الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كلام النبهاني على الاجتهاد، والرد عليه]
قال النبهاني: "القسم الأول من المقدمة: في الكلام على انقطاع الاجتهاد المطلق، الذي تدّعيه -بالباطل- فرقة الوهابية، ومن أعجبه شأنهم من جهلة المبتدعين شذاء المذاهب الإسلامية، وجعلت ذلك رسالة سميتها (السهام الصائبة لأصحاب الدعاوي الكاذبة) . ثم ذكر خطبة هذه الرسالة، إلى أن قال: "فأقول: إن دعوى الاجتهاد في هذا الزمان -منهم ومن غيرهم مطلقاً مهما كان عالماً- هي دعوى كاذبة، لا يلتفت إليها، ولا يعوّل عليها، قال: وقد ذكرتُ في كتابي (حجة الله على العالمين) الرد على من يدّعي الاجتهاد في هذا الزمان، ونقلت عبارات العلماء في ذلك، كالإمام الشعراني، والإمام ابن حجر الهيتمي، والإمام المناوي وغيرهم، بما يقنع كل ذي طبع سليم، وفهم مستقيم. إلى أن قال: أما الاجتهاد فلا يدّعيه اليوم إلا مختل العقل والدين، إلا من طريق الولاية، كما قاله الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي".
ثم نقل ما نقله المناوي في أول شرحه الكبير على الجامع الصغير عن ابن حجر المكي، أنه قال: "لما ادّعى الجلال السيوطي الاجتهاد قام عليه معاصروه ورموه عن قوس واحدة، وكتبوا له سؤالاً فيه مسائل أطلق الأصحاب فيها وجهين، وطلبوا منه إن كان عنده أدنى مراتب الاجتهاد وهو اجتهاد الفتوى فليتكلم على الراجح من تلك الأوجه، وعلى الدليل على قواعد المجتهدين، فرد السؤال من غير كتابة، واعتذر بأن له أشغالاً تمنعه من النظر في ذلك. قال الشهاب: فتأمل صعوبة هذه المرتبة، -أعني اجتهاد الفتوى- الذي هو أدنى مراتب الاجتهاد، ويظهر لك أن مدعيها -فضلاً عن مدّعي الاجتهاد المطلق- في حيرة من أمره، وفساد فكره، وإنه ممن ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء. قال: ومن تصور مرتبة الاجتهاد المطلق استحيى من الله أن ينسبها لأحد من أهل هذه الأزمنة، بل قال ابن الصلاح ومن تبعه: إنها انقطعت من نحو ثلائمائة سنة. ولابن الصلاح نحو الثلاثمائة سنة، أي أنه من أهل القرن السادس، فتكون اليوم قد انقطعت من ستمائة سنة، أي بالنظر إلى عصر ابن حجر وهو من أهل القرن العاشر، فيكون لها
الآن منقطعة نحو ألف سنة، إذ نحن في العام السابع عشر من القرن الرابع عشر، وهو عام تأليفي لكتاب (حجة الله على العالمين) . قال: بل نقل ابن الصلاح عن بعض الأصوليين أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل، قال: ثم قال الشهاب ابن حجر: وإذا كان بين الأئمة نزاع طويل في أن إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي- وناهيك بهما- هل هما من أصحاب الوجوه أو لا، فما ظنك بغيرهما؟ بل قال الأئمة في الرويّاني صاحب البحر أنه لم يكن من أصحاب الوجوه، هذا مع قوله لو ضاعت نصوص الشافعي لأمليتها من صدري، فإذا لم يتأهل الأكابر لمرتبة الاجتهاد المذهبي فكيف يسوغ لمن لم يفهم أكثر عباراتهم على وجهها أن يدّعي ما هو أعلى من ذلك وهو الاجتهاد المطلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم".
ثم نقل جملة من أقوال العلماء تشهد له بأن الاجتهاد قد انقطع، إلى آخر ما هذي به في هذا الباب، مما يدل على جهله وإفلاسه من كل علم، وعلى دعواه الكاذبة، والكلام على ما اشتمل عليه كلامه من الباطل يطول غير أنا نتكلم على مقاصده على سبيل الإجمال دون التفصيل، فأقول:
الكلام على مقالته هذه من وجوه:
الوجه الأول: إن نسبة دعوى الاجتهاد إلى الوهابية -وهم على زعمه من كان موافقاً للشيخ محمد بن عبد الوهاب في الاعتقاد- افتراء وكذب وبهتان عليهم، فإن أهل نجد كلهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، مقلّدون له في فروع الأحكام، وموافقون له في أصول الدين وعقائده، وقد صرح الشيخ محمد بذلك في كثير من رسائله، وهو لم يدّعِ الاجتهاد، ولا دعا أحداً من الناس إلى تقليده، بل أمر بالمعروف ونهى عن المنكر. فنسبة أهل نجد ومن يتّبع السنن النبوية إلى الشيخ وعدّهم فرقة من فرق المسلمين غير فرقة أهل السنة؛ ظلم وعدوان وزور وبهتان، وأعجب من ذلك أن النسبة إلى الشيخ ينبغي أن تكون المحمدية، وأما عبد الوهاب فهو أبو الشيخ محمد، والموافقة في العقائد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما كان للشيخ نفسه لا لأبيه، فإطلاق الوهّابية على
تلامذة الشيخ وموافقيه إما جهل ظاهر، وإما تنابز بالألقاب، وكلا الوجهين لا يخفى حاله.
الوجه الثاني: الكلام على باب الاجتهاد مفروغ منه، فقد أطنب الكلام عليه الأصوليون لاسيما في كتاب "الموافقات"1، ومع ذلك فلا بد من ذكر شيء مما يتعلق به على سبيل الاختصار، قالوا2: الاجتهاد استفراغ الوسع لتحصيل ظنْ الحكم من فقيه وهو المجتهد المطلق، وشرطه تكليف، لا عدالة إلا لقبول قوله. وملكة: وهي العقل، يُدرك بها المطلوب مطلقاً أو في تلك الواقعة لتجزي الاجتهاد. وفقه النفس، أي: شدة الفهم بالطبع لمقاصد الكلام، حتى يكون له قدرة على استخراج أحكام الفقه من أدلتها، وقوة يقتدر بها على التصرف بالجمع والتفريق، والترتيب والتصحيح والإفساد، فإن ذلك ملاك صنعة الفقه، ومن اتصف بالبلادة والعجز عن التصرف لم يكن من أهل الاجتهاد، ويشترط أيضاً توسط درجته عربية وأصولاً، وعلمه بآيات الأحكام وأحاديثها، وخبرته بمواقع الإجماع، والناسخ والمنسوخ، والمتواتر والآحاد، وأسباب النزول، وحال الرواة والمتون، ويكفيه تقليد الحفاظ وأئمة علم الكلام، وندب له البحث عن
1 كتاب "الموافقات" للشاطبي طبع عدة طبعات، كان أفضلها ط. دار ابن عفان بتحقيق الشيخ سليم الهلالي- وفقه الله تعالى- ثم طُبع طبعة جديدة كاملة بتحقيق الشيخ العالم مشهور بن حسن آل سلمان- حفظه الله تعالى- نشر مكتبة التوحيد بالبحرين.
2 انظر: أقوال الأصوليين وتعريفهم للاجتهاد وشروطه في: "التحصيل من المحصول" للأرموي (2/ 281- وما بعدها) و "المحصول" للرازي (6/ 7- وما بعدها) و "نفائس الأصول" للقرافي (9/ 4006- وما بعدها) و " نهاية الوصول في دراية الأصول" لصفي الدين الأرموي الهندي (9/3785- وما بعدها) و"التمهيد في أصول الفقه" للكلوذاني (4/307- وما بعدها) و"روضة الناظر" لابن قدامة (2/ 223- وما بعدها- ط. الدكتور شعبان محمد إسماعيل) و"نهاية السول في شرح منهاج الوصول"(2/1025) و"التحقيقات في "شرح الورقات" لابن قاوان (ص622- وما بعدها) و"إرشاد الفحول" للشوكاني (3/ 832- وما بعدها ط. الباز) أو (2/ 1025- وما بعدها- ط. دار الفضيلة) أو (ص 818- وما بعدها- ط. ابن كثير) و"البرهان" للجويني (2/ 1316) و "المستصفى" للغزالي (2/350) و"الإحكام" لابن حزم (4/ 525- وما بعدها) ، وغيرها من كتب الأصول.
المعارض، ودون المجتهد المطلق مجتهد المذهب بأن يخرج ما يبديه على نصوص أمامه، ودونه مجتهد الفتيا بأن يتبحر ويتمكن من الترجيح.
ثم ذكروا مسائل كثيرة في هذا الباب لا غرض لنا بنقلها، ثم اختلف الأصوليون هل يجوز خلو الزمان عن مجتهد أم لا، منهم من قال: يجوز، بل يقع. ومنهم من قال: لا يجوز، استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله"1 أي: الساعة. وسيأتي الكلام على هذه المسألة إن شاء الله.
هذا خلاصة ما ذكره الأصوليون في هذا الباب، وقد علمت منه أن شروط الاجتهاد التي اشترطوها ليس وجودها من المحال، بل هي ممكنة الوجود في كل عصر، وعلمَت أيضاً مما ذكرناه من كلامهم أنهم لم يقولوا بسد باب الاجتهاد، ولا اقتضاه كلامهم، ولا دل عليه كتاب ولا سنة، وهما المرجع في التنازع، قال الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 2. فقول من قال بانقطاع الاجتهاد قول بلا دليل، فلا يُلْتَفَتُ إليه، بل يُرمَى به على وجه قائله، ويُرَدُّ على صاحبه.
الوجه الثالث: قال الحافظ ابن القيم في رد هذا القول: "إن المقلدين حكموا على الله قدراً وشرعاً بالحكم الباطل جهاراً، المخالف لما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فأًخْلُوا الأرض من القائمين لله بحُجَجِهِ، وقالوا: لم يبقَ في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة، فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة،
1 أخرجه البخاري (3640، 7311، 7459) ومسلم (1021) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (71، 3117، 3641، 7312) ومسلم (1037) من حديث معاوية بن أبي سفيان.
وقد رواه جمع من الصحابة، وتوسّعت في تخريجه في تحقيقي لـ "رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله" للمعلّمي (ص 97- 99- ط. المكتبة العصرية ببيروت) .
2 سورة النساء: 59.
وأبي يوسف وزفر بن الهذيل، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وهذا قول كثير من الحنفية. وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة. وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي، وسفيان الثوري، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك. وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي.
واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه ويكون له وجه يفتي ويحكم به من ليس كذلك، وجعلوهم ثلاث مراتب: طائفة أصحاب وجوه كابن شريح والقفال وأبي حامد، وطائفة أصحاب احتمالات لا أصحاب وجوه، كأبي المعالي، وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات، كابن حامد وغيره.
واختلفوا متى انسَدَّ باب الاجتهاد، على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان. وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم لله بحججه، ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم، ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأخذ الأحكام منها، ولا يقضي ولا يفتي بما فيها حتى يعرضه على قول مقلّده ومتبوعه، فإن وافقه حكم به وأفتى به وإلا ردّه ولم يقبله.
وهذه أقوال كما ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض والقول على الله بلا علم، وإبطال حججه والزهد في كتابه وسنة رسوله، وتلقي الأحكام منهما مبلغها، ويأبى الله إلا أن يُتِمَّ نوره، ويصدق قول رسوله أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحُجَّتِهِ، ولن تزال طائفة من أمته على مَحْضِ الحق الذي بعثه به، وأنه لا يزال يَبْعَثُ على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدّد لها دينها.
ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يُقَالَ لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم؟ وكيف حَرَّمْتُمْ على الرجل أن يختار ما يؤدّيه إليه اجتهاده من القول الموافق لكتاب الله وسنة رسوله، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلّدتموه، وأوجبتم على الأمة تقليده، وحرّمتم
تقليد من سواه، ورجَّحْتُمُوهُ على تقليد من سواه، فما الذي سوّغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ولا إجماع ولا قياس، ولا قول صاحب، وحرّمتم اختيار ما عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟
ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة -أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة أجمعين، أو من هو مثله من فقهاء الأمصار، أو ممن جاء بعده؟
وموجب هذا القول: أن أشهب، وابن الماجشون، ومطرف بن عبد الله، وأصبغ بن الفرج، وسحنون بن سعيد، وأحمد بن المعدل، ومن في طبقتهم من الفقهاء، كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مائتين، فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم في الوقت -بلا مهلة- ما كان مطلقاً لهم من الاختيار!
ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين الله بالرأي والقياس لمن ذكرتم من أئمتكم؟ ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفاظ الإسلام، وأعلم الأمة بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم؛ كأحمد بن حنبل، والشافعي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وداود بن علي، ونظرائهم، على سعة علمهم بالسنن، ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم، وتحرّيهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين، ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل، ومن قال منهم بالقياس فقياسه من أقرب القياس إلى الصواب، وأبعده عن الفساد، وأقربه إلى النصوص، مع شدة ورعهم وما منحهم الله من محبة المؤمنين لهم، وتعظيم المسلمين علماءهم وعامتهم لهم.
فإن احتج كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح -في تقدم زمان أو زهد أو ورع، أو لقاء شيوخ وأئمة لم يلقهم من بعده، أو كثرة أتباع لم
يكونوا لغيره -أمكن الفريق الآخر أن يبدوا لمتبوعهم من الترجيح بذلك أو غيره ما هو مثل هذا أو فوقه، وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعاً: نفوذ قولكم هذا- إن لم تأنفوا من التناقض- يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم منه من الصحابة والتابعين، وأعلم وأورع وأزهد، وأكثر اتباعاً وأجل. فأين أتباع ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، بل أتباع عمر وعلي من أتباع الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة؟
وهذا أبو هريرة قال البخاري: حمل العلم عنه ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع، وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحاب عبد الله بن عباس.
وأين في أتباع الأئمة مثل عطاء، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وجابر بن زيد؟
وأين في أتباعهم مثل السعيدين، والشعبي، ومسروق، وعلقمة، والأسود، وشريح؟
وأين في أتباعهم مثل نافع، وسالم، والقاسم، وعروة، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن؟
فما الذي جعل الأئمة بأتباعهم أسعد من هؤلاء بأتباعهم؟ ولكن أولئك وأتباعهم على قدر عصرهم؛ فعِظَمُهُم وجلالتُهم وكبرهم منع المتأخرين من الإقتداء بهم، وقالوا بلسان قالهم وحالهم هؤلاء كبار علينا لسنا من زبونهم، كما صرّحوا وشهدوا على أنفسهم، فإن أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة، وقالوا لسنا أهلاً لذلك، لا لقصور الكتاب والسنة، ولكن لعجزنا نحن وقصورنا، فاكتفينا بمن هو أعلم بهما منا!
فيقال لهم: فلِمَ تنكرون على من اقتدى بهما، وحكّمهما، وتحاكم إليهما، وعرض أقوال العلماء عليهما، فما وافقهما قبله وما خالفهما رده؟ فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود؛ فلِمَ تنكرون على من وصل إليه وذاق حلاوته؟ وكيف تحجرتم الواسع من فضل الله الذي ليس على قياس عقول العالمين ولا
اقتراحاتهم؟ وهم وإن كانوا في عصركم ونشؤوا معكم، وبينكم وبينهم نسب قريب، فالله يمنُّ على من يشاء من عباده.
وقد أنكر الله سبحانه على من رد النبوة؛ بأن الله صرفها عن عظماء القرى وعن رؤسائها وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1.
وقال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي كالمطر، لا يُدْرَى أولُه خيرٌ أم آخره"2.
وقد أخبر الله سبحانه عن السابقين بأنهم {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} 3 وأخبر سبحانه أنه: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 4. وقال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5 ثم أخبر أن: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 6". انتهى ما ذكره الحافظ بن القيم في كتابه "أعلام الموقعين"7.
وقد تبين منه أن ما ذكره النبهاني- تبعاً لأسلافه الزائغين- دليلاً على جهله وإفلاسه من فنون العلم فروعها وأصولها، إذ لا يقول بمقالته إلا من هو أجهل من ابن بوم ممن هو على شاكلته.
1 سورة الزخرف: 32.
2 أخرجه أحمد (3/130، 143) أو (رقم: 12348، 12483) والترمذي (2869) والطيالسي (2023) وأبو يعلى في "مسنده"(6/190/3475) وغيرهم، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو حديث صحيح مروي عن جمع من الصحابة، وسيأتي بعد قليل تخريج حديث عمار وعبد الله بن عمرو.
وانظر: "فتح الباري"(7/ 8) و"الصحيحة"(2286) .
3 سورة الواقعة: 13- 14.
4 سورة الجمعة: 2-4.
5 سورة الجمعة: 2-4.
6 سورة الجمعة: 2-4.
7 "أعلام الموقعين"(2/275- 279- ط. الوكيل) .
الوجه الرابع من الوجوه الدالة على فساد قول الغبي النبهاني: أن كل ما ليس عليه أثارة من علم ليس بمقبول، وأن الاجتهاد ليس بنبوة حتى ياقل إنه خُتِمَ بفلان وفلان، أما النبوة فقد دل نص الكتاب والسنة على ختمها، قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1.
وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي؛ كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وُضِعَتْ هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"2.
بل إن الدليل العقلي قام على ذلك أيضاً، وهو كمال الشريعة وشمولها للأحكام على اختلاف الأعصر والأزمان، وصيانتها من تطرق التغيير والتبديل بسبب إعجازها، مع كونها أوسط الشرائع، إذ لا غلوّ فيها ولا تقصير.
وهذا كله قد دلّ على أن النبوة ختمت بالخاتم صلى الله عليه وسلم.
وأما الاجتهاد فلم نرَ على ختامه دليلاً؛ لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل ولا من أقوال الصحابة. بل رأينا ما يدل على أن علم الشريعة وعلمائها باقون إلى قيام الساعة.
روى كُميل بن نرياد النخعي، قال: أخذ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر جعل يتنفس، ثم قال: "يا كُميل بن زياد؛ القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك، الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، العلم خير من المال، العلم يحرسُكَ وأنت تحرس المال، العلم يزكوا على الإنفاق -وفي رواية على العمل- والمال تُنْقِصُه النفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه، ومحبة العلم
1 سورة الأحزاب: 45.
2 أخرجه البخاري (3535) ومسلم (2286) .
دين يُدَانُ بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزّان الأموال وهم أحياء، إن ههنا علماً، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، هاه هاه، إن ههنا علماً -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حملة بلى أصبته لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا ذا ولا ذاك، أو منهوماً للذات، سلس القياد للشهوات، أو مغرى بجمع الأموال والادخار، ليسا من دعاة الدين، أقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة، لذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته، كيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قيلاً، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدّوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، ودعاته إلى دينه، هاه هاه شوقاً إلى رؤيتهم، وأستغفر الله لي ولك، إذا شئت فقُم"1. ذكره أبو نعيم
1 وصية الإمام علي بن أبي طالب لكميل بن زياد؛ أخرجها: الخطيب البغدادي في "تاريخه"(6/679) وفي "الفقيه والمتفقه"(1/182-183/176) والشجري في "الأمالي"(1/66) وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/79- 80) والذهبي في "تذكرة الحفاظ"(1/11) والمزّي في "تهذيب الكمال"(24/ 220) والنهرواني في "الجليس الصالح"(3/331) وابن عبد ربه الأندلسي في "العقد الفريد"(2/7- 74- ط. المكتبة العصرية) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(14/606) .
وذكرها بتمامها أو جزءاً منها. ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1/145/149) و (2/984- 985/1878- ط. ابن الجوزي" وابن القيم في "أعلام الموقعين" (2/195) وفي "مفتاح دار السعادة"(1/403- 404- ط. ابن عفان) وابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة"(4/311) وابن كثير في "البداية والنهاية"(9/ 47) وابن أبي العز في "الاتباع"(ص85- 86) والشاطبي في "الاعتصام"(2/875- 876- ط. ابن عفان) أو (3/ 466- ط. الشيخ مشهور بن حسن) والماوردي في "أدب الدنيا والدين"(ص 59- ط. ابن كثير) .
وشرحها الشيخ الفاضل سليم بن عبد الهلالي -حفظه الله- في "الإسعاد بذكر فوائد وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لكميل بن زياد"وطبعت بدار الصميعي بالرياض.
في "الحلية" وغيره. قال أبو بكر الخطيب: هذا حديث حسن من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظاً.
وقد شرح هذا الحديث شرحاً مفصّلاً الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه "مفتاح دار السعادة" ومما قال في شرحه -عند الكلام على قوله: "اللهم بلى لن تخلو الأرض من قائم لله بحجج الله"-:"ويدل عليه الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" 1. ويدل عليه أيضاً ما رواه الترمذي، عن قتيبة، حدثنا حماد بن يحيى الأبَحّ، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره"2. قال: هذا حديث حسن غريب، ويُروى عن عبد الرحمن بن مهدي أنه كان يُثَبِّتُ حمّاد بن يحيى الأبح، وكان يقول: هو من شيوخنا. وفي الباب عن عمار3، وعبد الله بن عمرو4.
فلو لم يكن في أواخر الأمة قائم بحجج الله مجتهد لم يكونوا موصوفين بهذه الخيرية.
وأيضاً: فإن هذه الأمة أكمل الأمم، وخير أمة أُخْرِجَتْ للناس، ونبيُّها خاتَمُ النبيين، لا نبيَّ بعده، فجعل الله العلماء فيها كلما هلك عالم خلفه
1 تقدّم تخريجه.
2 تقدم تخريجه من حديث أنس رضي الله عنه.
3 حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما أخرجه: أحمد (4/319) والطيالسي (647) وابن حبان في "صحيحه"(16/209-210/ 7226) والبزار (3/320/ 2843- كشف) والبيهقي في "الزهد"(397) والرامهرمزي في "المحدث الفاصل"(ص 109) .
4 حديث عبد الله بن عمرو أخرجه: الطبراني في "الكبير" كما في المجمع (10/ 68) ومحمد بن يحيى بن أبي عمر كما في "المطالب العالية" رقم (4182- ط. العاصمة) من طريق: عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو به مرفوعاً، قال الهيثمي:"رواه الطبراني، وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم؛ وهو ضعيف". قلت: الحديث صحيح بالشواهد كما تقدم، وانظر "الصحيحة"(2286) .
عالم، لئلا تطمس معالم الدين وتخفى أعلامه. وكان بنو إسرائيل كلما هلك نبي خلفه نبي، فكانت تسوسهم الأنبياء1، والعلماء لهذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل.
وأيضاً ففي الحديث الآخر:" يَحْمِلُ هذا العلم من كلّ خَلَفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"2. وهذا يدل على أنه لا يزال محمولاً في القرون قرناً بعد قرن.
وفي"صحيح أبي حاتم"3 من حديث الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته"4. وغرسُ الله هم أهل العلم والعمل، فلو خلت الأرض من عالم خلت من غرس الله، انتهى المقصود من نقله5.
فعُلِمَ من هذا الوجه، بطلان ما ذكره الغبي النبهاني في مقدمة كتابه من
1 انظر: "صحيح البخاري"(3455) و"صحيح مسلم"(1842) .
2 حديث حسن لغيره. فقد أخرجه: البيهقي في "السنن الكبرى"(10/209) وفي "دلائل النبوة"(1/43-44) وابن عدي في "الكامل"(1/127، 153، و2/511- الفكر) وابن عبد البر في "التمهيد"(1/59) والخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث"(رقم: 50- بتحقيقي) والآجري في "الشريعة"(1/ 102، 103- 104/ 1، 2) ، وابن حبان في"الثقات"(4/10) وابن وضاح في "البدع والنهي عنها"(1) وغيرهم.
من طرق؛ عن معان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. وإسناد الحديث ضعيف. لكن له شواهد عن جمع من الصحابة، تكلّمتُ عليه وخرّجته بتوسع في تحقيقي لـ (شرف أصحاب الحديث" للخطيب البغدادي، و"عيون الأخبار" لابن قتيبة رقم (324) .
3 يقصد به: "صحيح ابن حبان".
4 أخرجه: أحمد (4/200) أو رقم (17839 - قرطبة) وابن ماجه (8) وابن حبان (2/32- 33/ 326) وفي "الثقات"(4/75) والبخاري في "التاريخ الكبير"(9/61) وابن عدي في "الكامل"(2/ 583- الفكر) . وحسّنه الشيخ الألباني في "الصحيحة"(2442) .
5 انظر: "مفتاح دار السعادة"(1/449- 451) .
الهذيان، وأنه بعيد عن العلم والمعرفة لا فكر له ولا ذوق، والأمر لله.
الوجه الخامس: قوله: "أما الاجتهاد فلا يدّعيه اليوم إلا مختل العقل والدين، إلا من طريق الولاية، كما قاله الشيخ الأكبر" إلخ.. لا معنى له ولا محصّل، وقد أسلفنا لك أنه لا يمكن أن يخلو الزمان من مجتهد، كما ذكره الأصوليون من مذهب الحنابلة وأهل الحديث، ولِمَ كان الجامع لشروط الاجتهاد المتأهل لأخذ دينه من الكتاب والسنة مختل العقل والدين؟ فهل هذا إلا كلام جاهل قد تخبطه الشيطان من المس؟ ثم ما معنى قوله:"إلا من طريق الولاية إلخ.." فهل رأى أحد من علماء الفروق والأصول هذه العبارة في باب الاجتهاد؟ ولكن لا بدع أن يصدر مثل هذا الهذيان عن مثل هذا المبتدع الجاهل، والجاهل يعمل بنفسه ما لا يعمل العدو بعدوه، والشيخ محيى الدين1 ممن كان يدّعي الاجتهاد المطلق، كما دلّت عليه نصوص كتبه وقال شعر له:
نسبوني إلى ابن حزم وإني
…
لست ممن يقول قال ابن حزم
بل ولا غيره فإن كلامي
…
قال نص الكتاب ذلك حكمي
أو يقول الرسول أو أجمع
…
الخلق على ما أقول ذلك علمي
أشار رحمه الله في هذه الأبيات إلى أنه يأخذ الأحكام الدينية من الكتاب والسنة والإجماع، وهذه عنده هي الدلائل دون القياس، والكلام مستوفى في محله.
الوجه السادس: قال: نقل عن ابن حجر المكي أنه قال: "لما ادعى الجلال السيوطي الاجتهاد قام عليه معاصروه، ورموه عن قوس واحدة، وكتبوا له سؤالاً فيه مسائل أطلق الأصحاب فيها وجهين، وطلبوا منه إن كان عنده أدنى مراتب الاجتهاد -وهو اجتهاد الفتوى- فليتكلم على الراجح من تلك الأوجه، وعلى
1 أي: الإمام النووي رحمه الله. وقد صحّ عنه أنه قال: "لا أجعل في حلٍّ من لقّبني محيي الدين".
انظر: "تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيى الدين" لابن العطار (ص 37) - الهامش-.
الدليل على قواعد المجتهدين، فرد السؤال من غير كتابة، واعتذر أن له أشغالاً تمنعه النظر في ذلك"إلخ..
أقول: إن صدق ابن حجر في نقله؛ فإنه لا يُوثَقُ به، فقد افترى على شيخ الإسلام أعظم من ذلك، وتبيّن كذبه عليه كما سيجيء" [فلو صحّ هذا] كان الجواب عن الإمام السيوطي عليه الرحمة أنه لا يلزم المجتهد أن يكون عالماً بما حواه اللوح المحفوظ من العلوم.
وقد نُقِلَ أن الإمام مالك سُئِلَ عن أربعين مسألة، فقال في جواب ست وثلاثين مسألة منها: لا أدري. وهكذا نُقِلَ عن الإمام أبي حنيفة وغيره {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} 1.
الوجه السابع: قول ابن حجر: "بل قال ابن الصلاح ومن تبعه أنها انقطعت من نحو ثلاثمائة سنة، ولابن الصلاح نحو ثلاثمائة سنة، أي لأنه من أهل القرن السادس، فتكون اليوم قد انقطعت من ستمائة سنة، أي بالنظر إلى عصر ابن حجر"إلخ
…
أقول: هذا كلام ساقط عن درجة الاعتبار، لما قدمناه في الوجه الثالث من كلام الحافظ ابن القيم، ولما أوردناه من النصوص والدلائل على بطلان هذا القول، وابن حجر مضطرب الكلام لا يثبت على قول، فإنه ذكر هنا أن الاجتهاد قد انقطع من ستمائة سنة بالنظر إلى عصره، مع أنه ذكر في كتابه "الجوهر المنظم" عند شتمه لشيخ الإسلام ابن تيمية ما نصه:
"ولقد تصدّى شيخ الإسلام، وعالم الأنام، المجمع على جلالته واجتهاده، وصلاحه وإمامته، التقي السبكي- قدس الله روحه ونور ضريحه- للرد في تصنيف مستقل، أفاد فيه وأجاد، وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب، فشكر الله مسعاه، وأدام عليه شآبيب رحمته ورضاه"اهـ.
1 سورة البقرة: 255.
فانظر إلى ابن حجر كيف ادّعى الإجماع على اجتهاد السبكي لكونه على منهجه ومسلكه في الابتداع واتباع الهوى، ثم إنه لم تسمح نفسه في الإقرار باجتهاد من لا يبلغ هو ولا أشياخه إلى كعب علاه، أعني أبا العباس تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد قال في "الجوهر المنظم"- بعد عبارته السابقة-:"هذا ما وقع من ابن تيمية مما ذُكِر- وإن كان عثره لا تقال أبداً، ومصيبة يستمر عليه شؤمها دواماً وسرمداً- ليس بعجب، فإنه سوّلت له نفسه وهواه وشيطانه أن ضرب مع المجتهدين بسهم صائب، وما درى المحروم أنه أتى بأقبح المعائب" إلى آخر ما قال، مما تبين منه لدى كل منصف اتباع ابن حجر لهواه، واختياره سبيل الضلال، عامله الله بعدله.
والمقصود؛ أن كلام مثل هؤلاء الغلاة لا يجوز أن يحتج به، فهم يتكلمون على حسب أهوائهم، لا أنهم يتبعون الدليل، ويسلكون سواء السبيل، فسقط كلام الغافل النبهاني، ولا يجوز الالتفات إليه بوجه من الوجوه.
الوجه الثامن: من الوجوه الدالة على سقوط مقالة الغبي النبهاني: أن كل واحد من الأئمة صرّح بأنه إذا صح الحديث يجب اتباعه والأخذ به، ولذلك صرّح كثير من الأئمة بوجوب الأخذ بالحديث والإضراب عن كل ما يخالفه من أقوال المجتهدين، وفي كتاب (أعلام الموقعين) 1: "وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذمُّوا من أخذ أقوالهم بغير حجة. فقال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري. ذكره البيهقي. وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده، مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه. وقال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع أو مالك؟ قال الا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، ثم التابعي بعد الرجل فيه مخير.
(2/ 183- 184) .
وقد فرق أحمد بين التقليد والإتباع، فقال أبو داود: سمعته يقول الإتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ثم هو من بعد في التابعين مخيّر.
وقال أيضاً: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا. وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجل.
وقال بشر بن الوليد: قال أبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا.
وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب. فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله؟!.
وقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني الهيثم بن جميل، قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله؛ إن عندنا قوماً وضعوا كتباً يقول أحدهم. حدثنا فلان، عن فلان، عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم بكذا. ويأخذ بقول إبراهيم. قال مالك: وصحّ عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال مالك: هؤلاء يستتابون" انتهى.
الوجه التاسع: أن قول النبهاني البليد يقتضي أن يقدم كلام من يقلد اليوم على ما صح من الأحاديث النبوية المخالفة لقول المجتهد، وذلك هو عين الخطأ. وقد سمعتُ من بعض قضاة الأتراك أنه قال: إذا رأيتَ نصاً في "منية المصلّي" ورأيتَ حديثاً في صحيح الإمام البخاري يخالف ذلك النص؛ آخذ بما في المنية وأترك الحديث الصحيح ولا أعمل به! فانظر إلى هذه الغباوة والجهل العظيم.
وقد سُئِلَ أبو العباس تقي الدين شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه الزكية- عن رجل تفقه على مذهب من المذاهب، وتبصّر فيه، واشتغل بعده بالحديث، فوجد أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخاً ولا مخصصاً ولا معارضاً،
وذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث، فهل له العمل بالمذهب أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث ومخالفة مذهبه؟.
فأجاب: "الحمد لله رب العالمين، قد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به ونهى عنه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان صدّيق الأمة وأفضلها بعد نبيها عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنه يقول: أطيعوني ما أطعتُ الله تعالى، فإذا عصيت الله عز وجل فلا طاعة لي عليكم.
واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوماً في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهؤلاء الأئمة الأربعة- رحمهم الله تعالى أجمعين- قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه، وذلك هو الواجب، فقال الإمام أبو حنيفة: هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه -أبو يوسف- بإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخضراوات، ومسألة الأجناس، فأخبره مالك رحمه الله تعالى بما دلت عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت لقولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيتُ لرجع كما رجعت.
ومالك رحمه الله تعالى كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطىء، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة. أو كلاماً هذا معناه.
والشافعي رحمه الله تعالى كان يقول: [إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي. وفي "مختصر المزني" لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه؛ قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء. والإمام أحمد كان يقول: لا تقلّدوني ولا تقلّدوا مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري. وتعلموا كما تعلمنا. وكان
يقول] 1: من ضيق علم الرجل أن يُقلّد دينه الرجال. وقد قال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لم يسلموا من أن يغلطوا. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"2. ولازم ذلك أن من لم يفقّهه الله عز وجل في الدين لم يرد به خيراً، فيكون التفقه في الدين فرضاً، والتفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية، فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهاً في الدين.
لكن من الناس من قد يعجز عنها فيلزمه ما يقدر عليه، ومن كان قادراً على الاستدلال فقيل يحرم عليه التقليد مطلقاً، وقيل يجوز مطلقاً، وقيل يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى. والاجتهاد ليس هو أمراً واحداً لا يقبل التجزي والانقسام، بل يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة، وكل [أحد] فاجتهاده بحسب وسعه، فمن نظر في مسألة قد تنازع العلماء فيها فرأى مع أحد القولين نصوصاً لم يعلم لها معارضاً بعد نظر مثله فهو بين أمرين: إما أن يتبع قول القائل الأخير لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية، بل مجرد عادة تعارضها عادة غيره واشتغاله بمذهب إمام آخر، وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه، فحينئذ موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام، وتبقى في النصوص النبوية سالمة في حقه عن المعارض بالعمل، فهذا هو الذي يصلح. وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تاماً في هذه المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه. أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع النص؛ فهذا يجب عليه اتباع النصوص، وإن لم يفعل كان متبعاً للظن وما تهوى الأنفس، وكان من أكبر العصاة لله تعالى ورسوله، بخلاف من يقول للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص، ويقول أنا لا أعلمها، فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
1 ما بين المعقوفتين ساقط في المطبوع، وأثبتُه من"مجموع الفتاوى".
2 أخرجه البخاري (7312) ومسلم (1037) .
اسْتَطَعْتُمْ} 1. [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم] " 2 والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دل على أن هذا القول هو الراجح، فعليك أن تتبع ذلك، ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضاً راجحاً كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده. وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود عليه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي وضحت حجته، أو الانتقال من قول إلى قول بمجرد عادة وإتباع هوى؛ فهذا مذموم. وإذا كان المقلد قد سمع حديثاً وتركه- لاسيما إذا كان قد رواه أيضاً عدل- فمثل هذا إذا وجد لا يكون عذراً في ترك النص. وقد بينا فيما كتبناه في "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" نحو عشرين عذراً في ترك العمل ببعض الأحاديث، وبيّنا أنهم معذورون في الترك لتلك الأعذار، وأما نحن فمعذورون في تركها لهذا القول. فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح، أن راوِيه مجهول أو نحو ذلك، ويكون غيره قد علم صحته، وثقة راويه؛ فقد زال عذر ذلك في حق هذا، ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه أو القياس، أو عمل لبعض الأنصار، وقد تبين للآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر، ومقدم على القياس والعمل، لم يكن عذر ذلك الرجل عذراً في حقه، فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان وخفائها عنها أمر لا يضبط طرفاه، لاسيما إذا كان التارك للحديث معتقداً أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار -أهل المدينة النبوية وغيرها- الذين يقال: إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ، أو معارض براجح، وقد بلغ من بعدهم أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه، بل قد عمل به بعضهم أو من سمعه منهم أو نحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص.
وإذا قيل لهذا المستفتي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني؟ كانت هذه
1 سورة التغابن: 16.
2 ما بين المعقوفتين أثبته من"مجموع الفتاوى". والحديث أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) .
معارضة فاسدة، لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، ولست أعلم من هذا ولا هذا، ولكن نسبة هؤلاء الأئمة إلى هؤلاء كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم من الأئمة وغيرهم، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع آخر، وكذلك موارد النزاع بين الأئمة. وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة. وتركوا قول عمر رضي الله تعالى عنه في دية الأصابع وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان، لما كان روى من لسان النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"هذه وهذه سواء"1. وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة، فقال له: قال أبو بكر قال عمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر قال عمر! [وكذلك ابن عمر] لما سُئل عنها2 فأمر بها فعارضوه بقول عمر، فبين أن عمر لم يرد ما يقولونه، فألحوا عليه، فقال: [أمر] رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم [أمر] عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
ولو فُتح هذا الباب لوجب أن يعرض عن أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبقى كل إمام في اتباعه بمنزلة النبي في أمته، وهذا تبديل للدين، وشيه بما عاب الله تعالى به النصارى في قوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3 والله سبحانه أعلم" انتهى4.
1 أخرجه البخاري (6895) وأحمد (1/277) وأبو داود (4558) والترمذي (4558) وابن ماجه (2652) والنسائي، وغيرهم.
2 أي: متعة الحج؛ وهو: حج التمتع.
3 سورة التوبة: 31.
4 "مجموع الفتاوى"(20/ 211- 214) القديمة. أو (20/ 117- 120- الجديدة) .
الوجه العاشر: أنه يُفهم من كلام النبهاني البليد: أنه يجب على المسلمين منذ نحو ألف سنة في مشارق الأرض ومغاربها أن يُقلّدوا أحد المجتهدين الأربعة، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنة، أو قلّد غير هؤلاء -من صحابي أو غيره- خرج عات جادة الصواب، وسلك غير سبيل المؤمنين، هذا لازم من لوازم كلامه الباطل، وقوله العاطل، وهو مردود لم يقل به عالم يعتد بعلمه.
وفي كتاب (أعلام الموقعين) 1 للحافظ ابن القيم عليه الرحمة: "هل يلزم المستفتي أن يجتهد في أعيان المفتين ويسأل الأعلم والأدين أم لا يلزمه ذلك؟
فيه مذهبان كما سبق وبينا مأخذهما -والصحيح أنه يلزمه، لأنه المستطاع من تقوى الله تعالى المأمور بها كل أحد. قال: وتقدم أنه إذا اختلف عليه مفتيان أحدهما أورع والآخر أعلم؛ فأيهما يجب تقليده؟ فيه ثلاثة مذاهب سبق توجيهها.
وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟
فيه مذهبان: أحدهما: لا يلزمه، وهو الصواب المقطوع به، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ورسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة مبرأ أهلها من هذه النسبة، بل لا يصح للعامي مذهب، ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له، لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال، ويكون بصيراً بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتاباً في فروع ذلك المذهب وعرف فتأوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك البتة، بل قال: أنا شافعي أو حنبلي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه أو نحوي أو كاتب؛ لم يصر كذلك بمجرد قوله، يوضحه أن القائل أنه شافعي أو مالكي أو حنفي يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه، وهذا إنما يصح إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة
(4/329- 332) .
والاستدلال، فأما مع جهله وبعده جداً عن سيرة الإمام وعلمه وطرقه فكيف يصح له الانتساب إليه، إلا بالدعوى المجردة، والقول الفارغ من كل معنى؟ والعامي لا يتصور آن يصح له مذهب، ولو تصور له ذلك لم يلزمه ولا لغيره، ولا يلزم أحداً قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة، بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره. وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام، وهم أعلى رتبة، وأجل قدراً، وأعلم بالله ورسوله من أن يُلْزِمُوا الناس بذلك، وأبعد منه قوله من قال: يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة.
فيالله العجب! ماتت مذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومذاهب التابعين وتابعيهم، وسائر أئمة الإسلام، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الأئمة والفقهاء، وهل قال ذلك أحد من الأئمة، أودعا إليه، أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه؟!
والذي أوجبه الله تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة، لا يختلف الواجب ولا يتبدل، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز، والزمان والمكان والحال، فذلك أيضاً تابع لما أوجبه الله تعالى ورسوله. ومن صحّح للعامي مذهباً؛ قال: هو [قد] اعتقد أن هذا المذهب الذي انتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، وهذا الذي قاله هؤلاء لو صح للزم منه تحريم استفتاء أهل غير المذهب الذي انتسب إليه، وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه، أو أرجح منه، أو غير ذلك من اللوازم التي يدل فساده على فساد ملزوماتها، بل يلزم منه أنه إذا رأى نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النص وأقوال الصحابة ويقدم عليها قول من انتسب إليه، وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة وغيرهم، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة كما لا يجب على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده أو غيره من البلاد، فإذا صح الحديث وجب عليه العمل به، حجازياً كان أو عراقياً أو شامياً أو مصرياً أو
يمنياً، وكذلك لا يجب على الإنسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين باتفاق المسلمين، بل إذا وافقت القراءة رسم المصحف الإمام وصحّت في العربية وصح سندها جازت القراءة بها، وصحت الصلاة بها اتفاقاً، بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان وقد قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده جازت القراءة بها، ولم تبطل الصلاة بها على أصح الأقوال، والثاني تبطل الصلاة بها، وهاتان الروايتان منصوصتان عن الإمام أحمد. والثالث: إن قرأ بها في الركن لم يكن مؤدياً لفرضه، وإن قرأ بها في غيره لم تكن مبطلة؛ وهذا اختيار أبي البركات ابن تيمية، [قال:] لأنه لم يتحقق الإتيان بالركن في الأول، ولا الإتيان بالمبطل في الثاني. ولكن ليس له أن يتبع رخص المذاهب، وأخذ غرضه من أي مذهب وجده فيه، بل عليه اتباع الحق بحسب الإمكان" انتهى.
(فظهر لك) مما قررناه في الوجوه العشرة: أن ما ذكره النبهاني المسكين من القول بانسداد باب الاجتهاد قول باطل مبتدع، فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله، فلم يسقط منها شيئاً وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئاً. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في التابعين، ولا تابعي التابعين، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه صلى الله عليه وسلم1، فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه -يبيحون به الفروج، والدماء، والأموال، ويحرمونها، ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ -على خطر عظيم، ولهم بين يدي الله موقف شديد، يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء.
وقد أطنب الحافظ ابن القيم عليه الرحمة في كتابه (أعلام الموقعين) الكلام في ذم المقلدين، وأبطل فيه قول الجهلة بانقطاع الاجتهاد. وألف جمع من الأفاضل في ذلك كتباً مفيدة، ولولا تعرض هذا الجاهل لهذه المسألة وإن لم يكن
1 بقوله عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب"..
لها مناسبة لموضوع كتابه ما فتحنا فيها فماً، ولا حرّكنا قلماً، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يفضح من تنقّص العلماء الأخيار، وسادات هذه الأمة، وأن يُري الناس عورته ويغريه بكشفها، ونعوذ بالله من الخذلان، وقد أصابته سهامه الصائبة، وتبين أنه من أصحاب الدعاوي الكاذبة، وكان هو الحري بما أنشده:
ومن جهلت نفسه قدره
…
رأى غيره منه ما لا يرى
ثم إن النبهاني الغبي عقَّبَ مسألة الاجتهاد بمسألة أخرى لا مناسبة لها أيضاً بموضوع كتابه، لكنه أراد أن يُظهر عجبه ودعاويه الكاذبة في العلم، فقال -بعد أن هذى وتكلّم بكلمات ساقطة تناسب جهله-: "إني سمعت مِراراً من بعضهم لزوم تأليف تفسير للقرآن على مقتضى الأذواق العصرية، وسمعتُ من رجل منهم أنه سيفعل ذلك، ويؤلف تفسيراً بهذه الصفة التي توافق هذا العصر، وهو في نفسه لا يقدر على فهم متن الآجرّومية، وقال لي بعض من يجتمع عليهم ويسمع كلامهم -وقد ثبت في ذهنه بعض نزغاتهم هذه وظنها حقاً-: قد نفعتُ بتأليفك المسلمين نفعاً عظيماً، ولكن بقي عليك شيء واحد. فقلت له: ما هو؟ قال: أن تؤلف تفسيراً للقرآن على مقتضى الأذواق العصرية، فإن هذه التفاسير الموجودة قد ألفوها على مقتضى أذواق أهل العصور السالفة، وقد تغير الحال الآن، واختلفت أذواق الناس ومشاربهم، فيلزم تأليف تفسير يوافقهم. قال: فأجبت أني لست أهلاً لذلك وبيني وبين مرتبة التفسير درجات كثيرة، لا يمكنني الوصول إليها، وتآليفي كلها جمع فؤاد وأكثرها في شؤون النبي صلى الله عليه وسلم من فضائله ومعجزاته ومدائحه ونحو ذلك مما لا رأي لي فيه، وإنما هو نقل صرف، وتفسير القرآن قد فرغ منه العلماء ونقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن بعدهم من أئمة الدين ودوّنوه في تفاسيرهم هذه الموجودة، وهي كافية وافية، وهي كما وافقت أهل العصور السابقة توافق أهل هذا العصر، فإن الأحكام الشرعية التي اشتمل عليها القرآن هي صالحة لكل إنسان، وقد استوت فيها العصور والأزمان، وليس للقرآن معان خاصة بأهل العصور السابقة ومعان أخرى خاصة بأهل العصور اللاحقة، وأما الأذواق والمشارب فهي إن كانت موافقة للشرع فمطلوبها يوجد في هذه التفاسير، وإن
كانت مخالفة للشرع فكيف يمكن أن يفسر القرآن بمعان توافق هذه الأذواق الفاسدة، والمشارب الكاسدة، ونحن لا يجوز لنا أن نفسر القرآن بعقولنا، ونطبقه على الأذواق العصرية كما يقوله السفهاء المخذولون، ويتجاسرون على دعوى اقتدارهم على تفسير كلا االله تعالى بأفهامهم السقيمه، وعقولهم الناقصة، فإن تفسير القرآن بالرأي ممنوع شرعاً".
ثم إنه نقل بعض ما قالوه في الفرق بين التفسير والتأويل، وتكلّم بهذيان يوافق فهم أمثاله، ثم ذكر قصيدة له مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "والحاصل أن هذه الفرقة المجدوعة المخذولة من طلبة زماننا في غاية الغباوة، ونقص العقل والدين، وقد عظم ضررهم على أنفسهم وعلى من يخالطهم ويصغي إلى كلامهم من المسلمين، فإنهم مع جمعهم لعقائد شتى من عقائد أهل الزيغ والبدع والوهابية وغيرهم، واستحسانهم ضلالاتهم، هم أضرّ منهم بكثير، وذلك أدن الوهابية قوم أهل بدعة ظهروا بها في بلاد نجد، وانتشر مذهبهم إلى ما حواليهم من البلاد، ثم تقلص ظلهم وقلّوا وذلّوا وانحصروا في أرضهم، وهم مع كونهم حنابلة أنكر عليهم علماء مذهب الإمام أحمد ما هم عليه من الغلو في الدين، وتضليل المسلمين، أما هذه الفرقة الجديدة فهي مؤلفة من سائر المذاهب، بدون علم ولا تقوى، ولا قواعد يستندون إليها كسائر الفرق، وإنما الجامع بينهم فساد الأفكار، والاعتراض على الأئمة الأخيار، وهم يختلطون بالناس ويكتبون آراءهم الفاسدة. ثم أخذ يبدي ويعيد، ويكرر الشتم على أخيار أهل عصره المعرضيين عن بدعه، ثم تعرض بالذم لما طبع من كتب الشيخين وسائر الكتب السلفية ككتاب (الصارم المنكي) 1 ثم ختم رسالته بقصيدة من شعره الركيك، ويغالي برسول الله صلى الله عليه وسلم ويشرك به.
حذا ما ذكره في هذا الباب، وهو يشتمل على مفاسد كثيرة، لا يمكن ضبط
1 "الصارم المنكي في الرد على السبكي" لمحمد بن أحمد بن عبد الهادي، كتاب قيّم في بابه، وقد طُبع الكتاب ونشر بمؤسسة الريان بيروت، بتحقيق عقيل بن محمد المقطري- ردّه الله للمنهج الحق- وقدم له العلامة مقبل بن هادي الوادعي- رحمه الله.