المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية] - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ١

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌خطبة الكتاب

- ‌(الأمور التي يجب التنبيه عليها، والإشارة بيسير العبارة إليها)

- ‌(ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود)

- ‌[كلام النبهاني على الاجتهاد، والرد عليه]

- ‌[الكلام على كتب التفسير والاحتياج إلى تفسير موافق لأفكار أهل العصر]

- ‌[الكلام على قول النبهاني: إن الذي يتصدّى لطلب تفسير مشتمل على العلوم العصرية ملحد]

- ‌[الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم]

- ‌(أجوبة لشيخ الإسلام على بعض اعتراضات الأخنائي)

- ‌(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت)

- ‌(الكلام على شبه الخصم وإبطالها)

- ‌(ذكر شبة أخرى للمجوّزين للاستغاثة وإبطالها)

- ‌(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية)

- ‌(كلام مفيد في تعريف البدعة)

- ‌[الرد على النبهاني فيما ادّعاه من أن ابن تيمية مُخِلٌّ بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية]

- ‌(الذاهبون إلى حياته)

- ‌[الكلام على كتاب "منهاج السنة" لشيخ الإسلام]

- ‌الكلام على كتاب "جلاء العينين

- ‌(ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وقدس روحه)

- ‌عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

الفصل: ‌[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية]

أئمة المذاهب وفقهاؤها والأحاديث التي أوردها منها ما هو موضوع، ومنها ما لا يدل على الغرض المقصود، وتفصيل الكلام فيها يخرجنا عن موضوع الكتاب1.

ولقد تكثر النبهاني من ذكر خصوم الشيخ والطاعنين فيه مع أن الاعتماد على الكثرة والسواد الأعظم والاحتجاج على بطلان الشيء بقلة أهله من الجهل بمكان، قال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 2 فالكثرة على خلاف الحق لا تستوجب العدول عن اتباعه لمن كان له بصيرة وقلب فالحق أحق بالاتباع وإن قل أنصاره، كما قال تعالى:{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} 3.

فأخبر الله عن أهل الحق أنهم قليلون غير أن القلة لا تضرهم، فإن من له بصيرة نظر إلى الدليل، وأخذ بما اقتضاه البرهان وإن قل العارفون به والمنقادون له، ومن أخذ بما عليه الأكثر وما ألفته العامة من غير نظر إلى دليل؛ فهو مخطىء سالك غير سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

1 انظر "ردع الأنام عن محدثات عاشر المحرم الحرام" لأبي الطيب محمد عطاء الله ضيف. ط. دار ابن حزم ببيروت.

2 سورة الأنعام: 116- 117.

3 سورة ص: 24.

ص: 488

[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية]

قال النبهاني: الكلام على بعض كتب ابن تيمية و"تلبيس إبليس" لابن الجوزي.

قال: فمن كتب ابن تيمية (الجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح) وهو أربعة مجلدات متوسطة، وهو في غاية النفاسة لو خلا من التعرض لبدعه التي انفرد بها وشذّ عن المسلمين من منعه الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم كسائر الأنبياء

ص: 488

والصالحين، وكتعرضه لأكابر أولياء الله بالتكفير والتشنيع فضلاً عن التبديع، كسيدي محيي الدين بن العربي، وسيدي عمر بن الفارض وغيرهم ممن ذكر بعضهم في كتابه "الفرقان " وشنع عليهم وكفّرهم وجعلهم أولياء الشيطان، وهذا دأبه عفا الله عنه في كتبه، ولذلك قلل الله النفع بها، كما جرت عادته تعالى فيمن يتعرض لأوليائه بالسوء، إذ قد ورد في الحديث القدسي:"من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" وأي أذية أعظم من تكفيرهم وإخراجهم من دائرة الإسلام بالكلية؟!

أقول: جوابه: إن كتب شيخ الإسلام جميعها من الكتب التي أنعم الله تعالى بها على الأمة، وهي على اختلاف أنواعها وفنونها ليس لها نظير في بابها، وقد ذكرها الحافظ ابن القيم في "الكافية الشافية" وحث على مطالعتها فقال:

فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة

شيخ الوجود العالم الرباني

أعني أبا العباس أحمد ذاك الـ

ـبحر المحيط بسائر الخلجان

وأقرأ كتاب العقل والنقل الذي

ما في الوجود له نظير ثان

وكذاك منهاج له في رده

قول الروافض شيعة الشيطان

وكذاك أهل الاعتزال فإنه

أرداهم في حفرة الجبان

وكذلك التأسيس أصبح نقضه

أعجوبة للعالم الرباني

وكذاك أجوبة له مصرية

في ست أسفار كتبن سمان

وكذا جواب للنصارى فيه ما

يشفي الصدور وإنه سفران

وكذاك شرح عقيدة للأصبها

ني شارح المحصول شرح بيان

فيها النبوات التي إثباتها

في غاية التقرير والتبيان

والله ما لأولي الكلام نظيره

أبداً وكتبهم بكل مكان

وكذا حدوث العالم العلوي والـ

ـسفلي فيه في أتم بيان

وكذا قواعد الاستقامة إنها

سفران فيما بيننا ضخمان

وقرأت أكثرها عليه فزادني

والله في علم وفي إيمان

هذا ولو حدثت نفسي أنه

قبلي يموت لكان غير الشان

ص: 489

وكذاك توحيد الفلاسفة الألي

توحيدهم هو غاية الكفران

سفر لطيف فيه نقض أصولهم

بحقيقة المعقول والبرهان

وكذاك تسعينية فيها له

رد على من قال بالنفساني

تسعون وجهاً بينت بطلانه

أعني كلام النفس ذا الوجدان

وكذا قواعدها الكبار فإنها

أوفى من المائتين في الحسبان

لم يتسع نظمي لها فأسوقها

فأشرت بعض إشارة لبيان

وكذا رسائله إلى البلدان والـ

ـأطراف والأصحاب والإخوان

هي في الورى مبثوثة معلومة

تبتاع بالغالي من الأثمان

وكذا فتاواه فأخبرني الذي

أضحى عليها دائم الطوفان

بلغ الذي ألفاه منها عدة الأ

يام من شهر بلا نقصان

سفر يقابل كل يوم والذي

قد فاتني منها بلا حسبان

هذا وليس يقصر التفسير عن

عشر كبار ليس ذا نقصان

وكذا المفاريد التي في كل مسأ

لة فسفر واضح التبيان

ما بين عشر أو تزيد بضعفها

هي كالنجوم لسالك حيران

وله المقامات الشهيرة في الورى

قد قامها لله غير جبان

نصر الإله ودينه وكتابه

ورسوله بالسيف والبرهان

أبدى فضائحهم وبين جهلهم

وأرى تناقضهم بكل زمان

وأصارهم والله تحت نعال أهـ

ـل الحق بعد ملابس التيجان

وأصارهم تحت الحضيض وطالما

كانوا هم الأعلام في البلدان

ومن العجائب أنه بسلاحهم

أرداهم تحت الحضيض الداني

كانت نواصينا بأيديهم فما

منالهم إلا أسير عان

فغدت نواصيهم بأيدينا فلا

يلوننا إلا بحبل أمان

وغدت ملوكهم مماليكا لأنـ

ـصار الرسول بمنة الرحمن

وأتت جنودهم التي صالوا بها

منقادة لعساكر الإيمان

يدري بهذا من له خبر بما

قد قاله في ربه الفئتان

ص: 490

والفدم يوحشنا وليس هناكم

فحضوره ومغيبه سيان

وقلت في شرح هذه الأبيات: اعلم أن الناظم لم يذكر كتبه مرتبة أعني كتب كل فن على حدة لعدم مساعدة النظم على ذلك، ونحن نشرحها حسبما ذكرها فنقول:

قوله: واقرأ كتاب العقل والنقل

إلخ.

هذا كتاب ألّفه في بيان أن الشريعة كافية بنصوصها، ولا حاجة بها إلى ما أحدث من القواعد الكلامية المأخوذة من الحكمة اليونانية، وأن الدليل النقلي يفيد اليقين، وهذا الكتاب متداول بين الأيدي، ونسخه كثيرة في الهند وبلاد العرب والفرس، وتوجد منه نسخة كاملة لا نقص فيها في خزانة كتب راغب باشا في دار السلطنة المحروسة.

قو له: وكذاك منهاج له في رده

إلخ..

هذا الكتاب أيضاً من كتب الشيخ المهمة، وهو أحسن كتاب ألف في الرد على الروافض، مشتمل على فنون كثيرة وعلم غزير، نسخه أيضاً كثيرة في البلاد، وكثير من خزائن الكتب الإسلامية مشتملة عليه.

قوله: وكذلك التأسيس أصبح نقضه

إلخ.

إشارة إلى كتاب "نقض أساس التأسيس" وهو في الرد على "أساس التأسيس" للإمام فخر الدين الرازي اشتمل على مسائل مهمة في علم الكلام، ونسخته في خزانة كتب الملك العادل في دمشق الشام وهو في ست أسفار على ما نقل لي.

وقوله: وكذاك أجوبة مصرية

إلخ. هي أيضاً فتاوى مشتملة على مسائل مهمة في ست أسفار.

وقوله: وكذا جواب للنصارى

إلخ.

يريد به (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) ولم يؤلف في الرد على

ص: 491

النصارى كتاب مثله وكتبت في شأنه بعض المجلات المصرية ما نصه: (الجواب الصحيح والدين الصريح) إذا أطلق الإنسان حريته، وجرّده عن عوامل التقييدات ومحض فطرته، وتأمل في جواهر الأديان ومد النظر في مجال ما حدث به كل نبي عن ربه يرى أن الحقيقة واحدة والأمنية لكل متحدة، فلباب الشرائع الإلهية واحد، ومقصد الشراعين متحد، مصداقاً لقوله تعالى:{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} 1 وغير ذلك من الآيات الدالة على اتفاقهم في المقصد واتحادهم في الغرض، وقد اتفقت كلمتهم على التوحيد والنهي عن التفرق والاختلاف، كما قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 2. ولكن أبى الإنسان الناقص بأصل فطرته القاصر عن فهم حكمة ربه البالغة إلا أن يجعل ما هو أصلاً في الاتفاق سبباً في الافتراق، وما هو أصل السعادة سبباً في الشقاء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لجمع الكلمة وتوحيد الأمة، فتغلبت قوة الشر وطبيعة النقص على هذا الخير المحض والكمال المطلق، فمزقت هذه الجامعة الإنسانية، والوحدة الدينية، فتعددت فيهم المذاهب والنحل والآراء والملل، وقامت بينهم حروب الأقلام وتلتها معارك السنان، واشتغل كل فريق بالرد والاعتراض وانتصر لكل جماعات وأفراد، وهكذا كثر القيل والقال، والمشاغبة والجدال، وذهبت الحقيقة تحت أستار المغالبة، واحتجبت بحجاب المراء والمخاصمة، وما أتى فريق لكشف تلك الشبهات بجلاء، بل بعدوا عن الحقيقة بعد الأرض من السماء، إلى أن انبرى في القرون الوسطى لنصرة الحق لذاته شيخ الإسلام وقدوة الأنام تقي الدين أحمد بن تيمية، فكتب كتابه الموسوم (بالجواب الصحيح) سلك فيه مسلك العدل والإنصاف، وأظهر الحق وأبطل الباطل، وترفع عن المجادلة والمشاغبة وتنزه عن المشاتمة والمغالبة، فما نحى أحد منحاه، ولا سلك طريقته وهداه، وكان الباعث لتأليف هذا الكتاب الذي أوضح فيه الحقيقة لأولي الألباب، كتاباً

1 سورة القمر: 50.

2 سورة الشورى: 13.

ص: 492

ورد من مدينة قبرص ألفه بولص الراهب أسقف صيدا الأنطاكي، جمع فيه جميع الاحتجاجات لدين النصارى التي يحتج بها علماؤهم وفضلاء ملتهم، وكان ما في ذلك الكتاب هو عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم في كل زمان ومكان، وهو محصور في ستة مطالب هي دعائم الديانة المسيحية وأصول مذاهبهم الملية، وقد أجابهم على كل دعوى بما فيه لذوي البصيرة مقنع، ثم ذكر مشتملات الكتاب.

ثم قال: فجاء هذا الإمام الجليل وطرح الآراء المذهبية، وترك التعصبات الدينية، وأظهر الحقيقة في ذاتها، وأبان كنهها لطالبها بما هيأتها، فأخذ أولاً في تفنيد تلك المطالب على طريقة أهل الجدل، وقلب هذه الأدلة الموهومة فجعلها منتجة ضد مطلوبها، فكانت عليه لا له، ثم استقام في الاستدلال ونهج منهج الاعتدال، وأرجع كل هذه الاختلافات إلى الاتفاق، والمخاصمات إلى الوفاق، وأبان أن أصل الأديان واحد، وأن ما يترآى من الاختلافات نشأ من حب الرياسة والشهوات حسب الأزمنة والأمكنة، وقد اطلع على هذا الكتاب بعض قسيسي المجمع العلمي المنعقد في بعض البلاد الإفرنجية، فقدروه قدره وأثنوا على مؤلفه خيراً، وقالوا لو جمع مؤلفه كتاباً آخر في محاسن دين الإسلام لدخل الناس فيه أفواجاً.

وبالجملة؛ فهذا الكتاب جدير بالمطالعة والاقتناء، يحتاجه المسلم في إسلامه، والنصراني لنصرانيته، وكل معترف بدين أو كتاب.. إلخ.

قوله: وكذلك شرح عقيدة للأصفهاني.. إلخ.

أي: من جملة مصنفاته كتاب (شرح عقيدة الأصفهاني) وهو كتاب جليل القدر، مشتمل على مطالب مهمة، لاسيما مباحث النبوات وحدوث العالم العلوي والسفلي.

قوله: وكذا قواعد الاستقامة. إلخ. وهو من أفيد كتبه، وهو مفصل يبلغ سفرين، توجد نسخه في بلاد العرب ودمشق وفي بعض بلاد الهند.

ص: 493

قوله: وكذاك توحيد الفلاسفة الآلي.. إلخ. يريد به الرد على الفلاسفة، وهو عدة أسفار، يقال: إن من نسخه في بعض خزائن كتب دار السلطنة، لكن الناظم يقول هو سفر لطيف إلخ. وهو أدرى به من غيره.

قوله: وكذاك تسعينية. إلخ. هذا الكتاب كبير، وهو في الرد على من يقول بالكلام النفسي من تسعين وجهاً، وهو بين الأيدي.

قوله: وكذا قواعده الكبار.. إلخ. هي على منهج قواعد القرافي وغيره إلا أنها أكثر فائدة، ونسخه في البلاد العربية.

قوله: وكذا رسائله إلى البلدان.. إلخ. وقوله: وكذا فتاواه.. إلخ.

وأما رسائله المختصرة وكتبه فلا يحيط بها الإحصاء، وفتاواه- كما قال الناظم- بلغت نحو ثلاثين سفراً.

قوله: هذا وليس يقصر التفسير عن.. إلخ.

هو لم يفسر القرآن مرتباً، ولكنه كتب على كثير من سوره ومواضعه المشكلة1، فله على الاستعاذة، وعلى البسملة وكلامه في الجهر بها، وكتب على قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 وكتب على قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} 3 وعلى قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} 4 وعلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} 5 وعلى قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} وعلى آية الكرسي، وعلى قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 6

1 وقد جمع كلامه على التفسير عبد الرحمن عميرة في كتاب أسماه "التفسير الكبير" وهو مطبوع بدار الكتب العلمية ببيروت.

2 سورة الفاتحة: 5.

3 سورة البقرة: 8.

4 سورة البقرة: 17.

5 سورة البقرة: 21.

6 سورة الشورى: 11.

ص: 494

وعلى قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 1 إلخ. وعلى قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 2 وعلى سورة المائدة، وعلى قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} 3 الآية، وعلى قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} 4.

وعلى سورة يوسف، وعلى سورة النور، وعلى سورة القلم، وأنها أول سورة نزلت، وعلى سورة لم يكن، والكافرون، وتبت، والمعوذتين، وكتب على سورة الإخلاص وغير ذلك.

قوله: وكذا المفاريد التي في كل مسألة إلخ..

منها الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية، وشرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي، وجواب ما أورده كمال الدين الشريشي، وشرح كتاب الغزنوي في أصول الدين، و"الرد على المنطق"5، وكتاب الزواجر، وقاعدة قي القضايا الوهمية، وقاعدة في قياس ما لا يتناهى، وجواب الرسالة الصفدية، وجوابه عن قول بعض الفلاسفة إن معجزات الأنبياء عليهم السلام قوى نفسانية، والرد على ابن سينا في إثبات المعاد، وشرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أحمد في الأصول، وثبوت النبوات عقلاً ونقلاً، والمعجزات والكرامات، وقاعدة في الكليات، والرسالة القبرصية، ورسالته إلى أهل طبرستان وحلان في خلق الروح والنور، والرسالة البعلبكية، والرسالة الأزهرية القادرية البغدادية، وأجوبة القرآن والنطق، وجواب من حلف بالطلاق الثلاث، ورسالة في أن القرآن حرف وصوت، وكتاب في إثبات الصفات والعلو والاستواء، والمراكشية في صفات الكمال والضابط، جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء، جواب من قال لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه، أجوبة كون جهة

1 سورة آل عمران: 18.

2 سورة النساء: 79.

3 سورة المائدة: 6.

4 سورة الأعراف: 172.

5 وأقوم على تحقيقه عن نسخة خطية- يسّر الله إتمامه.

ص: 495

السموات كرية، رسالة في سبب قصد القلوب العلو، جواب كون الشيء في جهة العلو مع كونه ليس بجوهر ولا عرض هل هو معقول أو مستحيل، جواب هل الاستواء والنزول حقيقة، وهل لازم المذهب مذهب، مسألة أهل الأربيلية، شرح حديث النزول، واختلافه باختلاف وقته، وباختلاف البلدان والمطالع، بيان حل إشكال ابن حزم الوارد على الحديث، قاعدة في قرب الرب من عابديه، الكلام على نقض المرشد، المسائل الإسكندرانية، في الرد على الحلولية والاتحادية، رسالة فيما تضمنه فصوص الحكم، جواب في لقاء الله عز وجل، جواب في رؤيا النساء ربهن في الجنة، الرسالة المدنية في إثبات الصفات النقلية الهلاوونية، جواب سؤال ورد على لسان ملك التتار، قواعد في الرد على القدرية والجبرية، جواب في خلق الله الخلق وإنشاء الأيام لعلة أم لا، شرح حديث فحج آدم موسى، تنبيه الرجل العاقل على تمويه المجادل، تناسي الشدائد في اختلاف العقائد، كتاب الإيمان، شرح حديث جبريل في الإيمان والإسلام، رسالة في عصمة الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغونه عن ربهم، مسألة في العقل والروح، مسألة في المقربين هل يسألهم منكر ونكير أم لا، مسألة هل يعذب الجسد مع الروح في القبر أم لا، الرد على أهل الكسروان وهم من الروافض، فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على غيرهما، رسالة في معاوية بن أبي سفيان، تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس، رسالة مختصرة في كفر النصيرية، رسالة في جواز قتال الرافضة، الرد على تقي الدين السبكي في مسألة بقاء الجنة والنار وفي فنائهما، هذه كلها في أصول الدين.

ومن مؤلفاته في أصول الفقه: قاعدة غالبها أقوال الفقهاء، قاعدة كل حمد وذم من الأقوال والأفعال لا يكون إلا بالكتاب والسنة، رسالة في شمول النصوص للأحكام، قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام، جواب في الإجماع والخبر المتواتر، قاعدة في كيفية الاستدلال على الأحكام بالنص والإجماع، والرد على من قال إن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين، قاعدة فيما نص من تعارض النص والإجماع، مؤاخذة على ابن حزم في الإجماع، قاعدة في تقرير القياس، قاعدة في

ص: 496

الاجتهاد والتقليد في الأحكام، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، قاعدة في الاستحسان وفي وصف العموم والإلحاق والإطلاق، قاعدة في أن المخطىء في الاجتهاد لا يأثم، رسالة في أنه هل القاضي يجب عليه تقليد مذهب معين، جواب في ترك التقليد، رسالة فيمن يقول مذهبي مذهب النبي صلى الله عليه وسلم وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة، جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثاً صحيحاً هل يعمل به أم لا، جواب تقليد الحنفي الشافعي في المطر والوتر، رسالة في الفتح على الإمام في الصلاة، تفضيل قواعد مالك وأهل المدينة، تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم، قاعدة في تفضيل الإمام أحمد، جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبياً، جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبداً بشرع من قبله، قواعد أن النهي يقتضي المضادة.

ومن مؤلفاته في الفقه: شرح المحرر في مذهب الإمام أحمد، شرح العمدة لموفق الدين، جواب مسائل وردت من أصبهان، جواب مسائل وردت من الصلت، جواب مسائل وردت من بغداد، جواب مسائل وردت من الزرع، جواب مسائل وردت من طرابلس، قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها، جواب أربعين مسألة وردت من الوجنة، الدرة المضية في فتاوى ابن تيمية، المردانية الطرابلسية، قاعدة في حديث القلتين وعدم رفعه، قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح، جواز الاستجمار مع وجود الماء، نواقض الوضوء، قواعد في عدم نقضه بلمس النساء، رسالة في أن التسمية على الوضوء خطأ، القول بجواز المسح على الخفين، جواز المسح على الخفين المخترقين والجوربين والفائف، وفيمن لا يعطى أجرة الحمام، تحريم دخول النساء بلا مئزر في الحمام والاغتسال وذم الوسواس، جواز طواف الحائض، تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر، كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها في الأذكار، كراهية تقديم بسط السجادة للمصلي قبل مجيئه، الكلم الطيب في الركعتين اللتين تصلى قبل الجمعة وفي الصلاة بعد أذان الجمعة، القنوت في الصبح والوتر، تارك المثاني وكفره، الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر، أهل البدع هل يصلى

ص: 497

خلفهم، صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض، الصلوات المبتدعة، تحريم السماع، تحريم الشبابة، تحريم اللعب بالشطرنج، تحريم الحشيشة المغيبة والحد عليها وتنجيسها، النهي عن المشاركة في أعياد النصارى واليهود وإيقاد النيران في الميلاد ونصف شعبان وما يفعل في عاشوراء، قاعدة في مقدار الكفارة باليمين وفي أن المطلقة ثلاثاً لا تحل إلا بنكاح زوج ثان، بيان الحلال والحرام في الطلاق، جواب من حلف لا يفعل شيئاً على المذاهب الأربعة ثم طلق ثلاثاً في الحيض، الفرق المبين بين الطلاق واليمين، لمعة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف، كتاب التحقيق في الفرق بين أهل الإيمان والتطليق، الطلاق البدعي لا يقع، مسائل الفرق بين الطلاق البدعي ونحو ذلك، مناسك الحج في حجة النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة المكية، في شراء السلاح بتبوك، وشرب السويق بالعقبة، وأكل التمر بالروضة، وما يلبس المحرم، وزيارة الخليل عليه السلام عقب الحج، وزيارة البيت المقدس مطلقاً، جميع أيمان المسلمين مكفرة، بيان الدليل على إبطال التحليل، الرسالة التدمرية، جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال الغيب والأبدال.

من كتبه في أنواع شتى: الكلام على الفتوى المصطلحة، وليس لها أصل متصل بعلي رضي الله عنه، كشف حال الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية، ما يقوله أهل بيت الشيخ عدي، النجوم هل لها تأثير عند القرآن والمقابلة وهل يقبل قول المنجمين فيه رؤية الأهلة، تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصرع الصحيح وصفة الخواتيم، أبطال الكيميا ولو صحت، كتاب السياسة الشرعية، كتاب التصوف، كتاب الاستقامة، كتاب تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، كتاب المحنة المصرية، كتاب الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، الرد على الأخنائي في مسألة الزيارة، طهارة بول ما يؤكل لحمه، الصارم المسلول على منتقص الرسول، كتاب اقتضاء الصراط المستقيم، جواب أهل الإيمان في التفاضل بين آيات القرآن، الرد على البكري في مسألة الاستغاثة، التحرير في مسألة حفير، سفر في مسألة القسمة كتبها اعتراضاً على النحوي في

ص: 498

حادثة حكم فيها، الفرقان بين الحق والبطلان، كتاب الوسيلة، التحفة العراقية في الأعمال القلبية، وله غير ذلك مما يطول ذكره، وجميعها مفصلة ما بين سفر وسفرين وأكثر، مع سلاسة عبارة وذكر دليل ودفع إيراد وكل منها فريد في بابه حري بالتقريظ، ولو تكلمنا على كل واحد منها بما يليق به من الثناء والمدح لاستوجب ذلك إفراد مؤلف منفصل.

وأما انتقاد النبهاني (كتاب الجواب الصحيح) أن الكتاب في غاية النفاسة لو خلا من التعرض لبدعه التي انفرد بها عن المسلمين.. إلخ.

فجوابه: أن ما انتقده هو من محاسن الكتاب وأجل فصوله، فإن الاستغاثة بالمخلوق والاستعانة به والالتجاء به هو الذي كان من غلو أهل الكتاب، وهو مذهب النصارى، فإن عبادة المسيح وأمه عبارة عن ذلك، فلو لم يبطل هذا القول لما ساغ له الرد عليهم، وكذلك الرد على القائلين بالحلول والاتحاد، فإنه لو لم يرد عليهم ويبطل دعواهم ويخرجهم عن الملة لما ساغ له إبطال قول النصارى في دعواهم حلول الإله في المسيح أو الاتحاد به أو نحو ذلك، فإن لقائل أن يقول حينئذ: إن من المسلمين من يقول بأشنع من هذا القول، وهو دعوى الحلول والاتحاد التي أبطلها الشيخ وغيره من العلماء الربانيين المتبعين لما جاء به الشرع المبين، ولعلنا نبسط الكلام على ذلك فيما يناسب المقام، ونذكر كلام من رد عليهم وأبطل دعواهم، ونفصل القول فيهم تفصيلاً، هذا الذي نقمه النبهاني الزائغ وانتقد به كلام الشيخ من أوضح ما يدل على زيغه واتباعه لهواه:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 1 ومثل ما حكى الله عن إخوانه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2.

1 سورة البروج: 8.

2 سورة البقرة: 19- 25.

ص: 499

وما أحسن ما قال القائل:

ومن يك ذا فم مر مريض

يجد مراً به الماء الزلالا

وقال آخر:

تعد ذنوبي عند قومي كثيرة

ولا ذنب لي إلا العلا والفواضل

ولم يعرف النبهاني وأضرابه من الغلاة قدر كتب شيخ الإسلام، وتمنى عدم وجودها وفقدها من العالم، لأنها تبطل ما ذهب إليه من الأقوال الفاسدة، وتهدم بنيان أشياخه، قال تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} 1.

وأهل الحق وذوو البصائر إذا ظفروا بكتاب من كتبه تراهم كأنهم ظفروا بكنز من كنوز العلم، وقد رأيت كتاباً كتب على ظهر ترجمة شيخ الإسلام وبيان مناقبه، وهي:(الدرر البهية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية) للحافظ الشيخ شمس الدين بن عبد الهادي المقدسي. وذلك الكتاب أرسله بعض أفاضل العراق المعاصرين لشيخ الإسلام، وكان من أكابر الشافعية، وهو العلامة الشيخ عبد الله بن حامد وكتابه هذا:

"بسم الله الرحمن الرحيم. من أصغر العباد عبد الله بن حامد، إلى الشيخ الإمام العالم العامل، قدوة الأفاضل والمحافل، المحامي عن دين الله، والذاب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعتصم بحبل الله، الشيخ المكرم المبجل أبي عبد الله أسبغ عليه نعمه، وأيد بإصابة الصواب لسانه وقلمه، وجمع له بين السعادتين، ورفع درجته في الدارين بمنه ورحمته، السلام عليكم ورحمة الله وبركا ته.

أما بعد؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ثم وافاني كتابك وأنا إليك بالأشواق، ولم أزل سائلاً ومستخبراً الصادر والوارد عن الأنباء التي طاب

1 سورة البقرة: 120.

ص: 500

مسموعها، وسر ما يسر منها، وما تأخر كتابي عنك هذه المدة مللاً ولا خللاً بالمودة، ولا تهاوناً بحقوق الإخاء، حاش لله أن يشوب الإخوة في الله جفاء، ولا أزال أتعلل بعد وفاة الشيخ الإمام إمام الدنيا رضي الله تعالى عنه بالاسترواح إلى أخبار تلامذته وإخوانه، وأقاربه وعشيرته، والخصيصين به، لما في نفسي من المحبة الضرورية التي لا يدفعها شيء، على الخصوص لما اطلعت على مباحثه واستدلالاته التي تزلزل أركان المبطلين، ولا يثبت في ميدانها سفسطة المتفلسفين، ولا يقف في حلباتها أقدام المبتدعين من المتكلمين.

وكنت قبل وقوفي على مباحث إمام الدنيا رحمه الله قد طالعت مصنفات المتقدمين ووقفت على مقالات المتأخرين من أهل الإسلام، فرأيت فيها الزخارف والأباطيل، والشكوك التي يأنف المسلم الضعيف في الإسلام أن تخطر بباله فضلاً عن القوي في الدين، فكان يتعب قلبي ويحزنني ما يصير إليه الأعاظم من المقالات السخيفة، والآراء الضعيفة، التي لا يعتقد جوازها آحاد الأمة، وكنت أفتش على السنة المحضة في مصنفات المتكلمين من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله على الخصوص، لاشتهارهم بمنصوصات إمامهم في أصول العقائد، فلا أجد عندهم ما يكفي، وكنت أراهم يتناقضون إذ يؤصلون أصولاً يلزم فيها ضد ما يعتقدونه، ويعتقدون خلاف مقتضى أدلتهم، فإذا جمعت بين أقاويل المعتزلة والأشعرية وحنابلة بغداد وكرامية خراسان أرى أن إجماع هؤلاء المتكلمين في المسألة الواحدة على ما يخالف الدليل العقلي والنقلي، فيسوؤني ذلك وأظل أحزن حزناً لا يعلم كنهه إلا الله، حتى قاسيت من مكابدتي هذه الأمور شيئاً عظيماً لا أستطيع شرح أيسره، وكنت ألتجىء إلى الله سبحانه وتعالى وأتضرع إليه وأهرب إلى ظواهر النصوص، وألقي المعقولات المتباينة والتأويلات المصنوعة لنبوة الفطرة عن قبولها، ثم قد تشبثت فطرتي بالحق الصريح في أمهات المسائل غير متجاسرة على التصريح بالمجاهرة قولاً وتصحيحاً للعقد، حيث لا أراه مأثوراً عن الأئمة وقدماء السلف، إلى أن قدر الله سبحانه وقوع تصنيف الشيخ الإمام إمام الدنيا في يدي قبيل واقعته الأخيرة بقليل، فوجدت فيه ما بهرني في موافقة

ص: 501

فطرتي، لما فيه من عزو الحق إلى أئمة السنة وسلف الأمة مع مطابقة المعقول والمنقول، فبهت لذلك سروراً بالحق، وفرحاً بوجود الضالة التي ليس لفقدها عوض، فصارت محبة هذا الرجل رحمه الله محبة ضرورية تقصر عن شرح أقلها العبارة ولو أطنبت.

ولما عزمت على المهاجرة إلى لقيه وصلني خبر اعتقاله، وأصابني لذلك المقيم المقعد، ولما حججت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة صممت العزم على السفر إلى دمشق لأتوصل إلى ملاقاته ببذل ما أمكن من النفس والمال للتفريج عنه، فوافاني خبر وفاته رحمه الله تعالى مع الرجوع إلى العراق قبيل وصولي إلى الكوفة، فوجدت عليه ما لا يجده الأخ على شقيقه، واستغفر الله بل ولا الوالد الثاكل على ولده، وما دخل على قلبي من الحزن لموت أحد من الولد والأقارب والإخوان كما وجدته عليه رحمه الله تعالى، ولا تخيلته قط في نفسي ولا تمثلته في قلبي إلا ويتجدد لي حزن جديد كأنه محدث، ووالله ما كتبتها إلا وأدمعي تتساقط عند ذكره أسفاً على فراقه وعدم ملاقاته، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وما شرحت هذه النبذة من محبة الشيخ رحمه الله تعالى إلا ليتحقق بعدي عن تلك الوهوم، لكن لما سبق الوعد الكريم منكم بإنفاذ فهرس مصنفات الشيخ رضي الله تعالى عنه وتأخر ذلك عني: اعتقدت أن الإضراب عن ذلك نوع تقية، أو لعذر لا يسعني السؤال عنه، فسكت عن الطلب خشية أن يلحق أحداً ضرر والعياذ بالله بسببي لما كان قد اشتهر من تلك الأحوال، فإن أنعمتم بشيء من مصنفات الشيخ رحمه الله تعالى كانت لكم الحسنة عند الله علينا بذلك، فما أشبه كلام هذا الرجل بالتبر الخالص المصفى، وقد يقع في كلام غيره من الغش والشبه المدلس بالتبر ما لا يخفى على طالب الحق بحرص وعدم هوى، ولا أزال أتعجب من المنتسبين إلى حب الإنصاف في البحث المبرزين على أهل التقليد أن المعقولات التي يزعمون أن مستندهم الأعظم الصريح منها كيف يباينون ما أوضحه الحق وكشف عن قناعه.

ص: 502

وقد كان الواجب على الطلبة شد الرحال إليه من الآفاق ليروا العجب، وما أشبه حال المباينين له- من المنتسبين للعلم الطالبين للحق الصريح الذي أعياهم وجد أنه- بحال قوم ذبحهم العطش والظمأ في بعض المفازاة، فحين أشرفوا على التلف لمع لهم شط كالفرات أو دجلة أو كالنيل، فعند معاينتهم لذلك اعتقدوه سراباً لا شراباً، فتولوا عنه مدبرين، فتقطعت أعناقهم عطشاً وظمأ، فالحكم لله العلي الكبير.

وما أرسلنا المقابلة من الطرفين ففيه تعسف وتمهدون العذر في الإطناب فهذا الذي ذكرته من حالي مع الشيخ كالقطرة من البحر، وإن أنعمتم بالسلام على أصحاب الشيخ وأقاربه كبيرهم وصغيرهم كان ذلك مضافاً إلى سابق إنعامكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأنتم في أمان الله تعالى ورعايته، والحمد لله وحده- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، عبد الله بن حامد".

وأما قول النبهاني: وهذا دأبه في كتبه، ولذلك قلل الله النفع بها، كما جرت عادته فيمن يتعرض لأوليائه بالسوء.. إلخ.

فجوابه: أن من الواجب على العالم أن يظهر علمه وإلا ألجمه الله بلجام من نار، قال تعالى:{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 1.

قال الإمام الشافعي: لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم. وبيان ذلك: أن المراتب أربعة، وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله.

إحداها: معرفة الحق.

الثانية: عمله به.

الثالثة: تعليمه من لا يحسنه.

1 سورة العصر:1- 3.

ص: 503

الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه.

فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر، إلا الذين آمنوا؛ وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به فهذه مرتبة، وعملوا الصالحات؛ وهم الذين عملوا بما علموه من الحق، فهذه مرتبة أخرى. وتواصوا بالحق؛ وصى به بعضهم بعضاً تعليماً وإرشاداً، فهذه مرتبة ثالثة. وتواصوا بالصبر؛ صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضاً بالصبر عليه والثبات، فهذه مرتبة رابعة. وهذا نهاية الكمال، فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل، فهذه السورة على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره، والحمد لله الذي جعل كتابه كافياً عن كل ما سواه، شافياً من كل داء، هادياً إلى كل خير" اهـ.

فعُلِمَ أنه يجب على العالم أن يصدع بالحق وأن كثر المخالفون له، وقد رأى من الحق التنبيه على الفرق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، وقد أطنب الكلام في ذلك. ومما قال:"وقد ظن طائفة غالطة؛ أن خاتم الأولياء يكون أفضل الأولياء قياساً على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن حكيم الترمذي صنف فيه مصنفاً غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدّعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته، كما زعم ذلك ابن العربي صاحب كتاب (الفتوحات) في كتاب (الفصوص) فخالفوا الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله وأولياء الله- كما يقال لمن قال: "فخر عليهم السقف من تحتهم" لا عقل ولا قرآن- وذلك لأن الأنبياء أسبق في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من الأولياء، فكيف يكون الأنبياء كلهم والأولياء يستفيدون معرفة الله ممن

ص: 504

يأتي بعدهم ويدّعي أنه خاتم الأولياء، وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء ثبت بالنصوص الدالة على ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم ولا فخر"1. وقوله: "آتي باب الجنة فاستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك"2. وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم، فكان أحقهم بقوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} 3. إلى غير ذلك من الدلائل.

والأنبياء كلهم يأتيه الوحي من الله لاسيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجاً إلى غيره، فلم تحتج شريعته لا إلى نبي سابق ولا إلى لاحق، بخلاف غيره، فإن المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة، وشريعة التوراة جاء المسيح بتكميلها، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوة المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور، وتمام الأربع والعشرين نبوة، وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى المحدثين، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه لا إلى نبي ولا إلى محدث، جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء، فكان ما فضله الله به من الله- بما أنزل الله وأرسله إليه- لا بتوسط بشر، وهذا بخلاف الأولياء فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون ولياً إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فكل ما حصل له من الهدي ودين الحق بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بلغته رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون ولياً لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسله إليه، ومن ادّعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهو كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم في علم الظاهر دون الباطن، أو في الشريعة دون علم الحقيقة؛ فهو أشر

1 أخرجه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة وابن ماجه (4308) من حديث أبي سعيد الخدري، واللفظ له.

2 أخرجه مسلم (333) .

3 سورة البقرة: 253.

ص: 505

من اليهود والنصارى الذين قالوا إن محمداً رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض ما جاء به وكفروا ببعض، فكانوا كفاراً بذلك، وكذلك هذا الذي يقول إن محمداً بعث بعلم الظاهر دون الباطن، آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض، وهذا كافر أكفر من أولئك، لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة، فإذا ادعى المدعي أن محمداً إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان وأنه لا يأخذ الحقائق من الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول أو من ببعض وأكفر ببعض ولا يدّعي أن هذا البعض الذي آمن به أولى القسمين، وهؤلاء الملاحدة قد يدّعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويلبسون على الناس، ويقولون: إن ولاية محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من نبوته وينشدون:

مقام النبوة في برزخ

فويق الرسول ودون الولي

ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن ولاية محمد صلى الله عليه وسلم لم يماثله فيها أحد، لا إبراهيم، ولا موسى، فضلاً عن أن يماثله فيها هؤلاء الملاحدة، وكل رسول نبي وكل نبي ولي، فالرسول نبي وولي، ورسالته متضمنة للنبوة، ونبوته متضمنة لولايته، فكيف تكون ولايته المتضمنة في نبوته أفضل من نبوته، لداخلة في ولايته؟ وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع، فإنه حال إنباء الله إياه يمتنع أن لا يكون ولياً لله، فلا تكون نبوة مجردة عن ولاية، ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلاً للرسول في ولايته لله، وهؤلاء قد يقولون- كما يقول صاحب الفصوص ابن عربي- إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول، وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة ملاحدة المتفلسفة ثم أخرجوها في قالب الكشف وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا إن الأفلاك قديمة أزلية لها علة شبيهة بهما- كما يقول أرسطو وأتباعه- أولها موجب بذاته- كما يقوله متأخروهم كابن سينا وأمثاله- ولا يقولون إن الرب خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة

ص: 506

أيام، ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته، ولا يعلم الجزئيات، بل إما أن ينكروا علمه مطلقاً- كقول أرسطو- أو يقولون إنما يعلم من الأمور المتغيرة كلياتها كما يقوله ابن سينا.

وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها، فإن كل موجود في الخارج فهو معنى جزئي، والأفلاك كل منها معنى جزئي، وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها، فمن لم يعلم إلا في الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات، والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان، والكلام على هؤلاء قد بسط في موضع آخر في بحث "تعارض العقل والنقل" وغيره، فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل ومشركي العرب، إذ جميع هؤلاء يقولون إن الله خلق السموات والأرض، وأنه يخلق المخلوقات بمشيئته وقدرته، وأرسطو ونحوه من متفلسفة اليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهم لا يعرفون الملائكة ولا الأنبياء، وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك، وإنما غالب علم القوم الأمور الطبيعية، وأما الأمور الإلهية فكلامهم فيها قليل كثير الخطأ.

واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم بالإلهيات منهم بكثير، ولكن متأخروهم كابن سينا أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل، فأخذوا شيئاً من بعض أصول الجهمية والمعتزلة وركبوا منه ومن قول أولئك مذهباً قد يعتزي إليه متفلسفة أهل الملل، وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبه على بعضه في غير هذا الموضع.

وهؤلاء لما رأوا أن أمر الرسل- كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. قد ظهر للعالم واعترفوا بأن الناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ناموس طرق العالم ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن؛ أرادوا أن يجمعوا بين ذلك وبين قول أسلافهم اليونان، الذين هم من أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله، وأولئك قد أثبتوا عقولاً عشرة يسمونها المجردات والمفارقات، وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن، فسموا تلك مفارقة لمفارقتها المادة ومجرد لتجردها عنها، وأثبتوا للأفلاك لكل فلك نفساً، وأكثرهم جعلها أعراضاً، وبعضهم جعلها

ص: 507

جواهر، وهذه المجردات التي أثبتوها ترجع عند التحقيق إلى أمور موجودة في الأذهان لا في الأعيان، كما أثبت أصحاب أرسطو أعداداً مجردة، وكما أثبت أفلاطون المثل الأفلاطونية المجردة، وأثبتوا هيولى1 مجردة عن الصورة مدة وخلاء مجردين، وقد اعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان.

فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبتوا أمر النبوة على أصولهم الفاسدة زعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من اتصف بها فهو نبي: أن يكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية ينال بها العلم بلا تعلم. وأن يكون له قوة تخيلية تخيل ما يعقله في نفسه بحيث يرى في نفسه صوراً ويسمع في نفسه صوتاً كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج، وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله وتلك الأصوات هي كلام الله. وأن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم، وجعلوا كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء وخوارق السحرة من قول النفس، فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم دون قلب العصا حية ودون انشقاق القمر ونحو ذلك فإنهم ينكرون وجود هذا. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع، وبينا أن كلامهم هذا من أفسد كلام، وأن هذا الذي جعلوه من خصائص النبي يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأقل أتباع الأنبياء، وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله، وهم كثيرون، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، وليسوا عشرة، وليسوا أعراضاً، لاسيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو العقل الأول عنه صدر كل ما سواه، فهو عندهم رب كل ما سوى الله.

وكذلك كل عقل رب كل ما دونه، والعقل الفعال العاشر رب كل ما تحت

1 قال شيخ الإسلام في "تفسير سورة الإخلاص"(ص 88) : "الهيولي في لغتهم بمعنى المحل، يقال: الفضلة هيولى الخاتم والدرهم، والخشب هيولى الكرسي، أي: هذا المحل الذي تصنع فيه هذه الصورة، وهذه الصورة الصناعية عرض من الأعراض".

ص: 508

فلك القمر، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل فليس أحد من الملائكة مبدعاً لكل ما سوى الله، وهؤلاء يزعمون أن العقل الأول هو العقل المذكور في حديث يروى:"إن أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر. فقال: وعزتي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب وعليك العقاب" 1 ويسمونه أيضاً القلم لما رأوا أنه قد رُوِيَ: "إن أول ما خلق الله القلم"2. والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أولي المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم والبيهقي، وأبو الحسن الدارقطني، وابن الجوزي وغيرهم، وليس هو في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد عليها، ومع هذا فلفظه لو كان ثابتاً لكان حجة عليهم، فإن لفظه "أول ما خلق الله العقل قال له" ويروى "لما خلق الله العقل قال له". وفي الحديث أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ليس معناه أنه أول المخلوقات، وأول منصوب على الظرف كما قي اللفظ الآخر لما، وتمام الحديث:"ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك". فهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره، ثم قال:"فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وعليك العذاب" فذكر أربعة أنواع من الأعراض، وعندهم أن جميع جواهر العلوي والسفلي صدر عن ذلك العقل فأين هذا من هذا؟!

وسبب غلطهم: أن لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونانيين، فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً كما في القرآن:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 3 وقوله تعالى: {إِنَّ فِي

1 حديث موضوع. أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(1/ 272/ 366) والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 175/ تحت ترجمة رقم: 1169) والبيهقي في "شعب الإيمان"(4/ 157/4645) وغيرهم.

وانظر: "الفوائد المجموعة"(ص 477) .

2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/317) وأبو داود (3375) والترمذي (2244، 3375) وغيرهم، وهو في "الصحيحة" رقم (133) .

3 سورة الملك: 10.

ص: 509

ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 2 ويراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله للإنسان يعقل بها، وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل، وليس هذا مطابقاً للغة الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام، وأما العقول والنفوس فيسميها عالم الأمر، وقد يسمى العقل عالم الجبروت، والنفوس عالم الملكوت، والأجسام عالم الملك، ويظن من لا يعرف لغة الرسول ومعاني الكتاب والسنة أن في القرآن والسنة من ذلك الملك والملكوت والجبروت ما يوافق هذا وليس الأمر كذلك.

وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيساً كثيراً، كإطلاقهم أن الفلك محدث أي: معلول مع أنه قديم عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقاً بالعدم، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي محدثاً، والله سبحانه قد أخبر أنه خالق كل شيء، وكل مخلوق فهو محدث، وكل محدث كائن بعد أن لم يكن، لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حكموا فيها قضايا العقول، فلا للإسلام نصروا، ولا لأعدائه كسروا، وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة، فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك، كما بسط في غير هذا الموضع.

وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبرائيل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الصوفية الذين شاركوا هؤلاء المتفلسفة وزعوا أنهم أولياء الله، وأن الولي أفضل من النبي، وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة، كابن عربي صاحب الفتوحات والفصوص، فقال: إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، والمعدن عنده هو العقل،

1 سورة الرعد: 4.

2 سورة الحج: 46.

ص: 510

والملك هو الخيال، والخيال تابع للعقل، وهو بزعمه يأخذ عن العقل الذي هو أصل الخيال والرسول يأخذ عن الخيال، فلهذا صار عند نفسه فوق النبي، ولو كان خاصة النبي ما ذكروه لم يكن هو من جنسه فضلاً عن أن يكون فوقه، فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين، والنبوة أمر وراء ذلك؟ فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من الصوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل الكلام فضلاً عن أن يكونوا من مشائخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن الأدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثاله.

والله سبحانه قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} إلى قوله: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 1 {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} إلى قوله: {وَيَرْضَى} 2. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3. وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} 4. وقد أخبر أن الملائكة جاءت إبراهيم في صورة البشر، وأن الملك تمثل لمريم بشراً سوياً، وكان جبرائيل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وفي صورة الأعرابي، فرآهم الناس كذلك. وقد وصف جبرإئيل بأنه ذو قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رآه بالأفق المبين،

1 سورة الأنبياء: 26- 29.

2 سورة النجم: 26.

3 سورة سبأ: 22- 23.

4 سورة الأنبياء: 19- 20.

ص: 511

ووصف بأنه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} إلى قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 1.

وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ير جبرائيل في الصورة التي خلق عليها إلا مرتين2، يعني مرة في الأفق الأعلى، والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى، ووصف جبرائيل في مواضع أخر بأنه الروح الأمين، ووصفه بأنه روح القدس، إلى غير ذلك من الصفات التي تبين منها أنه من أعظم مخلوقات الله الأحياء العقلاء، وأنه جوهر قائم بنفسه، ليس خيالاً في نفس النبي كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة المدعون ولاية الله وأنهم أعلم من الأنبياء، وغاية تحقيق هؤلاء إنكار أصول الإيمان، فإن أصول الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحقيقة أمرهم جحد الخالق، فإنهم جعلوا وجود المخلوق، هو وجود الخالق، وقالوا الوجود واحد، ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود كما يشترك الناس في مسمى الإنسان والحيوانات في مسمى الحيوان، ولكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركاً كلياً إلا في الذهن، وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الإنسان ليست هي الحيوانية القائمة بالنفوس، ووجود السموات ليس بعينه وجود الإنسان، فوجود الخالق جل جلاله مباين لوجود مخلوقاته، وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطل الصانع، فإنه لم ينكر هذا الوجود المشهود لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له، وهؤلاء وافقوه في ذلك ولكن زعموا أنه هو الله، فكانوا أضل منه، وإن كان هو أظهر فساداً منهم، ولهذا جعلوا عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، وقالوا: لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف قال أنا ربكم الأعلى وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا ربكم الأعلى بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، قالوا ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قال أقروا له بذلك وقالوا. له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ

1 سورة النجم: 5- 18.

2 انظر البخاري (4574) ومسلم (287) .

ص: 512

إِِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} 1 قالوا: فصح قول فرعون (أنا ربكم الأعلى) وإن كان فرعون على عين الحق.

ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله وباليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة الخاصة من أهل الله وأنهم أفضل من الأنبياء، وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم، وليس هذا موضع بسط بيان إلحاد هؤلاء، ولكن لما كان الكلام في أولياء الله والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكان هؤلاء من أعظم الناس دعوى لولاية الله وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان فنبهنا على ذلك، ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الخيالات الشيطانية، ويقولون ما يقول صاحب الفتوحات بأن أرض الحقيقة هي أرض الخيال، فيعترف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال، والخيال محل تصرف الشيطان، فإن الشيطان يخيل للإنسان الأمور بخلاف ما هي، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} 2. إلى قوله: {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} () . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} إلى قوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} 3. وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} إلى قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} 4. وقال تعالى: {) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} إلى قوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 5.

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن في الحديث الصحيح أنه رأى جبرائيل ينزع

1 سورة طه: 72.

2 سورة الزخرف: 36- 38.

3 سورة النساء: 116- 120.

4 سورة إبراهيم: 22.

5 سورة الأنفال: 48.

ص: 513

الملائكة1. والشياطين إذا رأت ملائكته التي يؤيد بها عباده هربت منهم، والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} 2. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} إلى قوله: {وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} 3. وقال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} 4. وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} 5. وقال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 6.

وهؤلاء تأتيهم أرواح فتخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظن أنها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام، وكان من أول من ظهر من هؤلاء في الإسلام المختار بن عبيد الثقفي، الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سيكون في ثقيف كذاب ومبير"7. فكان الكذاب: المختار بن عبيد الثقفي، وكان المبير: الحجاج بن يوسف. فقيل لابن عمر: أن المختار يزعم أنه ينزل عليه، فقال: صدق، قال تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 8. وقال

1 انظر "الموطأ"(1/422) - كتاب الحج، باب جامع الحج.

2 سورة الأنفال: 12.

3 سورة الأحزاب: 9

4 سورة التوبة: 26.

5 سورة التوبة: 40.

6 سورة آل عمران: 124- 126.

7 أخرجه مسلم (2545) .

8 سورة الشعراء: 221- 222.

ص: 514

الآخر: وقيل له إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} 1.

ومن هذه الأرواح الشيطانية الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه ألقي إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعاً من الخلوات بطعام معين وحال معين، وهذه مما تفتح لصاحبها الاتصال بالجن والشياطين، فيظنون ذلك من كرامات الأولياء وإنما هو من الأحوال الشيطانية، وأعرف من هؤلاء عدداً منهم من كان يحمل إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسترقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السراق يجعل له من الناس أو بعطيتهم له إذا دلهم على سرقاتهم ونحو ذلك.

ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله عليهم كما يوجد من صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأشباه ذلك أنه يمدح الكفار، مثل قوم نوح، وهود، وفرعون وغيرهم، ويتنقص بالأنبياء: بنوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون وغيرهم، ويذم شيوخ المسلمين: كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهما، ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه، كما ذكره في التجليات الخيالية الشيطانية، فإن الجنيد قدس الله سره كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث أي الخالق والمخلوق.

وصاحب الفصوص أنكر هذا، وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له: يا جنيد! هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما؟ فخطأ الجنيد في قوله إفراد المحدث عن القديم، لألن قوله إن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في (فصوصه) : ومن أسمائه الحسنى العلي على من، وما ثم إلا هو وعماذا وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو. إلى أن قال: فهو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر،

1 سورة الأنعام: 121.

ص: 515

وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات.

فيقال لهذا الملحد: ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثاً غيرهما، فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وبين غيره، وليس هو ثالثاً، فالعبد يحرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، واستشهدنا بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطناً وظاهراً، وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم وهو أحذقهم في إلحادهم لما قرىء عليه الفصوص فقيل له: القرآن يخالف قولكم. فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له: إذا كان الوجود واحداً فلم كانت الزوجة حلالاً والأخت حراماً؟ قال: الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم، وهذا مع كفره العظيم تناقض ظاهر، فإن الوجود إذا كان واحد فمن المحجوب ومن الحاجب؟! ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده: من قال لك إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له مريده فمن هو الذي يكذب؟ وقالوا لآخر: هذه مظاهر، فقال لهم: المظاهر غير الظاهر أم هي هو؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالتثنية، وإن كانت هي إياها فلا فرق.

وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر، وبينا حقيقة كل واحد منهم، وأن صاحب الفصوص يقول المعدوم شيء ووجود الحق فاض عليه، فيفرق بين الوجود والثبوت، والمعتزلة الذين قالوا المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه، فإن أولئك قالوا إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجوداً ليس هو وجود الرب، وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليها فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق، وصاحبه القونوي يفرق بين المطلق والمعين لأنه كان أقرب إلى الفلسفة فلم يقر بأن المعدوم شيء، لكن جعل الحق هو الوجود المطلق، وصنف مفتاح غيب الجمع والوجود، وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه، فإن المطلق بشرط الإطلاق- وهو الكلي العقلي- لا يكون

ص: 516

إلا في الأذهان لا في الأعيان، والمطلق لا بشرط شيء- وهو الكلي الطبيعي وإن قيل أنه موجود في الخارج- فلا يوجد في الخارج إلا معيناً، وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج، فيلزمه أن يكون وجود الرب إما متعيناً في الخارج وإما أن يكون عين وجود المخلوقات، وهل يخلق الجزء الكل أم يخلق الشيء نفسه أم العدم يخلق الوجود أو يكون بعض الشيء خالقاً لجميعه، وهؤلاء يفرون من الحلول لأنه يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر، وعندهم الوجود واحداً، ويقولون إن النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله ولو عمموا لما كفروا، وكذلك يقولون في عباد الأصنام إنما أخطؤوا لما اعتقدوا بعض المظاهر دون بعض فلو عبدوا الجميع لما أخطؤوا عندهم، وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم ففيه ما يلزمهم دائماً من التناقض لأنه يقال لهم فمن المخطىء؟ لكنهم يقولون إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق، ويقولون إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق، ويقولون ما قاله صاحب الفصوص فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفاً أو عقلاً أو شرعاً، أو مذمومة عرفاً أو عقلاً أو شرعاً، فليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، وهم مع هذا الكفر لا يندفع عنهم التناقض، فإنه معلوم بالحس والعقل أن هذا ليس هو ذلك، وهؤلاء يقولون ما كان يقوله التلمساني: إنه ثبت عندنا بالكشف ما يناقض صريح العقل، ويقولون من أراد التحقيق- يعني تحقيقهم- فليترك العقل والشرع.

وقد قلت لمن خاطبت منهم: معلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم، وخبرهم أصدق من خبر غيرهم، والأنبياء صلوات الله عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته لا بما يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض العقل الصريح، ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان، سواء كانا عقليين أو سمعيين، أو كان أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، فكيف بمن ادعى كشفاً يناقض

ص: 517

الشرع والعقل، وهؤلاء قد لا يريدون الكذب لكن يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج، وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين، وتكون من تلبيسات الشياطين، وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة يقدمون الأولياء على الأنبياء، ويذكرون أن النبوة لم تنقطع كما يذكر عن ابن سبعين ونحوه، ويجعلون المراتب ثلاثة، يقولون: العبد يشهد أولاً طاعة ومعصية، ثم طاعة بلا معصية، ثم لا طاعة ولا معصية.

والشهود الأول- وهو الشهود الصحيح- هو الفرق بين الطاعات والمعاصي.

وأما الثاني: فيريدون به شهود القدر كما أن بعض هؤلاء يقول أنا كافر برب يعصى، وهذا يزعم أن المعصية مخالفة الإرادة التي هي المشيئة، والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة، ويقول شاعرهم:

أصبحت منفعلاً لما تختاره

مني ففعلي كله طاعات

ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله، كما قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} 1.

وسنذكر الإرادة الكونية والدينية، والأمر الكوني والديني وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية، فبينها الجنيد رحمه الله، فمن اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل، فإنهم تكلموا أن الأمور كلها مشتركة في مشيئته وقدرته وخلقه فيجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهى عنه ويكرهه ويسخطه، ويفرق بين أوليائه وأعدائه، كما قال تعالى:

1 سورة النساء: 13- 14.

ص: 518

{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 1. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 2. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 3. وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} 4.

ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية، وهو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء وإن كانت واقعة بمشيئته، فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم.

والمرتبة الثالثة: أن لا يشهد طاعة ولا معصية، فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن هذا هو غاية التحقيق والولاية لله، وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته، وغاية العداوة لله، فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء، وقد قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 5. ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 6. وقال الخليل لقومه المشركين: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 7. وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ

1 سورة القلم: 35- 36.

2 سورة ص: 28.

3 سورة الجاثية: 21.

4 سورة غافر: 58.

5 سورة المائدة: 51.

6 سورة الممتحنة: 4.

7 سورة الشعراء: 75- 77.

ص: 519

أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 1. وهؤلاء قد صنف بعضهم كتاباً وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسماة بنظم السلوك، ويقول فيها:

لها صلواتي بالمقام أقيمها

وأشهد فيها أنها لي صلت

كلانا مصل واحد ساجد إلى

حقيقته بالجمع في كل سجدة

وما كان لي صلى سواي ولم تكن

صلاتي لغيري في أداء كل ركعة

إلى أن يقول:

وما زلت إياها لهاياي لم تزل

ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

إلا رسولاً كنت مني مرسلاً

وذاتي بآياتي على استدلت

إلى رسولاً كنت مني مرسلاً

وذاتي بآياتي على استدلت

فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن

منادي أجابت من دعاني ونبت

إلى أمثال هذا الكلام، ولهذا كان القائل عند الموت ينشد:

إن كان منزلتي في الحب عندكم

ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفر تنفسي بها زمناً

واليوم أحسبها أضغاث أحلام

فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين له بطلان ما كان يظنه، وهؤلاء ممن قال الله سبحانه فيهم:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} 2. وقد قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فجميع ما في السموات وما في الأرض يسبح الله، ثم قال تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3.

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللهم رب

1 سورة المجادلة: 22.

2 سورة فاطر: 8.

3 سورة الحديد: 1- 3.

ص: 520

السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن؛ أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر"1.

ثم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} 2. فلفظ مع لا تقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطاً بالآخر، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 3 وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} 5.

ولفظة (مع) جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 6.

فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس، والضحاك، وسفيان الثوري، والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم: هو معهم بعلمه.

وأما المعية الخاصة ففي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ

1 أخرجه مسلم (2713) .

2 سورة الحديد: 4.

3 سورة التوبة: 119.

4 سورة الفتح: 29.

5 سورة الأنفال: 75.

6 سورة المجادلة: 7.

ص: 521

مُحْسِنُونَ} 1 وقوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 2. وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 3. يعني: النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق، فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، وهو مع الذين اتقوا وكانوا محسنين دون الظالمين المعتدين، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك، وقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} 4. أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض، كما قال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 5. وكذلك قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} 6. كما قرره أئمة العلم أنه المعبود في السموات والأرض. وأجمع سلف الأمة وأئمتها أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته، يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيوصف بصفات الكمال دون صفات النقص، ويعلم أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في شيء من صفات الكمال، قال الله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 7.

قال ابن عباس: الصمد؛ العليم الذي كمل في علمه. العظيم الذي كمل في عظمته، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته، السيد الكامل في سؤدده.

1 سورة النحل: 128.

2 سورة طه: 46.

3 سورة التوبة: 40.

4 سورة الزخرف: 84.

5 سورة الروم: 27.

6 سورة الأنعام: 3.

7 سورة الإخلاص: 1- 4.

ص: 522

وقال ابن مسعود وغيره: الصمد الذي لا جوف له، والأحد الذي لا نظير له، فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه، واسمه الأحد يتضمن أنه لا مثل له، وقد بسطنا الكلام على ذلك في تفسير هذه السورة وكونها تعدل ثلث القرآن"1 انتهى المقصود نقله من كلام شيخ الإسلام قدس الله

وهذه نبذة مما يتعلق بأهل الحلول والاتحاد. وللشيخ علي القاري، والسعد التفتازاني، والشيخ محمد البخاري، والشيخ عبد الباري، والعلامة عضد الملة والدين، كتب مفردة في الكلام عليهم وردهم، ولعلنا إن شاء الله تعالى نفرد في ذلك كتاباً نذكر فيه جميع ما قاله العلماء الربانيون فيهم، ونذكر بدع أهل الطرائق المبتدعة وما عندهم من المخالفات للشريعة.

والمقصود مما نقلناه كله؛ أن قول النبهاني عن أهل الحلول والاتحاد أنهم أولياء الله كلام دل علي جهله واتباعه لهواه وغيه، وقد ذكر الشيخ على القاري في الرد على الفصوص من المنكرات والأوهام والغلطات ما تقشعر منها الجلود، وقال في آخر كتابه:"وما سبق من المنكرات في كلام ابن عربي لا سبيل إلى صحة تأويلها، فلا يستقيم اعتقاد أنه من أولياء الله مع اعتقاد صدور هذه الكلمات منه إلا باعتقاد أنها لم تصدر عنه، أو أنه رجع إلى ما يعتقده أهل الإسلام في ذلك، ولم يجىء بذلك عنه خبر ولا روي عنه أثر، فذمه جماعة من أعيان العلماء وأكابر الأولياء لأجل كلامه المنكر".

وأما قول النبهاني عن كتب ابن تيمية: أنه بسبب كلامه على القائلين بالحلول والاتحاد وغير ذلك مما يدل على البطلان والفساد قلل الله النفع بها إلخ.

فجوابه: أن الله تعالى لم يقلل الانتفاع بها، بل لم يزل الناس يلتقطون منها درر الفوائد، ويصححون بها أعمالهم والعقائد، وهي كما قال الحافظ ابن القيم تشترى بالغالي من الأثمان في كل عصر وزمان، فأي عالم من العلماء انتفع الناس

1 "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان "(ص 190- 249) .

ص: 523

بكتبه كما انتفعوا بكتب شيخ الإسلام، وذلك من المعلوم بين الخاص والعام، ولكن الأمر كما قيل:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم

وكتب المتأخرين من الحنابلة وغيرهم مشحونة بالنقل عن كتبه، والمنقولات عنها زينة للكتب وغرة محاسنها، وقد أودع الله تعالى فيها خاصية التأثير في القلوب فلا تجد أحداً يطالع فيها إلا وفتح الله عليه أبواب العلوم، وأفاض عليه من زلال عذب منطوقها والمفهوم، إلا من قسى قلبه وكشف حجابه، كما قال تعالى عن كتابه:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1.

قال النبهاني: "ومن كتبه (منهاج السنة) في الرد على الروافض وكتاب (العقل والنقل) في الرد على المتكلمين من أهل السنة، كالأشعري والماتريدي وأصحابهما، وهم معظم الأمة المحمدية. قال: و"منهاج السنة" وإن كان مؤلفاً في الرد على الروافض إلا أنه حشاه بالرد على أهل السنة، والرد على ساداتنا الصوفية ومن يعتقد فيهم، كقوله في جواب قول الرافضي: يجب في كل زمان إمام معصوم- بعد أن بين فساده- وهل هذا إلا أفسد عما يدعيه كثير من العامة في القطب والغوث ونحو ذلك من أسماء يعظمون مسماها بما هو أعظم من مرتبة النبوة من غير تعيين لشخص معين يمكن أن ينتفع به الانتفاع المذكور في مسمى هذه الأسماء، وكما يدّعي كثير منهم حياة الخضر مع أنهم لم يستفيدوا بهذه الدعوى منفعة لا في دينهم ولا في دنياهم، وإنما غاية من يدّعي ذلك أنه يدعي جريان بعض ما يقدر الله على يدي مثل هؤلاء، وهذا مع أنهم لا حاجة لهم إلى معرفته لم ينتفعوا بذلك لو كان حقاً فكيف إذا كان ما يدّعونه باطلاً؟ ومن هؤلاء من يتمثل له الجني في صورة ويقول أنا الخضر ويكون كاذباً، وكذلك الذين

1 سورة البقرة: 26- 27.

ص: 524

يذكرون رجال الغيب ورؤيتهم إنما رأوا الجن وهم رجال غائبون وقد يظنون أنهم إنس، وهذا قد بيناه في مواضع تطول حكايتها مما تواتر عندنا.

قال النبهاني في الاعتراض على الشيخ: وهكذا دأبه في إنكار ما لم يحط بعلمه، وجعله في درجة المستحيلات، مع أنه ثبت عند غيره من جماهير المسلمين- من الأولياء العارفين، والعلماء العاملين، والعباد والصالحين وغيرهم- ثبوتاً لا يحتمل وقوع الشك في صحته، ثم إنه استشهد على صحة دعواه بكلام اليافعي، وابن حجر المكي، ونجم الدين الأصفهاني وأضرابهم من الغلاة".

أقول: جوابه من وجوه:

الأول: إنّا تكلمنا سابقاً عن جميع كتب الشيخ، وذكرنا في مدحها وتقريظها ما ذكرنا، وقلنا إن (منهاج السنة) من أجل كتب الشيخ، وفيه من الفوائد الدينية ما يعز وجود نظيره في غيره، وما أحسن ما قرظ به الأديب الفهامة الشيخ طه بن محمود رئيس التصحيح في المطبعة الكبرى، وهو:

بأقوم منهاج أتى القوم أحمد

فمالي لا أثني عليه وأحمد

إمام حباه الله علماً وحكمة

وقلباً تقياً نوره يتوقد

فقام بأمر الحق في الناس صادعاً

بأوضح برهان له العقل يشهد

وبدد أهواء تجمع شملها

بها ضل قوم والضلال مبدد

أتاهم وهم شتى المذاهب مالهم

من العقل هاد أو من الدين مرشد

أتاهم وليل الرفض والنصب حالك

وقاعدة الطغيان فيهم توطد

أتى معشراً للغي أهدى من القطا

ولم يبصروا طرق الرشاد فيهتدوا

أتى أمة بغض الصحابة دينهم

وسب أبي بكر به قد تعبدوا

فأنكر ماقد خالف الدين والتقى

ومن ديننا إنكار ما ليس يحمد

وأفشى كتاب الله فيهم وأنهم

أباة عن الإذعان للحق شرد

وناضل عن صحب النبي وحزبه

ومن لهم رأي وقول مسدد

فهل مثل هذا الحبر أولى بشكره

على ما أتاه أم تراه يفند

ص: 525

ولكن أعداء الفضائل جمة

وهل ساد إلا ذو الأيادي المحسد

سأشكره دهري عن الناس إذ غدا

عليهم جميعاً لابن تيمية اليد

فلو كان تأليف الفتى مخلداً له

لكان من المنهاج والله مخلد

ولو كان في الدنيا جزاء لمحسن

لكان له فيها النعيم المؤبد

فأسألك اللهم هتان رحمة

على قبره ما لاح في الأفق فرقد

فانتقاد النبهاني على هذا الكتاب أشبه شيء بنبح الكلاب للسحاب، أبان للناس جهله وغباوته وضلاله، وعداوته للدين، وانحرافه عن سبيل المسلمين والمؤمنين.

الوجه الثاني: أن النبهاني انتقد كتاب المنهاج واعترض على مصنفه في إنكاره الخضر، والأقطاب، والأوتاد، ورجال الغيب، وغيرهم مما ابتدعه المتصوفة والغلاة ترويجاً لمقاصدهم، وانتقاده هذا مما لا وجه له، لأن الرافضة لما أوجبوا اللطف على الله ومراعاة الأصلح وأن الأئمة منحصرون بزعمهم في اثني عشر إماماً وهم لا يستوعبون الزمان إلى قيام الساعة؛ لزمهم القول بالمنتظر، مع أن حجج الله لا تقوم بخفي مستور لا يقع العام له على خبر، ولا ينتفعون به في شيء أصلاً، فلا جاهل يتعلم منه، ولا ضال يهتدي به، ولا خائف يأمن به، ولا ذليل يتعزز به، فأي حجة لله قامت بمن لا يرى له شخص، ولا يسمع منه كلمة، ولا يعلم له مكان؟ ولاسيما على أصول القائلين به، فإن الذي دعاهم إلى ذلك؛ أنهم قالوا لا بد منه في اللطف بالمكلفين وانقطاع حجتهم عن الله، فيالله العجب أي لطف حصل بهذا المعدوم لا المعصوم؟ وأي حجة أثبتم للخلق على ربهم بأصلكم الباطل؟ فإن هذا المعدوم إذا لم يكن لهم سبيل قط إلى لقائه والاهتداء به فهل في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟ وهل في العذر والحجة أبلغ من هذا؟ فالذي فررتم منه وقعتم في شر منه، وكنتم في ذلك كما قيل:

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار

ولكن أبى الله إلا أن يفضح من تنقّص بالصحابة الأخيار، وبسادة هذه الأمة

ص: 526

الأبرار، وأن يُريَ الناس عورته، ويغريه بكشفها ونعوذ بالله من الخذلان، ولقد أحسن القائل:

ما آن للسرداب أن يلد الذي

ثلثتموه بزعمكم ما آن

فعلى عقولكم العفاء فإنكم

ثلثتم العنقاء والغيلانا

ولقد بطلت حجج استودعها مثل هذا الغائب وضاعت أعظم ضياع، فهم أبطلوا حجج الله من حيث زعموا حفظها.

فلما رد الشيخ على ابن المطهر الحلي القول بالمنتظر على أحسن وجه: أراد سد أبواب طرق مناظرتهم وحجاجهم ومعارضتهم على الخضر والأقطاب والأوتاد ونحوهم، وأبطل القول بوجودهم، وأنه ليس من الدين في شيء، ولولا ذلك لأمكن أن يقولوا إن القول بالمنتظر كالقول بالخضر والقطب والبدل والوتد وغيرهم، لاسيما وحياة الخضر أطول بكثير، والقائلون به أكثر، فما هو جوابكم فهو جوابنا، فكان من الواجب على الشيخ بيان الحقيقة في ذلك، وإقامة الدليل على نفي وجودهم، وكيف يمكن مخاصمة الروافض في المهدي المنتظر وإنكاره مع القول بحياة الخضر وإثبات الأقطاب ونحوهم، فلا شك أن انتقاد النبهاني هنا في غاية السقوط.

الوجه الثالث: اعتراض النبهاني على الشيخ في تعرضه لبعض من يزعم أنه من أهل السنة من الأشعرية والماتريدية وساداته الصوفية.

فنقول: إن الشيخ تكلم على كل من ابتدع وأحدث في الدين ما ليس منه، ولم يتخوف من الأسماء، فمن خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة فهو ممن اتبع غير سبيل المؤمنين، فكيف لا يرد على المخالفين، وكل آخذ يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال ذلك إمام دار الهجرة، وسنتكلم إن شاء الله تعالى على السنة وما هي ومن أهلها ليعلم ما في كلام النبهاني من الجهل والغلط.

الوجه الرابع: أن القول بوجود الخضر وحياته والاعتقاد برجال الغيب وأمثاله؛ إن كان من واجبات الشريعة وأركان الديانة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه

ص: 527

ورسله واليوم الآخر ووجود الجن ونحو ذلك مما وردت نصوص الكتاب والسنة به، فلِمَ لم ينصّ عليها في القرآن ولم يرد فيها حديث صحيح؟ فإذا سأل رب العالمين عبداً من عباده وقال له: لم لم تؤمن بحياة الخضر الأبدية، وكذّبت بالأقطاب والأوتاد والأبدال؟ ونحوهم مما قال به الصوفية! ثم أجابه بقوله: يا رب العالمين، ويا خالق السموات والأرضين؛ إنك كلفت الناس أن يؤمنوا بك وإن لم تَرَكَ العيون ولم تحط بك الظنون، ولكن نصبت لهم دلائل في الآفاق والأنفس على وجودك عدا ما ورد من النصوص على لسان أنبيائك ورسلك، وأودعت في كل شيء آية تدل على أنك الواحد، بل كل ذرة من ذرات العوالم هي أعدل شاهد، ثم إنك ملأت كتابك الكريم من ذكر الملائكة والرسل والجن وغير ذلك مما لم نره، ثم إن نبيك صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء كلهم أخبروا بذلك، فلذلك اعترفنا وصدقنا بما ذكر، وأما الخضر ومن ذكر معه فلم نر في كتابك الكريم آية تدل على خلوده ولا وجوده ووجودهم، وأما ما رواه الكذابون عن نبيك صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال المحققون من أهل العلم: إنها كذب لا أصل لها، بل الوارد خلاف ذلك، فكيف يا إلهي أؤمن بأمور موهومة وأشخاص غير معلومة؟ وقد أنعمت علي بعقل أزن فيه الأمور وأجعله حكماً عدلاً، ودليلاً هادياً إذا أعضلت علي المقاصد، فإذا لم أنتفع يا إلهي بما أنعمت علي من نعمة العقل أكون إذاً كالنبهاني الغبي أخبط خبط عشواء ولا أفرق بين السماء والماء.

ثم أقول: إلهي! ما فائدة القول بوجود الخضر والأقطاب والأبدال ونحوهم؟ لا جاهل يستفيد منهم العلم بدينه، ولا مظلوم يستصرخهم على دفع ظلمه، والشمس أنت تطلعها وتغيبها، والفلك أنت تديره، والقمر أنت تنيره، والكواكب أنت جعلتها زينة للسماء وحفظاً من كل شيطان ما رد، والسحاب أنت تنشئه، والغيث أنت تغيث به عبادك، والمريض أنت تشفيه، والجائع أنت تطعمه، والعطشان أنت تسقيه، وقد أودعت كتابك كل علم، وبيان كل حكم، وأنزلت:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 1 فالخضر وغيره حينئذ ماذا يفعلون إذا لم تكن لهم

1 سورة المائدة: 3.

ص: 528

وظيفة وعمل؟ والله المستعان على ما يصفون.

الوجه الخامس: أدن النبهاني وأضرابه استدلوا على وجود من ذكر بقول ابن حجر المكي ونحوه، ومن المعلوم أن كلام أمثال هؤلاء لا يفيد في هذا الباب شيئاً، وقد تقدم أن العمدة عند أهل العلم في مسائل أصول الدين وفروعه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم من هذه الأمة، ولا تذكر أقوال أهل العلم إلا تبعاً وبياناً، لا أنها المقصودة بالذات والأصالة.

ثم المسائل التي لا يلزم بها المجتهد غيره هي ما كان للاجتهاد فيه مساغ، ولم تخالف كتاباً ولا سنة صريحة ولا إجماعاً، وما خالف ذلك فهو مردود على قائله، ويلزمه أهل العلم بصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

قال إمام دار الهجرة مالك ابن أنس رحمه الله تعالى: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر"- يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحس منه قوله الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله؛ ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه"2. فإذا كان رد السنة محرماً لا يجوز ولو ردها ظاناً أن القرآن لا يدل عليها؛ فكيف رد الكتاب والسنة وعدم الإلزام بهما لخلاف أحد من الناس كائناً من كان؟!

والمقصود؛ أن النبهاني وأضرابه لم يورودا على إثبات مقصدهم بدليل يليق أن يتلقى بالقبول، وابن حجر المكي ونحوه من الغلاة هم خصوم الحق وأعداؤه، فكيف يسوغ أدن نستدل بكلامهم على ما لا يقول به أهل الحق؟!

1 سورة النساء: 59.

2 حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/130- 131) وأبو داود (4604) وغيرهما، من حديث المقدام بن معدي كرب. وهو مروي عن جمع من الصحابة.

انظر: "الصحيحة"(2870) .

ص: 529

الوجه السادس: أن ما ذكره الشيخ لم يذكره الخصم بتمامه، بل حرف فيه وغيَّرَ، وحذف منه ما يجب ذكره، ونحن ننقل هنا ما وجدناه من كلامه في مواضع متفرقة، وإذا جمعت في موضع واحد وتبين دليلها سلم المنصف كلامه وسقط عنده قول من أنكر عليه من الغلاة السالكين غير سبيل المؤمنين، ومن الله التوفيق:

قال شيخ الإسلام- رحمه الله في أثناء جواب سؤال سأله بعضهم عن الاستغاثة بأهل القبور والنذر لهم ونحو ذلك1-: "وأما سؤال السائل عن القطب الغوث الفرد الجامع: فهذا قد يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام، مثل تفسير بعضهم أن الغوث الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى قد يقولون إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته، فهذا من جنس قول النصارى في المسيح والغالية في عليّ عليه السلام، وهذا كفر صريح يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإنه ليس من المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته، ولهذا كان ما يقوله الفلاسفة في العقول العشرة التي قد يزعمون أنها الملائكة، وما يقوله النصارى في المسيح، ونحو ذلك؛ كفراً صريحاً باتفاق المسلمين، وكذلك إن عني بالغوث ما يقول بعضهم إن في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وقد يسميهم النجباء، فينتقى منهم سبعون هم النقباء، ومنهم أربعون هم الأبدال، ومنهم سبعة هم الأقطاب، ومنهم أربعة هم الأوتاد، ومنهم واحد هو الغوث، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابتهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا للثلاثمائة والبضعة عشر رجلاً، وأولئك يفزعون إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد.

وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب، فإن لهم فيها مقالات متعددة، حتى يقول بعضهم أنه ينزل من السماء على الكعبة ورقة خضراء باسم غوث الوقت واسم خضره على قول من يقول إن الخضر هو مرتبه،

1 "مجموعة الفتاوى"(27/ 56- وما بعدها) الطبعة الجديدة.

ص: 530

وأن لكل زمان خضراً فإن لهم في ذلك قولين.

وهذا كله باطل لا أصل له لا في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا من الشيوخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً كانوا خير الخلق في زمنهم وكانوا بالمدينة ولم يكونوا بمكة، وقد روى بعضهم حديثاً في هلال غلام المغيرة بن شعبة وأنه أحد السبعين، والحديث كذب باتفاق أهل المعرفة، وإن كان قد روى بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في "حلية الأولياء"1 والشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في بعض مصنفاته، فلا نغتر بذلك فإنه يروي الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والكذب. ولا خلاف بين العلماء في أنه كذب موضوع، وتارة يروونه على عادة أهل الحديث الذين يروون ما سمعوه ولا يميزون بين صحيحه من باطله، وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذّابين"2.

وبالجملة؛ فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل في الرغبة والرهبة- مثل دعائهم عند الكسوف والاعتداد لدفع البلاء وأمثال ذلك- إنما يدعون في مثل ذلك الله وحده، لا يشركون به شيئاً، لم يكن للمسلمين أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله، بل كان المشركون في جاهليتهم يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله، أفتراه بعد التوحيد الإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} 3 الآية، وقال:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 4 الآية. وقال تعالى:

1 "الحلية"(2/24) .

2 أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/9) .

3 سورة يونس: 12.

4 سورة الإسراء: 67.

ص: 531

{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} 1 الآية، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} إلى قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.

والنبي صلى الله عليه وسلم استسقى لأصحابه بصلاة الاستسقاء وبغير صلاة، وصلى بهم للاستسقاء وصلاة الكسوف، وكان يقنت في صلاته فيستنصر على المشركين، كذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكذلك أئمة الدين، ومشائخ المسلمين؛ ما زالوا على هذه الطريقة، ولهذا يقال ثلاثة أشياء مالها من أصل: باب النصيرية، ومنتظر الرافضة، وغوث الجهال. فإن النصيرية تدّعي في الباب الذي لهم ما هو من هذا الجنس، وأنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود، لكن دعوى النصيرية فيه باطلة، وأما محمد بن الحسن المنتظر، والغوث المقيم بمكة، ونحو هذا؛ فإنه باطل ليس له أصل في الوجود ولا وجود، وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم ونحو هذا فهذا باطل، فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله وعددهم، فكيف بهؤلاء الضالين المفترين الكذّابين؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن يراهم بسيما الوضوء وهو الغرة والتحجيل، ومن هؤلاء من أولياء الله مالا يحصيه إلا الله، وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم، بل قال الله تعالى له:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 3. وموسى لم يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر وإني بأرضك السلام؟ فقال له: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم. فكان قد بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه. ومن قال: إنه نقيب الأولياء وأنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل.

والصواب الذي عليه المحققون، أنه ميت4، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو

1 سورة الأنعام: 40.

2 سورة الأنعام: 42- 43.

3 سورة غافر: 78.

4 انظر "مظاهر الانحراف العقدية عند الصوفية" لأبي عبد العزيز إدريس محمود إدريس (2/ 531- وما بعدها) ط. مكتبة الرشد بالرياض.

ص: 532

كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه، كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون بمكة والمدينة، وكان يكون حضوره مع الصحابة رضي الله عنهم للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى له من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم، ولم يكن عن خير أمة خرجت للناس مختفياً، وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم.

ثم ليس للمسلمين به وبأمثاله حاجة لا في دينهم ولا دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، الذي علمهم الكتاب والحكمة، وقال لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم:"لو كان موسى حية ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم"1. وعيسى ابن مريم إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر أو غيره والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم بنزول عيسى من السماء، وحضوره مع المسلمين، وقال: "كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى فني آخرها"2. فإذا كان هذان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل ومحمد صلى الله عليه وسلم ولد آدم ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لعوامهم ولا خواصهم فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟ وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قط؟ ولا أخبر به أمته ولا خلفاءه الراشدين.

وقول القائل: إنه نقيب الأولياء. فيقال: من ولآه النقابة؟ وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وليس فيهم الخضر، وعامة ما يحكى في هذا الباب من حكايات " بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجال، مثل شخص رأى رجلاً ظن أنه الخضر أو قال إنه خضر، كما أن الرافضة ترى شخصاً تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدّعي ذلك، وروي عن الإمام أحمد أنه قال- وقد ذكر له الخضر- من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسن الناس إلا شيطان، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

1 أخرجه أحمد (3/ 471) أو رقم (15908) بإسناد ضعيف.

2 لا يصح؛ وانظر "كنز العمال"(38682) .

ص: 533

أما إذا قصد القائل بقوله القطب الغوث الفرد الجامع، أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه فهذا ممكن، لكن من الممكن أن يكون في الزمان اثنان متساويان في الفضل وثلاثة وأربعة، ولا يجزم بأن لا يكون في كل زمان أفضل الناس إلا واحداً، وقد يكون جماعة بعضهم أفضل من بعض من وجوه، وتلك الوجوه إما متقاربة أو متساوية، ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان، فتسميته الغوث الفرد الجامع بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تكلم بها أحد من سلف الأمة وأئمتها، وما زال السلف يظنون في بعض أنه أفضل أو من أفضل أهل زمانه ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، لاسيما من المنتحلين لهذا الاسم من يدّعي أن أول هؤلاء الأقطاب هو الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، ثم يتسلسل الأمر إلى ما دونه إلى بعض المشايخ المتأخرين، وهذا لا يصح على مذهب أهل السنة، ولا على مذهب الرافضة، فأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والسابقون من المهاجرين والأنصار؟ والحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد كان قارب سنه الاحتلام، وقد حكي عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا الاسم؛ أن القطب الفرد الغوث الجامع ينطبق علمه على علم الله، وقدرته على قدرة الله، فيعلم ما يعلمه، ويقدر على ما يقدر عليه الله، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك، وأن هذا انتقل منه إلى الحسن، فتسلسل إلى شيخه" فبينتا له أن هذا كفر صريح، وجهل قبيح، وأن دعوى هذا في رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر دع من سواه، وقد قال تعالى:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} 1 وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 2 الآية. وقال تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} 3. وقال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ

1 سورة الأنعام: 50.

2 سورة الأعراف: 188.

3 سورة آل عمران: 154.

ص: 534

فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} 1 والآية بعدها. وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2.

والله تعالى قد أمرنا أن نطيع رسوله فقد قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 3. وأمرنا أن نتبعه، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 4. وأمرنا أن نعززه ونوقره وننصره، وجعل له من الحقوق ما بينه في كتابه وسنة رسوله حتى أوجب علينا أن يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا، فقال تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 5. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {الْفَاسِقِينَ} 6.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أن أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وقال له عمر رضي الله عنه: يا رسول الله؛ والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال:"لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال: فأنت أحب إلي من نفسي، قال:"الآن يا عمر"7. وقال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"8. وقد بين في كتابه الحقوق التي لا تصلح إلا له، وحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض- كما قد بسطنا دلك في غير هذا الموضع- وذلك مثل قوله تعالى: {وَمَن

1 سورة آل عمران: 127- 128.

2 سورة القصص: 56.

3 سورة النساء: 80.

4 سورة آل عمران: 31.

5 سورة الأحزاب: 6.

6 سورة التوبة: 24.

7 تقدم تخريجه.

8 تقدم تخريجه.

ص: 535

يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 1. فالطاعة لله والرسول، والخشية والتقوى لله وحده، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 2 فالإيتاء لله وللرسول، كقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.

وأما التحسب فهو لله وحده، كما قالوا حسبنا الله ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4 أي: يكفيك ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو المقطوع به في معنى هذه الآية، ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام "حسبنا الله ونعم الوكيل".

الوجه السابع: في بيان حجج المنكرين لحياته- أعني الخضر- اليوم، ودلائل خصومهم، وبيان الحق الحقيق بالقبول من القولين.

اعلم أن العلماء اختلفوا في حياته اليوم كما اختلفوا في نبوته، فذهب جمع إلى أنه ليس بحي اليوم، وسئل البخاري عنه وعن إلياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فقال: كيف يكون هذا؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أي قبل وفاته بقليل: "لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد"5. والذي في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته: "ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية"6 وهذا أبعد عن التأويل. وسئل عن ذلك غيره من الأئمة

1 سورة النور: 52.

2 سورة التوبة: 59.

3 سورة الحشر: 7.

4 سورة الأنفال: 64.

5 "صحيح البخاري"(1/ 255- فتح) .

6 أخرجه مسلم (2538، 2539) .

ص: 536

فقرأ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} 1.

وسئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: لو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهد بين يديه ويتعلم منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر:"اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"2 فكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، فأين كان الخضر حينئذ؟!

وسُئِلَ إبراهيم الحربي عن بقائه، فقال: من أحال على غائب لم ينصف وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان3.

ونقل في البحر عن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي القول بموته أيضاً. ونقله ابن الجوزي عن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما أيضاً. وكذا عن إبراهيم بن إسحق الحربي، وقال أيضاً: كان أبو الحسين بن المنادي يقبح قول من يقول إنه حيّ. وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب محمد.

وكيف يعقل وجود الخضر ولا يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة والجماعة، ولا يشهد معه الجهاد مع قوله عليه الصلاة والسلام:"والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني"4؟ وقوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 5 وثبوت أن عيسى عليه السلام إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف أمام هذه الأمة، ولا

1 سورة الأنبياء: 34.

2 جزء من حديث أخرجه مسلم (1763) .

3 انظر "روح المعاني "(10/320) .

4 أخرجه أحمد (3/387) أو رقم (15199- قرطبة) وحسّنه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل"(6/34/1589) بشواهده.

5 سورة آل عمران: 81.

ص: 537

يتقدم عليه في مبدأ الأمر، وما أبعد فهم من يثبت وجود الخضر وينسى ما في طي إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة. ثم قال: وعندنا من المعقول وجوه على عدم حياته:

أحدها: أن الذي قال بحياته قال إنه ابن آدم عليه السلام لصلبه، وهذا فاسد لوجهين. الأول: إنه يلزم أن يكون عمره اليوم ستة آلاف سنة أو أكثر، ومثل هذا بعيد في العادات في حق البشر. والثاني: أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من أولاده- كما زعموا أنه وزير ذي القرنين- لكان مهول الخلقة مفرط الطول والعرض، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خلق آدم وطوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص بعده"1. وما ذكر أحد ممن يزعم رؤية الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة، وهو من أقدم الناس.

والوجه الثاني: أنه لو كان الخضر قبل نوح عليه السلام لركب معه في السفينة، ولم ينقل هذا أحد.

الثالث: أن العلماء اتفقوا على أن نوحاً عليه السلام لما خرج من السفينة مات من معه ولم يبق غير نسله ودليل ذلك قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} 2.

الرابع: أنه لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لكان ذلك من أعظم الآيات والعجائب، وكان خبره في القرآن مذكوراً في مواضع، لأنه من آيات الربوبية، وقد ذكر سبحانه عز وجل من استحياه ألف سنة إلا خمسين عاماً وجعله آية، فكيف لا يذكر جل وعلا من استحياه أضعاف ذلك؟!

الخامس: أن القول بحياة الخضر قول على الله تعالى بغير علم، وهو حرام بنص القرآن، أما المقدمة الثانية فظاهرة، وأما الأولى: فلأن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن أو السنة أو إجماع الأمة، فهذا كتاب الله تعالى فأين فيه حياة

1 أخرجه البخاري (3326، 6227) ومسلم (2841) .

2 سورة الصافات: 77.

ص: 538

الخضر؟ وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين ما يدل على ذلك بوجه؟ وهؤلاء علماء الأمة فمتى أجمعوا على حياته؟.

السادس: أن غاية ما يتمسك به في حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر، فيالله تعالى العجب هل للخضر علامة يعرفه بها من رآه؟ وكثير من زاعمي رؤيته يغتر بقوله أنا الخضر، ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله تعالى، فمن أين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب؟

السابع: أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه، وقال:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} 1 فكيف يرضى لنفسه بمفارقة مثل موسى عليه السلام ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة، الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم. وكل منهم يقول: قال لي الخضر، جاءني الخضر، أوصاني الخضر؟ فيا عجباً له يفارق الكليم، ويدور على صحبة جاهل لا يصحبه إلا شيطان رجيم، سبحانك هذا بهتان عظيم!.

الثامن: أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر لو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا لم يُلْتَفَتْ إلى قوله، ولم يحتج به في الدين ولا مخلص للقائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول إنه لم يأت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بايعه، أو يقول إنه لم يرسل إليه، وفي هذا من الكفر ما فيه.

التاسع: أنه لو كان حياً لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل الله تعالى ومقامه في الصف ساعة، وحضوره الجمعة والجماعة، وإرشاد جهلة الأمة؟ أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات إلى غير ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ماله وما عليه.

وشاع الاستدلال بخبر: "لو كان الخضر حياً لزارني" وهو كما قال الحفاظ: خبر موضوع لا أصل له. ولو صحّ لأغنى عن القيل والقال، ولأنقطع به الخصام والجدال.

1 سورة الكهف: 78.

ص: 539