الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرئيس-: أو ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره؛ ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني" فأنزل الله تعالى الآية1 انتهى.
وأظن أن النبهاني لا يفرق بين البدعة والسنة، ولا ما يطلق عليه كل واحدة منهما، بل لا يعرف الإيمان من ضده، ولذلك سمى ابن تيمية مبتدعاً، وسمى نفسه وأضرابه مؤمناً ومن أهل السنة، وقُل له منشداً:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم
…
ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وقل له:
أيها المدّعي لسلمى انتساباً
…
لست منها ولا قلامة ظفر
ولا بد من الكلام على البدعة حتى يعلم بعد معرفتها من المبتدع الذي أطلقه على شيخ الإسلام.
1 أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(6/539/7296- ط. شاكر) وابن أبي حاتم (2/693/3756) والبيهقى في "دلائل النبوة"(5/384) وهو في "السيرة النبوية" لابن هشام (1/554) .
(كلام مفيد في تعريف البدعة)
2.
اعلم أن البدعة لغة: المحدثة مطلقاً. واصطلاحاً: إذا قوبلت بالسنة يراد بها المحدثة في الدين، إما بزيادة أو نقصان، وهي السيئة التي ليس لها أصل ظاهر من الكتاب والسنة أو سند صحيح استنبطه علماء الأمة. فأما ما كانت حسنة ناشئة عن هذه الأصول فهي قد تكون مباحة، كالمواظبة على أكل لب الحنطة مثلاً، وقد تكون مستحبة كبناء المنارة وتصنيف الكتب، وقد تكون واجبة كنظم الدلائل لرد
2 انظر في ذلك: "الاعتصام" للشاطبي فقد أفاد وأجاد و"حقيقة البدعة وأحكامها" للغامدي. ط. مكتبة الرشد. و"علم أصولالبدع" للشيخ علي الحلبي. و"الإبداع" للشيخ علي محفوظ، وغيرها.
كيد الملاحدة وشبه الفرق الضالة. وقد وقع من ذلك عن الصحابة شيء كثير، كما وقع لأبي بكر وعمر، ولزيد بن ثابت في جمع القرآن، فإن عمر أشار به على أبي بكر خوفاً من اندراس القرآن بموت الصحابة رضوان الله عليهم لما كثر فيهم القتل يوم اليمامة وغيره، فتوقف أبو بكر لكونه صورة بدعة، ثم شرح الله صدره لفعله لأنه ظهر له أنه يرجع إلى الدين وأنه غير خارج عنه. ولما دعا زيد بن ثابت وأمره بالجمع قال له: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: والله إنه حق.
وكما وقع لعمر في جمع الناس لصلاة التراويح في المسجد مع تركه صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن كان فعله ليالي، وقال:"نعمت البدعة هي" لأنها وإن سماها بدعة باعتبار معناها اللغوي فليس فيها رد لما مضى وزيادة في الدين، بل هي من الدين لأنه صلى الله عليه وسلم علّل الترك بخشية الافتراض وقد زال بوفاته صلى الله عليه وسلم، ومنشأ الذم ما قاد إلى شيء من مخالفة السنة ودعا إلى الضلالة1.
ثم قال الفاضل السويدي: والقول الفصل الموضح لما تقدم هو أن البدعة لها معنيان: (أحدهما) لغوي، وهو المحدث مطلقاً سواء من العادات أو العبادات. (وثانيهما) شرعي؛ وهو الزيادة في الدين أو النقصان منه من غير إذن من الشارع، لا قولاً ولا فعلاً ولا تصريحاً ولا إشارة. فالبدعة التي هي ضلالة كما في الحديث؛ هي بحسب معناها الشرعي، فيقتصر بها على غير العادات من العبادات التي هي لأصول الشريعة من الكتاب والسنة والإذن من الشارع مخالفات، فالمنارة عون لأعلام وقت الصلاة، وتصنيف الكتب عون للتعليم، ونظم الدلائل لرد الشبه ذب عن الدين، فكل ذلك مأذون فيه، لأن البدعة الحسنة2 ما لم يحتج إليه الأوائل واحتاج إليه الأواخر، وعند الاستقراء لا توجد
1 وافقه هذا جيداً لتعلم ضلال وانحراف من كان دينهم مبنياً على البدع، ثم بعد ذلك يتهمون الفاروق عمر رضي الله عنه بأنه ابتاع في الدين!.
وانظر: "الاعتصام" للشاطبي (1/45، 323- 326، و 3/7- ط. الشيخ مشهور) .
2 الصواب أن يقال في الأمثلة المضروبة أنها من باب (المصالح المرسلة) . أما لفظ البدعة الحسنة فهو غير حسن لأن: "كل بدعة ضلالة" كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم.
هذه البدعة في العبادات البدنية المحضة كالصوم والصلاة والذكر والقراءة، بل لا تكون البدعة فيها إلا سيئة.
قال صاحب "مجالس الأبرار" ما ملخصه: لأن عدم وقوع الفعل في الصدر الأول إما لعدم الحاجة إليها، أو لوجود مانع، أو لعدم تنبه، أو لتكاسل، أو لكراهة، أو لعدم مشروعية. والأولان منتفيان في العبادات البدنية المحضة، لأن الحاجة في التقرب إلى الله تعالى لا تنقطع، وبعد ظهور الإسلام لم يكن منها مانع، ولا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم التنبه أو التكاسل، فذاك أسوأ الظن المؤدي إلى الكفر، فلم يبق إلا كونها سيئة غير مشروعة.
وكذلك يقال لك من أتى في العبادات البدنية المحضة بصفة لم تكن في زمن الصحابة، إذ لو كان وصف العبادة في الفعل المبتدع يقتضي كونه بدعة حسنة لما وجد في العبادات ما هو بدعة مكروهة، ولما جعل الفقهاء مل صلاة الرغائب والجماعة فيها، ومثل أنواع النغمات الواقعة في الخطب وفي الأذان، وقراءة القرآن في الركوع مثلاً والجهر بالذكر أمام الجنازة من البدع المنكرة، فمن قال بحسنها قيل له: ما ثبت حسنه بالأدلة الشرعية؛ فهو إما غير بدعة فيبقى عموم العام في حديث: "كل بدعة ضلالة". وحديث: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"1 على حاله، أو يكون مخصوصاً من هذا العام، والعام المخصوص دليل فيما عَدَا ما خُصّ منه، فمن ادّعى الخصوص فيما أحدث أيضاً احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص من كتاب أو سنة أو إجماع مختص بأهل الاجتهاد، ولا نظر للعوام ولعادة أكثر البلاد فيه، فمن أحدث شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى من قول أو فعل فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فعلم أن كل بدعة في العبادات البدنية المحضة لا تكون إلا سيئة.
والحاصل أن كل ما أحدث ينظر في سببه؛ فإن كان لداعي الحاجة بعد أن لم
1 أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) .
يكن- كنظم الدلائل لرد الشبه التي لم تكن في عصر الصحابة، أو كان وقد ترك لعارض زال بموت النبي صلى الله عليه وسلم كجمع القرآن؛ فإن المانع منه كون الوحي لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء وقد زال- كان حسناً، وإلا فإحداثه بصرف العبادات البدنية القولية والفعلية تغيير لدين الله تعالى، مثلاً الأذان في الجمعة سنة، وقبل صلاة العيد بدعة، ومع ذلك فإنه يدخل في عموم قوله تعالى:{اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} 1. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} 2. فيقول قائل: هذا زيادة عمل صالح لا يضر. فإنه يقال له: هكذا تتغير شرائع الرسل، فإن الزيادة لو جازت لجاز أن يصلي الفجر أربعاً والظهر ستاً. ويقال: هذا عمل صالح زيادته لا تضر، لكن أهل السنة يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الفعل والترك، فإن الله تعالى قد بين لنا الشرائع وأتم لنا الدين، فهذا هو من غير زيادة أو نقص، فالزيادة عليه كالنقصان، فنعبده بما شرع، ولا نعبده بالبدع، فعقولنا عن مثل ذلك قاصرة، وآراؤنا إذاً كاسدة خاسرة، والعقول لا تهتدي إلى الأسرار الإلهية، فيما شرعه من الأحكام الدينية، أو ما ترى كيف نوديت إلى الصلاة دائماً، ونهيت عنها في الأوقات الخمسة، وذلك ينتهي إلى قدر ثلث النهار، فينبغي لك أن تكون حريصاً على التفتيش عن أحوال الصحابة وأعمالهم فهم السواد الأعظم، ومنهم يعرف الحسن من القبيح، والمرجوح من الرجيح، وإذا وقع أمر ينظر فيه إلى قواعد المجتهدين الذين هم السلف لمن خلف، فإن وافق أصولهم قبله المتبع بقلبه، وإلا فلينبذه وراء ظهره وليتبصر في جلية آمره، ولا تغرنك عوائد الناس فإنها السموم القاتلة والداء العضال، وعين المشاقة المؤدية إلى الضلال، وقد كان هشام بن عروة يقول: لا تسألوا الناس اليوم عما أحدثوه فإنهم قد أعدوا له جواباً، لكن سلوهم عن السنة فإنهم لا يعرفونها.
وأخرج أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه، قال: "كل عبادة لم تفعلها
1 سورة الأحزاب: 41.
2 سورة فصلت: 33.
الصحابة فلا تفعلوها"1. وأخرج البيهقي أن ابن عباس قال: "أبغض الأمور إلى الله تعالى البدع".
فمن البدع السيئة ما خالفت شيئاً من ذلك صريحاً أو التزاماً، وقد تنتهي إلى ما يوجب التحريم تارة والكراهة أخرى، وإلى ما يظن أنه طاعة وقربة.
فمن الأول: الانتماء إلى جماعة يزعمون التصوف ويخالفون ما كان عليه مشائخ الطريق من الزهد والورع وسائر الكمالات المشهورة عنهم، بل كثير من أولئك إباحية لا يحرمون حراماً لتلبيس الشيطان عليهم أحوالهم القبيحة الشنيعة، فهم باسم الفسق أو الكفر أحق منهم باسم التصوف أو الفقر.
ومنه ما عمت به البلوى من تزيين الشيطان للعامة تخليق حائط أو عمود، أو تعظيم نحو عين أو حجر أو شجرة، لرجاء شفاء أو قضاء حاجة، وقبائحهم في هذا ظاهرة غنية عن الإيضاح والبيان. وقد صح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مروا بشجرة سدر قبل حنين كان المشركون يعظّمونها وينوطون بها أسلحتهم- أي: يعلقونها بها-، فقالوا: يا رسول الله؛ اجعل لنا ذوات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم"2.
ومن الثاني: ومنشأه أن الشارع يخص عبادة بزمن أو مكان أو شخص أو حال، فيعممونها جهلاً وظناً أنها طاعة مطلقاً، نحو صوم يوم الشك أو التشريق والوصال، ومنه التعريف بغير عرفة، ومنه صلاة ليلة الرغائب أول جمعة في رجب، وليلة النصف من شعبان؛ فهما بدعتان مذمومتان.
1 عزاه لأبي داود كل من السيوطي في "الأمر بالاتباع"(ص 62) والقاسمي في "إصلاح المساجد"(ص12) . وقال الشيخ الألباني في "تحقيقه على الإصلاح": "لم أره في "السنن" وقد عزاه إليه غير المصنف أيضاً، وأظنه تابعاً لهم فيه".
2 تقدم تخريجه.
قال السويدي: ومن أعظم البدع، الغلو في تعظيم القبور، فلقد اتخذوها في هذا الزمان معابد يعتقدون أن الصلاة عندها أفضل من الصلاة في جميع بيوت الله، وهم وإن لم يصرحوا؛ ولكن طبعت قلوبهم على ذلك، فتراهم يقصدونها من الأماكن البعيدة وربما أن تكون بحذائهم مساجد مهجورة فيعطلونها، وإذا لحقوا على الصلاة فيها ولو في أوقات الكراهة كانت أفضل عندهم من الصلاة في الأوقات الفضيلة في المساجد، وتلك المساجد التي بحذاء القبور ليست مقصودة لكونها بيوتاً لله بل لكونها حضرات لمن انتسبت إليه من أهل تلك القبور، يدلك على ذلك كله أنهم لا يسمونها إلا حضرات، فإذا قلت لأحدهم: أين صليت؟ قال لك: صليت في حضرة الشيخ فلان! وليس مقصودهم به إلا التقرب به وبحضرته، وكلما أكثر الرجل الترداد إلى القبور- ولو كانت مشتملة على أنواع المنكرات من ستور الحرير والديباج والترصيع بالفضة والعقيان فضلاً عن غيرها- كان مشهوراً بين الناس بالديانات، مغفور الزلات، مقرباً عند أصحاب تلك الحضرات، ولقد امتلأت قلوب العوام من رجائهم ومخافتهم، فتراهم إذا عضلت عليهم الأمور أوصى بعضهم بعضاً بقصد أصحاب القبور، وكذلك إذا وقع على أحد يمين بالله حلف به من غير أدنى وجل أو حذر، وإذا قيل له احلف بفلان عند قبره خصوصاً إذا أمره بالغسل لهذا اليمين ليكون ذلك من أقوى العبادات؛ خاف خوفاً يظهر على جميع جوارحه، فلو سلمنا أنه أدخل إلى قبره وتعدت فرائصه وانحلت قواه، وربما أن أحدهم- لكثرة أوهامه وشدة خوفه- تبطل حواسه فيزدادون كفراً، وتضحك عليهم الشياطين جهراً، وترى كثيراً منهم يعلقون مرضاهم عليهم، فيأخذون المريض وهو في غاية شدته فيدخلونه على قبره، والسعيد عندهم من يدخلونه داخل شباكه ويتعلق بستر قبره، والرزية العظمى أنهم في حالتي السراء والضراء يتلاعب إبليس بهم، فإن مات مريضهم قالوا ما قبلنا الشيخ فلان يعنون به صاحب القبر، وإن صادت القدر فعوفي سيما إذا وافق مطلوبهم ذلك الوقت فرحوا بما عندهم من الكفر، فأرسلوا القرابين ومعها شموع العسل موقدة من بيوتهم، إظهاراً لقدر صاحب القبر وتنبيهاً على فضيلته، وكثيراً ما ينشرون الرايات له على
طريقة أهل الجهل من الأعراب أن من فعل شيئاً عظيماً نشرت له راية بيضاء، وقد رأيت من لم يفعل ذلك ولكنه ينصب راية بيضاء على سطح داره ثلاثة أيام يصيح كل يوم وقت المغرب بأعلى صوته الراية البيضاء المبنية لفلان بيض الله وجهه.
قال: وبالجملة؛ فأكثر البدع الخبيثة نشأت من هنالك، حتى أني رأيت بدمشق الشام أناساً ينذرون للشيخ عبد القادر الجيلي قنديلاً يعلقونه في رؤوس المنابر، ويستقبلون به جهة بغداد، ويبقى موقداً إلى الصباح، وهم يعتقدون أن ذلك من أتم القربات إليه، كأنهم يقولون بلسان حالهم: أينما توقدوا فثم عبد القادر.
فيالله العجب! ما هذه الخرافات؟! وأين دين الله الذي قد مات؟ بال الشيطان في عقولهم وأضلهم عن سبيلهم، ولا ترى أحداً ينهى وينكر أمثال ذلك.
وأعظم مما هنالك ومن أقبح المنكرات: ما يستعملها جميع الناس عند وضع الإناث ولاسيما في شدة الطلق، فإنهن يستغثن بعلي بن أبي طالب، وكلما اشتد الطلق صاحت النساء بأعلى أصواتهن داعيات ومستغيثات به ليفرج عنهن ما قد كربهن، ومن يسمعهن يتيقن إشراكهن، وقلما تسلم امرأة منهن في هذا الحال العظيم، والخطب الجسيم، وكثير منهن يزعمن أنه الموكل بالأرحام، والموكل إليه في هذه الأحوال العظام.
ومن البدع المنكرة؛ أن كثيراً من أهل الهند وأهل الأماكن القاصية يرسلون الهدايا العظيمة، والأموال الكثيرة، إما لإجراء القنوات لأجل المجاورين عند قبورهم، فإنهم عندهم أفضل خلق الله، ومن جاور عندهم فكأنما ابتاع منهم قطعة من الجنان، وإما لعمل قبابهم بصفائح الذهب والعقيان، وبعضهم يرسل هدايا عظيمة ليرسل له السدنة أعلاماً ينشرونها على فلكهم إذا وقعوا في شدتهم، فيكون اسمه المكتوب في تلك الأعلام المرسلة إليهم كشافاً لكربتهم نفاعاً لهم بإنجاح بغيتهم.
قال: وأكثر نساء بغداد إذا قمن صحيحات من وضعهن يخبزن خبزاً يسمينه
عباس المستعجل يزعمن أن العباس بن علي بن أبي طالب هو المتكفل بهذه الأمور العظام.
ومن ذلك عند الناس شيء كثير، من أحجار وآبار، وصخور وأشجار، يزعمون منها شفاء الأمراض وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات. ولو بسطت الكلام في ذلك- مما يستعمله الرجال والنساء، أو يختص بالنساء، من أشياء يعلقنها عليهن، ويبين خواصها وتأثيراتها في أزواجهن، ويسمينها بأسماء لو رجعت الجاهلية الأولى لعجزت عن أقل القليل من هذه الجهالات وسوء الاعتقادات- لاحتمل مجلدات، والويل كل الويل لمن أنكر ذلك، أو تكلم بأدنى شيء ينجى من تلكم المهالك.
ومن أسخف البدع؛ أنك تسمع وقت خسوف القمر من الضرب بالطسوس والنحاس شيئاً عظيماً، ولا تكاد تسمع برجل دخل بيتاً من بيوت الله للصلاة فيه أو صلى في بيته أو استغفر أو تاب أو تصدق، فبالله نستعين على زمان أميتت فيه السنن واستؤنس بالبدع، اللهم وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين آمين.
ومن البدع المنكرة؛ ما يستعمله المتصوفة من أذكار اشتملت على الدفوف والطبلات والغناء وأنواع الرقص ويسمونه حالاً، وتراهم يعملون ذلك ومغنيهم ينشدهم من الشعر المشتمل على ما لا يرضي الله تعالى، ويحضره الفسقة والمرد والنساء، فيحصل من ذلك ما تظهر به شعائر الفسق والعصيان، وترى الشيخ لو حصلت له مواجهة الظلمة وظفر بدراهمهم لعدها من أطيب المكاسب، وأقرب المراتب، لا أكثر الله من أمثالهم.
وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة؛ مبتدعة الرفاعية، فلا تجد بدعة إلا ومنهم مصدرها وعنهم موردها ومأخذها، فذكرهم عبارة عن رقص وغناء والتجاء إلى غير الله وعبادة مشائخهم، وأعمالهم عبارة عن مسك الحيات والعقارب ونحو ذلك.
قال ابن خلدون في (كتابه العبر) : "قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ أحمد وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذ التتار العراق، من دخول النيران، وركوب السباع، واللعب بالحيات، وهذا لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه، فنعوذ بالله من الشيطان الرجيم" انتهى.
وشيخ الإسلام ابن تيمية قد أطنب في بيان ضلالاتهم وجهالاتهم وحيلهم، وما يخدعون به الجهال وغير ذلك من أفعالهم وأعمالهم، ولهم معه حوادث ومجالس، فمن أراد الوقوف على ذلك فعليه بمراجعة كتابه الذي ألّفه في بيان أحوالهم وسماه:(كشف حال المشائخ الأحمدية وبيان أحوالهم الشيطانية) ولولا طول الكلام لأتحفنا القراء بذكر شيء منه.
والحاصل؛ أنه لو أراد الإنسان أن يفصل منكرات القبور وتكيات الصوفية ومنكرات الحيطان والآبار والصخور والأحجار والتماثيل، وكذا منكرات المساجد والحمامات والطرقات والأسواق والبوادي والأمصار، فضلاً عن الدخول في منكرات المجالس والملابس والبيع والشراء، وما ابتدعوه فيها وجعلوه كالسنة المأمور بها؛ لضاق عنه التحرير، وعجز عن ضبطه من تصدى للتسطير، وعسى الله سبحانه وتعالى أن يرسل في هذه الأمة من يجدد لها أمر الدين، ويتبع سبيل المؤمنين.
والمقصود؛ أن النبهاني لم يعرف معنى البدعة ولا محل إطلاقها، فلذلك جعل شيخ الإسلام مبتدعاً وجعل نفسه متبعاً، مع قوله بوحدة الوجود، ونداء غير الله في الحاجات والضرورات، وصرف عمره بأحكام العدلية وقوانينها،. واعتقاده بألوهية النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الأمور التي لو اعتقد أحد أمراً واحداً منها كفى في إخراجه عن الدين المبين، وزيغه عن اتباع سبيل المؤمنين، وما أحقه بقول القائل من الأكابر والأماثل:
مساو لو قسمن على الغواني
…
لما أمهرن إلا بالطلاق
وأما شيخ الإسلام وعلم الأعلام؛ فقيامه بنصرة الدين أمر معلوم، وجهاده
في الله حق الجهاد لا ينكره ذوو الفهوم. وقول النبهاني هذا كما حكى الله عن إخوانه الجاهليين، ففي "شرح المسائل من خصالهم": الإيمان بالجبت والطاغوت، وتفضيل المشركين على المسلمين، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 1.
قالوا: نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف في جمع من يهود، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب؛ فلا يؤمن هذا أن يكون مكراً منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل، ثم قال كعب: يا أهل مكة، ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم. فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجر الكوماء، ونسقيهم اللبن، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وديننا القديم، ودين محمد الحديث. فقال كعب: أنت والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد. فأنزل الله في ذلك الآية2.
والجبت في الأصل: اسم صنم فاستعمل في كل معبود غير الله.
1 سورة النساء: 50.
2 أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/974/5441) وابن جرير الطبري (8/467- 468/9787، 9788، 9789) والواحدي في "أسباب النزول"(ص 156- ط. الحميدان) والطبراني في "الكبير"(رقم: 11645) والبيهقي في "الدلائل"(3/190- 191) بإسناد مرسل.
والطاغوت: يطلق على كل باطل من معبود أو غيره. ومعنى الإيمان بهما: إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل، وإما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلاً، والمتبادر المعنى الأول؛ أي: أنهم يصدّقون بألوهية هذين الباطلين ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق ويسجدون لهما. اهـ.
قال النبهاني: فقد ثبت وتحقق وظهر ظهور الشمس في رابعة النهار أن علماء المذاهب الأربعة قد اتفقوا على رد بدعة ابن تيمية، ومنهم من طعن بصحة نقله كما طعن بكمال عقله، فضلاً عن شدة تشنيعهم عليه في خطئه الفاحش في تلك المسائل التي شذ بها في الدين، وخالف بها إجماع المسلمين، ولاسيما فيما يتعلق بسيد المرسلين.
الجواب عنه: أنه قد ثبت وتحقق لدى كل منصف أن علماء المذاهب الأربعة أثنوا عليه، واعترفوا بفضله، وألفوا في مناقبه كتباً مفصّلة، ومن شذّ منهم وطعن عليه أُلْقِمَ الحجر ورُدَّ عليه كلامه، وإن اعتراضه كان لجهل أو غرض أو تعصب أو نحو ذلك. وتبين أن ابن تيمية لم يبتدع شيئاً في الدين، وما اختار شيئاً إلا وأقام عليه الدلائل الصحيحة والبراهين، ومن طعن بصحة نقله فهو عدو له مبين، ولم يسلم أحد من لسان الخلق حتى رب العالمين، وسيد الأوّلين والآخرين، وغزارة عقمه من سعة عقله وكمال فضله، وما ذهب إليه من المسائل هو الحق، الحقيق بالقبول، وحديث الإجماع على خلافها كذب عند علماء المنقول والمعقول.
قال الحافظ الذهبي: "ما رأيت أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة".
وقال حافظ الإسلام الحبر النبيل أستاذ أئمة الجرح والتعديل شيخ المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الركن عبد الرحمن المزّي الشافعي في ابن تيمية: "ما رأيتُ مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه"1. وناهيك بهذا الكلام من الحافظين العدلين المستوعبين أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي.
وقال الشيخ الإمام بقية المجتهدين تقي الدين ابن دقيق العيد الشافعي لما اجتمع به وسمع كلامه: "كنت أظن أن الله تعالى ما بقى يخلق مثلك" وقال أيضاً: "رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد"2.
وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير الشافعي: "وبالجملة كان رحمه الله تعالى من كبار العلماء، وممن يخطىء ويصيب، ولكن خطؤه بالنسبة لصوابه كنقطة في بحر لجيّ، وخطؤه أيضاً مغفور له لما صح في صحيح البخاري: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"3.
قال السيد صفي الدين الحنفي في ترجمة ابن تيمية: "قد نص على أنه بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء؛ منهم الإمام أبو عبد الله الذهبي، والحافظ ابن حجر، والحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ، ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين" إلخ انتهى.
وسنفرد له إن شاء الله فصلاً مفصّلاً في ذكر مناقبه.
وبهذا أيضاً تبين إلحاد النبهاني وزوره وكذبه واتباعه لهواه، وقد جادل بغير علم، وذلك كما كان عليه أهل الجاهلية.
(وفي شرح المسائل) : "الجدال بغير علم كما ترى كثيراً من أهل الجهل يجادلون أهل العلم عند نهيهم عما ألفوه من البدع والضلالات، وهي خصلة جاهلية نهانا الله تعالى عن التخلق بها، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ
1 انظر "الرد الوافر"(ص 213- 214) و"الشهادة الزكية"(ص 44- 45) .
2 "الرد الوافر"(ص 107) و"الشهادة الزكية"(ص 28) .
3 "الرد الوافر"(ص 198) .