكذلك قوله: الاستغاثة بمعنى أن يطلب منه ما هو اللائق بمنصبه؛ لا ينازع فيها مسلم، فاللائق بمنصبه الشريف أن يطلب منه ما يستطيعه ويقدر عليه، كالدعاء وسائر الأسباب العادية ونحو ذلك، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله كهداية

ص: 366

القلوب، ومغفرة الذنوب والإنقاذ من النار ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله الواحد القهار؛ فهذا إنما يليق بمقام الربوبية، قال تعالى:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1. وقال: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} 2. وقال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} 3. وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} 4. وقال رجل: أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد، فقال صلى الله عليه وسلم:"عرف الحق لأهله"5.

وأما قوله: وقد ذكر المجوّزون أنّ جعل النبي صلى الله عليه وسلم متسبباً لا مانع من ذلك شرعاً وعقلاً.

فيقال: هذه العبارة ركيكة التركيب، والمجوزون للاستغاثة الله بغير فيما لا يقدر عليه إلا الله هم خصومنا فلا حجة في كلامهم، بل الشرع والعقل يرد مذهبهم ويبطله كما مر تقريره عن ابن القيم. وأما الأسباب العادية فإنها قد تجب، وقد تُسْتَحَبُّ، وقد تُبَاحُ، وقد تُكْرَه، وليس الكلام، فيها والمستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله لا ينجيه مجرد اعتقاده أن ذلك بإذن الله، بل لا بد من إخلاص الدعاء والاستغاثة، ودعاء المستغيث من أجلّ العبادات، فيجب إخلاصه لله.

وقول الغلاة: ومن أقر بالكرامة وأنها بإذن الله لم يجد بداً من اعترافه بجواز ذلك.

1 سورة القصص: 56.

2 سورة آل عمران: 135.

3 سورة الزمر: 19.

4 سورة آل عمران: 128.

5 حديث ضعيف. أخرجه أحمد (3/435) أو رقم (15629- قرطبة) والحاكم (4/255) والطبراني في " الكبير"(1/رقم: 839، 840) والبيهقي في "شعب الإيمان"(4/103/4225) والدينوري في "المجالسة"(2/387- 388/562) . وصححه الحاكم، وتعقّبه الذهبي.

وانظر: "مجمع الزوائد"(10/199) و"ضعيف الجامع"(رقم: 3705) .

ص: 367

فيقال: بل البد والسعة واليسر في القول بأنه لا يستغاث بالمخلوق فيما يختص بالخالق، ولو كان المخلوق قد ثبت له من الكرامة ما ثبت فالكرامة فعل الله لا فعل غيره، والمستغاث هو الله لا غيره، ولم يكن الصحابة يستغيثون ويسألون من ظهرت له كرامة أو حصلت له خارقة من الخوارق، فهذا الكلام الذي قاله الغلاة جهل مركب يليق بقائله، وكل إناء بالذي فيه ينضح.

وأما قوله: والأخبار النبوية قد عاضدته، والآثار قد ساعدته.

فبالوقوف على ما مر من كلامنا تعرف أن الأخبار النبوية قد عارضته وما عاضدته، بل أبطلته والآثار السلفية قد ردته وما ساعدته.

وأما قوله: ومن جعل الله فيه قدرة كاسبة للفعل مع اعتقاده أن الله هو الخالق؛ كيف يمتنع عليه طلب ذلك الشيء؟

فجوابه: أن الله لم يجعل للعباد قدرة على ما يختص به من الإغاثة المطلقة.

وأما الإغاثة بالأسباب العادية، وما هو في طوق البشر وقدرتهم؛ فهذا ليس الكلام فيه. والأموات لا قدرة لهم على الأسباب العادية، وما يطلب من الحيّ الحاضر، فما هنا ليس من ذلك القبيل، وما يستوي الأحياء ولا الأموات، وقد يجعل الله للعبد قدرة على بعض الأشياء ويمنع من سؤاله وطلبه، وفي الحديث:"لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس على وجهه مزعة لحم"1. وفيه: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً في وجهه"2. فهذا له قدرة، وقد منع السائل الغني من سؤاله، بل والسحرة جعل الله لهم قدرة على أنواع السحر والشعبذة وسؤالهم ذلك من أكبر الكبائر. فبطل قول هذا الزائغ أن من جعل الله له قدرة لا مانع من سؤاله، وكون الله قده قرب أنبياءه ورسله، وأوجب

1 أخرجه مسلم (1040) .

2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/388) وأبو داود (1626) والنسائي (3/97) والترمذي (650) وابن ماجه (1840) وغيرهم، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وصحّحه الشيخ الألباني- رحمه الله.

ص: 368

على العباد برّهم وتعظيمهم لا يقتضي ذلك أن يستغاث بهم أو يطلب منهم مالا يقدر عليهم أحد إلا الله.

والتعظيم اللائق بمناصبهم ليس من هذا الجنس، بل تعظيمهم محبتهم وطاعتهم وتعزيرهم وتوقيرهم، والإقتداء بهديهم، والأخذ بما جاؤوا به، وعباد القبور تركوا هذا التعظيم الواجب، وعظموهم بالاستغاثة والعبادة، والذبح والنذر، من جنس تعظيم أهل الكتاب لأنبيائهم ورهبانهم وأحبارهم، وهذا الزائغ- من جهله- يدعو الناس إلى طريقة الغلاة من أهل الكتاب، ويعرض عما جاءت به الرسل، ويصد عن السنة والكتاب، قال تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} 1.

وأما قوله: وقد خلق الله فيه قوة كاسبة.

فإن أراد القوة العادية البشرية الإنسانية فليس النزاع في هذا، وإن أراد ما يعتقده عُبّاد القبور في معبوداتهم من الصالحين وغيرهم، وأن لهم قدرة على إجابة المضطر، وإغاثة الملهوف، وقضاء حوائج السائلين؛ فهذا شرك في الربوبية لم يبلغه شرك المشركين من أهل الجاهلية، بل هو قول غلاة المشركين الذين يرون لآلهتهم تصرفاً وتدبيراً. وإن أراد أنهم يُدْعَوْنَ ويُسْأَلُونَ ويُستغاث بهم والله يُعطي لأجلهم؛ فهذا هو قول الجاهلية من الأميين والكتابيين. وتقدمت الآيات الدالة على ذلك، وتقدم ما حكاه الشيخ من قول النصارى: يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله. فهم طلبوا منها الشفاعة والجاه ليس إلا، وهذا من كفرهم وشركهم مع ما هم عليه من القول في عيسى وأمه- قاتلهم الله-، فإن كان هذا الزائغ أراد هذا الثاني فهو شرك غليظ، وقد تقدم له التصريح بذلك وعبارته هنا توهم الأول، وهو الغالب على عباد القبور في هذه الأزمان، نسأل الله العفو والعافية.

وأما كون الأولياء والصالحين في حال مماتهم كحال حياته يدعون لمن

1 سورة الأنفال: 22.

ص: 369

قصدهم ويتسببون في إنقاذه فهذا جهل عظيم، وقول على الله بلا علم، لم يرد به كتاب ولا سنة، ولا قاله ولا فعله أحد يعتد به ويقتدى به من أهل العلم والإيمان، وقد مضت القرون الثلاثة المفضلة ولم يعهد عن أحد منهم أنه قال ذلك أو فعله، وعندهم أشرف القبور على الإطلاق ولم يعرف عن أحد منهم أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أو دعاه ولا غيره من الصالحين، وخبر العتبي سيأتي الكلام عليه، وأن فاعل ذلك أعرابي ليس مما يُقتدى به ويُحْتَجُّ بقوله، وإن كان بعض المتأخرين احتج بحكاية الأعرابي فهو احتجاج مدخول، وقد نازعهم من هو أقدم منهم وأجل من الأكابر والفحول.

وأما قوله في قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 1. فإن قال قائل: هذا في الحي وله قدرة.

قلنا: لا يجوز نسبة الأفعال إلى أحد حي أو ميت على أنه الفاعل استقلالاً من دون الله.

فهذا الكلام أورده بناء على أن النزاع في دعوى الاستقلال، وبزعمه أنه إذا لم يعتقد الاستقلال فالأسباب العادية كغيرها، ودعاء الأموات والغائبين يجوز عنده إذا لم يعتقد الاستقلال، هذه دعواه كررها مراراً واحتج بها. والدعوى تحتاج لدليل لا تصلح هي دليلاً، لاسيما هذه الدعوى الضالة الكاذبة الخاطئة، والله سبحانه حكى استغاثة المخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه من نصره على عدوه، وهذا جائز لا نزاع فيه، واعتقاد الاستقلال من دون الله وأن العبد يخلق أفعال نفسه هذه مسألة أخرى لم يقل بها إلا قدرية النفاة، والناس مختلفون في تكفيرهم بهذا القول.

وبالجملة؛ فالنزاع في غير هذه المسألة، وإنما هو في دعاء الأموات والغائبين، وإن لم يستقل بذلك المطلوب من دون الله.

1 سورة القصص: 15.

ص: 370

وأما قوله: وقد جعل الله الإغاثة في غيره

فهو قول ركيك فاسد المعنى، فإن الله لم يجعل الإغاثة في غيره، بل هو المغيث. على الإطلاق، وإنما جعل لعباده عملاً وكسباً في فرد جزئي مما يستطيعه العبد ويكون في قدرته، وعبارة الزائغ في غاية البشاعة.

وأما قوله: فلهذا نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإغاثة كما تقدم حيث قال إنه لا يستغاث إلا بالله.

فليس النفي لما ذكره الزائغ، فإن المخاطبين يعلمون أن الله خالق أفعال العباد، وإنما نفى الاستغاثة عنه حماية للتوحيد وصيانة لجانبه، كما قال لمن قال له: أنت سيدنا وابن سيدنا: "السيد الله، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"1. ولو كان كما زعم الزائغ لنفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل فعل وكل قول صدر منه، لأنه لا يفعله استقلالاً، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2. والزائغ قد خاض فيما لا يدريه وما هو أجنبي عنه، فالحد في الألفاظ النبوية وحرفها وكابر الحس والمعقول، والمنفي في الحديث الاستغاثة لا الإغاثة، وأظن المعترض لا يفرق بينهما.

1 تقدم.

2 سورة الصافات: 96.

ص: 371

(الكلام على شبه الخصم وإبطالها)

الشبهة الأولى: ما أورده ابن حجر في (الجوهر المنظم) والسبكي في كتابه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب؛ أسألك بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا ما غفرت لي. قال الله: يا آدم؛ كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب؛ لما خلقتني بيدك ونفختَ فيَّ من روحك، رفعتُ رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمتُ أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحبَّ الخلق إليك. فقال له الله: صدقت يا آدم! إنه لأحب الخلق إليّ، وإذ سألتني بحقه

ص: 371

فقد غفرتُ لك، ولولا محمد ما خلقتك"1.

1 حديث باطل. أخرجه الحاكم (2/615) والبيهقي في "دلائل النبوة"(5/488) من طريق: أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري، حدثنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب مرفوعاً.

وقال الحاكم: "صحيح-[وقع في المطبوعة: صيّح]- الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب".

وتعقّبه الذهبي بقوله: "قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ. قال الحاكم: وهو أول حديث ذكرته له في هذا الكتاب. (قلت) : رواه عبد الله بن مسلم الفهري؛ ولا أدري من ذا، عن إسماعيل بن مسلمة عنه".

وقال شيخ الإسلام- رحمه الله في "قاعدة جليلة"(ص 73- ط. المكتب الإسلامي) أو (1/254- 255- مجموع الفتاوى) : "ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب "المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم": عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه" اهـ.

وكذا قال الحافظ في "النكت"(1/318) . وانظر كلام الحاكم في "المدخل إلى الصحيح"(1/199/97) .

وقد قال عنه الطحاوي: "حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف".

وقال أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل"(5/233- 234) : " ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحاً وفي الحديث واهياً".

وقال ابن حبان في "المجروحين"(2/57) : "كان ممن يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف؛ فاستحق الترك".

وقال البخاري والنسائي: " ضعّفه عليٌّ جداً". وقال الساجي: "منكر الحديث".

وعبد الله بن مسلم الفهري؛ قال عنه الذهبي في "الميزان"(3/218) : "روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً: "يا آدم لولا محمد ما خلقتك.." اهـ.

والحديث أخرجه الطبراني في "الصغير"(2/82- 83) وفي "الأوسط"(6502) من طريق أخرى عن عبد الرحمن بن زيد به.

وقال: "لا يُروى عن عمر إلا بهذا الإسناد؛ تفرد به أحمد بن سعيد". وقال في " الأوسط": "لم يرو هذا الحديث عن زيد بن أسلم إلا ابنه عبد الرحمن، ولا عن ابنه إلا عبد الله بن إسماعيل المدني، ولا يُروى عن عمر إلا بهذا الإسناد".

قلت: لم يتفرد به عبد الله بن إسماعيل؛ بل تابعه إسماعيل بن مسلمة كما تقدم عند الحاكم والبيهقي.

وأخرجه الآجري في "الشريعة"(2/248- 249/1012) موقوفاً على عمر رضي الله عنه.

وهذا من خلط عبد الرحمن بن زيد ووهمه.

خلاصة القول: إن الحديث باطل موضوع؛ وانظر لزاماً ما كتبه العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني حول الحديث في "الضعيفة"(25) .

تنبيه: قال العلامة الفقيه الأصولي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ- حفظه الله ونفع به- في كتابه الماتع "هذه مفاهيمنا"(ص25) هامش رقم (1) : "ومن اللطائف أن طبعة المستدرك الهندية وقع فيها خطأ مطبعي؛ هكذا: "هذا حديث صيّح الإسناد"! وصيح الإسناد من قولك: تصيح الشيء؛ إذا تكسَّرَ. كما في "تاج العروس شرح القاموس" (2/186) . فمعنى: صيح الإسناد: متكسّر الإسناد. وهذه عجيبة، ولله حكمة في وقوع هذا الخطأ؛ فيتبصّروا" اهـ.

قلت: وانظر لمزيد من الفائدة "التوسل أنواعه وأحكامه" للشيخ الألباني- رحمه الله (ص115- وما بعدها) .

ص: 372

والمراد بحقه صلى الله عليه وسلم رتبته ومنزلته لديه تعالى، أو الحق الذي جعله الله سبحانه وتعالى له على الخلق، أو الحق الذي جعله الله تعالى بفضله له عليه.. إلخ.

الجواب: أن يقال: هذا الحديث لا أصل له، بل الثابت عند أهل العلم والمفسرين أن قوله تعالى:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1. نزل في توبة آدم، وهذه الكلمات هي المفسرة بقوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2. وهذا مروي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي، وخالد بن معدان، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن يزيد.

وعن ابن عباس، قال: علم شأن الحج 3.

وعن عبيد بن عمير أنه قال: قال آدم: يا رب؛ خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بل كتبته عليك قبل

1 سورة البقرة: 37.

2 سورة الأعراف: 23.

3 أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/91/408) بإسناد ضعيف.

ص: 373

أن أخلقك، قال: فكما كتبته عليَّ فاغفره لي. فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 1.

وعن ابن عباس؛ قال آدم عليه السلام: ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. وعطست فقلت: يرحمك الله، وسبقت رحمتك غضبك؟ قيل: بلى. وكتبت عليَّ أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى. قال: أفرأيت إن تبتُ هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم2. وكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير، وسعيد بن معبد. ورواه الحاكم في مستدركه إلى ابن عباس3. وروى ابن أبي حاتم حديثاً مرفوعاً شبيهاً بهذا4.

وعن مجاهد قال الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم"5. وهذا ما عليه المفسرون، لا ما قاله الغلاة. فإن كان بعض من لا بصيرة له قد ذكره فالحجة فيما ثبت عن الصحابة وعن سلف الأمة وأئمتها، ولا يجوز تفسير القرآن بأقوال شاذة أو موضوعة لا تثبت عند أهل العلم والحديث وأئمة التصحيح والترجيح.

1 أخرجه ابن أبي حاتم (1/1 9/409) وابن جرير في "تفسيره"(1/رقم: 781- 784) وأبو نعيم في "الحلية"(3/273) وأبو الشيخ في "العظمة"(رقم: 1011) .

وانظر: "تفسير ابن كثير" بتحقيق الشيخ الحويني- سلمه الله- (2/308) .

2 أخرجه ابن أبي حاتم (1/90- 91/407) بإسناد منقطع.

3 "المستدرك"(2/545) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وقال الشيخ الحويني في تحقيقه على " تفسير ابن كثير"(2/309) : "إسناد جيد" وانظر باقي كلامه هناك.

4 أخرجه ابن أبي حاتم (1/90/406) وقال الحافظ ابن كثير: "هذا غريب من هذا الوجه، وفيه انقطاع".

5 أخرجه ابن أبي حاتم (1/91/411) وصححه الشيخ الحويني (2/311) .

ص: 374

ولما روى ابن حميد الرازي الحكاية المنسوبة إلى مالك رحمه الله مع أبي جعفر المنصور- وفيها أنه سأل مالكاً فقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به. فرد الحفاظ على ابن حميد هذه الحكاية، وذكروا أن إسنادها مظلم منقطع، مشتمل على من يتهم بالكذب، وقالوا: ابن حميد كثير المناكير، ولم يسمع من مالك شيئاً، بل روايته عنه منقطعة، ومحمد بن حميد الرازي هذا تكلّم فيه غير واحد من الأئمة ونسبه بعضهم إلى الكذب1.

الشبهة الثانية: أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله لي أن يعافيني.

فقال: "إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ، وهو خير لك" إلى أن قال: فأمره أن يتوضأ فيُحْسِنُ وضوءَه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ الرحمة، يا محمد؛ إني أتوجه بك إلى ربي في قضاء حاجتي لتقضي لي، اللهم شفّعه فيّ" فقام وقد أبصر.. إلخ 2.

1 انظر الكلام على هذه القصة وبيان كذبها في "قصص لا تثبت"(5/13- وما بعدها) إعداد: سليمان بن صالح الخراشي.

2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/138) أو رقم (17288، 17289- قرطبة) والترمذي (3578) والنسائي في "الكبرى"- عمل اليوم والليلة- (6/169/10495) وابن ماجه (1385) والطبراني في "الكبير"(19/رقم: 8311) وفي "الدعاء"(2/1289/1051) والحاكم (1/313، 519) والبيهقي في "دلائل النبوة"(6/166) والبخاري. في "التاريخ الكبير"(6/210) وعبد بن حميد (379) .

من طريق: شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف؛ أن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم.. فذكره. وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح غريب".

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني في "التوسل"(ص 75- 76) .

وتابع شعبة عليه حمادُ بن سلمة عند: أحمد (4/138) أو رقم (17290- قرطبة) والنسائي في "الكبرى"- عمل اليوم والليلة- (6/168- 169/10494) والبخاري في "التاريخ الكبير"(6/209) .

قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي- رحمه الله: خالفهما-[أي: حماد وشعبة]- هشام الدستوائي وروح بن القاسم؛ فقالا: عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن خماشة-[ووقع في مطبوعة السنن الكبرى: خراشة! فلتصحح]- عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان بن حنيف" اهـ.

قلت: أما حديث هشام الدستوائي فأخرجه: النسائي في "الكبرى"(6/169/10496) والبيهقي في "دلائل النبوة"(6/168) والبخاري في "التاريخ الكبير"(6/210) .

وحديث روح بن القاسم أخرجه: البخاري في "التاريخ الكبير"(6/210) والحاكم في "المستدرك"(1/526) والبيهقي في "الدلائل"(6/167-168) والطبراني في "المعجم الكبير"(9/رقم: 8311) وفي " الصغير"(1/183-184) وفي "الدعاء"(2/1287-1289/1050) وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(628) .

وانظر لزاماً "التوسل" للألباني (ص 75- وما بعدها) .

وانظر لتوجيه الحديث: المصدر السابق، و"قاعدة جليلة" لشيخ الإسلام، و"تحفة الأحوذي" للمباركفوري (10/33- وما بعدها) .

ص: 375

والجواب ما ذكره بعض أهل الحديث حيث قال: اعلم أن الجواب عنه يعلم من تأمل معناه، فقوله:"اللهم إني أسألك" أي: أطلب منك. "وأتوجه إليك بنبيك محمد" صرح باسمه، مع ورود النهي عن ذلك، تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم لكون التعليم من قبله، وفي ذلك قَصْرُ السؤال الذي هو أصل الدعاء على الله الملك المتعال، ولكنه توسّل بالنبي؛ أي: بدعائه، ولذا قال في آخره:"اللهم فشفّعه فيَّ " إذ شفاعته لا تكون إلا بالدعاء لربه قطعاً، ولو كان المراد التوسل بذاته فقط لم يكن لذلك التعقيب معنى، إذ التوسل بقوله "بنبيك" كافٍ في إفادة هذا المعنى. فقوله:" يا محمد إني توجّهتُ بك إلى ربي". قال الطيبي1: الباء في بك للاستعانة، وقوله:"إن توجهت بك" بعد قوله: إليك؟ فيه معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2. فيكون خطاباً لحاضر معاين في قلبه مرتبط بما توجه به عند ربه من سؤال نبيه بدعائه الذي هو عين شفاعته، ولذلك أتى بالصيغة الماضوية بعد الصيغة المضارعية المفيد كل ذلك أن هذا الداعي قد توسل بشفاعة نبيه في دعائه، فكأنه

1 في "شرحه على المشكاة"(6/1931- ط. الباز) .

2 سورة البقرة: 255.

ص: 376

استحضره وقت ندائه، ومثل ذلك كثير في المقامات الخطابية والقرائن الاعتبارية. فقوله:"في حاجتي هذه لتقضى لي" أي: ليقضيها لي ربي بشفاعته فيّ؛ أي: دعائه. وذلك مشروع مأمور به، فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يطلبون منه الدعاء وكان يدعو لهم، وكذلك يجوز الآن أن تأتي رجلاً صالحاً فتطلب منه الدعاء لك، بل يجوز للأعلى أن يطلب من الأدنى الدعاء له كما طلب النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عمرته، بأن قال:"لا تنسنا يا أخي من دعائك"1 قال عمر رضي الله عنه: ما يسرني بها حمر النّعم.

قال المناوي2: "سأل الله أولاً أن يأذن لنبيه أن يشفع له، ثم أقبل على النبي ملتمساً شفاعته له، ثم كر مقبلاً على ربه أن يقبل شفاعته. والباء في بنبيك للتعدية، وفي بك للاستعانة. وقوله: "اللهم فشفّعهُ فيّ " أي: اقبل شفاعته في حقي، والعطف على مقدر3، أي: اجعله شفيعاً لي فشفّعه ".

وكل هذه المعاني دالة على وجود شفاعته بذلك، وهو دعاؤه صلى الله عليه وسلم بكشف عاهته، وليس ذلك بمحظور، غاية الأمر أنه توسل من غير دعاء، بل هو نداء لحاضر، والدعاء أخص من النداء، إذ هو نداء عبادة شاملة للسؤال بما لا يقدر عليه إلا الله، وإنما المحظور السؤال بالذوات لا مطلقاً بل على معنى أنهم وسائل لله بذواتهم، وأما كونهم وسائل بدعائهم فغير محظور، وإذا اعتقد أنهم وسائل لله بذواتهم فسأل منهم االشفاعة للتقرب إليهم فذلك عين ما كان عليه المشركون الأولون.

1 حديث ضعيف. أخرجه أحمد (1/29) أو رقم (195- شاكر) وأبو داود (1498) والترمذي (3562) وابن ماجه (2894) وغيرهم.

وضعّف إسناده العلامة أحمد شاكر في تحقيقه على "المسند". والألباني في تحقيقه على "المشكاة"(2/695/2248) .

2 في "فيض القدير"(3/1376- ط. الباز) .

3 هكذا عبارة الأصل، وفي "فيض القدير":"ولتقضى" عطف على "أتوجه إليك بنبيك" أي:

".

ص: 377

وأما ورود هذا الحديث عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه في زمن عثمان ففي سنده مقال1، فكيف يعارض به جميع كتب الله وسنة رسوله وعمل أصحابه؟ وهل سمعتَ أحداً منهم جاء إليه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته إلى قبره الشريف فطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؟ وهم حريصون على مثل هذه المثوبات، لاسيما والنفوس مولعة بقضاء حوائجها، تتشبّث بكل ما تقدر عليه، فلو صحّ عند أحدهم أدنى شيء من ذلك لرأيتَ أصحابه يتناوبون قبره الشريف في حوائجهم زمراً زمراً، ومثل ذلك تتوفر الدواعي على نقله، ولا وسّع الله طريقاً لم يتسع للصحابة والتابعين وصلحاء، علماء الدين.

الشبهة الثالثة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توسَّلَ بالعباس رضي الله عنه في الاستسقاء ولم يُنكر عليه2. وكان حكمة توسّله به دون النبي صلى الله عليه وسلم وقبره إظهار غاية التواضع لنفسه والرفعة لقرابته صلى الله عليه وسلم، ففي توسله بالعباس توسّل بالنبي صلى الله عليه وسلم وزيادة.. إلخ.

والجواب: أن المراد من التوسل الدعاء لهم، يدل عليه ثبوت دعائه لهم بطلب السقيا كما جاءت به بقية الروايات، وهذا المعنى هو الذي عناه الفقهاء في كتبهم ومرادهم: التوجه إلى الله بدعاء الصالحين بأن يدعو لهم، ولو كان التوسل بالذوات هو المطلوب والمدلول الذي أقاموا عليه الدليل- وهم بمقتضى دليلهم لا يخصون الأحياء بهذا التوسل، ويستحبون التوسل بالذوات الشريفة، ولو بندائهم ودعائهم كما مرَّ تقريره من دليلهم، وأنه على معنى أن الشفعاء يدعون لهم. وقالوا: لا مانع من ذلك عقلاً وشرعاً فإنهم أحياء في قبورهم- لكان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر المهم وهم عنده بالمدينة أولى، ولكان قولهم- كما في رواية البخاري أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس، وقال:"اللهم إنا كنا إذا أجدَبْنَا توسَّلنا إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسَّل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسْقَوْنَ"-

1 انظر "التوسل" للعلامة الألباني (ص 90- وما بعدها) .

2 أخرجه البخاري (1010) .

ص: 378

عبثاً ضائعاً، بل مُخِلاًّ بما يقولون ويدعون، بل هو أقوى الأدلة وأرجحها وأعلاها وأوثقها وأصحها وأصدقها لما ندَّعِيهِ، فإن قول عمر:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا".. إلخ؛ يدل دلالة ظاهرة على انقطاع ذلك الذي هو الدعاء بدليل قوله: "إنا كنا"، ولما كان العباس حياً طلبوه منه فلما مات فات، فقصرهم له على الموجودين ولو كانوا مفضولين دليل ساطع وبرهان لامع على هذا المراد، ولو كان المقصود الذوات كما يقولون لبقية هذه التوسلات عندهم على حالها لم تتغير ولم تتبدل إلى المفضولين بعد وجود الفاضلين، سيما الأنبياء والمرسلين، فتأمل في هذا فإنه أحسن ما في هذه الأوراق، حقيق بأن يضرب عليه رواق الاتفاق، والله يهديك السبيل فهو نعم المولى ونعم الوكيل.

وأما باقي الشبه التي أوردها النبهاني من كلام أسلافه الغلاة؛ فمنها ما لا يمس مقصودنا، ومنها أحاديث لا تخلو عن ضعف أو كذب راوٍ أو غير ذلك مما يمنع العمل بموجبه، كما ذكره من رد عليهم، ولو نضرتَ إليها بعين الإيمان وجدت آثار الوضع لائحة عليها، وأحوال الصحابة وأعمالهم تدل على أنهم غير معترفين بما فيها، ولو كان عندهم من ذلك أدنى رائحة لجاؤوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما ينوبهم على الرواحل، وتركوا عند ذلك جميع المشاغل.

ص: 379

(ذكر شبة أخرى للمجوّزين للاستغاثة وإبطالها)

لم يزل خصوم أهل الحق في كل عصر يسعون في تأييد باطلهم ويستندون إلى شبه هي أوهي من بيت العنكبوت وأنها لمن أوهن البيوت، ويتشبثون لترويج باطلهم حتى بحبال القمر، وقد رأيت رسالة مختصرة صنفها العلامة أبو عبد الله الشيخ محمد رحمه الله سماها (كشف الشبهات) أودعها نبذة من ذلك، وهي على اختصارها نافعة جداً لطالب الحق فأحببت إيراد شيء منها إتماماً للفائدة، قال رحمه الله:

"اعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له

ص: 379

أعداء، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} 1 وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج، كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 2.

إذا عرفتَ ذلك وعرفتَ أن الطريق إلى الله تعالى لا بد له من أعداء أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يكون لك سلاحاً تقاتل به هؤلاء الشياطين، الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل:{لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} 3. ولكنك إذا أقبلت على الله تعالى وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من خصومه بإذن الله، كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 4 فجند الله هم الغالبون بالحجة والبيان كما أنهم الغالبون بالسيف والسِّنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد منَّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} 5. قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يرم القيامة.

وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله تعالى في كتابه جواباً لكلام احتج به خصوم أهل الحق في زماننا هذا علينا، فنقول: إن جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل.

1 سورة الأنعام: 112.

2 سورة كافر: 83.

3 سورة الأعراف: 16- 17.

4 سورة الصافات: 173.

5 سورة الفرقان: 33.

ص: 380

أما المجمل: فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 1. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"2.

مثال ذلك: إذا قال لك بعض الخصوم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3. وأن الشفاعة حق، وأن الأنبياء عليهم السلام لهم جاه عند الله، أو ذكر كلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم يستدل به على شيء من باطله، فأجبه بقولك: إن الله تعالى ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وأن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية، وأنه كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء، مع أنهم قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فهذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه، وما ذكرت لي أيها الخصم من الكتاب الكريم أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله تعالى لا يتناقض وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله.

وهذا جواب سديد، ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى، فلا تستهونه، فإنه كما قال تعالى:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 4.

وأما الجواب المفصل: فإن أعداء الحق لهم اعتراضات كثيرة يصدون بها الناس:

1 سورة آل عمران: 7.

2 أخرجه البخاري (4547) ومسلم (2665) .

3 سورة يونس: 62.

4 سورة فصلت: 35.

ص: 381

منها: قولهم: نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله تعالى وحده لا شريك له، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم.

فأجبه: أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بما ذكرت، ومقرين أن أوثانهم لا تدبر شيئاً وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه له، فإن قال: إن هذه الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام فكيف تجعلون الصالحين أصناماً، فأجبه بأنه إذا أقر أن الكفار كانوا يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، وإذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر فاذكر له أن الكفار منهم من كان يدعو الصالحين والأصنام، ومنهم من كان يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1. وقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. واذكر قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3.

فقل له: أعرفت أن الله تعالى كفَّر من قصد الأصنام، وكفَّر أيضاً من قصد الصالحين، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فإن قال: إن الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله تعالى هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكني بقصدهم أرجو من الله تعالى شفاعتهم.

1 سورة الإسراء: 57.

2 سورة المائدة: 75.

3 سورة سبأ: 40- 41.

ص: 382

فأجبه: أن هذا قول الكفار سواء بسواء، فاقرأ عليه قوله تعالى:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1. وقوله تعالى: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2.

واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله تعالى وضحها في كتابه وفهمتها فهماً جيداً فما بعدها أيسر منها.

فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله؛ والالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة. فقل له: أنت تُقِرُّ أن الله تعالى فرض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك؟ فإذا قال: نعم. فقل له: بيِّن لي هذا الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقه عليك، فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها، فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 3 إذا علمت بهذا هل هو عبادة؟ فلا بد أن يقول نعم والدعاء مخ العبادة. فقل له: إذا أقررت أنها عبادة ودعوت الله ليلاً ونهاراً خوفاً وطمعاً، ثم دعوت في تلك الحاجة نبياً أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره- إذ قال الله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 4 وأطعت الله ونحرت له؟ فلا بد أن يقول: نعم؟ فقل له: إذا نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله تعالى؟ فلا بد أن يقر ويقول: نعم.

وقل له أيضاً: إن المشركين الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يبعدون الملائكة والصالحين والات والعزى وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول نعم؟ فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك، وإلا فهم مقرون أنهم عبيد لله تحت قهره، وأن الله تعالى هو الذي يدبر الأمر، ولكن دعوهم والتجؤوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جداً.

1 سورة الزمر: 3.

2 سورة يونس: 18.

3 سورة الأعراف: 55.

4 سورة الكوثر: 2.

ص: 383

فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها؟

فقل له: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع وأرجو شفاعته، لكن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 1 ولا تكون إلا من بعد إذنه سبحانه، كما قال عز وجل:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 2 ولا يشفع لأحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه، كما قال جل جلاله:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 3 وهو لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4.

فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد؛ تبين أن الشفاعة كلها لله، وأطلبها منه، وأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه فيَّ، وأمثال هذا.

فإن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة وأنا أطلب مما أعطاه الله.

فقل له: إن الله تعالى أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا، وقال:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 5. وأيضاً: فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صح أن الملائكة يشفعون والأولياء يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأنا أطلبها منهم؟ فإن قلت هذا؛ رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وإن قلت: لا، بطل قولك إن الله تعالى أعطاه الشفاعة وأنا أطلب مما أعطاه الله.

1 سورة الزمر: 44.

2 سورة البقرة: 255.

3 سورة الأنبياء: 28.

4 سورة آل عمران: 85.

5 سورة الجن: 18.

ص: 384

فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئاً- حاشا وكلا- والالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك.

فقوله: إذا كنت تقر أن الله تعالى قد حرم الشرك أعظم من تحريمه الزنا، وتقر أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي عظمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري. فقل له: كيف تبرىء نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا. فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام.

فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم كانوا يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن.

وإن قال: هو قصد خشبة أو حجر أو بنية على قبر أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون أنه يقربنا إلى الله زلفى ويدفع عنا ببركته! فقل له: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار، والأبنية التي على القبور وغيرها، فهذا قد أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام.

ويقال له أيضاً: قولك: الشرك عبادة الأصنام؛ هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا وأن الاعتماد على الصالحين ودعائهم لا يدخل في هذا؟ فهذا يرده ما ذكره الله تعالى في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة وعيسى والصالحين، فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين.

فهو الشرك المطلوب في القرآن وهذا هو المطلوب.

وسر المسألة؛ أنه إذا قال لك: أنا لا أشرك بالله فقل له: وما الشرك بالله فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام. فقل له: وما معنى عبادة الأصنام؟ فسرها لي. فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدّعي شيئاً وهو لا يعرفه؟ وإن فسَّر ذلك بغير معناه؛ فبين له الآية الواضحة في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان مما يفعل في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون عليها ويصيحون كما صاح إخوانهم، حيث قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ

ص: 385

إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1.

فإذا عرفت أن هذا الذي يُسمّيه خصوم الحق في وقتنا الاعتقاد هو الشرك الذي أنزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه، فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل عصرنا من وجهين:

أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله تعالى إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} 2. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 3 وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} إلى قوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 4. وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 5.

فمن فهم هذه المسألة التي أوضحها الله تعالى في كتابه، وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله تعالى وحده لا شريك له وينسون ساداتهم؛ تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً راسخاً، والله المستعان.

والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله، إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة، ويدعون أشجاراً وأحجاراً مطيعة لله ليست عاصية،

1 سورة ص: 5.

2 سورة الإسراء: 67.

3 سورة الأنعام: 40- 41.

4 سورة الزمر: 8.

5 سورة لقمان: 32.

ص: 386

وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، ومن يعتقد في الصالحين ومن يعبد ما لا يعصى كالخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به.

إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم، فاصغ سمعك لجوابها؛ وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فيكف تجعلوننا مثل أولئك؟

فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدّق رسول صلى الله عليه وسلم في شيء وكذّبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج.

ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج أنزل الله تعالى في حقهم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 1. ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع وحل دمه وماله، كما قال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} 2. فإذا كان الله تعالى قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً زالت هذه الشبهة عن قلبه.

ويقال: إذا كنت تقرُّ أن من صدّق الرسول في كل شيء وجحد وجوب

1 سورة آل عمران: 97.

2 سورة النساء: 150- 151.

ص: 387

الصلاة أنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان لا يجحد هذا ولا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا، فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر وإن عمل بكل ما جاء به الرسول، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر، سبحان الله ما أعجب هذا الجهل؟!

ويقال أيضاً: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويؤذنون.

فإن قال: إنهم يقولون أن مسيلمة نبي.

قلنا: هذا هو المطلوب؛ إذا كان من رفع رجلاً في رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع ولياً أو صحابياً أو نبياً في مرتبة جبار السموات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1.

ويقال أيضاً؛ إن الذين حرّقهم علي بن أبي طالب كلهم يدّعون الإسلام، وهم من أصحاب علي، وقد تعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في عليّ مثل الاعتقاد في الصلحاء، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في صلحاء العصر لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟

ويقال أيضاً: إن بني عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر أيام بني العباس كلهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدّعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم

1 سورة الروم: 59.

ص: 388

المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.

ويقال أيضاً: إذا كان الأولون لم يكفّروا إلا من جمع بين الشرك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكره الفقهاء من كل مذهب وهو باب حكم المرتد وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه؟ وذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.

ويقال أيضاً إن الذين قال تعالى فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 1 أما سمعت الله تعالى كفّرهم بكلمة، ويزكّون ويحجّون ويوحّدون، وكذلك الذين قال الله تعالى فيهم:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2. فهؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم كفروا بعد إيمانهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك؛ قد قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح.

فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم تكفّرون المسلمين أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلُّون ويصومون. ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.

ومن الدليل على ذلك أيضاً: ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 3. وقال ناس من الصحابة: "اجعل لنا ذات أنواط". فحلف صلى الله عليه وسلم أن هذا نظير قول بني إسرائيل "اجعل لنا إلها"4.

1 سورة التوبة: 74.

2 سورة التوبة: 65- 66.

3 سورة الأعراف: 138.

4 أخرجه أحمد (5/218) والترمذي (2180) والنسائي في "الكبرى"(6/346/11185) وابن جرير الطبري في "تفسيره"(9/31) وأبو يعلى في "مسنده"(3/30/1441) وعبد الرزاق في "مصنفه"(11/369/20763) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(15/101/19222) والطبراني في "المعجم الكبير"(3/رقم: 3290- 3294) والطيالسي في "مسنده"(1346) والحميدي في "مسنده"(2/375/848) وابن حبان في "صحيحه"(15/94/6702) والبيهقي في "معرفة السنن والآثار"(1/108) وابن أبي عاصم في "السنة"(76) وابن نصر المروزي في "السنة"(ص 11- 12) واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(1/139- 140/204، 205) وابن بطة في "الإبانة"(1/2/568- 569/710) . من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه. وعزاه الطرطوشي في "الحوادث والبدع"(ص 38- ط. ابن الجوزي) للبخاري؛ فوهم. والحديث صححه الترمذي، ووافقه العلامة الألباني- رحم الله الجميع.

ص: 389

ولكن لخصوم الحق شبهة يدلون بها عند هذه القصة، وهي أنهم يقولون إن بني إسرائيل لم يكفروا وكذلك الذين قالوا:"اجعل لنا ذات أنواط " لم يكفروا.

فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك، وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك ولو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب.

وهذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري، فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل فهمنا التوحيد من أكبر الجهل ومن مكائد الشيطان، وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر- وهو لا يدري- فنبه على ذلك وتاب من ساعته أنه لا يكفر، كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم. وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولخصوم الحق وأعداء الدين شبهة أخرى، وهي أنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله، وقال:"أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله"1. وكذلك قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"2. إلى

1 أخرجه البخاري (2269) ومسلم (96) .

2 أخرجه البخاري (1399) ومسلم (20- 21) .

ص: 390

أحاديث أخر في الكف عمن قالها. ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل.

فيقال لهم من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم1، وهم يقولون لا إله إلا الله. وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويدّعون الإسلام. وكذلك الذين حرّقهم علي بن أبي طالب بالنار.

وهؤلاء الجهلة يقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقُتِلَ، ولو قالها؛ فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس دين الرسل ورأسه؛ ولكن أعداء الله لم يفهموا معنى الأحاديث.

فأما أحاديث أسامة؛ فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفاً على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبيّن منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} 2. أي: تثبتوا. فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت. فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله: "فتبينوا" ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.

وكذلك الأحاديث الأخر معناها ما ذكرناه، وأن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه، إلا أن يتبين منه ما يناقض ذلك.

والدليل على هذا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قال:"أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله"؟ وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ". وهو الذي قال في الخوارج: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"3. مع

1 في الأصل: و "سألهم"! وهو تصحيف.

2 سورة النساء: 94.

3 أخرجه البخاري (6930) ومسلم (1064- 1066) .

ص: 391

كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً، حتى أن الصحابة رضي الله عنهم يحقرون أنفسهم عندهم، وقد تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم كلمة لا إله إلا الله، ولا كثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة.

وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة رضي الله عنهم بني حنيفة.

وكذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل منهم أنهم منعوا الزكاة، حتى أنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1. وكان الرجل كاذباً عليهم، وكل هذا يدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه.

ولهم شبهة أخرى؛ وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً.

والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، كما قال تعالى في قصة موسى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2. وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله، إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة، مثل أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك، تقول له: ادع الله لي. كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا إنهم لم

1 سورة النساء: 94.

2 سورة النساء: 94.

ص: 392

يسألوا ذلك، بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسه صلى الله عليه وسلم.

ولهم شبهة أخرى؛ وهي قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار، اعترض له جبريل في الهواء، وقال له: ألك حاجة، فقال إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا1. قالوا: فلو كانت الاستغاثة شركاً لم يعرضها على إبراهيم عليه السلام.

والجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عليه السلام عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنه كما قال الله تعالى فيه:{شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ} 2. فلو أذن له أن يأخذ نار إبراهيم عليه السلام وما حولها ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره الله تعالى أن يضع إبراهيم عليه السلام عنهم في مكان بعيد لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل، وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه أو يهبه شيئاً يقضي به حاجته، فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟

هذا آخر ما قصدنا نقله من كتاب (كشف الشبهات) .

وقد خطر لي بيتان من الشعر في قصة إبراهيم عليه السلام نظمهما بعض الأدباء العصريين وهما:

أصبحت ملة إبراهيم متبعاً

لا أبتغي من سوى رب العلى بدلا

لو قال لي الروح جبرائيل هل لك من

حاج لقلت له أما إليك فلا

وهذا هو التوحيد الذي يرغم أنف النبهاني وأضرابه من الغلاة الطغاة، وما نقلناه عن الشيخ كلام مفيد لذوي البصائر والأفهام، وقد سقط به ما ذكره النبهاني من توضيح مسألة الاستغاثة، فإن كلامه هنا مجرد إعادة عبارة سابقة

1 القصة لا أصل لها كما قال المحدث الألباني في "الضعيفة"(21) .

2 سورة النجم: 5- 6.

ص: 393

ليعظم لديه حجم كتابه، نسأله تعالى أن يهدينا سبلنا، ويصلح لنا أحوالنا بمنه وكرمه.

ثم إن النبهاني الغبي ذكر في آخر الفصل الرابع تتمة زعم أنها اشتملت على كلام بعض أئمة أهل العلم والأولياء في زيارة قبور الصالحين والانتفاع بزيارتها وصفاء أرواحهم بعد مماتهم، ثم نقل عن ابن دحلان هذيانه الذي في كتابه، "تقريب الأصول لتسهيل الوصول" وهو قوله: قد صرّح كثير من العارفين أن الولي بعد وفاته تتعلق روحه بمريديه، فيحصل لهم ببركته أنوار وفيوضات، قال: وممن صرح بذلك قطب الإرشاد سيدي عبد الله بن علوي الحداد، فإنه قال: الولي يكون اعتناؤه بقرابته واللائذين به بعد موته أكثر من اعتنائه بهم في حياته، لأنه في حياته كان مشغولاً بالتكليف وبعد موته طرح عنه الأعباء وتجرد، والحي فيه خصوصية وبشرية، وربما غلبت إحداهما الأخرى، وخصوصاً في هذا الزمان فإنها تغلب البشرية، والميت ما فيه إلا الخصوصية فقط- ثم بقي يهذي إلى أن قال-: وكان الشيخ أبو المواهب أيضاً يقول: من الأولياء من ينفع مريده الصادق بعد مماته أكثر مما ينفعه حال حياته، ومن العباد من تولى الله تعالى تربيته بنفسه بغير واسطة، ومنهم من تولاه بواسطة بعض أوليائه ولو ميتاً في قبره فيربى مريده وهو في قبره ويسمع مريده صوته من القبر، ولله عباد يتولى تربيتهم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه من غير واسطة لكثرة صلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم.

ثم نقل كلام الإمام فخر الدين الرازي- الذي ذكره في الفصل الثالث عشر من كتابه "المطالب العالية في بيان كيفية الانتفاع بزيارة القبور والموتى"- وهو قوله: "إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس كامل الجواهر ووقف هناك ساعة وحصل تأثير في نفسه حين حصل من الزائر تعلق بزيارة تلك التربة فلا يخفى أن لنفس ذلك الميت تعلقاً بتلك التربة أيضاً، فحينئذ يحصل لنفس الزائر الحي ولنفس ذلك الإنسان الميت تعلق بتلك التربة وملاقاة بسبب اجتماعهما بتلك التربة أيضاً، فصار هاتان النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين متقابلتين بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى، فكل ما حصل في نفس هذا الزائر الحي

ص: 394

من المعارف والبراهين والعلوم الكسبية والأخلاق الفاضلة من الخشوع لله تعالى والرضا بقضاء الله تعالى ينعكس منه نور إلى روح هذا الحي الزائر، وبهذه الطريقة تصير تلك الزيارة سبباً لحصول تلك المنفعة الكبرى والبهجة العظمى لروح هذا الزائر، فهذا هو السبب والأصل في مشروعية الزيارة، ولا يبعد أن يحصل منها أسرار أخرى أدق وأخفى مما ذكرنا، وتمام الحقائق ليس إلا عند الله تعالى". انتهى كلام الرازي.

ثم قال: قال الشيخ أبو المواهب: قال بعض العارفين: وللأولياء عند زيارة الأولياء وقائع كثيرة تدل على اعتناء المزور بالزائر وتوجهه إليه بالكلية على قدر توجهه وقابليته. قال النبهاني: "انتهى ما نقلته من (تقريب الأصول) للسيد أحمد دحلان ".

أقول: إنما نقلت كلام ابن دحلان الذي استدل به النبهاني على باطله من أوله إلى آخره- وإن كان فيه تضييع المداد والقرطاس ويؤسف على ما يصرف مدة نقله على الأنفاس- ليقف عليه المؤمن فيحمد الله على الإيمان والإسلام، ونجاته من ظلمات مثل هذه الأوهام، ولشناعتها وبشاعتها لدى ذوي العقول السليمة لا تحتاج إلى إقامة دليل ولا برهان، على ما حوته من بداهة البطلان، وجميع من نقل عنه ذلك الهذيان كانوا من غلاة الشافعية فقط. ومن الأسف على مثل هذا المذهب أن دنسه هؤلاء الغلاة وأضرابهم مع ما كان عليه الإمام الشافعي من الاتباع للسنة، وقد صان الله تعالى السادة الحنفية والمالكية والحنابلة عن مثل هذه العقيدة الزائغة والقول الباطل، ومن المعلوم لديك أن النبهاني عقد باباً لزيارة القبور، وباباً للسفر إليها، وهذى بما هذى في كلا البابين، وكأنه نسي أن يذكر هذا الكلام في موضعه فتداركه في هذا المقام، فإن له تعلقاً به من حيث الاستعداد والاستفاضة اللذان ادعاهما في الزيارة، قاتله الله ما أعظم جهله وغباوته.

ثم إنا قد أسلفنا الكلام على الزيارة، وبينا ما فيه الكفاية لمن كان له قلب سليم، وقلنا: إن الزيارة منها ما هو سُنّي وهو الذي كان يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه من شأنها، ومنها ما هو بدعي لم ينزل الله به من سلطان، وأطنبنا الكلام على كل

ص: 395

ذلك، نقلنا ما كتبه شيخ الإسلام في (الجواب الباهر) وكتابه في الرد على المعترض المالكي وهو الذي لم يسبقه أحد إليه.

ومنه يعلم أن ما كتبه ابن دحلان وما نقله عن الرازي كلام ساقط كل السقوط، وليس عليه دليلاً لا من كتاب ولا من سنة ولا من كلام السلف الصالح، وكان الذي قال يقول الرازي من المتقدمين والمتأخرين إنما أخذوه عن الإشراقيين من فلاسفة اليونان، ومن الأسف على مثل الرازي أن يتفوه بمثل ما نقل عنه ومنزلته في العلم ما تعلم، لكن الإمام الذهبي قد بين حقيقته ومبلغه من علوم الدين، وابن السبكي تأثر من شيخه الذهبي إذ بين حقيقته وأطال اللسان عليه في طبقاته في الكلام على ترجمة الرازي.

وابن دحلان ليس مما يلام على جهله، وغباوته ودعواه في العلم معلومة، وعجبه وكبره مما يقتضي ما رأيت من جهله، والحاصل أنه لو لم يكن لنا دليل على بطلان ما نقله النبهاني عمن نقله سوى مخالفته للنقل الصحيح والعقل الصريح لكفانا ذلك، فكيف والأدلة على بطلانه كثيرة كما يعلم مما سبق.

ثم إن النبهاني نقل كلام ابن دحلان في كتابه (خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام) وعقد له باباً وجعله ثالث الأبواب، وهو كلام ليس عليه أثارة من علم، ونقله النبهاني بأسره. فذكر الشبه التي تمسك به الوهابية على زعمه، فقال:"ينبغي أولاً أن نذكر الشبهات التي تمسك بها ابن عبد الوهاب في إضلال العباد، ثم نذكر الرد عليه ببيان أن كل ما تمسك به زور وافتراء وتلبيس على عوام الموحدين".

قال: "فمن شبهاته التي تمسك بها؛ زعمه أن الناس مشركون في توسلهم. بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين، وفي زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم وندائهم له بقولهم: يا رسول الله نسألك الشفاعة، وزعم أن ذلك كله إشراك، وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الخواص والعوام من المؤمنين،

ص: 396

كقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1 وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2 وقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 3 وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 4 وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 5 وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 6. وأمثال هذه الآيات كثيرة في القرآن كلها حملها على الموحدين".. إلخ.

أقول- ومن الله أستمد التوفيق-: إن النبهاني لم يزل يكرر مباحث كتابه ويعيد حتى يعظم حجم كتابه، وما أدري ماذا قصد بنقل كلام ابن دحلان، فهل للاستدلال به على باطله وهو لا يفيد ذلك فإن الرجل ليس ممن يحتج بقوله، بل ولا ممن يوثق به فإنه مبتدع بل من الغلاة المشهورين، وإن كان نقله لكلامه ليبين للناس أنه له أمثالاً في الغلو والضلال فهذا مما لا يحتاج، فقد قيل:

ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وعلى كل حال فإن ما نقله النبهاني عن صاحب مؤلف كتاب (خلاصة الكلام) وكتاب (الدرر السنية في الرد على الوهابية) قد رددناه سابقاً كما قد رد عليه من قبلي علماء أفاضل محققون، وقد انتشرت كتبهم، منها كتاب (صيانة

1 سورة الجن: 18.

2 سورة الأحقاف: 5- 6.

3 سورة الشعراء: 213.

4 سورة يونس: 106.

5 سورة فاطر: 13- 14.

6 سورة الإسراء: 56- 57.

ص: 397

الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان) للعلامة المحدث الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ عبد الرحيم السندي رحمه الله تعالى، وقد أجاد في رده عليه وأظهر زيغه وعواره، فقد قال في خطبة كتابه:"أما بعد؛ فإني وقفت على الرسالة التي جمعها الشيخ أحمد بن زيني دحلان وسماها (الدرر السنية في الرد على الوهابية) ورأيت مؤلفها يدّعي في ديباجة رسالته الباطلة الساقطة الدنية الردية أنه جمع فيها ما تمسك به أهل السنة قي زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به من الدلائل والحجج القوية، من الآيات والأحاديث النبوية، فتعجبت منه التعجب الصراح، كيف وليس في الباب حديث واحد حسن فضلاً عن الصحاح، فتأملتُ فيها تأمل الناقد البصير لكي أعلم به هل صدق في تلك الدعوى أم كذب كذب المجادل الضرير، فوجدت دعواها عارية عن لباس الصدق والحق المبين، محلاة بحلية الزور والكذب والباطل المهين، فإنه ليس فيها من الأحاديث إلا ما أورده التقي السبكي في "شفاء السقام " وهي دائرة بين الاحتمالات الثلاثة السقام، إما موضوعة عملتها أيدي الوضّاع اللئام، أو ضعاف واهية رواها من وسم بمثل كثرة الغلط والخطأ والأوهام، أو شيء يسير من الصحيح والحسن في زعمه قاصر عن إفادة المرام، كما بين ذلك كله الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في كتابه (الصارم المنكي) وليس فيها من الآيات والأحاديث الصحاح والحسان ما يدل على المطلوب المحكي، وكان حقاً على المؤلف تعاطي واحد مما يذكر، لئلا يعد كلامه مما يهجر وينكر، إما إيراده لأحاديث صحيحة أو حسنة دالة على المطلوب غير ما أورد في الشفاء، أو الإجابة عما تكلم به عليها صاحب الصارم وغيره من الأئمة الأذكياء، وإن لم يفعل هذا ولا ذاك فليس لها فائدة، ولا يؤول هذا الطول إلى منفعة وفائدة، ومن عجائب صنيعه أن المؤلف مع زعمه أنه من جملة المقلدين يستدل بالأدلة الشرعية وهو منصب المجتهدين، فعن لي أن أنبه على ما وقع فيها من مساوىء المفاهيم، وزخارف الأقوال، وأراجيف الاستدلال، لئلا يغتر بها من يقف عليها ممن لا خبرة له بحقائق علم السنة من المتون والرجال، فبالله أستعين وأقول:

" إلى آخر ما قال.

ص: 398

فإذا عرفتَ ما كان من الردود على أقوال ابن دحلان فالتعرض لها في مثل هذا المقام فضول، ومع ذلك نشير إشارة إجمالية إلى الرد عليها، فنقول:

قوله: فمن شبهاته التي تمسك بها زعمه أن الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.. إلخ.

لا أصل له، بل إن له دلائل قطعية من الكتاب والسنة على أن العبادة مختصة بالله تعالى لا يشركه غيره، لقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم: "إذا استعنت فاستعن بالله" إلخ. وبيّن أن مالا يقدر عليه إلا الله فطلبه منه مخ العبادة، فمن صرفه لغيره فلا شك أنه عبد الغير، ومن عبد الغير فقد أشرك على ما سبق فيما نقل عنه من كتاب (كشف الشبهات) .

ثم إنه لم يقل إن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور سائر الأنبياء والصلحاء الزيارة المشروعة شرك بل ندبها واستحبها. نعم إن الزيارة المخالفة لما ورد فهي ليست بمقبولة، كما أنها كذلك عند المحققين من الأئمة، وقد سبق بيان ذلك فيما نقلناه عن شيخ الإسلام، وكذلك التوسل به بمعنى جعله وسيلة والطلب من الله تعالى ليس مما نوزع فيه.

وقوله: وندائهم له.. إلخ؛ قد أسلفنا لك فيما نقلناه من كتاب (كشف الشبهات) .

ثم إنه لم يقل إن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبور سائر الأنبياء والصلحاء الزيارة المشروعة شرك بل ندبها واستحبها. نعم إن الزيارة المخالفة لما ورد فهي ليست بمقبولة، كما أنها كذلك عند المحققين من الأئمة، وقد سبق بيان ذلك فيما نقلناه عن شيخ الإسلام، وكذلك التوسل به بمعنى جعله وسيلة والطلب من الله تعالى ليس مما نوزع فيه.

وقوله: ونداهم له.. إلخ؛ قد أسلفنا لك فيما نقلناه من كتاب (كشف

ص: 399

الشبهات) أن الشفاعة تطلب من الله تعالى، وتقدم تفصيله.

وقوله: وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الخواص والعوام من المؤمنين.. إلخ.

فقد تقدم أيضاً بيان ذلك مفصّلاً في (كشف الشبهات) ، وحاصل ما أسلفناه أن من عبد غير الله شملته نصوص المشركين وإن صام وإن صلى، فلا حاجة إلى تكرير الكلام في هذا المقام، وقد تكلم على هذه الاعتراضات على وجه البسط أيضاً الشيخ عبد الله السندي في رده على ابن دحلان فراجعه إن شئت فإنه مفيد.

ثم إن النبهاني نقل كلام ابن دحلان بجملته، وهو عين ما هذى به في كتابه (الدرر السنية) وما فيها منقول عن (الجوهر المنظم) و (شفاء السقام) وقد عرفت ما كان من الكتابين، وما كان من الرد عليهما فلا نتعب البنان برده.

ثم قال بعد كلام طويل: "إن الذين اعتنوا بالرد على محمد بن عبد الوهاب خلائق لا يحصون من مشارق الأرض ومغاربها من أرباب المذاهب الأربعة في كتب مبسوطة ومختصرة". ثم ذكر أحاديث الزيارة التي سبق الكلام عليها وبها ختم الباب.

أقول: يجاب عن هذا الكلام من وجوه:

الوجه الأول: أن كثيراً من العلماء المحققين انتصروا للشيخ، وردوا على من رد عليه بكتب مفضّلة مفيدة لا يسع المقام ذكرها1.

الوجه الثاني: أن رد كثير من العلماء على الشيخ لا يقتضي بطلان ما كان عليه ولا حقية ما كان عليه خصومه، إنما معيار الحق شهادة الكتاب العزيز والسنة النبوية، وإذا كان قوله وعمله موافقاً للنقلين فلا مبالاة بمخالفة الغير كائناً من كان.

1 انظر "كتب حذّر منها العلماء" للمحقق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان (1/250- وما بعدها) .

ص: 400

إذا رضيت عني كرام عشيرتي

فلا زال غضباناً على لئامها

الوجه الثالث: أن الأمة لم تزل بين راد ومردود، ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم، وكثير من علماء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين قد خالفهم كثير من العلماء. هؤلاء المذاهب الأربعة كل واحد منهم له من المخالفين أكثر من الموافقين، وكل منهم قد رد عليه خصومه بردود مفصلة، وهذا من المسلّمات التي لا يسوغ النزاع فيها، فالشيخ الدحلاني كأنه غضّ طرفه عما جرى بين أئمته وأتباعهم، وما كان من خراب الديار بسبب تنازعهم، ورأى ما اعترض به خصوم ابن عبد الوهاب عليه لما أظهر زيفهم وزيغهم وباطلهم وضلالهم، والحق بيد الشيخ الدحلاني فإنه على جهله قد ادعى الرياسة على قوم لم يميزوا بين يمينهم وشمالهم، وأطاعوه لموافقته لهم على ما ألفوه من الضلال والغي. فإذا علمتَ أقوال هذا الرجل، وتبصّر بها من تبصر تقطعت حبائل ابن دحلان وأمثاله من حزب الشيطان، ثم إنه ليس هو بأول من رد عليه ولا أول من عودي وحسد، ففي البخاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبر ورقة بن نوفل ما رأى قال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً؛ إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أو مخرجي هم"؟ قال: نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً"1. ولو أخذنا نذكر ما جرى على الأئمة طال الكلام.

وقد ذكر الشيخ عبد اللطيف في كتابه (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) كلاماً مفيداً يعلم منه السبب في معاداة الناس لجده الشيخ محمد، ولا بأس بذكره فإنه يرد به على الخصوم، قال عليه الرحمة:"أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وكان الناس قبل مبعثه على أديان متفرقة، ونحل متباينة، وطرائق مختلفة، وضلال مستبين، كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله نظر إلى أهل

1 تقدم تخريجه.

ص: 401

الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب". فقام صلى الله عليه وسلم بأعباء النبوة والرسالة، وصدع بالإنكار على كافة أهل الجهالة والضلالة، ودعى الناس إلى معرفة الله تعالى وتوحيده، وأمرهم بإخلاص الدين لله وتجريده، ولم يزل صلى الله عليه وسلم إلى الله داعياً، وإلى سبيله هادياً، حتى أظهره الله على سائر فرق المشركين، الأميين منهم والكتابيين، واستعلن الدين واستنار، وقهر الإسلام كل مشرك جبار، فأكمل الله للأمة الدين، وأتم النعمة بما جاء به رسوله الأمين، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، وأشرقت الأرض بنور النبوة واهتزت طرباً وابتهاجاً، ومحا الله آثار الأصنام والأوثان، وخمدت معابد الصلبان والنيران، ورفعت أعلام السنة والقرآن، حتى تركهم صلى الله عليه وسلم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يضل سالكها ولا تلتبس عليه مناهجها ومسالكها، ولم يزل خلفاؤه الراشدون ومن بعدهم من تلك الأعصار الفاضلة والقرون على هذا المنهج المنير متفقون، وبعروته مستمسكون، فاستمر الأمر على ذلك، ومضى الصالحون على تلك المناهج الواضحة والمسالك، ثم نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ولم يميز بين شعب الشرك والأصول الإسلامية، فانتقضت من الدين عراه، وعز خلاصه وعظمت بالجهال محنته وبلواه، وآلت الرياسة إلى الجهال والأغمار، وجاءت دولة غربة الدين واشتد الإدبار، فوقع الشرك بالصالحين وغيرهم صرفاً لم يشب، هرم عليه الكبير ونشأ الصغير وشب، واستحكم الأمر استحكاماً لا مزيد عليه، حتى جزم الأكثر بكفر من أنكر ذلك وأشير به إليه، وهذا من أعلام نبوة نبينا المصطفى، زاده الله تعالى صلاة وسلاماً وشرفاً، فقد روى الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1. وجاء نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وفيه زيادة: "وباعاً بباع" وفيه: "حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم

1 أخرجه البخاري (3456) ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 402

جامع أمه في الطريق لفعلتموه"1. وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه2، وشداد بن أوس3، وعن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده4.

فصار الأمر طبق ما أخبر به هذه الأمة نبيها، وظهر وجه الشبه بينهم وبينها، وانتهى الحال إلى أن قيل بالاتحاد والحلول، وكثرت في ذلك إشارات القوم والنقول، وصار هو مذهب الخاصة والخلاصة عند الأكثرين، ومن أنكره فهو عندهم ليس على شيء من العلم والدين، وعُبِدَتْ الكواكب والنجوم، وصُنّف في ذلك مثل أبي معشر وصاحب السر المكتوم، وعُظّمت القبور، وبُنيت عليها المساجد، وعُبدت تلك الضرائح والمشاهد، وجُعِلَتْ لها الأعياد الزمانية والمكانية، وصُرفت لها العبادات المالية والبدنية، ونُحِرَتْ لها النحائر والقرابين، وطاف بها الفوج بعد الفوج من الزائرين والسائلين، وحَلَقَتْ لأربابها رؤوس الوافدين، وهتف بدعائها ورجائها من حضر أو غاب من المعتقدين والمحبين، واعتمدوا عليها في المهمات من دون الله رب العالمين، وانتهكت بأعيادها وموالدها محظورات الشريعة والمحرمات، واسْتُبيح فيها ما اتفق على تحريمه جميع الشرائع والنبوات، وكثر المكاء والتصدية بتلك الفجاج والعرصات، وبارزوا بتلك القبائح والعظائم فاطر الأرض والسموات، وصنف في استحبابه بعض شيوخهم كابن المفيد، وظنه الأكثر من دين الإسلام والتوحيد، وأشير إلى من أنكره بالكفر الشديد، وقد ضمن الله تعالى لهذه الأمة أن لا تجتمع على ضلالة، وأن لا يزال فيها من يعبد الله تعالى قائماً على أي وصف وحالة، وجاء الحديث بأنه تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها أمر الدين، ويقوم من الحجة بالواضح المستبين، فمنهم من قص علينا نبؤه ووصل، ومنهم

1 أخرجه الحاكم (4/455) والبزار (3285-كشف الأستار) . وانظر "الصحيحة"(3/334/1348) .

2 أخرجه البخاري (7319) .

3 أخرجه ابن الجعد في "مسنده"(3424) والآجري في "الشريعة"(1/134/36) بإسناد ضعيف، لكن الحديث صحيح بشواهده.

4 أخرجه الآجري (1/134/35) بإسناد ضعيف جداً.

ص: 403

من انقطع عنا خبره وما اتصل، وأحق أهل القرن الثاني عشر- عند من خبر الأمور وسبر، ووقف على ما قرره أهل العلم والأثر، من حصول الوصف الكاشف المعتبر- شيخ الإسلام والمسلمين، المجدد لما درس من أصول الملة والدين، السّلفي الأول- وإن تأخر زمانه- عند من عقل وتأمل؛ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى وأجزل له الثواب، وكان قيامه رحمه الله تعالى بعد الخمسين ومائة وألف من سني الهجرة المحمدية، وابتداء التواريخ الإسلامية، فشمر رحمه الله تعالى عن ساعدي جده واجتهاده، وأعلن بالنصح لله ولكتابه ولرسوله وسائر عباده، وصبر على ما ناقله من أعباء تلك الرتبة والدعوة، وما قصد به من أنواع المحنة والجفوة، وقرر رحمه الله تعالى أن الواقع الذي حكينا، والصنيع الذي رأينا وروينا، عن عباد القبور والصالحين، هو بعينه فعل الجاهلية الوثنيين، وهو الذي جاءت الرسل بمحوه وإبطاله، وتكفير فاعله ورد باطله ومحاله، وقال إن حقيقة دين الإسلام وزبدة ما جاءت به الرسل الكرام: هو إفراد الله تعالى بالقصد والعبادة، وإسلام الوجه له بالعمل والإرادة، وترك التعلق على الأولياء من دونه والأنداد، والبراءة من عبادة ما سواه من سائر المخلوقات والعباد، وهذا معنى كلمة الإخلاص والتوحيد، وهو الحكمة المقصودة بخلق جميع الكائنات والعبيد، وقرر رحمه الله أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادة مع مخالفة ما دلت عليه الأصول المقررة ومع الشرك الأكبر في العبادة لا يدخل المكلف في الإسلام، إذ المقصود من الشهادتين حقيقة الأعمال التي لا يقوم الإيمان بدونها، كمحبة الله وحده، والخضوع له، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإفراده بالاستعانة، والاستغاثة فيما لا يقدر عليه سواه، وعدم الإشراك به فيما يستحقه من العبادات، كالذبح والنذر والتقوى والخشية ونحو ذلك من الطاعات.

واستدل لذلك بنصوص قاطعة، وبراهين واضحة ساطعة، وحكى الإجماع على ذلك عن الأئمة الفضلاء، والسادة النبلاء، من سائر أهل الفقه والفتوى، وذكر عبارة من حكى الإجماع من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وألف في ذلك التأليف، وقرر الحجة وصنف التصانيف، وقد عارضه من الغلاة المارقين، ومن

ص: 404

الدعاة إلى عبادة الأولياء والصالحين أناس من أهل وقته، فباؤوا بغضب الله ومقته، وأظهره الله عليهم بعد الامتحان، وحقت كلمة ربك على أهل الكفر والطغيان، وهذه سنة الله التي قد خلت من قبل، وحكمته التي يظهر بها ميزان الفضل والعدل، وقد جمع أعداؤه شبهات في رد ما أبداه، وجحد ما قرره وأملاه، واستعانوا بملئهم من العجم والعرب، ونسبوه إلى ما يستحي من ذكره أهل العقل والأدب، فضلاً عن ذوي العلوم والرتب، وزعموا أنه خارجي مخالف للسنة والجماعة، كمقالة أسلافهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صابئي صاحب إفك وصناعة" انتهى ما قصدنا نقله من الكلام.

ثم إن النبهاني عقد باباً رابعاً نقل فيه على زعمه أقوال علماء المذاهب الأربعة في الرد على ابن تيمية، والكلام على بعض كتبه، ومخالفته أهل السنة في بعض المسائل المهمة، ومنها اعتقاد الجهة في جانب الله تعالى وتقدس.

قال: "فممن عاصره الإمام صدر الدين ابن الوكيل العروف بابن مرحل الشافعي1 وقد ناظره".

أقول ومن الله المدد والإعانة: هذا الباب هو عمدة أبواب كتاب النبهاني وبيت قصيده، ولأجل ذكره ألّف كتابه، فإن الغلاة بغضهم لشيخ الإسلام ابن تيمية مما لا شبهة فيه، والنبهاني في هذا من حثالتهم وفضلاتهم، فلا شك أنه من أشد الناس عداوة لهذا الإمام، لأن غالب كتبه في الرد على المبتدعة وأهل الزيغ والضلال والإلحاد.

ثم إنه ذكر ابن الوكيل قبل كل أحد من أعداء الشيخ لأنه كان عريقاً في البدع، مبغضاً للسنة النبوية، وكان من غلاة الشافعية أيضاً، وقعت بينه وبين شيخ الإسلام قدس الله روحه مناظرات، وقد أثار عليه فتناً كثيرة.

1 هو محمد بن عمر بن مكي صدر الدين المعروف بابن المرحل أو ابن الوكيل. ولد سنة (665) وتوفي سنة (710) .

انظر: ترجمته في "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/233/519) و"طبقات الشافعية" لابن السبكي (6/23- 28) و"البداية والنهاية"(14/80) و"النجوم الزاهرة"(9/233) .

ص: 405

وقد رأيت أن أذكر ما كان من المناظرة بين الشيخ وخصومه ليتبين للناظر أعداؤه من محبيه، ورأيت رسالة من جملة "الرسائل الكبرى" التي طبعت حديثاً في مصر مشتملة على بيان مناظرته، ورأيت فيها تحريفاً كثيراً ونقصاناً، مع أن الشيخ ألف كتاباً فيما عقد له من المجالس وما جرى له فيها، فأحببت أن أذكر ما وجدته من ذلك، ليكون المصنف على بصيرة من أمره، وكلام صاحب الواقعة أصح من غيره، ولذلك أتحفت أهل العلم بذكرها لما اشتملت عليه من الفوائد الغزيرة، والمسائل الكثيرة.

ص: 406

(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية)

1 (وهي من مصنفاته رضي الله تعالى عنه)

قال بعد البسملة: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ظهير ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله إلى الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وعلى سائر عباد الله الصالحين.

أما بعد؛ فقد سئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة في أمر الاعتقاد، بمقتضى ما ورد من كتاب ذي السلطان من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد، لما سعى إليه قوم من الجهمية والاتحادية والرافضة وغيرهم من ذوي الأحقاد، فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة، قضاة المذاهب الأربعة وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشايخ ممن له حرمة وبه اعتداد، وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد، وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة، فقال لي: هذا المجلس عقد

1 وهي ضمن "مجموع الفتاوى"(3/160- وما بعدها) . وطبعت مستقلة عدة مرات. وشرحها وعلّق عليها كثير من أهل العلم.

ص: 406

لك، فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك وعما كتبت به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد، وأظنه قال: وأن أجمع القضاة والفقهاء ويتباحثون في ذلك.

فقلت: أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم، وأما الكتب فما كتبت إلى أحد كتاباً ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكني كتبت أجوبة أجبت بها من سألني من أهل الديار المصرية وغيرهم، وكان قد بلغني أنه زوّر عليّ كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير أستاذ ذي السلطان يتضمن ذكر عقيدة محرفة ولم أعلم بحقيقته لكن علمت أنه مكذوب.

وكان يرد علي من مصر وغيرها من يسألني عن مسائل في الاعتقاد فأجبته بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، فقال: نريد أن تكتب لنا عقيدتك فقلت اكتبوا.

فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب؛ فكتب له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات والقدر، ومسائل الإيمان، والوعيد، والإمامة، والتفضيل، وهو أن اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، والإيمان بأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه أمر بالطاعة وأحبها ورضيها، وونهى عن المعصية وكرهها، والعبد فاعل حقيقة، والله خالق فعله، وأن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص، وأن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بالذنوب، ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحداً، وأن أفضل الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ومن قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وذكرت هذا أو نحوه، فإني الآن قد بعد عهدي ولم أحفظ لفظ ما أمليته، لكنه كتب إذ ذاك.

ص: 407

ثم قلت للأمير والحاضرين: أنا أعلم أن أقواماً يكذِبُونَ عليَّ كما قد كذبوا غير مرة، وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون كتم بعضه أو داهن ودارى، فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين قبل أن يجيء التتر إلى لشام.

وقلت قبل حضورها كلاماً قد بعد عهدي به، وغضضت غضباً شديداً، لكني أذكر أني قلت أنا أعلم أن أقواماً كذبوا عليَّ، وقالوا للسلطان أشياء وتكلمت بكلام احتجت إليه، مثل أن قلت من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري، ومن الذي أوضح دلائله وبينه وجاهد أعداءه وأقامه لما مال حين تخلى عنه كل أحد، ولا أحد ينطق بحجته ولا أحد يجاهد عنه، وقمت مظهراً الحجة مجاهداً عنه مرغباً فيه، فإذا هؤلاء يطمعون في الكلام فيَّ فكيف يصنعون بغيري، ولو أن يهودياً طلب من السلطان الأنصاف لوجب عليه أن ينصفه، وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو بل أطلب الأنصاف منه، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليكافؤوا على افترائهم، وقلت كلاماً أطول من هذا الجنس لكن بعد عهدي به.

فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محي الدين بأن يكتب في ذلك، وقلت أيضاً: كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه، وما أدري هل قلت هذا قبل حضورها أو بعده، لكن قلت أيضاً بعد حضورها وقرائتها ما ذكرت فيها فصلاً إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف، ثم أرسلت من أحضرها ومعه كراريس بخطي من المنزل، فحضرت العقيدة الواسطية، وقلت لهم: هذه كان سبب كتابتها أنه قدم عليَّ من أرض واسط بعض قضاة نواحيها شيخ يقال له رضي الدين الواسطي من أصحاب الشافعي، قدم علينا حاجاً وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد في دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيت من ذلك، وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة فخذ بعض عقائد أئمة السنة، فألح في السؤال وقال ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر، وقد انتشرت بها نسخ

ص: 408

كثيرة في مصر والعراف وغيرهما، فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا لرفع الريبة، وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين فقرأها على الحاضرين حرفاً حرفاً، والجماعة الحاضرون يسمعونها ويورد المورد منهم ما شاء ويعارض فيما شاء، والأمير أيضاً سأل عن مواضع فيها، وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف والهوى ما قد علم الناس بعضه، وبعضه بسبب الاعتقاد وبعضه بغير ذلك، ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام والمناظرات في هذه المجالس، فإنه كثير لا ينضبط لكن اكتب ملخص ما حضرني من ذلك مع بعد العهد بذلك، ومع أنه كان يجري رفع أصوات ولغط لا ينضبط.

فكان مما اعترض عليه بعضهم لما ذكر في أولها: ومن الإيمان بالله؛ الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. فقال: ما المراد بالتحريف والتعطيل؟ ومقصوده أن هذا ينفي التأويل الذي أثبته أهل التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إما وجوباً وإما جوازاً، فقلت: تحريف الكلم عن مواضعه، كما ذمه الله تعالى في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1 جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً، ومثل تأويلات القرامطة والباطنية وغيرهم من الجهمية والرافضة والقدرية وغيرهم، فسكت وفي نفسه ما فيها.

وذكرت في غير هذا المجلس أني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة، فبينت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات، لأنه لفظ له عدة معان، كما بينته في موضعه من القواعد، فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه، وغير معنى [لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير] ،

1 سورة النساء: 164.

ص: 409

وكان أحب إليّ من لفظ ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، وإن كان قد يعني بنفيه معنى تسمى تأويلاً ما هو صحيح منقول عن بعض السلف فلم أنف ما تقوم به الحجة على صحته، إذ ما قامت الحجة على صحته وهو منقول عن السلف فليس من التحريف.

وقلت لهم أيضاً: ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه، حيث قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1. وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2. وكان أحب إليّ من لفظ ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيح كما قد يعني به معنى فاسد، ولما ذكرت أنهم لا ينفون عنه ما وصف به نفسه ويحرفون الكلم عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وآياته جعل بعض الحاضرين يتمعض من ذلك لاستشعاره ما في ذلك من الرد الظاهر عليه، ولكن لم يتوجه له ما يقوله، وأراد أن يدور بالأسئلة التي أعلمها فلم يتمكن لعلمه بالجواب.

ولما ذكرت آية الكرسي أظنه سأل الأمير عن قولنا: لا يقر به شيطان حتى يصبح؛ وذكرت حديث أبي هريرة في الذي كان يسرق صدقة الفطر، وذكرت أن البخاري رواه في صحيحه3. وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم، ويطنبون في هذا، ويعرضون لما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك.

وقلت: قولي من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل، وإنما اخترتُ هذين الاسمين لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف، كما قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" فاتفق هؤلاء السلف على أن التكييف غير معلوم لنا، فنفيت ذلك اتباعاً لسلف الأمة، وهو أيضاً منفيٌّ بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف وحقيقة صفاته، وهذا من التأويل الذي

1 سورة الشورى: 11.

2 سورة مريم: 65.

3 برقم (2311) .

ص: 410

لا يعلمه إلا الله، كما قد قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في التأويل، والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله.

وكذلك التمثيل منفيّ بالنص، والإجماع القديم، مع دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف، إذ كنه الباري غير معلوم للبشر، وذكرت في ضمن ذلك الخطأ الذي نقل أنه مذهب السلف وهو إجراء الصفات وأحاديث الصفات على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها إذ الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف؛ فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف.

وقال أحد كبار المخالفين: فحينئذ يجوز أن يقال هو جسم لا كالأجسام.

فقلت له أنا وبعض الفضلاء الحاضرين: إنما قيل أنه يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا السؤال.

وأخذ بعض القضاة المعروفين بالديانة يريد إظهار أن ينفي عنا ما يقول وينسبه البعض إلينا فجعل يريد المبالغة في نفي التشبيه والتجسيم، فقلت: ذكرت فيها في غير موضع من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

وقلت في صدرها: ومن الإيمان بالله؛ الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصف به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

ثم قلت: وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك. إلى أن قلت: إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط

ص: 411

في الأمم، فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية وبين أهل التمثيل المشبهة.

ولما رأى هذا الحاكم العدل ممالأتهم وتعصّبهم، ورأى قلة العارف الناصر وخافهم؛ قال: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فتقول هذا اعتقاد أحمد؟ يعني والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه، فإن هذا مذهب متبوع، وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم. فقلت: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجيء به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم.

وقلت مرات: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:"خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"- يخالف ما ذكرناه فأنا أرجع عن ذلك، وعلى أن آتي بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة يوافق ما ذكرناه، من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث والصوفية وغيرهم.

وقلت أيضاً في غير هذا المجلس: الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لما انتهى إليه من السنة ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما انتهى إلى غيره، وابتلي بالمحنة والرد على أهل البدع أكثر من غيره؛ كان كلامه وعلمه في هذا الباب أكثر من غيره، فصار إماماً في السنة أظهر من غيره، وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة العلماء الصلحاء، قال: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد بن حنبل، يعني أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام، وإن كان لبعضهم من الزيادة أو البيان أو إظهار الحق ودفع الباطل ما ليس لبعض.

ولما جاء فيها: وما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل العلم بالقبول، ولما جاء حديث أبي سعيد- المتفق عليه في

ص: 412

الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله يوم القيامة: يا آدم؛ فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعثاً إلى النار" الحديث-1 سألهم الأمير: هل الحديث صحيح؟ فقلت: نعم هو في الصحيحين، ولم يخالف في ذلك أحد، واحتاج المنازع إلى الإقرار به ووافق الجماعة على ذلك.

وطلب الأمير الكلام في مسألة الحرف والصوت، لأن ذلك طلب منه، فقلت: هذا الذي يحكيه كثير من الناس عن الإمام أحمد وأصحابه أن صوت القارئين ومداد المصاحف قديم أزلي- كما نقله مجد الدين الخطيب وغيره- كذب مفترى، لم يقل ذلك أحمد، ولا أحد من علماء المسلمين، لا من أصحاب أحمد ولا غيرهم، وأخرجت كراساً قد أحضرته مع العقيدة فيه ألفاظ أحمد مما ذكره الشيخ أبو بكر الخلال في (كتاب السنة) عن الإمام أحمد، وما جمعه صاحبه أبو بكر المروزي من كلام الإمام أحمد، وكلام أئمة زمانه وسائر أصحابه، فإن من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع.

قلت: وهذا هو الذي نقله الأشعري في كتاب "المقالات" عن أهل السنة وأصحاب الحديث. وقال: إنه يقول به. قلت: فكيف بمن يقول لفظي قديم؟ فكيف بمن يقوله صوتي غير مخلوق؟ فكيف بمن يقول صوتي قديم؟ ونصوص الإمام أحمد: في الفرق بين تكلم الله بصوت وبين صوت العبد، كما نقله البخاري صاحب الصحيح في كتاب (خلق أفعال العباد) وغيره من أئمة السنة.

وأحضرت جواب مسألة، كنت سئلت عنها قديماً فيمن حلف بالطلاق في مسألة الحرف والصوت، ومسألة الظاهر في العرش، فذكرت من الجواب القديم في هذه المسألة وتفصيل القول فيها وإن إطلاق القول إن القرآن هو الحرف والصوت أو ليس بحرف ولا صوت كلاهما بدعة حدثت بعد المائة الثالثة، وقلت: هذا جوابي، وكانت هذه المسألة قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة ممن كان بعضهم حاضراً في المجلس، فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم، وكانوا قد

1 أخرجه البخاري (3348) ومسلم (222) .

ص: 413

ظنوا أنه إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله حصل مقصودهم من الشناعة، وإن أجبت بما يقولونه هم حصل مقصودهم من الموافقة، فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة وليس هو كما يقولونه هم ولا ما ينقلونه عن أهل السنة أو قد يقوله بعض الجهال بهتوا لذلك، وفيه أن القرآن كله كلام الله حروفه ومعانيه، ليس القرآن اسماً لمجرد الحروف ولا لمجرد المعاني.

وقلت في ضمن الكلام لصدر الدين ابن الوكيل- لبيان كثرة تناقضه وأنه لا يستقر على مقالة واحدة، وإنما يسعى في الفتن والتفريق بين المسلمين- عندي عقيدة للشيخ أبي البيان فيها أن من قال إن حرفاً من القرآن مخلوق فقد كفر، وقد كتبت عليها بخطك أن هذا مذهب الشافعي وأئمة أصحابه، وأنك تدين الله بها، فاعترف بذلك، فأنكر عليه الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني ذلك. فقال ابن الوكيل: هذا نص الشافعي وراجعه في ذلك مراراً، فلما اجتمعنا في المجلس الثاني ذكر لابن الوكيل أن ابن درباس نقل في كتاب "الانتصار" عن الشافعي مثل ما نقلت، فلما كان في المجلس الثالث أعاد ابن الوكيل الكلام في ذلك، فقال الشيخ كمال الدين لصدر الدين بن الوكيل: قد قلت في ذلك المجلس للشيخ تقي الدين إنه من قال إن حرفاً من القرآن مخلوق فهو كافر، فأعاده مراراً، فغضب هنا الشيخ كمال الدين غضباً شديداً ورفع صوته، وقال: هذا يكفّر أصحابنا المتكلمين الأشعرية، الذين يقولون إن حروف القرآن مخلوقة مثل إمام الحرمين وغيره، وما نصبر على تكفير أصحابنا، فأنكر ابن الوكيل أنه قال ذلك، وقال: ما قلت: إن من أنكر حرفاً من القرآن فقد كفر، فرد ذلك عليه الحاضرون، وقالوا: ما قلت إلا كذا وكذا، وقالوا: ما ينبغي لك أن تقول قولاً وترجع عنه. وقال بعضهم: ما قال هذا. فلما حرفوا؛ قال: ما سمعناه قال هذا، حتى قال نائب السلطان واحد يكذب، وآخر يشهد، والشيخ كمال الدين مغضب، فالتفت إلى قاضي القضاة نجم الدين الشافعي يستصرخه للانتصار على ابن الوكيل حيث كفر أصحابه، فقال القاضي نجم الدين: ما سمعت هذا، فغضب الشيخ كمال الدين وقال كلاماً لم أضبط لفظه إلا أن معناه: إن هذا غضاضة على الشافعي، وعار عليهم أن أئمتهم يكفرون ولا

ص: 414

ينتصر لهم، ولم أسمع من الشيخ كمال الدين ما قال في حق القاضي نجم الدين، واستثبت غيري ممن حضر هل سمع منه في حقه شيئاً فقالوا لا، لكن القاضي اعتقد أن التعبير لأجله ولكونه قاضي المذهب ولم ينتصر لأصحابه وأن الشيخ كمال الدين قصده بذلك فغضب قاضي القضاة نجم الدين، وقال اشهدوا عليّ أني عزلت نفسي، وأخذ يذكر ما يستحق به التقديم والاستحقاق وعفته عن التكلم في أعراض الجماعة، ويستشهد بنائب السلطان في ذلك، وقلت له كلاماً مضمونه تعظيمه واستحقاقه لدوام المباشرة في هذه الحال.

ولما جاءت مسألة القرآن، ومن الإيمان به الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود؛ نازع بعضهم في كونه منه بدأ وإليه يعود وطلبوا تفسير ذلك. فقلت: أما هذا القول فهو المأثور الثابت عن السلف، مثل ما نقله عمرو بن دينار، قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن؛ فإنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

وقد جمع غير واحد ما في ذلك من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، كالحافظ أبي الفضل بن ناصر، والحافظ أبي عبد الله المقدسي.

وأما معناه: فإن قولهم منه بدأ، أي: هو المتكلم به وهو الذي أنزله من لدنه، ليس هو كما تقوله الجهمية أنه خلق في الهواء أو غيره وبدا من عند غيره، وأما إليه يعود فإنه يسري به في آخر الزمان من المصاحف والصدور، فلا يبقى في الصدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف، ووافق على ذلك غالب الحاضرين وسكت المنازعون.

وخاطبت بعضهم في غير هذا المجلس بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادري وفيها: أنه كلام الله خرج منه، فتوقف في هذا اللفظ. فقلت: هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه" يعني القرآن1.

1 أخرجه أحمد (5/268) والترمذي (2911) وغيرهما، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1957) .

ص: 415

وقال خباب بن الأرت: يا هذا؛ تقرب إلى الله بما استطعت، فلن يتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه. وقال أبو بكر الصديق لما قرأ قرآن مسيلمة الكذاب: إن هذا الكلام لم يخرج من إلَّ؛ يعني: رب.

وجاء فيها: ومن الإيمان به؛ الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً. فتمعض بعضهم من إثبات كونه كلام الله حقيقة بعد تسليمه أن الله تعالى تكلم به حقيقة، ثم إنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه وهذا لا يصح نفيه، ولما بين له أن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم وشعر الشعراء المضاف إليهم هو كلامهم حقيقة فلا يكون شبه القرآن بأقل من ذلك، فوافق الجماعة كلهم على ما ذكر في مسألة القرآن، وأن الله متكلم حقيقة، وأن القرآن كلام الله حقيقة لا كلام غيره.

ولما ذكر فيها أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً؛ استحسنوا هذا الكلام وعظموه، وأخذ أكبر الخصوم يظهر تعظيم هذا الكلام كابن الوكيل وغيره، وأظهر الفرج بهذا التلخيص، وقال: إنك قد أزلت عنا هذه الشبهة، وشفيت الصدور، ويذكر شيئاً من هذا النمط.

ولما جاء ما ذكر من الإيمان باليوم الآخر وتفصيله ونظمه استحسنوا ذلك وعظموه، وكذلك لما جاء ذكر الإيمان بالقدر وأنه على درجتين، إلى غير ذلك من القواعد الجليلة، وكذا لما جاء ذكر الكلام في الفاسق الملي وفي الإيمان، لكن اعترضه على ذلك بما سأذكره، وكان ما اعترض به المنازعون المعاندون بعد انقضاء قراءة جميعها والبحث فيها عن أربعة أسئلة.

الأول: قولنا: ومن أصول الفرقة الناجية أن الإيمان والدين قول وعمل،

ص: 416

يزيد وينقص، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.

قالوا: إذا قيل: إن هذا من أصول الفرقة الناجية خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل ذلك، مثل أصحابنا المتكلمين، الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق، ومن يقول الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا لم يكونوا من الناجين لزم أن يكونوا هالكين.

وأما الأسئلة الثلاثة؛ وهي التي كانت عمدتهم فأوردوها على قولنا: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله في كتابه، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فوق سمواته على عرشه عليّ على خلقه، وهو معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 وليس معنى قوله: (وهو معكم) أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر أينما كان وغير المسافر، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله تعالى من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة.

السؤال الثاني: قال بعضهم: نقرّ باللفظ الوارد، مثل حديث س العباس، حديث الأوعال، والله فوق العرش، ولا نقول فوق السموات، ولا نقول على العرش استوى، ولا نقول مستو. وأعادوا هذا المعنى مراراً أن اللفظ الذي ورد يقال اللفظ بعينه، ولا يبدل بلفظ يرادفه، ولا يفهم له معنى أصلاً، ولا يقال إنه

1 سورة الحديد: 4.

ص: 417

يدل على صفة لله أصلاً، ويبسط الكلام في هذا في المجلس الثاني كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

السؤال الثالث: قالوا: التشبيه بالقمر فيه تشبيه كون الله في السماء بكون القمر في السماء.

السؤال الرابع: قالوا: قولك: حق على حقيقته؛ الحقيقة هي المعنى اللغوي، ولا نفهم من الحقيقة اللغوية إلا استواء الأجسام وفوقيتها، ولم تضع العرب ذلك إلا لها، فإثبات الحقيقة هو محض التجسيم، ونفي التجسيم مع هذا تناقض ومصانعة.

فأجبتهم عن الأسئلة؛ بأن قولي: اعتقاد الفرقة الناجية؛ هي الفرقة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة، حيث قال:"تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"1. فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية، فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال: الإيمان يزيد وينقص. وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه، وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك.

ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد تكون هل من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً، وقد لا يكون ناجياً، كما يقال:"من صمت نجا".

وأما السؤال الثاني؛ فأجبتهم أولاً: بأن كل لفظ قلته فهو مأثور عن

1 تقدم تخريجه.

ص: 418

النبي صلى الله عليه وسلم، مثل لفظ فوق السموات، ولفظ على العرش، وفوق العرش. وقلت: اكتبوا الجواب، فأخذ الكاتب في كتابته، ثم قال بعض الجماعة قد طال المجلس اليوم فيؤخر هذا إلى مجلس آخر، وتكتبون أنتم الجواب وتحضرونه في ذلك المجلس، فأشار بعض الموافقين بأن يتمم الكلام بكتابة الجواب، لئلا تنتشر أسئلتهم واعتراضهم، وكان الخصوم لهم غرض في تأخير كتابة الجواب، ليستعدوا لأنفسهم ويطالعوا ويحضروا من غاب من أصحابهم، ويتأملوا العقيدة فيما بينهم، ليتمكنوا من الطعن والاعتراض، فحصل الاتفاق أن يكون تمام الكلام يوم الجمعة، وقمنا على ذلك، وقد أظهر الله من قيام الحجة وبيان المحجة ما أعز به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة.

وفي نفوس كثير من الناس أمور لم تحدث في المجلس الثاني، وأخذا في تلك الأيام يتأملونها ما أجبت به في مسائل تتعلق بالاعتقاد مثل (المسألة الحموية في الاستواء والصفات الخبرية) وغيرها.

قال عليه الرحمة: (فصل) فلما كان المجلس الثاني يوم الجمعة في اثني عشر رجب وقد أحضروا أكثر شيوخهم ممن لم يكن حاضراً ذلك المجلس، وأحضروا معهم زيادة صفي الدين الهندي، وقالوا: هذا أفضل الجماعة وشيخهم في علم الكلام، وبحثوا فيما بينهم، واتفقوا وتواطؤوا، وحضروا بقوة واستعداد للمخاطب الذي هو المسؤول والمجيب والمناظر. فلما اجتمعنا- وقد أحضرت ما كتبته من الجواب عن أسئلتهم المتقدمة التي طلبوا تأخيره إلى اليوم- حمدت الله بخطبة الحاجة خطبة ابن مسعود رضي الله عنه، ثم قلت: إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن الفرقة والاختلاف، وقال لنا في القرآن:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 2 وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} 3.

1 سورة آل عمران: 103.

2 سورة الأنعام: 159.

3 سورة آل عمران: 105.

ص: 419

وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفني بعد ذلك كشفت الأسرار، وهتكت الأستار، وبينت المذاهب الفاسدة التي أفسدت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور مالا أقوله في هذا المجلس، فإن للسلم كلاماً، وللحرب كلاماً. وقلت: لا شك أن الناس يتنازعون؛ يقول هذا: أنا حنبلي، ويقول هذا: أنا أشعري. ويجري بينهم تفرق وفتن واختلاف على أمور لا يعرفون حقيقتها، وأنا قد أحضرت ما يبين اتفاق المذاهب فيما ذكرته، وأحضرت كتاب (تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري) رضي الله عنه، تأليف الحافظ أبي القاسم ابن عساكر رحمه الله، وقلت: لم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة كتاب مثل هذا، وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في كتابه (الإبانة) .

فلما انتهيت إلى ذكر المعتزلة سأل الأمير عن معنى المعتزلة، فقلت: كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملّي- وهو من أول اختلاف حدث في الملة- هل هو كافر أو مؤمن، فقالت الخوارج: إنه كافر، وقالت الجماعة: إنه مؤمن، وقالت طائفة: تقول هو فاسق لا مؤمن ولا كافر، ننزله منزلة بين المنزلتين، وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه رحمه الله تعالى فسموا معتزلة.

وقال الشيخ الكبير بجبته وردائه: ليس كما قلت، ولكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون مسألة الكلام، وسمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك، وكان أول من قالها عمرو بن عبيد، ثم خلف بعد موته عطاء بن واصل.

هكذا قال، وذكر نحواً من هذا.

فغضبت عليه، وقلت: أخطأت؛ وهذا كذب مخالف للإجماع. وقلت له:

ص: 420

لا أدب ولا فضيلة، لا تأدبت معي في الخطاب، ولا أصبت في الجواب.

ثم قلت: الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلافة المأمون، وبعدها في أواخر المائة الثانية، وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير من زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية، ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ولا تنازعوا فيها، وإنما أول بدعتهم تكلمهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعيد. فقال: هذا ذكره الشهرستاني في كتاب (الملل والنحل) فقلت الشهرستاني ذكره في اسم المتكلمي لِمَ سموا متكلمين، لم يذكره في اسم المعتزلة، والأمير إنما سأل عن اسم المعتزلة. وأنكر الحاضرون عليه وقالوا: غلطت.

وقلت في ضمن كلام: أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام وأول من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها. وأيضاً فما ذكره الشهرستاني ليس بصحيح في اسم المتكلمين، فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا الاسم قبل منازعتهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء إنه متكلم، ويصفونه بالكلام، ولم يكن الناس اختلفوا في مسألة الكلام، وقلت أنا وغيري: إنما هو واصل بن عطاء، أي: لا عطاء بن واصل كما ذكره المعترض.

قلت: وواصل لم يكن بعد موت عمرو بن عبيد وإنما كان قرينه، وقد روي أن واصلاً تكلم مرة بكلام فقال عمرو بن عبيد: لو بعث نبياً ما كان يتكلم بأحسن من هذا. وفصاحته مشهورة؛ حتى قيل: إنه كان ألثغ وكان يحترز عن الراء، حتى قيل له أمر الأمير أن يحفر بئر، فقال: أوعز القائد أن يقلب قليب.

ولما انتهى الكلام إلى ما قاله الأشعري قال الشيخ المقدم فيهم: لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر من أكبر أئمة الإسلام لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء، فقلت: أما هذا فحق، وليس هذا من خصائص أحمد، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام هو منهم بريء، قد انتسب إلى مالك أناس مالك بريء منهم، وانتسب إلى الشافعي أناس هو بريء منهم، وانتسب إلى أبي حنيفة

ص: 421

أناس هو بريء منهم، وقد انتسب إلى موسى عليه السلام أناس هو منهم بريء، وانتسب إلى عيسى عليه السلام أناس هو منهم بريء، وقد انتسب إلى علي بن أبي طالب أناس هو بريء منهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف الملحدة والمنافقين من هو بريء منهم.

وذكر في كلامه أنه انتسب إلى أحمد من الحشوية والمشبهة ونحو هذا الكلام.

فقلت: المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، هؤلاء أصناف: الأكراد كلهم شافعية وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية، قلت: وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم، وكان من تمام الجواب أن الكرامية المجسمة كلهم حنفية.

وتكلمت على لفظ الحشوية -ما أدري جواباً عن سؤال الأمير أو غيره أو غير جواب- فقلت هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة، فإنهم يسمون الجماعة والسواد الأعظم الحشو، كما تسميهم الرافضة الجمهور1، وحشو الناس هم عموم الناس وجمهورهم، وهم غير الأعيان المتميزين، يقولون هذا من حشو الناس، كما يقال هذا من جمهورهم، وأول من تكلم بهذا عمرو بن عبيد، قال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه حشوياً، فالمعتزلة سموا الجماعة حشواً كما تسميهم الرافضة الجمهور.

وقلت- لا أدري في المجلس الأول أو الثاني- أول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي.

وقلت لهذا الشيخ: من في أصحاب الإمام أحمد رحمه الله حشوي بالمعنى الذي تريده؟ الأثرم، أبو داود، المروزي، الخلال، أبو بكر عبد العزيز، أبو الحسن التميمي، ابن حامد، القاضي أبو يعلى، أبو الخطاب، ابن عقيل؟ ورفعت

1 وكذلك يسمونهم (العامة) !

ص: 422

صوتي، وقلت سمّهم، قل لي من هم؟ من هم؟ أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة وتندرس معالم الدين؟ كما نقل هو وغيره عنهم أنهم يقولون إن القرآن القديم هو أصوات القارئين ومداد الكاتبين، وإن الصوت والمداد قديم أزلي من قال هذا؟ وفي أيّ كتاب وجد هذا عنهم قل لي؟ وكما نقل عنهم أن الله لا يرى في الآخرة باللزوم الذي ادعاه والمقدمة التي نقلها، وأخذت أذكر ما يستحقه هذا الشيخ من أنه كبير الجماعة وشيخهم وأن فيه من العقل والدين ما يستحق أن يعامل بموجبه.

وأمرت بقراءة العقيدة جميعها عليه، فإنه لم يكن حاضراً في المجلس الأول، وإنما أحضروه في الثاني انتصاراً، وحدثني الثقة عنه بعد خروجه من المجلس؟ أنه اجتمع به وقال له: أخبرني عن هذا المجلس فقال: ما لفلان ذنب ولا لي، فإن الأمير سأل عن شيء فأجابه عنه فظننته سأل عن شيء آخر، وقال: قلت أنتم مالكم على الرجل اعتراض، فإنه نصر ترك التأويل وأنتم تنصرون قول التأويل، وهما قولان للأشعري وقال: أنا أختار قول ترك التأويل، وأخرج وصيته التي أوصى بها وفيها قولي ترك التأويل.

قال الحاكي لي: فقلت له بلغني عنك أنك قلت في آخر المجلس لما أشهد الجماعة على أنفسهم بالموافقة لا تكتبوا عني نفياً ولا إثباتاً فلم ذاك؟ فقال: لوجهين: (أحدهما) : أني لم أحضر قراءة جميع العقيدة في المجلس الأول. (والثاني) : لأن أصحابي طلبوني لينتصروا بي فما كان يليق أن أظهر مخالفتهم فسكت عن الطائفتين.

وأمرت غير مرة أن يعاد قراءة العقيدة جميعها على هذا الشيخ، فرأى بعض الجماعة أن ذلك تطويل، وأنه لا يقرأ عليه إلا الموضع الذي لهم عليه سؤال، وأعظموه لفظ الحقيقة، فقرأوه عليه، فذكر هو بحثاً حسناً يتعلق بدلالة اللفظ، فحسنته ومدحته عليه، وقلت: لا ريب أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، سميع حقيقة، بصير حقيقة، وهذا متفق عليه بين أهل السنة والصفاتية من جميع الطوائف، ولو نازع بعض أهل البدع في بعض ذلك فلا ريب أن الله موجود

ص: 423

والمخلوق موجود، ولفظ الوجود سواء كان مقولاً عليهما بطريق الاشتراك الاشتراك اللفظي، أو بطريق التواطىء المتضمن للاشتراك لفظاً ومعنى، أو بالتشكيك الذي هو نوع من التواطىء، فعلى كل قول فالله موجود حقيقة، والمخلوق موجود حقيقة، ولا يلزم من إطلاق الاسم على الخالق والمخلوق بطريق الحقيقة محذور، ولم أر أرجح في ذلك المقال قولاً من هذه الثلاثة على الآخر، لأن غرضي تحصل على كل مقصودي، وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة والأشعري وأكابر أصحابه على ما ذكرته، فإنه قبل المجلس الثاني اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية والحنفية وغيرهم من عظم خوفهم من هذا المجلس، وخافوا انتصار الخصوم فيه وخافوا على نفوسهم أيضاً من تفرق الكلمة، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته، ولم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها صارت فرقة وتعصب عليهم أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم بما في ذلك من تمكن أعداؤهم من اعتراضهم، فإذا كان من أئمة مذهبهم من يقول ذلك وقامت عليه الحجة وبان أنه مذهب السلف أمكنهم إظهار القول به ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق، حتى قال بعض الأكابر من الحنفية- وقد اجتمع بي- لو قلت هذا مذهب أحمد وتثبت ذلك لانقطع النزاع، ومقصوده أنه يحصل دفع الخصوم عنك بأنه مذهب متبوع ويستريح المنتصر والمنازع من إظهار الموافقة، فقلت: لا والله ليس لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة وأئمة أهل الحديث، وقلت أيضاً هذا: اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية أو حديثاً أو إجماعاً سلفياً، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين والفقهاء الأربعة والمتكلمين وأهل الحديث والصوفية، وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية لا تبين أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي وأذكر قول الأشعري وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصرن كل شافعي وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين

ص: 424

أن القول المحكي عنه في تأويل الصفات الخبرية قول لا أصل له في كلامه، وإنما هو قول طائفة من أصحابه، فللأشعرية قولان ليس للأشعري قولان.

فلما ذكرت في المجلس أن جميع أسماء الله التي سمي بها المخلوق كلفظ الوجود الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب والممكن على الأقوال الثلاثة: تنازع كبيران هل هو مقول بالاشتراك أو بالتواطىء؟ فقال أحدهما هو متواطىء، وقال الآخر هو مشترك لتلازم التركيب، وقال هذا قد ذكر فخر الدين أن هذا النزاع مبني على أن وجوده هل هو عين ماهيته أم لا؟ فمن قال وجود كل شيء عين ماهيته قال إنه مقول بالاشتراك، ومن قال إن وجوده قدر زائد على ماهيته قال إنه مقول بالتواطىء، فقال الثاني مذهب الأشعري وأهل السنة أن وجوده عين ماهيته، فأنكر الأول ذلك فقلت: أما متكلموا أهل السنة فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته، وأما القول الآخر فهو قول المعتزلة أن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وكل منهما أصاب من وجه، فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطىء كما قد قررته في غير هذا الموضع، وأجبت عن شبهة التركيب بالجوابين المعروفين، وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عينه فهو من اللغط المضاف إلى ابن الخطيب، فأنا وإن قلنا أن وجود الشيء عين ماهيته لا يجب أن يكون الاسم مقولاً عليه وعلى نظيره بالاشتراك اللفظي فقط، كما في جميع أسماء الأجناس، فإن اسم السواد مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطىء، وليسر هذا السواد عين هذا السواد، إذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما وهو المطلق الكلي، لكنه لا يوجد مطلقاً بشرط الإطلاق إلا في الذهن، ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في الخارج، فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة وهي جمهور الأسماء في الغالب، وهي أسماء الأجناس اللغوية، وهو الاسم المطلق على الشيء وعلى كل ما أشبهه، سواء كان اسم عين أو اسم صفة، جامداً أو مشتقاً، وسواء كان جنساً منطقياً أو فقهياً أو لم يكن، بل اسم الجنس في اللغة يدخل فيه الأجناس والأصناف والأنواع ونحو ذلك، وكلها أسماء متواطئة وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة.

ص: 425

وطلب بعضهم إعادة قراءة الأحاديث المذكورة في العقيدة ليطعن في بعضها فعرفت مقصوده، فقلت: كأنك قد استعددت للطعن في حديث الأوعال1 حديث العباس بن عبد المطلب -وكانوا قد تعبوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين عبد العظيم من قول البخاري في تاريخه: عبد الله بن عمرة لا يعرف له سماع من الأحنف- فقلت: هذا الحديث- مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود وابن ماجه والترمذي وغيرهم فهو- مروي من طريقين من مشهورين، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر. فقال: أليس مداره على ابن عميرة وقد قال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف؟ فقلت: قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في (كتاب التوحيد) الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف لم ينف معرفة الناس بهذا، فإذا عرف غيره ما ثبت به الإسناد كانت معرفته وإثباته مقدماً على نفي غيره وعدم معرفته، ووافق الجماعة على ذلك، وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه، وأخذوا يناظرون في أشياء لم تكن

1 أخرجه أحمد (1/206، 207) وأبو داود (4724، 4725) والترمذي (2320) وابن ماجه (193) وابن خزيمة في "التوحيد"(1/234، 237/144،145) واللالكاني في "شرح أصول الاعتقاد"(3/431، 432/649، 650،651) وأبو يعلى في "مسنده"(12/75/6713) والآجري في "الشريعة"(2/72، 73/707، 708) وابن أبي عاصم في "السنة"(1/394/589- جوابرة) وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/24) والدارمي في "الرد على الجهمية"(233) وفي "رده على المريسي"(رقم 113- ط. السماري) والبيهقي في "الأسماء والصفات"(2/285- 286، 316/847، 882) وابن أبي شيبة في "كتاب العرش"(9) وابن مندة في "التوحيد"(21) والحاكم (2/378،500، 501) والعقيلي في "الضعفاء"(2/284) وأبو الشيخ في "العظمة"(2/566- 569) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"(2/2) وابن عبد البر في "التمهيد"(7/140) وغيرهم كثير.

من طرق؛ عن سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب.. وذكر القصة. والحديث ضعيف إسناده الألباني في "ظلال الجنة" (رقم:577) .

ص: 426

في العقيدة، ولكن إنما تعلقوا بما أجبت به في مسائل وله تعلق بما قد يفهمونه من العقيدة.

فأحضر بعض أكابرهم (كتاب الأسماء والصفات) للبيهقي رحمه الله تعالى، فقال: هذا فيه تأويل الوجه عن السلف، فقلت: لعلك تعني قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1. فقال: نعم، قد قال مجاهد والشافعي: يعني قبلة الله. فقلت: نعم هذا صحيح عن مجاهد والشافعي وغيرهما وهذا حق، وليست هذه آية من آيات الصفات، ومن عدها في الصفات فقد غلط كما فعل طائفة، فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والمشرف والمغرب الجهات، والوجه هو الجهة، يقال أي وجه تريد: أيّ: أقي جهة، وأنا أريد هذا الوجه أي هذه الجهة، كما قال تعالى:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} 2 ولهذا قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي تستقبلوا وتتوجهوا" انتهى.

هذا ما وجدناه منقولاً عمن نقل من خط المصنف شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه. وغرضنا من نقله أن يتبين للناظر في هذا الكتاب أن من ينقل عنهم الغبي النبهاني من مطاعن الشيخ كصدر الدين ابن الوكيل، وابن الزملكاني، وصفي الدين الهندي، والعز بن جماعة، والسبكي، ونحوهم من غلاة الشافعية، كلهم كانوا خصوماً ألدّاء للشيخ، فلا يلتفت إلى قدحهم وجرحهم. والشيخ قد كابد منهم ما كابد، وهؤلاء وأضرابهم الذين شيدوا أركان البدع، ونفثوا سم ضلالهم في أفواه متّبعيهم قاتلهم الله أجمعين، على أن ما ذكر في هذه المناظرة تنفع في مباحث كثيرة تأتي إن شاء الله، وبها يرتدع الخصم الألد.

قال النبهاني: "ومنهم الإمام أبو حيان وكان صديقاً له، فلما اطلع على بدعه رفضه رفضاً بتاً وحذّر الناس منه".

1 سورة البقرة: 115.

2 سورة البقرة: 148.

ص: 427

أقول: نعم، كان الشيخ أبو حيان من المثنين على ابن تيمية بالثناء الحسن الجميل، وله شعر جيد في مدحه نذكره في مناقبه المنقولة عن الشيخ مرعي الحنبلي1. وما ذكره من الرفض لم نعلمه ممن يوثق به، نعم ذكر الإمام الذهبي أنه بعد أن مدحه دار بينهما كلام، فجرى ذكر سيبويه، فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه، فناظره أبو حيان بسببه، ثم عاد ذاماً له، وصيّر ذلك ذنباً لا يغفر.

ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو، ولا معصوماً، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه، وذكره في "تفسيره البحر" بكل سوء، وكذا في مختصره "النهر". انتهى 2.

فمثن الممكن أن يقع بين العلماء مثل ذلك، ولكن من المعلوم أن طعن أبي حيان إنما كان بعد تخطئة ابن تيمية له والحط على سيبويه، وما ذكره النبهاني الجاهل أن رفضه كان بعد أن اطلع على بدعه قول ساقط، والسبب الذي كان من أجله المنافرة قد ذكره أهل العلم، وأي بدعة تنسب للشيخ تقي الدين حتى يهجره بسببها أبو حيان النحوي؟ وما ذهب إليه من الاختيارات كلها مبرهنة بالكتاب والسنة، كما في كتاب (الاختيارات) . ولكن النبهاني الجاهل الغافل ظن ذلك هيعة فطار إليها، ثم إن من مدح وذم فقد كذب مرتين، على أن قدح المعاصر معلوم حاله، والرجل ليس من أهل الجرح والتعديل حتى يعوّل عليه.

قال النبهاني: "ومنهم الإمام عز الدين بن جماعة رد عليه وشنّع عليه كثيراً".

جوابه: أن العز هذا كان من أعظم خصوم الشيخ وحسدته، وكانت أقواله في الشيخ تقي الدين وبهتانه عليه من أنكى سلاح ابن حجر المكي في الطعن على أهل

1 انظر "الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية"(ص 31- 32) .

2 انظر (دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها على الحركات الإسلامية المعاصرة وموقف الخصوم منها" للشيخ صلاح الدين مقبول أحمد- وفقه الله- (2/383- وما بعدها) .

ص: 428

التوحيد وأعداء الغلاة. وقد عقد ابن السبكي ترجمة له في "طبقاته" فلا نتعب القلم بها.

قال النبهاني: ومنهم الإمام كمال الدين الزملكاني الشافعي المتوفي سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ثم نقل ترجمته عن تاريخ ابن الوردي والثناء عليه، ثم نقل عن كتاب "كشف الظنون " كتاب "الدرة المضية في الرد على ابن تيمية" قال: وقد ناظره في مسائله التي شذّ بها عن المذاهب الأربعة. ثم قال: ومن أشنعها مسألة منعه شد الرحل وإعمال المطي لزيارة القبور، ومنعه الاستغاثة بغير الله، ثم أورد له أبياتاً التجأ فيها بغير الله" إلى آخر ما قال.

جوابه: أن كمال الدين هذا قد سبق ذكره في مجالس المناظرة، وأنه أحد خصوم الشيخ تقي الدين، ومثله لا يرجى منه أن يثني عليه، ومع ذلك فقد أثنى عليه كل الثناء، وسيأتي بيانه عند الكلام على مناقب الشيخ عليه الرحمة، ثم إن الرد على بعض مسائل ابن تيمية لا يقتضي الجرح فيه، فمن المعلوم ما ألف من الردود على العلماء والمجتهدين، هؤلاء الأئمة الأربعة كم ردوا عليهم وكم خالفهم من مخالف، حتى أن أصحاب الأئمة يردون على أئمتهم، ولم يقل أحد إن كل من يرد عليه كلامه يكون من المبتدعين والسالكين غير سبيل المؤمنين، كما يزعمه هذا الغبي وأضرابه من غلاة الشافعية.

قال النبهاني: ومنهم الإمام الكبير الشهير تقي الدين السبكي، ثم نقل عنه عبارته التي في كتاب (شفاء السقام) المشتملة على القدح في شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها قوله: وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل قول لم يقله عالم قبله، وصار به بين أهل الإسلام مثله. إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال.

أقول في الجواب عن هذا الهذيان والكلام العاري عن الدليل والبرهان: إن السبكي هذا شيخ أعداء ابن تيمية وعميدهم، وعليه يعتمد الطاعنون شقيهم وسعيدهم، والمناظرات التي كانت بين السبكي وبين الشيخ قد ملأت الدفاتر،

ص: 429

ونفذت منها المحابر، وما هذى به السبكي في حق الشيخ كله قد رد عليه وعاد وباله إليه، وما كتبه في مسألة الطلاق من الاعتراض قد رد شيخ الإسلام بمجلدات رأى ابن السبكي منها مجلداً. "وشفاء السقام" رد عليه الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي، وبرد السبكي على الشيخ في المسألتين السابقتين لم يزل يفتخر على أهل الحق نظمأ ونثراً، ومن نظمه في ذلك ما قاله في أبياته المشهورة:

لو كان حياً يرى قولي ويسمعه

رددت ما قال رداً غير مشتبه

كما رددت عليه في الطلاق وفي

ترك الزيارة أقفو أثر سبسبه

وبعده لا أرى للرد فائدة

هذا وجوهره مما أضن به

والرد يحسن في حالين واحدة

لقطع خصم قوي في تغلبه

وحالة لانتفاع الناس حيث به

هدى وربح لديهم في تكسبه

وما أحسن ما رد عليه الإمام أبو المظفر الحنبلي معارضاً لأبياته هذه:

وقلت من بعد هذا قول ذي حسد

أخطأ الهدي وتجارى في تنكبه

لو كان حياً يرى قولي ويسمعه

رددت ما قال رداً غير مشتبه

كما رددت عليه في الطلاق وفي

ترك الزيارة أقفو أثر سبسبه

فضحت نفسك في هذا المقال ولم

تشعر وعجت عن المرعى وأخصبه

عرفتنا أن ما قد قلت ليس لوجـ

ـه لله بل للمرا أقبح بمنصبه

إذ لو أردت بيان الحق فهت به

في محضر الخصم إما في مغيبه

ما ذاك صدك بل خوف الجواب كما

أجبت قبل بسهم من مصوبه

ذا شأن من لم يجرد صارماً ذكراً

ماضي الغرارين غضباً من مجربه

لكن إذا الأسد الضرغام غاب عن الـ

ـعرين تسمع فيه ضج ثعلبه

كذا الجبان خلا في البر صاح ألا

مبارزٌ وتغالى في توثبه

ولو سمعت جواب الرد رحت فتى

من أعظم الخلق عن جرم وأتوبه

وقد كفاني أبو العباس كلفته

كذا أرحت لساني غير متعبه

ووافقته سراة الناس عن كثب

من أهل مذهبه أو غير مذهبه

ص: 430

من أهل بغداد والآيات شاهدة

لهم وللحق مصباح يبين به

عبت الذي قال ما فيه الخلاف من إيـ

ـقاع الثلاث ولو أفتى بأغربه

وقلت تنكح زوجاً غيره ونكا

حها مع الخلف باق في تذبذبه

وكيف تنكح من لم تبر عصمتها

بلا خلاف لشخص مع تجنبه

وفي الزيارة لم تنصف رددت على

ما لم يقله ولم تمرر بسبسبه

رداً ملخصه أشياء أذكرها

إما حديث ضعيف عند مطلبه

إما صحيح ولكن لا دليل به

على مرادك بل هدم لمنصبه

إما بمجمل لفظ قول خصمك من

أقوى المقال به قسراً وأصوبه

إما بلا علم لي والجهل غايته

أيعذر الشخص فيما لا أحاط به

فأي رد لعمري قد رددت وما

ذا قلت إذ قلت أقفو أثر سبسبه

إن كان عندك في شد الرحال إلى الـ

ـقبور نقل فعارضه بموكبه

ليعرف الحق من كان أخا نظر

خال عن العلم ناء عن تعصبه

أنى وذلك كالعنقاء في عدم

وكالسمندل يحكي مع تغيبه

ما أنت إلا كما قد قيل في مَثَلٍ

خَالِفْ لتُعْرَف مشهور لضرّبه

فشيخنا بصريح الحق حجته

ونقد نقلك زيف في تقلبه

فمن أحق بحق القول أن ظهر الـ

إنصاف مرتفعاً من فوق مرقبه

وقلت ما بعده للرد فائدة

هذا وجوهره مما أضن به

ماذا الكلام وما معناه قله لنا

أمدح أم هجو أعرب عن معربه

ما ذلك الجوهر المضنون ويحك هل

تعني به الشيخ أو رداً لمذهبه

فإن يك ماذا الطعن فيه أو الـ

ـجواب عن قوله نور بغيهبه

والرد يحسن في حالين واحدة

لقطع خصم قوي في تغلبه

وحالة لانتفاع الناس حيث به

هدى وربح لديهم في تكسبه

كتم العلوم حرام لا يجوز لذي

علم يضن بعلم عند طلبه

والرد في الحالة الأولى مضي هدرا

فاستدرك الحال الأخرى قبل مذهبه

فقل ورد إن اسطعت السبيل إذاً

وانفع به الناس كي تحظى بأثوبه

ص: 431

حاشا وكلا وإني بالسبيل إلى

رد الصواب وقد وافى بكبكبه

قل كي ترى سنناً تستن في سنن الـ

ـهدى تنكس جهماً عن توثبه

ورهطه وتريك الحق أظهر من

شمس الضحى وهلالاً وسط غيهبه

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن جمال الدين الشافعي رحمه الله من جملة قصيدته التي عارض السبكي بها:

وما رددت عليه في الطلاق فما

حققت نقلاً ولا عقلاً ظفرت به

بل فاسد القصد أعمى الذهن منك

كما هي عادة الله فيمن شان مذهبه

نزلت حول حماه كي تنازله

فما علوت عليه بل علوت به

وقد أجابك فانظر في الجواب ترى

سيفاً تجول المنايا عند مضربه

أخذت منه علوماً فانتصرت بها

على سواه وكانت من مهذبه

وحزتها مجملات من مفصلة

ففصل الآن ما أجملت تحظ به

وهكذا كل من سارت ركائبه

يقفو خطاه فسائل من مجربه

وإن تبجَّحْت بالردين لست له

كُفواً ولا أهل هذا العصر فانتبه

كم بحر علم أتاه عاد ساقية

وكم جهول أتاه صار منتبه

وما نرى لكم في الخلق فائدة

غير التنعم في النعماء من شبه

أين الثريا مكاناً في ترفعها

من الثرى قال هذا كل منتبه

من ذا يقيس نقي الجلد من درن الـ

ـدنيا وأمراضها يوماً بأجربه

لو كان عندك إنصاف ومكرمة

لو كان عندك إنصاف ومكرمة

لكنت تقفو وراه قفو مجتهد

علماً ودنيا وأمراً تفلحن به

لو وفق الله أهل الأرض قاطبة

إلى الصواب لساروا خلف مذهبه

وما نسبتم إليه عند ذكركم

ترك الزيارة أمر لا يقول به

فقد أجابكم عن ذا بأجوبة

أزال فيها صدى الإشكال والشبه

وقد تبين هذا في مناسكه

لكل ذي فطنة في القول معربه

رميتموه ببهتان يشان به

والله ينصفه ممن رماه به

وفي الجواب أمور من تدبرها

سقى الأنام بها من صفو مشربه

ص: 432

ولم يكن مانعاً نفس الزيارة بل

شد الرحال إليها فادر وانتبه

تمسكاً بصحيح النقل متبعاً

خير القرون أولي التحقيق والنبه

مع الأئمة أهل الحق كلهم

قالوا كما قال قول غير مشتبه

وقد علمت يقيناً حين وافقه

أهل العراق على فتياه فافت به

هذا وقد قلت فيما قلت مرتجلاً

فيما تقدم قولاً غير منجبه

لو كان حياً ترى قولي ويسمعه

رددت ما قال رداً غير مشتبه

فابرز ورد ترى والله أجوبة

مثل الصواعق تردي من تمر به

عقلاً ونقلاً وآيات مفصلة

من كل أروع شهم القلب منتبه

ماضي الجنان كحد السيف فكرته

يريك نثراً ونظماً في تأدبه

وقّاد ذهن إذا جالت قريحته

يكاد يخشى عليه من تلهبه

يقابلون الذي يأتي بمشتبه

من الكلام ولا يخشون ذا النبة

فنزل القوم في أعلى منازلهم

فليس ذو منصب يحمى بمنصبه

وانظر إلى من طغى في الأرض من أمم

ولا تكن سالكاً في أثر سبسبه

إن الإله يجازي كل ذي عمل

بمثل إحسانه أو قبح مكسبه

هذا جوابك يا هذا موازنة

بحراً وقافية في النظم والشبه

والحمد لله حمداً لا نفاد له

جار على مرما يقضي وأطيبه

ثم الصلاة على خير الورى شرفاً

محمد المصطفى الهادي بمذهبه

وآله والصحاب الغر كلهم

ما أشرق الجو من أنوار كوكبه

وكلا القصيدتين مشهورتان.

وقد رأيت ما لقي السبكي من الويل والعطب بسبب مجاوزته حده في الجهل والحسد، وما أحسن ما وصف به الحافظ أبو عبد الله بن قدامة كتاب (شفاء السقام) وترجم مؤلفه السبكي.

أما وصف الكتاب فهو هذا: قال الحافظ: "أما بعد؛ فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية، في الرد على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية، في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، وذكر أنه

ص: 433

قد سماه "شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة" ثم زعم أنه اختار أن يسميه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) فوجدت كتابه مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة، والآثار القوية المقبولة وتحريفها عن مواضعها، وصرفها عن ظاهرها، بالتأويلات المستنكرة المردودة.

ثم أخذ يصف المؤلف ويترجم أحواله، فقال: ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه، متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة، والآراء الساقطة، صار في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة، والحجج الداحضة، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يُسْبَقْ إليها، ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها، وهو في الجملة لون غريب وبناء عجيب، تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد، ومرة يزعم فيما يقوله ويدّعيه أنه من جملة المقلدين فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد، نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا الهداية والسداد، هذا مع أنه إن ذكر حديثاً مرفوعاً أو أثراً موقوفاً- وهو غير ثابت- قبله إذا كان موافقاً لهواه، وإن كان ثابتاً رده إما بتأويل أو غيره إذا كان مخالفاً لهواه، وإن نقل عن بعض الأئمة الأعلام- كمالك وغيره- ما يوافق رأيه قبله وإن كان مطعوناً فيه غير صحيح عنه، وإن كان مما يخالف رأيه رده ولم يقبله؛ وإن كان صحيحاً ثابتاً، وإن حكى شيئاً مما يتعلق بالكلام على الحديث وأحوال الرواة عن أحد من أئمة الجرح والتعديل- كالإمام أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي، وأبي حاتم البستي، وأبي جعفر العقيلي، وأبي أحمد بن عدي، وأبي عبد الله الحاكم صاحب "المستدرك"، وأبي بكر البيهقي، وغيرهم من الحفاظ، وكان مخالفاً لما ذهب إليه- لم يقبل قوله ورده عليه وناقشه فيه، وإن كان ذلك الإمام قد أصاب في ذلك القول ووافقه غيره من الأئمة عليه، وإن كان موافقاً لما صار إليه تلقاه بالقبول واحتج به واعتمد عليه، وإن كان ذلك الإمام قد خولف في ذلك ولم يتابعه غيره من الأئمة عليه، وهذا هو عين الجور والظلم وعدم القيام بالقسط، نسأل الله التوفيق ونعوذ به من

ص: 434

الخذلان واتباع الهوى، هذا مع أنه حمله إعجابه برأيه وغلبه اتباع هواه على أن نسب سوء الفهم والغلط في النقل إلى جماعة من العلماء الأعلام، المعتمد عليهم في حكاية مذاهب الفقهاء واختلافهم وتحقيق معرفة الأحكام، حتى زعم أن ما نقله الشيخ أبو زكريا النووي في "شرح مسلم" عن الشيخ أبي محمد الجويني من النهي عن شد الرحال، وإعمال المطيّ إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الأنبياء والصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك- هو مما غلط فيه على الشيخ أبي محمد، وأن ذلك وقع منه على سبيل السهو والغفلة، قال: ولو قاله يعني الشيخ أبا محمد أو غيره ممن يقبل كلامه الغلط لحكمنا بغلطه وأنه لم يفهم مقصود الحديث.

فانظر إلى كلام هذا المعترض المتضمن لرد النقل الصحيح بالرأي الفاسد، واجمع بينه وبين ما حكاه عن شيخ الإسلام من الافتراء العظيم، والإفك المبين، والكذب الصراح، وهو ما نقله عنه من أنه جعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء عليهم السلام معصية بالإجماع مقطوعاً بها، هكذا ذكر المعترض عن بعض قضاة الشافعية عن الشيخ أنه قال هذا القول الذي لا يشك عاقل من أصحابه وغير أصحابه أنه كذب مفترى، لم يقله قط ولا يوجد في شيء من كتبه ولا دل كلامه عليه، بل كتبه كلها ومناسكه وفتاويه وأقواله وأفعاله تشهد ببطلان هذا النقل عنه، ومن له أدنى علم وبصيرة يقطع بأن هذا مفتعل مختلق على الشيخ، وأنه لم يقله قط، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 1.

وهذا المعترض يعلم أن ما نقله هذا القاضي المشهور- بما لا أحب حكايته عنه- في هذا المقام عن شيخ الإسلام من هذا الكلام كذب مفترى لا يرتاب في ذلك، ونكنه يطفف ويداهن ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال: ولقد أخبرني الثقة أنه ألّف هذا الكتاب لما كان بمصر قبل أن يلي القضاء بالشام بمدة كبيرة،

1 سورة الحجرات: 6.

ص: 435

ليتقرب به إلى القاضي الذي حكى عنه هذا الكذب ويحظى لديه فخاب أمله ولم ينفق عنده، وقد كان هذا القاضي الذي جمع المعترض- أعني السبكي- كتابه هذا لأجله من أعداء الشيخ المشهورين، وقد زعم هذا المعترض أيضاً- مع هذا الأمر الفظيع الذي ارتكبه من التكذيب بالصدق، والتصديق بالكذب- أن الفتاوى المشهورة التي أجاب بها علماء أهل بغداد موافقة للشيخ مختلقة موضوعة، وضعها بعض الشياطين- هكذا زعم- مع علم الخاص والعام بأن هذه الفتاوى مما شاع خبرها وذاع، واشتهر أمرها وانتشر، وهي صحيحة ثابتة متواترة عمن أفتى بها من العلماء، وقد رأيت أنا وغيري خطوطهم بها، فانظر إلى تكذيب هذا المعترض بما لم يحط به علماً، وجرأته على إنكار ما اشتهر وتواتر، وكيف يحل لمن ينتسب إلى شيء من الدين أن ينسب أمراً مقطوعاً بكذبه إلى من لم يقله، ويقدح في أمر مشاهد مقطوع بصحته، ويزعم أنه مختلق من بعض الشياطين؟! هذه عثرة لا تقال وله مثلها كثيراً، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

قال: فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور وهو (شفاء السقام) أحببت أن أنبه على ما وقع فيه من الأمور المنكرة، والأشياء المردودة، وخلط الحق بالباطل، لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس لطال الخطاب، ولبلغ الجواب مجلدات، ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم، والله المستعان" انتهى.

وقال الحافظ أبو عبد الله أيضاً في موضع آخر من كتابه (الصارم المنكي) : "وقد سمعت أخا شيخ الإسلام يذكر هذا النص الذي حكاه القاضي إسماعيل في "المبسوط" عن مالك لهذا المعترض بحضرة بعض ولاة الأمر، فغضب المعترض - وهو السبكي- غضباً شديداً ولم يجبه بأكثر من قوله هذا كذب على مالك. فانظر إلى جرأة هذا المعترض وإقدامه على تكذيب ما لم يحط بعلمه بغير برهان ولا

ص: 436

حجة بل بمجرد الهوى والتخرص، وليس هذا ببدع منه فإنه قد عرف منه مثل ذلك في غير موضع، وهو من أشد الناس مخالفة لمالك في هذه المواضع التي لا يعرف لأحد من كبار الأئمة أنه خالف مالكاً فيها، بل قد حمله فرط غلوه ومتابعته هواه على نسبة أمور عظيمة- لا أحب ذكرها- إلى من قال بقول مالك في هذه المواضع التي لا يعرف عن إمام متبوع مخالفته فيها، نعوذ بالله من الخذلان، ومن عجب أن هذا المعترض صحح الحكاية المنقولة عن مالك مع أبي جعفر المنصور لأن فيها ما يتابع هواه، مع أنها غير صحيحة، بل هي باطلة موضوعة، وكذب هذا النقل الثابت الذي ذكره القاضي إسماعيل في "المبسوط" لشدة مخالفته لهواه ومقصده وما ذهب إليه، وأعرض عما ذكره أيضاً في "المبسوط" من قول مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي. لأنه مخالف لهواه، وتمسك بما في كتاب (الموازنة) لمتابعته هواه في ظنه، وهكذا عادته ودأبه يكذّب النصوص الثابتة أو يعرض عنها، ويقبل الأشياء الواهية التي لم تثبت والأمور المجملة الخفية ويتمسك بها بكلتا يديه، وليس هذا شأن من يقصد الحق وإيضاح الدين للخلق، نسأل الله تعالى التوفيق".

وذكر هذا الإمام الحافظ في أثناء كتابه كثيراً من أحوال السبكي التي لا ترضي الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بدع من هذا المبتدع بل القبوري وهو النبهاني أن يحتج على ترويج مقاصده بالسبكي وأمثاله من أسلافه غلاة الشافعية، بل الفرقة الزائغة الحلولية أعداء الحق وأهله، وخصوم الدين ومن أخذ به.

قال النبهاني: ورأيتُ للإمام السبكي عبارة موجودة الآن بخط يده هي المكتبة الخالدية في القدس، وقد أرسلت فاستكتبتها وهذه صورتها بحروفها: قال رحمه الله تعالى: في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وقفت على كتاب "العقل والنقل" لابن تيمية، فوجدت فيه مواضع أنكرتها وكتبت على بعضها حواشي، فتحركت أنوف خلق له، ففكرت في انتشار أصحاب هذا الرجل وما يخشى من انتشار بدعته وعدم من يقاومهم، فكتبت ليلة السبت عاشر شوال سنة أحد وخمسين وسبعمائة رقعة إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أسأل الله فيها ذلك. (وفي آخرها) :

ص: 437

إن كنت مصيباً في اعتقادي فقوّني، وإن كنت مخطئاً فاهدني. ثم أصبحت ورفعتها للشيخ نور الدين السخاوي ليحملها فإنه عزم على الحج وكان ذلك قبل الظهر، فلما كان الظهر جاءني شخص فأخبرني عن ابن تيمية بخبر يوجب شوطي فيه، وكنت سمعت عنه من شخص مسألة من نحو أربعين سنة فلم أصدقها فلما تابعها هذا وقع في قلبي صحة ذلك، ثم جاء آخر وآخر وآخر بمثل ذلك، ثم نظمت قصيدة أرسلتها مع الشيخ نور الدين أيضاً، فلما أكملت نظمها في ليلة الاثنين ثاني عشر الشهر المذكور وقع في قلبي أن الله تعالى ما هيأ لي تلك الأخبار في ذلك اليوم إلا هداية وجواباً عما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر هذه القضية مما أجبها، وفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ.

وها أنا أذكر نص ما كتبته في تلك الورقة وما نظمته إن شاء الله، والمرجو من الله إرسالهما ووصولهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونجحهما إن شاء الله، أما الورقة فنص ما فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم، إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله إني عبيد ضعيف عاجز مسكين، وجميع ما حصل لي من خير الدنيا والآخرة أنت كنت سببه، وأنت وسيلتي إلى الله سبحانه، وإني نشأت على دين الإسلام سالماً عن الشبه والبدع والأهوية والأغراض والميل إلى جانب من الجوانب، لا أعرف غير أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم اشتغلت بالقرآن، ثم بالفقه على مذهب الشافعي، لا أعرف غير ذلك، ولم أسمع ولم يدخل في قلبي شيء غير ذلك، لا من العقائد ولا من غيرها، ثم اشتغلت بنحو وأصول وفرائض، ثم بعلم الحديث ذا تصويب فيه إليك، ثم نظرت في شيء من العلوم العقلية، واشتغلت بعلم الكلام على طريقة الأشعري، لأنها المشهورة في بلادنا التي رأيت عليها أهلي وقومي، وبقيت أراها طريقة وسطى بين الحشو والاعتزال، ولا زلت على تلك حتى جاوزت عشرين سنة من عمري وأنا بالديار المصرية، فشاع عندنا خبر ابن تيمية وما يتفق له بدمشق، وكان بها إذ ذاك علماء يقاومونه وفي مصر القاهرة علماء وأكابر، فأحضروه واتفق له ما اتفق بسبب العقائد، ثم كتبت كلامه

ص: 438

في التوسل والاستغاثة، وتكلم معه من هو أكبر مني ورأيته واجتمعت به كثيراً، ثم عاد إلى الشام، ثم بلغنا كلامه في الطلاق وأن من علق الطلاق على قصد اليمين ثم حنث لا يقع عليه طلاق، ورددت عليه في ذلك، ثم بلغنا كلامه في السفر إلى زيارتك ومنعه إياه ورددت عليه في ذلك، ثم توفي وله أصحاب كثيرون يشيعون رأيه وينشرون تصانيفه، وجئت إلى دمشق كما يقال نائب شريعتك ومن لي برضاك بذلك، فأنا أقل عبيدك، مسكت عن الكلام في العقائد من الجانبين، لأني في نفسي أن عقولنا تضعف عن إدراك سبحات الحق جل جلاله، وأرى البقاء على الفطرة السليمة، والاكتفاء بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن لا ينبه العوام لشيء آخر، ومن كان عالماً ينظر بما ييسر له، والمعصوم من عصم الله، لكن الطلاق والزيارة أنا شديد الإنكار لقول ابن تيمية فيهما ظاهراً وباطناً، والعقائد لا يعجبني ما اعتمده فيها من تحريك قلوب العوام فيها.

قال النبهاني: انتهت عبارة الإمام السبكي بحروفها، وهي مكتوبة بخطه بلا نقط، وهكذا جاءتني صورتها فنقطتها، أما القصيدة التي ذكرها فغير موجودة". انتهى.

أقول- ومنه سبحانه المدد والتوفيق-: قد نقلت في هذا المقام ما ذكره النبهاني بحذافيره من غير تلخيص ولا اختصار- وإن كان في نقلها تضييع للمداد والقرطاس- فليعلم الناظر في هذا المقام ما خلق الله من العقول والأفهام، فيحمد الله تعالى من عوفي من داء هذا الجهل الوخيم، والضلال القديم، والنبهاني هذا رجل كذاب لا يؤمن على نقله ولا يصدق بروايته، فإنه من الغلاة والجهلة الغواة، ولكنه قد يصدق الكذوب، فإن صحت روايته هذه عن السبكي كفاه خزياً ذلك وهو الذي يناسب ما كان عليه من الغلو والابتداع الظاهر، وهذه المقالة عن السبكي قادحة في عدالته مسقطة له عن درجة أهل العلم، موصلة له إلى طبقة العوام السفلى، ومن العجيب أنه قال في أول مقالته ففكرت في انتشار أصحاب هذا الرجل وما يخشى من انتشار بدعته.. إلخ، فنسب البدعة إلى الشيخ ابن تيمية حافظ الأمة مع شهرة حاله في التعصب للسنة، فعبر عنه بالمبتدع وجعل نفسه هو

ص: 439

المتبع، وفي المثل السائر:"رمتني القرعى بدائها وانسلت" وهكذا تكون الوقاحة وعدم الحياء من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث:"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستِح فاصنع ما شئتَ"1. وهذا هو الهوى المتّبع وإعجاب المرء بنفسه الذي ورد في الخبر، وليت النبهاني المثبور كان عنده شيء من البصيرة والفهم، فلم ينقل هذه المقالة الشنعاء عن السبكي حتى فضحه بها، وقد توفاه الله تعالى منذ مئات من السنين، ولكن أبى الله إلا أن يفضح من تنقّص خيار الأمة وسلفها بكشف عورات جهالاتهم.

ثم إن ما حكاه عن السبكي من المقالة الفظيعة مختلة المبنى والمعنى يرد على كل كلمة من كلماتها إيرادات ومؤاخذات لو بسطنا الكلام فيها لاستوجب أن يفرد له كتاب مفصل، والوقت يضيق عن الاشتغال بمثل ذلك فكان من الواجب علينا أن نتكلم عليها إجمالاً، ونذكر ما يرد على محصلها ومقصدها، ولولا سوء الأدب لأجبنا مقالته تلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرنا له ما تعدى به طوره وتجاوز حده، ولكن نعوذ بالله من التجاسر على مقام النبوة والتفوه بما لم يقله، كما أنا نلجأ إليه أن يعصمنا من سوء الأدب.

ثم إن الكلام على ما قصده السبكي في مقالته من وجوه:

الوجه الأول: أن كتاب (العقل والنقل) ويسمى أيضاً (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ويسمى أيضاً (قسطاس الإنصاف والعدل في رد تعارض العقل والنقل) من مصنفات الآية الظاهرة، والحجة الباهرة، ماشطة العصر بل نادرة الدهر، بحر العلوم، وصدر القروم، الناسك العابد، والورع الزاهد؛ شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله، ألفه في الجواب عن سؤال ورد إليه، وهو: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو العقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات، فهل يجمع بينهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يرادا جميعاً، وإما

1 أخرجه البخاري (3484، 6120) .

ص: 440

أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فيجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يتأول، وإما أن يفوض، وإما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجواب عنهما ولم يمتنع ارتفاعهما؟.

فذكر في الجواب تسعة عشر وجهاً، مفصلة أتم تفصيل في بيان أن صريح المعقول لا يخالف صحيح المنقول. وفيه الذب عن الشريعة الغراء، وأنها وافية بكل ما يستوجب سعادة الدارين، ليس لها حاجة إلى إكمالها بالقواعد التي وضعها علماء الكلام من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن جميع ما جاءت به الشريعة الغراء مما يوافق ما تقتضيه العقول السليمة، وأن نصوصها لا تؤول لأجل تطبيقها على ما اخترعوه من الآراء الفاسدة، والأقوال الكاسدة، وبسط الكلام كل البسط في كل وجه من تلك الوجوه، هذا موضوع الكتاب، وهو كتاب جليل ليس له نظير في بابه، ومن النعم العظمى على الأمة ظهور هذا الكتاب في هذا العصر وانتشاره بين الناس، وما أحسن ما قال فيه الشيخ ابن القيم في منظومته "الشافية الكافية"1، وقد عقد فصلاً في ذكر مؤلفات شيخ الإسلام:

واقرأ كتاب العقل والنقل الذي

ما في الوجود له نظير ثان

فجزى الله تعالى عن المسلمين كل خير من سعى في طبعه ونشره، ومثل هذا الكتاب كيف يشتكي منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من له أدنى بصيرة في العلم أقل نظر في معرفة الشريعة، اللهم إلا إذا كان السبكي ممن ختم الله على قلبه فلم يفهمه، وتصدى للرد عليه والاستئذان من الرسول عليه السلام لأجل ذلك وما بعد الحق إلا الضلال.

1 وهي المعروفة بالنونية، وقد شرحها جمع من أهل العلم منهم الشيخ أحمد بن عيسى، والشيخ محمد خليل هراس، والعلامة السعدي، والعلامة محمد بن صالح العثيمين- رحمهم الله أجمعين-. وأقوم مع أحد طلبة العلم من إخواننا الأفاضل على جمع هذه الشروح والتنسيق بينها والتعليق عليها، وسينشر الكتاب بإذن الله في مكتبة الرشد، يسّر الله أمرنا

ص: 441

الوجه الثاني: أن الله تعالى أكمل الدين المبين قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت الشريعة الغراء ليلها كنهارها، لم تغادر شيئاً من الأحكام ولا من بيان الحلال والحرام، وبسط الكلام عليها الأئمة ومجتهدوا الأمة فلم يبق حاجة إلى مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، بل إن عمر رضي الله تعالى عنه لم يوافق على كتابة الكتاب في مرضه- وقد طلب دواة وقرطاساً- والحديث مشهور. قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1. فإذا أشكل أمر على أحد راجع أهل الذكر إن كان ممن لا يعلم، أو فتش على مقصده كتب الشريعة ونصوصها فما دلت عليه واقتضته عمل بموجبه من غير حاجة إلى كتابة شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابته عند قبره، وقال عز اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2.

ذكر المفسرون: أن الخطاب عام للمؤمنين مطلقاً، والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده، والمعنى: فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولوا الأمر منكم في أمر من أمور الدين فردّوه إلى الله، أي: فارجعوا فيه إلى كتابه، والرسول، أي: إلى سنته. ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء، لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء، إذ المراد بهم المجتهدون، والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم، وجعل بعضهم الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضاً مجادلة ومحاجة، فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل. وبعضهم قال: يراد الأعم مع أنه يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين، وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وهم الأمراء.

والمقصود؛ أن الله تعالى أمر المؤمنين عند التنازع أن يراجعوا الكتاب

1 سورة المائدة: 3.

2 سورة النساء: 59.

ص: 442

والسنة، لا أن يكتبوا كتاباً لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلقى الجواب بمحض الأوهام كما فعله السبكي، وتمام الكلام على الآية يطلب من محله.

الوجه الثالث: أن الصحابة الكرام اختلفوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلافة اختلافاً كثيراً، وهو مذكور في محله، فلم يستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، ولم يكتبوا له: أن الأنصار يا رسول الله يقولون منا أمير ومنكم أمير، وأن بعضهم يريد أبا بكر، ومنهم من يطلب علياً، ومنهم ومنهم.

ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في مسائل علمية ولم يستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، ولم يجىء أحد منهم يسأله ماذا حكم الجد مع الإخوة، وأن فاطمة جاءت إلى أبي بكر تطلب إرث أبيها منه فأورد لها خبر:"نحن معاشر الأنبياء لا نورّث" فلم ترض بقوله وقامت وهي عليه غضبى1. ولم تستفتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، ولا كتبت إليه ما فعل معها أبو بكر.

وخرج على عثمان أهل مصر وغيرهم فلم يستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبره عما كان من عثمان، ولا أن عثمان شكى عليه كما فعل السبكي.

وأن علياً ومعاوية تنازعا الأمر، وجرى بين الفريقين ما جرى؛ ولم يصدر عن أحد ما صدر عن السبكي من الشكوى والاستئذان، ومثل هذه المسائل مما لا يحيط به القلم.

الوجه الرابع: أن من اشتبه عليه أمر ولم يعلم هل هو خير أم شر ليعمل بموجبه يستخير الله تعالى، فإن الاستخارة مما درج عليه السلف وتجرى على منهاجهم الخلف، وقد تكلموا عليها في فصول:

منها: في الأمور التي هي محل الاستخارة، فقالوا: ما من شأنه أن يراد ينقسم أولاً إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما يعلم كونه خيراً قطعاً كالواجب المضيق.

1 انظر "البخاري"(3092، 3711، 4035، 4240، 6725) و "مسلم"(1759) .

وانظر: "رفع الاشتباه" للمعلمي (ص 153- 154- بتحقيقي- ط. المكتبة العصرية) .

ص: 443

الثاني: ما يعلم كونه شراً قطعاً كالمحرم المجمع على تحريمه.

الثالث: ما لا يعلم على القطع خيريته ولا شريته في وقت مخصوص كالواجب الموسع والمندوب كذلك، والمندوب المضيق الذي يعارضه مندوب آخر في ذلك الوقت من غير ظهور رجحان لأحدهما والمباحات كلها، ولما كان معناها طلب خير الأمرين من الفعل في وقت معين أو تركه فيه لم يكن الأولان محلين لها، إذ أولهما خير قطعاً فلا رخصة في تركه، وثانيهما شر قطعاً فلا رخصة في فعله، فليس محلاً لها إلا الثالث، فما يوهم العموم في بعض الأخبار كالأمور في خبر جابر الآتي عام مخصص، أو أن أل فيه للعهد.

ومنها: في سرد بعض أحاديثها؛ روى البخاري في (باب ما جاء من التطوع مثنى مثنى) من "صحيحه" عن جابر بن عبد الله، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدِرُ ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال- عاجل أمري، وآجله؛ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري- أو قال- في عاجل أمري، وآجله؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به، قال: ويسمّي حاجته"1.

وروى في (كتاب الدعوات) 2 عن جابر أيضاً، قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كسورة من القرآن، إذا همّ أحدكم بالأ مر فليركع ثم يقول: "اللهم إني أستخيرك" وساق الدعاء، وقال في آخره أيضاً: ويسمي حاجته) .

1 أخرجه البخاري (1166) .

2 برقم (6382) .

ص: 444

وروى في (كتاب التوحيد) 1 من الصحيح عنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول:"إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، إلى قوله: وأنت علام الغيوب- ولم يقل العظيم- اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر- ثم يسميه بعينه- خيراً لي في عاجل أمري وآجله قال: أو في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم رضّني به".

وروى الطبراني في "المعجم الصغير"2 عن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول:"إذا أراد أحدكم أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان في هذا الأمر خير في ديني ودنياي وعاقبة أمري فاقدره لي، وإن كان غير ذلك خيراً لي فسهّل لي الخير حيث كان، واصرف عني الشرّ حيث كان، ورضّني بقضائك".

وروي في "الكبير" عنه أيضاً قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخارة، فقال:"إذا أراد أحدكم أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك- ولم يقل العظيم- وقال: فإن كان هذا الذي أريد خيراً في ديني وعاقبة أمري فيسره لي، وإن كان غير ذلك خيراً فاقدر لي الخير حيث كان، يقول: ثم يعزم".

وروى الحافظ نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر في كتابه (موارد

1 برقم (7390) .

2 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(10/رقم: 10012، 10052) و"المعجم الأوسط"(2/321/1133- "مجمع البحرين" وفي "المعجم الصغير" (1/190) وهو حسن بالشواهد.

ص: 445

الظمآن إلى زوائد ابن حبان) عن أبي أيوب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اكتم الخطبة ثم توضأ فأحسن وضوءك، ثم صل ما كتب الله لك، ثم احمد ربك ومجده، ثم قل: اللهم إنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، فإن رأيت لي فلانة تسميها باسمها خيراً لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدرها، وإن كانت غيرها خيراً لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقض لي ذلك"1.

وروى فيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد أحدكم أمراً، فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كان كذا وكذا خيراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي وأعنّي عليه، وإن كان كذا وكذا الأمر الذي تريد شراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري فاصرفه عني، ثم اقدر لي الخير أينما كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله"2.

وروى فيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم

1 أخرجه أحمد (5/423) أو رقم (23706- قرطبة) وابن خزيمة في "صحيحه"(2/226/1220) وابن حبان في "صحيحه"(9/348/4040) والطبراني في "الكبير"(4/رقم: 3901) والحاكم (1/314) والبيهقي (7/147) .

من طريق: ابن وهب، أخبرني حيوة، أن الوليد بن أبي الوليد أخبره، عن أيوب بن خالد بن أبي أيوب الأنصاري عن أبيه عن جده به مرفوعاً.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي! "وليس كما قالا؛ فإن خالد بن أبي أيوب أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/2/322) بهذا السند، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو مجهول العين. وابنه أيوب بن خالد؛ قال الحافظ: "فيه لين". أفاد ذلك العلامة الألباني.

وأخرجه أحمد (5/423) أو رقم (23705) من طريق: ابن لهيعة، عن الوليد بن أبي الوليد وانظر:"الضعيفة" رقم (2875) .

2 أخرجه ابن حبان (3/167/885) والطبراني في "الدعاء"(3/1408/1304) وأبو يعلى (2/497/1342) والبزار (4/56/3185) .

ص: 446

أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كان كذا وكذا خيراً لي في ديني وخيراً لي في معيشتي وخيراً لي في عاقبة أمري فاقدره لي وبارك لي فيه، وإن كان غير ذلك خيراً فاقدر لي الخير حيث كان ورضني بقدرك "1.

وروى الحافظ السخاوي في (كتاب الابتهاج بأذكار المسافر والحاج) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنس رضي الله عنه: "إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك، فإن الخير فيه" وعزاه السيوطي إلى الديلمي في "مسند الفردوس"2.

ومنها: في بيان كيفية صلاتها المذكور في كثير من الكتب إن من أراد الاستخارة يصلي ركعتين من غير الفريضة، ثم يدعوه وهو المصرح به في حديث جابر، وقال الحافظ ابن حجر في، "فتح الباري"3: قال النووي في "الأذكار": لو دعا بدعاء الاستخارة عقب راتبة الظهر مثلاً أو غيرها من الراتبة والمطلقة سواء اقتصر على ركعتين أو أكثر أجزأ، كذا أطلق وفيه نظر، ويظهر أن يقال: محله إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معاً، بخلاف ما إذا لم ينو، وتفارق تحية المسجد لأن المراد بها شغل البقعة بالصلاة، والمراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عقبها. إلى آخرها قال اهـ.

ثم إن ظاهر ما في حديث أبي أيوب ثم صل ما كتب الله لك أن الركعة الواحدة يحصل بها المقصود، وكلام الفقهاء على هذه المسألة مفصل ى في كتب الفقه.

1 أخرجه ابن حبان (3/168/886) والبخاري في "التاريخ الكبير"(4/258) وابن عدي في (الكامل" (4/1467) والطبراني في "الدعاء"(3/1409/1306) .

2 أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(598) وقال الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع"(735) : "ضعيف جداً".

(11/189) .

ص: 447

ومنها: إذا فرغ المستخير من الدعاء فليمض كما قال النووي لما انشرح له صدره.

قال الهيثمي: "فإن لم ينشرح صدره لشيء فالذي يظهر أنه يكرر الاستخارة بصلاتها ودعائها حتى ينشرح صدره لشيء وإن زاد على السبع، والتقييد بها في خبر أنس: "إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك فإن الخير فيه". لعله جرى على الغالب إذ انشراح الصدر لا يتأخر عن السبع، على أن الخبر إسناده غريب. ووقع للشافعي أنه استخار في أمر سنة، والكلام في هذا الباب طويل، والمقصود أن السبكي ابتدع ما لم يسبق إليه أحد وترك الأمر المسنون وهو الاستخارة إن كان ما تصدى إليه من مواضعها.

الوجه الخامس: أن السبكي زعم أنه حصل له الإذن بالرد على كتاب (العقل والنقل) وأنه أمر بذلك أمراً معنوياً كما استنبطه هو بفكره الثاقب ورأيه الصائب، فلم لم يمتثله وأين رده الذي رد به على هذا الكتاب؟ وليته ألفه ليمزق بسهام الأقلام ويكون مثلة بين الأنام، فإن الذي مبلغه من العلم ما سمعت كيف يرد على شيء لا يفهمه ولا يعرفه، ثم إن ولده تاج الدين ذكر في طبقاته ترجمة والده، ونسب إليه كل فضيلة وعزا إليه كل منقبة جليلة، وذكر مصنفاته واختياراته وكلماته وهذياناته، ولم يذكر في كتبه هذا الرد، فعلم أنه بهتان مبين، وأنه لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم على زعمه.

الوجه السادس: أن حديث عرض الأعمال في أيام مخصوصة على ما سبق بيانه في كلام شيخ الإسلام تقي الدين لا يقتضي كتابة شيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في قبره، بل إن أعمال أمته تعرض عليه فإن رأى خيراً سره وإن رأى غير ذلك احتسب، ولم يقل أحد أن له قدرة على تغيير ما لا يرضى الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وحياته البرزخية ليست الحياة المتعارفة وإلا لاقتضت لوازمها وأنّى له ذلك، فكيف يعرض عليه مثل تلك الأمور وما ذلك إلا عثرة من السبكي لا تقال،

ص: 448

ولا يصدر مثلها حتى عن ضعفاء العقول من الجهال؟ فبطل كلامه وزال مقصده ومرامه.

الوجه السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم- عند النبهاني وأسلافه الغلاة- ما كان وما يكون، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فما فائدة إعلامه بما أعلمه به السبكي من أنه رجل شافعي المذهب أشعري العقيدة إلى آخر ما هذى به، فإنه إذا علم ما كان وما يكون- ومنه أعمال السبكي وأفعاله- فلأجل أي شيء يخبره به؟ لا يقال: إن ذلك كإخبار امرأة عمران بما وضعت، وهو الذي حكاه سبحانه بقوله:{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1 الآية. قالوا: إن الله عالم بما كان فَلِمَ أخبرته امرأة عمران بما أخبرته؟ أجابوا: إن الخبر تارة يُقْصَدُ به إفادة المخاطب الحكم إذا كان غير عارف به، وتارة يقصد به إفادة لازم من لوازمه المفصلة في علم المعاني، ولازم خبر امرأة عمران هو التحزن والتحسر على خيبتها وانعكاس أملها، وحمل السبكي كلامه على ذلك مما لا وجه له.

وهذا الذي ذكرنا هـ- من أن الغلاة يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه- هو مما لم يمكنهم إنكاره، كيف والنبهاني على ما أسلفناه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان وكل زمان، وقد تكلمت يوماً مع أحد غلاة الرفاعية الزنادقة ومشركيهم- إذ استغاث بالرفاعي قبل الشروع في ذكرهم- فقلت له: هل يسمع الآن نداءك الرفاعي وهو في قبره في أم عبيدة ويمدك؟.

قال: نعم.

قلت: فإذا اتفق مثلك في بلاد كثيرة ومواضع متعددة ألوف مؤلفة وإن كانوا

1 سورة آل عمران: 35- 37.

ص: 449

في أقطار شاسعة؛ فهل يسمعهم أحمد الرفاعي ويمدهم ويغيثهم؟

قال: نعم.

قلت: هذا هو الغلو الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم.

قال: ليس هذا من الغلو بل هو مقتضى الدين، ألم تسمع حديث الأولياء وهو قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري:"وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" الحديث؟ فظن هذا الغبي الجاهل أن معناه ما يعتقده إخوانه أهل الزيغ والإلحاد من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدرات أنه يصير في معنى الحق تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله تعالى هو الذاكر لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدماً صرفاً في شهوده وإن لم تعدم في الخارج.

أقول قد زلَّتْ أقدام أقوام في معنى هذا الحديث واستشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره.

والجواب على ما ذكره العسقلاني في شرحه من أوجه:

أحدها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح.

ثانيها: أن المعنى كليته مشغولة بي فلا يصغي بسمعه إلا ما يرضيني ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به.

ثالثها: أجعل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره إلخ.

رابعها: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه.

خامسها: قال الفاكهاني، وسبقه إلى معناه ابن هبيرة: هو فيما يظهر لي أنه

ص: 450

على حذف مضاف والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه وحافظ بصره كذلك إلخ.

سادسها: قال الفاكهاني: يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله وهو أن يكون معنى سمعه مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل فلان أملي بمعنى مأمولي، والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكري، ولا يلتذ إلا بتلاوة كلامي، ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا ينظر إلا لعجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك" انتهى.

وقد ذكرت هذه المسألة في موضع آخر.

والمقصود؛ أن الغلاة يعتقدون أن الولي يعلم كما يعلم الله، ويبصر كما يبصر الله، ويسمع كما يسمع الله، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأولياء والأصفياء، فلا بد أنهم يعتقدون فوق اعتقادهم في الولي، فإذا كان الأمر على ما ذكر فلا وجه لما كتبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان السبكي لا يعتقد ذلك الذي ذكرناه من الصفات التي لا تثبت إلا للخالق دون الخلوق فما وجه كتابة تلك المقالة ونظم القصيدة وإرسالهما مع الشيخ نور الدين السخاوي؟ فعلى كلا الوجهين أن السبكي قد أخطأ فيما فعله وأبان به جهله وغيه وضلاله.

هذا حال السبكي الذي أعده النبهاني المسكين سلاحاً في ميدان الطعن بشيخ الإسلام وجرحه، والحمد لله الذي جعل أعداء أهل الحق في كل عصر وزمان من أجهل الناس وأضلهم وأغواهم، ومن العجائب أن السبكي- مع هذه الأحوال التي سمعتها- قد جعله ابن حجر المكي من المجتهدين الاجتهاد المطلق، وأنه مما لم يخالف أحد في وصوله إلى هذه المرتبة، وأنه أمام أهل التحقيق، التدقيق، وأنه ليس له نظير ولا قرين في كل فن، إلى غير ذلك من الأوصاف الجليلة، فإذا جرى ذكر تقي الدين ابن تيمية وأصحابه من أهل الحديث الحفاظ المتقنين شتمهم بكل ما خطر له، وذمهم بكل ما يقع في تصوره، فانظر إلى هذا التعصب وعدم الإنصاف، وهذا أحد الأسباب التي أوجبت انحطاط الإسلام إلى ما نرى،

ص: 451

وأعظمها تطاول السفهاء وإناطة الأمر إلى غير أهله، وعنده يترقب الخراب العام.

وابن السبكي الذي جرى مجرى أبيه لم يدع منقبة من مناقب الأولين والآخرين إلا وأثبتها لوالده ظناً منه أن الحقائق تخفى، وما درى هذا المسكين أن الأمر كما قيل:

ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وفي المثل السائر: كل فتاة بأبيها معجبة.

والمقصود؛ أن قدح مثل السبكي بمثل الشيخ ابن تيمية كصرير باب، وطنين ذباب، ولولا التُّقى لقلنا: لا يضر السحاب نبح الكلاب.

قال النبهاني: ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، وذكر من فضله وغزارة علمه ما هو غني عن البيان، ونقل عنه عبارة ذكرها في "فتح الباري" عند الكلام على حديث:"لا تشد الرحال" إلخ، وهي قوله في مسألة تحريم شد الرحل والسفر إلى زيارة القبور: وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية إلخ، ثم نقل عنه ما قاله في تقريظه على كتاب (الرد الوافر) مما ليس فيه مطعن ولا مغمز لثالب.

جوابه أن الحافظ ابن حجر العسقلاني موالاته ومحبته للشيخ ابن تيمية مما لا ينكره إلا جاهل1، وقد تلّقى العلم عن تلامذة الشيخ وأصحابه وانتفع بكتبه وقرأ كثيراً منها درساً، وهذا هو اللائق به وبأمثاله من أهل الفضل والعلم، وقد قيل: إنما يعرف ذا الفضل ذووه. والعبارة التي نقلها النبهاني عنه وهي قوله عن منعه من سفر الزيارة: وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية إلخ. أي طعن فيها وقدح في عدالة ابن تيمية؟ ومن المعلوم ما كان من الردود على كل من الأئمة، ولم يخل ذلك بشرفهم ولا خفض من منزلتهم، وقد قال غير واحد من أهل العلم: إن مسألة التزوج بالبنت من الزنا من أبشع المسائل المنقولة عن

1 وللحافظ ابن حجر العسقلاني ترجمة مستقلة لشيخ الإسلام، وقد طبعت بدار ابن حزم ببيروت.

ص: 452

الشافعي، وأن مسألة تزوج المغربي بالمشرقي أو بالعكس ثم ولدت الزوجة ولداً يلحق بالأب وإن لم يجتمع الزوجان قط من أبشع المسائل المنقولة عن أبي حنيفة، وإن جواز التيمم بالثلج من أبشع المسائل المنقولة عن الإمام مالك، وهكذا إلى ما لا يسعه المقام، وأي إمام من الأئمة لم ينسب إليه أقوال شاذة؟! هذا إذا قلنا إن مسألة المنع من سفر الزيارة من الشواذ، مع أن الأمر ليس كما ذكروا، كيف والأدلة القطعية قائمة على ما قاله؟ وقد سبقه إليه الأئمة المقتدى بهم وقد سبق بيان ذلك مفصلاً فيما نقلناه عن الشيخ من الكتابين، وما نقله النبهاني من كلام الحافظ العسقلاني على (الرد الوافر) هو رد عليه، لأنه ليس فيه إلا الثناء والمدح، وتبرئته عما يوجب اللوم والقدح، ولم ينقل العبارة بعينها لأن ذلك مناقض لغرضه الفاسد، ومخالف لما يرومه من التلبيس والتدليس قالته الله ما أجهله، وها نحن ننقلها بنصها ليتبين ما ذكرناه أنه كان من أخلص الناس مودة لشيخ الإسلام:

قال العلامة المحدث السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس عليه الرحمة في كتابه (القول الجليّ في ترجمة الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي) صورة تقريظ للإمام الحافظ في عصره بل حافظ الدنيا العلامة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن العسقلاني قدس الله سره على (الرد الوافر) 1 لابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي رحمه الله تعالى ولفظه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وقفت على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لها جامع، فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنفه، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين العلماء وشرفه، وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين ابن تيمية أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام باق إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره وتجنب الإنصاف، فما أكثر غلط من

(ص 246- وما بعدها) .

ص: 453

تعاطى ذلك وأكثر عثاره، فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور نفوسنا، وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله.

ولو لم يكن من فضل هذا الرجل1 إلا ما نبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه؛ أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين لكفى، وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جداً شهدها مؤون ألوف، لكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير ما كان ببغداد بل أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم من شهود جنازته، وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد، وكان أمير بغداد وخليفة الوقت إذ ذاك في غاية المحبة له والتعظيم، بخلاف ابن تيمية، وكان أمير البلد حين مات غائباً، وكان أكثر من في البلد من الفقهاء قد تعصبوا عليه حتى مات محبوساً بالقلعة، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم والتأسف عليه إلا ثلاثة أنفس تأخروا خشية على أنفسهم من العامة، ومع حضور هذا الجمع العظيم فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته لا بجمع سلطان ولا غيره، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أنتم شهداء الله في الأرض"2.

ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعُقِدَتْ له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة ودمشق، ولا يعلم عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا حكم بسفك دمه، مع شدة المتعصب عليه حينئذ من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم يعترف بسعة علمه وزهده ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصرة الإسلام، والدعاء إلى الله تعالى في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق أنه كافر بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك فإنه شيخ مشايخ الإسلام في عصره بلا ريب. والمسائل التي أُنكِرَتْ عليه ما كان يقولها بالتشهّي، ولا يصر على القول بها بعد

1 في "الرد الوافر": "ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل..".

2 أخرجه البخاري (2642) ومسلم (949) .

ص: 454

قيام الدليل عليه عناداً. وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبرّي منه. ومع ذلك فهو بشر يخطىء ويصيب، فالذي أصاب فيه- وهو الأكثر- يستفاد منه ويترحّم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه بل هو معذور، لأن علماء الشريعة شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه العاملين في إيصال الشر إليه- وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني- شهد له بذلك، وكذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره.

ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان من أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فيا قرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره، ويا سرورهم إذا رأوا من يكفره من أهل العلم. فالواجب على من تلبس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشهورة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر، فليحذر منه على قصد النصح، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء الأنجاب.

ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية، صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف؛ لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته، فكيف وقد شهد بالتقدم في العلوم والتميز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة؟

فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام لا يلتفت إليه ولا يُعَوَّلُ في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذاك إلى أن يراجع الحق ويذعن للصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قال: وكتبه أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي عفا الله عنه، وذلك

ص: 455

التاسع من شهر ربيع الأول عام خمسة وثلاثين وثمانمائة، حامداً لله ومصلياً على محمد ومسلماً. هذا آخر كلامه.

فانظر أيها المنصف إلى كلام هذا الإمام في الذب عن شيخ الإسلام؛ هل تراه منتصراً له أم طاعناً عليه؟ وهل تجده مادحاً له أم موجهاً سهام الذم بين يديه؟

وانظر إلى تحريف النبهاني الذي سبق به تحريف أسلافه اليهود، فقد نقل منه ما ظن بزعمه أنه ينفعه، وترك ما هو شجي في فمه، كل ذلك لأجل ترويج ضلاله وهواه وباطله.

فبالله عليك أيها الواقف على مثل هذه الأحوال؛ هل يليق أن يولى هذا الرجل الحكم على أموال الناس وأعراضهم ودمائهم، وهو يخون- جهلاً واتباعاً لهواه- هذه الخيانة التي لم تخف على أحد من طلبة العلم فضلاً عن أكابر العلماء، ومحققي الفضلاء؟! فيا خسارة لمن تولى الحكم عليه هذا الغبي الجاهل، وعبث كما أداه إليه هواه في المحافل.

قال النبهاني: ومنهم السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس ألف كتاباً مستقلاً سماه (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي) ذكر فيه مناقبه وكلام العلماء في الثناء عليه، إلى أن قال: قال صفي الدين في كتابه المذكور: قد نص على أنه- أي ابن تيمية- بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين، ومن أشنع ما وقع له مسألة تحريم السفر إلى زيارة القبور، وقد قال به قبله أبو عبد الله بن بطة الحنبلي في "الإبانة الصغرى".

ثم قال صفي الدين في موضع آخر من كتابه: فإن قلت ما نقلته في هذا الجزء يدل على براءة الشيخ مما نسب إليه، فما بال عليّ القاري والتقي الحصني وابن حجر الهيتمي وغيرهم ينسبونه إلى أمور فظيعة.

قلت: اعلم- وفقك الله تعالى- أن ابن تيمية رحمه الله تعالى كان رجلاً

ص: 456

مشهوراً بالعلم والفضل وحفظ السنة، وكان مبالغاً في مذهب الإثبات، وكان يكره التأويل أشد الكراهة، وكان يرد على الصوفية ما ذكروه في كتبهم من وحدة الوجود وما شاكلها على عادة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين، فرد على الشيخ محي الدين ابن العربي، والشيخ عمر بن الفارض، وعبد الحي بن سبعين وأضرابهم، وكان قد خالف الأئمة الأربعة في بعض الفروع كمسألة الزيارة والطلاق، وكان يناظر عليهما فقام عليه ناس وحسدوه وأبغضوه وأشاعوا عنه ما لم يقله من التشبيه والتجسيم وغير ذلك، فدخل ذلك على بعض أهل العلم من الحنفية والشافعية وغيرهم ولم يطلبوا تحقيق ذلك من كتبه المشهورة، واعتمدوا على السماع فوقع منهم ما قد وقع، وقد وقع مثل هذا لغير واحد من أهل العلم والفضل.

ثم قال: وقد أنكروا على الشيخ أشياء لا بأس بذكر الجواب عنها والاعتذار؛ فأقول: قالوا يقول بحرمة السفر إلى زيارة القبور، وقد خالف في ذلك الإجماع، قال صفي الدين: قلت وهو مخطىء في ذلك أشد الخطأ، ولكن لا يلزم من القول به التفسيق فضلاً عن التكفير، لأنه صدر ذلك عن شبهة ولو كان ذلك الدليل خطأ عندنا". انتهى كلام صفي الدين البخاري. ومثله العلماء الذين أثنوا على ابن تيمية ذكروا خطأه الفاحش في مسائله التي خالف فيها الإجماع". انتهى كلام النبهاني.

والجواب: أن كلام النبهاني هذا على نمط ما قبله، فإن السيد صفي الدين الحنفي عليه الرحمة ألف كتابه (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي) وذكر فيه أقوال أساطين العلماء الذين أثنوا عليه، وذب عنه وأجاب عما نسب إليه من الاختيارات بما لا مزيد عليه، وقال في خطبة كتابه:

"وبعد؛ فهذا جزء لطيف في ترجمة شيخ الإسلام، وبركة الأنام، علم الزهاد، وأوحد العباد، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، تقي الدين أبي العباس، وذكر نسبه إلى أن قال ابن تيمية الحراني نزيل دمشق رحمه الله، لخصته مما اجتمع عندي من كلام الفقهاء والمحدثين، رجاء للثواب ونفعاً للأحباب ".

ص: 457

فانظر أيها المنصف كيف ساغ للنبهاني الجهول أن يذكر السيد صفي الدين هذا من جملة من رد على الشيخ ابن تيمية وينقل عنه ما يهدم بنيانه؟ وهل ذلك إلا من جملة أحكام منصبه التي يحكم بها بغير ما أنزل الله؟ قاتله الله تعالى ما أشغفه بالباطل واتباع الهوى!

والعبارة التي نقلها محرفة غير منقولة بتمامها، وكتاب السيد صفي الدين بين الأيدي فلا نتعب البنان بنقل كلامه في هذا المقام، وقد أسلفنا مراراً أن رد بعض العلماء على بعض لا يستوجب القدح على من رد عليه ولا تبديعه ولا تفسيقه بوجه، هذا فخر الدين الرازي قد حشى تفسيره من الرد على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وملأه من الهذيان عليه فأيّ قدح لحق بالإمام أبا حنيفة من ذلك؟ واعترض بعض علماء المالكية على الإمام الشافعي بما لا مزيد عليه فأفي نقص لحقه منه؟ وهكذا مما لا يسع المقام بيانه، هذا لو سلمنا أن السيد صفي الدين قد رد على الشيخ، فكيف والأمر بخلاف ذلك؟.

قال النبهاني: "ومنهم الحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي، ثم نقل من كتاب السيد صفي الدين ما ذكره من عبارته المشتملة على الثناء على الحافظ ابن القيم، إلى أن قال: نعم أوذي بسبب قوله بقول الشيخ ابن تيمية في مسألة الطلاق، ومع أنه خالف الأئمة الأربعة في ذلك فلم ينفرد به كما هو مبين في موضعه، وهو وإن كان خطأ فاحشاً فلا يوجب التفسيق" انتهى.

والجواب: ما حكيناه سابقاً؛ فإن ما نقله من الكلام هو أيضاً على نسق ما قبله، فإن النبهاني ينقل ما ذكره السيد صفي الدين من أقوال العلماء الذابة عن الشيخ فيعكس النبهاني القضية ويجعل تلك الأقوال رادة عليه، ثم ذكر كلام البلقيني، والإمام السيوطي، والكزبري، والشيخ علي القاري، والخفاجي، وابن إسحاق المالكي، والزرقاني، والصفدي، والمناوي، في الرد على الشيخ بزعمه، مع أن غالب من ذُكِرَ كانوا من المثنين عليه والموالين له، وكلامهم الذي نقله عنهم يشهد لما قلناه، ولو سلم أن في كلام بعضهم غض على الشيخ استوجبه

ص: 458

التعصب والتقليد للأشياخ وعدم الإنصاف فلا نتعب البنان بنقل عباراتهم والكلام عليه.

قال النبهاني: "ومنهم صاحبنا العالم العامل الفاضل الكامل الشيخ مصطفى بن أحمد الشطي الحنبلي الدمشقي، قال: ألف حفظه الله رسالة مخصوصة سماها (النقول الشرعية في الرد على الوهّابية) وختمها بخاتمة في تأييد مذهب سادتنا الصوفية، وطبعها ونشرها، فمما قاله في المقالة الأولى منها- التي تكلم فيها على الاجتهاد-: "لا شك أن من ادّعى ذلك في هذا الزمان عليه إمارة البهتان، كما يقع دعوى ذلك من فرقة شاذة نسبت نفسها للحنابلة". إلى أن قال: "وقد ينكرون دعوى الاجتهاد ويحتجون بعبارة شيخ الإسلام ابن تيمية فقط مع أن الإمام المذكور قد خرج من مذهب الحنبلي في عدة مسائل تفرد بها وتهيأ بخصوصها للاجتهاد المطلق، إلا أنها لم تدون على كونها مذهباً له كما دونت فروع مسائل المذاهب الأربعة.

ثم ذكر بعض تلك المسائل إلى أن قال: وذكر في المقالة الرابعة من هذه الرسالة جواز التوسل والاستغاثة والاستشفاع بالأنبياء والأولياء والصالحين حال حياتهم وبعد مماتهم، وأقام الدليل على ذلك من الكتاب والسنة

إلى آخر قوله".

والجواب: أن النبهاني كالغريق يتشبث بالحشيش، حيث استدل بكل قول سمعه ووافق هواه، ولو كان صادراً من الأطفال والصبيان، وقصده أن يعظم حجم كتابه ليهول به على أمثاله من الجهلة، ومن الشيخ مصطفى هذا الذي ذكره حتى يحتج بقوله في باب الجرح والتعديل؟! أيظن أنه بسبب انتمائه إلى مذاهب الحنابلة يؤخذ بقوله ويوثق بنقله؟ فهل يلزم أن من ينتمي إلى الشافعي كلهم كالسبكي وابن حجر المكي ونحوهما من الغلاة؟ لا والله؛ بل فيهم أئمة هادون مهديون، وأفاضل منصفون، وهكذا أصحاب كل مذهب والناس معادن.

وما كل مخضوب البنان بثينة

ولا كل مصقول الحديد يماني

ص: 459

هذا مع أن ما نقله عن صاحبه فلا حجة فيه لما هو بصدده.

أما مسألة انقطاع الاجتهاد التي ذكرها فقد تكلمنا عليها أول الكتاب بما لا مزيد عليه، وأما ما نقله عن شيخ الإسلام فهو حق وقد شهد له بالاجتهاد المطلق أكابر العلماء، وأما قوله بالاستغاثة والتوسل فقد مر الكلام على بطلانها مفصلاً، وأما ثناؤه على الصوفية فلم يبين الثناء منه كان على أي قسم منهم، فأما من كان منهم على منهج الجنيد وأضرابه فهم أهل للثناء، وأما من كان يقول منهم بوحدة الوجود ويتكلم بما يصادم الشريعة فمدحهم والثناء عليهم مما يأباه العلماء الربانيون، فما نقله عن صاحبه لا يفيده فيما هو بصدده من ذكر كلام الرادين على شيخ الإسلام، وقد ذكرنا أنه ليس في كلامه ما يرد عليه، وكتاب النقول الشرعية قد رد عليه علماء أهل السنة فلا نناقشه على ما ذكر من السقط.

قال النبهاني: ومنهم الإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي المكي، وهو أشدهم رداً على ابن تيمية محاماة عن الدين، وشفقة على المسلمين، من أن يسري إليهم شيء من غلطاته الفاحشة، ولاسيما فيما يتعلق بسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن نظر بعين الإنصاف شهد لهذا الإمام ابن حجر بالولاية، وأنه ربما يكون قد أطلعه الله! على ما سيحصل في المستقبل من الأضرار العظيمة التي ترتبت على أقوال ابن تيمية، من فرقته الوهابية، التي هو أصل اعتقادها، وأساس فسادها، ولا يخفى ما خصل منها من الأضرار العظيمة في حق المسلمين والإسلام، ولاسيما في الحرمين الشريفين وجزيرة العرب، فمن المحتمل احتمالاً قريباً أن يكون الحق سبحانه وتعالى قد أطلع الإمام ابن حجر على ذلك على سبيل الكرامة! وهو أهل لذلك، فإنه رضي الله عنه كان من أكابر العلماء العاملين، والأئمة الهادين المهديين، وهذا علمه وكتبه النافعة التي خدم بها الأمة المحمدية خدمة لم يشاركه فيها سواه من عصره إلى الآن قد ملأت الدنيا، وانتفع بها الخاص والعام في جميع بلاد الإسلام، ومن كان كذلك لا يستبعد عليه أن يكون الله تعالى قد أكرمه بإطلاعه على بعض المغيبات، ومنها ما حدث من فرقة الوهّابية أتباع ابن تيمية من المضار العظيمة على الشريعة

ص: 460

المحمدية، والملة الإسلامية، ولذلك كان رضي الله عنه أشد أئمة المسلمين إنكاراً لبدع ابن تيمية ورداً عليه بأشد العبارات شفقة على المسلمين، ومحاماة عن هذا الدين المبين، وله في ذلك عبارات كثيرة في كتبه ولاسيما في الفتاوى الحديثية، ولم أر حاجة إلى نقلها هنا فمن شاءها فليراجعها.

أقول: إنا قد أسلفنا عن النبهاني هذا المفتري على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه قد اتصف بصفات الخزي والسوء وعدم الأدب والحياء من الله ومن الناس فلا يستحى من كذب ولا يبالي بخزي، وأما مساويه فهي كما قال القائل:

مساو لو قسمن على الغواني

لما أمهرن إلا بالطلاق

وهو- والأمر لله تعالى- لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فلا ينجع فيه كلام ولا يؤثر فيه سهام الملام، بل هو كما قال المتنبي:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

ولم يزل يبدي ويعيد بباطله، ويكرر كلامه مرة بعد أخرى، وينقل المسائل التي قد تكرر الرد عليها من العلماء الأعلام، ومزقوها بسهام الملام، ولم يؤثر فيه كل ذلك حتى كأنه لم يسمع بما قيل فيها وطعن عليها، بل يعتقدها وحياً منزلاً من الله عز وجل، فهو ممن قال الله تعالى فيه:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 1.

وقد ذكر في هذا الكلام كلاماً لابن حجر المكي- عامله الله بعدله - في قدح ابن تيمية وسبه وشتمه، وقال: إنه كان أشدهم رداً عليه.

والأحرى به أن يقول إنه كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا، فإنه قد ملأ كتبه بشتم عباد الله الصالحين، أهل الحديث النبوي وخدّام السنة المطهرة والشريعة الغراء، وقد انتدب للرد عليه بعض أهل العلم من عصرنا وقبله وبينوا سقطاته

1 سورة البقرة: 74.

ص: 461

وغلطاته، وكذبه وافترائه، وخيانته في النقل، وتحريفه للكلم عن مواضعه، وغير ذلك من الأمور التي لا يقدم عليها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومزقوا بسهام أقلامهم جميع ما حاكه من نسج الأباطيل وزخرف الأقاويل بما لا مزيد عليه، كما قد ردوا على أسلافه الغلاة بمثل ذلك، وكتبهم مشهورة متداولة بين الأيدي، وفيها الكفاية لمن أخذت الهداية بيديه، ومن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وحيث أن النبهاني ميت القلب، بليد الطبع، جامد القريحة، يرى كلام متبوعيه وأسلافه كالشريعة المنزلة والدين المتّبع، ولا شك أن ذلك مما كان عليه أهل الجاهلية، ففي "شرح مسائل الجاهلية" التي أبطلها الإسلام للعلامة أبي عبد الله الشيخ محمد قوله: "ومنها الاقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم وقد حذرهم الله تعالى من ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2. إلى آيات أخر تنادي ببطلان الاقتداء بالفسقة وأهل الضلالة والغي، وذلك من سنن أهل الجاهلية، وطرائقهم المعوجة الردية.

قال: ومنها الاحتجاج بما كان عليه القرون السالفة من غير تحكيم العقل والأخذ بالدليل الصحيح، وقد أبطل الله ذلك بقوله:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى *كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} 3 الآية. وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا

1 سورة التوبة: 34.

2 سورة المائدة: 77.

3 سورة طه: 49- 54.

ص: 462

الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 1. وقال عز ذكره: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} 2. وفي آية أخرى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 3.

فجعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول ما جاءت به الرسل أنه لم يكن عليه أسلافهم ولا عرفوه منهم، فانظر إلى سوء مداركهم وجمود قرائحهم، ولو كانت لهم أعين يبصرون بها وآذان يسمعون بها لعرفوا الحق بدليله، وانقادوا لليقين من غير تعليله، وهكذا أخلافهم ووراثهم قد تشابهت قلوبهم"اهـ.

والنبهاني من هؤلاء القوم الذين تكلم عليهم في شرح المسائل، وهو مع جهله بكل علم ألف كتاباً ذكر فيه مباحث كأنه لم يسمع بردها، ولا علم بباطلها، وملأه من الهذيان والزور والبهتان، فكان ممن قالوا:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .

ومع ذلك فنحن نتكلم على ما نقله هنا عن ابن حجر، ونجيب عنه بجوابين مجمل ومفصل.

أما الجواب المجمل؛ فهو أن ما نُقِلَ عن ابن حجر لا يضر شيخ الإسلام فإنه عدو له ومن خصومه الألداء، كما يدل على ذلك ما كان منه من الشتم والسب واللعن وغير ذلك مما لا ينبغي أن يذكر بعضه في حق أعداء الله كاليهود وغيرهم من أعداء الدين، وذلك خارج عن قوانين المناظرة المقصود منها إظهار الصواب، والحامل له على ذلك تعصبه للسبكي، فإن كثيراً من الشافعية لهم حظ وافر مما

1 سورة القصص: 36- 37.

2 سورة المؤمنون: 23- 25.

3 سورة ص: 6-7.

ص: 463

كان عليه أهل الجاهلية من انتصار بعضهم لبعض ولو ظلماً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"من تعزّى بعزاء الجاهلية فاعضّوه بِهنّ أبيه ولا تكنوا"1.

وفي "شرح المسائل" التي أبطلها الإسلام ما نصه: "ومن خصال الجاهلية أنهم لا يقبلون من الحق إلا ما تقول به طائفتهم، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2.

ومعنى (نؤمن بما أنزل علينا) أي: نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل في تقرير حكمها. ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل وهو الظاهر وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغياً وحسداً على نزوله على من ليس منهم، وإما أنفسهم، ومعنى الإنزال عليهم: تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن، ودسائس اليهود مشهورة، أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم، كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه.

(ويكفرون بما وراءه وهو الحق) أي: هم مقارنون لحقيقته أي عالمون بها. (مصدقاً لما معهم) لأن كتب الله يصدق بعضها بعضاً، فالتصديق لازم لا ينتقل، وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالاستدلال عليه، ولهذا تضمنت رد قولهم:

1 أخرجه أحمد (5/133، 136) أو رقم (21298، 21313، 21314، 21315، 21317) والبخاري في "الأدب المفرد"(963) والنسائي في "الكبرى"(6/242/1080، 10811، 10812) والطبراني في "المعجم الكبير"(1/رقم: 532) وغيرهم، وصححه الألباني في "الصحيحة"(269) .

قال الجيلاني في "فضل الله الصمد"(2/428) : "تعزّى: التعزي: الانتساب إلى قوم، كقولهم: يا لفلان، يا لبكر، يا لتميم.

وأعضوه بهن أبيه: أي: اشتموه صريحاً وسبّوه. والعض أخذ الشيء بالأسنان، والمعنى: اعضض بهن أبيك الذي كان سبباً لولادتك تنكيلاً".

2 سورة البقرة: 91.

ص: 464

{نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} حيث أن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك تسكيتاً لهم حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوغه.

قال: ومنها التعصب للمذهب والإقرار بالحق للتوصل إلى دفعه، قال تعالى:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1.

قال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا آخر النهار، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذاك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا إنهم أهل كتاب وهم أعلم به، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم" انتهى.

وما كان عليه ابن حجر المكي من الغلو في القبور والقول بأقوال المتصوفة الكاذبة وترويج بدعهم المعلومة أمر لا يسعه الإنكار، وكتبه طافحة بمثل هذه الأكاذيب، وشيخ الإسلام قد بين أحكام الله تعالى في هذه الفئة الزائغة، وذكر ما وردت به الشريعة من القول الحق الذي يذعن له كل من يسمعه ويصغي إليه، وذلك من المسلم حتى لدى خصومه.

فمن جملة ما كتبه أبو الحسن السبكي إلى الحافظ الذهبي أحد من أخذ على شيخ الإسلام في حق الشيخ تقي الدين ما نصه:

"وأما قول سيدي في الشيخ فالمملوك متحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من

1 سورة آل عمران: 72- 74.

ص: 465

ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمع الله له من الورع والزهادة والديانة، ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه من ذاك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان" انتهى.

والمقصود؛ أن كل ما اعترض به ابن حجر على شيخ الإسلام مردود عليه، فإن منه ما هو افتراء، ومنه ما هو مؤيد بالحجج والدلائل القطعية، ومنه ما لم ينفرد به بل قال بقوله جمع من المجتهدين، وإن ما كان من تهور ابن حجر ليس من الدين في شيء وإنما لمزيد حبه وغيه واتباعه لهواه، فكلامه الذي نقله الغبي النبهاني وغيره كله مردود عليه.

وأما الجواب المفصل؛ فنقول: أما قول ابن حجر فيه ما قال فذلك قول النبهاني هو أشدهم رداً على ابن تيمية محاماة عن الدين وشفقة على المسلمين إلخ.. فقد صدق في جملة من هاتين الجملتين وكذب في الأخرى، أما ما صدق فيها فقوله عن ابن حجر أنه أشد الناس رداً عليه، والأمر كما قال. والسبب في ذلك ما ذكرناه سابقاً من الحب للبدع والكراهة للسنن النبوية، فإن من نظر إلى كتب الشيخ ابن تيمية وجدها ديناً خالصاً، وكلاماً أشبه شيء بالذهب المُصَفّى، وعلم منها حرصه رحمه الله على السنة والمحاماة للشريعة، والحط على أعداء الدين وخصماء السنة، ومزيد حبه للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن راجع بعض فصول كتابه (الصارم المسلول) تبين له ما قلناه.

كل ذلك بخلاف ما كان عليه ابن حجر، فتراه في كثير من كتبه يروّج البدع ويدافع عنها، ويذب عن أهلها، ويخاصم أتباع السنن، ويعادي أهل الحديث أشد العداوة، وينسب إليهم كل ما خطر على باله وجرى على لسان قلمه من الإفك والزور والبهتان، انظر إلى ما ذكره في فتاواه الحديثية بل البدعية تجدها مشحونة من العدوان على ابن تيمية، وقبل أن تنشر كتب شيخ الإسلام تقي الدين ربما كان يظن من يظن أنه صادق في منقوله، فلما انتشرت وتداولتها الأيدي تبين لكل ذي عينين أن ابن حجر كذب وافترى ولم يتوثق به أحد بعد ذلك، وسقط من درجة

ص: 466

الاعتبار بالكلية إلا لدى من أعمى الله عين بصيرته من الأغبياء.

وبذلك يظهر كذب النبهاني في الجملة الأخرى، وهي أن إنكاره كان شفقة على الدين.. إلخ، بل لو أنصف لقال: إن إنكاره كان من بغضه للدين، فإنه شوق الناس على البدع والأهواء، وحذرهم من كتب السنة ومحبة أهلها والمحامين لها، ولذلك ترى من اغتر بأقواله الكاسدة في ظلمات من الجهل والغي والعمى، لا ينجع فيهم كلام ولا تمضي فيهم سهام الملام.

وأما من طالع كتب السنة- ولاسيما كتب شيخ الإسلام- تراه قد انكشفت عن بصيرته غشاوة التعصب واتبع ما اقتضاه الدليل، وهكذا الفرق بين المبتدع والسني، ترى المبتدعة يصرفون النصوص والدلائل إلى ما تهواه أنفسهم، وأهل السنة يذهبون إلى ما يقوده إليهم الدليل، ويتركون له ما تهواه أنفسهم، وهذا بحمد الله بين.

وأما قوله: "ومن نظر بعين الإنصاف شهد لهذا الإمام ابن حجر بالولاية، وأنه ربما يكون قد أطلعه الله على ما سيحصل في المستقبل من الأضرار العظيمة".

فجوابه من وجوه:

أما أولاً: فيقال: إن الولاية والكرامة إنما تكون لصلحاء الأمة، أهل التقوى والورع والكرامة، لا تكون لمثل ابن حجر من الكذابين المفترين المتناقضين في أقوالهم المضطربين في دينهم، وما أحسن ما في كتاب "إنباء الأبناء بأحسن الأنباء":"يا بني؛ من رأيتموه يطير في الهواء أو يمشي على وجه الماء- وقد خالف شيئاً من الشريعة الغراء- فذاك من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن، فإياكم وإياه، واشتغلوا عنه بتقوى الله، وقال شيخ الإسلام في كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان": ومن حيث بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم جعله الفارق بين أولياء الله وأعدائه، فلا يكون ولي الله إلا من آمن به واتبعه ظاهراً وباطناً، ومن ادّعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من

ص: 467

أعداء الله وأولياء الشيطان قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 1. قال الحسن البصري: ادّعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم2.

وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه، ومن ادّعى محبة الله ولم يتبع الرسول فليس من أولياء الله تعالى، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فإن اليهود والنصارى يعدون أنهم أولياء الله وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان منهم، بل يذعون أنهم أبناء الله وأحباؤه قال تعالى:{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} إلى قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 3. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} إلى قوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 4. وكان مشركوا العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت، وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} 5. وقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} إلى قوله: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 6. فبين سبحانه وتعالى أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون.

وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاصر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهاراً غير سر: " إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين"7. وهذا موافق لقوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} إلى قوله:

1 سورة آل عمران: 31.

2 انظر "تفسير الطبري "(6/322) .

3 سورة المائدة: 18.

4 سورة البقرة: 111- 112.

5 سورة المؤمنون: 66- 67.

6 سورة الأنفال: 30- 34.

7 أخرجه البخاري (5644) ومسلم (366) .

ص: 468

{ظَهِيرٌ} 1. وصالحوا المؤمنين المتقون أولياء الله، ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة كلهم في الجنة، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة "2. ومثل هذا الحديث الآخر: "إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا"3.

كما أن من الكفار من يدّعي أنه ولي الله وليس ولياً لله بل عدواً له، وكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه مرسل إلى جميع الإنس، بل إلى الثقلين الإنس والجن. ويعتقدون في البواطن ما يناقض ذلك، مثل أن لا يقروا في الباطن أنه رسول الله، إنما كان ملكاً مطاعاً ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك، أو يقول إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب؛ كما يقول كثير من اليهود والنصارى، أو يقول: إنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إ ليهم ولا يحتاجون إليه، أو أن لهم طريقاً إلى الله من غير جهته كما كان الخضر مع موسى، أو أنهم يأخذون عن الله كلما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنية فلم يرسل بها ولم يكن يعرفها، أو هم أعرف منه أو يعرفونها بمثل ما يعرفها هو من غير طريقته، وقد يقول بعض هؤلاء إن أهل الصفة كانوا مستغنين عنه ولم يرسل إليهم" إلى آخر ما ذكره من التفصيل الذي لا تجده في غيره.

ومنه يعلم أن ابن حجر المكي ليس منهم في شيء، فإنه كان ممن يُجَوِّزُ الالتجاء إلى غير الله تعالى، والاستغاثة بالأنبياء والصالحين، والاستعانة بهم والتوسل، وغير ذلك مما أسلفنا حكمه، وبينا اختلاف أهل العلم في إيمانه

1 سورة التحريم: 4.

2 أخرجه مسلم (2496) .

3 أخرجه أحمد (5/235) .

ص: 469

وإسلامه، هذا ما عدا ما ذكره في تضاعيف كلامه ولاسيما في كتابه (الجوهر المنظم) وما عدا ما اقترف من الإثم في شتم خيار الأمة وسبّهم ولعنهم، والافتراء عليهم، فإن هذه الأمور متى اتصف بها شخص كان حكمه معلوماً، فكيف يجعل من الأولياء ويثبت له كرامات وخوارق؟! نعم، إنه يليق أن يكون لدى النبهاني من الأولياء، وإن الشياطين بعضهم أولياء بعض.

وأما ثانياً: فلأن الأضرار التي ادّعاها لموافقي ابن تيمية لم يبيّن ما هي، ونحن نعلم أن كل ما يخالف الكتاب والسنة فوجوده ضرر محض، ومن وافق ابن تيمية في أقواله إنما نهى عن المنكرات التي كانت بين الناس مما لم يكن مثلها في الجاهلية الأولى، وأمر بالمعروف الذي يحبه الله ورسوله، كل ذلك معلوم لدى العقلاء، فلِمَ لَمْ يُطْلِع اللهُ ابنَ حجر- إذا كان ولياً وصاحب كرامة- على ما حدث في الإسلام من الزيغ والاعوجاج والمنكرات الكثيرة في أخص بلاد الإسلام وأشرفها، وما صادم الدين المبين من القواعد والأحكام التي يعرفها النبهاني ولا يحتاج إلى أن ينبه عليها، فإنها اختلطت بلحمه وعظمه وعليها مدار معاشه وانتعاشه؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 1.

وأما ثالثاً: فإن قوله: "إن الأضرار التي ترتبت على أقوال ابن تيمية من فرقته الوهابية".. إلخ.

ليس له محصّل ولا حاصل، فنحن نطالبه ببيان تلك الأضرار التي ادّعاها أنها ترتبت على أقوال ابن تيمية، مع أن أقواله هي عن الكتاب والسنة، وما يترتب على الكتاب والسنة يترتب على الأقوال المأخوذة عنها، والله سبحانه هو الذي أمر بجهاد المشركين ومحوهم من الأرض، أفيقال أن ذلك من المضار وفي الكتاب والسنة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما هو معلوم لدى كل ذي بصر؟ أفيقال إن ما يترتب على ذلك هو ضرر والكتاب والسنة أَوْجَبَا إزالة البدع والأهواء

1 سورة البقرة: 16.

ص: 470

وإبطالها وإن أضر بأهلها؟ أفيقال: إن ما يترتب على ذلك يعد من الضرر؟ والكتاب والسنة نهيا عن جميع الكبائر والمحرمات المفصلة في غير هذا الموضع، فهل لوحظ ما يترتب على ذلك من الضرر على من تعاطاه؟ فقول النبهاني هذا ساقط ليس له وجه.

وأما رابعاً: فإن الذين أطلق عليهم اسم الوهابية- إطلاقاً غلطأً- هم أهل نجد وهم حنابلة من خيار أهل السنة، وهم من أتباع الإمام أحمد في الفروع لا من أتباع ابن تيمية، وأما في العقائد والأصول فهم ليسوا بمقلّدين لأحد فيها، وهم لم يبتدعوا شيئاً في الدين يكونون به فرقة أخرى، ولم يتخذوا مع الله آلهة أخرى كما اتخذه الغلاة.

وأما خامساً: فأي مضار ترتبت على موافقي ابن تيمية وهم الذين فعلوا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وامتثلوا أمره في الطاعة لوليّ الأمر، ويعتقدون أن مخالفته من خصال الجاهلية، ففي "شرح المسائل":"أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له عندهم فضيلة، وبعضهم يجعله ديناً، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأمرهم بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة والنصيحة لهم، وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد، وهذه الثلاث هي التي ورد فيها ما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" 1 وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية"2. وروى أيضاً عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهي مريض، فقلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعنا فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً

1 أخرجه مسلم (1715) .

2 أخرجه البخاري (7053، 7054، 7143) ومسلم (1849) .

ص: 471

بواحاً عندكم من الله فيه برهان"1. والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية" انتهى.

وما كان من الحروب في نجد بين رؤسائهم أي ذنب لهم فيه، وهم لم يبدأوا أحداً بحرب ولا ضرب حتى يبدأ الغير به، فحينئذ يدافعون عن أنفسهم، ودفع الصائل مأمور به، فلم يحصل منهم ضرر على الشريعة بل هم أكثر المسلمين محاماة عليها كما سبق.

وأما سادساً: أن ما ينقل عن أهل نجد مما فعلوه بالحرمين لا أصل له كما لا يخفى على من طالع كتب تواريخهم، وفي كتاب (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) وتتمته نبذة من ذلك، وجزيرة العرب تشمل الحرمين، بل هما الجزيرة بلسان الشرع، فلا وجه لعطف الجزيرة على الحرمين.

وأما قوله: ولذلك كان رضي الله عنه أشد أئمة المسلمين إنكاراً لبدع ابن تيمية إلخ.

فجوابه: إنا قد ذكرنا سابقاً أن ما كان منه من التهور والتجاوز على ابن تيمية اتباعاً لهواه، وابن تيمية من أعظم الناس اتباعاً للسنة وأكثرهم رداً للبدع، وقول النبهاني شبيه بقول إخوانه المشركين، ففي كتاب "شرح المسائل التي أبطلها الإسلام من خصال الجاهلية": تسميتهم أتباع الإسلام شركاً، قال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2.

أخرج ابن إسحق بسنده حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام قالوا: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران- نصراني يقال له

1 أخرجه البخاري (7055، 7200) .

2 سورة آل عمران: 79- 80.

ص: 472

الرئيس-: أو ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره؛ ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني" فأنزل الله تعالى الآية1 انتهى.

وأظن أن النبهاني لا يفرق بين البدعة والسنة، ولا ما يطلق عليه كل واحدة منهما، بل لا يعرف الإيمان من ضده، ولذلك سمى ابن تيمية مبتدعاً، وسمى نفسه وأضرابه مؤمناً ومن أهل السنة، وقُل له منشداً:

نزلوا بمكة في قبائل هاشم

ونزلت بالبيداء أبعد منزل

وقل له:

أيها المدّعي لسلمى انتساباً

لست منها ولا قلامة ظفر

ولا بد من الكلام على البدعة حتى يعلم بعد معرفتها من المبتدع الذي أطلقه على شيخ الإسلام.

1 أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(6/539/7296- ط. شاكر) وابن أبي حاتم (2/693/3756) والبيهقى في "دلائل النبوة"(5/384) وهو في "السيرة النبوية" لابن هشام (1/554) .

ص: 473

(كلام مفيد في تعريف البدعة)

2.

اعلم أن البدعة لغة: المحدثة مطلقاً. واصطلاحاً: إذا قوبلت بالسنة يراد بها المحدثة في الدين، إما بزيادة أو نقصان، وهي السيئة التي ليس لها أصل ظاهر من الكتاب والسنة أو سند صحيح استنبطه علماء الأمة. فأما ما كانت حسنة ناشئة عن هذه الأصول فهي قد تكون مباحة، كالمواظبة على أكل لب الحنطة مثلاً، وقد تكون مستحبة كبناء المنارة وتصنيف الكتب، وقد تكون واجبة كنظم الدلائل لرد

2 انظر في ذلك: "الاعتصام" للشاطبي فقد أفاد وأجاد و"حقيقة البدعة وأحكامها" للغامدي. ط. مكتبة الرشد. و"علم أصولالبدع" للشيخ علي الحلبي. و"الإبداع" للشيخ علي محفوظ، وغيرها.

ص: 473

كيد الملاحدة وشبه الفرق الضالة. وقد وقع من ذلك عن الصحابة شيء كثير، كما وقع لأبي بكر وعمر، ولزيد بن ثابت في جمع القرآن، فإن عمر أشار به على أبي بكر خوفاً من اندراس القرآن بموت الصحابة رضوان الله عليهم لما كثر فيهم القتل يوم اليمامة وغيره، فتوقف أبو بكر لكونه صورة بدعة، ثم شرح الله صدره لفعله لأنه ظهر له أنه يرجع إلى الدين وأنه غير خارج عنه. ولما دعا زيد بن ثابت وأمره بالجمع قال له: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: والله إنه حق.

وكما وقع لعمر في جمع الناس لصلاة التراويح في المسجد مع تركه صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن كان فعله ليالي، وقال:"نعمت البدعة هي" لأنها وإن سماها بدعة باعتبار معناها اللغوي فليس فيها رد لما مضى وزيادة في الدين، بل هي من الدين لأنه صلى الله عليه وسلم علّل الترك بخشية الافتراض وقد زال بوفاته صلى الله عليه وسلم، ومنشأ الذم ما قاد إلى شيء من مخالفة السنة ودعا إلى الضلالة1.

ثم قال الفاضل السويدي: والقول الفصل الموضح لما تقدم هو أن البدعة لها معنيان: (أحدهما) لغوي، وهو المحدث مطلقاً سواء من العادات أو العبادات. (وثانيهما) شرعي؛ وهو الزيادة في الدين أو النقصان منه من غير إذن من الشارع، لا قولاً ولا فعلاً ولا تصريحاً ولا إشارة. فالبدعة التي هي ضلالة كما في الحديث؛ هي بحسب معناها الشرعي، فيقتصر بها على غير العادات من العبادات التي هي لأصول الشريعة من الكتاب والسنة والإذن من الشارع مخالفات، فالمنارة عون لأعلام وقت الصلاة، وتصنيف الكتب عون للتعليم، ونظم الدلائل لرد الشبه ذب عن الدين، فكل ذلك مأذون فيه، لأن البدعة الحسنة2 ما لم يحتج إليه الأوائل واحتاج إليه الأواخر، وعند الاستقراء لا توجد

1 وافقه هذا جيداً لتعلم ضلال وانحراف من كان دينهم مبنياً على البدع، ثم بعد ذلك يتهمون الفاروق عمر رضي الله عنه بأنه ابتاع في الدين!.

وانظر: "الاعتصام" للشاطبي (1/45، 323- 326، و 3/7- ط. الشيخ مشهور) .

2 الصواب أن يقال في الأمثلة المضروبة أنها من باب (المصالح المرسلة) . أما لفظ البدعة الحسنة فهو غير حسن لأن: "كل بدعة ضلالة" كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم.

ص: 474

هذه البدعة في العبادات البدنية المحضة كالصوم والصلاة والذكر والقراءة، بل لا تكون البدعة فيها إلا سيئة.

قال صاحب "مجالس الأبرار" ما ملخصه: لأن عدم وقوع الفعل في الصدر الأول إما لعدم الحاجة إليها، أو لوجود مانع، أو لعدم تنبه، أو لتكاسل، أو لكراهة، أو لعدم مشروعية. والأولان منتفيان في العبادات البدنية المحضة، لأن الحاجة في التقرب إلى الله تعالى لا تنقطع، وبعد ظهور الإسلام لم يكن منها مانع، ولا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم التنبه أو التكاسل، فذاك أسوأ الظن المؤدي إلى الكفر، فلم يبق إلا كونها سيئة غير مشروعة.

وكذلك يقال لك من أتى في العبادات البدنية المحضة بصفة لم تكن في زمن الصحابة، إذ لو كان وصف العبادة في الفعل المبتدع يقتضي كونه بدعة حسنة لما وجد في العبادات ما هو بدعة مكروهة، ولما جعل الفقهاء مل صلاة الرغائب والجماعة فيها، ومثل أنواع النغمات الواقعة في الخطب وفي الأذان، وقراءة القرآن في الركوع مثلاً والجهر بالذكر أمام الجنازة من البدع المنكرة، فمن قال بحسنها قيل له: ما ثبت حسنه بالأدلة الشرعية؛ فهو إما غير بدعة فيبقى عموم العام في حديث: "كل بدعة ضلالة". وحديث: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"1 على حاله، أو يكون مخصوصاً من هذا العام، والعام المخصوص دليل فيما عَدَا ما خُصّ منه، فمن ادّعى الخصوص فيما أحدث أيضاً احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص من كتاب أو سنة أو إجماع مختص بأهل الاجتهاد، ولا نظر للعوام ولعادة أكثر البلاد فيه، فمن أحدث شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى من قول أو فعل فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فعلم أن كل بدعة في العبادات البدنية المحضة لا تكون إلا سيئة.

والحاصل أن كل ما أحدث ينظر في سببه؛ فإن كان لداعي الحاجة بعد أن لم

1 أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) .

ص: 475

يكن- كنظم الدلائل لرد الشبه التي لم تكن في عصر الصحابة، أو كان وقد ترك لعارض زال بموت النبي صلى الله عليه وسلم كجمع القرآن؛ فإن المانع منه كون الوحي لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء وقد زال- كان حسناً، وإلا فإحداثه بصرف العبادات البدنية القولية والفعلية تغيير لدين الله تعالى، مثلاً الأذان في الجمعة سنة، وقبل صلاة العيد بدعة، ومع ذلك فإنه يدخل في عموم قوله تعالى:{اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} 1. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} 2. فيقول قائل: هذا زيادة عمل صالح لا يضر. فإنه يقال له: هكذا تتغير شرائع الرسل، فإن الزيادة لو جازت لجاز أن يصلي الفجر أربعاً والظهر ستاً. ويقال: هذا عمل صالح زيادته لا تضر، لكن أهل السنة يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الفعل والترك، فإن الله تعالى قد بين لنا الشرائع وأتم لنا الدين، فهذا هو من غير زيادة أو نقص، فالزيادة عليه كالنقصان، فنعبده بما شرع، ولا نعبده بالبدع، فعقولنا عن مثل ذلك قاصرة، وآراؤنا إذاً كاسدة خاسرة، والعقول لا تهتدي إلى الأسرار الإلهية، فيما شرعه من الأحكام الدينية، أو ما ترى كيف نوديت إلى الصلاة دائماً، ونهيت عنها في الأوقات الخمسة، وذلك ينتهي إلى قدر ثلث النهار، فينبغي لك أن تكون حريصاً على التفتيش عن أحوال الصحابة وأعمالهم فهم السواد الأعظم، ومنهم يعرف الحسن من القبيح، والمرجوح من الرجيح، وإذا وقع أمر ينظر فيه إلى قواعد المجتهدين الذين هم السلف لمن خلف، فإن وافق أصولهم قبله المتبع بقلبه، وإلا فلينبذه وراء ظهره وليتبصر في جلية آمره، ولا تغرنك عوائد الناس فإنها السموم القاتلة والداء العضال، وعين المشاقة المؤدية إلى الضلال، وقد كان هشام بن عروة يقول: لا تسألوا الناس اليوم عما أحدثوه فإنهم قد أعدوا له جواباً، لكن سلوهم عن السنة فإنهم لا يعرفونها.

وأخرج أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه، قال: "كل عبادة لم تفعلها

1 سورة الأحزاب: 41.

2 سورة فصلت: 33.

ص: 476

الصحابة فلا تفعلوها"1. وأخرج البيهقي أن ابن عباس قال: "أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع".

فمن البدع السيئة ما خالفت شيئاً من ذلك صريحاً أو التزاماً، وقد تنتهي إلى ما يوجب التحريم تارة والكراهة أخرى، وإلى ما يظن أنه طاعة وقربة.

فمن الأول: الانتماء إلى جماعة يزعمون التصوف ويخالفون ما كان عليه مشائخ الطريق من الزهد والورع وسائر الكمالات المشهورة عنهم، بل كثير من أولئك إباحية لا يحرمون حراماً لتلبيس الشيطان عليهم أحوالهم القبيحة الشنيعة، فهم باسم الفسق أو الكفر أحق منهم باسم التصوف أو الفقر.

ومنه ما عمت به البلوى من تزيين الشيطان للعامة تخليق حائط أو عمود، أو تعظيم نحو عين أو حجر أو شجرة، لرجاء شفاء أو قضاء حاجة، وقبائحهم في هذا ظاهرة غنية عن الإيضاح والبيان. وقد صح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مروا بشجرة سدر قبل حنين كان المشركون يعظّمونها وينوطون بها أسلحتهم- أي: يعلقونها بها-، فقالوا: يا رسول الله؛ اجعل لنا ذوات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم"2.

ومن الثاني: ومنشأه أن الشارع يخص عبادة بزمن أو مكان أو شخص أو حال، فيعممونها جهلاً وظناً أنها طاعة مطلقاً، نحو صوم يوم الشك أو التشريق والوصال، ومنه التعريف بغير عرفة، ومنه صلاة ليلة الرغائب أول جمعة في رجب، وليلة النصف من شعبان؛ فهما بدعتان مذمومتان.

1 عزاه لأبي داود كل من السيوطي في "الأمر بالاتباع"(ص 62) والقاسمي في "إصلاح المساجد"(ص12) . وقال الشيخ الألباني في "تحقيقه على الإصلاح": "لم أره في "السنن" وقد عزاه إليه غير المصنف أيضاً، وأظنه تابعاً لهم فيه".

2 تقدم تخريجه.

ص: 477

قال السويدي: ومن أعظم البدع، الغلو في تعظيم القبور، فلقد اتخذوها في هذا الزمان معابد يعتقدون أن الصلاة عندها أفضل من الصلاة في جميع بيوت الله، وهم وإن لم يصرحوا؛ ولكن طبعت قلوبهم على ذلك، فتراهم يقصدونها من الأماكن البعيدة وربما أن تكون بحذائهم مساجد مهجورة فيعطلونها، وإذا لحقوا على الصلاة فيها ولو في أوقات الكراهة كانت أفضل عندهم من الصلاة في الأوقات الفضيلة في المساجد، وتلك المساجد التي بحذاء القبور ليست مقصودة لكونها بيوتاً لله بل لكونها حضرات لمن انتسبت إليه من أهل تلك القبور، يدلك على ذلك كله أنهم لا يسمونها إلا حضرات، فإذا قلت لأحدهم: أين صليت؟ قال لك: صليت في حضرة الشيخ فلان! وليس مقصودهم به إلا التقرب به وبحضرته، وكلما أكثر الرجل الترداد إلى القبور- ولو كانت مشتملة على أنواع المنكرات من ستور الحرير والديباج والترصيع بالفضة والعقيان فضلاً عن غيرها- كان مشهوراً بين الناس بالديانات، مغفور الزلات، مقرباً عند أصحاب تلك الحضرات، ولقد امتلأت قلوب العوام من رجائهم ومخافتهم، فتراهم إذا عضلت عليهم الأمور أوصى بعضهم بعضاً بقصد أصحاب القبور، وكذلك إذا وقع على أحد يمين بالله حلف به من غير أدنى وجل أو حذر، وإذا قيل له احلف بفلان عند قبره خصوصاً إذا أمره بالغسل لهذا اليمين ليكون ذلك من أقوى العبادات؛ خاف خوفاً يظهر على جميع جوارحه، فلو سلمنا أنه أدخل إلى قبره وتعدت فرائصه وانحلت قواه، وربما أن أحدهم- لكثرة أوهامه وشدة خوفه- تبطل حواسه فيزدادون كفراً، وتضحك عليهم الشياطين جهراً، وترى كثيراً منهم يعلقون مرضاهم عليهم، فيأخذون المريض وهو في غاية شدته فيدخلونه على قبره، والسعيد عندهم من يدخلونه داخل شباكه ويتعلق بستر قبره، والرزية العظمى أنهم في حالتي السراء والضراء يتلاعب إبليس بهم، فإن مات مريضهم قالوا ما قبلنا الشيخ فلان يعنون به صاحب القبر، وإن صادت القدر فعوفي سيما إذا وافق مطلوبهم ذلك الوقت فرحوا بما عندهم من الكفر، فأرسلوا القرابين ومعها شموع العسل موقدة من بيوتهم، إظهاراً لقدر صاحب القبر وتنبيهاً على فضيلته، وكثيراً ما ينشرون الرايات له على

ص: 478

طريقة أهل الجهل من الأعراب أن من فعل شيئاً عظيماً نشرت له راية بيضاء، وقد رأيت من لم يفعل ذلك ولكنه ينصب راية بيضاء على سطح داره ثلاثة أيام يصيح كل يوم وقت المغرب بأعلى صوته الراية البيضاء المبنية لفلان بيض الله وجهه.

قال: وبالجملة؛ فأكثر البدع الخبيثة نشأت من هنالك، حتى أني رأيت بدمشق الشام أناساً ينذرون للشيخ عبد القادر الجيلي قنديلاً يعلقونه في رؤوس المنابر، ويستقبلون به جهة بغداد، ويبقى موقداً إلى الصباح، وهم يعتقدون أن ذلك من أتم القربات إليه، كأنهم يقولون بلسان حالهم: أينما توقدوا فثم عبد القادر.

فيالله العجب! ما هذه الخرافات؟! وأين دين الله الذي قد مات؟ بال الشيطان في عقولهم وأضلهم عن سبيلهم، ولا ترى أحداً ينهى وينكر أمثال ذلك.

وأعظم مما هنالك ومن أقبح المنكرات: ما يستعملها جميع الناس عند وضع الإناث ولاسيما في شدة الطلق، فإنهن يستغثن بعلي بن أبي طالب، وكلما اشتد الطلق صاحت النساء بأعلى أصواتهن داعيات ومستغيثات به ليفرج عنهن ما قد كربهن، ومن يسمعهن يتيقن إشراكهن، وقلما تسلم امرأة منهن في هذا الحال العظيم، والخطب الجسيم، وكثير منهن يزعمن أنه الموكل بالأرحام، والموكل إليه في هذه الأحوال العظام.

ومن البدع المنكرة؛ أن كثيراً من أهل الهند وأهل الأماكن القاصية يرسلون الهدايا العظيمة، والأموال الكثيرة، إما لإجراء القنوات لأجل المجاورين عند قبورهم، فإنهم عندهم أفضل خلق الله، ومن جاور عندهم فكأنما ابتاع منهم قطعة من الجنان، وإما لعمل قبابهم بصفائح الذهب والعقيان، وبعضهم يرسل هدايا عظيمة ليرسل له السدنة أعلاماً ينشرونها على فلكهم إذا وقعوا في شدتهم، فيكون اسمه المكتوب في تلك الأعلام المرسلة إليهم كشافاً لكربتهم نفاعاً لهم بإنجاح بغيتهم.

قال: وأكثر نساء بغداد إذا قمن صحيحات من وضعهن يخبزن خبزاً يسمينه

ص: 479

عباس المستعجل يزعمن أن العباس بن علي بن أبي طالب هو المتكفل بهذه الأمور العظام.

ومن ذلك عند الناس شيء كثير، من أحجار وآبار، وصخور وأشجار، يزعمون منها شفاء الأمراض وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات. ولو بسطت الكلام في ذلك- مما يستعمله الرجال والنساء، أو يختص بالنساء، من أشياء يعلقنها عليهن، ويبين خواصها وتأثيراتها في أزواجهن، ويسمينها بأسماء لو رجعت الجاهلية الأولى لعجزت عن أقل القليل من هذه الجهالات وسوء الاعتقادات- لاحتمل مجلدات، والويل كل الويل لمن أنكر ذلك، أو تكلم بأدنى شيء ينجى من تلكم المهالك.

ومن أسخف البدع؛ أنك تسمع وقت خسوف القمر من الضرب بالطسوس والنحاس شيئاً عظيماً، ولا تكاد تسمع برجل دخل بيتاً من بيوت الله للصلاة فيه أو صلى في بيته أو استغفر أو تاب أو تصدق، فبالله نستعين على زمان أميتت فيه السنن واستؤنس بالبدع، اللهم وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين آمين.

ومن البدع المنكرة؛ ما يستعمله المتصوفة من أذكار اشتملت على الدفوف والطبلات والغناء وأنواع الرقص ويسمونه حالاً، وتراهم يعملون ذلك ومغنيهم ينشدهم من الشعر المشتمل على ما لا يرضي الله تعالى، ويحضره الفسقة والمرد والنساء، فيحصل من ذلك ما تظهر به شعائر الفسق والعصيان، وترى الشيخ لو حصلت له مواجهة الظلمة وظفر بدراهمهم لعدها من أطيب المكاسب، وأقرب المراتب، لا أكثر الله من أمثالهم.

وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة؛ مبتدعة الرفاعية، فلا تجد بدعة إلا ومنهم مصدرها وعنهم موردها ومأخذها، فذكرهم عبارة عن رقص وغناء والتجاء إلى غير الله وعبادة مشائخهم، وأعمالهم عبارة عن مسك الحيات والعقارب ونحو ذلك.

ص: 480

قال ابن خلدون في (كتابه العبر) : "قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ أحمد وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذ التتار العراق، من دخول النيران، وركوب السباع، واللعب بالحيات، وهذا لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه، فنعوذ بالله من الشيطان الرجيم" انتهى.

وشيخ الإسلام ابن تيمية قد أطنب في بيان ضلالاتهم وجهالاتهم وحيلهم، وما يخدعون به الجهال وغير ذلك من أفعالهم وأعمالهم، ولهم معه حوادث ومجالس، فمن أراد الوقوف على ذلك فعليه بمراجعة كتابه الذي ألّفه في بيان أحوالهم وسماه:(كشف حال المشائخ الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية) ولولا طول الكلام لأتحفنا القراء بذكر شيء منه.

والحاصل؛ أنه لو أراد الإنسان أن يفصل منكرات القبور وتكيات الصوفية ومنكرات الحيطان والآبار والصخور والأحجار والتماثيل، وكذا منكرات المساجد والحمامات والطرقات والأسواق والبوادي والأمصار، فضلاً عن الدخول في منكرات المجالس والملابس والبيع والشراء، وما ابتدعوه فيها وجعلوه كالسنة المأمور بها؛ لضاق عنه التحرير، وعجز عن ضبطه من تصدى للتسطير، وعسى الله سبحانه وتعالى أن يرسل في هذه الأمة من يجدد لها أمر الدين، ويتبع سبيل المؤمنين.

والمقصود؛ أن النبهاني لم يعرف معنى البدعة ولا محل إطلاقها، فلذلك جعل شيخ الإسلام مبتدعاً وجعل نفسه متبعاً، مع قوله بوحدة الوجود، ونداء غير الله في الحاجات والضرورات، وصرف عمره بأحكام العدلية وقوانينها،. واعتقاده بألوهية النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الأمور التي لو اعتقد أحد أمراً واحداً منها كفى في إخراجه عن الدين المبين، وزيغه عن اتباع سبيل المؤمنين، وما أحقه بقول القائل من الأكابر والأماثل:

مساو لو قسمن على الغواني

لما أمهرن إلا بالطلاق

وأما شيخ الإسلام وعلم الأعلام؛ فقيامه بنصرة الدين أمر معلوم، وجهاده

ص: 481

في الله حق الجهاد لا ينكره ذوو الفهوم. وقول النبهاني هذا كما حكى الله عن إخوانه الجاهليين، ففي "شرح المسائل من خصالهم": الإيمان بالجبت والطاغوت، وتفضيل المشركين على المسلمين، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 1.

قالوا: نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من يهود، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب؛ فلا يؤمن هذا أن يكون مكراً منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل، ثم قال كعب: يا أهل مكة، ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم. فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجر الكوماء، ونسقيهم اللبن، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وديننا القديم، ودين محمد الحديث. فقال كعب: أنت والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد. فأنزل الله في ذلك الآية2.

والجبت في الأصل: اسم صنم فاستعمل في كل معبود غير الله.

1 سورة النساء: 50.

2 أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/974/5441) وابن جرير الطبري (8/467- 468/9787، 9788، 9789) والواحدي في "أسباب النزول"(ص 156- ط. الحميدان) والطبراني في "الكبير"(رقم: 11645) والبيهقي في "الدلائل"(3/190- 191) بإسناد مرسل.

ص: 482

والطاغوت: يطلق على كل باطل من معبود أو غيره. ومعنى الإيمان بهما: إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل، وإما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلاً، والمتبادر المعنى الأول؛ أي: أنهم يصدّقون بألوهية هذين الباطلين ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق ويسجدون لهما. اهـ.

قال النبهاني: فقد ثبت وتحقق وظهر ظهور الشمس في رابعة النهار أن علماء المذاهب الأربعة قد اتفقوا على رد بدعة ابن تيمية، ومنهم من طعن بصحة نقله كما طعن بكمال عقله، فضلاً عن شدة تشنيعهم عليه في خطئه الفاحش في تلك المسائل التي شذ بها في الدين، وخالف بها إجماع المسلمين، ولاسيما فيما يتعلق بسيد المرسلين.

الجواب عنه: أنه قد ثبت وتحقق لدى كل منصف أن علماء المذاهب الأربعة أثنوا عليه، واعترفوا بفضله، وألفوا في مناقبه كتباً مفصّلة، ومن شذّ منهم وطعن عليه أُلْقِمَ الحجر ورُدَّ عليه كلامه، وإن اعتراضه كان لجهل أو غرض أو تعصب أو نحو ذلك. وتبين أن ابن تيمية لم يبتدع شيئاً في الدين، وما اختار شيئاً إلا وأقام عليه الدلائل الصحيحة والبراهين، ومن طعن بصحة نقله فهو عدو له مبين، ولم يسلم أحد من لسان الخلق حتى رب العالمين، وسيد الأوّلين والآخرين، وغزارة عقمه من سعة عقله وكمال فضله، وما ذهب إليه من المسائل هو الحق، الحقيق بالقبول، وحديث الإجماع على خلافها كذب عند علماء المنقول والمعقول.

قال الحافظ الذهبي: "ما رأيت أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة".

وقال حافظ الإسلام الحبر النبيل أستاذ أئمة الجرح والتعديل شيخ المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الركن عبد الرحمن المزّي الشافعي في ابن تيمية: "ما رأيتُ مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله

ص: 483

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه"1. وناهيك بهذا الكلام من الحافظين العدلين المستوعبين أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي.

وقال الشيخ الإمام بقية المجتهدين تقي الدين ابن دقيق العيد الشافعي لما اجتمع به وسمع كلامه: "كنت أظن أن الله تعالى ما بقى يخلق مثلك" وقال أيضاً: "رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد"2.

وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير الشافعي: "وبالجملة كان رحمه الله تعالى من كبار العلماء، وممن يخطىء ويصيب، ولكن خطؤه بالنسبة لصوابه كنقطة في بحر لجيّ، وخطؤه أيضاً مغفور له لما صح في صحيح البخاري: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"3.

قال السيد صفي الدين الحنفي في ترجمة ابن تيمية: "قد نص على أنه بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء؛ منهم الإمام أبو عبد الله الذهبي، والحافظ ابن حجر، والحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ، ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين" إلخ انتهى.

وسنفرد له إن شاء الله فصلاً مفصّلاً في ذكر مناقبه.

وبهذا أيضاً تبين إلحاد النبهاني وزوره وكذبه واتباعه لهواه، وقد جادل بغير علم، وذلك كما كان عليه أهل الجاهلية.

(وفي شرح المسائل) : "الجدال بغير علم كما ترى كثيراً من أهل الجهل يجادلون أهل العلم عند نهيهم عما ألفوه من البدع والضلالات، وهي خصلة جاهلية نهانا الله تعالى عن التخلق بها، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ

1 انظر "الرد الوافر"(ص 213- 214) و"الشهادة الزكية"(ص 44- 45) .

2 "الرد الوافر"(ص 107) و"الشهادة الزكية"(ص 28) .

3 "الرد الوافر"(ص 198) .

ص: 484

فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1.

أخرج ابن إسحاق وابن جرير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً. وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية المنادية على جهلهم وغباوتهم"2. انتهى.

فَوَازِنْ بين النبهاني وبين إخوانه تجد الفريقين كما قال القائل:

رضيعي لبان ثدي أم تقاسما

باسم داج عوض لا نتفرق

وأما قوله: ولاسيما فيما يتعلق بسيد المرسلين.. إلخ.

1 سورة آل عمران: 65- 66.

2 أخرجه ابن جرير (6/484/7194) والبيهقي في "الدلائل"(5/384) وهو في "السيرة النبوية" لابن هشام (1/553) .

ص: 485

[الرد على النبهاني فيما ادّعاه من أن ابن تيمية مُخِلٌّ بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم]

فإنه يدل على أن ابن تيمية مخل بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وبه صرح مراراً، حيث قال: إن ابن تيمية حيث لم يجوّز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا دعاءه ولا الالتجاء إليه ولا شد الرحل إلى زيارة قبره.

فاعلم أن حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه باتباع شريعته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وحبه وتعظيمه بما ذكره الخصم؛ هو من قبيل تعظيم النصارى لعيسى، وغلوهم في الأنبياء والرسل عليهم السلام، قال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} 3.

3 سورة النساء: 171.

ص: 485

والغلو في المخلوق هو أعظم أسباب عبادة الأصنام والصالحين، كما كان في قوم نوح من عبادة نسر وسواع ويغوث ويعوق ونحوهم، وكما كان من عبادة النصارى للمسيح عليه السلام، وهذا هو القول على الله بغير الحق.

والمقصود؛ أن مراعاة حقوق النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكون بالمحافظة على شريعته لا بما يقول النبهاني الغبي، ومن المعلوم ما كان عليه ابن تيمية من اتباع السنن، والمحافظة على الشريعة الغراء، ومزيد الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه عقد فصلاً في كتابه (الصارم المسلول) لبذل الأموال وسفك الدماء في تعزير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره. وفصلاً آخر في فرض الله علينا تعزيره وتوقيره. وفصلاً آخر في أن قيام المدحة والتعظيم والثناء عليه صلى الله عليه وسلم قيام الدين كله. وفصلاً آخر في أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين قتله. وفصلاً آخر في أن الله تعالى أوجب لنبيه صلى الله عليه وسلم حقوقاً زائدة على القلب واللسان والجوارح، وأن سبه سب لجميع المسلمين، وطعن في دينهم. وفصلاً آخر في أن التعظيم والمحبة للرسول صلى الله عليه وسلم لازم للإيمان. وفصلاً آخر في بيان حكم الطعن في نسبه أو خلقه أو خُلقه أو أمانته أو وفائه أو صدقه. وذكر فصولاً أخرى مهمة كلها تدل على ما انطوى عليه من مزيد حبه وأدبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه قال نقلاً عن القاضي عياض: "جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به شبهة بشيء على طريق السب له والإزراء عليه أو البغض منه والعيب له؛ فهو سابٌّ له، والحكم فيه حكم الساب يقتل، ولا تستثن فصلاً من فصول هذا الباب عن هذا المقصد، ولا تمتر فيه تصريحاً كان أو تلويحاً، وكذلك من لعنه، أو تمنى مضرة له، أو دعا عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عيبه في جهة الغريزة بسخف من الكلام، وهجر ومنكر من القول وزوراً، أو عيره بشيء مما يجري من البلاء والمحنة عليه، أو غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهود لديه، قال: وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن أصحابه، وهلم جراً.

وقال ابن القاسم؛ عن مالك: من سب النبي صلى الله عليه وسلم قُتل، ولم يُستتب. قال ابن

ص: 486

القاسم: أو شتمه أو عابه أو تنقّصه، فإنه يقتل كالزنديق، وقد فرض الله توقيره.

وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلماً كان أو كافراً ولا يستتاب. وروى ابن وهب عن مالك: من قال إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم وسخ وأراد به عيبه قتل. وروى بعض المالكية إجماع العلماء على من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة. وذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة أفتى في كل قضية بعضهم وفصلها" انتهى ما قصدنا نقله من كتاب (الصارم المسلول)1. وهو كتاب جليل يدل دلالة صريحة على ما كان عليه مؤلفه من المحبة بالاتباع، وبه يسقط كل ما هذى به النبهاني من الباطل والزور.

قال النبهاني: ويقوي عدم اعتبار نقل ابن تيمية في بعض ما ينقله ما قاله في حقه الحافظ العراقي الكبير، وها أنا أنقله تتميماً للفائدة وتقوية للحجة، وإن لم يكن مما نحن فيه، فأقول: قد اطلعت على جزء لطيف تأليف الحافظ العراقي، شيخ الحافظ ابن حجر والإمام العيني، تكلم فيه على أكل الدجاج والحبوب والتوسعة على العيال يوم عاشوراء، رد به على الإمام ابن تيمية في منعه ذلك، ثم إنه أورد الرسالة بتمامها.

جوابه: أن ما ذكرناه سابقاً بل ويأتي أيضاً من ثناء أهل العلم وأكابر المحدثين وعدهم له من أكابر الحفاظ يستوجب سقوط ما ذكره النبهاني من عدم اعتبار نقله، وهو الثقة الصدوق، شهد له بذلك أحباؤه وخصومه، ولم يخالف في ذلك أحد، حتى إن علماء الحديث قالوا: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فهو ليس بحديث، فانظر إلى هذه المنزلة العظيمة والدرجة العليا من الصدق، وما نقله عن العراقي- إن صح نقله- فهو دليل على جهله وعدم معرفته بأحكام الدين، فإن تخصيص يوم عاشوراء بشيء من الأمور الدينية والدنيوية مما لا أصل له، كما عليه

1 انظر "الصارم المسلول "(3/978- 980) .

ص: 487

أئمة المذاهب وفقهاؤها والأحاديث التي أوردها منها ما هو موضوع، ومنها ما لا يدل على الغرض المقصود، وتفصيل الكلام فيها يخرجنا عن موضوع الكتاب1.

ولقد تكثر النبهاني من ذكر خصوم الشيخ والطاعنين فيه مع أن الاعتماد على الكثرة والسواد الأعظم والاحتجاج على بطلان الشيء بقلة أهله من الجهل بمكان، قال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 2 فالكثرة على خلاف الحق لا تستوجب العدول عن اتباعه لمن كان له بصيرة وقلب فالحق أحق بالاتباع وإن قل أنصاره، كما قال تعالى:{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} 3.

فأخبر الله عن أهل الحق أنهم قليلون غير أن القلة لا تضرهم، فإن من له بصيرة نظر إلى الدليل، وأخذ بما اقتضاه البرهان وإن قل العارفون به والمنقادون له، ومن أخذ بما عليه الأكثر وما ألفته العامة من غير نظر إلى دليل؛ فهو مخطىء سالك غير سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1 انظر "ردع الأنام عن محدثات عاشر المحرم الحرام" لأبي الطيب محمد عطاء الله ضيف. ط. دار ابن حزم ببيروت.

2 سورة الأنعام: 116- 117.

3 سورة ص: 24.

ص: 488

[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية]

قال النبهاني: الكلام على بعض كتب ابن تيمية و"تلبيس إبليس" لابن الجوزي.

قال: فمن كتب ابن تيمية (الجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح) وهو أربعة مجلدات متوسطة، وهو في غاية النفاسة لو خلا من التعرض لبدعه التي انفرد بها وشذّ عن المسلمين من منعه الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم كسائر الأنبياء

ص: 488

والصالحين، وكتعرضه لأكابر أولياء الله بالتكفير والتشنيع فضلاً عن التبديع، كسيدي محيي الدين بن العربي، وسيدي عمر بن الفارض وغيرهم ممن ذكر بعضهم في كتابه "الفرقان " وشنع عليهم وكفّرهم وجعلهم أولياء الشيطان، وهذا دأبه عفا الله عنه في كتبه، ولذلك قلل الله النفع بها، كما جرت عادته تعالى فيمن يتعرض لأوليائه بالسوء، إذ قد ورد في الحديث القدسي:"من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" وأي أذية أعظم من تكفيرهم وإخراجهم من دائرة الإسلام بالكلية؟!

أقول: جوابه: إن كتب شيخ الإسلام جميعها من الكتب التي أنعم الله تعالى بها على الأمة، وهي على اختلاف أنواعها وفنونها ليس لها نظير في بابها، وقد ذكرها الحافظ ابن القيم في "الكافية الشافية" وحث على مطالعتها فقال:

فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة

شيخ الوجود العالم الرباني

أعني أبا العباس أحمد ذاك الـ

ـبحر المحيط بسائر الخلجان

وأقرأ كتاب العقل والنقل الذي

ما في الوجود له نظير ثان

وكذاك منهاج له في رده

قول الروافض شيعة الشيطان

وكذاك أهل الاعتزال فإنه

أرداهم في حفرة الجبان

وكذلك التأسيس أصبح نقضه

أعجوبة للعالم الرباني

وكذاك أجوبة له مصرية

في ست أسفار كتبن سمان

وكذا جواب للنصارى فيه ما

يشفي الصدور وإنه سفران

وكذاك شرح عقيدة للأصبها

ني شارح المحصول شرح بيان

فيها النبوات التي إثباتها

في غاية التقرير والتبيان

والله ما لأولي الكلام نظيره

أبداً وكتبهم بكل مكان

وكذا حدوث العالم العلوي والـ

ـسفلي فيه في أتم بيان

وكذا قواعد الاستقامة إنها

سفران فيما بيننا ضخمان

وقرأت أكثرها عليه فزادني

والله في علم وفي إيمان

هذا ولو حدثت نفسي أنه

قبلي يموت لكان غير الشان

ص: 489

وكذاك توحيد الفلاسفة الألي

توحيدهم هو غاية الكفران

سفر لطيف فيه نقض أصولهم

بحقيقة المعقول والبرهان

وكذاك تسعينية فيها له

رد على من قال بالنفساني

تسعون وجهاً بينت بطلانه

أعني كلام النفس ذا الوجدان

وكذا قواعدها الكبار فإنها

أوفى من المائتين في الحسبان

لم يتسع نظمي لها فأسوقها

فأشرت بعض إشارة لبيان

وكذا رسائله إلى البلدان والـ

ـأطراف والأصحاب والإخوان

هي في الورى مبثوثة معلومة

تبتاع بالغالي من الأثمان

وكذا فتاواه فأخبرني الذي

أضحى عليها دائم الطوفان

بلغ الذي ألفاه منها عدة الأ

يام من شهر بلا نقصان

سفر يقابل كل يوم والذي

قد فاتني منها بلا حسبان

هذا وليس يقصر التفسير عن

عشر كبار ليس ذا نقصان

وكذا المفاريد التي في كل مسأ

لة فسفر واضح التبيان

ما بين عشر أو تزيد بضعفها

هي كالنجوم لسالك حيران

وله المقامات الشهيرة في الورى

قد قامها لله غير جبان

نصر الإله ودينه وكتابه

ورسوله بالسيف والبرهان

أبدى فضائحهم وبين جهلهم

وأرى تناقضهم بكل زمان

وأصارهم والله تحت نعال أهـ

ـل الحق بعد ملابس التيجان

وأصارهم تحت الحضيض وطالما

كانوا هم الأعلام في البلدان

ومن العجائب أنه بسلاحهم

أرداهم تحت الحضيض الداني

كانت نواصينا بأيديهم فما

منالهم إلا أسير عان

فغدت نواصيهم بأيدينا فلا

يلوننا إلا بحبل أمان

وغدت ملوكهم مماليكا لأنـ

ـصار الرسول بمنة الرحمن

وأتت جنودهم التي صالوا بها

منقادة لعساكر الإيمان

يدري بهذا من له خبر بما

قد قاله في ربه الفئتان

ص: 490

والفدم يوحشنا وليس هناكم

فحضوره ومغيبه سيان

وقلت في شرح هذه الأبيات: اعلم أن الناظم لم يذكر كتبه مرتبة أعني كتب كل فن على حدة لعدم مساعدة النظم على ذلك، ونحن نشرحها حسبما ذكرها فنقول:

قوله: واقرأ كتاب العقل والنقل

إلخ.

هذا كتاب ألّفه في بيان أن الشريعة كافية بنصوصها، ولا حاجة بها إلى ما أحدث من القواعد الكلامية المأخوذة من الحكمة اليونانية، وأن الدليل النقلي يفيد اليقين، وهذا الكتاب متداول بين الأيدي، ونسخه كثيرة في الهند وبلاد العرب والفرس، وتوجد منه نسخة كاملة لا نقص فيها في خزانة كتب راغب باشا في دار السلطنة المحروسة.

قو له: وكذاك منهاج له في رده

إلخ..

هذا الكتاب أيضاً من كتب الشيخ المهمة، وهو أحسن كتاب ألف في الرد على الروافض، مشتمل على فنون كثيرة وعلم غزير، نسخه أيضاً كثيرة في البلاد، وكثير من خزائن الكتب الإسلامية مشتملة عليه.

قوله: وكذلك التأسيس أصبح نقضه

إلخ.

إشارة إلى كتاب "نقض أساس التأسيس" وهو في الرد على "أساس التأسيس" للإمام فخر الدين الرازي اشتمل على مسائل مهمة في علم الكلام، ونسخته في خزانة كتب الملك العادل في دمشق الشام وهو في ست أسفار على ما نقل لي.

وقوله: وكذاك أجوبة مصرية

إلخ. هي أيضاً فتاوى مشتملة على مسائل مهمة في ست أسفار.

وقوله: وكذا جواب للنصارى

إلخ.

يريد به (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) ولم يؤلف في الرد على

ص: 491

النصارى كتاب مثله وكتبت في شأنه بعض المجلات المصرية ما نصه: (الجواب الصحيح والدين الصريح) إذا أطلق الإنسان حريته، وجرّده عن عوامل التقييدات ومحض فطرته، وتأمل في جواهر الأديان ومد النظر في مجال ما حدث به كل نبي عن ربه يرى أن الحقيقة واحدة والأمنية لكل متحدة، فلباب الشرائع الإلهية واحد، ومقصد الشراعين متحد، مصداقاً لقوله تعالى:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} 1 وغير ذلك من الآيات الدالة على اتفاقهم في المقصد واتحادهم في الغرض، وقد اتفقت كلمتهم على التوحيد والنهي عن التفرق والاختلاف، كما قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 2. ولكن أبى الإنسان الناقص بأصل فطرته القاصر عن فهم حكمة ربه البالغة إلا أن يجعل ما هو أصلاً في الاتفاق سبباً في الافتراق، وما هو أصل السعادة سبباً في الشقاء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لجمع الكلمة وتوحيد الأمة، فتغلبت قوة الشر وطبيعة النقص على هذا الخير المحض والكمال المطلق، فمزقت هذه الجامعة الإنسانية، والوحدة الدينية، فتعددت فيهم المذاهب والنحل والآراء والملل، وقامت بينهم حروب الأقلام وتلتها معارك السنان، واشتغل كل فريق بالرد والاعتراض وانتصر لكل جماعات وأفراد، وهكذا كثر القيل والقال، والمشاغبة والجدال، وذهبت الحقيقة تحت أستار المغالبة، واحتجبت بحجاب المراء والمخاصمة، وما أتى فريق لكشف تلك الشبهات بجلاء، بل بعدوا عن الحقيقة بعد الأرض من السماء، إلى أن انبرى في القرون الوسطى لنصرة الحق لذاته شيخ الإسلام وقدوة الأنام تقي الدين أحمد بن تيمية، فكتب كتابه الموسوم (بالجواب الصحيح) سلك فيه مسلك العدل والإنصاف، وأظهر الحق وأبطل الباطل، وترفع عن المجادلة والمشاغبة وتنزه عن المشاتمة والمغالبة، فما نحى أحد منحاه، ولا سلك طريقته وهداه، وكان الباعث لتأليف هذا الكتاب الذي أوضح فيه الحقيقة لأولي الألباب، كتاباً

1 سورة القمر: 50.

2 سورة الشورى: 13.

ص: 492

ورد من مدينة قبرص ألفه بولص الراهب أسقف صيدا الأنطاكي، جمع فيه جميع الاحتجاجات لدين النصارى التي يحتج بها علماؤهم وفضلاء ملتهم، وكان ما في ذلك الكتاب هو عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم في كل زمان ومكان، وهو محصور في ستة مطالب هي دعائم الديانة المسيحية وأصول مذاهبهم الملية، وقد أجابهم على كل دعوى بما فيه لذوي البصيرة مقنع، ثم ذكر مشتملات الكتاب.

ثم قال: فجاء هذا الإمام الجليل وطرح الآراء المذهبية، وترك التعصبات الدينية، وأظهر الحقيقة في ذاتها، وأبان كنهها لطالبها بما هيأتها، فأخذ أولاً في تفنيد تلك المطالب على طريقة أهل الجدل، وقلب هذه الأدلة الموهومة فجعلها منتجة ضد مطلوبها، فكانت عليه لا له، ثم استقام في الاستدلال ونهج منهج الاعتدال، وأرجع كل هذه الاختلافات إلى الاتفاق، والمخاصمات إلى الوفاق، وأبان أن أصل الأديان واحد، وأن ما يترآى من الاختلافات نشأ من حب الرياسة والشهوات حسب الأزمنة والأمكنة، وقد اطلع على هذا الكتاب بعض قسيسي المجمع العلمي المنعقد في بعض البلاد الإفرنجية، فقدروه قدره وأثنوا على مؤلفه خيراً، وقالوا لو جمع مؤلفه كتاباً آخر في محاسن دين الإسلام لدخل الناس فيه أفواجاً.

وبالجملة؛ فهذا الكتاب جدير بالمطالعة والاقتناء، يحتاجه المسلم في إسلامه، والنصراني لنصرانيته، وكل معترف بدين أو كتاب.. إلخ.

قوله: وكذلك شرح عقيدة للأصفهاني.. إلخ.

أي: من جملة مصنفاته كتاب (شرح عقيدة الأصفهاني) وهو كتاب جليل القدر، مشتمل على مطالب مهمة، لاسيما مباحث النبوات وحدوث العالم العلوي والسفلي.

قوله: وكذا قواعد الاستقامة. إلخ. وهو من أفيد كتبه، وهو مفصل يبلغ سفرين، توجد نسخه في بلاد العرب ودمشق وفي بعض بلاد الهند.

ص: 493

قوله: وكذاك توحيد الفلاسفة الآلي.. إلخ. يريد به الرد على الفلاسفة، وهو عدة أسفار، يقال: إن من نسخه في بعض خزائن كتب دار السلطنة، لكن الناظم يقول هو سفر لطيف إلخ. وهو أدرى به من غيره.

قوله: وكذاك تسعينية. إلخ. هذا الكتاب كبير، وهو في الرد على من يقول بالكلام النفسي من تسعين وجهاً، وهو بين الأيدي.

قوله: وكذا قواعده الكبار.. إلخ. هي على منهج قواعد القرافي وغيره إلا أنها أكثر فائدة، ونسخه في البلاد العربية.

قوله: وكذا رسائله إلى البلدان.. إلخ. وقوله: وكذا فتاواه.. إلخ.

وأما رسائله المختصرة وكتبه فلا يحيط بها الإحصاء، وفتاواه- كما قال الناظم- بلغت نحو ثلاثين سفراً.

قوله: هذا وليس يقصر التفسير عن.. إلخ.

هو لم يفسر القرآن مرتباً، ولكنه كتب على كثير من سوره ومواضعه المشكلة1، فله على الاستعاذة، وعلى البسملة وكلامه في الجهر بها، وكتب على قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 وكتب على قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} 3 وعلى قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} 4 وعلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} 5 وعلى قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} وعلى آية الكرسي، وعلى قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 6

1 وقد جمع كلامه على التفسير عبد الرحمن عميرة في كتاب أسماه "التفسير الكبير" وهو مطبوع بدار الكتب العلمية ببيروت.

2 سورة الفاتحة: 5.

3 سورة البقرة: 8.

4 سورة البقرة: 17.

5 سورة البقرة: 21.

6 سورة الشورى: 11.

ص: 494

وعلى قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 1 إلخ. وعلى قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 2 وعلى سورة المائدة، وعلى قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} 3 الآية، وعلى قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} 4.

وعلى سورة يوسف، وعلى سورة النور، وعلى سورة القلم، وأنها أول سورة نزلت، وعلى سورة لم يكن، والكافرون، وتبت، والمعوذتين، وكتب على سورة الإخلاص وغير ذلك.

قوله: وكذا المفاريد التي في كل مسألة إلخ..

منها الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية، وشرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي، وجواب ما أورده كمال الدين الشريشي، وشرح كتاب الغزنوي في أصول الدين، و"الرد على المنطق"5، وكتاب الزواجر، وقاعدة قي القضايا الوهمية، وقاعدة في قياس ما لا يتناهى، وجواب الرسالة الصفدية، وجوابه عن قول بعض الفلاسفة إن معجزات الأنبياء عليهم السلام قوى نفسانية، والرد على ابن سينا في إثبات المعاد، وشرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أحمد في الأصول، وثبوت النبوات عقلاً ونقلاً، والمعجزات والكرامات، وقاعدة في الكليات، والرسالة القبرصية، ورسالته إلى أهل طبرستان وحلان في خلق الروح والنور، والرسالة البعلبكية، والرسالة الأزهرية القادرية البغدادية، وأجوبة القرآن والنطق، وجواب من حلف بالطلاق الثلاث، ورسالة في أن القرآن حرف وصوت، وكتاب في إثبات الصفات والعلو والاستواء، والمراكشية في صفات الكمال والضابط، جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء، جواب من قال لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه، أجوبة كون جهة

1 سورة آل عمران: 18.

2 سورة النساء: 79.

3 سورة المائدة: 6.

4 سورة الأعراف: 172.

5 وأقوم على تحقيقه عن نسخة خطية- يسّر الله إتمامه.

ص: 495

السموات كرية، رسالة في سبب قصد القلوب العلو، جواب كون الشيء في جهة العلو مع كونه ليس بجوهر ولا عرض هل هو معقول أو مستحيل، جواب هل الاستواء والنزول حقيقة، وهل لازم المذهب مذهب، مسألة أهل الأربيلية، شرح حديث النزول، واختلافه باختلاف وقته، وباختلاف البلدان والمطالع، بيان حل إشكال ابن حزم الوارد على الحديث، قاعدة في قرب الرب من عابديه، الكلام على نقض المرشد، المسائل الإسكندرانية، في الرد على الحلولية والاتحادية، رسالة فيما تضمنه فصوص الحكم، جواب في لقاء الله عز وجل، جواب في رؤيا النساء ربهن في الجنة، الرسالة المدنية في إثبات الصفات النقلية الهلاوونية، جواب سؤال ورد على لسان ملك التتار، قواعد في الرد على القدرية والجبرية، جواب في خلق الله الخلق وإنشاء الأيام لعلة أم لا، شرح حديث فحج آدم موسى، تنبيه الرجل العاقل على تمويه المجادل، تناسي الشدائد في اختلاف العقائد، كتاب الإيمان، شرح حديث جبريل في الإيمان والإسلام، رسالة في عصمة الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغونه عن ربهم، مسألة في العقل والروح، مسألة في المقربين هل يسألهم منكر ونكير أم لا، مسألة هل يعذب الجسد مع الروح في القبر أم لا، الرد على أهل الكسروان وهم من الروافض، فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على غيرهما، رسالة في معاوية بن أبي سفيان، تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس، رسالة مختصرة في كفر النصيرية، رسالة في جواز قتال الرافضة، الرد على تقي الدين السبكي في مسألة بقاء الجنة والنار وفي فنائهما، هذه كلها في أصول الدين.

ومن مؤلفاته في أصول الفقه: قاعدة غالبها أقوال الفقهاء، قاعدة كل حمد وذم من الأقوال والأفعال لا يكون إلا بالكتاب والسنة، رسالة في شمول النصوص للأحكام، قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام، جواب في الإجماع والخبر المتواتر، قاعدة في كيفية الاستدلال على الأحكام بالنص والإجماع، والرد على من قال إن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين، قاعدة فيما نص من تعارض النص والإجماع، مؤاخذة على ابن حزم في الإجماع، قاعدة في تقرير القياس، قاعدة في

ص: 496

الاجتهاد والتقليد في الأحكام، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، قاعدة في الاستحسان وفي وصف العموم والإلحاق والإطلاق، قاعدة في أن المخطىء في الاجتهاد لا يأثم، رسالة في أنه هل القاضي يجب عليه تقليد مذهب معين، جواب في ترك التقليد، رسالة فيمن يقول مذهبي مذهب النبي صلى الله عليه وسلم وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة، جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثاً صحيحاً هل يعمل به أم لا، جواب تقليد الحنفي الشافعي في المطر والوتر، رسالة في الفتح على الإمام في الصلاة، تفضيل قواعد مالك وأهل المدينة، تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم، قاعدة في تفضيل الإمام أحمد، جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبياً، جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبداً بشرع من قبله، قواعد أن النهي يقتضي المضادة.

ومن مؤلفاته في الفقه: شرح المحرر في مذهب الإمام أحمد، شرح العمدة لموفق الدين، جواب مسائل وردت من أصبهان، جواب مسائل وردت من الصلت، جواب مسائل وردت من بغداد، جواب مسائل وردت من الزرع، جواب مسائل وردت من طرابلس، قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها، جواب أربعين مسألة وردت من الوجنة، الدرة المضية في فتاوى ابن تيمية، المردانية الطرابلسية، قاعدة في حديث القلتين وعدم رفعه، قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح، جواز الاستجمار مع وجود الماء، نواقض الوضوء، قواعد في عدم نقضه بلمس النساء، رسالة في أن التسمية على الوضوء خطأ، القول بجواز المسح على الخفين، جواز المسح على الخفين المخترقين والجوربين والفائف، وفيمن لا يعطى أجرة الحمام، تحريم دخول النساء بلا مئزر في الحمام والاغتسال وذم الوسواس، جواز طواف الحائض، تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر، كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها في الأذكار، كراهية تقديم بسط السجادة للمصلي قبل مجيئه، الكلم الطيب في الركعتين اللتين تصلى قبل الجمعة وفي الصلاة بعد أذان الجمعة، القنوت في الصبح والوتر، تارك المثاني وكفره، الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر، أهل البدع هل يصلى

ص: 497

خلفهم، صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض، الصلوات المبتدعة، تحريم السماع، تحريم الشبابة، تحريم اللعب بالشطرنج، تحريم الحشيشة المغيبة والحد عليها وتنجيسها، النهي عن المشاركة في أعياد النصارى واليهود وإيقاد النيران في الميلاد ونصف شعبان وما يفعل في عاشوراء، قاعدة في مقدار الكفارة باليمين وفي أن المطلقة ثلاثاً لا تحل إلا بنكاح زوج ثان، بيان الحلال والحرام في الطلاق، جواب من حلف لا يفعل شيئاً على المذاهب الأربعة ثم طلق ثلاثاً في الحيض، الفرق المبين بين الطلاق واليمين، لمعة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف، كتاب التحقيق في الفرق بين أهل الإيمان والتطليق، الطلاق البدعي لا يقع، مسائل الفرق بين الطلاق البدعي ونحو ذلك، مناسك الحج في حجة النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة المكية، في شراء السلاح بتبوك، وشرب السويق بالعقبة، وأكل التمر بالروضة، وما يلبس المحرم، وزيارة الخليل عليه السلام عقب الحج، وزيارة البيت المقدس مطلقاً، جميع أيمان المسلمين مكفرة، بيان الدليل على إبطال التحليل، الرسالة التدمرية، جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال الغيب والأبدال.

من كتبه في أنواع شتى: الكلام على الفتوى المصطلحة، وليس لها أصل متصل بعلي رضي الله عنه، كشف حال الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية، ما يقوله أهل بيت الشيخ عدي، النجوم هل لها تأثير عند القرآن والمقابلة وهل يقبل قول المنجمين فيه رؤية الأهلة، تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصرع الصحيح وصفة الخواتيم، أبطال الكيميا ولو صحت، كتاب السياسة الشرعية، كتاب التصوف، كتاب الاستقامة، كتاب تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، كتاب المحنة المصرية، كتاب الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، الرد على الأخنائي في مسألة الزيارة، طهارة بول ما يؤكل لحمه، الصارم المسلول على منتقص الرسول، كتاب اقتضاء الصراط المستقيم، جواب أهل الإيمان في التفاضل بين آيات القرآن، الرد على البكري في مسألة الاستغاثة، التحرير في مسألة حفير، سفر في مسألة القسمة كتبها اعتراضاً على النحوي في

ص: 498

حادثة حكم فيها، الفرقان بين الحق والبطلان، كتاب الوسيلة، التحفة العراقية في الأعمال القلبية، وله غير ذلك مما يطول ذكره، وجميعها مفصلة ما بين سفر وسفرين وأكثر، مع سلاسة عبارة وذكر دليل ودفع إيراد وكل منها فريد في بابه حري بالتقريظ، ولو تكلمنا على كل واحد منها بما يليق به من الثناء والمدح لاستوجب ذلك إفراد مؤلف منفصل.

وأما انتقاد النبهاني (كتاب الجواب الصحيح) أن الكتاب في غاية النفاسة لو خلا من التعرض لبدعه التي انفرد بها عن المسلمين.. إلخ.

فجوابه: أن ما انتقده هو من محاسن الكتاب وأجل فصوله، فإن الاستغاثة بالمخلوق والاستعانة به والالتجاء به هو الذي كان من غلو أهل الكتاب، وهو مذهب النصارى، فإن عبادة المسيح وأمه عبارة عن ذلك، فلو لم يبطل هذا القول لما ساغ له الرد عليهم، وكذلك الرد على القائلين بالحلول والاتحاد، فإنه لو لم يرد عليهم ويبطل دعواهم ويخرجهم عن الملة لما ساغ له إبطال قول النصارى في دعواهم حلول الإله في المسيح أو الاتحاد به أو نحو ذلك، فإن لقائل أن يقول حينئذ: إن من المسلمين من يقول بأشنع من هذا القول، وهو دعوى الحلول والاتحاد التي أبطلها الشيخ وغيره من العلماء الربانيين المتبعين لما جاء به الشرع المبين، ولعلنا نبسط الكلام على ذلك فيما يناسب المقام، ونذكر كلام من رد عليهم وأبطل دعواهم، ونفصل القول فيهم تفصيلاً، هذا الذي نقمه النبهاني الزائغ وانتقد به كلام الشيخ من أوضح ما يدل على زيغه واتباعه لهواه:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 1 ومثل ما حكى الله عن إخوانه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2.

1 سورة البروج: 8.

2 سورة البقرة: 19- 25.

ص: 499

وما أحسن ما قال القائل:

ومن يك ذا فم مر مريض

يجد مراً به الماء الزلالا

وقال آخر:

تعد ذنوبي عند قومي كثيرة

ولا ذنب لي إلا العلا والفواضل

ولم يعرف النبهاني وأضرابه من الغلاة قدر كتب شيخ الإسلام، وتمنى عدم وجودها وفقدها من العالم، لأنها تبطل ما ذهب إليه من الأقوال الفاسدة، وتهدم بنيان أشياخه، قال تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1.

وأهل الحق وذوو البصائر إذا ظفروا بكتاب من كتبه تراهم كأنهم ظفروا بكنز من كنوز العلم، وقد رأيت كتاباً كتب على ظهر ترجمة شيخ الإسلام وبيان مناقبه، وهي:(الدرر البهية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية) للحافظ الشيخ شمس الدين بن عبد الهادي المقدسي. وذلك الكتاب أرسله بعض أفاضل العراق المعاصرين لشيخ الإسلام، وكان من أكابر الشافعية، وهو العلامة الشيخ عبد الله بن حامد وكتابه هذا:

"بسم الله الرحمن الرحيم. من أصغر العباد عبد الله بن حامد، إلى الشيخ الإمام العالم العامل، قدوة الأفاضل والمحافل، المحامي عن دين الله، والذاب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعتصم بحبل الله، الشيخ المكرم المبجل أبي عبد الله أسبغ عليه نعمه، وأيد بإصابة الصواب لسانه وقلمه، وجمع له بين السعادتين، ورفع درجته في الدارين بمنه ورحمته، السلام عليكم ورحمة الله وبركا ته.

أما بعد؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ثم وافاني كتابك وأنا إليك بالأشواق، ولم أزل سائلاً ومستخبراً الصادر والوارد عن الأنباء التي طاب

1 سورة البقرة: 120.

ص: 500

مسموعها، وسر ما يسر منها، وما تأخر كتابي عنك هذه المدة مللاً ولا خللاً بالمودة، ولا تهاوناً بحقوق الإخاء، حاش لله أن يشوب الإخوة في الله جفاء، ولا أزال أتعلل بعد وفاة الشيخ الإمام إمام الدنيا رضي الله تعالى عنه بالاسترواح إلى أخبار تلامذته وإخوانه، وأقاربه وعشيرته، والخصيصين به، لما في نفسي من المحبة الضرورية التي لا يدفعها شيء، على الخصوص لما اطلعت على مباحثه واستدلالاته التي تزلزل أركان المبطلين، ولا يثبت في ميدانها سفسطة المتفلسفين، ولا يقف في حلباتها أقدام المبتدعين من المتكلمين.

وكنت قبل وقوفي على مباحث إمام الدنيا رحمه الله قد طالعت مصنفات المتقدمين ووقفت على مقالات المتأخرين من أهل الإسلام، فرأيت فيها الزخارف والأباطيل، والشكوك التي يأنف المسلم الضعيف في الإسلام أن تخطر بباله فضلاً عن القوي في الدين، فكان يتعب قلبي ويحزنني ما يصير إليه الأعاظم من المقالات السخيفة، والآراء الضعيفة، التي لا يعتقد جوازها آحاد الأمة، وكنت أفتش على السنة المحضة في مصنفات المتكلمين من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله على الخصوص، لاشتهارهم بمنصوصات إمامهم في أصول العقائد، فلا أجد عندهم ما يكفي، وكنت أراهم يتناقضون إذ يؤصلون أصولاً يلزم فيها ضد ما يعتقدونه، ويعتقدون خلاف مقتضى أدلتهم، فإذا جمعت بين أقاويل المعتزلة والأشعرية وحنابلة بغداد وكرامية خراسان أرى أن إجماع هؤلاء المتكلمين في المسألة الواحدة على ما يخالف الدليل العقلي والنقلي، فيسوؤني ذلك وأظل أحزن حزناً لا يعلم كنهه إلا الله، حتى قاسيت من مكابدتي هذه الأمور شيئاً عظيماً لا أستطيع شرح أيسره، وكنت ألتجىء إلى الله سبحانه وتعالى وأتضرع إليه وأهرب إلى ظواهر النصوص، وألقي المعقولات المتباينة والتأويلات المصنوعة لنبوة الفطرة عن قبولها، ثم قد تشبثت فطرتي بالحق الصريح في أمهات المسائل غير متجاسرة على التصريح بالمجاهرة قولاً وتصحيحاً للعقد، حيث لا أراه مأثوراً عن الأئمة وقدماء السلف، إلى أن قدر الله سبحانه وقوع تصنيف الشيخ الإمام إمام الدنيا في يدي قبيل واقعته الأخيرة بقليل، فوجدت فيه ما بهرني في موافقة

ص: 501

فطرتي، لما فيه من عزو الحق إلى أئمة السنة وسلف الأمة مع مطابقة المعقول والمنقول، فبهت لذلك سروراً بالحق، وفرحاً بوجود الضالة التي ليس لفقدها عوض، فصارت محبة هذا الرجل رحمه الله محبة ضرورية تقصر عن شرح أقلها العبارة ولو أطنبت.

ولما عزمت على المهاجرة إلى لقيه وصلني خبر اعتقاله، وأصابني لذلك المقيم المقعد، ولما حججت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة صممت العزم على السفر إلى دمشق لأتوصل إلى ملاقاته ببذل ما أمكن من النفس والمال للتفريج عنه، فوافاني خبر وفاته رحمه الله تعالى مع الرجوع إلى العراق قبيل وصولي إلى الكوفة، فوجدت عليه ما لا يجده الأخ على شقيقه، واستغفر الله بل ولا الوالد الثاكل على ولده، وما دخل على قلبي من الحزن لموت أحد من الولد والأقارب والإخوان كما وجدته عليه رحمه الله تعالى، ولا تخيلته قط في نفسي ولا تمثلته في قلبي إلا ويتجدد لي حزن جديد كأنه محدث، ووالله ما كتبتها إلا وأدمعي تتساقط عند ذكره أسفاً على فراقه وعدم ملاقاته، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وما شرحت هذه النبذة من محبة الشيخ رحمه الله تعالى إلا ليتحقق بعدي عن تلك الوهوم، لكن لما سبق الوعد الكريم منكم بإنفاذ فهرس مصنفات الشيخ رضي الله تعالى عنه وتأخر ذلك عني: اعتقدت أن الإضراب عن ذلك نوع تقية، أو لعذر لا يسعني السؤال عنه، فسكت عن الطلب خشية أن يلحق أحداً ضرر والعياذ بالله بسببي لما كان قد اشتهر من تلك الأحوال، فإن أنعمتم بشيء من مصنفات الشيخ رحمه الله تعالى كانت لكم الحسنة عند الله علينا بذلك، فما أشبه كلام هذا الرجل بالتبر الخالص المصفى، وقد يقع في كلام غيره من الغش والشبه المدلس بالتبر ما لا يخفى على طالب الحق بحرص وعدم هوى، ولا أزال أتعجب من المنتسبين إلى حب الإنصاف في البحث المبرزين على أهل التقليد أن المعقولات التي يزعمون أن مستندهم الأعظم الصريح منها كيف يباينون ما أوضحه الحق وكشف عن قناعه.

ص: 502

وقد كان الواجب على الطلبة شد الرحال إليه من الآفاق ليروا العجب، وما أشبه حال المباينين له- من المنتسبين للعلم الطالبين للحق الصريح الذي أعياهم وجد أنه- بحال قوم ذبحهم العطش والظمأ في بعض المفازاة، فحين أشرفوا على التلف لمع لهم شط كالفرات أو دجلة أو كالنيل، فعند معاينتهم لذلك اعتقدوه سراباً لا شراباً، فتولوا عنه مدبرين، فتقطعت أعناقهم عطشاً وظمأ، فالحكم لله العلي الكبير.

وما أرسلنا المقابلة من الطرفين ففيه تعسف وتمهدون العذر في الإطناب فهذا الذي ذكرته من حالي مع الشيخ كالقطرة من البحر، وإن أنعمتم بالسلام على أصحاب الشيخ وأقاربه كبيرهم وصغيرهم كان ذلك مضافاً إلى سابق إنعامكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأنتم في أمان الله تعالى ورعايته، والحمد لله وحده- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، عبد الله بن حامد".

وأما قول النبهاني: وهذا دأبه في كتبه، ولذلك قلل الله النفع بها، كما جرت عادته فيمن يتعرض لأوليائه بالسوء.. إلخ.

فجوابه: أن من الواجب على العالم أن يظهر علمه وإلا ألجمه الله بلجام من نار، قال تعالى:{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 1.

قال الإمام الشافعي: لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم. وبيان ذلك: أن المراتب أربعة، وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله.

إحداها: معرفة الحق.

الثانية: عمله به.

الثالثة: تعليمه من لا يحسنه.

1 سورة العصر:1- 3.

ص: 503

الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه.

فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر، إلا الذين آمنوا؛ وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة، وعملوا الصالحات؛ وهم الذين عملوا بما علموه من الحق، فهذه مرتبة أخرى. وتواصوا بالحق؛ وصى به بعضهم بعضاً تعليماً وإرشاداً، فهذه مرتبة ثالثة. وتواصوا بالصبر؛ صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضاً بالصبر عليه والثبات، فهذه مرتبة رابعة. وهذا نهاية الكمال، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل، فهذه السورة على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره، والحمد لله الذي جعل كتابه كافياً عن كل ما سواه، شافياً من كل داء، هادياً إلى كل خير" اهـ.

فعُلِمَ أنه يجب على العالم أن يصدع بالحق وأن كثر المخالفون له، وقد رأى من الحق التنبيه على الفرق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، وقد أطنب الكلام في ذلك. ومما قال:"وقد ظن طائفة غالطة؛ أن خاتم الأولياء يكون أفضل الأولياء قياساً على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن حكيم الترمذي صنف فيه مصنفاً غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدّعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته، كما زعم ذلك ابن العربي صاحب كتاب (الفتوحات) في كتاب (الفصوص) فخالفوا الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله وأولياء الله- كما يقال لمن قال: "فخر عليهم السقف من تحتهم" لا عقل ولا قرآن- وذلك لأن الأنبياء أسبق في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من الأولياء، فكيف يكون الأنبياء كلهم والأولياء يستفيدون معرفة الله ممن

ص: 504

يأتي بعدهم ويدّعي أنه خاتم الأولياء، وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء ثبت بالنصوص الدالة على ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر"1. وقوله: "آتي باب الجنة فاستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك"2. وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم، فكان أحقهم بقوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} 3. إلى غير ذلك من الدلائل.

والأنبياء كلهم يأتيه الوحي من الله لاسيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجاً إلى غيره، فلم تحتج شريعته لا إلى نبي سابق ولا إلى لاحق، بخلاف غيره، فإن المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة، وشريعة التوراة جاء المسيح بتكميلها، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوة المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور، وتمام الأربع والعشرين نبوة، وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى المحدثين، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه لا إلى نبي ولا إلى محدث، جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء، فكان ما فضله الله به من الله- بما أنزل الله وأرسله إليه- لا بتوسط بشر، وهذا بخلاف الأولياء فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون ولياً إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فكل ما حصل له من الهدي ودين الحق بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بلغته رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون ولياً لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسله إليه، ومن ادّعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهو كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم في علم الظاهر دون الباطن، أو في الشريعة دون علم الحقيقة؛ فهو أشر

1 أخرجه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة وابن ماجه (4308) من حديث أبي سعيد الخدري، واللفظ له.

2 أخرجه مسلم (333) .

3 سورة البقرة: 253.

ص: 505

من اليهود والنصارى الذين قالوا إن محمداً رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض ما جاء به وكفروا ببعض، فكانوا كفاراً بذلك، وكذلك هذا الذي يقول إن محمداً بعث بعلم الظاهر دون الباطن، آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض، وهذا كافر أكفر من أولئك، لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة، فإذا ادعى المدعي أن محمداً إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان وأنه لا يأخذ الحقائق من الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول أو من ببعض وأكفر ببعض ولا يدّعي أن هذا البعض الذي آمن به أولى القسمين، وهؤلاء الملاحدة قد يدّعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويلبسون على الناس، ويقولون: إن ولاية محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من نبوته وينشدون:

مقام النبوة في برزخ

فويق الرسول ودون الولي

ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن ولاية محمد صلى الله عليه وسلم لم يماثله فيها أحد، لا إبراهيم، ولا موسى، فضلاً عن أن يماثله فيها هؤلاء الملاحدة، وكل رسول نبي وكل نبي ولي، فالرسول نبي وولي، ورسالته متضمنة للنبوة، ونبوته متضمنة لولايته، فكيف تكون ولايته المتضمنة في نبوته أفضل من نبوته، لداخلة في ولايته؟ وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع، فإنه حال إنباء الله إياه يمتنع أن لا يكون ولياً لله، فلا تكون نبوة مجردة عن ولاية، ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلاً للرسول في ولايته لله، وهؤلاء قد يقولون- كما يقول صاحب الفصوص ابن عربي- إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول، وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة ملاحدة المتفلسفة ثم أخرجوها في قالب الكشف وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا إن الأفلاك قديمة أزلية لها علة شبيهة بهما- كما يقول أرسطو وأتباعه- أولها موجب بذاته- كما يقوله متأخروهم كابن سينا وأمثاله- ولا يقولون إن الرب خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة

ص: 506

أيام، ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته، ولا يعلم الجزئيات، بل إما أن ينكروا علمه مطلقاً- كقول أرسطو- أو يقولون إنما يعلم من الأمور المتغيرة كلياتها كما يقوله ابن سينا.

وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها، فإن كل موجود في الخارج فهو معنى جزئي، والأفلاك كل منها معنى جزئي، وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها، فمن لم يعلم إلا في الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات، والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان، والكلام على هؤلاء قد بسط في موضع آخر في بحث "تعارض العقل والنقل" وغيره، فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل ومشركي العرب، إذ جميع هؤلاء يقولون إن الله خلق السموات والأرض، وأنه يخلق المخلوقات بمشيئته وقدرته، وأرسطو ونحوه من متفلسفة اليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهم لا يعرفون الملائكة ولا الأنبياء، وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك، وإنما غالب علم القوم الأمور الطبيعية، وأما الأمور الإلهية فكلامهم فيها قليل كثير الخطأ.

واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم بالإلهيات منهم بكثير، ولكن متأخروهم كابن سينا أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل، فأخذوا شيئاً من بعض أصول الجهمية والمعتزلة وركبوا منه ومن قول أولئك مذهباً قد يعتزي إليه متفلسفة أهل الملل، وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبه على بعضه في غير هذا الموضع.

وهؤلاء لما رأوا أن أمر الرسل- كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. قد ظهر للعالم واعترفوا بأن الناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ناموس طرق العالم ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن؛ أرادوا أن يجمعوا بين ذلك وبين قول أسلافهم اليونان، الذين هم من أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله، وأولئك قد أثبتوا عقولاً عشرة يسمونها المجردات والمفارقات، وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن، فسموا تلك مفارقة لمفارقتها المادة ومجرد لتجردها عنها، وأثبتوا للأفلاك لكل فلك نفساً، وأكثرهم جعلها أعراضاً، وبعضهم جعلها

ص: 507

جواهر، وهذه المجردات التي أثبتوها ترجع عند التحقيق إلى أمور موجودة في الأذهان لا في الأعيان، كما أثبت أصحاب أرسطو أعداداً مجردة، وكما أثبت أفلاطون المثل الأفلاطونية المجردة، وأثبتوا هيولى1 مجردة عن الصورة مدة وخلاء مجردين، وقد اعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان.

فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبتوا أمر النبوة على أصولهم الفاسدة زعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من اتصف بها فهو نبي: أن يكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية ينال بها العلم بلا تعلم. وأن يكون له قوة تخيلية تخيل ما يعقله في نفسه بحيث يرى في نفسه صوراً ويسمع في نفسه صوتاً كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج، وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله وتلك الأصوات هي كلام الله. وأن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم، وجعلوا كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء وخوارق السحرة من قول النفس، فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم دون قلب العصا حية ودون انشقاق القمر ونحو ذلك فإنهم ينكرون وجود هذا. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع، وبينا أن كلامهم هذا من أفسد كلام، وأن هذا الذي جعلوه من خصائص النبي يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأقل أتباع الأنبياء، وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله، وهم كثيرون، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، وليسوا عشرة، وليسوا أعراضاً، لاسيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو العقل الأول عنه صدر كل ما سواه، فهو عندهم رب كل ما سوى الله.

وكذلك كل عقل رب كل ما دونه، والعقل الفعال العاشر رب كل ما تحت

1 قال شيخ الإسلام في "تفسير سورة الإخلاص"(ص 88) : "الهيولي في لغتهم بمعنى المحل، يقال: الفضلة هيولى الخاتم والدرهم، والخشب هيولى الكرسي، أي: هذا المحل الذي تصنع فيه هذه الصورة، وهذه الصورة الصناعية عرض من الأعراض".

ص: 508

فلك القمر، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل فليس أحد من الملائكة مبدعاً لكل ما سوى الله، وهؤلاء يزعمون أن العقل الأول هو العقل المذكور في حديث يروى:"إن أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر. فقال: وعزتي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب وعليك العقاب" 1 ويسمونه أيضاً القلم لما رأوا أنه قد رُوِيَ: "إن أول ما خلق الله القلم"2. والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أولي المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم والبيهقي، وأبو الحسن الدارقطني، وابن الجوزي وغيرهم، وليس هو في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد عليها، ومع هذا فلفظه لو كان ثابتاً لكان حجة عليهم، فإن لفظه "أول ما خلق الله العقل قال له" ويروى "لما خلق الله العقل قال له". وفي الحديث أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ليس معناه أنه أول المخلوقات، وأول منصوب على الظرف كما قي اللفظ الآخر لما، وتمام الحديث:"ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك". فهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره، ثم قال:"فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وعليك العذاب" فذكر أربعة أنواع من الأعراض، وعندهم أن جميع جواهر العلوي والسفلي صدر عن ذلك العقل فأين هذا من هذا؟!

وسبب غلطهم: أن لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونانيين، فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً كما في القرآن:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 3 وقوله تعالى: {إِنَّ فِي

1 حديث موضوع. أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(1/ 272/ 366) والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 175/ تحت ترجمة رقم: 1169) والبيهقي في "شعب الإيمان"(4/ 157/4645) وغيرهم.

وانظر: "الفوائد المجموعة"(ص 477) .

2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/317) وأبو داود (3375) والترمذي (2244، 3375) وغيرهم، وهو في "الصحيحة" رقم (133) .

3 سورة الملك: 10.

ص: 509

ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 2 ويراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله للإنسان يعقل بها، وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل، وليس هذا مطابقاً للغة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام، وأما العقول والنفوس فيسميها عالم الأمر، وقد يسمى العقل عالم الجبروت، والنفوس عالم الملكوت، والأجسام عالم الملك، ويظن من لا يعرف لغة الرسول ومعاني الكتاب والسنة أن في القرآن والسنة من ذلك الملك والملكوت والجبروت ما يوافق هذا وليس الأمر كذلك.

وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيساً كثيراً، كإطلاقهم أن الفلك محدث أي: معلول مع أنه قديم عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقاً بالعدم، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي محدثاً، والله سبحانه قد أخبر أنه خالق كل شيء، وكل مخلوق فهو محدث، وكل محدث كائن بعد أن لم يكن، لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حكموا فيها قضايا العقول، فلا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة، فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك، كما بسط في غير هذا الموضع.

وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبرائيل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الصوفية الذين شاركوا هؤلاء المتفلسفة وزعوا أنهم أولياء الله، وأن الولي أفضل من النبي، وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة، كابن عربي صاحب الفتوحات والفصوص، فقال: إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، والمعدن عنده هو العقل،

1 سورة الرعد: 4.

2 سورة الحج: 46.

ص: 510

والملك هو الخيال، والخيال تابع للعقل، وهو بزعمه يأخذ عن العقل الذي هو أصل الخيال والرسول يأخذ عن الخيال، فلهذا صار عند نفسه فوق النبي، ولو كان خاصة النبي ما ذكروه لم يكن هو من جنسه فضلاً عن أن يكون فوقه، فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين، والنبوة أمر وراء ذلك؟ فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من الصوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل الكلام فضلاً عن أن يكونوا من مشائخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن الأدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثاله.

والله سبحانه قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 1 {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} إلى قوله: {وَيَرْضَى} 2. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3. وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} 4. وقد أخبر أن الملائكة جاءت إبراهيم في صورة البشر، وأن الملك تمثل لمريم بشراً سوياً، وكان جبرائيل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وفي صورة الأعرابي، فرآهم الناس كذلك. وقد وصف جبرإئيل بأنه ذو قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رآه بالأفق المبين،

1 سورة الأنبياء: 26- 29.

2 سورة النجم: 26.

3 سورة سبأ: 22- 23.

4 سورة الأنبياء: 19- 20.

ص: 511

ووصف بأنه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} إلى قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 1.

وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ير جبرائيل في الصورة التي خلق عليها إلا مرتين2، يعني مرة في الأفق الأعلى، والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى، ووصف جبرائيل في مواضع أخر بأنه الروح الأمين، ووصفه بأنه روح القدس، إلى غير ذلك من الصفات التي تبين منها أنه من أعظم مخلوقات الله الأحياء العقلاء، وأنه جوهر قائم بنفسه، ليس خيالاً في نفس النبي كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة المدعون ولاية الله وأنهم أعلم من الأنبياء، وغاية تحقيق هؤلاء إنكار أصول الإيمان، فإن أصول الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحقيقة أمرهم جحد الخالق، فإنهم جعلوا وجود المخلوق، هو وجود الخالق، وقالوا الوجود واحد، ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود كما يشترك الناس في مسمى الإنسان والحيوانات في مسمى الحيوان، ولكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركاً كلياً إلا في الذهن، وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الإنسان ليست هي الحيوانية القائمة بالنفوس، ووجود السموات ليس بعينه وجود الإنسان، فوجود الخالق جل جلاله مباين لوجود مخلوقاته، وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطل الصانع، فإنه لم ينكر هذا الوجود المشهود لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له، وهؤلاء وافقوه في ذلك ولكن زعموا أنه هو الله، فكانوا أضل منه، وإن كان هو أظهر فساداً منهم، ولهذا جعلوا عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، وقالوا: لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف قال أنا ربكم الأعلى وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا ربكم الأعلى بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، قالوا ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قال أقروا له بذلك وقالوا. له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ

1 سورة النجم: 5- 18.

2 انظر البخاري (4574) ومسلم (287) .

ص: 512

إِِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} 1 قالوا: فصح قول فرعون (أنا ربكم الأعلى) وإن كان فرعون على عين الحق.

ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله وباليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة الخاصة من أهل الله وأنهم أفضل من الأنبياء، وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم، وليس هذا موضع بسط بيان إلحاد هؤلاء، ولكن لما كان الكلام في أولياء الله والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكان هؤلاء من أعظم الناس دعوى لولاية الله وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان فنبهنا على ذلك، ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الخيالات الشيطانية، ويقولون ما يقول صاحب الفتوحات بأن أرض الحقيقة هي أرض الخيال، فيعترف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال، والخيال محل تصرف الشيطان، فإن الشيطان يخيل للإنسان الأمور بخلاف ما هي، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} 2. إلى قوله: {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} () . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} إلى قوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} 3. وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} إلى قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} 4. وقال تعالى: {) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} إلى قوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 5.

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن في الحديث الصحيح أنه رأى جبرائيل ينزع

1 سورة طه: 72.

2 سورة الزخرف: 36- 38.

3 سورة النساء: 116- 120.

4 سورة إبراهيم: 22.

5 سورة الأنفال: 48.

ص: 513

الملائكة1. والشياطين إذا رأت ملائكته التي يؤيد بها عباده هربت منهم، والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} 2. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} إلى قوله: {وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} 3. وقال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} 4. وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} 5. وقال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 6.

وهؤلاء تأتيهم أرواح فتخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظن أنها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام، وكان من أول من ظهر من هؤلاء في الإسلام المختار بن عبيد الثقفي، الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سيكون في ثقيف كذاب ومبير"7. فكان الكذاب: المختار بن عبيد الثقفي، وكان المبير: الحجاج بن يوسف. فقيل لابن عمر: أن المختار يزعم أنه ينزل عليه، فقال: صدق، قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 8. وقال

1 انظر "الموطأ"(1/422) - كتاب الحج، باب جامع الحج.

2 سورة الأنفال: 12.

3 سورة الأحزاب: 9

4 سورة التوبة: 26.

5 سورة التوبة: 40.

6 سورة آل عمران: 124- 126.

7 أخرجه مسلم (2545) .

8 سورة الشعراء: 221- 222.

ص: 514

الآخر: وقيل له إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} 1.

ومن هذه الأرواح الشيطانية الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه ألقي إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعاً من الخلوات بطعام معين وحال معين، وهذه مما تفتح لصاحبها الاتصال بالجن والشياطين، فيظنون ذلك من كرامات الأولياء وإنما هو من الأحوال الشيطانية، وأعرف من هؤلاء عدداً منهم من كان يحمل إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسترقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السراق يجعل له من الناس أو بعطيتهم له إذا دلهم على سرقاتهم ونحو ذلك.

ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله عليهم كما يوجد من صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأشباه ذلك أنه يمدح الكفار، مثل قوم نوح، وهود، وفرعون وغيرهم، ويتنقص بالأنبياء: بنوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون وغيرهم، ويذم شيوخ المسلمين: كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهما، ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه، كما ذكره في التجليات الخيالية الشيطانية، فإن الجنيد قدس الله سره كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث أي الخالق والمخلوق.

وصاحب الفصوص أنكر هذا، وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له: يا جنيد! هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما؟ فخطأ الجنيد في قوله إفراد المحدث عن القديم، لألن قوله إن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في (فصوصه) : ومن أسمائه الحسنى العلي على من، وما ثم إلا هو وعماذا وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو. إلى أن قال: فهو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر،

1 سورة الأنعام: 121.

ص: 515

وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات.

فيقال لهذا الملحد: ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثاً غيرهما، فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وبين غيره، وليس هو ثالثاً، فالعبد يحرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، واستشهدنا بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطناً وظاهراً، وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم وهو أحذقهم في إلحادهم لما قرىء عليه الفصوص فقيل له: القرآن يخالف قولكم. فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له: إذا كان الوجود واحداً فلم كانت الزوجة حلالاً والأخت حراماً؟ قال: الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم، وهذا مع كفره العظيم تناقض ظاهر، فإن الوجود إذا كان واحد فمن المحجوب ومن الحاجب؟! ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده: من قال لك إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له مريده فمن هو الذي يكذب؟ وقالوا لآخر: هذه مظاهر، فقال لهم: المظاهر غير الظاهر أم هي هو؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالتثنية، وإن كانت هي إياها فلا فرق.

وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر، وبينا حقيقة كل واحد منهم، وأن صاحب الفصوص يقول المعدوم شيء ووجود الحق فاض عليه، فيفرق بين الوجود والثبوت، والمعتزلة الذين قالوا المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه، فإن أولئك قالوا إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجوداً ليس هو وجود الرب، وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليها فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق، وصاحبه القونوي يفرق بين المطلق والمعين لأنه كان أقرب إلى الفلسفة فلم يقر بأن المعدوم شيء، لكن جعل الحق هو الوجود المطلق، وصنف مفتاح غيب الجمع والوجود، وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه، فإن المطلق بشرط الإطلاق- وهو الكلي العقلي- لا يكون

ص: 516

إلا في الأذهان لا في الأعيان، والمطلق لا بشرط شيء- وهو الكلي الطبيعي وإن قيل أنه موجود في الخارج- فلا يوجد في الخارج إلا معيناً، وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج، فيلزمه أن يكون وجود الرب إما متعيناً في الخارج وإما أن يكون عين وجود المخلوقات، وهل يخلق الجزء الكل أم يخلق الشيء نفسه أم العدم يخلق الوجود أو يكون بعض الشيء خالقاً لجميعه، وهؤلاء يفرون من الحلول لأنه يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر، وعندهم الوجود واحداً، ويقولون إن النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله ولو عمموا لما كفروا، وكذلك يقولون في عباد الأصنام إنما أخطؤوا لما اعتقدوا بعض المظاهر دون بعض فلو عبدوا الجميع لما أخطؤوا عندهم، وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم ففيه ما يلزمهم دائماً من التناقض لأنه يقال لهم فمن المخطىء؟ لكنهم يقولون إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق، ويقولون إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق، ويقولون ما قاله صاحب الفصوص فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفاً أو عقلاً أو شرعاً، أو مذمومة عرفاً أو عقلاً أو شرعاً، فليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، وهم مع هذا الكفر لا يندفع عنهم التناقض، فإنه معلوم بالحس والعقل أن هذا ليس هو ذلك، وهؤلاء يقولون ما كان يقوله التلمساني: إنه ثبت عندنا بالكشف ما يناقض صريح العقل، ويقولون من أراد التحقيق- يعني تحقيقهم- فليترك العقل والشرع.

وقد قلت لمن خاطبت منهم: معلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم، وخبرهم أصدق من خبر غيرهم، والأنبياء صلوات الله عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته لا بما يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض العقل الصريح، ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان، سواء كانا عقليين أو سمعيين، أو كان أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، فكيف بمن ادعى كشفاً يناقض

ص: 517

الشرع والعقل، وهؤلاء قد لا يريدون الكذب لكن يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج، وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين، وتكون من تلبيسات الشياطين، وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة يقدمون الأولياء على الأنبياء، ويذكرون أن النبوة لم تنقطع كما يذكر عن ابن سبعين ونحوه، ويجعلون المراتب ثلاثة، يقولون: العبد يشهد أولاً طاعة ومعصية، ثم طاعة بلا معصية، ثم لا طاعة ولا معصية.

والشهود الأول- وهو الشهود الصحيح- هو الفرق بين الطاعات والمعاصي.

وأما الثاني: فيريدون به شهود القدر كما أن بعض هؤلاء يقول أنا كافر برب يعصى، وهذا يزعم أن المعصية مخالفة الإرادة التي هي المشيئة، والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة، ويقول شاعرهم:

أصبحت منفعلاً لما تختاره

مني ففعلي كله طاعات

ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله، كما قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} 1.

وسنذكر الإرادة الكونية والدينية، والأمر الكوني والديني وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية، فبينها الجنيد رحمه الله، فمن اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل، فإنهم تكلموا أن الأمور كلها مشتركة في مشيئته وقدرته وخلقه فيجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهى عنه ويكرهه ويسخطه، ويفرق بين أوليائه وأعدائه، كما قال تعالى:

1 سورة النساء: 13- 14.

ص: 518

{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 1. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 2. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 3. وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} 4.

ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية، وهو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء وإن كانت واقعة بمشيئته، فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم.

والمرتبة الثالثة: أن لا يشهد طاعة ولا معصية، فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن هذا هو غاية التحقيق والولاية لله، وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته، وغاية العداوة لله، فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء، وقد قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 5. ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 6. وقال الخليل لقومه المشركين: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 7. وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ

1 سورة القلم: 35- 36.

2 سورة ص: 28.

3 سورة الجاثية: 21.

4 سورة غافر: 58.

5 سورة المائدة: 51.

6 سورة الممتحنة: 4.

7 سورة الشعراء: 75- 77.

ص: 519

أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 1. وهؤلاء قد صنف بعضهم كتاباً وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسماة بنظم السلوك، ويقول فيها:

لها صلواتي بالمقام أقيمها

وأشهد فيها أنها لي صلت

كلانا مصل واحد ساجد إلى

حقيقته بالجمع في كل سجدة

وما كان لي صلى سواي ولم تكن

صلاتي لغيري في أداء كل ركعة

إلى أن يقول:

وما زلت إياها لهاياي لم تزل

ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

إلا رسولاً كنت مني مرسلاً

وذاتي بآياتي على استدلت

إلى رسولاً كنت مني مرسلاً

وذاتي بآياتي على استدلت

فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن

منادي أجابت من دعاني ونبت

إلى أمثال هذا الكلام، ولهذا كان القائل عند الموت ينشد:

إن كان منزلتي في الحب عندكم

ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفر تنفسي بها زمناً

واليوم أحسبها أضغاث أحلام

فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين له بطلان ما كان يظنه، وهؤلاء ممن قال الله سبحانه فيهم:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} 2. وقد قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فجميع ما في السموات وما في الأرض يسبح الله، ثم قال تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3.

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللهم رب

1 سورة المجادلة: 22.

2 سورة فاطر: 8.

3 سورة الحديد: 1- 3.

ص: 520

السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن؛ أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر"1.

ثم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} 2. فلفظ مع لا تقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 3 وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} 5.

ولفظة (مع) جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 6.

فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس، والضحاك، وسفيان الثوري، والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم: هو معهم بعلمه.

وأما المعية الخاصة ففي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ

1 أخرجه مسلم (2713) .

2 سورة الحديد: 4.

3 سورة التوبة: 119.

4 سورة الفتح: 29.

5 سورة الأنفال: 75.

6 سورة المجادلة: 7.

ص: 521

مُحْسِنُونَ} 1 وقوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 2. وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 3. يعني: النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق، فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، وهو مع الذين اتقوا وكانوا محسنين دون الظالمين المعتدين، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك، وقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 4. أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض، كما قال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 5. وكذلك قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} 6. كما قرره أئمة العلم أنه المعبود في السموات والأرض. وأجمع سلف الأمة وأئمتها أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته، يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيوصف بصفات الكمال دون صفات النقص، ويعلم أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في شيء من صفات الكمال، قال الله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 7.

قال ابن عباس: الصمد؛ العليم الذي كمل في علمه. العظيم الذي كمل في عظمته، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته، السيد الكامل في سؤدده.

1 سورة النحل: 128.

2 سورة طه: 46.

3 سورة التوبة: 40.

4 سورة الزخرف: 84.

5 سورة الروم: 27.

6 سورة الأنعام: 3.

7 سورة الإخلاص: 1- 4.

ص: 522

وقال ابن مسعود وغيره: الصمد الذي لا جوف له، والأحد الذي لا نظير له، فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه، واسمه الأحد يتضمن أنه لا مثل له، وقد بسطنا الكلام على ذلك في تفسير هذه السورة وكونها تعدل ثلث القرآن"1 انتهى المقصود نقله من كلام شيخ الإسلام قدس الله

وهذه نبذة مما يتعلق بأهل الحلول والاتحاد. وللشيخ علي القاري، والسعد التفتازاني، والشيخ محمد البخاري، والشيخ عبد الباري، والعلامة عضد الملة والدين، كتب مفردة في الكلام عليهم وردهم، ولعلنا إن شاء الله تعالى نفرد في ذلك كتاباً نذكر فيه جميع ما قاله العلماء الربانيون فيهم، ونذكر بدع أهل الطرائق المبتدعة وما عندهم من المخالفات للشريعة.

والمقصود مما نقلناه كله؛ أن قول النبهاني عن أهل الحلول والاتحاد أنهم أولياء الله كلام دل علي جهله واتباعه لهواه وغيه، وقد ذكر الشيخ على القاري في الرد على الفصوص من المنكرات والأوهام والغلطات ما تقشعر منها الجلود، وقال في آخر كتابه:"وما سبق من المنكرات في كلام ابن عربي لا سبيل إلى صحة تأويلها، فلا يستقيم اعتقاد أنه من أولياء الله مع اعتقاد صدور هذه الكلمات منه إلا باعتقاد أنها لم تصدر عنه، أو أنه رجع إلى ما يعتقده أهل الإسلام في ذلك، ولم يجىء بذلك عنه خبر ولا روي عنه أثر، فذمه جماعة من أعيان العلماء وأكابر الأولياء لأجل كلامه المنكر".

وأما قول النبهاني عن كتب ابن تيمية: أنه بسبب كلامه على القائلين بالحلول والاتحاد وغير ذلك مما يدل على البطلان والفساد قلل الله النفع بها إلخ.

فجوابه: أن الله تعالى لم يقلل الانتفاع بها، بل لم يزل الناس يلتقطون منها درر الفوائد، ويصححون بها أعمالهم والعقائد، وهي كما قال الحافظ ابن القيم تشترى بالغالي من الأثمان في كل عصر وزمان، فأي عالم من العلماء انتفع الناس

1 "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان "(ص 190- 249) .

ص: 523

بكتبه كما انتفعوا بكتب شيخ الإسلام، وذلك من المعلوم بين الخاص والعام، ولكن الأمر كما قيل:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم

وكتب المتأخرين من الحنابلة وغيرهم مشحونة بالنقل عن كتبه، والمنقولات عنها زينة للكتب وغرة محاسنها، وقد أودع الله تعالى فيها خاصية التأثير في القلوب فلا تجد أحداً يطالع فيها إلا وفتح الله عليه أبواب العلوم، وأفاض عليه من زلال عذب منطوقها والمفهوم، إلا من قسى قلبه وكشف حجابه، كما قال تعالى عن كتابه:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1.

قال النبهاني: "ومن كتبه (منهاج السنة) في الرد على الروافض وكتاب (العقل والنقل) في الرد على المتكلمين من أهل السنة، كالأشعري والماتريدي وأصحابهما، وهم معظم الأمة المحمدية. قال: و"منهاج السنة" وإن كان مؤلفاً في الرد على الروافض إلا أنه حشاه بالرد على أهل السنة، والرد على ساداتنا الصوفية ومن يعتقد فيهم، كقوله في جواب قول الرافضي: يجب في كل زمان إمام معصوم- بعد أن بين فساده- وهل هذا إلا أفسد عما يدعيه كثير من العامة في القطب والغوث ونحو ذلك من أسماء يعظمون مسماها بما هو أعظم من مرتبة النبوة من غير تعيين لشخص معين يمكن أن ينتفع به الانتفاع المذكور في مسمى هذه الأسماء، وكما يدّعي كثير منهم حياة الخضر مع أنهم لم يستفيدوا بهذه الدعوى منفعة لا في دينهم ولا في دنياهم، وإنما غاية من يدّعي ذلك أنه يدعي جريان بعض ما يقدر الله على يدي مثل هؤلاء، وهذا مع أنهم لا حاجة لهم إلى معرفته لم ينتفعوا بذلك لو كان حقاً فكيف إذا كان ما يدّعونه باطلاً؟ ومن هؤلاء من يتمثل له الجني في صورة ويقول أنا الخضر ويكون كاذباً، وكذلك الذين

1 سورة البقرة: 26- 27.

ص: 524

يذكرون رجال الغيب ورؤيتهم إنما رأوا الجن وهم رجال غائبون وقد يظنون أنهم إنس، وهذا قد بيناه في مواضع تطول حكايتها مما تواتر عندنا.

قال النبهاني في الاعتراض على الشيخ: وهكذا دأبه في إنكار ما لم يحط بعلمه، وجعله في درجة المستحيلات، مع أنه ثبت عند غيره من جماهير المسلمين- من الأولياء العارفين، والعلماء العاملين، والعباد والصالحين وغيرهم- ثبوتاً لا يحتمل وقوع الشك في صحته، ثم إنه استشهد على صحة دعواه بكلام اليافعي، وابن حجر المكي، ونجم الدين الأصفهاني وأضرابهم من الغلاة".

أقول: جوابه من وجوه:

الأول: إنّا تكلمنا سابقاً عن جميع كتب الشيخ، وذكرنا في مدحها وتقريظها ما ذكرنا، وقلنا إن (منهاج السنة) من أجل كتب الشيخ، وفيه من الفوائد الدينية ما يعز وجود نظيره في غيره، وما أحسن ما قرظ به الأديب الفهامة الشيخ طه بن محمود رئيس التصحيح في المطبعة الكبرى، وهو:

بأقوم منهاج أتى القوم أحمد

فمالي لا أثني عليه وأحمد

إمام حباه الله علماً وحكمة

وقلباً تقياً نوره يتوقد

فقام بأمر الحق في الناس صادعاً

بأوضح برهان له العقل يشهد

وبدد أهواء تجمع شملها

بها ضل قوم والضلال مبدد

أتاهم وهم شتى المذاهب مالهم

من العقل هاد أو من الدين مرشد

أتاهم وليل الرفض والنصب حالك

وقاعدة الطغيان فيهم توطد

أتى معشراً للغي أهدى من القطا

ولم يبصروا طرق الرشاد فيهتدوا

أتى أمة بغض الصحابة دينهم

وسب أبي بكر به قد تعبدوا

فأنكر ماقد خالف الدين والتقى

ومن ديننا إنكار ما ليس يحمد

وأفشى كتاب الله فيهم وأنهم

أباة عن الإذعان للحق شرد

وناضل عن صحب النبي وحزبه

ومن لهم رأي وقول مسدد

فهل مثل هذا الحبر أولى بشكره

على ما أتاه أم تراه يفند

ص: 525

ولكن أعداء الفضائل جمة

وهل ساد إلا ذو الأيادي المحسد

سأشكره دهري عن الناس إذ غدا

عليهم جميعاً لابن تيمية اليد

فلو كان تأليف الفتى مخلداً له

لكان من المنهاج والله مخلد

ولو كان في الدنيا جزاء لمحسن

لكان له فيها النعيم المؤبد

فأسألك اللهم هتان رحمة

على قبره ما لاح في الأفق فرقد

فانتقاد النبهاني على هذا الكتاب أشبه شيء بنبح الكلاب للسحاب، أبان للناس جهله وغباوته وضلاله، وعداوته للدين، وانحرافه عن سبيل المسلمين والمؤمنين.

الوجه الثاني: أن النبهاني انتقد كتاب المنهاج واعترض على مصنفه في إنكاره الخضر، والأقطاب، والأوتاد، ورجال الغيب، وغيرهم مما ابتدعه المتصوفة والغلاة ترويجاً لمقاصدهم، وانتقاده هذا مما لا وجه له، لأن الرافضة لما أوجبوا اللطف على الله ومراعاة الأصلح وأن الأئمة منحصرون بزعمهم في اثني عشر إماماً وهم لا يستوعبون الزمان إلى قيام الساعة؛ لزمهم القول بالمنتظر، مع أن حجج الله لا تقوم بخفي مستور لا يقع العام له على خبر، ولا ينتفعون به في شيء أصلاً، فلا جاهل يتعلم منه، ولا ضال يهتدي به، ولا خائف يأمن به، ولا ذليل يتعزز به، فأي حجة لله قامت بمن لا يرى له شخص، ولا يسمع منه كلمة، ولا يعلم له مكان؟ ولاسيما على أصول القائلين به، فإن الذي دعاهم إلى ذلك؛ أنهم قالوا لا بد منه في اللطف بالمكلفين وانقطاع حجتهم عن الله، فيالله العجب أي لطف حصل بهذا المعدوم لا المعصوم؟ وأي حجة أثبتم للخلق على ربهم بأصلكم الباطل؟ فإن هذا المعدوم إذا لم يكن لهم سبيل قط إلى لقائه والاهتداء به فهل في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟ وهل في العذر والحجة أبلغ من هذا؟ فالذي فررتم منه وقعتم في شر منه، وكنتم في ذلك كما قيل:

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار

ولكن أبى الله إلا أن يفضح من تنقّص بالصحابة الأخيار، وبسادة هذه الأمة

ص: 526

الأبرار، وأن يُريَ الناس عورته، ويغريه بكشفها ونعوذ بالله من الخذلان، ولقد أحسن القائل:

ما آن للسرداب أن يلد الذي

ثلثتموه بزعمكم ما آن

فعلى عقولكم العفاء فإنكم

ثلثتم العنقاء والغيلانا

ولقد بطلت حجج استودعها مثل هذا الغائب وضاعت أعظم ضياع، فهم أبطلوا حجج الله من حيث زعموا حفظها.

فلما رد الشيخ على ابن المطهر الحلي القول بالمنتظر على أحسن وجه: أراد سد أبواب طرق مناظرتهم وحجاجهم ومعارضتهم على الخضر والأقطاب والأوتاد ونحوهم، وأبطل القول بوجودهم، وأنه ليس من الدين في شيء، ولولا ذلك لأمكن أن يقولوا إن القول بالمنتظر كالقول بالخضر والقطب والبدل والوتد وغيرهم، لاسيما وحياة الخضر أطول بكثير، والقائلون به أكثر، فما هو جوابكم فهو جوابنا، فكان من الواجب على الشيخ بيان الحقيقة في ذلك، وإقامة الدليل على نفي وجودهم، وكيف يمكن مخاصمة الروافض في المهدي المنتظر وإنكاره مع القول بحياة الخضر وإثبات الأقطاب ونحوهم، فلا شك أن انتقاد النبهاني هنا في غاية السقوط.

الوجه الثالث: اعتراض النبهاني على الشيخ في تعرضه لبعض من يزعم أنه من أهل السنة من الأشعرية والماتريدية وساداته الصوفية.

فنقول: إن الشيخ تكلم على كل من ابتدع وأحدث في الدين ما ليس منه، ولم يتخوف من الأسماء، فمن خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة فهو ممن اتبع غير سبيل المؤمنين، فكيف لا يرد على المخالفين، وكل آخذ يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال ذلك إمام دار الهجرة، وسنتكلم إن شاء الله تعالى على السنة وما هي ومن أهلها ليعلم ما في كلام النبهاني من الجهل والغلط.

الوجه الرابع: أن القول بوجود الخضر وحياته والاعتقاد برجال الغيب وأمثاله؛ إن كان من واجبات الشريعة وأركان الديانة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه

ص: 527

ورسله واليوم الآخر ووجود الجن ونحو ذلك مما وردت نصوص الكتاب والسنة به، فلِمَ لم ينصّ عليها في القرآن ولم يرد فيها حديث صحيح؟ فإذا سأل رب العالمين عبداً من عباده وقال له: لم لم تؤمن بحياة الخضر الأبدية، وكذّبت بالأقطاب والأوتاد والأبدال؟ ونحوهم مما قال به الصوفية! ثم أجابه بقوله: يا رب العالمين، ويا خالق السموات والأرضين؛ إنك كلفت الناس أن يؤمنوا بك وإن لم تَرَكَ العيون ولم تحط بك الظنون، ولكن نصبت لهم دلائل في الآفاق والأنفس على وجودك عدا ما ورد من النصوص على لسان أنبيائك ورسلك، وأودعت في كل شيء آية تدل على أنك الواحد، بل كل ذرة من ذرات العوالم هي أعدل شاهد، ثم إنك ملأت كتابك الكريم من ذكر الملائكة والرسل والجن وغير ذلك مما لم نره، ثم إن نبيك صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء كلهم أخبروا بذلك، فلذلك اعترفنا وصدقنا بما ذكر، وأما الخضر ومن ذكر معه فلم نر في كتابك الكريم آية تدل على خلوده ولا وجوده ووجودهم، وأما ما رواه الكذابون عن نبيك صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال المحققون من أهل العلم: إنها كذب لا أصل لها، بل الوارد خلاف ذلك، فكيف يا إلهي أؤمن بأمور موهومة وأشخاص غير معلومة؟ وقد أنعمت علي بعقل أزن فيه الأمور وأجعله حكماً عدلاً، ودليلاً هادياً إذا أعضلت علي المقاصد، فإذا لم أنتفع يا إلهي بما أنعمت علي من نعمة العقل أكون إذاً كالنبهاني الغبي أخبط خبط عشواء ولا أفرق بين السماء والماء.

ثم أقول: إلهي! ما فائدة القول بوجود الخضر والأقطاب والأبدال ونحوهم؟ لا جاهل يستفيد منهم العلم بدينه، ولا مظلوم يستصرخهم على دفع ظلمه، والشمس أنت تطلعها وتغيبها، والفلك أنت تديره، والقمر أنت تنيره، والكواكب أنت جعلتها زينة للسماء وحفظاً من كل شيطان ما رد، والسحاب أنت تنشئه، والغيث أنت تغيث به عبادك، والمريض أنت تشفيه، والجائع أنت تطعمه، والعطشان أنت تسقيه، وقد أودعت كتابك كل علم، وبيان كل حكم، وأنزلت:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1 فالخضر وغيره حينئذ ماذا يفعلون إذا لم تكن لهم

1 سورة المائدة: 3.

ص: 528

وظيفة وعمل؟ والله المستعان على ما يصفون.

الوجه الخامس: أدن النبهاني وأضرابه استدلوا على وجود من ذكر بقول ابن حجر المكي ونحوه، ومن المعلوم أن كلام أمثال هؤلاء لا يفيد في هذا الباب شيئاً، وقد تقدم أن العمدة عند أهل العلم في مسائل أصول الدين وفروعه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم من هذه الأمة، ولا تذكر أقوال أهل العلم إلا تبعاً وبياناً، لا أنها المقصودة بالذات والأصالة.

ثم المسائل التي لا يلزم بها المجتهد غيره هي ما كان للاجتهاد فيه مساغ، ولم تخالف كتاباً ولا سنة صريحة ولا إجماعاً، وما خالف ذلك فهو مردود على قائله، ويلزمه أهل العلم بصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

قال إمام دار الهجرة مالك ابن أنس رحمه الله تعالى: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر"- يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحس منه قوله الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله؛ ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه"2. فإذا كان رد السنة محرماً لا يجوز ولو ردها ظاناً أن القرآن لا يدل عليها؛ فكيف رد الكتاب والسنة وعدم الإلزام بهما لخلاف أحد من الناس كائناً من كان؟!

والمقصود؛ أن النبهاني وأضرابه لم يورودا على إثبات مقصدهم بدليل يليق أن يتلقى بالقبول، وابن حجر المكي ونحوه من الغلاة هم خصوم الحق وأعداؤه، فكيف يسوغ أدن نستدل بكلامهم على ما لا يقول به أهل الحق؟!

1 سورة النساء: 59.

2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/130- 131) وأبو داود (4604) وغيرهما، من حديث المقدام بن معدي كرب. وهو مروي عن جمع من الصحابة.

انظر: "الصحيحة"(2870) .

ص: 529

الوجه السادس: أن ما ذكره الشيخ لم يذكره الخصم بتمامه، بل حرف فيه وغيَّرَ، وحذف منه ما يجب ذكره، ونحن ننقل هنا ما وجدناه من كلامه في مواضع متفرقة، وإذا جمعت في موضع واحد وتبين دليلها سلم المنصف كلامه وسقط عنده قول من أنكر عليه من الغلاة السالكين غير سبيل المؤمنين، ومن الله التوفيق:

قال شيخ الإسلام- رحمه الله في أثناء جواب سؤال سأله بعضهم عن الاستغاثة بأهل القبور والنذر لهم ونحو ذلك1-: "وأما سؤال السائل عن القطب الغوث الفرد الجامع: فهذا قد يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام، مثل تفسير بعضهم أن الغوث الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى قد يقولون إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته، فهذا من جنس قول النصارى في المسيح والغالية في عليّ عليه السلام، وهذا كفر صريح يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإنه ليس من المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته، ولهذا كان ما يقوله الفلاسفة في العقول العشرة التي قد يزعمون أنها الملائكة، وما يقوله النصارى في المسيح، ونحو ذلك؛ كفراً صريحاً باتفاق المسلمين، وكذلك إن عني بالغوث ما يقول بعضهم إن في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وقد يسميهم النجباء، فينتقى منهم سبعون هم النقباء، ومنهم أربعون هم الأبدال، ومنهم سبعة هم الأقطاب، ومنهم أربعة هم الأوتاد، ومنهم واحد هو الغوث، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابتهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا للثلاثمائة والبضعة عشر رجلاً، وأولئك يفزعون إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد.

وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب، فإن لهم فيها مقالات متعددة، حتى يقول بعضهم أنه ينزل من السماء على الكعبة ورقة خضراء باسم غوث الوقت واسم خضره على قول من يقول إن الخضر هو مرتبه،

1 "مجموعة الفتاوى"(27/ 56- وما بعدها) الطبعة الجديدة.

ص: 530

وأن لكل زمان خضراً فإن لهم في ذلك قولين.

وهذا كله باطل لا أصل له لا في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا من الشيوخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً كانوا خير الخلق في زمنهم وكانوا بالمدينة ولم يكونوا بمكة، وقد روى بعضهم حديثاً في هلال غلام المغيرة بن شعبة وأنه أحد السبعين، والحديث كذب باتفاق أهل المعرفة، وإن كان قد روى بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في "حلية الأولياء"1 والشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في بعض مصنفاته، فلا نغتر بذلك فإنه يروي الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والكذب. ولا خلاف بين العلماء في أنه كذب موضوع، وتارة يروونه على عادة أهل الحديث الذين يروون ما سمعوه ولا يميزون بين صحيحه من باطله، وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذّابين"2.

وبالجملة؛ فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل في الرغبة والرهبة- مثل دعائهم عند الكسوف والاعتداد لدفع البلاء وأمثال ذلك- إنما يدعون في مثل ذلك الله وحده، لا يشركون به شيئاً، لم يكن للمسلمين أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله، بل كان المشركون في جاهليتهم يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله، أفتراه بعد التوحيد الإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} 3 الآية، وقال:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 4 الآية. وقال تعالى:

1 "الحلية"(2/24) .

2 أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/9) .

3 سورة يونس: 12.

4 سورة الإسراء: 67.

ص: 531

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} 1 الآية، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} إلى قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.

والنبي صلى الله عليه وسلم استسقى لأصحابه بصلاة الاستسقاء وبغير صلاة، وصلى بهم للاستسقاء وصلاة الكسوف، وكان يقنت في صلاته فيستنصر على المشركين، كذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكذلك أئمة الدين، ومشائخ المسلمين؛ ما زالوا على هذه الطريقة، ولهذا يقال ثلاثة أشياء مالها من أصل: باب النصيرية، ومنتظر الرافضة، وغوث الجهال. فإن النصيرية تدّعي في الباب الذي لهم ما هو من هذا الجنس، وأنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود، لكن دعوى النصيرية فيه باطلة، وأما محمد بن الحسن المنتظر، والغوث المقيم بمكة، ونحو هذا؛ فإنه باطل ليس له أصل في الوجود ولا وجود، وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم ونحو هذا فهذا باطل، فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله وعددهم، فكيف بهؤلاء الضالين المفترين الكذّابين؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن يراهم بسيما الوضوء وهو الغرة والتحجيل، ومن هؤلاء من أولياء الله مالا يحصيه إلا الله، وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم، بل قال الله تعالى له:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 3. وموسى لم يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر وإني بأرضك السلام؟ فقال له: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم. فكان قد بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه. ومن قال: إنه نقيب الأولياء وأنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل.

والصواب الذي عليه المحققون، أنه ميت4، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو

1 سورة الأنعام: 40.

2 سورة الأنعام: 42- 43.

3 سورة غافر: 78.

4 انظر "مظاهر الانحراف العقدية عند الصوفية" لأبي عبد العزيز إدريس محمود إدريس (2/ 531- وما بعدها) ط. مكتبة الرشد بالرياض.

ص: 532

كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون بمكة والمدينة، وكان يكون حضوره مع الصحابة رضي الله عنهم للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى له من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم، ولم يكن عن خير أمة خرجت للناس مختفياً، وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم.

ثم ليس للمسلمين به وبأمثاله حاجة لا في دينهم ولا دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، الذي علمهم الكتاب والحكمة، وقال لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم:"لو كان موسى حية ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم"1. وعيسى ابن مريم إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر أو غيره والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم بنزول عيسى من السماء، وحضوره مع المسلمين، وقال: "كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى فني آخرها"2. فإذا كان هذان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل ومحمد صلى الله عليه وسلم ولد آدم ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لعوامهم ولا خواصهم فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟ وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قط؟ ولا أخبر به أمته ولا خلفاءه الراشدين.

وقول القائل: إنه نقيب الأولياء. فيقال: من ولآه النقابة؟ وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وليس فيهم الخضر، وعامة ما يحكى في هذا الباب من حكايات " بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجال، مثل شخص رأى رجلاً ظن أنه الخضر أو قال إنه خضر، كما أن الرافضة ترى شخصاً تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدّعي ذلك، وروي عن الإمام أحمد أنه قال- وقد ذكر له الخضر- من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسن الناس إلا شيطان، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

1 أخرجه أحمد (3/ 471) أو رقم (15908) بإسناد ضعيف.

2 لا يصح؛ وانظر "كنز العمال"(38682) .

ص: 533

أما إذا قصد القائل بقوله القطب الغوث الفرد الجامع، أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه فهذا ممكن، لكن من الممكن أن يكون في الزمان اثنان متساويان في الفضل وثلاثة وأربعة، ولا يجزم بأن لا يكون في كل زمان أفضل الناس إلا واحداً، وقد يكون جماعة بعضهم أفضل من بعض من وجوه، وتلك الوجوه إما متقاربة أو متساوية، ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان، فتسميته الغوث الفرد الجامع بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تكلم بها أحد من سلف الأمة وأئمتها، وما زال السلف يظنون في بعض أنه أفضل أو من أفضل أهل زمانه ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، لاسيما من المنتحلين لهذا الاسم من يدّعي أن أول هؤلاء الأقطاب هو الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، ثم يتسلسل الأمر إلى ما دونه إلى بعض المشايخ المتأخرين، وهذا لا يصح على مذهب أهل السنة، ولا على مذهب الرافضة، فأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والسابقون من المهاجرين والأنصار؟ والحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد كان قارب سنه الاحتلام، وقد حكي عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا الاسم؛ أن القطب الفرد الغوث الجامع ينطبق علمه على علم الله، وقدرته على قدرة الله، فيعلم ما يعلمه، ويقدر على ما يقدر عليه الله، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك، وأن هذا انتقل منه إلى الحسن، فتسلسل إلى شيخه" فبينتا له أن هذا كفر صريح، وجهل قبيح، وأن دعوى هذا في رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر دع من سواه، وقد قال تعالى:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} 1 وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 2 الآية. وقال تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} 3. وقال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ

1 سورة الأنعام: 50.

2 سورة الأعراف: 188.

3 سورة آل عمران: 154.

ص: 534

فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} 1 والآية بعدها. وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2.

والله تعالى قد أمرنا أن نطيع رسوله فقد قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 3. وأمرنا أن نتبعه، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 4. وأمرنا أن نعززه ونوقره وننصره، وجعل له من الحقوق ما بينه في كتابه وسنة رسوله حتى أوجب علينا أن يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا، فقال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 5. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {الْفَاسِقِينَ} 6.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أن أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وقال له عمر رضي الله عنه: يا رسول الله؛ والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال:"لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال: فأنت أحب إلي من نفسي، قال:"الآن يا عمر"7. وقال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"8. وقد بين في كتابه الحقوق التي لا تصلح إلا له، وحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض- كما قد بسطنا دلك في غير هذا الموضع- وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَن

1 سورة آل عمران: 127- 128.

2 سورة القصص: 56.

3 سورة النساء: 80.

4 سورة آل عمران: 31.

5 سورة الأحزاب: 6.

6 سورة التوبة: 24.

7 تقدم تخريجه.

8 تقدم تخريجه.

ص: 535

يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 1. فالطاعة لله والرسول، والخشية والتقوى لله وحده، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 2 فالإيتاء لله وللرسول، كقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.

وأما التحسب فهو لله وحده، كما قالوا حسبنا الله ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4 أي: يكفيك ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو المقطوع به في معنى هذه الآية، ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام "حسبنا الله ونعم الوكيل".

الوجه السابع: في بيان حجج المنكرين لحياته- أعني الخضر- اليوم، ودلائل خصومهم، وبيان الحق الحقيق بالقبول من القولين.

اعلم أن العلماء اختلفوا في حياته اليوم كما اختلفوا في نبوته، فذهب جمع إلى أنه ليس بحي اليوم، وسئل البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فقال: كيف يكون هذا؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أي قبل وفاته بقليل: "لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد"5. والذي في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته: "ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية"6 وهذا أبعد عن التأويل. وسئل عن ذلك غيره من الأئمة

1 سورة النور: 52.

2 سورة التوبة: 59.

3 سورة الحشر: 7.

4 سورة الأنفال: 64.

5 "صحيح البخاري"(1/ 255- فتح) .

6 أخرجه مسلم (2538، 2539) .

ص: 536

فقرأ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} 1.

وسئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: لو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهد بين يديه ويتعلم منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر:"اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"2 فكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، فأين كان الخضر حينئذ؟!

وسُئِلَ إبراهيم الحربي عن بقائه، فقال: من أحال على غائب لم ينصف وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان3.

ونقل في البحر عن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي القول بموته أيضاً. ونقله ابن الجوزي عن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما أيضاً. وكذا عن إبراهيم بن إسحق الحربي، وقال أيضاً: كان أبو الحسين بن المنادي يقبح قول من يقول إنه حيّ. وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب محمد.

وكيف يعقل وجود الخضر ولا يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة والجماعة، ولا يشهد معه الجهاد مع قوله عليه الصلاة والسلام:"والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني"4؟ وقوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 5 وثبوت أن عيسى عليه السلام إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف أمام هذه الأمة، ولا

1 سورة الأنبياء: 34.

2 جزء من حديث أخرجه مسلم (1763) .

3 انظر "روح المعاني "(10/320) .

4 أخرجه أحمد (3/387) أو رقم (15199- قرطبة) وحسّنه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل"(6/34/1589) بشواهده.

5 سورة آل عمران: 81.

ص: 537

يتقدم عليه في مبدأ الأمر، وما أبعد فهم من يثبت وجود الخضر وينسى ما في طي إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة. ثم قال: وعندنا من المعقول وجوه على عدم حياته:

أحدها: أن الذي قال بحياته قال إنه ابن آدم عليه السلام لصلبه، وهذا فاسد لوجهين. الأول: إنه يلزم أن يكون عمره اليوم ستة آلاف سنة أو أكثر، ومثل هذا بعيد في العادات في حق البشر. والثاني: أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من أولاده- كما زعموا أنه وزير ذي القرنين- لكان مهول الخلقة مفرط الطول والعرض، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خلق آدم وطوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص بعده"1. وما ذكر أحد ممن يزعم رؤية الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة، وهو من أقدم الناس.

والوجه الثاني: أنه لو كان الخضر قبل نوح عليه السلام لركب معه في السفينة، ولم ينقل هذا أحد.

الثالث: أن العلماء اتفقوا على أن نوحاً عليه السلام لما خرج من السفينة مات من معه ولم يبق غير نسله ودليل ذلك قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} 2.

الرابع: أنه لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لكان ذلك من أعظم الآيات والعجائب، وكان خبره في القرآن مذكوراً في مواضع، لأنه من آيات الربوبية، وقد ذكر سبحانه عز وجل من استحياه ألف سنة إلا خمسين عاماً وجعله آية، فكيف لا يذكر جل وعلا من استحياه أضعاف ذلك؟!

الخامس: أن القول بحياة الخضر قول على الله تعالى بغير علم، وهو حرام بنص القرآن، أما المقدمة الثانية فظاهرة، وأما الأولى: فلأن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن أو السنة أو إجماع الأمة، فهذا كتاب الله تعالى فأين فيه حياة

1 أخرجه البخاري (3326، 6227) ومسلم (2841) .

2 سورة الصافات: 77.

ص: 538

الخضر؟ وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين ما يدل على ذلك بوجه؟ وهؤلاء علماء الأمة فمتى أجمعوا على حياته؟.

السادس: أن غاية ما يتمسك به في حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر، فيالله تعالى العجب هل للخضر علامة يعرفه بها من رآه؟ وكثير من زاعمي رؤيته يغتر بقوله أنا الخضر، ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله تعالى، فمن أين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب؟

السابع: أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه، وقال:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} 1 فكيف يرضى لنفسه بمفارقة مثل موسى عليه السلام ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة، الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم. وكل منهم يقول: قال لي الخضر، جاءني الخضر، أوصاني الخضر؟ فيا عجباً له يفارق الكليم، ويدور على صحبة جاهل لا يصحبه إلا شيطان رجيم، سبحانك هذا بهتان عظيم!.

الثامن: أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر لو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا لم يُلْتَفَتْ إلى قوله، ولم يحتج به في الدين ولا مخلص للقائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول إنه لم يأت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بايعه، أو يقول إنه لم يرسل إليه، وفي هذا من الكفر ما فيه.

التاسع: أنه لو كان حياً لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل الله تعالى ومقامه في الصف ساعة، وحضوره الجمعة والجماعة، وإرشاد جهلة الأمة؟ أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات إلى غير ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ماله وما عليه.

وشاع الاستدلال بخبر: "لو كان الخضر حياً لزارني" وهو كما قال الحفاظ: خبر موضوع لا أصل له. ولو صحّ لأغنى عن القيل والقال، ولأنقطع به الخصام والجدال.

1 سورة الكهف: 78.

ص: 539

(الذاهبون إلى حياته)

ومن الناس من قال بحياته، وهو موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه عند الصوفية على ما قاله النووي، ونقل عن الثعلبي المفسر: أن الخضر نبي معمر على جميع الأقوال، محجوب عن أبصار أكثر الرجال. وقال ابن الصلاح: هو حي اليوم، وإنما ذهب إلى إنكار حياته بعض المحدثين، واستدلوا على ذلك بأخبار كثيرة.

منها: ما يروى عن ابن عباس أنه قال: الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال. ومثله لا يقال من قبل الرأي.

ومنها: ما أخرجه ابن عساكر، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا أصحابنا أن آدم عليه السلام لما حضره الموت جمع بنيه، فقال: يا بني إن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذاباً فليكن جسدي معكم في المغارة حتى إذا هبطتم فابعثوا بي وادفنوني بأرض الشام، فكان جسده معهم، فلما بعث الله تعالى نوحاً ضم ذلك الجسد، وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض فغرقت زماناً، فجاء نوح حتى نزل بابل، وأوصى بنيه الثلاثة أن يذهبوا بجسده إلى المغار الذي أمرهم أن يدفنوه به، فقالوا الأرض وحشة لا أنيس بها ولا نهتدي الطريف ولكن كف حتى يأمن الناس ويكثروا، فقال لهم نوح: إن آدم قد دعا الله تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة، فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه، فأنجز الله تعالى له ما وعده فهو يحيا إلى ما شاء الله تعالى له أن يحيا. وفي هذا سبب طول بقائه وكأنه سبب بعيد وإلا فالمشهور فيه أنه شرب من عين الحياة حين دخل الظلمة مع ذي القرنين وكان على مقدمته.

ومنها: ما أخرجه الخطيب وابن عساكر، عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي وأخذنا في جهازه خرج الناس وخلا الموضع، فلما وضعته على المغتسل إذا بهاتف يهتف من زاوية البيت بأعلى صوته: لا تغسلوا محمداً، فإنه

ص: 540

طاهر مطهر، فوقع في قلبي شيء من ذلك وقلت ويلك من أنت فإن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أمرنا وهذه سنته، وإذا بهاتف آخر يهتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته غسّلوا محمداً فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون حسد محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدخل قبره مغسولاً. فقلت: جزاك الله تعالى خيراً قد أخبرتني بأن ذلك إبليس فمن أنت؟ قال: أنا الخضر حضرت جنازة محمد صلى الله عليه وسلم.

وعن علي كرم الله وجهه قال: بينما أنا أطوف بالبيت إذا رجل متعلق بأستار الكعبة يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم بالحجاج الملحين، أذقني برد عفوك، وحلاوة رحمتك. قلت: يا عبد الله أعد الكلام، قال: أسمعته؟ قلت: نعم. قال: والذي نفس الخضر بيده -وكان هو الخضر- لا يقولهن عبد دبر الصلاة المكتوبة إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج، وعدد المطر، وورق الشجر.

ومنها: ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" عن جابر، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الصحابة؛ دخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح، فتخطى رقابهم فبكى، ثم التفت إلى الصحابة فقال: إن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة، وعوضاً من كل فائت، وخلفاً من كل هالك، فإلى الله تعالى فأنيبوا، وإليه تعالى فارغبوا، وننهره سبحانه إليكم في البلاء؛ فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر، فقال أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما: هذا الخضر عليه السلام1.

1 أخرجه الحاكم (3/57) والطبراني في "الأوسط"(2/ 388/1234- مجمع البحرين) من طريق: كامل بن طلحة الجحدري، ثنا عباد بن عبد الصمد، ثنا أنس بن مالك به.

وقد وهم المصنف في نقله أن الخبر من حديث جابر.

تال الحاكم: "هذا شاهد لما تقدم؛ وإن كان عباد بن عبد الصمد ليس من شرط هذا الكتاب". وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 3) : "عباد ضعّفه البخاري وقد اعتذر الحاكم عن إيراده" قلت: عباد بن عبد الصمد أبو معمر، ضعيف جداً كما قال أبو حاتم، وقال البخاري:"منكر الحديث فيه نظر".

ص: 541

إلى غير ذلك مما لم يدل على حياته اليوم بل يدل على أنه كان حياً في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من حياته إذ ذاك حياته اليوم.

والنافون أجابوا عن هذه الأحاديث، وقالوا: إن الأخبار التي ذُكر فيها الخضر عليه السلام وحياته كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد، ومن ادّعى الصحة فعليه البيان.

ثم إن المشايخ لم يتفقوا على القول بحياته، فقد نقل الشيخ صدر الدين إسحق القونوي في كتابه (تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي) أن وجود الخضر عليه السلام في عالم المثال. وذهب عبد الرزاق الكاشي إلى أن الخضر عبارة عن البسط وإلياس عن القبض. وذهب بعضهم إلى أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر الذي كان في زمن موسى عليهما السلام، إلى غير ذلك من الأقوال المذكورة في "روح المعاني".

وفيه أيضاً: ثم اعلم بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته أي مساعدة، وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة، ولا مقتضى للعدول عن تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية -والله أعلم بصحتها- عن بعض الصالحين الأخيار. هذا ملخص ما في تفسير "روح المعاني" مما يرغم أنف لنبهاني، فتمسك بما قاله أئمة المحدّثين، فهم أعلم الناس بشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

الوجه الثامن من الوجوه الدالة على فساد قول النبهاني: أن ما نقله عن ابن حجر المكي وما وقع له مع شيخه وأبي يحيي زكريا الأنصاري وأن أبا يحيي قال لشيخ ابن حجر- وكان منكراً للأقطاب والأبدال-: هكذا يا شيخ محمد. وكرر ذلك عليه، حتى قال له الشيخ محمد: يا مولانا شيخ الإسلام آمنت بذلك وصدقت به وقد تبت. فقال: هذا هو الظن بك

إلخ-؛ لا يقوم حجة على المنكرين، إذ مدار الاستدلال على الكتاب والسنة، لا بمثل قول أبي يحيي للشيخ

ص: 542

محمد عند إنكاره هكذا يا شيخ محمد مكرراً ذلك.

ومثل هذه الخرافات يأنف عن نقلها أرباب العقول السليمة، ففي "روح المعاني"- عند الكلام على قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} 1 بعد نقل عبارة الفتوحات في النقباء من أنواع الأولياء- قال: "وقد عد الشيخ أنواعاً كثيرة، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء، ففي بعض فتاوى ابن تيمية: وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة "فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى، ولا هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله وجهه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن فيهم- يعني أهل الأبدال- أربعين رجلاً، كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً"2 ولا توجد أيضاً في كلام السلف" انتهى. غير أني رأيت في موضع آخر من (روح المعاني) عند الكلام على قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} 3: "ولهم في تعريفه عبارات شتى تقدم بعضها، وفي (الفتوحات) هو الذي تولاه الله تعالى في مقام مجاهدته الأعداء الأربعة: الهوى، والنفس، والشيطان، والدنيا، وفيها تقسيم الأولياء إلى عدة أقسام: منها الأقطاب، والأوتاد، والأبدال، والنقباء، والنجباء، وقد ورد ذلك مرفوعاً وموقوفاً من حديث عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأنس، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وعوف بن مالك، ومعاذ بن جبل، وواثلة بن الأسقع، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأم سلمة، ومن مرسل الحسن، وعطاء،

1 سورة المائدة: 12.

2 حديث موضوع؛ انظر "الضعيفة"(935، 936) .

3 سورة يونس: 62- 64.

ص: 543

وبكر بن خنيس، ومن الآثار عن التابعين ومن بعدهم ما لا يحصى، وقد ذكر ذلك الجلال السيوطي في رسالة مستقلة له، وشيد أركانه، وأنكره كما قدمنا بعضهم، والحق مع المثبتين، وأنا والحمد لله تعالى منهم، وإن كنت لم أشيد قبل أركان ذلك، والأئمة والحواريون والرجبيون والختم والملامية والفقراء وسقيط الرفرت بن ساقط العرش والأمناء والمحدثون إلى غير ذلك ".

وفي موضع آخر من تفسير (روح المعاني) عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 قال بعد كلام طويل: "إن الآية متضمنة الوعد منه عز وجل لأهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم إن ينتهوا عما ينهون عنه، ويأتمروا بما يأمرهم به؛ يُذْهِبْ عنهم- لا محالة- مبادىء ما يُسْتَهْجَن، ويحليهم أجل تحلية بما يستحسن، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم، وترتب الآثار الجميلة عليها قطعاً، ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم، من حيث أن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك، ولذا تجد عباد أهل البيت أتم حالاً من سائر العباد المشاركين لهم في العبادة الظاهرة، وأحسن أخلاقاً وأزكى نفساً، وإليهم تنتهي سلاسل الطرائق التي مبناها- كما لا يخفى على سالكيها- التخلية والتحلية، اللتان هما جناحان للطيران إلى حظائر القدس، والوقوف على أركان الأنس، حتى ذهب قوم إلى أن القطب في كل عصر لا يكون إلا منهم، خلافاً للأستاذ أبي العباس المرسي حيا ذهب- كما نقل عنه تلميذه التاج بن عطاء الله- إلى أنه قد يكون من غيرهم.

قال: ورأيت في مكتوبات الإمام الفاروقي الرباني مجدد الألف الثاني ما حاصله: أن القطبية لم تكن على سبيل الأصالة إلا لأئمة أهل البيت المشهورين، ثم إنها صارت بعدهم لغيرهم على سبيل النيابة عنهم، حتى انتهت النوبة إلى السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني، فنال مرتبة القطبية على سبيل الأصالة، فلما عرج بروحه القدسية إلى أعلى عليين نال من نال بعده تلك الرتبة على سبيل النيابة عنه،

1 سورة الأحزاب: 33.

ص: 544

فإذا جاء المهدي ينالها أصالة كما نالها غيره من الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين" انتهى.

ثم قال بعد ذلك: "وأقول إن السيد الشيخ عبد القادر قد نال ما نال من القطبية بواسطة جده عليه الصلاة والسلام على أتم وجه وأكمل حال، فقد كان رضي الله تعالى عنه من أجلّة أهل البيت حسنياً من جهة الأب حسينياً من جهة الأم، لم يصبه نقص لو أن وعسى وليت، ولا ينكر ذلك إلا زنديق أو رافضي ينكر صحبة الصديق "انتهت عبارة "روح المعاني".

وأنت تعلم مما أسلفناه إليك أن هذا الكلام ساقط عن الاعتبار عند المحققين من الحفاظ وأئمة المحدثين، إذ ليس لهم على ذلك دليل يعتمد عليه لا من الكتاب ولا من السنة النبوية الصحيحة، ولا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال، وقد تحصل من جميع ما ذكرناه أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الحق الذي اقتضاه الكتاب والسنة، وما يخالفه ساقط لا يلتفت إليه، والله ولي التوفيق.

ص: 545

[الكلام على كتاب "منهاج السنة" لشيخ الإسلام]

قال النبهاني: وها أنا أرجع إلى الكلام على (منهاج السنة) للإمام ابن تيمية فأقول: لما كان كثير من طلبة العلم في هذا الزمان- فضلاً عن العوام- غير ماهرين في علم الكلام، ومعرفة ما يخالف أو يوافق العقيدة الصحيحة من أبحاثهم الدقيقة، التي لا يهتدي لمعرفتها والتفريق بين الحق والباطل منها إلا أكابر علماء الإسلام- الذين قضوا زمناً طويلاً من أعمارهم في مباحث علم الكلام -كان من الواجب على علماء أهل السنة والجماعة من الأشعرية والماتريدية- وهم أهل المذاهب الثلاثة وبعض الحنابلة أيضاً- أن يحذروا العوام وضعاف الطلبة من مطالعة هذين الكتابين، لكثرة ما فيهما من خلط الحق بالباطل، والرد على أهل السنة والجماعة بحجج مزخرفات، ربما لا يهتدي لدفعها القاصرون من طلبة العلم فضلاً عن العوام.

ص: 545

قال: وقد تقدم في كلام الإمام السبكي أنه رد على كتابه (العقل والنقل) فرده هو لا شك من الجهات التي خالف بها أهل السنة ورد عليهم مثل الإمام الأشعري وغيره.

ثم إنه نقل عن الزبيدي ما يؤيد قوله من أن أهل السنة هم الأشاعرة ونحوهم، وعن التاج السبكي ووالده مثل ذلك، وأنه لا فرق بين الأشاعرة وبين الماتريدية إلا في مسائل.

ثم إنه نقل أيضاً عن الزبيدي أيضاً أن للسبكي شرحاً على قصيدة ابن زفيل الحنبلي التي رد فيها على الأشاعرة وأضرابهم، وهي التي يقول فيها:

إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فعليك إثم الكاذب الفتان

جهم بن صفوان وشيعته الألى

جحدوا صفات الخالق الديان

بل عطلوا منه السموات العلى

والعرش أخلوه من الرحمن

والعبد عندهم فليس بفاعل

بل فعله كتحرك الرجفان

اعلم أن هذه الأبيات من نونية ابن القيم رحمه الله تعالى، وهي المسماة (بالكافية الشافية) ولم نسمع أن أحداً سماه ابن زفيل، وكلامه يوهم أنه شخص آخر، وهكذا شأن الغلاة ديدنهم ودينهم تحريف الكلام عن مواضعه. والسبكي ليس من رجال هذه المنظومة حتى يكتب عليها شيئاً، ومن ادّعى غير ما ذكرناه فعليه البيان حتى نتكلم عليه بما يجب.

ثم نقل من شرح السبكي على هذه الأبيات ذم علم الكلام، وذم الشيخ ابن تيمية وأصحابه بسبب قولهم في المسائل المختارة للشيخ وما افتراه عليهم خصومهم. وبعد أن فرغ من عبارة السبكي التي نقلها الزبيدي، قال النبهاني: إذا علمت ذلك أيها المسلم الشافعي أو الحنفي أو المالكي أو الحنبلي الصالح الموفق تعلم أنه يجب عليك الحذر التام من كتب الإمام ابن تيمية وجماعته المتعلقة بالعقائد، لئلا تهوى في مهواة الضلال، ولا ينفعك الندم بعدم ذلك بحال من الأحوال، وإياك أن تغتر بكلام السيد نعمان أفندي الألوسي البغدادي في كتابه

ص: 546

(جلاء العينين) وتظنه أنه حنفي من أهل السنة والجماعة، فهو بهذا الكتاب قد خرج عن حنفيته وسنيته، وصار من جماعة ابن تيمية ناصراً لمذهبه مذهب الوهابية- عفا الله عنه وعنهم أجمعين- فإنهم بلا شك من جملة المسلمين وإن كانوا فيما خالفوا أهل السنة مبتدعين، وهم إنما يغرون أهل الإسلام من ضعاف الطلبة والعوام بقولهم إنهم على مذهب السلف. ثم نقل بعض العبارات عن كتاب "المنهاج" زعم أن فيها إثبات الجهة، إلى آخر هذيانه.

وحاصل كلامه الطويل السخيف العليل؛ أنه حذر طلبة العلم من مطالعة كتب ابن تيمية، ولاسيما كتاب "العقل والنقل"، و"المنهاج"، ومن كتاب "جلاء العينين"، فإن تلك الكتب مخالفة لعقائد أهل السنة، وأن مؤلف "جلاء العينين" بسبب الذب عن ابن تيمية وإبطال بهتان ابن حجر خرج عن حنفيته وسنيته، وله الفضل حيث لم يخرجه أيضاً عن حنيفيته، وأن ابن تيمية قائل بالجهة، هذا حاصل جميع هذيانه في هذا المقام، والله المستعان، وقد جعل الموافقين لابن تيمية مبتدعة، وقد كرر ذلك الكلام مراراً، وأعاده مرة بعد أخرى.

أقول في الجواب عن غلطه: إنا قد قدمنا الكلام على كتب الشيخ ابن تيمية مفصلاً، وذكرنا ما ذكرنا من تقاريظ أهل العلم عليها، وما قالوه من الثناء الذي لم يكن لغيرها، وهي الكتب التي فتح الله بها عيوناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وكانت من بعض آيات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إن كان فرد من أفراد أمته بلغ ما بلغ من العلم بحمد الله وتوفيقه، ويقال للنبهاني كما أنشدناه سابقاً:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم

ويقال له أيضاً: من أين لك علم بعلم الكلام، بل بعلم من العلوم؟ فإن كتابك هذا الذي نراه من أوضح الدلائل على جهلك لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم.

ويقال له أيضا: إن كان لك علم وفهم فلم لم تنصح نفسك وتردعها عن سلوك هذا المسلك الذي أنت متلوث به والنفس مقدمة على الغير؟

ص: 547

وما أحسن ما قيل:

يا أيها الشيخ المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

ويقال له أيضاً: لم لم تنصح- إن كان لك فهم وذوق- عن مطالعة الكتب التي تصادم الشريعة الغراء وتناقضها، ككتب الشيخ محي الدين ابن العربي وأضرابه من المتصوفة، التي تقشعر من سماعها جلود المؤمنين، قال الشيخ محي الدين عند الكلام على تفسير قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية برواية أبي زرعة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ستروا محبتهم {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} 1 استوى عندهم إنذارك وعدم إنذارك لما جعلنا عندهم (لا يؤمنون) بك ولا يأخذون عنك، إنما يأخذون عنا. (ختم الله على قلوبهم) فلا يعقلون إلا عنه. (وعلى سمعهم) فلا يسمعون إلا منه. (وعلى أبصارهم غشاوة) فلا يبصرون إلا إليه، ولا يلتفتون إليك وإلى ما عندك بما جعلناه عندهم وألقيناه إليهم (ولهم عذاب) من العذوبة (عظيم) ! انتهى.

ولكن النبهاني وأضرابه من الغلاة يذبون عن مثل هذه الكتب، ويحثون على مطالعتها، ويلمزون كتب السنة الداعية إلى توحيد الله، وهكذا شأن علماء أهل الكتاب وأحبارهم.

فقد ناقل الحافظ ابن القيم في كتابه "هداية الحيارى" عند رده على من طعن في علم الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما نصه- من كلام طويل-: "وما يدريكم معاشر المثلثة وعُبّاد الصليب وأمة اللعنة والغضب؛ بالفقه والعلم، ومسمى هذا الاسم، حيث تسلبونه أصحاب محمد الذين هم وتلاميذهم كأنبياء بني إسرائيل؟ وهل يميز بين العلماء والجهال ويعرف مقادير العلماء إلا من هو من جملتهم، ومعدود في زمرتهم؟ فأما طائفة شبه الله علماءهم بالحمير التي تحمل الأسفار، وطائفة علماؤها يقولون في الله ما لا يرضاه أمة من الأمم فيمن تعظمه وتجله، وتأخذ دينها عن كل كاذب ومفتر على الله وعلى أنبيائه، فمثلها كمثل عريان

1 سورة البقرة: 6.

ص: 548

يحارب شاكي السلاح، ومن سقف بيته زجاج وهو يزاحم أصحاب القصور بالأحجار، ولا يستكثر على من قال في الله ورسوله ما قال أن يقول في أعلم الخلق إنهم عوام.

فليهن أمة الغضب علم [المشنا] والتلموذ وما فيها من الكذب على الله وعلى كليمه موسى، وما يحدثه لهم أحبارهم وعلماء السوء منهم كل وقت، وليهنهم علوم دلتهم على أن الله ندم على خلق البشر حتى شق عليه، وبكى على الطوفان حتى رمد، وعادته الملائكة، وغير ذلك.

وليهن أمة الضلال علومهم التي فارقوا بها جميع شرائع الأنبياء، وخالفوا بها المسيح خلافاً يتحققه علماؤهم في كل أمره، وعلومهم التي قالوا بها في رب العالمين ما قالوا مما كادت السموات تنشق منه والأرض تتفطر، والجبال تنهد، لولا أن أمسكها الحكيم المصور، وعلومهم التي دلتهم على التثليث وعبادة خشبة الصليب والصور المدهونة، ودلتكم على قول عالمكم أن السيد التي جلبت طينة آدم هي التي علقت على الصلبوت، وأن الشبر الذي ذرعت به السموات هو الذي سمر على الخشبة، وقول عالمكم الآخر من لم يقل إن مريم والدة الله فهو خارج عن ولاية الله"1 انتهى ما قصدنا نقله وبقي منه كلام طويل من أراده فليرجع إليه.

سمعت أيها النبهاني ما قال إخوانك وما قيل لهم، فوازن بين كلامهم وطعنهم على أهل الحق وعلومهم وبين كلامك وقدحك في كتب السنة والدين الخالص، ووازن بين ما أجابوا به وما أجبت به، ولقد تشابهت قلوبكم، وتوافقت مثالبكم وعيوبكم، كل ذلك أيها النبهاني من جهلك الذي أنت فيه، وهو الذي أوقعك في مهواة البلاء وعجبك بنفسك، وتكبرك الذي دعاك إلى أن ضربت بسهم مع الأفاضل وأرباب التقوى، مع أنك كما قال القائل:

نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت في البيداء أبعد منزل ثم نقول: إن ما ادعاه النبهاني- تقليداً لأسلافه- أن الأشاعرة والماتريدية

1 "هداية الحيارى"(ص 459- 460- ط. دار القلم) .

ص: 549

هم أهل السنة وأن من كان على طريقة السلف- كشيخ الإسلام ابن تيمية- هم من المبتدعة كلام لا أظنه يصدر عن ذي فهم ولا معرفة، فلا بد من الكلام على تحقيق هذه المسألة وبيان المراد بالسنة والبدعة، ليتبين الحق من الباطل، ويعلم به أنه الأحق باسم المبتدع هو هذا الخصم الألد، ومن على منهجه من أسلافه الغلاة قبحهم الله تعالى وخذلهم.

اعلم أن أهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام والتوحيد، المتمسكون بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد والنحل والعبادات الباطنة والظاهرة، الذين لم يشوبوها ببدع أهل الأهواء وأهل الكلام في أبواب العلم والاعتقادات، ولم يخرجوا عنها في باب العمل والإرادات، كما عليه جهال أهل الطرائق والعبادات. فإن السنة في الأصل تقع على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سَنَّهُ أو أَمَرَ به من أصول الدين وفروعه، حتى الهَدْيَ والسمت، ثم خُصّت في بعض الإطلاقات بما كان عليه أهل السنة من إثبات الأسماء والصفات، خلافاً للجهمية المعطلة النفاة، وخُصّت بإثبات القدر ونفي الجبر خلافاً للقدرية النفاة، وللقدرية الجبرية العصاة، وتطلق أيضاً على ما كان عليه السلف الصالح في مسائل الإمامة والتفضيل، والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من إطلاق الاسم على بعض مسمياته، لأنهم يريدون بمثل هذا الإطلاق التنبيه على أن المسمى ركن أعظم وشرط أكبر، كقوله:"الحج عرفة"1 أو لأنه الوصف الفارق بينهم وبين غيرهم، ولذلك سمى العلماء كتبهم في هذه الأصول كتب السنة، ككتاب السنة للألكائي، والسنة لأبي بكر الأثرم، والسنة للخلال، والسنة لابن خزيمة، والسنة لعبد الله بن أحمد، ومنهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم.

فما قاله النبهاني إن في كتب ابن تيمية التي ذكرها حكماً على أهل السنة والجماعة بالتكفير والإشراك؛ كذب ظاهر، وبهت جلي، ما قيل ولا صدر فضلاً عن كونه عرف واشتهر، وآحاد العامة فضلاً عن الخاصة لا يخفى عليهم أن الشيخ

1 حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 309، 335) وأبو داود (1949) والنسائي (5/ 256) والترمذي (889) وابن ماجه (3015) وغيرهم.

ص: 550

وأصحابه كانوا من أكابر أهل السنة والجماعة، وأنهم تصدوا للرد على المبطلين والمشركين، من اليهود والنصارى، والصابئة والفلاسفة، وعباد القبور والمشائخ، ولم يكفروا غير هذه الطوائف ومن ضاهاهم، كغلاة الجهمية، والقدرية، والرافضة، هذا يعرفه كثير من العوام.

فما قاله النبهاني من أن الشيخ ابن تيمية رد في كتابه "منهاج السنة" وكتاب "العقل والنقل" على أهل السنة لا أصل له، بل إنه رد على الغلاة من عبدة القبور. وتسمية هؤلاء أهل سنة وجماعة جهل عظيم بحدود ما أنزل الله على رسوله، وقلب للمسميات الشرعية وما يراد من الإسلام والإيمان، والشرك والكفر، قال تعالى:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} 1.

والنبهاني وأمثاله أجدر من أولئك بالجهل وعدم العلم بالحدود لغربة الإسلام وبعد العهد بآثار النبوة، كما أفاده العلامة الشيخ عبد اللطيف في منهاجه.

وظن النبهاني أن دعاء غير الله والعمل بغير الشريعة الأحمدية والقول بالحلول والاتحاد؛ لا يخرجه عن جادة الحق مع الإتيان بالشهادتين، مع أنه لا يشترط في ذلك أن يكفر المكلف بجميع ما جاء به الرسول، بل يكفي في الكفر والردة- والعياذ بالله تعالى- أن يأتي بما يوجب ذلك ولو في بعض الأصول، وهذا ذكره الفقهاء من كل مذهب، وهو من عجيب جهل النبهاني وأمثاله من الغلاة، لأنه يعرفه المبتدئون في الفقه والعلم، ومن أراد الوقوف على جزئيات وفروع في الكفر والردة فعليه بما صنف في ذلك، كالأعلام لابن حجر، وما عقده الفقهاء من أهل كل مذهب في باب حكم المرتد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرسالة السنية" لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قال: "فإذا كان عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه

1 سورة التوبة: 97.

ص: 551

ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عباداته العظيمة حتى أمر صلى الله عليه وسلم بقتاله؛ فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام، وذلك بأسباب؛ منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1 الآية. وعليّ رضي الله عنه حرَّق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدَّت لهم عند باب كندة فقُذِفُوا فيها، واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر الصحابة، وقصتهم معروفة عند العلماء.

وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في عليّ بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية- مثل أن يقول: يا سيدي فلان! انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أجرني أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال- فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا يجعل معه إلهاً آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى- مثل المسيح والملائكة والأصنام- لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، وتنزل المطر، وتنبت النبات، إنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم، ويقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3 فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 4.

قال طائفة من السلف: "كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فأنزل

1 سورة النساء: 171.

2 سورة الزمر: 3.

3 سورة يونس: 18.

4 سورة الإسراء: 56- 57.

ص: 552

الله هذه الآية، ثم ذكر آيات في المعنى". انتهى.

وقال شيخ الإسلام أيضاً في "الفرقان بين الحق والباطل": "وأهل الضلال الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم كما قال مجاهد: أهل البدع والشبهات يتمسكون بما هو بدعة في الشرع ومشتبه في العقل. وكما قال فيهم الإمام أحمد، قال: هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يحتجون بالمتشابه من الكلام، ويضلون الناس بما يشبهون عليهم، والموافقة من أهل الضلال تجعل لها ديناً وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث فإن وافقه احتجوا به اعتقاداً لا اعتماداً، وإن خالفه: فتارة يحرفون الكلام عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله، وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه ويقولون نفوض معناه إلى الله، وهذا فعل عامتهم، وعمدة الطائفتين في الباطن غير ما جاء به الرسول، يجعلون أقوالهم البدعية محكمة يجب اتباعها واعتقاد موجبها، والمخالف إما كافر وإما جاهل لا يعرف هذا الباب، وليس له علم بالمعقول ولا بالأصول، ويجعلون كلام الله ورسوله الذي يخالفها من المتشابه الذي لا يعرف معناه إلا الله، أو لا يعرف معناه إلا الراسخون في العلم، والراسخون عندهم من كان موافقاً لهم على ذلك القول، وهؤلاء أضل ممن تمسك بما تشابه عليه من آيات الكتاب وترك المحكم، كالنصارى والخوارج وغيرهم، إذ كان هؤلاء أخذوا بالمتشابه من كلام الله وجعلوه محكماً وجعلوا المحكم متشابها، وأما أولئك -كنفات. الصفات من الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم كالفلاسفة- فيجعلون ما ابتدعوه هم برأيهم هو المحكم الذي يجب اتباعه، وإن لم يكن معهم من الأنبياء والكتاب والسنة ما يوافقه، ويجعلون ما جاءت في الأنبياء وإن كان صريحاً قد يعلم معناه بالضرورة ويجعلونه من المتشابه، ولهذا كان هؤلاء أعظم مخالفة للأنبياء من جميع أهل البدع، حتى قال يوسف بن أسباط، وعبد الله بن المبارك، وغيرهما كطائفة من أصحاب أحمد: إن الجهمية نفاة الصفات خارجون عن الثنتين والسبعين فرقة.

قالوا: وأصولها أربعة: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدرية، وقد

ص: 553

ذكرنا في غير هذا الموضع أن قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 1 في المتشابهات قولان: أحدهما أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس، والثاني: وهو الصحيح- أن التشابه أمر نسبي فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم، كما قال:{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} 2 وهذا كقوله: "الحلال بيّن والحرام بيّن، وبين ذلك أمور لا يعلمهن كثير من الناس"3 وكذلك قولهم: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} 4.

وقد صنف أحمد كتاباً في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله، وفسر تلك الآيات كلها، وذمهم على أنهم تأولوا ذلك المتشابه على غير تأويله، وعامتها آيات معروفة قد تكلم العلماء في تفسيرها، مثل الآيات التي سأل عنها نافع بن الأزرق لابن عباس، قال الحسن البصري: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت وماذا عنى بها، ومن قال من السلف إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله فقد أصاب أيضاً، ومراده بالتأويل ما استأثر الله بعلمه، مثل وقت الساعة، ومجيء أشراطها، ومثل كيفية نفسه، وما أعده في الجنة لأوليائه، وكان من أسباب نزول الآية احتجاج النصارى بما تشابه عليهم، كقوله:(أنا) و (نحن) وهذا يعرف العلماء أن المراد به الواحد المعظم الذي له أعوان، لم يرد به أن الآلهة ثلاثة، فتأويل هذا- الذي هو تفسيره- يعلمه الراسخون، ويفرقون بين ما قيل فيه (أنا) وما قيل فيه (إنا) بدخول الملائكة فيما يرسلهم فيه إذ كانوا رسله، وأما كونه هو المعبود الإله فهو له وحده، ولهذا لا يقول فإيانا فاعبدوا، ولا إيانا فارهبوا، بل متى جاء الأمر بالعبادة والتقوى والخشية والتوكل ذكر نفسه وحده باسمه الخاص، وإذا ذكر الأفعال التي يرسل فيها

1 سورة آل عمران: 7.

2 سورة هود: 1.

3 أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) .

4 سورة البقرة: 70.

ص: 554

الملائكة قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} 1 {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 2 {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} 3 ونحو ذلك مع أن تأويل هذا وهو حقيقة ما دل عليه من الملائكة وصفاتهم وكيفية إرسال الرب لهم لا يعلمه إلا الله، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا؛ أن الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه، ويعقل ويعرف برهانه ودليله، إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة.

فيقال لأصحاب هذه الألفاظ: يحتمل كذا وكذا ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبِلَ وإن أرادوا بها ما يخالفه رد، وهذا مثل لفظ المركب، والجسم، والمتحيز، والجوهر، والجهة، والعرض، ونحو ذلك، ولفظ الحيز ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ لا توجد في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة أيضاً، بل هم يختصمون بالتعبير بها على معان لم يعبر غيرهم عن تلك المعاني بهذه الألفاظ، فيفسر تلك المعاني بعبارات أخرى، ويبطل ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وعرف وجه الكلام على أدلتهم فإنها ملفقة من مقدمات مشركة يأخذون اللفظ المشترك في إحدى المقدمتين بمعنى، وفي المقدمة الأخرى بمعنى آخر، فهو في صورة اللفظ دليل وفي المعنى ليس بدليل، كمن يقول سهيل بعيد من الثريا لا يجوز أن يقترن بها ولا يتزوجها، والذي قال:

أيها المنكح الثريا سهيلاً

عمرك الله كيف يلتقيان

1 سورة الفتح: 1.

2 سورة القيامة: 18.

3 سورة القصص: 3.

ص: 555

أراد امرأة اسمها الثريا ورجلاً اسمه سهيل، ثم قال: عمرك الله.. إلخ.

هي شامية إذا ما استقلت

وسهيل إذا استقل يماني

وهذا لفظ مشترك، فجعل تعجبه وإنكاره مع الظاهر من جهة اللفظ المشترك، وقد بسط الكلام على أدلتهم المفصلة في غير موضع.

والأصل الذي بنى عليه نفات الصفات وعطلوا ما عطلوا حتى صار منتهاهم إلى قول فرعون الذي جحد الخالق وكذب رسوله موسى في أن الله كلَّمَةُ؛ هو استدلالهم على حدوث العالم بأن الأجسام محدثة، واستدلالهم على ذلك بأنها لا تخلو من الحوادث ولم تسبقها، وما لم يخل من الحوادث ولم يسبقها فهو محدث، وهذا أصل قول الجهمية الذين أطبق السلف والأئمة على ذمهم، وأصل قول المتكلمين الذين أطبقوا على ذمهم.

وقد صنف الناس مصنفات متعددة فيها أقوال السلف والأئمة في ذم الجهمية وفي ذم هؤلاء المتكلمين، والسلف لم يذموا جنس الكلام فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به رسوله، والاستدلال بما بينه الله ورسوله، بل ولا ذموا كلاماً هو حق بل ذموا الكلام الباطل وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضاً، وهو الباطل.

فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل، وهو المخالف للشرع والعقل، ولكن كثيراً من الناس خفي عليه بطلان هذا الكلام، فمنهم من اعتقده موافقاً للشرع والعقل حتى اعتقد أن إبراهيم الخليل استدل به، ومن هؤلاء من يجعله أصل الدين ولا يحصل الإيمان أو لا يتم إلا به، ولكن من عرف ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة علم بالاضطرار أن الرسول والصحابة لم يكونوا يسلكون هذا المسلك، فصار من عرف ذلك يعرف أن هذا بدعة، وكثير منهم لا يعرف أنه فاسد، بل يظن مع ذلك أنه صحيح من جهة العقل لكنه طويل أو بعيد المعرفة أو هو طريق مخيفة مخطر يخاف على سالكه، فصاروا يعيبونه كما يعاب الطريق الطويل والطريق المخيف، مع اعتقادهم أنه يوصل إلى المعرفة وأنه صحيح في

ص: 556

نفسه، وأما الحذاق العارفون تحقيقه فعلموا أنه باطل عقلاً وشرعاً، وأنه ليس بطريق موصل إلى المعرفة، بل إنما يوصل لمن اعتقد صحته إلى الجهل والضلال، ومن تبين له تناقضه أوصله إلى الحيرة والشك ولهذا صار حذاق سالكيه ينتهون إلى الحيرة والشك، إذ كان حقيقته أن كل موجود فهو حادث مسبوق بالعدم، وليس في الوجود قديم، وهذا مكابرة، فإن الوجود مشهود، وهو إما حادث وإما قديم، والحادث لا بد له من قديم، فثبت وجود القديم على التقديرين.

وكذلك ما ابتدعه في هذه الطريق ابن سينا وأتباعه من الاستدلال بالممكن على الواجب أبطل من ذلك، كما قد بسط ذلك في غير هذا الموضع.

وحقيقته؛ أن كل موجود فهو ممكن، ليس في الوجود موجود بنفسه، مع أنهم جعلوا هذا طريقاً لإثبات الواجب بنفسه، كما يجعل أولئك هذا طريقاً لإثبات القديم، وكلاهما يناقض ثبوت القديم والواجب، فليس في واحد منهما إثبات قديم ولا واجب بنفسه، مع أن ثبوت موجود قديم وواجب بنفسه معلوم بالضرورة، ولهذا صار حذاق هؤلاء إلى أن الموجود الواجب والقديم هو العالم بنفسه، وقالوا هو الله، وأنكروا أن لا يكون للعالم رب مباين للعالم، إذ كان ثبوت القديم الواجب بنفسه لا بد منه على كل قول، وفرعون ونحوه ممن أنكر الصانع ما كان ينكر هذا الوجود المشهود.

فلما كان حقيقة قول أولئك يستلزم أنه ليس موجود قديم ولا واجب لكنهم لا يعرفون أن هذا يلزمهم، بل يظنون أنهم أقاموا الدليل على إثبات القديم الواجب بنفسه، ولكن وصفوه بصفات الممتنع، فقالوا لا داخل العالم ولا خارجه، ولا هو صفة ولا موصوف، ولا يشار إليه ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تستلزم عدمه، وكان هذا مما تنفر عنه العقول والفطر، ويعرف أن هذا صفة المعدوم الممتنع لا صفة الموجود، فدليلهم في نفس الأمر يستلزم أنه ما ثم قديم ولا واجب، ولكن ظنوا أنهم أثبتوا القديم والواجب، وهذا الذي أثبتوه ممتنع فما أثبتوا قديماً ولا واجباً.

ص: 557

فجاء آخرون من جهتهم فرأوا هذا مكابرة، وأنه لا بد من إثبات القديم والواجب، فقالوا هو هذا العالم، فكان قدماء الجهمية يقولون إنه بذاته في كل مكان، وهؤلاء قالوا هو غير الموجودات، والموجود القديم الواجب هو نفس الوجود المحدث الممكن، والحلول هو الذي أظهرته الجهمية للناس حتى عرفه السلف والأئمة وردوه.

وأما حقيقة قولهم فهو النفي؛ أن لا داخل العالم ولا خارجه، ولكن هذا لم يسمعه الأئمة ولم يعرفوا أنه قولهم إلا من باطنهم، ولهذا كان الأئمة يحكون عن الجهمية أنه في كل مكان، ويحكون عنهم وصفه بالصفات السلبية، وشاع عند الناس أن الجهمية يصفونه بالسلوب حتى قال أبو تمام:

جهمية الأوصاف إلا أنها

قد حليت بمحاسن الأشياء

وهم لم يقصدوا نفي القديم والواجب، فإن هذا لا يقصده أحد من العقلاء لا مسلم ولا كافر، إذ كان خلاف ما يعلمه كل واحد ببديهة عقله، فإنه إذا قدر أن جميع الموجودات حادثة عن عدم لزم أن كل الموجودات حدثت بأنفسها، ومن المعلوم ببداهة العقول أن الحادث لا يحدث بنفسه، ولهذا قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 1 وقد قيل: خلقوا من غير شيء من غير رب خلقهم وقيل من غير مادة، وقيل من غير عاقبة وجزاء. والأول مراد قطعاً، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلا بد له من خالق.

ثم ذكر الشيخ رحمه الله معرفة الفطر، ثم ذكر قول الأشعرية، والهشامية، والكرامية، وغيرهم، ثم أبطله بأوضح بيان وأجلى برهان.

والمقصود، أن شيخ الإسلام لم يَرُدّ إلا على من خالف الشريعة وصادمها بقواعده، ولم يرد على أهل السنة وهم الذين كانوا على الصراط المستقيم ولم يخالفوا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، بل ذب عنهم وانتصر

1 سورة الطور: 35.

ص: 558

لأقوالهم، غير أن النبهاني ظن أن ما هو عليه من الزيغ والإلحاد هو مذهب أهل السنة، ى قد سبق فيما نقلناه من مجالس الشيخ الثلاثة ما ينفع في المقام، بل كتبه طافحة بتفصيل ما قررناه فراجع أيّ كتاب شئت منها.

وبما قررناه علم أيضاً أن ما نقله الزبيدي من كلام السبكي عند كلامه على أبيات ابن زفيل ساقط عن درجة الاعتبار، لأنه من خصوم شيخ الإسلام وحسدته، عدا ما كان عليه من الغلو والجهل والافتراء على أهل الحق، والظاهر أنه ليس له من الكلام على قصيدة العلامة ابن زفيل سوى ما نقله الزبيدي إن صح نقله، وإلا لذكره ولده التاج فيما عد من مؤلفاته في "الطبقات" ولم يذكره مع أنه أتى بجميع عُجَرِهِ وبُجَرِهِ.

وأما ما نسب النبهاني إلى الشيخ من القول بالجهة فهو من افتراءات السبكي وابن حجر المكي وغيرهما من أعدائه وخصومه، والنبهاني قلدهم في هذا القول تقليداً أعمى كما هو ديدنه وعادته، وكتب الشيخ طافحة من تنزيه الله تعالى عن الجهة والجسمية، ومدار كلامه على ما ثبت بالكتاب والسنة وأقوال السلف، وأنشد في كتاب الفرقان:

أيها المقتدي لتطلب علماً

كل علم عبد لعلم الرسول

تطلب الفرع كي تصحح حكماً

ثم أغفلت أصل أصل الأصول

ثم قال: والله يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

قال: وهذه الأصول ينبني عليها ما في القلوب ويتفرع عليها، وقد ضرب الله مثل الكلمة الطيبة التي في قلوب المؤمنين، ومثل الكلمة الخبيثة التي في قلوب الكافرين.

ثم إنه أطنب الكلام في شرح الكلمتين، وأتى بما تقر به من المؤمن العين، كما هي عادته رحمة الله عليه، وسنتكلم إن شاء الله على العلو والاستواء عند

ص: 559

إبطال أقوال النبهاني التي هذى بها في هذا الباب، ويتميز بحوله تعالى القشر من اللباب.

ص: 560

[الكلام على كتاب "جلاء العينين"]

وأما ما تكلم به النبهاني من الهذيان في شأن (جلاء العينين) ومصنفه، وتحذير المسلمين من مطالعته، وإخراج مصنفه عن حنفيته بل سنيته بسبب الذب عن ابن تيمية وانتصاره له؛ فهو كلام من لا ينبغي أن يخاطب ولا يوجه إليه مقال، فإن الله تعالى قال:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1 وقال عز من قائل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. ومصنف "جلاء العينين" لم يذكر فيه إلا أقوال الفريقين وبسط فيه دلائل الطرفين، ودعا إلى الله وتوحيده، وبرهن على وجوب إفراده سبحانه بالعبادة، وذب عن خلص عباد الله، وحكى ما كان وأظهر ما زوره الخصم من البهتان، ومثل (جلاء العينين) ينبغي لكل مسلم أن يطالعه ويستفيد منه حقيقة دينه، ثم يدعو لمؤلفه بالمغفرة والرحمة والرضوان، وأن يجزيه عن خلص عباده خير الجزاء.

ثم إنا قد ذكرنا حقيقة السنة والبدعة، وما ذكر فيهما أهل العلم من البيان الشافي والكلام الوافي، فأي مسألة ذكرت في "جلاء العينين" تخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وتستوجب التبديع، نعم ذكر فيه ضلالات أهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد، وهي ليست بخفية على أحد من الناس، وكتب العلم طافحة بذكر ذلك الهذيان ورد هذا الوسواس، فقد ألف السعد التفتازاني كتاباً رد فيه على الفصوص، وكذا العلامة الملا علي القاري الحنفي، والفهامة الشيخ محمد البخاري الحنفي وغيرهم.

1 سورة الزمر: 18.

2 سورة آل عمران: 104.

ص: 560

وذكر أيضاً بدع القبوريين وأعمالهم الشركيه، وأظهر افتراء ابن حجر وخيانته في النقل واتباعه لهواه وخصومته للحق، وما كان من السبكي من العدوان والقول على الله بغير علم، وأي مذهب من مذاهب المسلمين يسوغ ما كان ابن حجر والسبكي ونحوهما من التجاوز والقدح في علماء السنة النبوية وحفّاظ الحديث بغير حق.

أيرضى الإمام الشافعي وأكابر أصحابه والمنصفون من أتباعه بما كان من هؤلاء الغلاة؟ أم هل يسوغ الإمام أبو حنيفة أن يتلاعب أحد بالدين ويعرض عما ورد فيه الكتاب والسنة ويسلم لابن حجر وأضرابه كل ما هذى به؟ أم هل يبيح إمام دار الهجرة أن تباح أعراض ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم وحفّاظ حديثه أن يمزقها ابن حجر بأظفاره وأنيابه؟! وهكذا جميع أئمة الدين، وأكابر المجتهدين، وقد أوصى كل منهم باتباع الحق والإعراض عن الهوى ومجانبة التعصب، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

ثم يقال للنبهاني: الخروج عن المذهب متى يكون؟ والتقليد بماذا كان؛ هل في الفروع والأصول معاً أم في الفروع لا في الأصول أم بالعكس؟ ولا شك أن النبهاني جاهل بكل ذلك لا يفرق بين الأصول والفروع، بل لا يميز بين الكوع والكرسوع.

وأهل العلم ذكروا أن التقليد هو أخذ قول الغير من غير معرفة دليله من حيث إفادته الحكم إن لم يتمكن من استفراغ الوسع لتحصيل ظن الحكم، وإلا فيحرم عليه كما يحرم التقليد في العقائد، وقد رأيت كلاماً مفيداً لبعض أكابر الشافعية في بحث التقليد نذكره تتميماً للفائدة، قال: "ثم إني لم أزل متشبثاً بأذيال هذا الإمام، متمسكاً بعرى أقوال ذياك الهمام، مستغرقاً النهار والليل في استكشاف دقيق كلامه، مستنهضاً الرجل والخيل لارتشاف رحيق مدامه، لم أعرج على غير حماه، ولم أعرج لسوى سماه.

أبعد سليمى مطلق ومرام

وغير هواها لوعة وغرام

ص: 561

وكذا شأني مع أصحابه الكرام، وحالي مع أتباعه الفخام، لا ألوي عناني إلا على أطلالهم، ولا أسترشد بغير أقوالهم.

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

لا أميل إلى تقليد أحد من الأئمة، مع علمي بأن اختلافهم في الفروع رحمة، بل ديدني رفاقهم أنجدوا أم اتهموا، وديني وفاقهم أيمنوا أم أشأموا، إلى أن خاصمني مخاصم الإنصاف فخصمني، وعارضني معارض الاعتساف فأفحمني، وتبين لي بمخالطة الأنام، أن كثيراً من العقود لا تصح على مذهب الإمام، وأن تصحيحها كالمحال، وأن ليس للشافعي في ذلك مجال، فلم أر بدأ في هذا الزمان من تقليد إمام الأئمة أبي حنيفة النعمان، فقلدته في جميع معاملاتي، ولولا ما في قلبي للشافعي لاتبعته في سائر دياناتي.

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزل

ثم قال: فها أنا ذاك شافعي في عباداتي، حنفي في سائر معاملاتي، وهكذا سائر علماء الزمان في المعاملات على مذهب النعمان، قد طووا سنن الشافعي، ورفعوا أذكار النووي والرافعي، فلا نرى جاهلاً يستفتى، ولا عالماً في هاتيك المسائل يفتي.

ما في الصحاب أخو وجد نطارحه

حديث نجد ولا خلاً نجاريه

ويقال للنبهاني إذا كان الرجل من أتباع الإمام الشافعي قد قلد غيره في كثير من المسائل لا يخرجه ذلك عن تقليد إمامه فكيف حكم على من لم يتحقق لديه مخالفة إمامه ولا في مسألة واحدة بالخروج عن تقليده؛ بل كم رأينا من أصحاب الأئمة من خالفه في مسائل كثيرة ولم يقل أحد بخروجهم في ذلك عن التقليد أفيقال إن الإمام أبا يوسف بسبب مخالفته لإمامه في مسائل كثيرة خرج عن كونه حنفياً، وكذلك محمد، وكذلك زفر، وهكذا أصحاب كل إمام، فكيف يحكم النبهاني بهذا الحكم الفاسد، ويقول هذا القول الكاسد؟!

ص: 562

وللشيخ أحمد الطيبي منظومة فيما يحتاج الشافعي فيه إلى تقليد الإمام أبي حنيفة، وهي هذه بعد البسملة:

الحمد لله الذي ما جعلا

من حرج في الدين لكن سهلا

لهذه الأمة فضلاً وكرم

سبيل رشدها وأسبغ النعم

ثم صلاة وسلام سرمدى

منه على خير الأنام أحمد

نبينا الذي به نلنا الهدى

وآله وكل من به اهتدى

وبعد فاعلم أن من قد قلدا

من الأنام عالماً مجتهدا

فجائز له بأن يقلدا

آخر إلا أن يكون اعتقدا

بأن من قلده في الأول

أعلم من ثانيه فالمنع جلي

فإذ عرفت الشرط واحتجت إلى

تقليد غير الشافعي فافعلا

كأن تقلد الإمام الأعظما

أبا حنيفة الزكي المقدما

في البيع والشرا بلا إيجاب

ولا قبول منك في الخطاب

بل بالمعاطاة إذا ما كثرا

أوقل ما به المبيع والشرا

وفي النجاسات التي البليه

عمت بها ما لم تكن كلبيه

من ذلك الفراء في الأثواب

وفي القباقيب وفي النشاب

وهو الفرا المعمول من غير السمك

أما الذي منه فليس فيه شك

كذا الفرا من نحو قط ونمر

وكل مأكول ولم يكن نحر

كذا الرماد من نجاسة حصل

في مائع أو ما قليل أو محل

أو شربة مع طينها قد عجنا

أو طين أرض أو جدار أو لنا

والعفو عن نجاسة قد كثفت

ووزنها الدرهم حين وزنت

كذاك عن رفيقة وبلغت

مقدار بسط الكف لما بسطت

كذاك في نقل زكاة الواجد

للمستحق ولشخص واحد

يدفعها ولو صبياً إن قبض

إن بلغ التمييز ذاك المفترض

ودفعنا من ذهب عن فضة

وعكسه عند أبي حنيفة

يكفي كذاك كلما ينتفع

به الفقير كثياب تدفع

ص: 563

وقل زكاة الفطر مثل المنال

فقس به في سائر الأحوال

فتدفع القيمة عنها إن تشا

أين أردت أو سواها كنشا

كذاك في الأنثى إذا ما زوجت

لنفسها أو غيرها إذ وكلت

كذاك في التأجيل للصداق

إلى الممات أو إلى الطلاق

وأن ما يؤخذ من أموال

بقصد تعزير من الحلال

والقول في تعلق الحرام

بذمة الجاني من الأنام

لا يتعدى لسواها أصلاً

قد رد حيث لم يلاق جهلاً

نعم إذا غير من قد عصبا

مغصوبه يملكه وإن أبى

لكنه يحرم الانتفاع به

حتى يؤدي للضمان فانتبه

ونية الصلاة حيث وجدت

ولم تكن من المصلي اقترنت

بلفظة التكبير للإحرام

فهي صحيحة لدى الإمام

فمن يقلده به لا يعمل

إلا بتطهير لديه يقبل

وسعينا بين الصفا والمروة

في حجنا وهكذا في العمرة

ما عده فرضاً ولكن واجبا

فمن به أخل لن يطالبا

إلا بفدية ونسكه يصح

وتلك شاة فادر فهو متضح

ولم يقل شرط الطواف الطهر

فإن يضق بنفساء الأمر

أو حائض وهجمت وطافت

فهو صحيح وفدت وتابت

فإن يكن حجاً فدت ببدنه

أو اعتماداً فبشاة بينه

وإن تطلق ذات حيض وانقطع

ما لم تحض ثم بلا التباس

بأشهر ثلاثة تعتد

كذاك قال الشافعي الفرد

كذا أبو حنيفة وقالا

في ذاك مالك وأحمد لا

وإنما سبيلها إذا مضت

تسع شهور بعد ما قد طلبت

تعتد بالثلاثة الأشهر من

بعد وسن اليأس عندنا ابن

بانه اثنان وستون سنة

على الصحيح وحكى من بينه

عند الإمام الأعظم النعمان

خمس وخمسون احتفظ بياني

ص: 564

وقس بما حوته ذي الصحيفة

مقلدا غير أبي حنيفة

فإن تكن قلدت في الكلبية

مالكاً افعل ما مضى في النية

ففي الوضوء امسح جميع الرأس

لكي تتمه بلا التباس

والحمد لله الذي ما عسرا

على عباده ولكن يسرا

والكلام في هذا الباب طويل، وكم أفرده بالتأليف فاضل جليل، وليس هذا مقام التفصيل.

ثم نعود إلى النبهاني ونقول له: إن كثيراً من المعتزلة قلّدوا الإمام أبا حنيفة وهم- مع اعتقادهم الفاسد- لم يقل أحد بخروجهم عن مذهب أبي حنيفة، وهكذا في اتباع الشافعي وغيره من كان على عقيدة الاعتزال، حتى أن عد السبكي في "طبقاته" جماعة واتهم الماوردي أيضاً بذلك، وكثير من الكرامية والمرجئة كانوا أتباع الإمام أبي حنيفة، وكثير من المجسمة كانوا أتباع الشافعي، وقد سبق ذكر شيء من ذلك في المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام، كل هؤلاء على سوء اعتقادهم لم يخرجوا عن مذهب من قلدوه، فكيف ساغ للنبهاني أن يخرج عن الحنفية والسنة مصنف (جلاء العينين) وذكر العلة في ذلك وقال بسبب انتصاره لابن تيمية والذب عنه وتبريته عما نسب إليه.

فلينظر المنصفون إلى حال هذا الرجل وغلوه وجهله وضلاله واتباعه لهواه وعجبه بنفسه، فكيف يسوغ أن يولى الحكم على بشر ويكون بيده زمام بعض الأمور؟

ما أنت بالحكم الترضي حكومته

ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

اللهم إنا نشكو إليك ما أصبح اليوم عليه العالم الإسلامي من البلاء المبين، وتوسيد الأمور إلى غير أهلها واستفتاء من غوى وضل عن سبيلك، وحيث أن هذا المبطل قد أفرد فصلاً من كتابه في الكلام على (جلاء العينين) ومصنفه أخرنا تمام البحث إلى أن نتكلم على ذلك الفصل إن شاء الله تعالى

قال النبهاني بعد كلام له على الجهة وتكفير القائل بها: ولما كانت كتبه-

ص: 565

يعني ابن تيمية- قد طبعت ونشرت وكان فيها مسائل في العقائد مخالفة لعقائد أهل السنة والجماعة من الأشعرية والماتريدية، كان من اللازم على أكابر العلماء في هذا العصر أن يتصدوا لبيان تلك المسائل التي وقع فيها مخالفة أهل السنة، والتنبيه عليها ليحذرها الناس خوفاً عليهم من تشويش عقائدهم، ولما كان من أهم تلك اله سائل القول باعتقاد الجهة وهو كما ترى- وإن تستر بعض الحنابلة بنفيه عنه وعدم اعتقاده إياه- فهو مصرح باعتقاده. ثم قال: فقد رأيت أن أجمع رسالة أنقل فيها أقوال أكابر علماء المذاهب في استحالة الجهة على الله، قال: فجمعتها على هذا الوجه وسميتها (رفع الاشتباه في استحالة الجهة على الله) ثم ذكر الرسالة بحذافيرها وركة عباراتها، وزعم أن ما فيها اعتقاد جمهور علماء الأمة وأوليائها وأتباع المذاهب الأربعة وجميع الصوفية، وهم صفوة الصفوة من هذه الأمة، وخلاصة الخلاصة من أهل الملة، وخاصة الخاصة من المتبعين للكتاب والسنة، قال: فقد اتفق جمهورهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم في جميع الأعصار والأقطار، وفي كل القرى والبوادي والأمصار: على أن الله تعالى منزه عن الجهات، ونقل بزعمه ما يؤيد كلامه عن الغزالي والسيد مرتضى الزبيدي والفخر الرازي وشمس الدين محمد بن اللبان الشافعي واليافعي وابن حجر المكي وأمثال هؤلاء، ثم ختم رسالته بقصيدة زعم أنه قارض بها القصيدتين في الرد على أبيات السبكي، هذا حاصل ما تكلم به في هذا الباب وأتى بما قدر عليه.

أقول في الجواب عن كلام النبهاني- هذا ومنه سبحانه التوفيق-: إن مسألة العلو والاستواء والنزول من غوامض المسائل، والنزاع فيها قديماً وحديثاً من المشهور بين العلماء، وقد ألف فيها كتب مفصلة وفرغ أهل العلم منها نفياً وإثباتاً، ومن المعلوم لدى كل منصف أن النبهاني ليس من رجال هذا الميدان، ولا ممن يعد في زمرة ذوي العرفان، ولا ممن له نصيب في فن من الفنون، ولا ممن يلتفت إليه في باب الجرح والتعديل ولا تنظر إليه العيون، بل هو الحريّ بقول القائل:

أقول لمحرز لما التقينا

تنكب لا يقطرك الزحام

ص: 566

وقد رأيت في طبقات ابن السبكي رسالة أخرى أشبه شيء بهذيان النبهاني، نسبها ابن السبكي للشيخ شهاب الدين أحمد بن يحيي بن إسماعيل الكلابي الحلبي، وحيث كانت في الرد على ابن تيمية أدرجها ابن السبكي في ترجمة مؤلفها بتمامها ظناً منه أنها تروي غليله وتشفي عليله، وما دراها أنها سراب يحسبه الظمآن أعذب شراب، وهي نحو اثنين وثلاثين صحيفة قد اشتملت على كل سخيفة.

وبناء على تعرض هؤلاء الغلاة لهذه المسألة وجب التصدي لرد إفكهم ورفع شركهم ببيان ما يعارضهم من النصوص، وما يناقضهم من البناء المرصوص، فنقول: إن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في هذا الباب مما لا يحصيها أولو الألباب، منها قوله تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 1 وفي تفسير "روح المعاني" بعد أن ذكر كلام المؤولين: أن الداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة، والله تعالى منزه عنها، لأنها محدثة بإحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود، ويلزم أيضاً من كونه سبحانه وتعالى في جهة مفاسد لا تخفى، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات الفوقية لله تعالى كما نص عليه الإمام الطحاوي وغيره، واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل، وقد روى الإمام أحمد في حديث الأوعال2 عن العباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق ذلك كله". وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي استشفع بالله تعالى عليه:"ويحك أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته - وقال بأصابعه مثل القبة- وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب"3. ومن حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة: "لقد حكمت

1 سورة الأنعام: 18.

2 تقدم أنه حديث ضعيف.

3 أخرجه أبو داود (4726) وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود"(1017) .

ص: 567

فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات"1. وفي حديث آخر قال: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا إليه رؤوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 2. فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه"3.

وأنشد عبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبياته التي عرض بها عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته:

شهدتُ بأن وعدَ الله حقٌّ

وأن النارَ مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد

ملائكة الإله مسومينا

فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال وضحك منه4.

وكذا أنشد حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله:

شهدت بإذن الله أن محمداً

رسول الذي فوق السموات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما

له عمل من ربه متقبل

وأن الذي عادى اليهود ابن مريم

رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم

يقوم بذات الله فيهم ويعدل

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا أشهد"5.

1 أخرجه البخاري (3043) ومسلم (1768) .

2 سورة يس: 58.

3 أخرجه ابن ماجه (184) وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه"(33) .

4 القصة ضعيفة لا تثبت، فصّل الكلام عليها العلامة المحقق مشهور بن- حسن آل سلمان- وفقه الله- في الجزء الثاني من "قصص لا تثبت"(ص 21- وما بعدها) .

5 أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(8/ 95/ 6068) وابن قدامة في "صفة العلو"(رقم: 37، 68) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(4/ 129- ط. دار الفكر) والذهبي في "العرش"(2/ 58- 59/ 53) وفي "العلو"(1/ رقم: 69، 73) وذكره في "السير"(2/ 518- 519) وذكره المزي في "تهذيب الكمال"(6/21) وابن القيم في "اجتماع الجيوش"(ص 117، 307، ط. الرشد) وابن أبي العز في "شرح الطحاوية"(ص 282- ط. المكتب الإسلامي) والهيثمي في "مجمع الزوائد"(1/24) وقال: "رواه أبو يعلى، وهو مرسل".

وقال الذهبي في "العرش،: "وأخبرنا بإسناد صحح ثابت..، وقال في "العلو":"مرسل".

قلت: الإسناد إلى حبيب بن أبي ثابت صحيح؛ لكن حبيباً لم يدرك أحداً من الصحابة، وهو كان يدلس. فالإسناد مرسل.

وقال العلامة الألباني في تحقيقه على "شرح الطحاوية": "ضعيف، رواه ابن سعد في "الطبقات" بسند ضعيف ومنقطع".

ص: 568

وعن ابن عباس في قوله تعالى- حكاية عن إبليس-: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} 1 أنه قال: لم يستطع أن يقول: "ومن فوقهم" لأنه قد علم أن الله تعالى من فوقهم2.

والآيات والأخبار التي فيها التصريح بما يدل على الفوقية- كقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 3 {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 4 وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 5 و {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 6. وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه

1 سورة الأعراف: 17.

2 أثر ضعيف. أخرجه إسحاق بن راهويه كما في "المطالب العالية"(12/ رقم: 3011- ط. العاصمة) و"إتحاف الخيرة المهرة"(1/ 186/ 232- ط. دار الوطن) و"اجتماع الجيوش الإسلامية"، لابن القيم (ص 124) وابن قدامة في "العلو" (رقم 78) وعلقه الذهبي في "العلو" (2/825/ 262) . من طريق: إسحاق بن راهويه؛ عن إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس به.

وإسناده ضعيف لأجل إبراهيم بن الحكم؛ فهو "ضعيف".

وأخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(12/341/ 14382) من طريق: حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان به.

وإسناده ضعيف لأجل حفص بن عمر "مجمع على ضعفه".

3 سورة الزمر: 1.

4 سورة فاطر: 10.

5 سورة النساء: 158.

6 سورة المعارج: 4.

ص: 569

مسلم1 "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء" كثيرة جداً، وكذا كلام السلف في ذلك، فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه (الفاروق) يسنده إلى أبي مطيع البلخي، أنه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه عمن قال لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر، لأن الله تعالى يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 وعرشه فوق سبع سموات، فقال: قلت فإن قال إنه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض فقال رضي الله عنه: هو كافر، لأنه أنكر آية في السماء ومن أنكر آية في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله تعالى في أعلى عليين فهو يدعى من أعلى لا من أسفل"3 انتهى.

وأيد القول بالفوقية أيضاً بأن الله لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السفول وهو مذموم على الإطلاق، والقول بأنا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلآ للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى سلم بأنه جل جلاله ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنياً فقط بل وجوده خارج الأذهان قطعاً؛ فقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات، فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح، وإذا كان صفة

1 برقم (2713) .

2 سورة طه: 5.

3 الخبر في "العلو" للذهبي (2/ 935/ 332) و"الفقه الأكبر" رواية أبي مطيع البلخي (ص 40، 44) و "شرحه" للقاري (ص 171) و"مجموع الفتاوى"(5/ 183) و"درء التعارض"(6/ 263) و"الفتوى الحموية"(ص 256) و"اجتماع الجيوش الإسلامية"(ص 139) و"شرح العقيدة الطحاوية"(ص 288) وغيرها كثير.

ص: 570

الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا إجماع كان نفيها غير الباطل، لاسيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى.

وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟! قال: فلطم الإمام على رأسه ونزل- وأظنه قال وبكى- وقال: حيرني الهمداني1.

وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ثم هو أيضاً منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض، ولا يخفى أن هذا باطل، أما أولاً: فلأن كون السماء قبلة للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله تعالى به من سلطان، والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة، فقد صرحوا بأنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في دعائه جماعة المسلمين.

وأما ثانياً: فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة، وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلاً لا يسمى قبلة أصلاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، ولم يثبت ذلك في شرع أصلاً.

وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض، فإن واضع الجبهة إنما

1 الخبر في: "الفتاوى"(4/ 61) وفي "الاستقامة"(1/ 167) و "العلو" للذهبي (2/ 1347/ 538) و"السير"(18/ 477) و"الطبقات" للسبكي (5/190) و"اجتماع الجيوش "(ص 275) . وقال الشيخ الألباني في "مختصر العلو"(277/308) : "وإسناد هذه القصة صحيح مسلسل بالحفاظ".

ص: 571

قصده الخضوع لمن فوقه بالذل لا أن يميل إليه إذ هو تحته، بك هذا لا يخطر في قلب ساجد، نعم سُمِعَ عن بشر المريسي أنه يقول: سبحان ربي الأسفل!! تعالى عما يقول الجاحدون والظالمون علواً كبيراً.

وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل، كما يقال الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم. وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة، فإن قول القائل ابتداء: الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوء من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك، وليس في ذلك أيضاً تمجيد ولا تعظيم لله تعالى، بل هو من أرذل الكلام، فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه؟ وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، على أن في ذلك تنقيصاً لله تعالى شأنه، ففي المثل السائر:

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف خير من العصا

نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجاً على مبطل كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1 وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} 2 وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 3 فهو أمر لا اعتراض عليه، ولا توجه سهام الطعن إليه.

والفوقية بمعنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضاً، وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون فوقية الذات، ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال صفاته

1 سورة يوسف: 39.

2 سورة النحل: 59.

3 سورة طه: 73.

ص: 572

سبحانه وتعالى، منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه، ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً، لئلا يثبتوا معنى فاسداً أو ينفوا معنى صحيحاً، فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه.

وأما لفظ الجهة؛ فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً، والله تعالى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك.

وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس لعناك إلا الله تعالى وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم، ومعنى ذلك أنه. فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه سبحانه كان قبل الجهات، وأنه من قال إنه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، وأنه جل شأنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها، وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنه عز اسمه ليمس في شيء من المخلوقات سواء سمي جهة أم لم يسم وهو كلام حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك.

وبالجملة؛ يجب تنزيه الله تعالى من مشابهة المخلوقين، وتفويض علم ما جاء به من المتشابهات إليه عز شأنه، والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه، والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي، على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف، والله أعلم بمراده. انتهى ما ذكر في "روح المعاني" وهو مما يزهق روح النبهاني، ويرد التأويل الذي تلعق به الشيخ أحمد الحلبي الكلابي.

وتفصيل الكلام في هذا المقام يطلب من كتب شيخ الإسلام وتلامذته، فإنهم أحسن من صنف في هذه المسائل، وفيها يجد المنشد ضالته، وقد ألف

ص: 573

الشيخ الحافظ أبو بكر الشهير بابن القيم كتابه (غزو الجيوش الإسلامية في الرد على الجهمية) وكتابه (الصواعق المرسلة على الدهرية والمعطلة) في هذه المطالب العالية، وبسط كلامه فيها كل البسط كما هو شأن كرمهم وجودهم في سخاء نفوسهم ببذل كنوز العلم طيب الله تعالى ثراهم.

وقد تكلم ابن القيم في "غزو الجيوش الإسلامية" على مسألة العلو، فذكر أولاً مما ورد من النصوص في الكتاب والسنة وبين معانيها على أتم وجه، ثم ذكر فصلاً فيما حفظ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، ولا يمكن هنا استيفاء ما ذكروه كله بل نقتصر على ذكر أقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى1:

(قول الإمام أبي حنيفة قدس الله روحه) قال البيهقي2: حدثنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، قال حدثنا أبو حيان: أن أحمد بن جعفر بن نصر قال: حدثنا يحيي بن يعلى، سمعت نعيم بن حماد يقول: سمعتُ نوح بن أبي مريم أبا عصمة يقول: كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر إذ جاءته امرأة من ترمِذ كانت تجالس جهماً فدخلت الكوفة، فقيل لها: إن ههنا رجلاً قد نظر في المعقول يقال له أبو حنيفة فَأْتِيه، فأتته فقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل وقد تركت دينك؟ أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إلينا وقد وضع كتاباً: أن الله سبحانه وتعالى في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى {َهُوَ مَعَكُمْ} 3 قال: هو كما تكتب للرجل إني معك وأنت غائب.

قال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيما نفى عن الله تعالى وتقدس من الكون في الأرض وفيما ذكر من تأويل الآية، وتبع مطلق السمع في

1 "اجتماع الجيوش الإسلامية"(ص 137- وما بعدها) .

2 "الأسماء والصفات"(2/337- 338/ 905) . وقال محققه (عبد الله الحاشدي- ردّه الله للحق) : إسناده ضعيف جداً.

3 سورة الحديد: 4.

ص: 574

قوله الله عز وجل: {فِي السَّمَاءِ} 1.

قال شيخ الإسلام: وفي كتاب "الفقه الأكبر" المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رواه- بإسناد عن أبي مطيع البلخي- الحكم بن عبد الله، قال سألت أبا حنيفة عن "الفقه الأكبر" قال: لا تكفر أحداً بذنب، ولا تنفي أحداً من الإيمان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا توال أحداً دون أحد، وإن ترد أمر عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما إلى الله تعالى.

قال أبو حنيفة: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه عز وجل خير من أن يجمع العلم الكثير، قال أبو مطيع: قلت: فأخبرني عن أفضل الفقه، قال: يتعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة، وذكر مسائل في الإيمان، ثم ذكر مسائل في القدر، ثم قال: فقلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك ناس فيخرج عن الجماعة هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ فقال: كذلك لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام، وذكر الكلام في قتال الخوارج والبغاة إلى أن قال: قال أبو حنيفة: ومن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر، لأن الله تعالى يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 وعرشه فوق سبع سموات، قلت: فإن قال إنه على العرش ومنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.

وفي لفظ سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرت ربي شي السماء أو في

1 سورة البقرة: 144.

2 سورة طه: 5.

ص: 575

الأرض، قال: كفر لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سموات، قال فإنه يقول على العرش استوى، ولكنه لا يدري العرش في الأرض أو في السماء، قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. روى هذا عن شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري في كتابه (الفاروق) بإسناده.

قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى: ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة رحمه الله عند أصحابه أنه كفر الواقف الذي يقول لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء ولا في الأرض، واحتج على كفره بقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال وعرشه فوق سبع سموات، وبين بهذا أن قوله الرحمن على العرش استوىا بتن في أن الله عز وجل فوق السموات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله فوق العرش، ثم أردف بذلك بكفر من توقف في كون العرش في السماء أو في الأرض قال لأنه أنكر أن يكون في السماء وأن الله في أعلى عليين، وأن الله يدعى من أعلى لا من أسفل، واحتج بأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله عز وجل في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل.

وكذلك أصحابه من بعده كأبي يوسف وهشام بن عبد الله الرازي، كما روى ابن أبي حاتم وشيخ الإسلام بأسانيدهما أن هشام بن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن قاضي الري حبس رجلاً في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه. فقال: أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن في خلقه. قال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب. وسيأتي قول الطحاوي عند أقوال أهل الحديث.

(قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى) ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد) 1 بسنده، قال: قال مالك بن أنس: الله في السماء وعلمه

1 "التمهيد"(7/138) .

ص: 576

في كل مكان لا يخلو منه مكان. قال: وقيل لمالك: الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فقال رحمه الله تعالى: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤال عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء.

(وكذلك أئمة أصحاب مالك من بعده) قال يحيى بن إبراهيم الطليطلي في كتاب (سير الفقهاء) - وهو كتاب جليل غزير العلم- بسنده: كانوا يكرهون قول الرجل: يا خيبة الدهر، وكانوا يقولون: الله هو الدهر، وكانوا يكرهون قول الرجل رغم أنفي لله، وإنما يرغم أنف الكافر، وكانوا يكرهون قول الرجل: والله حيث كان أو أن الله بكل مكان، قال أصبغ: وهو مستو على عرشه وبكل مكان علمه وإحاطته. وأصبغ من أجل أصحاب مالك وأفقههم.

(ذكر قول أبي عمرو الطلمنكي) قال في كتابه في الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضاً: أجمع أهل السنة على أن الله استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز. ثم ساق سنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان. ثم قال في هذا الكتاب: وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1 ونحو ذلك من القرآن بأن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته مستقر على عرشه كيف شاء، وهذه القصة في كتابه.

(قول الإمام الحافظ أبي عمر بن عبد البر) إمام السنة في زمانه رحمه الله تعالى، قال في كتاب (التمهيد) في شرح الحديث الثامن لابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له" هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية

1 سورة الحديد: 4.

ص: 577

في قولهم إن الله في كل مكان وليس على العرش، والدليل على صحة ما قال أهل الحق في ذلك قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 2 وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} 3 وقوله تعالى: {إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} 4 وقوله تبارك اسمه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 5. وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} 6. وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 7 وقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} 8 وهذا من العلو، وكذلك قوله تعالى:{الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 9 و {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} 10 و {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْش} 1 1 و {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 12 والجهمي يقول إنه أسفل، وقوله تعالى:{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 1 3 وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 14 وقوله تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ} 15 وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 16 وقال تعالى: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ

1 سورة طه: 5.

2 سورة السجدة: 4.

3 سورة فصلت: 11.

4 سورة الإسراء: 42.

5 سورة فاطر: 18.

6 سورة الأعراف: 143.

7 سورة الملك: 16.

8 سورة الأعلى: 1.

9 سورة البقرة: 255.

10 سورة الرعد: 9.

11 سورة غافر: 15.

12 سورة النحل: 50.

13 سورة آل عمران: 55.

14 سورة النساء: 158.

15 سورة فصلت: 38.

16 سورة السجدة: 5.

ص: 578

الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 1 والعروج هو الصعود. وأما قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 2 فمعناه من على السماء، يعني على العرش، وقد تكون في بمعنى على، ألا ترى إلى قوله:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} 3 أي على الأرض، وكذلك قوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 4 وهذا كله يعضده قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 5 وما كان مثله مما تلونا من الآيات في هذا، وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة.

وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل (استوى) استولى فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة المغالبة، والله تعالى لا يغالبه أحد، وهو الواحد الصمد، ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا تعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله على الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له، ولو ساغ ادعاء الممجاز لكل مبتدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح "عناه عند السامعين.

والاستواء معلوم وفي اللغة مفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: علا، قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت. وقال غيره: استوى أي: استقر، واحتج بقوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} 6 انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد، قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: الاستواء

1 سورة المعارج: 2- 4.

2 سورة الملك: 16.

3 سورة التوبة: 2.

4 سورة طه: 71.

5 سورة المعارج: 4.

6 سورة القصص: 14.

ص: 579

الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله تعالى في كتابه، فقال:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} 1 وقال تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} 2 وقال تعالى: {اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} 3.

قال الشاعر:

فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة

وقد حلق النجم اليماني فاستوى

وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد استولى لأن النجم لا يستولي، وقد ذكر النضر بن شميل- وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة- قال: حدثني الخليل- وحسبك بالخليل- قال أتيت أبا ربيعة الأعرابي- وكان من أعلم ما رأيت- فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال أعرابي إلى جانبه إنه أمركم أن ترتفعوا، فقال الخليل هو من قول الله عز وجل:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} 4 فصعدنا إليه.

قال: وأما من نازع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهم في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: استولى على جميع بريته فلا يخلو منه مكان.

فالجواب: أن هذا حديث منكر على ابن عباس رضي الله عنهما، ونقلته مجهولون وضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف، وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا الحديث لو عقلوا وأنصفوا؟ أما سمعوا الله سبحانه يقول: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ *

1 سورة الزخرف: 13.

2 سورة هود: 44.

3 سورة المؤمنون: 28.

4 سورة فصلت: 11.

ص: 580

أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} 1.

وقال الشاعر:

فسبحان من لا يقدر الخلق قدره

ومن هو فوق العرش فرد موحد

مليك على عرش السماء مهيمن

لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت، وفيه يقول في وصف الملائكة:

وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه

يعظم رباً فوقه ويمجد

قال: فإن احتجوا بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} 2 وبقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} 3 وبقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} 4. وزعموا أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان بنفسه وذاته- تبارك وتعالى جده-.

قيل: لا خلاف بيننا وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود لأهل السماء، وفي الأرض إله معبود لأهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر هذا التنزيل يشهد أنه على العرش، فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر. وأما قوله في الآية الأخرى {وفي الأرض له} فالإجماع والاتفاق قد بين أن المراد بأنه معبود أهل الأرض وأهل السماء، فتدبر هذا فإنه قاطع.

ومن الحجة أيضاً في أنه عز وجل على العرش فوق السموات ألسبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر ونزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين مشيرين بها إلى السماء يستغيثون الله

1 سورة غافر: 36- 37.

2 سورة الزخرف: 84.

3 سورة الأنعام: 3.

4 سورة المجادلة: 7.

ص: 581

ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاجوا فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطراري لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنظره عليهم مسلم.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأَمَة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة فاختبرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن قال لها: "أين الله"؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها:"من أنا"؟ قالت: أنت رسول الله. قال: "اعتقها فإنها مؤمنة"1. فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفع رأسها إلى السماء، واستغنى بذلك عما سواه.

قال: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش وعلمه في كل مكان.

وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، وذكر سنيد عن مقاتل بن حبان عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} 2 قال: هو على عرشه وعلمه معهم أينما كانوا3.

قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله، قال سنيد بسنده إلى ابن مسعود، قال: الله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. ثم ساق من طريق يزيد من هارون عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى الأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة

1 أخرجه مسلم (537) وغيره. وهو حديث صحيح خرّجه جمع كبير من أئمة الحديث وحفّاظهم من طرق صحيحة كالشمس في واضحة النهار، ولكن أهل البدع لا يعقلون، فيعلّون الحديث تارة بالاضطراب! وتارة بالشذوذ!! ولا اضطراب إلا في عقولهم، ولا شذوذ إلا في أفكارهم، والله المستعان وحده، ولا حول ولا قوة إلا به.

2 سورة المجادلة:7.

3 أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"(7/139) وعبد الله بن أحمد في "السنة"(1/304/592) والذهبي في "العلو"(2/918/326) – معلقاً – وابن بطة في "الإبانة"(رقم:109) والبيهقي في "الأسماء والصفات"(2/341/909) وغيرهم؛ بإسناد حسن.

ص: 582

لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 1 وأنه يجيء يوم القيامة بعد أن لم يكن جائياً والملك صفاً صفاً لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وأنه يرضى، ويحب التوّابين، ويسقط على من كفر به، ويغضب ولا يقوم شيء لغضبه، وأنه فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه، وأن لله سبحانه كرسياً، كما قال عز وجل:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 2 كما جاءت به الأحاديث: أن الله سبحانه يضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء. وقال مجاهد: كانوا يقولون ما السموات والأرض في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض. وأن الله سبحانه يراه أولياؤه في المعاد بأبصارهم لا يضامون في رؤيته، كما قال عز وجل في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 3 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 4 هو النظر إلى وجهه الكريم5. وأنه يكلم عباده يوم القيامة ليس بينه وبينهم واسطة ولا ترجمان، وأن الجنة والنار داران قد خلقتا؛ أعدت الجنة للمؤمنين المتقين، والنار للكافرين الجاحدين، ولا يفنيان، والإيمان بالقدر خيره وشره، وكل ذلك قد قدره ربنا سبحانه وتعالى وأحصاه وعلمه، وأن مقادير الأمور بيده ومصدرها عن قضائه، تفضل على من أطاع فوفقه وحبب الإيمان إليه وزينه في قلبه فيسره، وشرح له صدره ونور قلبه فهداه، ومن يهدي الله فما له من مضل، وخذل من عصاه وكفر به فأسلمه ويسره فحجبه وأضله، ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشداً، وكل ينتهي إلى سابق علمه لا تخصيص لأحد عنه.

وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد ذلك بالطاعة وينقص بالمعصية نقصاً عن حقائق الكمال لا محبط للإيمان، ولا قول

1 سورة ص: 75.

2 سورة البقرة: 255.

3 سورة القيامة: 22- 23.

4 سورة يونس: 26.

5 انظر "صحيح مسلم"(163) بنحوه.

ص: 584

إلا بعمل، ولا عمل ولا قول إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة.

وأنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وإن كان كبيراً، ولا يحبط الإيمان غير الشرك بالله تعالى، كما قال سبحانه:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك} 1 وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2 وأن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} 3 وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 4 وأن ملك الموت يقبض الأرواح كلها بإذن الله تعالى متى شاء، كما قال تعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} 5.

إن الخلق ميتون بآجالهم، فأرواح أهل السعادة باقية منعمة إلى يوم القيامة، وأرواح أهل الشقاء في سجين معذبة إلى يوم القيامة، وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأن عذاب القبر حق، وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويضغطون ويسألون، ويثبت الله منطق من أحب تثبيته، وأنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، كما بدأهم يعودون، حفاة عراة غرلاً، وأن الأجساد التي أطاعت أو عصت هي التي تبعث يوم القيامة لتجازى، والجلود التي كانت في الدنيا والألسنة والأيدي والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على من تشهد عليه منهم، وينصب الموازيبن لوزن أعمال العباد، فأفلح من ثقلت موازينه، وخاب وخسر من خفت موازينه، ويؤتون صحائفهم، فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً، ومن أوتي كتابه بشماله فسوف يدعو تبوراً ويصلى سعيراً، وأن الصراط

1 سورة الزمر: 65.

2 سورة النساء: 48.

3 سورة الإنفطار: 10- 11.

4 سورة ق: 18.

5 سورة السجدة: 11.

ص: 585

جسر مورود يجوزه العباد بقدر أعمالهم، فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم، وقوم أبقتهم أعمالهم فيها يتساقطون. وأنه يخرج من النار من في قلبه شيء من الإيمان، وأن الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين، ويخرج بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من النار من أمته بعد أن صاروا فحماً، يطرحون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل. والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ترده أمته لا يظمأ من شرب منه، ويذاد عنه من غير وبدل. والإيمان بما جاء من خبر الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم على ما صحت به الروايات، وأنه صلى الله عليه وسلم رأى من آيات ربه الكبرى، وبما ثبت من خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام حكماً عدلاً وقتله الدجال، وبالآيات التي بين يدي الساعة من طلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة وغير ذلك مما صحت به الروايات.

ونصدق بما جاءنا عن الله في كتابه وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأخباره، فوجب العمل بمحكمه، ونؤمن بمشكله ومتشابهه، ونكل ما غاب عنا من حقيقة تفسيره إلى الله تعالى، والله يعلم تأويل المتشابه من كتابه، والراسخون في العلم يقولون آمنا به، وبكل ما غاب عنا من حقيقة تفسيره، كل من عند ربنا. وقال بعض الناس: الراسخون في العلم يعلمون مشكله، ولكن الأول قول أهل المدينة وعليه يدل الكتاب.

وإن أفضل القرون قرن الصحابة رضي الله عنهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وأن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، وقيل ثم عثمان وعلي، ويكف عن التفضيل بينهما، روي ذلك عن مالك، وقال: ما أدركت أحداً أقتدي به يفضل أحدهما على صاحبه، فرأى الكف عنهما، وروي عنه القول الأول وهو قول أهل الحديث، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر من المهاجرين ومن الأنصار ومن جميع الصحابة على قدر الهجرة والسابقة والفضيلة، وكل من صحبه ولو ساعة أو رآه ولو مرة فهو بذلك أفضل من التابعين. والكف عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير ما يذكرون به، وهم أحق أن ننشر ذكر محاسنهم، ونلتمس لهم أفضل مخارجهم، ونظن بهم أحسن المذاهب، قال

ص: 586

النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تؤذوني في أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" 1 وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا"2 قال أهل العلم لا يذكرون إلا بأحسن ذكر. والسمع والطاعة لأئمة المسلمين، وكل من ولي أمر المسلمين عن رضى أو عن غلبة أو شدة، وطاعته من بر أو فاجر فلا يخرج عليه جار أو عدل، ونغزو معه العدو، ونحج معه البيت، ودفع الصدقات إليهم مجزية إذا طلبوها، ونصلي خلفهم الجمعة والعيدين- قاله غير واحد من العلماء- وقال مالك: لا نصلي خلف المبتدع منهم إلا أن نخافه فنصلي خلفه- واختلف في الإعادة- ولا بأس بقتال من دافعك من الخوارج واللصوص من أهل المسلمين وأهل الذمة عن نفسك ومالك، والتسليم للمسلمين لا تعارض برأي ولا تدافع بقياس، وما تأوله منها السلف الصالح تأولناه، وما عملوا به عملناه، وما تركوه تركناه، ويسعنا أن نمسك عما أمسكوا عنه، ونتبعهم فيما بينوا، ونقتدي بهم فيما استنبطوا ورأوه في الحوادث، ولا نخرج من جماعاتهم فيما اختلفوا فيه وفي تأويله، وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيناه، وكله قول مالك، فمنه منصوص من قوله ومنه من مذهبه، قال مالك: قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور سنناً؛ الأخذ بها تصديق لكتاب الله تعالى، واستكمال لطاعته، وقوة على دين الله تعالى، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها، من اهتدى بها هدي، ومن استنصر بها نصر، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً3. قال مالك:

1 تقدم تخريجه بلفظ: "لا تسبوا أصحابي..".

2 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(10/ رقم: 10448) وأبو نعيم في "الحلية"(4/108) رفي "الإمامة والرد على الرافضة"(رقم: 198) من حديث عبد الله بن مسعود. وهو حديث صحيح بالشواهد؛ انظر: "الصحيحة" رقم (34) .

3 الخبر أخرجه: الآجري في "الشريعة"(1/174، 200/ 98، 146- ط. الوليد سيف النصر) والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(3/ 386) واللالكاني في "شرح أصول الاعتقاد"(1/94/134) وابن بطة في "الإبانة"(رقم: 230، 231) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2/1176/ 2326) والخلال في "السنة"(4/127/1329) والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(1/435-436/455) وفي "شرف أصحاب الحديث"(رقم:50) . وهو أثر صحيح.

وذكره كل من: الأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة"(1/109) والشاطبي في "الاعتصام"(1/144- ط. الشيخ مشهور) والقاضي عياض في "ترتيب المدارك"(1/172) وغيرهم كثير.

ص: 587

أعجبني عزم عمر رضي الله عنه في ذلك، ما أصلبه في السنة وأقومه بها.

(قول الإمام أبي بكر محمد بن وهب المالكي شارح رسالة ابن أبي زيد ومن المشهورين بالفقه والسنة رحمه الله تعالى) قال في شرحه للرسالة: ومعنى فوق وعلى واحد بين جميع العرب في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تصديق ذلك قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} 1 وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 وقال تعالى في وصف الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 3 وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 4 ونحو ذلك كثير، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للأعجمية:"أين الله " فأشارت إلى السماء. ووصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرج به من الأرض إلى السماء ثم من سماء إلى سماء إلى سدرة المنتهى، ثم إلى ما فوقها، حتى لقد قال:"سمعت صريف الأقلام". ولما فرضت الصلاة جعل كلما هبط من مكانه تلقاه موسى عليه السلام في بعض السماوات وأمره بسؤال التخفيف عن أمته، فرجع صاعداً مرتفعاً إلى الله سبحانه وتعالى يسأله حتى انتهت إلى خمس صلوات، وسنذكره إن شاء الله تعالى عن قريب.

(قول الإمام أبي القاسم عبد الله بن خلف المقري الأندلسي رحمه الله تعالى)

قال في الجزء الأول من كتاب (الاهتداء لأهل الحق والاقتداء) من تصنيفه من شرح الملخص للشيخ أبي الحسن القابسي رحمه الله تعالى عن مالك بن شهاب عن

1 سورة الفرقان: 59.

2 سورة طه: 5.

3 سورة النحل: 50.

4 سورة فاطر: 10.

ص: 588

عبد الله الأغر وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا- حين يبقى ثلث الليل الآخر- فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفر فأغفر له؟ ".

في هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش فوق سبع سموات من غير مماسة ولا تكييف كما قال أهل العلم، ودليل قولهم أيضاً من القرآن قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 1 وقوله تعالى: {إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} 2 وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} 3 وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 4. وقوله لعيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 5 وقوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} 6. {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 7 والعروج هو الصعود، قال مالك ابن أنس رحمه الله تعالى: الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان. يريد والله أعلم بقوله:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} 8 وكما قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 9 أي: من على السماء يعني على العرش، وكما قال تعالى:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} 10 أي: على الأرض. وقيل لمالك {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال مالك رحمه الله

1 سورة السجدة: 4.

2 سورة الإسراء: 42.

3 سورة السجدة: 5.

4 سورة المعارج: 4.

5 سورة آل عمران: 55.

6 سورة المعارج: 2- 3.

7 سورة المعارج: 4.

8 سورة طه: 71.

9 سورة الملك: 16.

10 سورة التوبة: 2.

ص: 589

لقائله: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء.

قال أبو حنيفة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 أي علا. قال: ويقول العرب استويت فوق الدابة أو فوف البيت.

وكل ما قدمت دليل واضح في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء، وإن استوى بمعنى استولى، لأن الاستيلاء في اللغة المغالبة وأنه لا يغالبه أحد، وإن من حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا سبحانه وتعالى إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله تعالى إلى الأشهر والأظهر من وجوهه ما لم يمنع ذلك ما يوجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله تعالى أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة وهو العلو والارتفاع والتمكن.

ومن الحجة أيضاً في أن الله سبحانه وتعالى على العرش فوق السموات السبع: أن الموحدين أجمعين إذا كرهبم أمر رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون الله ربهم، وقوله صلى الله عليه وسلم للأمة التي أراد مولاها أن يعتقها:"أين الله "؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها:"من أنا"؟ قالت: أنت رسول الله، قال:"أعتقها فإنها مؤمنة". فاكتفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفع رأسها إلى السماء دل على ما قدمناه أنه على العرش، والعرش فوق السموات السبع، ودليل قولنا أيضاً قول أمية ابن أبي الصلت في وصف الملائكة عليهم السلام:

وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه

يعظم رباً فوقه ويمجد

فسبحان من لا يقدر الخلق قدره

ومن هو فوق العرش فرد موحد

مليك على عرش السماء مهيمن

لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ

1 سورة طه: 5.

ص: 590

السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} 1 فدل على أن موسى عليه السلام كان يقول إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذباً.

فإن احتج أحد علينا فيما قدمناه وقال له كان كذلك لأشبه المخلوقات لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته فهو مخلوق؛ فشيء لا يلزم ولا معنى له، لأنه تعالى ليس كمثله شيء من خلقه، ولا يقاس بشيء من بريته، ولا يدرك بقياس، ولا يقاس بالناس، كان قبل الأمكنة، ثم يكون بعدها، لا إله إلا هو خالق كل شيء لا شريك له، وقد اتفق المسلمون وكل ذي لب أنه لا يعقل كائن إلا في مكان ما وما ليس في مكان فهو عدم، وقد صح في العقول وثبت بالدلائل أنه كان في الأزل لا في مكان وليس بمعدوم فكيف يقاس على شيء من خلقه أو يجري بينهم وبينه تمثيل أو تشبيه؟! تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

فإن قال قائل: إذا وصفنا ربنا تعالى أنه كان في الأزل لا في مكان ثم خلق الأماكن فصار في مكان؛ ففي ذلك إقرار منافيه بالتغيير والانتقال إذا زالت عن صفته في الأزل وصار في مكان دون مكان.

قيل له: وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان ثم صار في كل مكان فنقل صفته من الكون لا في مكان إلى صفة هي الكون في كل مكان فقد تغير عندك معبودك وانتقل من لا مكان إلى كل مكان.

فإن قال: إنه كان في الأزل في كل مكان وكما هو الآن؛ فقد وجب الأماكن والأشياء معه في أزليته وهذا فاسد.

فإن قال: فهل يجوز عندك أن ينتقل من مكان في الأزل إلى مكان؟

قيل له: أما الانتقال وتغير الحال فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه، لأن كونه في الأزل لا يوجب مكاناً، وكذلك نقلته توجب مكاناً وليس في ذلك كالخلق، لأن كونه يوجب مكاناً من الخلق ونقلته لا توجب مكاناً ويصير منتقلاً من مكان إلى

1 سورة غافر: 36- 37.

ص: 591

مكان، والله تعالى ليس كذلك، ولكن نقول استوى من لا مكان إلى مكان، ولا نقول انتقل وإن كان المعنى في ذلك واحداً، كما نقول له عرش ولا نقول له سرير، ونقول هو الحكيم ولا نقول هو العاقل، ونقول خليل إبراهيم ولا نقول صديق إبراهيم عليه السلام وإن كان المعنى في ذلك واحداً، لأنا لا نسميه ولا نصفه ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه على ما تقدم، ولا ندفع ما وصف به نفسه لأنه دفع للقرآن، وقد قال الله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 1 وليس مجيئه حركة ولا زوالاً ولا ابتدالاً، لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسماً أو جوهراً، فلما ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض لم يجب أن يكون مجيئه حركة ولا انتقالاً، ولو اعتبرت ذلك بقولهم جاءت فلاناً قيامته وجاءه الموت وجاءه المرض وشبه ذلك مما هو وجود نازل به لا مجيء؛ لبان ذلك وبالله العصمة والتوفيق.

فإن قال: إنه لا يكون مستوياً على مكان إلا مقروناً بالكيف.

قيل له: قد يكون الاستواء واجباً والتكييف مرتفعاً، وليس رفع التكييف يوجب رفع الاستواء، ولو لزم هذا لزم التكييف في الأزل ولا يكون كائناً في الإمكان ولا مقروناً بالتكييف.

فإن قال: إنه كان ولا مكان وهو غير مقرون بالتكييف، وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحاً في أبداننا ولا نعلم كيفية ذلك وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفيته على عرشه يوجب أن ليس على عرشه، وقد روى عن أبي رزين العقيلي قال قلت يا رسول الله؛ أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماء والأرض؟ قال:"كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء"2. قال أبو القاسم: العماء؛ ممدود وهو السحاب، والعمى مقصور وهو الظلمة، وقد زوي الحديث بالمد والقصر، فمن رواه بالمد فهو عنده

1 سورة الفجر: 22.

2 حديث ضعيف. أخرجه أحمد (4/11) والترمذي (3109) وابن ماجه (182) وغيرهم، وضعفه الشيخ الألباني في "ضعيف سنن الترمذي"(602) .

ص: 592

"كان في عَمَاء سحاب ما تحته هواء وما فوقه هواء" والهاء راجعة إلى العماء، ومن رواه بالقصر فمعناه عنده: كان في عمى عن خلقه، لأنه من عمى عن الشيء فقد أظلم عنه.

وعن مجاهد قال: إن بين العرش وبين الملائكة لسبعين حجاباً من نور وحجاباً من ظلمة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله تعالى على العرش، ويعلم أعمالكم. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أيضاً: إنه فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.

قال أبو القاسم: يريد فوق العرش، لأن العرش آخر المخلوقات ليس فوقه مخلوق، والله تعالى أعلى المخلوقات دون تكييف ولا مماسة، ولا أعلم في هذا الباب حدثاً مرفوعاً إلا حديث عبد الله بن عميرة عن الأحنف عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى سحابة فقال:"ما تسمون هذه؟ " قالوا: السحاب، قال:"والمزن؟ " قالوا: والمزن، قال:"والعنان؟ " قالوا: والعنان، قال:"كم ترون بينكم وبين السماء؟ " قالوا: لا ندري، قال:" بينكم وبينها إما واحد أو اثنان أو ثلاث وسبعون سنة، والسماء فوقها كذلك بينهما مثل ذلك حتى عد سبع سموات، ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله فوق ذلك"1. هذا حديث صحيح أخرجه أبو داود.

(قول الإمام أبي عبد الله محمد بن عيسى المالكي المشهور بابن أبي زمنين رحمه الله تعالى) قال في كتابه الذي صنفه في أصول السنة: (باب الإيمان بالعرش) : ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه في قوله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وفي قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

1 أخرجه أبو داود (4723) وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود"(1014) وقد تقدم.

ص: 593

‌الكلام على كتاب "جلاء العينين

"

خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش ويعلم أعمالكم1. وذكر هذا الكلام أو قريباً منه في كتاب "الاستذكار".

(ذكر قول الإمام مالك الصغير) أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني.

قال في خطبته برسالته المشهورة: باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات؛ من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان: أن الله إله واحد، لا إله غيره، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء، ولا يبلغ كنه صفته الواصفون، ولا يحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في ماهية ذاته:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2 وهو العليم الخبير، المدبر القدير، السميع البصير، العلي الكبير، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو بكل مكان بعلمه.

وكذلك ذكر مثل هذا في نوادره وغيرها من كتبه.

وذكر في كتاب المفرد في السنة تقرير العلو واستواء الرب تعالى على عرشه بذاته أتم تقرير، فقال: ما اجتمعت عليه الأمة من أمور الديانة من السنن التي خلافها بدعة وضلالة؛ أن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، لم يزل بجميع صفاته، وهو سبحانه موصوف بأنه له علماً وقدرة ومشيئة، أحاط علماً بجميع ما بدم قبل كونه، وفطر الأشياء بإرادته وقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3 وأن كلامه صفة من صفاته ليس بمخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد، وأن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام بذاته، وأسمعه كلامه لا كلاماً قام في غيره، وأنه يسمع ويرى، ويقبض ويبسط، وأن يديه مبسوطتان، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، وأن يديه غير نعمته في ذلك، وفي قوله سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ

1 أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد"(1/ 242- 244/ 149، 150) .

2 سورة البقرة: 255.

3 سورة يس: 82.

ص: 283

‌عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

ضبة ثم من بني حميس:

ألا تنهى سراة بني حميس

شويعرها فويلية الأفاعي

فسماه شويعراً، وفالية الأفاعي، دويبة فوق الخنفساء، فصغرها أيضاً تحقيراً له. وزعم الحاتمي أن النابغة سئل من أشعر الناس؟ فقال: من استجيد جيده وأضحك رديه. وهذا كلام يستحيل مثله عن النابغة لأنه إذا أضحك رديه كان من سفلة الشعراء إلا أن يكون في الهجاء خاصة.

وقال الحطيئة يصف صعوبة الشعر:

الشعر صعب وطويل سلمه

إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه

زلت به إلى الحضيض قدمه

يريد أن يعربه فيعجمه

وإنما سمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر له غيره، وإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه ولا استطراف لفظ وابتداعه ولا زيادة فيما أجحف به غيره من المعاني أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس هو بفضل مع التقصير.

ولقي رجل آخر فقال له الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر، وماص بظر أُمهِ، فأيهم أنت؟ قال: أما أنا فشويعر، واختصم أنت وامرؤ القيس في الباقي.

وقال بعضهم: الشعر شعران؛ جيد محكك وردي مضحك، س ولا شيء أثقل من الشعر الوسط والغناء الوسط. ويقال: إن الشعر كالبحر أهون ما يكون على الجاهل، أهول ما يكون على العالم، وأتعب أصحابه قلباً من عرفه حق معرفته، وأهل صناعة الشعر أبصر بها من العلماء بالله من نحو وغريب، ومثل وخبر، وما أشبه ذلك، ولو كانوا دونهم بدرجات فكيف أن قاربوهم أو كانوا منهم وقيل للمفضل الضبي: لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي

ص: 325