المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية) - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ١

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌خطبة الكتاب

- ‌(الأمور التي يجب التنبيه عليها، والإشارة بيسير العبارة إليها)

- ‌(ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود)

- ‌[كلام النبهاني على الاجتهاد، والرد عليه]

- ‌[الكلام على كتب التفسير والاحتياج إلى تفسير موافق لأفكار أهل العصر]

- ‌[الكلام على قول النبهاني: إن الذي يتصدّى لطلب تفسير مشتمل على العلوم العصرية ملحد]

- ‌[الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم]

- ‌(أجوبة لشيخ الإسلام على بعض اعتراضات الأخنائي)

- ‌(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت)

- ‌(الكلام على شبه الخصم وإبطالها)

- ‌(ذكر شبة أخرى للمجوّزين للاستغاثة وإبطالها)

- ‌(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية)

- ‌(كلام مفيد في تعريف البدعة)

- ‌[الرد على النبهاني فيما ادّعاه من أن ابن تيمية مُخِلٌّ بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية]

- ‌(الذاهبون إلى حياته)

- ‌[الكلام على كتاب "منهاج السنة" لشيخ الإسلام]

- ‌الكلام على كتاب "جلاء العينين

- ‌(ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وقدس روحه)

- ‌عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

الفصل: ‌(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية)

وقد رأيت أن أذكر ما كان من المناظرة بين الشيخ وخصومه ليتبين للناظر أعداؤه من محبيه، ورأيت رسالة من جملة "الرسائل الكبرى" التي طبعت حديثاً في مصر مشتملة على بيان مناظرته، ورأيت فيها تحريفاً كثيراً ونقصاناً، مع أن الشيخ ألف كتاباً فيما عقد له من المجالس وما جرى له فيها، فأحببت أن أذكر ما وجدته من ذلك، ليكون المصنف على بصيرة من أمره، وكلام صاحب الواقعة أصح من غيره، ولذلك أتحفت أهل العلم بذكرها لما اشتملت عليه من الفوائد الغزيرة، والمسائل الكثيرة.

ص: 406

(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية)

1 (وهي من مصنفاته رضي الله تعالى عنه)

قال بعد البسملة: "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ظهير ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله إلى الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وعلى سائر عباد الله الصالحين.

أما بعد؛ فقد سئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة في أمر الاعتقاد، بمقتضى ما ورد من كتاب ذي السلطان من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد، لما سعى إليه قوم من الجهمية والاتحادية والرافضة وغيرهم من ذوي الأحقاد، فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة، قضاة المذاهب الأربعة وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشايخ ممن له حرمة وبه اعتداد، وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد، وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة، فقال لي: هذا المجلس عقد

1 وهي ضمن "مجموع الفتاوى"(3/160- وما بعدها) . وطبعت مستقلة عدة مرات. وشرحها وعلّق عليها كثير من أهل العلم.

ص: 406

لك، فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك وعما كتبت به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد، وأظنه قال: وأن أجمع القضاة والفقهاء ويتباحثون في ذلك.

فقلت: أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم، وأما الكتب فما كتبت إلى أحد كتاباً ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكني كتبت أجوبة أجبت بها من سألني من أهل الديار المصرية وغيرهم، وكان قد بلغني أنه زوّر عليّ كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير أستاذ ذي السلطان يتضمن ذكر عقيدة محرفة ولم أعلم بحقيقته لكن علمت أنه مكذوب.

وكان يرد علي من مصر وغيرها من يسألني عن مسائل في الاعتقاد فأجبته بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، فقال: نريد أن تكتب لنا عقيدتك فقلت اكتبوا.

فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب؛ فكتب له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات والقدر، ومسائل الإيمان، والوعيد، والإمامة، والتفضيل، وهو أن اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، والإيمان بأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه أمر بالطاعة وأحبها ورضيها، وونهى عن المعصية وكرهها، والعبد فاعل حقيقة، والله خالق فعله، وأن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص، وأن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بالذنوب، ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحداً، وأن أفضل الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ومن قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وذكرت هذا أو نحوه، فإني الآن قد بعد عهدي ولم أحفظ لفظ ما أمليته، لكنه كتب إذ ذاك.

ص: 407

ثم قلت للأمير والحاضرين: أنا أعلم أن أقواماً يكذِبُونَ عليَّ كما قد كذبوا غير مرة، وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون كتم بعضه أو داهن ودارى، فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين قبل أن يجيء التتر إلى لشام.

وقلت قبل حضورها كلاماً قد بعد عهدي به، وغضضت غضباً شديداً، لكني أذكر أني قلت أنا أعلم أن أقواماً كذبوا عليَّ، وقالوا للسلطان أشياء وتكلمت بكلام احتجت إليه، مثل أن قلت من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري، ومن الذي أوضح دلائله وبينه وجاهد أعداءه وأقامه لما مال حين تخلى عنه كل أحد، ولا أحد ينطق بحجته ولا أحد يجاهد عنه، وقمت مظهراً الحجة مجاهداً عنه مرغباً فيه، فإذا هؤلاء يطمعون في الكلام فيَّ فكيف يصنعون بغيري، ولو أن يهودياً طلب من السلطان الأنصاف لوجب عليه أن ينصفه، وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو بل أطلب الأنصاف منه، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليكافؤوا على افترائهم، وقلت كلاماً أطول من هذا الجنس لكن بعد عهدي به.

فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محي الدين بأن يكتب في ذلك، وقلت أيضاً: كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه، وما أدري هل قلت هذا قبل حضورها أو بعده، لكن قلت أيضاً بعد حضورها وقرائتها ما ذكرت فيها فصلاً إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف، ثم أرسلت من أحضرها ومعه كراريس بخطي من المنزل، فحضرت العقيدة الواسطية، وقلت لهم: هذه كان سبب كتابتها أنه قدم عليَّ من أرض واسط بعض قضاة نواحيها شيخ يقال له رضي الدين الواسطي من أصحاب الشافعي، قدم علينا حاجاً وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد في دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيت من ذلك، وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة فخذ بعض عقائد أئمة السنة، فألح في السؤال وقال ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر، وقد انتشرت بها نسخ

ص: 408

كثيرة في مصر والعراف وغيرهما، فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا لرفع الريبة، وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين فقرأها على الحاضرين حرفاً حرفاً، والجماعة الحاضرون يسمعونها ويورد المورد منهم ما شاء ويعارض فيما شاء، والأمير أيضاً سأل عن مواضع فيها، وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف والهوى ما قد علم الناس بعضه، وبعضه بسبب الاعتقاد وبعضه بغير ذلك، ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام والمناظرات في هذه المجالس، فإنه كثير لا ينضبط لكن اكتب ملخص ما حضرني من ذلك مع بعد العهد بذلك، ومع أنه كان يجري رفع أصوات ولغط لا ينضبط.

فكان مما اعترض عليه بعضهم لما ذكر في أولها: ومن الإيمان بالله؛ الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل. فقال: ما المراد بالتحريف والتعطيل؟ ومقصوده أن هذا ينفي التأويل الذي أثبته أهل التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إما وجوباً وإما جوازاً، فقلت: تحريف الكلم عن مواضعه، كما ذمه الله تعالى في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1 جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً، ومثل تأويلات القرامطة والباطنية وغيرهم من الجهمية والرافضة والقدرية وغيرهم، فسكت وفي نفسه ما فيها.

وذكرت في غير هذا المجلس أني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة، فبينت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات، لأنه لفظ له عدة معان، كما بينته في موضعه من القواعد، فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه، وغير معنى [لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير] ،

1 سورة النساء: 164.

ص: 409

وكان أحب إليّ من لفظ ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، وإن كان قد يعني بنفيه معنى تسمى تأويلاً ما هو صحيح منقول عن بعض السلف فلم أنف ما تقوم به الحجة على صحته، إذ ما قامت الحجة على صحته وهو منقول عن السلف فليس من التحريف.

وقلت لهم أيضاً: ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه، حيث قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1. وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 2. وكان أحب إليّ من لفظ ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيح كما قد يعني به معنى فاسد، ولما ذكرت أنهم لا ينفون عنه ما وصف به نفسه ويحرفون الكلم عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وآياته جعل بعض الحاضرين يتمعض من ذلك لاستشعاره ما في ذلك من الرد الظاهر عليه، ولكن لم يتوجه له ما يقوله، وأراد أن يدور بالأسئلة التي أعلمها فلم يتمكن لعلمه بالجواب.

ولما ذكرت آية الكرسي أظنه سأل الأمير عن قولنا: لا يقر به شيطان حتى يصبح؛ وذكرت حديث أبي هريرة في الذي كان يسرق صدقة الفطر، وذكرت أن البخاري رواه في صحيحه3. وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم، ويطنبون في هذا، ويعرضون لما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك.

وقلت: قولي من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل، وإنما اخترتُ هذين الاسمين لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف، كما قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" فاتفق هؤلاء السلف على أن التكييف غير معلوم لنا، فنفيت ذلك اتباعاً لسلف الأمة، وهو أيضاً منفيٌّ بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف وحقيقة صفاته، وهذا من التأويل الذي

1 سورة الشورى: 11.

2 سورة مريم: 65.

3 برقم (2311) .

ص: 410

لا يعلمه إلا الله، كما قد قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في التأويل، والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله.

وكذلك التمثيل منفيّ بالنص، والإجماع القديم، مع دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف، إذ كنه الباري غير معلوم للبشر، وذكرت في ضمن ذلك الخطأ الذي نقل أنه مذهب السلف وهو إجراء الصفات وأحاديث الصفات على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها إذ الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف؛ فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف.

وقال أحد كبار المخالفين: فحينئذ يجوز أن يقال هو جسم لا كالأجسام.

فقلت له أنا وبعض الفضلاء الحاضرين: إنما قيل أنه يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا السؤال.

وأخذ بعض القضاة المعروفين بالديانة يريد إظهار أن ينفي عنا ما يقول وينسبه البعض إلينا فجعل يريد المبالغة في نفي التشبيه والتجسيم، فقلت: ذكرت فيها في غير موضع من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

وقلت في صدرها: ومن الإيمان بالله؛ الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصف به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

ثم قلت: وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك. إلى أن قلت: إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط

ص: 411

في الأمم، فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية وبين أهل التمثيل المشبهة.

ولما رأى هذا الحاكم العدل ممالأتهم وتعصّبهم، ورأى قلة العارف الناصر وخافهم؛ قال: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فتقول هذا اعتقاد أحمد؟ يعني والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه، فإن هذا مذهب متبوع، وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم. فقلت: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجيء به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم.

وقلت مرات: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:"خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"- يخالف ما ذكرناه فأنا أرجع عن ذلك، وعلى أن آتي بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة يوافق ما ذكرناه، من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث والصوفية وغيرهم.

وقلت أيضاً في غير هذا المجلس: الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لما انتهى إليه من السنة ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما انتهى إلى غيره، وابتلي بالمحنة والرد على أهل البدع أكثر من غيره؛ كان كلامه وعلمه في هذا الباب أكثر من غيره، فصار إماماً في السنة أظهر من غيره، وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة العلماء الصلحاء، قال: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد بن حنبل، يعني أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام، وإن كان لبعضهم من الزيادة أو البيان أو إظهار الحق ودفع الباطل ما ليس لبعض.

ولما جاء فيها: وما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل العلم بالقبول، ولما جاء حديث أبي سعيد- المتفق عليه في

ص: 412

الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله يوم القيامة: يا آدم؛ فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعثاً إلى النار" الحديث-1 سألهم الأمير: هل الحديث صحيح؟ فقلت: نعم هو في الصحيحين، ولم يخالف في ذلك أحد، واحتاج المنازع إلى الإقرار به ووافق الجماعة على ذلك.

وطلب الأمير الكلام في مسألة الحرف والصوت، لأن ذلك طلب منه، فقلت: هذا الذي يحكيه كثير من الناس عن الإمام أحمد وأصحابه أن صوت القارئين ومداد المصاحف قديم أزلي- كما نقله مجد الدين الخطيب وغيره- كذب مفترى، لم يقل ذلك أحمد، ولا أحد من علماء المسلمين، لا من أصحاب أحمد ولا غيرهم، وأخرجت كراساً قد أحضرته مع العقيدة فيه ألفاظ أحمد مما ذكره الشيخ أبو بكر الخلال في (كتاب السنة) عن الإمام أحمد، وما جمعه صاحبه أبو بكر المروزي من كلام الإمام أحمد، وكلام أئمة زمانه وسائر أصحابه، فإن من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع.

قلت: وهذا هو الذي نقله الأشعري في كتاب "المقالات" عن أهل السنة وأصحاب الحديث. وقال: إنه يقول به. قلت: فكيف بمن يقول لفظي قديم؟ فكيف بمن يقوله صوتي غير مخلوق؟ فكيف بمن يقول صوتي قديم؟ ونصوص الإمام أحمد: في الفرق بين تكلم الله بصوت وبين صوت العبد، كما نقله البخاري صاحب الصحيح في كتاب (خلق أفعال العباد) وغيره من أئمة السنة.

وأحضرت جواب مسألة، كنت سئلت عنها قديماً فيمن حلف بالطلاق في مسألة الحرف والصوت، ومسألة الظاهر في العرش، فذكرت من الجواب القديم في هذه المسألة وتفصيل القول فيها وإن إطلاق القول إن القرآن هو الحرف والصوت أو ليس بحرف ولا صوت كلاهما بدعة حدثت بعد المائة الثالثة، وقلت: هذا جوابي، وكانت هذه المسألة قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة ممن كان بعضهم حاضراً في المجلس، فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم، وكانوا قد

1 أخرجه البخاري (3348) ومسلم (222) .

ص: 413

ظنوا أنه إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله حصل مقصودهم من الشناعة، وإن أجبت بما يقولونه هم حصل مقصودهم من الموافقة، فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة وليس هو كما يقولونه هم ولا ما ينقلونه عن أهل السنة أو قد يقوله بعض الجهال بهتوا لذلك، وفيه أن القرآن كله كلام الله حروفه ومعانيه، ليس القرآن اسماً لمجرد الحروف ولا لمجرد المعاني.

وقلت في ضمن الكلام لصدر الدين ابن الوكيل- لبيان كثرة تناقضه وأنه لا يستقر على مقالة واحدة، وإنما يسعى في الفتن والتفريق بين المسلمين- عندي عقيدة للشيخ أبي البيان فيها أن من قال إن حرفاً من القرآن مخلوق فقد كفر، وقد كتبت عليها بخطك أن هذا مذهب الشافعي وأئمة أصحابه، وأنك تدين الله بها، فاعترف بذلك، فأنكر عليه الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني ذلك. فقال ابن الوكيل: هذا نص الشافعي وراجعه في ذلك مراراً، فلما اجتمعنا في المجلس الثاني ذكر لابن الوكيل أن ابن درباس نقل في كتاب "الانتصار" عن الشافعي مثل ما نقلت، فلما كان في المجلس الثالث أعاد ابن الوكيل الكلام في ذلك، فقال الشيخ كمال الدين لصدر الدين بن الوكيل: قد قلت في ذلك المجلس للشيخ تقي الدين إنه من قال إن حرفاً من القرآن مخلوق فهو كافر، فأعاده مراراً، فغضب هنا الشيخ كمال الدين غضباً شديداً ورفع صوته، وقال: هذا يكفّر أصحابنا المتكلمين الأشعرية، الذين يقولون إن حروف القرآن مخلوقة مثل إمام الحرمين وغيره، وما نصبر على تكفير أصحابنا، فأنكر ابن الوكيل أنه قال ذلك، وقال: ما قلت: إن من أنكر حرفاً من القرآن فقد كفر، فرد ذلك عليه الحاضرون، وقالوا: ما قلت إلا كذا وكذا، وقالوا: ما ينبغي لك أن تقول قولاً وترجع عنه. وقال بعضهم: ما قال هذا. فلما حرفوا؛ قال: ما سمعناه قال هذا، حتى قال نائب السلطان واحد يكذب، وآخر يشهد، والشيخ كمال الدين مغضب، فالتفت إلى قاضي القضاة نجم الدين الشافعي يستصرخه للانتصار على ابن الوكيل حيث كفر أصحابه، فقال القاضي نجم الدين: ما سمعت هذا، فغضب الشيخ كمال الدين وقال كلاماً لم أضبط لفظه إلا أن معناه: إن هذا غضاضة على الشافعي، وعار عليهم أن أئمتهم يكفرون ولا

ص: 414

ينتصر لهم، ولم أسمع من الشيخ كمال الدين ما قال في حق القاضي نجم الدين، واستثبت غيري ممن حضر هل سمع منه في حقه شيئاً فقالوا لا، لكن القاضي اعتقد أن التعبير لأجله ولكونه قاضي المذهب ولم ينتصر لأصحابه وأن الشيخ كمال الدين قصده بذلك فغضب قاضي القضاة نجم الدين، وقال اشهدوا عليّ أني عزلت نفسي، وأخذ يذكر ما يستحق به التقديم والاستحقاق وعفته عن التكلم في أعراض الجماعة، ويستشهد بنائب السلطان في ذلك، وقلت له كلاماً مضمونه تعظيمه واستحقاقه لدوام المباشرة في هذه الحال.

ولما جاءت مسألة القرآن، ومن الإيمان به الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود؛ نازع بعضهم في كونه منه بدأ وإليه يعود وطلبوا تفسير ذلك. فقلت: أما هذا القول فهو المأثور الثابت عن السلف، مثل ما نقله عمرو بن دينار، قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن؛ فإنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

وقد جمع غير واحد ما في ذلك من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، كالحافظ أبي الفضل بن ناصر، والحافظ أبي عبد الله المقدسي.

وأما معناه: فإن قولهم منه بدأ، أي: هو المتكلم به وهو الذي أنزله من لدنه، ليس هو كما تقوله الجهمية أنه خلق في الهواء أو غيره وبدا من عند غيره، وأما إليه يعود فإنه يسري به في آخر الزمان من المصاحف والصدور، فلا يبقى في الصدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف، ووافق على ذلك غالب الحاضرين وسكت المنازعون.

وخاطبت بعضهم في غير هذا المجلس بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادري وفيها: أنه كلام الله خرج منه، فتوقف في هذا اللفظ. فقلت: هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه" يعني القرآن1.

1 أخرجه أحمد (5/268) والترمذي (2911) وغيرهما، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1957) .

ص: 415

وقال خباب بن الأرت: يا هذا؛ تقرب إلى الله بما استطعت، فلن يتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه. وقال أبو بكر الصديق لما قرأ قرآن مسيلمة الكذاب: إن هذا الكلام لم يخرج من إلَّ؛ يعني: رب.

وجاء فيها: ومن الإيمان به؛ الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً. فتمعض بعضهم من إثبات كونه كلام الله حقيقة بعد تسليمه أن الله تعالى تكلم به حقيقة، ثم إنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه وهذا لا يصح نفيه، ولما بين له أن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم وشعر الشعراء المضاف إليهم هو كلامهم حقيقة فلا يكون شبه القرآن بأقل من ذلك، فوافق الجماعة كلهم على ما ذكر في مسألة القرآن، وأن الله متكلم حقيقة، وأن القرآن كلام الله حقيقة لا كلام غيره.

ولما ذكر فيها أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً؛ استحسنوا هذا الكلام وعظموه، وأخذ أكبر الخصوم يظهر تعظيم هذا الكلام كابن الوكيل وغيره، وأظهر الفرج بهذا التلخيص، وقال: إنك قد أزلت عنا هذه الشبهة، وشفيت الصدور، ويذكر شيئاً من هذا النمط.

ولما جاء ما ذكر من الإيمان باليوم الآخر وتفصيله ونظمه استحسنوا ذلك وعظموه، وكذلك لما جاء ذكر الإيمان بالقدر وأنه على درجتين، إلى غير ذلك من القواعد الجليلة، وكذا لما جاء ذكر الكلام في الفاسق الملي وفي الإيمان، لكن اعترضه على ذلك بما سأذكره، وكان ما اعترض به المنازعون المعاندون بعد انقضاء قراءة جميعها والبحث فيها عن أربعة أسئلة.

الأول: قولنا: ومن أصول الفرقة الناجية أن الإيمان والدين قول وعمل،

ص: 416

يزيد وينقص، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.

قالوا: إذا قيل: إن هذا من أصول الفرقة الناجية خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل ذلك، مثل أصحابنا المتكلمين، الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق، ومن يقول الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا لم يكونوا من الناجين لزم أن يكونوا هالكين.

وأما الأسئلة الثلاثة؛ وهي التي كانت عمدتهم فأوردوها على قولنا: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله في كتابه، وتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فوق سمواته على عرشه عليّ على خلقه، وهو معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1 وليس معنى قوله: (وهو معكم) أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر أينما كان وغير المسافر، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله تعالى من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة.

السؤال الثاني: قال بعضهم: نقرّ باللفظ الوارد، مثل حديث س العباس، حديث الأوعال، والله فوق العرش، ولا نقول فوق السموات، ولا نقول على العرش استوى، ولا نقول مستو. وأعادوا هذا المعنى مراراً أن اللفظ الذي ورد يقال اللفظ بعينه، ولا يبدل بلفظ يرادفه، ولا يفهم له معنى أصلاً، ولا يقال إنه

1 سورة الحديد: 4.

ص: 417

يدل على صفة لله أصلاً، ويبسط الكلام في هذا في المجلس الثاني كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

السؤال الثالث: قالوا: التشبيه بالقمر فيه تشبيه كون الله في السماء بكون القمر في السماء.

السؤال الرابع: قالوا: قولك: حق على حقيقته؛ الحقيقة هي المعنى اللغوي، ولا نفهم من الحقيقة اللغوية إلا استواء الأجسام وفوقيتها، ولم تضع العرب ذلك إلا لها، فإثبات الحقيقة هو محض التجسيم، ونفي التجسيم مع هذا تناقض ومصانعة.

فأجبتهم عن الأسئلة؛ بأن قولي: اعتقاد الفرقة الناجية؛ هي الفرقة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة، حيث قال:"تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"1. فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية، فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال: الإيمان يزيد وينقص. وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه، وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك.

ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد تكون هل من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً، وقد لا يكون ناجياً، كما يقال:"من صمت نجا".

وأما السؤال الثاني؛ فأجبتهم أولاً: بأن كل لفظ قلته فهو مأثور عن

1 تقدم تخريجه.

ص: 418

النبي صلى الله عليه وسلم، مثل لفظ فوق السموات، ولفظ على العرش، وفوق العرش. وقلت: اكتبوا الجواب، فأخذ الكاتب في كتابته، ثم قال بعض الجماعة قد طال المجلس اليوم فيؤخر هذا إلى مجلس آخر، وتكتبون أنتم الجواب وتحضرونه في ذلك المجلس، فأشار بعض الموافقين بأن يتمم الكلام بكتابة الجواب، لئلا تنتشر أسئلتهم واعتراضهم، وكان الخصوم لهم غرض في تأخير كتابة الجواب، ليستعدوا لأنفسهم ويطالعوا ويحضروا من غاب من أصحابهم، ويتأملوا العقيدة فيما بينهم، ليتمكنوا من الطعن والاعتراض، فحصل الاتفاق أن يكون تمام الكلام يوم الجمعة، وقمنا على ذلك، وقد أظهر الله من قيام الحجة وبيان المحجة ما أعز به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة.

وفي نفوس كثير من الناس أمور لم تحدث في المجلس الثاني، وأخذا في تلك الأيام يتأملونها ما أجبت به في مسائل تتعلق بالاعتقاد مثل (المسألة الحموية في الاستواء والصفات الخبرية) وغيرها.

قال عليه الرحمة: (فصل) فلما كان المجلس الثاني يوم الجمعة في اثني عشر رجب وقد أحضروا أكثر شيوخهم ممن لم يكن حاضراً ذلك المجلس، وأحضروا معهم زيادة صفي الدين الهندي، وقالوا: هذا أفضل الجماعة وشيخهم في علم الكلام، وبحثوا فيما بينهم، واتفقوا وتواطؤوا، وحضروا بقوة واستعداد للمخاطب الذي هو المسؤول والمجيب والمناظر. فلما اجتمعنا- وقد أحضرت ما كتبته من الجواب عن أسئلتهم المتقدمة التي طلبوا تأخيره إلى اليوم- حمدت الله بخطبة الحاجة خطبة ابن مسعود رضي الله عنه، ثم قلت: إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن الفرقة والاختلاف، وقال لنا في القرآن:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 1 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 2 وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} 3.

1 سورة آل عمران: 103.

2 سورة الأنعام: 159.

3 سورة آل عمران: 105.

ص: 419

وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين وهو متفق عليه بين السلف، فإن وافق الجماعة فالحمد لله، وإلا فمن خالفني بعد ذلك كشفت الأسرار، وهتكت الأستار، وبينت المذاهب الفاسدة التي أفسدت الملل والدول، وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد، وأعرفه من الأمور مالا أقوله في هذا المجلس، فإن للسلم كلاماً، وللحرب كلاماً. وقلت: لا شك أن الناس يتنازعون؛ يقول هذا: أنا حنبلي، ويقول هذا: أنا أشعري. ويجري بينهم تفرق وفتن واختلاف على أمور لا يعرفون حقيقتها، وأنا قد أحضرت ما يبين اتفاق المذاهب فيما ذكرته، وأحضرت كتاب (تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري) رضي الله عنه، تأليف الحافظ أبي القاسم ابن عساكر رحمه الله، وقلت: لم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة كتاب مثل هذا، وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في كتابه (الإبانة) .

فلما انتهيت إلى ذكر المعتزلة سأل الأمير عن معنى المعتزلة، فقلت: كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملّي- وهو من أول اختلاف حدث في الملة- هل هو كافر أو مؤمن، فقالت الخوارج: إنه كافر، وقالت الجماعة: إنه مؤمن، وقالت طائفة: تقول هو فاسق لا مؤمن ولا كافر، ننزله منزلة بين المنزلتين، وخلدوه في النار، واعتزلوا حلقة الحسن البصري وأصحابه رحمه الله تعالى فسموا معتزلة.

وقال الشيخ الكبير بجبته وردائه: ليس كما قلت، ولكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون مسألة الكلام، وسمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك، وكان أول من قالها عمرو بن عبيد، ثم خلف بعد موته عطاء بن واصل.

هكذا قال، وذكر نحواً من هذا.

فغضبت عليه، وقلت: أخطأت؛ وهذا كذب مخالف للإجماع. وقلت له:

ص: 420

لا أدب ولا فضيلة، لا تأدبت معي في الخطاب، ولا أصبت في الجواب.

ثم قلت: الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلافة المأمون، وبعدها في أواخر المائة الثانية، وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير من زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية، ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ولا تنازعوا فيها، وإنما أول بدعتهم تكلمهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعيد. فقال: هذا ذكره الشهرستاني في كتاب (الملل والنحل) فقلت الشهرستاني ذكره في اسم المتكلمي لِمَ سموا متكلمين، لم يذكره في اسم المعتزلة، والأمير إنما سأل عن اسم المعتزلة. وأنكر الحاضرون عليه وقالوا: غلطت.

وقلت في ضمن كلام: أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام وأول من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها. وأيضاً فما ذكره الشهرستاني ليس بصحيح في اسم المتكلمين، فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا الاسم قبل منازعتهم في مسألة الكلام، وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء إنه متكلم، ويصفونه بالكلام، ولم يكن الناس اختلفوا في مسألة الكلام، وقلت أنا وغيري: إنما هو واصل بن عطاء، أي: لا عطاء بن واصل كما ذكره المعترض.

قلت: وواصل لم يكن بعد موت عمرو بن عبيد وإنما كان قرينه، وقد روي أن واصلاً تكلم مرة بكلام فقال عمرو بن عبيد: لو بعث نبياً ما كان يتكلم بأحسن من هذا. وفصاحته مشهورة؛ حتى قيل: إنه كان ألثغ وكان يحترز عن الراء، حتى قيل له أمر الأمير أن يحفر بئر، فقال: أوعز القائد أن يقلب قليب.

ولما انتهى الكلام إلى ما قاله الأشعري قال الشيخ المقدم فيهم: لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر من أكبر أئمة الإسلام لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء، فقلت: أما هذا فحق، وليس هذا من خصائص أحمد، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام هو منهم بريء، قد انتسب إلى مالك أناس مالك بريء منهم، وانتسب إلى الشافعي أناس هو بريء منهم، وانتسب إلى أبي حنيفة

ص: 421

أناس هو بريء منهم، وقد انتسب إلى موسى عليه السلام أناس هو منهم بريء، وانتسب إلى عيسى عليه السلام أناس هو منهم بريء، وقد انتسب إلى علي بن أبي طالب أناس هو بريء منهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف الملحدة والمنافقين من هو بريء منهم.

وذكر في كلامه أنه انتسب إلى أحمد من الحشوية والمشبهة ونحو هذا الكلام.

فقلت: المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، هؤلاء أصناف: الأكراد كلهم شافعية وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية، قلت: وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم، وكان من تمام الجواب أن الكرامية المجسمة كلهم حنفية.

وتكلمت على لفظ الحشوية -ما أدري جواباً عن سؤال الأمير أو غيره أو غير جواب- فقلت هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة، فإنهم يسمون الجماعة والسواد الأعظم الحشو، كما تسميهم الرافضة الجمهور1، وحشو الناس هم عموم الناس وجمهورهم، وهم غير الأعيان المتميزين، يقولون هذا من حشو الناس، كما يقال هذا من جمهورهم، وأول من تكلم بهذا عمرو بن عبيد، قال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه حشوياً، فالمعتزلة سموا الجماعة حشواً كما تسميهم الرافضة الجمهور.

وقلت- لا أدري في المجلس الأول أو الثاني- أول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي.

وقلت لهذا الشيخ: من في أصحاب الإمام أحمد رحمه الله حشوي بالمعنى الذي تريده؟ الأثرم، أبو داود، المروزي، الخلال، أبو بكر عبد العزيز، أبو الحسن التميمي، ابن حامد، القاضي أبو يعلى، أبو الخطاب، ابن عقيل؟ ورفعت

1 وكذلك يسمونهم (العامة) !

ص: 422

صوتي، وقلت سمّهم، قل لي من هم؟ من هم؟ أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة وتندرس معالم الدين؟ كما نقل هو وغيره عنهم أنهم يقولون إن القرآن القديم هو أصوات القارئين ومداد الكاتبين، وإن الصوت والمداد قديم أزلي من قال هذا؟ وفي أيّ كتاب وجد هذا عنهم قل لي؟ وكما نقل عنهم أن الله لا يرى في الآخرة باللزوم الذي ادعاه والمقدمة التي نقلها، وأخذت أذكر ما يستحقه هذا الشيخ من أنه كبير الجماعة وشيخهم وأن فيه من العقل والدين ما يستحق أن يعامل بموجبه.

وأمرت بقراءة العقيدة جميعها عليه، فإنه لم يكن حاضراً في المجلس الأول، وإنما أحضروه في الثاني انتصاراً، وحدثني الثقة عنه بعد خروجه من المجلس؟ أنه اجتمع به وقال له: أخبرني عن هذا المجلس فقال: ما لفلان ذنب ولا لي، فإن الأمير سأل عن شيء فأجابه عنه فظننته سأل عن شيء آخر، وقال: قلت أنتم مالكم على الرجل اعتراض، فإنه نصر ترك التأويل وأنتم تنصرون قول التأويل، وهما قولان للأشعري وقال: أنا أختار قول ترك التأويل، وأخرج وصيته التي أوصى بها وفيها قولي ترك التأويل.

قال الحاكي لي: فقلت له بلغني عنك أنك قلت في آخر المجلس لما أشهد الجماعة على أنفسهم بالموافقة لا تكتبوا عني نفياً ولا إثباتاً فلم ذاك؟ فقال: لوجهين: (أحدهما) : أني لم أحضر قراءة جميع العقيدة في المجلس الأول. (والثاني) : لأن أصحابي طلبوني لينتصروا بي فما كان يليق أن أظهر مخالفتهم فسكت عن الطائفتين.

وأمرت غير مرة أن يعاد قراءة العقيدة جميعها على هذا الشيخ، فرأى بعض الجماعة أن ذلك تطويل، وأنه لا يقرأ عليه إلا الموضع الذي لهم عليه سؤال، وأعظموه لفظ الحقيقة، فقرأوه عليه، فذكر هو بحثاً حسناً يتعلق بدلالة اللفظ، فحسنته ومدحته عليه، وقلت: لا ريب أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، سميع حقيقة، بصير حقيقة، وهذا متفق عليه بين أهل السنة والصفاتية من جميع الطوائف، ولو نازع بعض أهل البدع في بعض ذلك فلا ريب أن الله موجود

ص: 423

والمخلوق موجود، ولفظ الوجود سواء كان مقولاً عليهما بطريق الاشتراك الاشتراك اللفظي، أو بطريق التواطىء المتضمن للاشتراك لفظاً ومعنى، أو بالتشكيك الذي هو نوع من التواطىء، فعلى كل قول فالله موجود حقيقة، والمخلوق موجود حقيقة، ولا يلزم من إطلاق الاسم على الخالق والمخلوق بطريق الحقيقة محذور، ولم أر أرجح في ذلك المقال قولاً من هذه الثلاثة على الآخر، لأن غرضي تحصل على كل مقصودي، وكان مقصودي تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرت، وأن أعيان المذاهب الأربعة والأشعري وأكابر أصحابه على ما ذكرته، فإنه قبل المجلس الثاني اجتمع بي من أكابر علماء الشافعية والمنتسبين إلى الأشعرية والحنفية وغيرهم من عظم خوفهم من هذا المجلس، وخافوا انتصار الخصوم فيه وخافوا على نفوسهم أيضاً من تفرق الكلمة، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته، ولم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها صارت فرقة وتعصب عليهم أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم بما في ذلك من تمكن أعداؤهم من اعتراضهم، فإذا كان من أئمة مذهبهم من يقول ذلك وقامت عليه الحجة وبان أنه مذهب السلف أمكنهم إظهار القول به ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق، حتى قال بعض الأكابر من الحنفية- وقد اجتمع بي- لو قلت هذا مذهب أحمد وتثبت ذلك لانقطع النزاع، ومقصوده أنه يحصل دفع الخصوم عنك بأنه مذهب متبوع ويستريح المنتصر والمنازع من إظهار الموافقة، فقلت: لا والله ليس لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة وأئمة أهل الحديث، وقلت أيضاً هذا: اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية أو حديثاً أو إجماعاً سلفياً، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين والفقهاء الأربعة والمتكلمين وأهل الحديث والصوفية، وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية لا تبين أن ما ذكرته هو قول السلف وقول أئمة أصحاب الشافعي وأذكر قول الأشعري وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم، ولينتصرن كل شافعي وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف، وأبين

ص: 424

أن القول المحكي عنه في تأويل الصفات الخبرية قول لا أصل له في كلامه، وإنما هو قول طائفة من أصحابه، فللأشعرية قولان ليس للأشعري قولان.

فلما ذكرت في المجلس أن جميع أسماء الله التي سمي بها المخلوق كلفظ الوجود الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب والممكن على الأقوال الثلاثة: تنازع كبيران هل هو مقول بالاشتراك أو بالتواطىء؟ فقال أحدهما هو متواطىء، وقال الآخر هو مشترك لتلازم التركيب، وقال هذا قد ذكر فخر الدين أن هذا النزاع مبني على أن وجوده هل هو عين ماهيته أم لا؟ فمن قال وجود كل شيء عين ماهيته قال إنه مقول بالاشتراك، ومن قال إن وجوده قدر زائد على ماهيته قال إنه مقول بالتواطىء، فقال الثاني مذهب الأشعري وأهل السنة أن وجوده عين ماهيته، فأنكر الأول ذلك فقلت: أما متكلموا أهل السنة فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته، وأما القول الآخر فهو قول المعتزلة أن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وكل منهما أصاب من وجه، فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطىء كما قد قررته في غير هذا الموضع، وأجبت عن شبهة التركيب بالجوابين المعروفين، وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عينه فهو من اللغط المضاف إلى ابن الخطيب، فأنا وإن قلنا أن وجود الشيء عين ماهيته لا يجب أن يكون الاسم مقولاً عليه وعلى نظيره بالاشتراك اللفظي فقط، كما في جميع أسماء الأجناس، فإن اسم السواد مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطىء، وليسر هذا السواد عين هذا السواد، إذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما وهو المطلق الكلي، لكنه لا يوجد مطلقاً بشرط الإطلاق إلا في الذهن، ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في الخارج، فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة وهي جمهور الأسماء في الغالب، وهي أسماء الأجناس اللغوية، وهو الاسم المطلق على الشيء وعلى كل ما أشبهه، سواء كان اسم عين أو اسم صفة، جامداً أو مشتقاً، وسواء كان جنساً منطقياً أو فقهياً أو لم يكن، بل اسم الجنس في اللغة يدخل فيه الأجناس والأصناف والأنواع ونحو ذلك، وكلها أسماء متواطئة وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة.

ص: 425

وطلب بعضهم إعادة قراءة الأحاديث المذكورة في العقيدة ليطعن في بعضها فعرفت مقصوده، فقلت: كأنك قد استعددت للطعن في حديث الأوعال1 حديث العباس بن عبد المطلب -وكانوا قد تعبوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين عبد العظيم من قول البخاري في تاريخه: عبد الله بن عمرة لا يعرف له سماع من الأحنف- فقلت: هذا الحديث- مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود وابن ماجه والترمذي وغيرهم فهو- مروي من طريقين من مشهورين، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر. فقال: أليس مداره على ابن عميرة وقد قال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف؟ فقلت: قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في (كتاب التوحيد) الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف لم ينف معرفة الناس بهذا، فإذا عرف غيره ما ثبت به الإسناد كانت معرفته وإثباته مقدماً على نفي غيره وعدم معرفته، ووافق الجماعة على ذلك، وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه، وأخذوا يناظرون في أشياء لم تكن

1 أخرجه أحمد (1/206، 207) وأبو داود (4724، 4725) والترمذي (2320) وابن ماجه (193) وابن خزيمة في "التوحيد"(1/234، 237/144،145) واللالكاني في "شرح أصول الاعتقاد"(3/431، 432/649، 650،651) وأبو يعلى في "مسنده"(12/75/6713) والآجري في "الشريعة"(2/72، 73/707، 708) وابن أبي عاصم في "السنة"(1/394/589- جوابرة) وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/24) والدارمي في "الرد على الجهمية"(233) وفي "رده على المريسي"(رقم 113- ط. السماري) والبيهقي في "الأسماء والصفات"(2/285- 286، 316/847، 882) وابن أبي شيبة في "كتاب العرش"(9) وابن مندة في "التوحيد"(21) والحاكم (2/378،500، 501) والعقيلي في "الضعفاء"(2/284) وأبو الشيخ في "العظمة"(2/566- 569) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"(2/2) وابن عبد البر في "التمهيد"(7/140) وغيرهم كثير.

من طرق؛ عن سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب.. وذكر القصة. والحديث ضعيف إسناده الألباني في "ظلال الجنة" (رقم:577) .

ص: 426

في العقيدة، ولكن إنما تعلقوا بما أجبت به في مسائل وله تعلق بما قد يفهمونه من العقيدة.

فأحضر بعض أكابرهم (كتاب الأسماء والصفات) للبيهقي رحمه الله تعالى، فقال: هذا فيه تأويل الوجه عن السلف، فقلت: لعلك تعني قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1. فقال: نعم، قد قال مجاهد والشافعي: يعني قبلة الله. فقلت: نعم هذا صحيح عن مجاهد والشافعي وغيرهما وهذا حق، وليست هذه آية من آيات الصفات، ومن عدها في الصفات فقد غلط كما فعل طائفة، فإن سياق الكلام يدل على المراد حيث قال:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} والمشرف والمغرب الجهات، والوجه هو الجهة، يقال أي وجه تريد: أيّ: أقي جهة، وأنا أريد هذا الوجه أي هذه الجهة، كما قال تعالى:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} 2 ولهذا قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي تستقبلوا وتتوجهوا" انتهى.

هذا ما وجدناه منقولاً عمن نقل من خط المصنف شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه. وغرضنا من نقله أن يتبين للناظر في هذا الكتاب أن من ينقل عنهم الغبي النبهاني من مطاعن الشيخ كصدر الدين ابن الوكيل، وابن الزملكاني، وصفي الدين الهندي، والعز بن جماعة، والسبكي، ونحوهم من غلاة الشافعية، كلهم كانوا خصوماً ألدّاء للشيخ، فلا يلتفت إلى قدحهم وجرحهم. والشيخ قد كابد منهم ما كابد، وهؤلاء وأضرابهم الذين شيدوا أركان البدع، ونفثوا سم ضلالهم في أفواه متّبعيهم قاتلهم الله أجمعين، على أن ما ذكر في هذه المناظرة تنفع في مباحث كثيرة تأتي إن شاء الله، وبها يرتدع الخصم الألد.

قال النبهاني: "ومنهم الإمام أبو حيان وكان صديقاً له، فلما اطلع على بدعه رفضه رفضاً بتاً وحذّر الناس منه".

1 سورة البقرة: 115.

2 سورة البقرة: 148.

ص: 427

أقول: نعم، كان الشيخ أبو حيان من المثنين على ابن تيمية بالثناء الحسن الجميل، وله شعر جيد في مدحه نذكره في مناقبه المنقولة عن الشيخ مرعي الحنبلي1. وما ذكره من الرفض لم نعلمه ممن يوثق به، نعم ذكر الإمام الذهبي أنه بعد أن مدحه دار بينهما كلام، فجرى ذكر سيبويه، فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه، فناظره أبو حيان بسببه، ثم عاد ذاماً له، وصيّر ذلك ذنباً لا يغفر.

ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو، ولا معصوماً، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت، فكان ذلك سبب مقاطعته إياه، وذكره في "تفسيره البحر" بكل سوء، وكذا في مختصره "النهر". انتهى 2.

فمثن الممكن أن يقع بين العلماء مثل ذلك، ولكن من المعلوم أن طعن أبي حيان إنما كان بعد تخطئة ابن تيمية له والحط على سيبويه، وما ذكره النبهاني الجاهل أن رفضه كان بعد أن اطلع على بدعه قول ساقط، والسبب الذي كان من أجله المنافرة قد ذكره أهل العلم، وأي بدعة تنسب للشيخ تقي الدين حتى يهجره بسببها أبو حيان النحوي؟ وما ذهب إليه من الاختيارات كلها مبرهنة بالكتاب والسنة، كما في كتاب (الاختيارات) . ولكن النبهاني الجاهل الغافل ظن ذلك هيعة فطار إليها، ثم إن من مدح وذم فقد كذب مرتين، على أن قدح المعاصر معلوم حاله، والرجل ليس من أهل الجرح والتعديل حتى يعوّل عليه.

قال النبهاني: "ومنهم الإمام عز الدين بن جماعة رد عليه وشنّع عليه كثيراً".

جوابه: أن العز هذا كان من أعظم خصوم الشيخ وحسدته، وكانت أقواله في الشيخ تقي الدين وبهتانه عليه من أنكى سلاح ابن حجر المكي في الطعن على أهل

1 انظر "الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية"(ص 31- 32) .

2 انظر (دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها على الحركات الإسلامية المعاصرة وموقف الخصوم منها" للشيخ صلاح الدين مقبول أحمد- وفقه الله- (2/383- وما بعدها) .

ص: 428

التوحيد وأعداء الغلاة. وقد عقد ابن السبكي ترجمة له في "طبقاته" فلا نتعب القلم بها.

قال النبهاني: ومنهم الإمام كمال الدين الزملكاني الشافعي المتوفي سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ثم نقل ترجمته عن تاريخ ابن الوردي والثناء عليه، ثم نقل عن كتاب "كشف الظنون " كتاب "الدرة المضية في الرد على ابن تيمية" قال: وقد ناظره في مسائله التي شذّ بها عن المذاهب الأربعة. ثم قال: ومن أشنعها مسألة منعه شد الرحل وإعمال المطي لزيارة القبور، ومنعه الاستغاثة بغير الله، ثم أورد له أبياتاً التجأ فيها بغير الله" إلى آخر ما قال.

جوابه: أن كمال الدين هذا قد سبق ذكره في مجالس المناظرة، وأنه أحد خصوم الشيخ تقي الدين، ومثله لا يرجى منه أن يثني عليه، ومع ذلك فقد أثنى عليه كل الثناء، وسيأتي بيانه عند الكلام على مناقب الشيخ عليه الرحمة، ثم إن الرد على بعض مسائل ابن تيمية لا يقتضي الجرح فيه، فمن المعلوم ما ألف من الردود على العلماء والمجتهدين، هؤلاء الأئمة الأربعة كم ردوا عليهم وكم خالفهم من مخالف، حتى أن أصحاب الأئمة يردون على أئمتهم، ولم يقل أحد إن كل من يرد عليه كلامه يكون من المبتدعين والسالكين غير سبيل المؤمنين، كما يزعمه هذا الغبي وأضرابه من غلاة الشافعية.

قال النبهاني: ومنهم الإمام الكبير الشهير تقي الدين السبكي، ثم نقل عنه عبارته التي في كتاب (شفاء السقام) المشتملة على القدح في شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنها قوله: وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل قول لم يقله عالم قبله، وصار به بين أهل الإسلام مثله. إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال.

أقول في الجواب عن هذا الهذيان والكلام العاري عن الدليل والبرهان: إن السبكي هذا شيخ أعداء ابن تيمية وعميدهم، وعليه يعتمد الطاعنون شقيهم وسعيدهم، والمناظرات التي كانت بين السبكي وبين الشيخ قد ملأت الدفاتر،

ص: 429

ونفذت منها المحابر، وما هذى به السبكي في حق الشيخ كله قد رد عليه وعاد وباله إليه، وما كتبه في مسألة الطلاق من الاعتراض قد رد شيخ الإسلام بمجلدات رأى ابن السبكي منها مجلداً. "وشفاء السقام" رد عليه الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي، وبرد السبكي على الشيخ في المسألتين السابقتين لم يزل يفتخر على أهل الحق نظمأ ونثراً، ومن نظمه في ذلك ما قاله في أبياته المشهورة:

لو كان حياً يرى قولي ويسمعه

رددت ما قال رداً غير مشتبه

كما رددت عليه في الطلاق وفي

ترك الزيارة أقفو أثر سبسبه

وبعده لا أرى للرد فائدة

هذا وجوهره مما أضن به

والرد يحسن في حالين واحدة

لقطع خصم قوي في تغلبه

وحالة لانتفاع الناس حيث به

هدى وربح لديهم في تكسبه

وما أحسن ما رد عليه الإمام أبو المظفر الحنبلي معارضاً لأبياته هذه:

وقلت من بعد هذا قول ذي حسد

أخطأ الهدي وتجارى في تنكبه

لو كان حياً يرى قولي ويسمعه

رددت ما قال رداً غير مشتبه

كما رددت عليه في الطلاق وفي

ترك الزيارة أقفو أثر سبسبه

فضحت نفسك في هذا المقال ولم

تشعر وعجت عن المرعى وأخصبه

عرفتنا أن ما قد قلت ليس لوجـ

ـه لله بل للمرا أقبح بمنصبه

إذ لو أردت بيان الحق فهت به

في محضر الخصم إما في مغيبه

ما ذاك صدك بل خوف الجواب كما

أجبت قبل بسهم من مصوبه

ذا شأن من لم يجرد صارماً ذكراً

ماضي الغرارين غضباً من مجربه

لكن إذا الأسد الضرغام غاب عن الـ

ـعرين تسمع فيه ضج ثعلبه

كذا الجبان خلا في البر صاح ألا

مبارزٌ وتغالى في توثبه

ولو سمعت جواب الرد رحت فتى

من أعظم الخلق عن جرم وأتوبه

وقد كفاني أبو العباس كلفته

كذا أرحت لساني غير متعبه

ووافقته سراة الناس عن كثب

من أهل مذهبه أو غير مذهبه

ص: 430

من أهل بغداد والآيات شاهدة

لهم وللحق مصباح يبين به

عبت الذي قال ما فيه الخلاف من إيـ

ـقاع الثلاث ولو أفتى بأغربه

وقلت تنكح زوجاً غيره ونكا

حها مع الخلف باق في تذبذبه

وكيف تنكح من لم تبر عصمتها

بلا خلاف لشخص مع تجنبه

وفي الزيارة لم تنصف رددت على

ما لم يقله ولم تمرر بسبسبه

رداً ملخصه أشياء أذكرها

إما حديث ضعيف عند مطلبه

إما صحيح ولكن لا دليل به

على مرادك بل هدم لمنصبه

إما بمجمل لفظ قول خصمك من

أقوى المقال به قسراً وأصوبه

إما بلا علم لي والجهل غايته

أيعذر الشخص فيما لا أحاط به

فأي رد لعمري قد رددت وما

ذا قلت إذ قلت أقفو أثر سبسبه

إن كان عندك في شد الرحال إلى الـ

ـقبور نقل فعارضه بموكبه

ليعرف الحق من كان أخا نظر

خال عن العلم ناء عن تعصبه

أنى وذلك كالعنقاء في عدم

وكالسمندل يحكي مع تغيبه

ما أنت إلا كما قد قيل في مَثَلٍ

خَالِفْ لتُعْرَف مشهور لضرّبه

فشيخنا بصريح الحق حجته

ونقد نقلك زيف في تقلبه

فمن أحق بحق القول أن ظهر الـ

إنصاف مرتفعاً من فوق مرقبه

وقلت ما بعده للرد فائدة

هذا وجوهره مما أضن به

ماذا الكلام وما معناه قله لنا

أمدح أم هجو أعرب عن معربه

ما ذلك الجوهر المضنون ويحك هل

تعني به الشيخ أو رداً لمذهبه

فإن يك ماذا الطعن فيه أو الـ

ـجواب عن قوله نور بغيهبه

والرد يحسن في حالين واحدة

لقطع خصم قوي في تغلبه

وحالة لانتفاع الناس حيث به

هدى وربح لديهم في تكسبه

كتم العلوم حرام لا يجوز لذي

علم يضن بعلم عند طلبه

والرد في الحالة الأولى مضي هدرا

فاستدرك الحال الأخرى قبل مذهبه

فقل ورد إن اسطعت السبيل إذاً

وانفع به الناس كي تحظى بأثوبه

ص: 431

حاشا وكلا وإني بالسبيل إلى

رد الصواب وقد وافى بكبكبه

قل كي ترى سنناً تستن في سنن الـ

ـهدى تنكس جهماً عن توثبه

ورهطه وتريك الحق أظهر من

شمس الضحى وهلالاً وسط غيهبه

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن جمال الدين الشافعي رحمه الله من جملة قصيدته التي عارض السبكي بها:

وما رددت عليه في الطلاق فما

حققت نقلاً ولا عقلاً ظفرت به

بل فاسد القصد أعمى الذهن منك

كما هي عادة الله فيمن شان مذهبه

نزلت حول حماه كي تنازله

فما علوت عليه بل علوت به

وقد أجابك فانظر في الجواب ترى

سيفاً تجول المنايا عند مضربه

أخذت منه علوماً فانتصرت بها

على سواه وكانت من مهذبه

وحزتها مجملات من مفصلة

ففصل الآن ما أجملت تحظ به

وهكذا كل من سارت ركائبه

يقفو خطاه فسائل من مجربه

وإن تبجَّحْت بالردين لست له

كُفواً ولا أهل هذا العصر فانتبه

كم بحر علم أتاه عاد ساقية

وكم جهول أتاه صار منتبه

وما نرى لكم في الخلق فائدة

غير التنعم في النعماء من شبه

أين الثريا مكاناً في ترفعها

من الثرى قال هذا كل منتبه

من ذا يقيس نقي الجلد من درن الـ

ـدنيا وأمراضها يوماً بأجربه

لو كان عندك إنصاف ومكرمة

لو كان عندك إنصاف ومكرمة

لكنت تقفو وراه قفو مجتهد

علماً ودنيا وأمراً تفلحن به

لو وفق الله أهل الأرض قاطبة

إلى الصواب لساروا خلف مذهبه

وما نسبتم إليه عند ذكركم

ترك الزيارة أمر لا يقول به

فقد أجابكم عن ذا بأجوبة

أزال فيها صدى الإشكال والشبه

وقد تبين هذا في مناسكه

لكل ذي فطنة في القول معربه

رميتموه ببهتان يشان به

والله ينصفه ممن رماه به

وفي الجواب أمور من تدبرها

سقى الأنام بها من صفو مشربه

ص: 432

ولم يكن مانعاً نفس الزيارة بل

شد الرحال إليها فادر وانتبه

تمسكاً بصحيح النقل متبعاً

خير القرون أولي التحقيق والنبه

مع الأئمة أهل الحق كلهم

قالوا كما قال قول غير مشتبه

وقد علمت يقيناً حين وافقه

أهل العراق على فتياه فافت به

هذا وقد قلت فيما قلت مرتجلاً

فيما تقدم قولاً غير منجبه

لو كان حياً ترى قولي ويسمعه

رددت ما قال رداً غير مشتبه

فابرز ورد ترى والله أجوبة

مثل الصواعق تردي من تمر به

عقلاً ونقلاً وآيات مفصلة

من كل أروع شهم القلب منتبه

ماضي الجنان كحد السيف فكرته

يريك نثراً ونظماً في تأدبه

وقّاد ذهن إذا جالت قريحته

يكاد يخشى عليه من تلهبه

يقابلون الذي يأتي بمشتبه

من الكلام ولا يخشون ذا النبة

فنزل القوم في أعلى منازلهم

فليس ذو منصب يحمى بمنصبه

وانظر إلى من طغى في الأرض من أمم

ولا تكن سالكاً في أثر سبسبه

إن الإله يجازي كل ذي عمل

بمثل إحسانه أو قبح مكسبه

هذا جوابك يا هذا موازنة

بحراً وقافية في النظم والشبه

والحمد لله حمداً لا نفاد له

جار على مرما يقضي وأطيبه

ثم الصلاة على خير الورى شرفاً

محمد المصطفى الهادي بمذهبه

وآله والصحاب الغر كلهم

ما أشرق الجو من أنوار كوكبه

وكلا القصيدتين مشهورتان.

وقد رأيت ما لقي السبكي من الويل والعطب بسبب مجاوزته حده في الجهل والحسد، وما أحسن ما وصف به الحافظ أبو عبد الله بن قدامة كتاب (شفاء السقام) وترجم مؤلفه السبكي.

أما وصف الكتاب فهو هذا: قال الحافظ: "أما بعد؛ فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية، في الرد على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية، في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، وذكر أنه

ص: 433

قد سماه "شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة" ثم زعم أنه اختار أن يسميه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) فوجدت كتابه مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة، والآثار القوية المقبولة وتحريفها عن مواضعها، وصرفها عن ظاهرها، بالتأويلات المستنكرة المردودة.

ثم أخذ يصف المؤلف ويترجم أحواله، فقال: ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه، متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة، والآراء الساقطة، صار في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة، والحجج الداحضة، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يُسْبَقْ إليها، ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها، وهو في الجملة لون غريب وبناء عجيب، تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد، ومرة يزعم فيما يقوله ويدّعيه أنه من جملة المقلدين فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد، نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا الهداية والسداد، هذا مع أنه إن ذكر حديثاً مرفوعاً أو أثراً موقوفاً- وهو غير ثابت- قبله إذا كان موافقاً لهواه، وإن كان ثابتاً رده إما بتأويل أو غيره إذا كان مخالفاً لهواه، وإن نقل عن بعض الأئمة الأعلام- كمالك وغيره- ما يوافق رأيه قبله وإن كان مطعوناً فيه غير صحيح عنه، وإن كان مما يخالف رأيه رده ولم يقبله؛ وإن كان صحيحاً ثابتاً، وإن حكى شيئاً مما يتعلق بالكلام على الحديث وأحوال الرواة عن أحد من أئمة الجرح والتعديل- كالإمام أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي، وأبي حاتم البستي، وأبي جعفر العقيلي، وأبي أحمد بن عدي، وأبي عبد الله الحاكم صاحب "المستدرك"، وأبي بكر البيهقي، وغيرهم من الحفاظ، وكان مخالفاً لما ذهب إليه- لم يقبل قوله ورده عليه وناقشه فيه، وإن كان ذلك الإمام قد أصاب في ذلك القول ووافقه غيره من الأئمة عليه، وإن كان موافقاً لما صار إليه تلقاه بالقبول واحتج به واعتمد عليه، وإن كان ذلك الإمام قد خولف في ذلك ولم يتابعه غيره من الأئمة عليه، وهذا هو عين الجور والظلم وعدم القيام بالقسط، نسأل الله التوفيق ونعوذ به من

ص: 434

الخذلان واتباع الهوى، هذا مع أنه حمله إعجابه برأيه وغلبه اتباع هواه على أن نسب سوء الفهم والغلط في النقل إلى جماعة من العلماء الأعلام، المعتمد عليهم في حكاية مذاهب الفقهاء واختلافهم وتحقيق معرفة الأحكام، حتى زعم أن ما نقله الشيخ أبو زكريا النووي في "شرح مسلم" عن الشيخ أبي محمد الجويني من النهي عن شد الرحال، وإعمال المطيّ إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الأنبياء والصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك- هو مما غلط فيه على الشيخ أبي محمد، وأن ذلك وقع منه على سبيل السهو والغفلة، قال: ولو قاله يعني الشيخ أبا محمد أو غيره ممن يقبل كلامه الغلط لحكمنا بغلطه وأنه لم يفهم مقصود الحديث.

فانظر إلى كلام هذا المعترض المتضمن لرد النقل الصحيح بالرأي الفاسد، واجمع بينه وبين ما حكاه عن شيخ الإسلام من الافتراء العظيم، والإفك المبين، والكذب الصراح، وهو ما نقله عنه من أنه جعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء عليهم السلام معصية بالإجماع مقطوعاً بها، هكذا ذكر المعترض عن بعض قضاة الشافعية عن الشيخ أنه قال هذا القول الذي لا يشك عاقل من أصحابه وغير أصحابه أنه كذب مفترى، لم يقله قط ولا يوجد في شيء من كتبه ولا دل كلامه عليه، بل كتبه كلها ومناسكه وفتاويه وأقواله وأفعاله تشهد ببطلان هذا النقل عنه، ومن له أدنى علم وبصيرة يقطع بأن هذا مفتعل مختلق على الشيخ، وأنه لم يقله قط، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 1.

وهذا المعترض يعلم أن ما نقله هذا القاضي المشهور- بما لا أحب حكايته عنه- في هذا المقام عن شيخ الإسلام من هذا الكلام كذب مفترى لا يرتاب في ذلك، ونكنه يطفف ويداهن ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال: ولقد أخبرني الثقة أنه ألّف هذا الكتاب لما كان بمصر قبل أن يلي القضاء بالشام بمدة كبيرة،

1 سورة الحجرات: 6.

ص: 435

ليتقرب به إلى القاضي الذي حكى عنه هذا الكذب ويحظى لديه فخاب أمله ولم ينفق عنده، وقد كان هذا القاضي الذي جمع المعترض- أعني السبكي- كتابه هذا لأجله من أعداء الشيخ المشهورين، وقد زعم هذا المعترض أيضاً- مع هذا الأمر الفظيع الذي ارتكبه من التكذيب بالصدق، والتصديق بالكذب- أن الفتاوى المشهورة التي أجاب بها علماء أهل بغداد موافقة للشيخ مختلقة موضوعة، وضعها بعض الشياطين- هكذا زعم- مع علم الخاص والعام بأن هذه الفتاوى مما شاع خبرها وذاع، واشتهر أمرها وانتشر، وهي صحيحة ثابتة متواترة عمن أفتى بها من العلماء، وقد رأيت أنا وغيري خطوطهم بها، فانظر إلى تكذيب هذا المعترض بما لم يحط به علماً، وجرأته على إنكار ما اشتهر وتواتر، وكيف يحل لمن ينتسب إلى شيء من الدين أن ينسب أمراً مقطوعاً بكذبه إلى من لم يقله، ويقدح في أمر مشاهد مقطوع بصحته، ويزعم أنه مختلق من بعض الشياطين؟! هذه عثرة لا تقال وله مثلها كثيراً، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

قال: فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور وهو (شفاء السقام) أحببت أن أنبه على ما وقع فيه من الأمور المنكرة، والأشياء المردودة، وخلط الحق بالباطل، لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس لطال الخطاب، ولبلغ الجواب مجلدات، ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم، والله المستعان" انتهى.

وقال الحافظ أبو عبد الله أيضاً في موضع آخر من كتابه (الصارم المنكي) : "وقد سمعت أخا شيخ الإسلام يذكر هذا النص الذي حكاه القاضي إسماعيل في "المبسوط" عن مالك لهذا المعترض بحضرة بعض ولاة الأمر، فغضب المعترض - وهو السبكي- غضباً شديداً ولم يجبه بأكثر من قوله هذا كذب على مالك. فانظر إلى جرأة هذا المعترض وإقدامه على تكذيب ما لم يحط بعلمه بغير برهان ولا

ص: 436

حجة بل بمجرد الهوى والتخرص، وليس هذا ببدع منه فإنه قد عرف منه مثل ذلك في غير موضع، وهو من أشد الناس مخالفة لمالك في هذه المواضع التي لا يعرف لأحد من كبار الأئمة أنه خالف مالكاً فيها، بل قد حمله فرط غلوه ومتابعته هواه على نسبة أمور عظيمة- لا أحب ذكرها- إلى من قال بقول مالك في هذه المواضع التي لا يعرف عن إمام متبوع مخالفته فيها، نعوذ بالله من الخذلان، ومن عجب أن هذا المعترض صحح الحكاية المنقولة عن مالك مع أبي جعفر المنصور لأن فيها ما يتابع هواه، مع أنها غير صحيحة، بل هي باطلة موضوعة، وكذب هذا النقل الثابت الذي ذكره القاضي إسماعيل في "المبسوط" لشدة مخالفته لهواه ومقصده وما ذهب إليه، وأعرض عما ذكره أيضاً في "المبسوط" من قول مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي. لأنه مخالف لهواه، وتمسك بما في كتاب (الموازنة) لمتابعته هواه في ظنه، وهكذا عادته ودأبه يكذّب النصوص الثابتة أو يعرض عنها، ويقبل الأشياء الواهية التي لم تثبت والأمور المجملة الخفية ويتمسك بها بكلتا يديه، وليس هذا شأن من يقصد الحق وإيضاح الدين للخلق، نسأل الله تعالى التوفيق".

وذكر هذا الإمام الحافظ في أثناء كتابه كثيراً من أحوال السبكي التي لا ترضي الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بدع من هذا المبتدع بل القبوري وهو النبهاني أن يحتج على ترويج مقاصده بالسبكي وأمثاله من أسلافه غلاة الشافعية، بل الفرقة الزائغة الحلولية أعداء الحق وأهله، وخصوم الدين ومن أخذ به.

قال النبهاني: ورأيتُ للإمام السبكي عبارة موجودة الآن بخط يده هي المكتبة الخالدية في القدس، وقد أرسلت فاستكتبتها وهذه صورتها بحروفها: قال رحمه الله تعالى: في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وقفت على كتاب "العقل والنقل" لابن تيمية، فوجدت فيه مواضع أنكرتها وكتبت على بعضها حواشي، فتحركت أنوف خلق له، ففكرت في انتشار أصحاب هذا الرجل وما يخشى من انتشار بدعته وعدم من يقاومهم، فكتبت ليلة السبت عاشر شوال سنة أحد وخمسين وسبعمائة رقعة إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أسأل الله فيها ذلك. (وفي آخرها) :

ص: 437

إن كنت مصيباً في اعتقادي فقوّني، وإن كنت مخطئاً فاهدني. ثم أصبحت ورفعتها للشيخ نور الدين السخاوي ليحملها فإنه عزم على الحج وكان ذلك قبل الظهر، فلما كان الظهر جاءني شخص فأخبرني عن ابن تيمية بخبر يوجب شوطي فيه، وكنت سمعت عنه من شخص مسألة من نحو أربعين سنة فلم أصدقها فلما تابعها هذا وقع في قلبي صحة ذلك، ثم جاء آخر وآخر وآخر بمثل ذلك، ثم نظمت قصيدة أرسلتها مع الشيخ نور الدين أيضاً، فلما أكملت نظمها في ليلة الاثنين ثاني عشر الشهر المذكور وقع في قلبي أن الله تعالى ما هيأ لي تلك الأخبار في ذلك اليوم إلا هداية وجواباً عما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر هذه القضية مما أجبها، وفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ.

وها أنا أذكر نص ما كتبته في تلك الورقة وما نظمته إن شاء الله، والمرجو من الله إرسالهما ووصولهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونجحهما إن شاء الله، أما الورقة فنص ما فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم، إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله إني عبيد ضعيف عاجز مسكين، وجميع ما حصل لي من خير الدنيا والآخرة أنت كنت سببه، وأنت وسيلتي إلى الله سبحانه، وإني نشأت على دين الإسلام سالماً عن الشبه والبدع والأهوية والأغراض والميل إلى جانب من الجوانب، لا أعرف غير أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم اشتغلت بالقرآن، ثم بالفقه على مذهب الشافعي، لا أعرف غير ذلك، ولم أسمع ولم يدخل في قلبي شيء غير ذلك، لا من العقائد ولا من غيرها، ثم اشتغلت بنحو وأصول وفرائض، ثم بعلم الحديث ذا تصويب فيه إليك، ثم نظرت في شيء من العلوم العقلية، واشتغلت بعلم الكلام على طريقة الأشعري، لأنها المشهورة في بلادنا التي رأيت عليها أهلي وقومي، وبقيت أراها طريقة وسطى بين الحشو والاعتزال، ولا زلت على تلك حتى جاوزت عشرين سنة من عمري وأنا بالديار المصرية، فشاع عندنا خبر ابن تيمية وما يتفق له بدمشق، وكان بها إذ ذاك علماء يقاومونه وفي مصر القاهرة علماء وأكابر، فأحضروه واتفق له ما اتفق بسبب العقائد، ثم كتبت كلامه

ص: 438

في التوسل والاستغاثة، وتكلم معه من هو أكبر مني ورأيته واجتمعت به كثيراً، ثم عاد إلى الشام، ثم بلغنا كلامه في الطلاق وأن من علق الطلاق على قصد اليمين ثم حنث لا يقع عليه طلاق، ورددت عليه في ذلك، ثم بلغنا كلامه في السفر إلى زيارتك ومنعه إياه ورددت عليه في ذلك، ثم توفي وله أصحاب كثيرون يشيعون رأيه وينشرون تصانيفه، وجئت إلى دمشق كما يقال نائب شريعتك ومن لي برضاك بذلك، فأنا أقل عبيدك، مسكت عن الكلام في العقائد من الجانبين، لأني في نفسي أن عقولنا تضعف عن إدراك سبحات الحق جل جلاله، وأرى البقاء على الفطرة السليمة، والاكتفاء بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن لا ينبه العوام لشيء آخر، ومن كان عالماً ينظر بما ييسر له، والمعصوم من عصم الله، لكن الطلاق والزيارة أنا شديد الإنكار لقول ابن تيمية فيهما ظاهراً وباطناً، والعقائد لا يعجبني ما اعتمده فيها من تحريك قلوب العوام فيها.

قال النبهاني: انتهت عبارة الإمام السبكي بحروفها، وهي مكتوبة بخطه بلا نقط، وهكذا جاءتني صورتها فنقطتها، أما القصيدة التي ذكرها فغير موجودة". انتهى.

أقول- ومنه سبحانه المدد والتوفيق-: قد نقلت في هذا المقام ما ذكره النبهاني بحذافيره من غير تلخيص ولا اختصار- وإن كان في نقلها تضييع للمداد والقرطاس- فليعلم الناظر في هذا المقام ما خلق الله من العقول والأفهام، فيحمد الله تعالى من عوفي من داء هذا الجهل الوخيم، والضلال القديم، والنبهاني هذا رجل كذاب لا يؤمن على نقله ولا يصدق بروايته، فإنه من الغلاة والجهلة الغواة، ولكنه قد يصدق الكذوب، فإن صحت روايته هذه عن السبكي كفاه خزياً ذلك وهو الذي يناسب ما كان عليه من الغلو والابتداع الظاهر، وهذه المقالة عن السبكي قادحة في عدالته مسقطة له عن درجة أهل العلم، موصلة له إلى طبقة العوام السفلى، ومن العجيب أنه قال في أول مقالته ففكرت في انتشار أصحاب هذا الرجل وما يخشى من انتشار بدعته.. إلخ، فنسب البدعة إلى الشيخ ابن تيمية حافظ الأمة مع شهرة حاله في التعصب للسنة، فعبر عنه بالمبتدع وجعل نفسه هو

ص: 439

المتبع، وفي المثل السائر:"رمتني القرعى بدائها وانسلت" وهكذا تكون الوقاحة وعدم الحياء من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث:"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستِح فاصنع ما شئتَ"1. وهذا هو الهوى المتّبع وإعجاب المرء بنفسه الذي ورد في الخبر، وليت النبهاني المثبور كان عنده شيء من البصيرة والفهم، فلم ينقل هذه المقالة الشنعاء عن السبكي حتى فضحه بها، وقد توفاه الله تعالى منذ مئات من السنين، ولكن أبى الله إلا أن يفضح من تنقّص خيار الأمة وسلفها بكشف عورات جهالاتهم.

ثم إن ما حكاه عن السبكي من المقالة الفظيعة مختلة المبنى والمعنى يرد على كل كلمة من كلماتها إيرادات ومؤاخذات لو بسطنا الكلام فيها لاستوجب أن يفرد له كتاب مفصل، والوقت يضيق عن الاشتغال بمثل ذلك فكان من الواجب علينا أن نتكلم عليها إجمالاً، ونذكر ما يرد على محصلها ومقصدها، ولولا سوء الأدب لأجبنا مقالته تلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرنا له ما تعدى به طوره وتجاوز حده، ولكن نعوذ بالله من التجاسر على مقام النبوة والتفوه بما لم يقله، كما أنا نلجأ إليه أن يعصمنا من سوء الأدب.

ثم إن الكلام على ما قصده السبكي في مقالته من وجوه:

الوجه الأول: أن كتاب (العقل والنقل) ويسمى أيضاً (بيان موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ويسمى أيضاً (قسطاس الإنصاف والعدل في رد تعارض العقل والنقل) من مصنفات الآية الظاهرة، والحجة الباهرة، ماشطة العصر بل نادرة الدهر، بحر العلوم، وصدر القروم، الناسك العابد، والورع الزاهد؛ شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله، ألفه في الجواب عن سؤال ورد إليه، وهو: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو العقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات، فهل يجمع بينهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يرادا جميعاً، وإما

1 أخرجه البخاري (3484، 6120) .

ص: 440

أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فيجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يتأول، وإما أن يفوض، وإما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجواب عنهما ولم يمتنع ارتفاعهما؟.

فذكر في الجواب تسعة عشر وجهاً، مفصلة أتم تفصيل في بيان أن صريح المعقول لا يخالف صحيح المنقول. وفيه الذب عن الشريعة الغراء، وأنها وافية بكل ما يستوجب سعادة الدارين، ليس لها حاجة إلى إكمالها بالقواعد التي وضعها علماء الكلام من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن جميع ما جاءت به الشريعة الغراء مما يوافق ما تقتضيه العقول السليمة، وأن نصوصها لا تؤول لأجل تطبيقها على ما اخترعوه من الآراء الفاسدة، والأقوال الكاسدة، وبسط الكلام كل البسط في كل وجه من تلك الوجوه، هذا موضوع الكتاب، وهو كتاب جليل ليس له نظير في بابه، ومن النعم العظمى على الأمة ظهور هذا الكتاب في هذا العصر وانتشاره بين الناس، وما أحسن ما قال فيه الشيخ ابن القيم في منظومته "الشافية الكافية"1، وقد عقد فصلاً في ذكر مؤلفات شيخ الإسلام:

واقرأ كتاب العقل والنقل الذي

ما في الوجود له نظير ثان

فجزى الله تعالى عن المسلمين كل خير من سعى في طبعه ونشره، ومثل هذا الكتاب كيف يشتكي منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من له أدنى بصيرة في العلم أقل نظر في معرفة الشريعة، اللهم إلا إذا كان السبكي ممن ختم الله على قلبه فلم يفهمه، وتصدى للرد عليه والاستئذان من الرسول عليه السلام لأجل ذلك وما بعد الحق إلا الضلال.

1 وهي المعروفة بالنونية، وقد شرحها جمع من أهل العلم منهم الشيخ أحمد بن عيسى، والشيخ محمد خليل هراس، والعلامة السعدي، والعلامة محمد بن صالح العثيمين- رحمهم الله أجمعين-. وأقوم مع أحد طلبة العلم من إخواننا الأفاضل على جمع هذه الشروح والتنسيق بينها والتعليق عليها، وسينشر الكتاب بإذن الله في مكتبة الرشد، يسّر الله أمرنا

ص: 441

الوجه الثاني: أن الله تعالى أكمل الدين المبين قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت الشريعة الغراء ليلها كنهارها، لم تغادر شيئاً من الأحكام ولا من بيان الحلال والحرام، وبسط الكلام عليها الأئمة ومجتهدوا الأمة فلم يبق حاجة إلى مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، بل إن عمر رضي الله تعالى عنه لم يوافق على كتابة الكتاب في مرضه- وقد طلب دواة وقرطاساً- والحديث مشهور. قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1. فإذا أشكل أمر على أحد راجع أهل الذكر إن كان ممن لا يعلم، أو فتش على مقصده كتب الشريعة ونصوصها فما دلت عليه واقتضته عمل بموجبه من غير حاجة إلى كتابة شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابته عند قبره، وقال عز اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2.

ذكر المفسرون: أن الخطاب عام للمؤمنين مطلقاً، والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده، والمعنى: فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولوا الأمر منكم في أمر من أمور الدين فردّوه إلى الله، أي: فارجعوا فيه إلى كتابه، والرسول، أي: إلى سنته. ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء، لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء، إذ المراد بهم المجتهدون، والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم، وجعل بعضهم الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضاً مجادلة ومحاجة، فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل. وبعضهم قال: يراد الأعم مع أنه يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين، وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وهم الأمراء.

والمقصود؛ أن الله تعالى أمر المؤمنين عند التنازع أن يراجعوا الكتاب

1 سورة المائدة: 3.

2 سورة النساء: 59.

ص: 442

والسنة، لا أن يكتبوا كتاباً لقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلقى الجواب بمحض الأوهام كما فعله السبكي، وتمام الكلام على الآية يطلب من محله.

الوجه الثالث: أن الصحابة الكرام اختلفوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلافة اختلافاً كثيراً، وهو مذكور في محله، فلم يستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، ولم يكتبوا له: أن الأنصار يا رسول الله يقولون منا أمير ومنكم أمير، وأن بعضهم يريد أبا بكر، ومنهم من يطلب علياً، ومنهم ومنهم.

ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في مسائل علمية ولم يستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، ولم يجىء أحد منهم يسأله ماذا حكم الجد مع الإخوة، وأن فاطمة جاءت إلى أبي بكر تطلب إرث أبيها منه فأورد لها خبر:"نحن معاشر الأنبياء لا نورّث" فلم ترض بقوله وقامت وهي عليه غضبى1. ولم تستفتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره، ولا كتبت إليه ما فعل معها أبو بكر.

وخرج على عثمان أهل مصر وغيرهم فلم يستفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبره عما كان من عثمان، ولا أن عثمان شكى عليه كما فعل السبكي.

وأن علياً ومعاوية تنازعا الأمر، وجرى بين الفريقين ما جرى؛ ولم يصدر عن أحد ما صدر عن السبكي من الشكوى والاستئذان، ومثل هذه المسائل مما لا يحيط به القلم.

الوجه الرابع: أن من اشتبه عليه أمر ولم يعلم هل هو خير أم شر ليعمل بموجبه يستخير الله تعالى، فإن الاستخارة مما درج عليه السلف وتجرى على منهاجهم الخلف، وقد تكلموا عليها في فصول:

منها: في الأمور التي هي محل الاستخارة، فقالوا: ما من شأنه أن يراد ينقسم أولاً إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما يعلم كونه خيراً قطعاً كالواجب المضيق.

1 انظر "البخاري"(3092، 3711، 4035، 4240، 6725) و "مسلم"(1759) .

وانظر: "رفع الاشتباه" للمعلمي (ص 153- 154- بتحقيقي- ط. المكتبة العصرية) .

ص: 443

الثاني: ما يعلم كونه شراً قطعاً كالمحرم المجمع على تحريمه.

الثالث: ما لا يعلم على القطع خيريته ولا شريته في وقت مخصوص كالواجب الموسع والمندوب كذلك، والمندوب المضيق الذي يعارضه مندوب آخر في ذلك الوقت من غير ظهور رجحان لأحدهما والمباحات كلها، ولما كان معناها طلب خير الأمرين من الفعل في وقت معين أو تركه فيه لم يكن الأولان محلين لها، إذ أولهما خير قطعاً فلا رخصة في تركه، وثانيهما شر قطعاً فلا رخصة في فعله، فليس محلاً لها إلا الثالث، فما يوهم العموم في بعض الأخبار كالأمور في خبر جابر الآتي عام مخصص، أو أن أل فيه للعهد.

ومنها: في سرد بعض أحاديثها؛ روى البخاري في (باب ما جاء من التطوع مثنى مثنى) من "صحيحه" عن جابر بن عبد الله، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدِرُ ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال- عاجل أمري، وآجله؛ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري- أو قال- في عاجل أمري، وآجله؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان، ثم رضّني به، قال: ويسمّي حاجته"1.

وروى في (كتاب الدعوات) 2 عن جابر أيضاً، قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كسورة من القرآن، إذا همّ أحدكم بالأ مر فليركع ثم يقول: "اللهم إني أستخيرك" وساق الدعاء، وقال في آخره أيضاً: ويسمي حاجته) .

1 أخرجه البخاري (1166) .

2 برقم (6382) .

ص: 444

وروى في (كتاب التوحيد) 1 من الصحيح عنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول:"إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، إلى قوله: وأنت علام الغيوب- ولم يقل العظيم- اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر- ثم يسميه بعينه- خيراً لي في عاجل أمري وآجله قال: أو في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم رضّني به".

وروى الطبراني في "المعجم الصغير"2 عن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول:"إذا أراد أحدكم أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان في هذا الأمر خير في ديني ودنياي وعاقبة أمري فاقدره لي، وإن كان غير ذلك خيراً لي فسهّل لي الخير حيث كان، واصرف عني الشرّ حيث كان، ورضّني بقضائك".

وروي في "الكبير" عنه أيضاً قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخارة، فقال:"إذا أراد أحدكم أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك- ولم يقل العظيم- وقال: فإن كان هذا الذي أريد خيراً في ديني وعاقبة أمري فيسره لي، وإن كان غير ذلك خيراً فاقدر لي الخير حيث كان، يقول: ثم يعزم".

وروى الحافظ نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر في كتابه (موارد

1 برقم (7390) .

2 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(10/رقم: 10012، 10052) و"المعجم الأوسط"(2/321/1133- "مجمع البحرين" وفي "المعجم الصغير" (1/190) وهو حسن بالشواهد.

ص: 445

الظمآن إلى زوائد ابن حبان) عن أبي أيوب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اكتم الخطبة ثم توضأ فأحسن وضوءك، ثم صل ما كتب الله لك، ثم احمد ربك ومجده، ثم قل: اللهم إنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، فإن رأيت لي فلانة تسميها باسمها خيراً لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدرها، وإن كانت غيرها خيراً لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقض لي ذلك"1.

وروى فيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أراد أحدكم أمراً، فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كان كذا وكذا خيراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي وأعنّي عليه، وإن كان كذا وكذا الأمر الذي تريد شراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري فاصرفه عني، ثم اقدر لي الخير أينما كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله"2.

وروى فيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم

1 أخرجه أحمد (5/423) أو رقم (23706- قرطبة) وابن خزيمة في "صحيحه"(2/226/1220) وابن حبان في "صحيحه"(9/348/4040) والطبراني في "الكبير"(4/رقم: 3901) والحاكم (1/314) والبيهقي (7/147) .

من طريق: ابن وهب، أخبرني حيوة، أن الوليد بن أبي الوليد أخبره، عن أيوب بن خالد بن أبي أيوب الأنصاري عن أبيه عن جده به مرفوعاً.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي! "وليس كما قالا؛ فإن خالد بن أبي أيوب أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/2/322) بهذا السند، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو مجهول العين. وابنه أيوب بن خالد؛ قال الحافظ: "فيه لين". أفاد ذلك العلامة الألباني.

وأخرجه أحمد (5/423) أو رقم (23705) من طريق: ابن لهيعة، عن الوليد بن أبي الوليد وانظر:"الضعيفة" رقم (2875) .

2 أخرجه ابن حبان (3/167/885) والطبراني في "الدعاء"(3/1408/1304) وأبو يعلى (2/497/1342) والبزار (4/56/3185) .

ص: 446

أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، اللهم إن كان كذا وكذا خيراً لي في ديني وخيراً لي في معيشتي وخيراً لي في عاقبة أمري فاقدره لي وبارك لي فيه، وإن كان غير ذلك خيراً فاقدر لي الخير حيث كان ورضني بقدرك "1.

وروى الحافظ السخاوي في (كتاب الابتهاج بأذكار المسافر والحاج) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنس رضي الله عنه: "إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك، فإن الخير فيه" وعزاه السيوطي إلى الديلمي في "مسند الفردوس"2.

ومنها: في بيان كيفية صلاتها المذكور في كثير من الكتب إن من أراد الاستخارة يصلي ركعتين من غير الفريضة، ثم يدعوه وهو المصرح به في حديث جابر، وقال الحافظ ابن حجر في، "فتح الباري"3: قال النووي في "الأذكار": لو دعا بدعاء الاستخارة عقب راتبة الظهر مثلاً أو غيرها من الراتبة والمطلقة سواء اقتصر على ركعتين أو أكثر أجزأ، كذا أطلق وفيه نظر، ويظهر أن يقال: محله إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معاً، بخلاف ما إذا لم ينو، وتفارق تحية المسجد لأن المراد بها شغل البقعة بالصلاة، والمراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عقبها. إلى آخرها قال اهـ.

ثم إن ظاهر ما في حديث أبي أيوب ثم صل ما كتب الله لك أن الركعة الواحدة يحصل بها المقصود، وكلام الفقهاء على هذه المسألة مفصل ى في كتب الفقه.

1 أخرجه ابن حبان (3/168/886) والبخاري في "التاريخ الكبير"(4/258) وابن عدي في (الكامل" (4/1467) والطبراني في "الدعاء"(3/1409/1306) .

2 أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"(598) وقال الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع"(735) : "ضعيف جداً".

(11/189) .

ص: 447

ومنها: إذا فرغ المستخير من الدعاء فليمض كما قال النووي لما انشرح له صدره.

قال الهيثمي: "فإن لم ينشرح صدره لشيء فالذي يظهر أنه يكرر الاستخارة بصلاتها ودعائها حتى ينشرح صدره لشيء وإن زاد على السبع، والتقييد بها في خبر أنس: "إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك فإن الخير فيه". لعله جرى على الغالب إذ انشراح الصدر لا يتأخر عن السبع، على أن الخبر إسناده غريب. ووقع للشافعي أنه استخار في أمر سنة، والكلام في هذا الباب طويل، والمقصود أن السبكي ابتدع ما لم يسبق إليه أحد وترك الأمر المسنون وهو الاستخارة إن كان ما تصدى إليه من مواضعها.

الوجه الخامس: أن السبكي زعم أنه حصل له الإذن بالرد على كتاب (العقل والنقل) وأنه أمر بذلك أمراً معنوياً كما استنبطه هو بفكره الثاقب ورأيه الصائب، فلم لم يمتثله وأين رده الذي رد به على هذا الكتاب؟ وليته ألفه ليمزق بسهام الأقلام ويكون مثلة بين الأنام، فإن الذي مبلغه من العلم ما سمعت كيف يرد على شيء لا يفهمه ولا يعرفه، ثم إن ولده تاج الدين ذكر في طبقاته ترجمة والده، ونسب إليه كل فضيلة وعزا إليه كل منقبة جليلة، وذكر مصنفاته واختياراته وكلماته وهذياناته، ولم يذكر في كتبه هذا الرد، فعلم أنه بهتان مبين، وأنه لم يمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم على زعمه.

الوجه السادس: أن حديث عرض الأعمال في أيام مخصوصة على ما سبق بيانه في كلام شيخ الإسلام تقي الدين لا يقتضي كتابة شيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في قبره، بل إن أعمال أمته تعرض عليه فإن رأى خيراً سره وإن رأى غير ذلك احتسب، ولم يقل أحد أن له قدرة على تغيير ما لا يرضى الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وحياته البرزخية ليست الحياة المتعارفة وإلا لاقتضت لوازمها وأنّى له ذلك، فكيف يعرض عليه مثل تلك الأمور وما ذلك إلا عثرة من السبكي لا تقال،

ص: 448

ولا يصدر مثلها حتى عن ضعفاء العقول من الجهال؟ فبطل كلامه وزال مقصده ومرامه.

الوجه السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم- عند النبهاني وأسلافه الغلاة- ما كان وما يكون، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فما فائدة إعلامه بما أعلمه به السبكي من أنه رجل شافعي المذهب أشعري العقيدة إلى آخر ما هذى به، فإنه إذا علم ما كان وما يكون- ومنه أعمال السبكي وأفعاله- فلأجل أي شيء يخبره به؟ لا يقال: إن ذلك كإخبار امرأة عمران بما وضعت، وهو الذي حكاه سبحانه بقوله:{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 1 الآية. قالوا: إن الله عالم بما كان فَلِمَ أخبرته امرأة عمران بما أخبرته؟ أجابوا: إن الخبر تارة يُقْصَدُ به إفادة المخاطب الحكم إذا كان غير عارف به، وتارة يقصد به إفادة لازم من لوازمه المفصلة في علم المعاني، ولازم خبر امرأة عمران هو التحزن والتحسر على خيبتها وانعكاس أملها، وحمل السبكي كلامه على ذلك مما لا وجه له.

وهذا الذي ذكرنا هـ- من أن الغلاة يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه- هو مما لم يمكنهم إنكاره، كيف والنبهاني على ما أسلفناه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان وكل زمان، وقد تكلمت يوماً مع أحد غلاة الرفاعية الزنادقة ومشركيهم- إذ استغاث بالرفاعي قبل الشروع في ذكرهم- فقلت له: هل يسمع الآن نداءك الرفاعي وهو في قبره في أم عبيدة ويمدك؟.

قال: نعم.

قلت: فإذا اتفق مثلك في بلاد كثيرة ومواضع متعددة ألوف مؤلفة وإن كانوا

1 سورة آل عمران: 35- 37.

ص: 449

في أقطار شاسعة؛ فهل يسمعهم أحمد الرفاعي ويمدهم ويغيثهم؟

قال: نعم.

قلت: هذا هو الغلو الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم.

قال: ليس هذا من الغلو بل هو مقتضى الدين، ألم تسمع حديث الأولياء وهو قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري:"وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" الحديث؟ فظن هذا الغبي الجاهل أن معناه ما يعتقده إخوانه أهل الزيغ والإلحاد من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدرات أنه يصير في معنى الحق تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله تعالى هو الذاكر لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدماً صرفاً في شهوده وإن لم تعدم في الخارج.

أقول قد زلَّتْ أقدام أقوام في معنى هذا الحديث واستشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره.

والجواب على ما ذكره العسقلاني في شرحه من أوجه:

أحدها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح.

ثانيها: أن المعنى كليته مشغولة بي فلا يصغي بسمعه إلا ما يرضيني ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به.

ثالثها: أجعل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره إلخ.

رابعها: كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه.

خامسها: قال الفاكهاني، وسبقه إلى معناه ابن هبيرة: هو فيما يظهر لي أنه

ص: 450

على حذف مضاف والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه وحافظ بصره كذلك إلخ.

سادسها: قال الفاكهاني: يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله وهو أن يكون معنى سمعه مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل فلان أملي بمعنى مأمولي، والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكري، ولا يلتذ إلا بتلاوة كلامي، ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا ينظر إلا لعجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي، ورجله كذلك" انتهى.

وقد ذكرت هذه المسألة في موضع آخر.

والمقصود؛ أن الغلاة يعتقدون أن الولي يعلم كما يعلم الله، ويبصر كما يبصر الله، ويسمع كما يسمع الله، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأولياء والأصفياء، فلا بد أنهم يعتقدون فوق اعتقادهم في الولي، فإذا كان الأمر على ما ذكر فلا وجه لما كتبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان السبكي لا يعتقد ذلك الذي ذكرناه من الصفات التي لا تثبت إلا للخالق دون الخلوق فما وجه كتابة تلك المقالة ونظم القصيدة وإرسالهما مع الشيخ نور الدين السخاوي؟ فعلى كلا الوجهين أن السبكي قد أخطأ فيما فعله وأبان به جهله وغيه وضلاله.

هذا حال السبكي الذي أعده النبهاني المسكين سلاحاً في ميدان الطعن بشيخ الإسلام وجرحه، والحمد لله الذي جعل أعداء أهل الحق في كل عصر وزمان من أجهل الناس وأضلهم وأغواهم، ومن العجائب أن السبكي- مع هذه الأحوال التي سمعتها- قد جعله ابن حجر المكي من المجتهدين الاجتهاد المطلق، وأنه مما لم يخالف أحد في وصوله إلى هذه المرتبة، وأنه أمام أهل التحقيق، التدقيق، وأنه ليس له نظير ولا قرين في كل فن، إلى غير ذلك من الأوصاف الجليلة، فإذا جرى ذكر تقي الدين ابن تيمية وأصحابه من أهل الحديث الحفاظ المتقنين شتمهم بكل ما خطر له، وذمهم بكل ما يقع في تصوره، فانظر إلى هذا التعصب وعدم الإنصاف، وهذا أحد الأسباب التي أوجبت انحطاط الإسلام إلى ما نرى،

ص: 451

وأعظمها تطاول السفهاء وإناطة الأمر إلى غير أهله، وعنده يترقب الخراب العام.

وابن السبكي الذي جرى مجرى أبيه لم يدع منقبة من مناقب الأولين والآخرين إلا وأثبتها لوالده ظناً منه أن الحقائق تخفى، وما درى هذا المسكين أن الأمر كما قيل:

ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وفي المثل السائر: كل فتاة بأبيها معجبة.

والمقصود؛ أن قدح مثل السبكي بمثل الشيخ ابن تيمية كصرير باب، وطنين ذباب، ولولا التُّقى لقلنا: لا يضر السحاب نبح الكلاب.

قال النبهاني: ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، وذكر من فضله وغزارة علمه ما هو غني عن البيان، ونقل عنه عبارة ذكرها في "فتح الباري" عند الكلام على حديث:"لا تشد الرحال" إلخ، وهي قوله في مسألة تحريم شد الرحل والسفر إلى زيارة القبور: وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية إلخ، ثم نقل عنه ما قاله في تقريظه على كتاب (الرد الوافر) مما ليس فيه مطعن ولا مغمز لثالب.

جوابه أن الحافظ ابن حجر العسقلاني موالاته ومحبته للشيخ ابن تيمية مما لا ينكره إلا جاهل1، وقد تلّقى العلم عن تلامذة الشيخ وأصحابه وانتفع بكتبه وقرأ كثيراً منها درساً، وهذا هو اللائق به وبأمثاله من أهل الفضل والعلم، وقد قيل: إنما يعرف ذا الفضل ذووه. والعبارة التي نقلها النبهاني عنه وهي قوله عن منعه من سفر الزيارة: وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية إلخ. أي طعن فيها وقدح في عدالة ابن تيمية؟ ومن المعلوم ما كان من الردود على كل من الأئمة، ولم يخل ذلك بشرفهم ولا خفض من منزلتهم، وقد قال غير واحد من أهل العلم: إن مسألة التزوج بالبنت من الزنا من أبشع المسائل المنقولة عن

1 وللحافظ ابن حجر العسقلاني ترجمة مستقلة لشيخ الإسلام، وقد طبعت بدار ابن حزم ببيروت.

ص: 452

الشافعي، وأن مسألة تزوج المغربي بالمشرقي أو بالعكس ثم ولدت الزوجة ولداً يلحق بالأب وإن لم يجتمع الزوجان قط من أبشع المسائل المنقولة عن أبي حنيفة، وإن جواز التيمم بالثلج من أبشع المسائل المنقولة عن الإمام مالك، وهكذا إلى ما لا يسعه المقام، وأي إمام من الأئمة لم ينسب إليه أقوال شاذة؟! هذا إذا قلنا إن مسألة المنع من سفر الزيارة من الشواذ، مع أن الأمر ليس كما ذكروا، كيف والأدلة القطعية قائمة على ما قاله؟ وقد سبقه إليه الأئمة المقتدى بهم وقد سبق بيان ذلك مفصلاً فيما نقلناه عن الشيخ من الكتابين، وما نقله النبهاني من كلام الحافظ العسقلاني على (الرد الوافر) هو رد عليه، لأنه ليس فيه إلا الثناء والمدح، وتبرئته عما يوجب اللوم والقدح، ولم ينقل العبارة بعينها لأن ذلك مناقض لغرضه الفاسد، ومخالف لما يرومه من التلبيس والتدليس قالته الله ما أجهله، وها نحن ننقلها بنصها ليتبين ما ذكرناه أنه كان من أخلص الناس مودة لشيخ الإسلام:

قال العلامة المحدث السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس عليه الرحمة في كتابه (القول الجليّ في ترجمة الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي) صورة تقريظ للإمام الحافظ في عصره بل حافظ الدنيا العلامة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن العسقلاني قدس الله سره على (الرد الوافر) 1 لابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي رحمه الله تعالى ولفظه:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وقفت على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جمع لها جامع، فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنفه، وتضلعه من العلوم النافعة بما عظمه بين العلماء وشرفه، وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين ابن تيمية أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام باق إلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غداً كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره وتجنب الإنصاف، فما أكثر غلط من

(ص 246- وما بعدها) .

ص: 453

تعاطى ذلك وأكثر عثاره، فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور نفوسنا، وحصائد ألسنتنا بمنه وفضله.

ولو لم يكن من فضل هذا الرجل1 إلا ما نبه عليه الحافظ الشهير علم الدين البرزالي في تاريخه؛ أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين لكفى، وأشار إلى أن جنازة الإمام أحمد كانت حافلة جداً شهدها مؤون ألوف، لكن لو كان بدمشق من الخلائق نظير ما كان ببغداد بل أضعاف ذلك لما تأخر أحد منهم من شهود جنازته، وأيضاً فجميع من كان ببغداد إلا الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإمام أحمد، وكان أمير بغداد وخليفة الوقت إذ ذاك في غاية المحبة له والتعظيم، بخلاف ابن تيمية، وكان أمير البلد حين مات غائباً، وكان أكثر من في البلد من الفقهاء قد تعصبوا عليه حتى مات محبوساً بالقلعة، ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم والتأسف عليه إلا ثلاثة أنفس تأخروا خشية على أنفسهم من العامة، ومع حضور هذا الجمع العظيم فلم يكن لذلك باعث إلا اعتقاد إمامته وبركته لا بجمع سلطان ولا غيره، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أنتم شهداء الله في الأرض"2.

ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مراراً بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعُقِدَتْ له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة ودمشق، ولا يعلم عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا حكم بسفك دمه، مع شدة المتعصب عليه حينئذ من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم يعترف بسعة علمه وزهده ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصرة الإسلام، والدعاء إلى الله تعالى في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق أنه كافر بل من أطلق على من سماه شيخ الإسلام الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك فإنه شيخ مشايخ الإسلام في عصره بلا ريب. والمسائل التي أُنكِرَتْ عليه ما كان يقولها بالتشهّي، ولا يصر على القول بها بعد

1 في "الرد الوافر": "ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرجل..".

2 أخرجه البخاري (2642) ومسلم (949) .

ص: 454

قيام الدليل عليه عناداً. وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبرّي منه. ومع ذلك فهو بشر يخطىء ويصيب، فالذي أصاب فيه- وهو الأكثر- يستفاد منه ويترحّم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه بل هو معذور، لأن علماء الشريعة شهدوا له بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه العاملين في إيصال الشر إليه- وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني- شهد له بذلك، وكذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره.

ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان من أعظم الناس قياماً على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فيا قرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره، ويا سرورهم إذا رأوا من يكفره من أهل العلم. فالواجب على من تلبس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشهورة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر، فليحذر منه على قصد النصح، ويثني عليه بفضائله فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء الأنجاب.

ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية، صاحب التصانيف النافعة السائرة، التي انتفع بها الموافق والمخالف؛ لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته، فكيف وقد شهد بالتقدم في العلوم والتميز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة؟

فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام لا يلتفت إليه ولا يُعَوَّلُ في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذاك إلى أن يراجع الحق ويذعن للصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قال: وكتبه أحمد بن علي بن محمد بن حجر الشافعي عفا الله عنه، وذلك

ص: 455

التاسع من شهر ربيع الأول عام خمسة وثلاثين وثمانمائة، حامداً لله ومصلياً على محمد ومسلماً. هذا آخر كلامه.

فانظر أيها المنصف إلى كلام هذا الإمام في الذب عن شيخ الإسلام؛ هل تراه منتصراً له أم طاعناً عليه؟ وهل تجده مادحاً له أم موجهاً سهام الذم بين يديه؟

وانظر إلى تحريف النبهاني الذي سبق به تحريف أسلافه اليهود، فقد نقل منه ما ظن بزعمه أنه ينفعه، وترك ما هو شجي في فمه، كل ذلك لأجل ترويج ضلاله وهواه وباطله.

فبالله عليك أيها الواقف على مثل هذه الأحوال؛ هل يليق أن يولى هذا الرجل الحكم على أموال الناس وأعراضهم ودمائهم، وهو يخون- جهلاً واتباعاً لهواه- هذه الخيانة التي لم تخف على أحد من طلبة العلم فضلاً عن أكابر العلماء، ومحققي الفضلاء؟! فيا خسارة لمن تولى الحكم عليه هذا الغبي الجاهل، وعبث كما أداه إليه هواه في المحافل.

قال النبهاني: ومنهم السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس ألف كتاباً مستقلاً سماه (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين بن تيمية الحنبلي) ذكر فيه مناقبه وكلام العلماء في الثناء عليه، إلى أن قال: قال صفي الدين في كتابه المذكور: قد نص على أنه- أي ابن تيمية- بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين، ومن أشنع ما وقع له مسألة تحريم السفر إلى زيارة القبور، وقد قال به قبله أبو عبد الله بن بطة الحنبلي في "الإبانة الصغرى".

ثم قال صفي الدين في موضع آخر من كتابه: فإن قلت ما نقلته في هذا الجزء يدل على براءة الشيخ مما نسب إليه، فما بال عليّ القاري والتقي الحصني وابن حجر الهيتمي وغيرهم ينسبونه إلى أمور فظيعة.

قلت: اعلم- وفقك الله تعالى- أن ابن تيمية رحمه الله تعالى كان رجلاً

ص: 456

مشهوراً بالعلم والفضل وحفظ السنة، وكان مبالغاً في مذهب الإثبات، وكان يكره التأويل أشد الكراهة، وكان يرد على الصوفية ما ذكروه في كتبهم من وحدة الوجود وما شاكلها على عادة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين، فرد على الشيخ محي الدين ابن العربي، والشيخ عمر بن الفارض، وعبد الحي بن سبعين وأضرابهم، وكان قد خالف الأئمة الأربعة في بعض الفروع كمسألة الزيارة والطلاق، وكان يناظر عليهما فقام عليه ناس وحسدوه وأبغضوه وأشاعوا عنه ما لم يقله من التشبيه والتجسيم وغير ذلك، فدخل ذلك على بعض أهل العلم من الحنفية والشافعية وغيرهم ولم يطلبوا تحقيق ذلك من كتبه المشهورة، واعتمدوا على السماع فوقع منهم ما قد وقع، وقد وقع مثل هذا لغير واحد من أهل العلم والفضل.

ثم قال: وقد أنكروا على الشيخ أشياء لا بأس بذكر الجواب عنها والاعتذار؛ فأقول: قالوا يقول بحرمة السفر إلى زيارة القبور، وقد خالف في ذلك الإجماع، قال صفي الدين: قلت وهو مخطىء في ذلك أشد الخطأ، ولكن لا يلزم من القول به التفسيق فضلاً عن التكفير، لأنه صدر ذلك عن شبهة ولو كان ذلك الدليل خطأ عندنا". انتهى كلام صفي الدين البخاري. ومثله العلماء الذين أثنوا على ابن تيمية ذكروا خطأه الفاحش في مسائله التي خالف فيها الإجماع". انتهى كلام النبهاني.

والجواب: أن كلام النبهاني هذا على نمط ما قبله، فإن السيد صفي الدين الحنفي عليه الرحمة ألف كتابه (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي) وذكر فيه أقوال أساطين العلماء الذين أثنوا عليه، وذب عنه وأجاب عما نسب إليه من الاختيارات بما لا مزيد عليه، وقال في خطبة كتابه:

"وبعد؛ فهذا جزء لطيف في ترجمة شيخ الإسلام، وبركة الأنام، علم الزهاد، وأوحد العباد، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، تقي الدين أبي العباس، وذكر نسبه إلى أن قال ابن تيمية الحراني نزيل دمشق رحمه الله، لخصته مما اجتمع عندي من كلام الفقهاء والمحدثين، رجاء للثواب ونفعاً للأحباب ".

ص: 457

فانظر أيها المنصف كيف ساغ للنبهاني الجهول أن يذكر السيد صفي الدين هذا من جملة من رد على الشيخ ابن تيمية وينقل عنه ما يهدم بنيانه؟ وهل ذلك إلا من جملة أحكام منصبه التي يحكم بها بغير ما أنزل الله؟ قاتله الله تعالى ما أشغفه بالباطل واتباع الهوى!

والعبارة التي نقلها محرفة غير منقولة بتمامها، وكتاب السيد صفي الدين بين الأيدي فلا نتعب البنان بنقل كلامه في هذا المقام، وقد أسلفنا مراراً أن رد بعض العلماء على بعض لا يستوجب القدح على من رد عليه ولا تبديعه ولا تفسيقه بوجه، هذا فخر الدين الرازي قد حشى تفسيره من الرد على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وملأه من الهذيان عليه فأيّ قدح لحق بالإمام أبا حنيفة من ذلك؟ واعترض بعض علماء المالكية على الإمام الشافعي بما لا مزيد عليه فأفي نقص لحقه منه؟ وهكذا مما لا يسع المقام بيانه، هذا لو سلمنا أن السيد صفي الدين قد رد على الشيخ، فكيف والأمر بخلاف ذلك؟.

قال النبهاني: "ومنهم الحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي، ثم نقل من كتاب السيد صفي الدين ما ذكره من عبارته المشتملة على الثناء على الحافظ ابن القيم، إلى أن قال: نعم أوذي بسبب قوله بقول الشيخ ابن تيمية في مسألة الطلاق، ومع أنه خالف الأئمة الأربعة في ذلك فلم ينفرد به كما هو مبين في موضعه، وهو وإن كان خطأ فاحشاً فلا يوجب التفسيق" انتهى.

والجواب: ما حكيناه سابقاً؛ فإن ما نقله من الكلام هو أيضاً على نسق ما قبله، فإن النبهاني ينقل ما ذكره السيد صفي الدين من أقوال العلماء الذابة عن الشيخ فيعكس النبهاني القضية ويجعل تلك الأقوال رادة عليه، ثم ذكر كلام البلقيني، والإمام السيوطي، والكزبري، والشيخ علي القاري، والخفاجي، وابن إسحاق المالكي، والزرقاني، والصفدي، والمناوي، في الرد على الشيخ بزعمه، مع أن غالب من ذُكِرَ كانوا من المثنين عليه والموالين له، وكلامهم الذي نقله عنهم يشهد لما قلناه، ولو سلم أن في كلام بعضهم غض على الشيخ استوجبه

ص: 458

التعصب والتقليد للأشياخ وعدم الإنصاف فلا نتعب البنان بنقل عباراتهم والكلام عليه.

قال النبهاني: "ومنهم صاحبنا العالم العامل الفاضل الكامل الشيخ مصطفى بن أحمد الشطي الحنبلي الدمشقي، قال: ألف حفظه الله رسالة مخصوصة سماها (النقول الشرعية في الرد على الوهّابية) وختمها بخاتمة في تأييد مذهب سادتنا الصوفية، وطبعها ونشرها، فمما قاله في المقالة الأولى منها- التي تكلم فيها على الاجتهاد-: "لا شك أن من ادّعى ذلك في هذا الزمان عليه إمارة البهتان، كما يقع دعوى ذلك من فرقة شاذة نسبت نفسها للحنابلة". إلى أن قال: "وقد ينكرون دعوى الاجتهاد ويحتجون بعبارة شيخ الإسلام ابن تيمية فقط مع أن الإمام المذكور قد خرج من مذهب الحنبلي في عدة مسائل تفرد بها وتهيأ بخصوصها للاجتهاد المطلق، إلا أنها لم تدون على كونها مذهباً له كما دونت فروع مسائل المذاهب الأربعة.

ثم ذكر بعض تلك المسائل إلى أن قال: وذكر في المقالة الرابعة من هذه الرسالة جواز التوسل والاستغاثة والاستشفاع بالأنبياء والأولياء والصالحين حال حياتهم وبعد مماتهم، وأقام الدليل على ذلك من الكتاب والسنة

إلى آخر قوله".

والجواب: أن النبهاني كالغريق يتشبث بالحشيش، حيث استدل بكل قول سمعه ووافق هواه، ولو كان صادراً من الأطفال والصبيان، وقصده أن يعظم حجم كتابه ليهول به على أمثاله من الجهلة، ومن الشيخ مصطفى هذا الذي ذكره حتى يحتج بقوله في باب الجرح والتعديل؟! أيظن أنه بسبب انتمائه إلى مذاهب الحنابلة يؤخذ بقوله ويوثق بنقله؟ فهل يلزم أن من ينتمي إلى الشافعي كلهم كالسبكي وابن حجر المكي ونحوهما من الغلاة؟ لا والله؛ بل فيهم أئمة هادون مهديون، وأفاضل منصفون، وهكذا أصحاب كل مذهب والناس معادن.

وما كل مخضوب البنان بثينة

ولا كل مصقول الحديد يماني

ص: 459

هذا مع أن ما نقله عن صاحبه فلا حجة فيه لما هو بصدده.

أما مسألة انقطاع الاجتهاد التي ذكرها فقد تكلمنا عليها أول الكتاب بما لا مزيد عليه، وأما ما نقله عن شيخ الإسلام فهو حق وقد شهد له بالاجتهاد المطلق أكابر العلماء، وأما قوله بالاستغاثة والتوسل فقد مر الكلام على بطلانها مفصلاً، وأما ثناؤه على الصوفية فلم يبين الثناء منه كان على أي قسم منهم، فأما من كان منهم على منهج الجنيد وأضرابه فهم أهل للثناء، وأما من كان يقول منهم بوحدة الوجود ويتكلم بما يصادم الشريعة فمدحهم والثناء عليهم مما يأباه العلماء الربانيون، فما نقله عن صاحبه لا يفيده فيما هو بصدده من ذكر كلام الرادين على شيخ الإسلام، وقد ذكرنا أنه ليس في كلامه ما يرد عليه، وكتاب النقول الشرعية قد رد عليه علماء أهل السنة فلا نناقشه على ما ذكر من السقط.

قال النبهاني: ومنهم الإمام شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي المكي، وهو أشدهم رداً على ابن تيمية محاماة عن الدين، وشفقة على المسلمين، من أن يسري إليهم شيء من غلطاته الفاحشة، ولاسيما فيما يتعلق بسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن نظر بعين الإنصاف شهد لهذا الإمام ابن حجر بالولاية، وأنه ربما يكون قد أطلعه الله! على ما سيحصل في المستقبل من الأضرار العظيمة التي ترتبت على أقوال ابن تيمية، من فرقته الوهابية، التي هو أصل اعتقادها، وأساس فسادها، ولا يخفى ما خصل منها من الأضرار العظيمة في حق المسلمين والإسلام، ولاسيما في الحرمين الشريفين وجزيرة العرب، فمن المحتمل احتمالاً قريباً أن يكون الحق سبحانه وتعالى قد أطلع الإمام ابن حجر على ذلك على سبيل الكرامة! وهو أهل لذلك، فإنه رضي الله عنه كان من أكابر العلماء العاملين، والأئمة الهادين المهديين، وهذا علمه وكتبه النافعة التي خدم بها الأمة المحمدية خدمة لم يشاركه فيها سواه من عصره إلى الآن قد ملأت الدنيا، وانتفع بها الخاص والعام في جميع بلاد الإسلام، ومن كان كذلك لا يستبعد عليه أن يكون الله تعالى قد أكرمه بإطلاعه على بعض المغيبات، ومنها ما حدث من فرقة الوهّابية أتباع ابن تيمية من المضار العظيمة على الشريعة

ص: 460

المحمدية، والملة الإسلامية، ولذلك كان رضي الله عنه أشد أئمة المسلمين إنكاراً لبدع ابن تيمية ورداً عليه بأشد العبارات شفقة على المسلمين، ومحاماة عن هذا الدين المبين، وله في ذلك عبارات كثيرة في كتبه ولاسيما في الفتاوى الحديثية، ولم أر حاجة إلى نقلها هنا فمن شاءها فليراجعها.

أقول: إنا قد أسلفنا عن النبهاني هذا المفتري على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه قد اتصف بصفات الخزي والسوء وعدم الأدب والحياء من الله ومن الناس فلا يستحى من كذب ولا يبالي بخزي، وأما مساويه فهي كما قال القائل:

مساو لو قسمن على الغواني

لما أمهرن إلا بالطلاق

وهو- والأمر لله تعالى- لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فلا ينجع فيه كلام ولا يؤثر فيه سهام الملام، بل هو كما قال المتنبي:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

ولم يزل يبدي ويعيد بباطله، ويكرر كلامه مرة بعد أخرى، وينقل المسائل التي قد تكرر الرد عليها من العلماء الأعلام، ومزقوها بسهام الملام، ولم يؤثر فيه كل ذلك حتى كأنه لم يسمع بما قيل فيها وطعن عليها، بل يعتقدها وحياً منزلاً من الله عز وجل، فهو ممن قال الله تعالى فيه:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 1.

وقد ذكر في هذا الكلام كلاماً لابن حجر المكي- عامله الله بعدله - في قدح ابن تيمية وسبه وشتمه، وقال: إنه كان أشدهم رداً عليه.

والأحرى به أن يقول إنه كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا، فإنه قد ملأ كتبه بشتم عباد الله الصالحين، أهل الحديث النبوي وخدّام السنة المطهرة والشريعة الغراء، وقد انتدب للرد عليه بعض أهل العلم من عصرنا وقبله وبينوا سقطاته

1 سورة البقرة: 74.

ص: 461

وغلطاته، وكذبه وافترائه، وخيانته في النقل، وتحريفه للكلم عن مواضعه، وغير ذلك من الأمور التي لا يقدم عليها من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومزقوا بسهام أقلامهم جميع ما حاكه من نسج الأباطيل وزخرف الأقاويل بما لا مزيد عليه، كما قد ردوا على أسلافه الغلاة بمثل ذلك، وكتبهم مشهورة متداولة بين الأيدي، وفيها الكفاية لمن أخذت الهداية بيديه، ومن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وحيث أن النبهاني ميت القلب، بليد الطبع، جامد القريحة، يرى كلام متبوعيه وأسلافه كالشريعة المنزلة والدين المتّبع، ولا شك أن ذلك مما كان عليه أهل الجاهلية، ففي "شرح مسائل الجاهلية" التي أبطلها الإسلام للعلامة أبي عبد الله الشيخ محمد قوله: "ومنها الاقتداء بفسقة أهل العلم وجهالهم وعبادهم وقد حذرهم الله تعالى من ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2. إلى آيات أخر تنادي ببطلان الاقتداء بالفسقة وأهل الضلالة والغي، وذلك من سنن أهل الجاهلية، وطرائقهم المعوجة الردية.

قال: ومنها الاحتجاج بما كان عليه القرون السالفة من غير تحكيم العقل والأخذ بالدليل الصحيح، وقد أبطل الله ذلك بقوله:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى *كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} 3 الآية. وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا

1 سورة التوبة: 34.

2 سورة المائدة: 77.

3 سورة طه: 49- 54.

ص: 462

الْأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 1. وقال عز ذكره: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} 2. وفي آية أخرى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 3.

فجعلوا مدار احتجاجهم على عدم قبول ما جاءت به الرسل أنه لم يكن عليه أسلافهم ولا عرفوه منهم، فانظر إلى سوء مداركهم وجمود قرائحهم، ولو كانت لهم أعين يبصرون بها وآذان يسمعون بها لعرفوا الحق بدليله، وانقادوا لليقين من غير تعليله، وهكذا أخلافهم ووراثهم قد تشابهت قلوبهم"اهـ.

والنبهاني من هؤلاء القوم الذين تكلم عليهم في شرح المسائل، وهو مع جهله بكل علم ألف كتاباً ذكر فيه مباحث كأنه لم يسمع بردها، ولا علم بباطلها، وملأه من الهذيان والزور والبهتان، فكان ممن قالوا:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .

ومع ذلك فنحن نتكلم على ما نقله هنا عن ابن حجر، ونجيب عنه بجوابين مجمل ومفصل.

أما الجواب المجمل؛ فهو أن ما نُقِلَ عن ابن حجر لا يضر شيخ الإسلام فإنه عدو له ومن خصومه الألداء، كما يدل على ذلك ما كان منه من الشتم والسب واللعن وغير ذلك مما لا ينبغي أن يذكر بعضه في حق أعداء الله كاليهود وغيرهم من أعداء الدين، وذلك خارج عن قوانين المناظرة المقصود منها إظهار الصواب، والحامل له على ذلك تعصبه للسبكي، فإن كثيراً من الشافعية لهم حظ وافر مما

1 سورة القصص: 36- 37.

2 سورة المؤمنون: 23- 25.

3 سورة ص: 6-7.

ص: 463

كان عليه أهل الجاهلية من انتصار بعضهم لبعض ولو ظلماً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"من تعزّى بعزاء الجاهلية فاعضّوه بِهنّ أبيه ولا تكنوا"1.

وفي "شرح المسائل" التي أبطلها الإسلام ما نصه: "ومن خصال الجاهلية أنهم لا يقبلون من الحق إلا ما تقول به طائفتهم، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2.

ومعنى (نؤمن بما أنزل علينا) أي: نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل في تقرير حكمها. ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل وهو الظاهر وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغياً وحسداً على نزوله على من ليس منهم، وإما أنفسهم، ومعنى الإنزال عليهم: تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن، ودسائس اليهود مشهورة، أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم، كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه.

(ويكفرون بما وراءه وهو الحق) أي: هم مقارنون لحقيقته أي عالمون بها. (مصدقاً لما معهم) لأن كتب الله يصدق بعضها بعضاً، فالتصديق لازم لا ينتقل، وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالاستدلال عليه، ولهذا تضمنت رد قولهم:

1 أخرجه أحمد (5/133، 136) أو رقم (21298، 21313، 21314، 21315، 21317) والبخاري في "الأدب المفرد"(963) والنسائي في "الكبرى"(6/242/1080، 10811، 10812) والطبراني في "المعجم الكبير"(1/رقم: 532) وغيرهم، وصححه الألباني في "الصحيحة"(269) .

قال الجيلاني في "فضل الله الصمد"(2/428) : "تعزّى: التعزي: الانتساب إلى قوم، كقولهم: يا لفلان، يا لبكر، يا لتميم.

وأعضوه بهن أبيه: أي: اشتموه صريحاً وسبّوه. والعض أخذ الشيء بالأسنان، والمعنى: اعضض بهن أبيك الذي كان سبباً لولادتك تنكيلاً".

2 سورة البقرة: 91.

ص: 464

{نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} حيث أن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك تسكيتاً لهم حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوغه.

قال: ومنها التعصب للمذهب والإقرار بالحق للتوصل إلى دفعه، قال تعالى:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1.

قال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا آخر النهار، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذاك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا إنهم أهل كتاب وهم أعلم به، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم" انتهى.

وما كان عليه ابن حجر المكي من الغلو في القبور والقول بأقوال المتصوفة الكاذبة وترويج بدعهم المعلومة أمر لا يسعه الإنكار، وكتبه طافحة بمثل هذه الأكاذيب، وشيخ الإسلام قد بين أحكام الله تعالى في هذه الفئة الزائغة، وذكر ما وردت به الشريعة من القول الحق الذي يذعن له كل من يسمعه ويصغي إليه، وذلك من المسلم حتى لدى خصومه.

فمن جملة ما كتبه أبو الحسن السبكي إلى الحافظ الذهبي أحد من أخذ على شيخ الإسلام في حق الشيخ تقي الدين ما نصه:

"وأما قول سيدي في الشيخ فالمملوك متحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من

1 سورة آل عمران: 72- 74.

ص: 465

ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمع الله له من الورع والزهادة والديانة، ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف وأخذه من ذاك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان" انتهى.

والمقصود؛ أن كل ما اعترض به ابن حجر على شيخ الإسلام مردود عليه، فإن منه ما هو افتراء، ومنه ما هو مؤيد بالحجج والدلائل القطعية، ومنه ما لم ينفرد به بل قال بقوله جمع من المجتهدين، وإن ما كان من تهور ابن حجر ليس من الدين في شيء وإنما لمزيد حبه وغيه واتباعه لهواه، فكلامه الذي نقله الغبي النبهاني وغيره كله مردود عليه.

وأما الجواب المفصل؛ فنقول: أما قول ابن حجر فيه ما قال فذلك قول النبهاني هو أشدهم رداً على ابن تيمية محاماة عن الدين وشفقة على المسلمين إلخ.. فقد صدق في جملة من هاتين الجملتين وكذب في الأخرى، أما ما صدق فيها فقوله عن ابن حجر أنه أشد الناس رداً عليه، والأمر كما قال. والسبب في ذلك ما ذكرناه سابقاً من الحب للبدع والكراهة للسنن النبوية، فإن من نظر إلى كتب الشيخ ابن تيمية وجدها ديناً خالصاً، وكلاماً أشبه شيء بالذهب المُصَفّى، وعلم منها حرصه رحمه الله على السنة والمحاماة للشريعة، والحط على أعداء الدين وخصماء السنة، ومزيد حبه للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن راجع بعض فصول كتابه (الصارم المسلول) تبين له ما قلناه.

كل ذلك بخلاف ما كان عليه ابن حجر، فتراه في كثير من كتبه يروّج البدع ويدافع عنها، ويذب عن أهلها، ويخاصم أتباع السنن، ويعادي أهل الحديث أشد العداوة، وينسب إليهم كل ما خطر على باله وجرى على لسان قلمه من الإفك والزور والبهتان، انظر إلى ما ذكره في فتاواه الحديثية بل البدعية تجدها مشحونة من العدوان على ابن تيمية، وقبل أن تنشر كتب شيخ الإسلام تقي الدين ربما كان يظن من يظن أنه صادق في منقوله، فلما انتشرت وتداولتها الأيدي تبين لكل ذي عينين أن ابن حجر كذب وافترى ولم يتوثق به أحد بعد ذلك، وسقط من درجة

ص: 466

الاعتبار بالكلية إلا لدى من أعمى الله عين بصيرته من الأغبياء.

وبذلك يظهر كذب النبهاني في الجملة الأخرى، وهي أن إنكاره كان شفقة على الدين.. إلخ، بل لو أنصف لقال: إن إنكاره كان من بغضه للدين، فإنه شوق الناس على البدع والأهواء، وحذرهم من كتب السنة ومحبة أهلها والمحامين لها، ولذلك ترى من اغتر بأقواله الكاسدة في ظلمات من الجهل والغي والعمى، لا ينجع فيهم كلام ولا تمضي فيهم سهام الملام.

وأما من طالع كتب السنة- ولاسيما كتب شيخ الإسلام- تراه قد انكشفت عن بصيرته غشاوة التعصب واتبع ما اقتضاه الدليل، وهكذا الفرق بين المبتدع والسني، ترى المبتدعة يصرفون النصوص والدلائل إلى ما تهواه أنفسهم، وأهل السنة يذهبون إلى ما يقوده إليهم الدليل، ويتركون له ما تهواه أنفسهم، وهذا بحمد الله بين.

وأما قوله: "ومن نظر بعين الإنصاف شهد لهذا الإمام ابن حجر بالولاية، وأنه ربما يكون قد أطلعه الله على ما سيحصل في المستقبل من الأضرار العظيمة".

فجوابه من وجوه:

أما أولاً: فيقال: إن الولاية والكرامة إنما تكون لصلحاء الأمة، أهل التقوى والورع والكرامة، لا تكون لمثل ابن حجر من الكذابين المفترين المتناقضين في أقوالهم المضطربين في دينهم، وما أحسن ما في كتاب "إنباء الأبناء بأحسن الأنباء":"يا بني؛ من رأيتموه يطير في الهواء أو يمشي على وجه الماء- وقد خالف شيئاً من الشريعة الغراء- فذاك من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن، فإياكم وإياه، واشتغلوا عنه بتقوى الله، وقال شيخ الإسلام في كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان": ومن حيث بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم جعله الفارق بين أولياء الله وأعدائه، فلا يكون ولي الله إلا من آمن به واتبعه ظاهراً وباطناً، ومن ادّعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من

ص: 467

أعداء الله وأولياء الشيطان قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 1. قال الحسن البصري: ادّعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم2.

وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه، ومن ادّعى محبة الله ولم يتبع الرسول فليس من أولياء الله تعالى، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فإن اليهود والنصارى يعدون أنهم أولياء الله وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان منهم، بل يذعون أنهم أبناء الله وأحباؤه قال تعالى:{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} إلى قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 3. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} إلى قوله: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 4. وكان مشركوا العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت، وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} 5. وقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} إلى قوله: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 6. فبين سبحانه وتعالى أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون.

وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاصر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهاراً غير سر: " إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين"7. وهذا موافق لقوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} إلى قوله:

1 سورة آل عمران: 31.

2 انظر "تفسير الطبري "(6/322) .

3 سورة المائدة: 18.

4 سورة البقرة: 111- 112.

5 سورة المؤمنون: 66- 67.

6 سورة الأنفال: 30- 34.

7 أخرجه البخاري (5644) ومسلم (366) .

ص: 468

{ظَهِيرٌ} 1. وصالحوا المؤمنين المتقون أولياء الله، ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة كلهم في الجنة، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة "2. ومثل هذا الحديث الآخر: "إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث كانوا"3.

كما أن من الكفار من يدّعي أنه ولي الله وليس ولياً لله بل عدواً له، وكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه مرسل إلى جميع الإنس، بل إلى الثقلين الإنس والجن. ويعتقدون في البواطن ما يناقض ذلك، مثل أن لا يقروا في الباطن أنه رسول الله، إنما كان ملكاً مطاعاً ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك، أو يقول إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب؛ كما يقول كثير من اليهود والنصارى، أو يقول: إنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إ ليهم ولا يحتاجون إليه، أو أن لهم طريقاً إلى الله من غير جهته كما كان الخضر مع موسى، أو أنهم يأخذون عن الله كلما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنية فلم يرسل بها ولم يكن يعرفها، أو هم أعرف منه أو يعرفونها بمثل ما يعرفها هو من غير طريقته، وقد يقول بعض هؤلاء إن أهل الصفة كانوا مستغنين عنه ولم يرسل إليهم" إلى آخر ما ذكره من التفصيل الذي لا تجده في غيره.

ومنه يعلم أن ابن حجر المكي ليس منهم في شيء، فإنه كان ممن يُجَوِّزُ الالتجاء إلى غير الله تعالى، والاستغاثة بالأنبياء والصالحين، والاستعانة بهم والتوسل، وغير ذلك مما أسلفنا حكمه، وبينا اختلاف أهل العلم في إيمانه

1 سورة التحريم: 4.

2 أخرجه مسلم (2496) .

3 أخرجه أحمد (5/235) .

ص: 469

وإسلامه، هذا ما عدا ما ذكره في تضاعيف كلامه ولاسيما في كتابه (الجوهر المنظم) وما عدا ما اقترف من الإثم في شتم خيار الأمة وسبّهم ولعنهم، والافتراء عليهم، فإن هذه الأمور متى اتصف بها شخص كان حكمه معلوماً، فكيف يجعل من الأولياء ويثبت له كرامات وخوارق؟! نعم، إنه يليق أن يكون لدى النبهاني من الأولياء، وإن الشياطين بعضهم أولياء بعض.

وأما ثانياً: فلأن الأضرار التي ادّعاها لموافقي ابن تيمية لم يبيّن ما هي، ونحن نعلم أن كل ما يخالف الكتاب والسنة فوجوده ضرر محض، ومن وافق ابن تيمية في أقواله إنما نهى عن المنكرات التي كانت بين الناس مما لم يكن مثلها في الجاهلية الأولى، وأمر بالمعروف الذي يحبه الله ورسوله، كل ذلك معلوم لدى العقلاء، فلِمَ لَمْ يُطْلِع اللهُ ابنَ حجر- إذا كان ولياً وصاحب كرامة- على ما حدث في الإسلام من الزيغ والاعوجاج والمنكرات الكثيرة في أخص بلاد الإسلام وأشرفها، وما صادم الدين المبين من القواعد والأحكام التي يعرفها النبهاني ولا يحتاج إلى أن ينبه عليها، فإنها اختلطت بلحمه وعظمه وعليها مدار معاشه وانتعاشه؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 1.

وأما ثالثاً: فإن قوله: "إن الأضرار التي ترتبت على أقوال ابن تيمية من فرقته الوهابية".. إلخ.

ليس له محصّل ولا حاصل، فنحن نطالبه ببيان تلك الأضرار التي ادّعاها أنها ترتبت على أقوال ابن تيمية، مع أن أقواله هي عن الكتاب والسنة، وما يترتب على الكتاب والسنة يترتب على الأقوال المأخوذة عنها، والله سبحانه هو الذي أمر بجهاد المشركين ومحوهم من الأرض، أفيقال أن ذلك من المضار وفي الكتاب والسنة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما هو معلوم لدى كل ذي بصر؟ أفيقال إن ما يترتب على ذلك هو ضرر والكتاب والسنة أَوْجَبَا إزالة البدع والأهواء

1 سورة البقرة: 16.

ص: 470

وإبطالها وإن أضر بأهلها؟ أفيقال: إن ما يترتب على ذلك يعد من الضرر؟ والكتاب والسنة نهيا عن جميع الكبائر والمحرمات المفصلة في غير هذا الموضع، فهل لوحظ ما يترتب على ذلك من الضرر على من تعاطاه؟ فقول النبهاني هذا ساقط ليس له وجه.

وأما رابعاً: فإن الذين أطلق عليهم اسم الوهابية- إطلاقاً غلطأً- هم أهل نجد وهم حنابلة من خيار أهل السنة، وهم من أتباع الإمام أحمد في الفروع لا من أتباع ابن تيمية، وأما في العقائد والأصول فهم ليسوا بمقلّدين لأحد فيها، وهم لم يبتدعوا شيئاً في الدين يكونون به فرقة أخرى، ولم يتخذوا مع الله آلهة أخرى كما اتخذه الغلاة.

وأما خامساً: فأي مضار ترتبت على موافقي ابن تيمية وهم الذين فعلوا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وامتثلوا أمره في الطاعة لوليّ الأمر، ويعتقدون أن مخالفته من خصال الجاهلية، ففي "شرح المسائل":"أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له عندهم فضيلة، وبعضهم يجعله ديناً، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأمرهم بالصبر على جور الولاة، والسمع والطاعة والنصيحة لهم، وغلظ في ذلك وأبدى وأعاد، وهذه الثلاث هي التي ورد فيها ما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" 1 وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية"2. وروى أيضاً عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهي مريض، فقلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعنا فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً

1 أخرجه مسلم (1715) .

2 أخرجه البخاري (7053، 7054، 7143) ومسلم (1849) .

ص: 471

بواحاً عندكم من الله فيه برهان"1. والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية" انتهى.

وما كان من الحروب في نجد بين رؤسائهم أي ذنب لهم فيه، وهم لم يبدأوا أحداً بحرب ولا ضرب حتى يبدأ الغير به، فحينئذ يدافعون عن أنفسهم، ودفع الصائل مأمور به، فلم يحصل منهم ضرر على الشريعة بل هم أكثر المسلمين محاماة عليها كما سبق.

وأما سادساً: أن ما ينقل عن أهل نجد مما فعلوه بالحرمين لا أصل له كما لا يخفى على من طالع كتب تواريخهم، وفي كتاب (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) وتتمته نبذة من ذلك، وجزيرة العرب تشمل الحرمين، بل هما الجزيرة بلسان الشرع، فلا وجه لعطف الجزيرة على الحرمين.

وأما قوله: ولذلك كان رضي الله عنه أشد أئمة المسلمين إنكاراً لبدع ابن تيمية إلخ.

فجوابه: إنا قد ذكرنا سابقاً أن ما كان منه من التهور والتجاوز على ابن تيمية اتباعاً لهواه، وابن تيمية من أعظم الناس اتباعاً للسنة وأكثرهم رداً للبدع، وقول النبهاني شبيه بقول إخوانه المشركين، ففي كتاب "شرح المسائل التي أبطلها الإسلام من خصال الجاهلية": تسميتهم أتباع الإسلام شركاً، قال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2.

أخرج ابن إسحق بسنده حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام قالوا: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران- نصراني يقال له

1 أخرجه البخاري (7055، 7200) .

2 سورة آل عمران: 79- 80.

ص: 472