الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنما هو عبادة يفعل في المساجد كلها أو في غير المساجد أيضاً، ومعلوم أن زيارة القبر لها اختصاص بالقبر، ولما كانت زيارة قبره المشروعة إنما هي سفر إلى مسجده وعبادة في مسجده ليس فيها ما يختص بالقبر كان قول من كره أن يسمى هذا زيارة لقبره أولى بالشرع والعقل واللغة، ولم يبق إلا السفر إلى مسجده، وهذا مشروع بالنص والإجماع، والذين قالوا يستحب زيارة قبره إنما أرادوا هذا، فليس بين العلماء خلاف في المعنى بل في التسمية والإطلاق، والمجيب لم يحكِ نزاعاً في استحباب هذه الزيارة الشرعية التي تكون في مسجده، وبعضهم يسميها زيارة لقبره، وبعضهم يكره أن تسمى زيارة لقبره، والمجيب يستحب ما يستحب بالنص والإجماع، وقد ذكر ما فيه النزاع، فكان الحاكي عنه خلاف هذا كاذباً مفترياً يستحق ما يستحقه أمثاله من المفترين.
(أجوبة لشيخ الإسلام على بعض اعتراضات الأخنائي)
قال المعترض المالكي: وتضافرت النصوص عن الصحابة والتابعين، وعن السادة العلماء المجتهدين، بالحض على ذلك والندب إليه، والغبطة لمن سارع لذلك ودوام عليه، حتى نحا بعضهم في ذلك إلى الوجوب، ورفعه عن درجة المباح والمندوب، ولم يزل الناس مطبقين على ذلك قولاً وعملاً، لا يشكون في ندبه ولا يبغون عنه حولاً، وفي مسند ابن أبي شيبة:"من صلّى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلّى عليّ نائياً سمعته".
قال الشيخ: هكذا في النسخة التي حَضَرَتْ إليّ مكتوبة عن المعترض، وقد صحّح "ومن صلّى عليّ نائياً سمعته" وهو غلط، فإن لفظ الحديث:"من صلّى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلّى عليّ نائياً بلغته"1 هكذا ذكره الناس. وهكذا ذكره القاضي عياض عن ابن أبي شيبة. وهذا المعترض عمدته في مثل هذا كتاب
1 أخرجه أبو الشيخ في "الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" كما في "جلاء الأفهام"(ص 109- ط. دار ابن الجوزي) . وقال ابن القيم: "وهذا الحديث غريب جداً".
القاضي عياض، وهذا الحديث قد رواه البيهقي وغيره من حديث العلاء بن عمرو الحنفي، حدثنا أبو عبد الرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلّى علي نائياً بلغته"1. قال البيهقي: أبو عبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر. وقد مضى ما يؤكده.
قلت: هو تبليغ صلاة أمته وسلامهم عليه، كما في الأحاديث المعروفة، مثل الحديث الذي في سنن أبي داود وغيره عن حسين الجعفي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس الثقفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ"، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت- يقولون بليت-؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". وهذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، ورواه أبو حاتم، قال البيهقي: وله شواهد، وروى حديثين عن ابن مسعود وأبي أمامة وله شواهد أكثر مما ذكر البيهقي2.
منها: ما رواه ابن ماجه؛ حدثنا عمرو بن سواد المصري، حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحداً لن يصلي عليّ إلا عُرِضَتْ عليّ صلاته حتى يفرغ منها، قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: "وبعد الموت؛ إن الله حرّم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء". ورواه أبو جعفر
1 أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/38/ 562) والبيهقي في "شعب الإيمان"(2/218/ 1583) والخطيب البغدادي في "تاريخه"(3/ 299- 300) وهو حديث لا يصح؛ انظر: "الضعيفة"(رقم: 203) .
2 وهي مذكورة في "جلاء الأفهام".
محمد بن جرير الطبري في "تهذيب الآثار" من حديث سعيد بن أبي هلال كما تقدم1.
ومنها: ما رواه أبو داود وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"2. وهذا له شواهد مراسيل من وجوه مختلفة يصدق بعضها بعضاً.
ومنها ما رواه سعيد بن منصور في "سننه": حدثنا حبان بن علي، حدثنا محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"3.
وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني- وهو في بيت فاطمة يتعشّى- فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم عليه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلّوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء".
ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم".
1 أخرجه ابن ماجه (1637) وابن جرير في "تفسيره"(30/131) والمزي في "تهذيب الكمال"(10/ 23- 24) وغيرهم، من طريق: ابن وهب به.
وإسناده ضعيف. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة": هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع في موضعين: عبادة بن نسي روايته عن أبي الدرداء مرسلة؛ قاله العلائي. وزيد بن أيمن عن عبادة بن نُسي مرسلة؛ قاله البخاري".
2 تقدم تخريجه.
3 وأخرجه ابن أبي شيبة (4/345) وإسناده مرسل ضعيف.
ولفظه قال: مالي رأيتك وقفت؟ قلت: وقفت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. وذكر الحديث، ولم يذكر قول الحسن.
وقال إسماعيل: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، عن وهيب، عن أيوب السختياني قال: بلغني والله أعلم أن ملكاً موكل بكل من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يبلغه.
وأما السلام؛ ففي النسائي وغيره من حديث سفيان الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام". وفي الحديث الذي تقدم من رواية أبي يعلى الموصلي -وقد تقدم إسناده- عن علي بن الحسين، أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي، عن جدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتخذوا بيتي عيداً ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم". فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان يصدق بعضها بعضاً، وهي متفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته فإن ذلك يبلغه ويعرض عليه، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلّي عليه والمسلم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يُعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم تسليماً.
ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به، سواء صلى عليه وسلم في مسجده أو مدينته أو مكان آخر، فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه. وأما من سلّم عليه عند قبره فإنه يرد عليه، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين، ليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً كما يصلّي على من صلّى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان وقد تقدم حديث أبي هريرة أنه يرد السلام على من سلم عليه، والمراد عند قبره، لكن النزاع في معنى كونه عند القبر هل المراد في بيته كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى إنما هو لمن كان عند قبورهم قريباً منها، أو يراد به من كان في الحجرة كما قاله طائفة من
السلف والخلف؟ وهل يستحب ذلك عند الحجرة لمن قدم من سفر أو لمن أراده من أهل المدينة أو لا يستحب بحال؟ وليس الاعتماد في سماعه ما يبلغه من صلاة أمته وسلامهم إلا على هذه الأحاديث الثابتة.
فأما ذاك الحديث1 وإن كان معناه صحيحاً فإسناده لا يحتج به، وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر، فإنه لا يُعرف إلا من حديث محمد بن مروان السُّدّي الصغير، عن الأعمش، كما ظنه البيهقي، وما ظنه في هذا هو متفق عليه عند أهل المعرفة، وهو عندهم موضوع على الأعمش.
قال عباس الدوري؛ عن يحيى بن معين: محمد بن مروان ليس بثقة.
وقال البخاري: سكتوا عنه لا يكتب حديثه البتة.
وقال الجوزجاني: ذاهب الحديث.
وقال النسائي: متروك الحديث.
وقال صالح جزرة: كان يضع الحديث.
وقال أبو حاتم الرازي والأزدي: متروك الحديث.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً، ولا الاحتجاج به بحال.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ، والضعف على رواياته بيّن.
فهذا الكلام على ما ذكره من الحديث مع أنّا قد بينا صحة معناه بأحاديث أخر، وهو لو كان صحيحاً فإنما فيه أنه يبلغ صلاة من صلى نائياً، ليس فيه أنه يسمع ذلك كما قد وجدته منقولاً عن هذا المعترض فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم ولا يعرف في شيء من الحديث، إنما يقوله بعض الجهال، يقولون إنه يوم الجمعة وليلة الجمعة يسمع بأذنيه صلاة من صلى عليه فالقول بأنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه، وكذلك تبلغه الملائكة.
1 أي: حديث: "من صلى عليّ عند قبري سمعته
…
".
وقول القائل: إنه يسمع الصلاة من بعيد؛ ممتنع فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه فهذه مكابرة، وإن أراد أنه بحيث يسمع أصوات الخلائق من البعد فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم، قال تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} 1 وقال: {وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 2. وليس أحد من البشر بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى الذين يقولون: إن المسيح هو الله، وأنه يعلم ما يفعله العباد، ويسمع أصواتهم ويجيب دعاءهم، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 3. فلا المسيح ولا غيره من البشر، ولا أحد من الخلق؛ يملك لأحد من الخلق ضراً ولا نفعاً، بل ولا لنفسه، وإن كان أفضل الخلق، قال تعالى:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} 4 وقال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} 5 الآية.
1 سورة الزخرف: 80.
2 سورة المجادلة: 7.
3 سورة المائدة: 72- 76.
4 سورة الجن: 21.
5 سورة الأنعام: 50.
6 سورة الأعراف: 188.
وقوله: (إلا ما شاء الله) فيه قولان: قيل: هو استثناء متصل، وأنه يملك من ذلك ما ملكه الله. وقيل: هو منقطع، والمخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً بحال. فقوله:(إلا ما شاء الله) استثناء منقطع، أي: لكن يكون من ذلك ما شاء الله، كقول الخليل:{وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} 1. أي: لا أخاف أن يفعلوا شيئاً، لكن إن شاء ربي شيئاً كان، وإلا لم يكن، وإلا فهم لا يفعلون شيئاً. وكذلك قوله: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} ثم قال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. تنفعه الشهادة وتنفع شهاداته، كقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3 وقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 4. وبسط هذا له موضع آخر.
قال الشيخ: وأما ما ذكره من تضافر النقول عن السلف بالحض على ذلك وإطباق الناس عليه قولاً وعملاً.
فيقال: الذي اتفق عليه السلف والخلف وجاءت به الأحاديث الصحيحة هو السفر إلى مسجده، والصلاة والسلام عليه في مسجده، وطلب الوسيلة له، وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله، فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين سلفهم وخلفهم، وهذا هو مراد العلماء الذين قالوا يستحب السفر إلى زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن مرادهم بالسفر لزيارته هو السفر إلى مسجده، وذكروا في منسك الحج أنه يستحب زيارة قبره، وهذا هو مراد من ذكر الإجماع على ذلك، كما ذكر القاضي عياض.
قال: وزيارة قبره سنة مجمع عليها، وفضيلة مرغّب فيها. فمرادهم الزيارة التي بينوها وشرحوها: كما ذكر ذلك القاضي عياض في هذا الفصل فصل زيارته.
قال: وقال إسحاق بن إبراهيم الفقيه: ومما لم يزل شأن من حج المرور بالمدينة
1 سورة الأنعام: 85.
2 سورة الزخرف: 86.
3 سورة سبأ: 23.
4 سورة الزمر: 44.
والقصد إلى الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والتبرك برؤية روضته ومنبره، وقبره ومجلسه، وملامس يديه ومواطىء قدميه، والعمود الذي كان يستند إليه، ونزل جبريل بالوحي عليه فيه، وبمن عمره وقصده من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، والاعتبار بذلك كله.
قلت وذلك أن لفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره، يوصل إليه ويجلس عنده، ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة وبدعة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا سبيل لأحد أن يصل إلا إلى مسجده لا يدخل أحد بيته، ولا يصل إلى قبره، بل دفنوه في بيته، بخلاف غيره فإنهم دفنوه في الصحراء، كما في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته:" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً. فدفن في بيته لئلاّ يُتّخذ قبره مسجداً ولا وثناً ولا عيداً. فإن في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح، عن عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلُّوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".
وفي "الموطأ" وغيره عنه أنه قال: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم عن ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً دفن في حجرته لئلا يتمكن أحد من ذلك، وكانت عائشة ساكنة فيها فلم يكني في حياتها أحد يدخل لذلك، إنما يدخلون إليها هي، ولما توفيت لم يبق بها أحد، ثم لما أدخلت في المسجد سُدّت وبنى الجدار البراني عليها، فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره كالزيارة المعروفة عند قبر غيره، سواء كانت سنية أو بدعية، بل إنما يصل الناس إلى مسجده.
ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبره ألبتة، ولم يتكلموا بذلك، وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم، فإن هذا المعنى ممتنع عندهم فلا يعبروا عن وجوده وهو قد نهى عن اتخاذ بيته وقبره عيداً، وسأل الله تعالى أن لا يجعل وثناً، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ولهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك وقد باشر التابعين بالمدينة، وهو أعلم الناس بمثل ذلك.
ولو كان في هذا حديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفه هؤلاء، ولم يكره مالك وأمثاله من علماء المدينة الإخبار بلفظ تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث فكيف يكره النطق بلفظه؟! لكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى، بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك في مسجده يستحبه هؤلاء، لكن هؤلاء سموا هذا زيارة لقبره وأولئك كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره، وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة، كسؤاله الاستغفار، وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها، وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه، ومبدأ ذلك من الذين ظنوا أن هذا زيارة لقبره، وظن هؤلاء أن الأنبياء والصالحين تزار قبورهم لدعائهم والطلب منهم واتخاذ قبورهم أوثاناً، حتى قد يفضلون تلك البقعة على المساجد، وإن بني عليها مسجد فضلوه على المساجد التي بنيت لله، وحتى قد يفضلون الحج إلى قبر من يعظمونه على الحج إلى البيت العتيق، إلى غير ذلك مما هو كفر وردة عن الإسلام باتفاق المسلمين.
فالذي تضافرت به النقول عن السلف قاطبة وأطبق عليه الأمة قولاً وعملاً هو السفر إلى مسجده المجاور لقبره، والقيام بما أمر الله به من حقوقه في مسجده، كما يقام بذلك في غير مسجده، لكن مسجده أفضل المساجد بعد المسجد الحرام
عند الجمهور. وقيل: إنه أفضل مطلقاً؛ كما نقل عن مالك وغيره. ولم يتطابق السلف والخلف على إطلاق زيارة قبره، ولا ورد بذلك حديث صحيح، ولا نقل معروف عن أحد من الصحابة، ولا كان الصحابة المقيمون بالمدينة من المهاجرين والأنصار إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه يجيئون إلى القبر ويقفون عنده ويزورونه، فهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة، وقد ذكر مالك وغيره أن هذا من البدع التي لم تنقل عن السلف وأن هذا منهي عنه، وهذا الذي قاله مالك مما يعرفه أهل العلم الذين لهم عناية بهذا الشأن، يعرفون أن الصحابة لم يكونوا يزورون قبره لعلمهم بأنه قد نهى عن ذلك، ولو كان قبره يزار كما تزار القبور قبور أهل البقيع والشهداء- شهداء أحد- لكان الصحابة يفعلون ذلك، إما بالدخول إلى حجرته، وإما بالوقوف عند قبره إذا دخلوا المسجد، وهم لم يكونوا يفعلون لا هذا ولا هذا، بل هذا من البدع كما بين ذلك أئمة العلم، وهذا كما ذكره القاضي عياض، وهو الذي قال: زيارة قبره سُنَّةٌ مُجْمَعٌ عليها، وفضِيلةٌ مُرَغَّبٌ فيها، وهو في هذا الفصل ذكر عن مالك أنه كره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر فيه أيضاً: قال مالك في "المبسوط": وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر وإنما ذلك للغرباء. وقال مالك في "المبسوط" أيضاً: ولا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو له ولأبي بكر وعمر، قيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدون يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلّمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. فقد بيَّن مالك أنه لم يبلغه عن السلف من الصحابة المقيمين بالمدينة أنهم كانوا يقفون بالقبر عند دخول المسجد إلا لمن قدم من سفر، مع أن الذي يقصد السفر فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع.
وقد ذكر القاضي عياض عن أبي الوليد الباجي أنه احتج لما كرهه مالك،
فقال: أهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم، وقال صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اشتدَّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وقوله: "لا تتخذوا قبري عيداً". وإذا كانت هذه الزيارة مما نهى عنها في الأحاديث فالصحابة أعلم بنهيه وأطوع له، فلهذا لم يكن بالمدينة منهم من يزور قبره باتفاق العلماء، وهذا الوقوف الذي يسميه غير مالك زيارة لقبره- الذي بين مالك وغيره أنه بدعة لم يفعلها السلف- هي زيارة مقصود صاحبها الصلاة والسلام عليه، كما بين ذلك في السؤال لمالك، لكن لما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا قبري عيداً، وصلّوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" وروى مثل ذلك في السلام عليه؛ علم أنه كره تخصيص تلك البقعة بالصلاة والسلام، بل يصلّى عليه ويسلّم في جميع المواضع، وذلك واصل إليه، فإذا كان مثل هذه الزيارة للقبر بدعة منهياً عنها فكيف بمن يقصد ما يقصده من قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم ويستغيث بهم ليس قصده الدعاء لهم؟ ومعلوم أن هذا أعظم في كونه بدعة وضلالة.
فالسلف والخلف إنما تطابقوا على زيارة قبره بالمعنى المجمع عليه من قصد مسجده والصلاة فيه كما تقدم، وهذا فرق بينه وبين سائر قبور الأنبياء والصالحين، فإنه يشرع السفر إلى عند قبره لمسجده الذي أُسِّسَ على التقوى، فهذا السفر مشروع باتفاق المسلمين، والصلاة مقصورة فيه باتفاق المسلمين، ومن قال إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قُتِلَ، وليس ذلك سفراً لمجرد الزيارة بل لا بد أن يقصد إتيان المسجد والصلاة فيه، وإن لم يقصد إلا القبر فهذا يندرج في كلام المجيب، حيث قال: أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين. فهو ذكر القولين فيمن سافر لمجرد قصد زيارة القبور، أما من سافر لقصد الصلاة في مسجده عند حجرته التي فيها قبره فهذا سفر مشروع مستحب باتفاق المسلمين، وقد تقدم قول مالك للسائل الذي سأله عمن نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فليأته وليصل فيه، وإن كان إنما أراد القبر فلا يفعل للحديث
الذي جاء: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد". فالسائل سأله عمن نذر أن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ففصل مالك في الجواب بين أن يريد القبر أو المسجد مع أن اللفظ إنما هو نذر أن يأتي القبر، فعلم أن لفظ إتيان القبر وزيارة القبر، والسفر إلى القبر ونحو ذلك يتناول من يقصد المسجد وهذا مشروع، ويتناول من لم يقصد إلا القبر وهذا منهي عنه كما دلت عليه النصوص وبينه العلماء مالك وغيره.
فمن نقل عن السلف أنهم استحبوا السفر لمجرد القبر دون المسجد بحيث لا يقصد المسافر المسجد ولا الصلاة فيه بل إنما يقصد القبر كالصورة التي نهى عنها مالك؛ فهذا لا يوجد في كلام أحد من علماء السلف استحباب ذلك فضلاً عن إجماعهم عليه، وهذا الموضع يجب على المسلمين عامة وعلمائهم تحقيقه، ومعرفة ما هو المشروع والمأمور به الذي هو عبادة الله وحده، وطاعة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبر وتقوى وقيام بحق الرسول، وما هو شرك وبدعة وضلالة منهي عنها، لئلا يلتبس هذا بهذا، فإن السفر إلى مسجد المدينة مشروع باتفاق المسلمين، لكن إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى. وقد تقدم عن مالك وغيره أنه إذا نذر إتيان المدينة؛ إن كان قصده الصلاة في المسجد وإلا لم يوفي بنذره، وأما إذا نذر إتيان المسجد لزمه، لأنه إنما يقصد الصلاة فلم يجعل السفر إلى المدينة سفراً مأموراً به إلا سفر من قصد الصلاة في المسجد، وهو الذي يؤمر به الناذر بخلاف غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تُشَدَّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". وجعل من سافر إلى المدينة أو إلى بيت المقدس لغير العبادة الشرعية في المسجدين سفراً منهياً عنه لا يجوز أن يفعله وإن نذره، وهذا قول جمهور العلماء.
فمن سافر إلى مدينة الرسول أو بيت المقدس لقصد زيارة ما هناك من القبور أو من آثار الأنبياء والصالحين كان سفره محرّماً عند مالك والأكثرين، وقيل إنه سفر مباح ليس بقربة كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو قول ابن عبد البر، وما علمنا أحداً من علماء المسلمين المجتهدين، الذين تذكر أقوالهم في
مسائل الإجماع والنزاع ذكر أن ذلك مستحب، فدعوى من ادّعى أن السفر إلى مجرد القبور مستحب عند جميع علماء المسلمين كذب ظاهر، وكذلك إن ادّعى أن هذا قول الأئمة الأربعة أو جمهور علماء المسلمين فهو كذب بلا ريب، وكذلك إن ادّعى أن هذا قول عالم معروف من الأئمة المجتهدين، وإن قال: هذا قول المتأخرين أمكن أن يصدق في ذلك وهو -بعد أن تعرف صحة نقله- نقل قولاً شاذاً مخالفاً لإجماع السلف، مخالفاً لنصوص الرسول، فكفى بقوله فساداً أن يكون قولاً مبتدعاً في الإسلام مخالفاً للسنة والجماعة، لما سنّه الرسول صلى الله عليه وسلم ولما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها.
والنقل عن علماء السلف يوافق ما قاله مالك، فمن نقل عنهم ضد ذلك فقد كذب، وأقل ما في الباب أن يجعل ممن طولب بصحة نقله والألفاظ المجملة والتي يقولها طائفة قد عرف مرادهم، وعياض نفسه الذي ذكر أن زيارته سنة مجمع عليها قد بين الزيارة المشروعة في ذلك، وقد ذكر عياض في قوله:"ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" ما هو ظاهر مذهب مالك أن السفر إلى غيرها محرم، فهو أيضاً يقول إن السفر لمجرد زيارة القبور كما قاله وسائر أصحابه مع ما ذكره من استحباب الزيارة الشرعية مع ما ذكر من كراهة مالك أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
ثم إن المعترض المالكي احتج في زيارة قبر صلى الله عليه وسلم بالقياس على زيارة الحي، فقال المعارض المناقض: وروى مسلم في صحيحه في الذي سافر لزيارة أخ له في الله، ولفظ الحديث:"أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في تلك القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا؛ إلا أني أحببته في الله. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بأن الله أحبك كما أحببته فيه"1.
وفي موطأ مالك عن معاذ بن جبل في حديث ذكر فيه: سمعتُ رسول
1 أخرجه مسلم (2567) .
الله صلى الله عليه وسلم يقول- أي عن الله-: " وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ"1.
قال: فقد علمتَ أيها الأخ بهذا فضيلة زيارة الأخوان، وما أعدّ الله بها للزائرين من الفضل والإحسان، فكيف بزيارة من هو حي الدارين، وإمام الثقلين، الذي جعل الله حرمته في حال مماته كحرمته في حال حياته، ومن شرفه الحق بما أعطاه من جميع صفاته، ومن هدانا ببركته إلى الصراط المستقيم، وعصمنا به من الشيطان الرجيم، ومن هو آخذ بحجزنا أن نقتحم في نار الجحيم، ومن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم؟
قال الشيخ ابن تيمية: والجواب: أما زيارة الأخ الحي في الله كما في الحديث فهذا نظير زيارته في حياته، يكون الإنسان بذلك من أصحابه وهم خير القرون، وأما جعل زيارة القبر كزيارته حياً كما قاسه هذا المعترض فهذا قياس ما علمتُ أحداً من علماء المسلمين قاسه، ولا علمتُ أحداً منهم احتجّ في زيارة قبره بالقياس على زيارة الحيّ المحبوب في الله، وهذا من أفسد القياس، فإنه من المعلوم أن من زار الحي حصل له بمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك ما لا يحصل لمن لم يشاهده ولم يسمع كلامه، وليس رؤية قبره أو رؤية ظاهر الجدار الذي بني على بيته بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه، ولو كان هذا مثل هذا لكان كل من زار قبره مثل واحد من أصحابه، ومعلوم أن هذا من أبطل الباطل.
وأيضاً: فالسفر إليه في حياته إما أن يكون لما كانت الهجرة إلية واجبة
1 أخرجه مالك في "الموطأ"(2/354/16) - 51- كتاب الشعر- (5) باب ما جاء في المتحابين في الله. وأحمد (5/229، 236- 237، 239، 247) . أو رقم (2100، 22163، 22179، 22230) وابن حبان في "صحيحه"(2/ 335/ 575) والجوي في "شرح السنة"(3463) والحاكم (4/168- 169) والطبراني في "الكبير"(20/ رقم: 150- 167) وغيرهم. وصححه ابن عبد البر في "التمهيد". وصحّح إسناده الألباني في "المشكاة"(3/1395/5011) .
كالسفر قبل الفتح فيكون المسافر إليه مسافراً للمقام عنده بالمدينة مهاجراً من المهاجرين إليه، وهذا السفر انقطع بفتح مكة، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"1. ولهذا لما جاء صفوان بن أمية مهاجراً أمره أن يرجع إلى مكة. وكذلك سائر الطلقاء كانوا بمكة لم يهاجروا. وإما أن يكون المسافر إليه وافداً إليه ليسلم ويتعلم منه ما يبلغه قومه، كالوفود الذين كانوا يفدون عليه لاسيما سنة تسع وعشر سنة الوفود، وقد أوصى في مرضه بثلاث، فقال:"أخرجوا النصارى من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم"2. ومن الوفود وفد عبد القيس لما قدموا عليه ورجعوا إلى قومهم بالبحرين، لكن هؤلاء أسلموا قديماً قبل فتح مكة، وقالوا: لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، لأن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر -وهم أهل نجد كأسد وغطفان وتميم وغيرهم، فإنهم لم يكونوا قد أسلموا بعد- وكان السفر إليه في حياته لتعلم الإسلام والدين، ولمشاهدته وسماع كلامه، وكان خيراً محضاً. ولم يكن أحد من الأنبياء والصالحين عُبد في حياته بحضرته فإنه كان ينهى من يفعل ما هو دون ذلك من المعاصي فكيف بالشرك؟ كما نهى الذين سجدوا له، ونهى الذين صلّوا خلفه قياماً، وقال:"إن كدتم تفعلون فعل فارس والروم فلا تفعلوا" رواه مسلم3.
وفي "المسند" بإسناد صحيح عن أنس قال:، لم يكن شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك"4.
1 أخرجه البخاري (3080) ومسلم (1863) .
2 أخرجه البخاري (3053، 3168، 4431) ومسلم (1637) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
3 برقم (413) .
4 أخرجه أحمد (3/ 132، 134، 151، 250) والبخاري في "الأدب المفرد"(946) والترمذي (2754) وغيرهم. وهو حديث صحيح.
انظر: "الصحيحة"(358) وكلام الشيخ الألباني في تحقيقه على "الأدب المفرد"(ص 334-335) .
وفي الصحيح؛ أن جارية قالت عنده: وفينا نبيٌّ يعلم ما في غدٍ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين"1.
ومثل هذا كثير من نهيه عن المنكر بحضرته، فكل من رآه في حياته لم يتمكن أن يفعل بحضرته منكراً يقرُّ عليه- إلى أن قال-: ومعلوم أنه لو كان حياً في المسجد لكان قصده في المسجد من أفضل العبادات، وقصد القبر الذي اتخذ مسجداً مما نهى عنه ولعن أهل الكتاب على فعله، وأيضاً؛ فليس عند قبره مصلحة من مصالح الدين وقربة إلى رب العالمين إلا وهي مشروعة في جميع البقاع، فلا ينبغي أن يكون صاحبها غير معظّم للرسول صلى الله عليه وسلم التعظيم التام والمحبة التامة إلا عند قبره، بل هو مأمور بهذا في كل وقت.
وزيارته في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها، والسفر إلى القبر بمجرده بالعكس مفسدة راجحة لا مصلحة فيها، بخلاف السفر إلى مسجده فإنه مصلحة راجحة، وهنا يفعل من حقوقه ما يفعل في سائر المساجد.
وهذا مما يتبين به كذب الحديث الذي يقال فيه: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي" وهذا الحديث معروف من رواية حفص بن سليمان الغاضري صاحب عاصم، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي"2. وقد رواه عنه غير واحد، وهو عندهم معروف من طريقه، وهو عندهما ضعيف في
1 أخرجه البخاري (5147) وأحمد (6/359) وأبو داود (4922) والترمذي (1090) وابن ماجه (1897) .
2 أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(12/رقم: 13497) وفي "المعجم الأوسط"(3/286/ 1830- مجمع البحرين) والدارقطني في "سننه"(2/278) والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/246) وفي "شعب الإيمان "(3/ 489/ 4154) وابن عدي في "الكامل "(2/790) . من طريق: حفص به.
والحديث ضعّفه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(2/266) والألباني في "الإرواء"(1128) وقال: "منكر".
الحديث إلى الغاية، حجة في القراءة، قال يحيى بن معين: حفص ليس بثقة. وقال البخاري: تركوه.- ثم سرد الشيخ كلام الأئمة فيه وقال-: وقد رواه الطبراني في "المعجم"1 من حديث الليث بن أبي سليم عن زوجة جده عائشة، عن ليث، وهذا الليث وزوجة جده مجهولان، ونفس المتن باطل. فإن الأعمال التي فرضها الله ورسوله لا يكون الرجل بها مثل الواحد من الصحابة، بل في الصحيحين عنه أنه قال:"لو أنفق أحدكم مثل أحدٌ ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه"2. فالجهاد والحج ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتفاق المسلمين، ولا يكون الرجل بها كمن سافر إليه في حياته ورآه، كيف وذلك إما أن يكون مهاجراً إليه؛ كما كانت الهجرة قبل الفتح، أو من الوفود الذين كانوا يَفِدُونَ إليه يتعلّمون الإسلام ويبلّغونه عنه إلى قومهم، وهذا عمل لا يمكن أحداً بعدهم أن يفعل مثلهم، ومن شبّه من زار قبر شخص بمن كان يزوره في حياته فهو مصاب في عقله ودينه.
والزيارة الشرعية لقبر الميت مقصودها الدعاء له والاستغفار، كالصلاة على جنازته.
والدعاء المشروع المأمور به في حق نبينا- كالصلاة عليه، والسلام عليه، وطلب الوسيلة له- مشروع في جميع الأمكنة لا يختص بقبره، فليس عند قبره عمل صالح تمتاز به تلك البقعة، بل كل عمل صالح يمكن فعله في سائر البقاع، لكن مسجده أفضل من غيره، فالعبادة فيه فضيلة بكونها في مسجده، كما قال:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". والعبادات المشروعة فيه بعد دفنه مشروعة فيه قبل أن يدفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته،
1 "المعجم الكبير"(12/ رقم: 13496) وفي "الأوسط"(3/ 285/ 1829- مجمع البحرين) . وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 2) : "فيه عائشة بنت يونس؛ ولم أجد من ترجمها".
وانظر: "التلخيص" و"الإرواء".
2 تقدم.
وقبل أن تدخل حجرته في المسجد، ولم يتجدد بعد ذلك فيه عبادة غير العبادات التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وغير ما شرعه هو لأمته ورغبهم فيه ودعاهم إليه، وما يشرع للزائر من صلاة وصيام ودعاء له وثناء عليه كل ذلك مشروع في مسجده في حياته، وهي مشروعة في سائر المساجد، بل وفي سائر البقاع التي تجوز فيها الصلاة، وهو صلى الله عليه وسلم قد جعلت له ولأمته الأرض مسجداً وطهوراً، فحيث ما أدركت أحداً الصلاة فليصل، فإنه مسجد، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم. ومن ظن أن زيارة القبر تختص بجنس من العبادة لم تكن مشروعة في المسجد وإنما شرعت لأجل القبر فقد أخطأ، لم يقل هذا أحد من الصحابة والتابعين، وإنما غلط في هذا بعض المتأخرين، وغاية ما نقل عن بعض الصحابة كابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر يقف عند القبر ويسلم.
وجنس السلام عليه مشروع في المسجد وغير المسجد، قبل السفر وبعده، وأما كونه عند القبر فهذا كان يفعله ابن عمر إذا قدم من سفر، وكذلك الذين استحبوه من العلماء استحبوه للصادر والوارد من المدينة وإليها من أهلها، وللوارد والصادر من المسجد من الغرباء، مع أن أكثر الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك، ولا فرق أكثر السلف بين الصادر والوارد، بل كلهم ينهون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال أبو الوليد الباجي: إنما فرّق بين أهل المدينة وغيرها لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها ولم يقصدوها من أجل القبر والتسليم، قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وقال: "لا تجعلوا قبري عيداً". وهذا الذي ذكره من أدلة من سوَّى في النهي، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تجعلوا ولا تتخذوا بيتي عيداً". نهي لكل أمته أهل المدينة والقادمين إليها، وكذلك نهيه عن اتخاذ القبور مساجد، وخبره بأن غضب الله اشتد على من فعل ذلك؛ هو متناول للجميع، وكذلك دعاؤه بأن لا يتخذ قبره وثناً عام، وما ذكره من أن الغرباء قصدوا لذلك تعليق على العلة ضد مقتضاها، فإن القصد لذلك منهي عنه، كما صرح به مالك وجمهور أصحابه،
وكما نهى عنه، وإذا كان منهياً عنه أو ليس بقربة لم يشرع الإعانة عليه.
وابن عمر لم يكن يسافر إلى المدينة لأجل القبر بل المدينة وطنه، فكان يخرج منها لبعض الأمور ثم يرجع إلى وطنه فيأتي المسجد فيصلي فيه ويسلم.
فأما السفر لأجل القبور فلا يعرف عن أحد من الصحابة، بل ابن عمر كان يقدم إلى بيت المقدس ولا يزور قبر الخليل صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبوه عمر رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين والأنصار قدموا إلى بيت المقدس ولم يذهبوا إلى قبر الخليل عليه السلام، وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وسائر أهل الشام لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر إلى قبر الخليل عليه السلام ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وما كان قربة للغرباء فهو قربة لأهل المدينة وما لم يكن قربة لهم لم يكن قربة لغيرهم، كاتخاذ بيته عيداً، واتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً، وكالصلاة إلى الحجرة والتمسح بها، وإلصاق البطن بها والطواف بها، وغير ذلك مما يفعله جهال القادمين، فإن هذا- بإجماع المسلمين- ينهى عنه الغرباء كما ينهى عنه أهل المدينة، ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين.
وبالجملة فجنس الصلاة والسلام عليه والثناء عليه صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مما استحبه بعض العلماء عند القبر للواردين والصادرين هو مشروع في مسجده وسائر المساجد، وأما ما كان سؤالاً له فهذا لم يستحبه أحد من السلف لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم.
ثم بعض من يستحب هذا من المتأخرين يدعوا به مع البعد فلا يختص هذا عندهم بالقبر، وأما نفس بيته عند قبره فلا يمكن أحداً الوصول، ولم يشرع هناك عمل يكون هناك منه في غيره، ولو شرع لفتح باب الحجرة للأمة، بل قد قال:"لا تتخذوا بيتي عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " صلوات الله وسلامه عليه.
وقد تقدم ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن عبد العزيز الدراوردي، عن سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فناداني، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً، وصلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء".
وكذلك سائر الصحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشام، مثل معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وغيرهم؛ لم يعرف عن أحد منهم أنه سافر لقبر من القبور التي بالشام؛ لا قبر الخليل ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وكذلك الصحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
فإن قيل: الزائر في الحياة إنما أحبه الله لكونه يحبه في الله، والمؤمنون يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم، وكذلك يحبون سائر الأنبياء والصالحين، فإذا زاروهم أثيبوا على هذه المحبة.
قيل: حبُّ الرسول من أعظم واجبات الدين، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"1.
وفي الحديث الصحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 2 رواه البخاري عن أبى هريرة، قال:"والذي نفسي بيده".
1 أخرجه البخاري (16) ومسلم 34.
2 أخرجه البخاري (15) ومسلم (44) .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ ييد عمر فقال: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلاّ نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك". فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، قال:"الآن يا عمر"1. وتصديق ذلك في القرآن قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 2. وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 3. وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 4.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة؛ اقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ". وذكر الحديث5.
وفي حديث آخر: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به"6.
1 أخرجه البخاري (3694) .
2 سورة الأحزاب: 6.
3 سورة التوبة: 24.
4 سورة المجادلة: 22.
5 أخرجه البخاري (2399، 4781) .
6 حديث ضعيف. أخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه"(4/369) والبغوي في "شرح السنة"(1/ 212-213/104) وابن أبي عاصم في "السنة"(15) وابن بطة في "الإبانة"(1/387-388/279) والهروي في "ذم الكلام وأهله"(2/ 254- 255/ 320) والحسن بن سفيان النسوي في "الأربعين"(9) والأصبهاني في "الحجة في بيان المحجّة"(1/251/103) والبيهقي في "المدخل"(209) والسِّلَفي في "معجم السفر"(1265) وابن الجوزي في "ذم الهوى"(ص 22- 23- العلمية) .
من طريق: نعيم بن حماد، ثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص به مرفوعاً. وإسناده ضعيف.
نعيم بن حماد "صدوق يخطىء كثيراً". وقد تفرّد به.
ثم إنه اختُلف فيه عليه؛ فمرة يرويه عبد الوهاب عن هشام. ومرة يقول: حدثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره.
وعقبة بن أوس روايته عن عبد الله بن عمرو متكلّم فيها؛ انظر: "جامع التحصيل" للعلائي رقم (528) .
وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي؛ قال عنه ابن سعد: "كان ثقة، وفيه ضعف". ووثقه ابن حبان وغيره.
وقال الهروي بعد أن روى الحديث: "جوّده الأعين، وله علتان".
وقال النووي: "إسناده صحيح"! وقال الحافظ في "الفتح"(13/302) : "أخرجه الحسن بن سفيان، ورجاله ثقات، وقد صحّحه النووي في آخر الأربعين".
قلت: قد تكلم الحافظ ابن رجب على علل الحديث بما يكفي في كتابه "جامع العلوم والحكم"(ص 724- 725 ط. ابن الجوزي) أو (2/ 394- 395- ط. الرسالة) فانظره لزاماً. وقال: "تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه
…
ثم ذكرها".
وضعفه العلامة محمد ناصر الدين الألباني في "المشكاة"(167) وفي "ظلال الجنة"(5) رحم الله الجميع.
لكن حبه وطاعته وتعزيره وتوقيره وسائر ما أمر الله به من حقوقه مأمور به في كل مكان، لا يختص بمكان دون مكان، وليس من كان في المسجد عند القبر بأولى بهذه الحقوق ووجوبها عليه ممن كان في موضع آخر.
ومعلوم أن مجرد زيارة قبره كالزيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة، ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأمة لفتح باب الحجرة ومكنوا من فعل تلك العبادة عند قبره، وهم لم يمكنوا إلا من الدخول إلى مسجده، والذي يشرع في مسجده يشرع في سائر المساجد، لكن مسجده أفضل من سائرها غير المسجد الحرام على نزاع في ذلك، وما يجده المسلم في قلبه من محبته والشوق إليه والإنس بذكره وذكر أحواله فهو مشروع له في كل مكان، وليس في مجرد زيارة ظاهر الحجرة ما يوجب عبادة لا تفعل بدون ذلك، بل نهى عن أن يتخذ ذلك
المكان عيداً، وأمر أن يصلى عليه حيث كان العبد ويسلم عليه، فلا يخص بيته وقبره لا بصلاة عليه ولا تسليم عليه فكيف بما ليس كذلك؟ وإذا خص قبره بذلك صار ذلك في سائر الأمكنة- دون ما هو عند قبره- ينقص حبه وتعظيمه وتعزيره وموالاته والثناء عليه عند غير قبره عما يفعل عند قبره، كما يجده الناس في قلوبهم إذا رأوا من يحبونه ويعظمونه، يجدون في قلوبهم عند قبره مودة له ورحمة ومحبة أعظم مما يكون بخلاف ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله في كل مكان وزمان، فلا يؤمرون بما يوجب نقص محبتهم وإيمانهم في عامة البقاع والأزمنة، مع أن ذلك لو شرع لهم لاشتغلوا بحقوقهم عن حقه، واشتغلوا بطلب الحوائج منه كما هو الواقع، فيدخلون في الشرك بالخالق وفي ترك حق المخلوق، فينقص تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وأما ما شرعه لهم من الصلاة والسلام عليه في كل مكان، وأن لا يتخذوا بيته عيداً ولا مسجداً، ومنعهم من أن يدخلوا إليه ويزوروه كما تزار القبور؛ فهذا يوجب كمال توحيدهم للرب تبارك وتعالى، وكمال إيمانهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته وتعظيمه حيث كانوا، واهتمامهم بما أمروا به من طاعته، فإن طاعته هي مدار السعادة، وهي الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، وأهل الجنة وأهل النار، فأهل طاعته هم أولياء الله المتقون، وجنده المفلحون، وحزبه الغالبون، وأهل مخالفته ومعصيته بخلاف ذلك، والذين يقصدون الحج إلى قبره وقبر غيره ويدعونهم ويتخذونهم أنداداً من أهل معصيته ومخالفته، لا من أهل طاعته وموافقته، فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه، وإن ظنوا أن هذا من موالاته ومحبته كما يظن النصارى أن ما هم عليه من الغلو في المسيح والشرك به من جنس محبته وموالاته، وكذلك دعاؤهم للأنبياء والموتى، كإبراهيم وموسى وغيرهما عليهم السلام، ويظنون أن هذا من محبتهم وموالاتهم وإنما هو من جنس معاداتهم، ولهذا يتبرؤون منهم يوم القيامة، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يتبرأ ممن عصاه، وإن كان قصده تعظيمه والغلو فيه، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} 1. فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرؤوا من كل معبود غير الله ومن كل من عبده، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 2.
وكذلك سائر الموتى ليس في مجرد رؤية قبورهم ما يوجب لهم زيادة المحبة، إلا لمن عرف أحوالهم بدون ذلك فيتذكر أحوالهم فيحبهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه وفضائله وما من الله به عليه وما من به على أمته، فبذلك يزداد حبهم له وتعظيمهم له لا بنفس رؤية القبر، ولهذا تجد العاكفين على قبور الأنبياء والصالحين من أبعد الناس عن سيرتهم ومتابعتهم، وإنما قصد جمهورهم التأكل والترأس بهم، فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رياسة أو مأكلة لا ليزدادوا هم حباً وخيراً. وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد"3.
وما ذكره هذا من فضائله فبعض ما يستحقه صلى الله عليه وسلم، والأمر فوق ما ذكره أضعافاً مضاعفة، لكن هذا يوجب إيماننا به وطاعتنا له، واتباع سنته والتأسي به، والإقتداء به ومحبتنا له، وتعظيمنا له، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، فإن هذا هو طريق النجاة والسعادة وهو سبيل الحق ووسيلتهم إلى الله تعالى، ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره، والشرك بالله، واتباع غير سبيل المؤمنين السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو صلى الله عليه وسلم قد قال:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا". وقال: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" وقال: "خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور
1 سورة الشعراء: 214- 216.
2 سورة الممتحنة: 4.
3 تقدم تخريجه.
محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" 1. وقال:"إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"2. إلى غير ذلك من الأدلة التي تبين أن الحجّاج إلى القبور هم من المخالفين للرسول صلى الله عليه وسلم الخارجين عن شريعته وسنته، لا من الموافقين له المطيعين له، كما قد بسط في غير هذا الموضع".
هذا آخر ما نقلناه من كتاب شيخ الإسلام فيما يتعلق بالزيارة، وقد عُلِمَ مما نقلناه أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يحرّم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينهَ عنها، ولم يكرهها، بل استحبها وحض عليها، ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور، ولم ينكر زيارتها في موضع من المواضع، ولا ذكر في ذلك خلافاً إلا نقلاً غريباً ذكره في بعض كتبه عن بعض التابعين، وإنما تكلم على مسألة شد الرحال وإعمال المُطِي إلى مجرد زيارة القبور، وذكر في ذلك قولين للعلماء المتقدمين والمتأخرين؛ أحدهما: القول بإباحة ذلك كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد. والثاني:
1 جزء من خطبته الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بها كلامه عند النكاح وغيره، وقد استوعب طرقها وألفاظها العلامة الألباني في رسالة مستقلة بعنوان "خطبة الحاجة" فانظرها.
2 أخرجه أحمد (4/126- 127) وأبو داود (4607) وابن حبان في "صحيحه"(1/ 187/5) والدارمي (1/57/ 95) وابن بطة في "الإبانة"(1/305/ 142) والآجري في "الشريعة"(1/171/ 92، 94) وابن أبي عاصم في "السنة"(32) . من طريق: الوليد بن مسلم، ثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عمر السُّلمي، وحُجر بن حجر الكلاعي، عن العرباض بن سارية مرفوعاً.
وأخرجه أحمد (4/126) والترمذي (2678) وابن ماجه (43) والطبراني في "المعجم الكبير"(18/246/ 617) والحاكم (1/96) والآجري في "الشريعة"(1/172/ 94) وابن أبي عاصم في "السنة"(33) .
من طريق: معاوية بن صالح، عن صخرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو السُّلمي، عن العرباض به.
والحديث صحيح؛ كما قال الحاكم والذهبي، ووافقهما الألباني "في الصحيحة"(937) .
أنه منهي عنه؛ كما نص عليه إمام دار الهجرة مالك بن أنس. ولم يُنقَل عن أحد من الأئمة الثلاثة خلافه، وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد. هكذا ذكر الشيخ الخلاف في شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، ولم يذكره في الزيارة الخالية عن شد رحل وإعمال مطي، والسفر إلى زيارة القبور مسألة وزيارتها من غير سفر مسألة أخرى، ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة وجعلهما مسألة واحدة وحكم عليهم بحكم واحد وأخذ في التشيع على من فرق بينهما وبالغ في التنفير عنه فقد حُرِمَ التوفيق، وحاد عن سواء الطريق.
واحتج الشيخ لمن قال بمنع شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور بالحديث المشهور المتفق على صحته، وهو "لا تُشَدُّ الرحال" الحديث. وذكر وجه الاستدلال في الكتابين السابقين، وكذا في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" بما لا مزيد عليه.
فما نقله النبهاني الغافل الغبي عن السبكي وابن حجر وغيرهما من غلاة أسلافه ساقط عن درجة الاعتبار، بل هو افتراء محض وبهتان صرف على الشيخ في هذه المسألة وغيرها، والمسألة فرضية لا وقوع لها البتة، فإن كل من سافر إلى المدينة من أجل آماله الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ونية زيارة القبر فقط إن وقعت كان حكمها ما ذكره الشيخ حسبما دل عليه الحديث الصحيح.
فلا يرد ما ذكره هذا الغبي في التنبيه الثامن من الهذيان، وهو قوله: اعلم أنه لو كان حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم التحريم كما زعمه ابن تيمية لامتنع الناس لذلك من زيارته عليه الصلاة والسلام، ولصارت المدينة المنورة من أحقر المدن، بل من أحقر القرى، وكادت تكون خراباً بلقعاً، فإن عمارتها إنما هو لوجود قبره الشريف صلى الله عليه وسلم فيها، فإن زيارة المؤمنين لها وانتيابهم إياها وترددهم إليها ومجاورتهم فيها كل ذلك إنما هو لأجله صلى الله عليه وسلم، ليكون وسيلتهم إلى الله تعالى في سعادتهم، لأنه ثبت عندهم ثبوتاً أوضح من الشمس أنه صلى الله عليه وسلم أقرب الوسائل وأجلّها وأنجحها إلى الله تعالى.. إلى آخر ما هذى به في ذلك التنبيه.
فانظر أيها المنصف إلى جهل هذا الغبيّ وما أدت إليه حماقته، فإنه إلى الآن لم يعرف أن عمارة المدن بأي شيء تكون، ولا درى أسباب الخراب ما هي، وظن أن زيارة القبور هي سبب عمارة البلاد، والإعراض عنها هو المستوجب لخرابها، ولا بدع إن اعتقد الغلاة الضالون هذا الاعتقاد الفاسد، فمثل ذلك هو اللائق بقلوبهم المختوم عليها.
ويقال له: إن الشيخ لم يحرّم الزيارة ولا السفر إليها مطلقاً حتى يرد ما ذكرت، وإن الصلاة في المسجد النبوي إذا كانت بتلك المنزلة فلا شك أن المسلمين لا يهملونها، وما ذكره من قلة زوار البيت المقدس فكذب، وعلى مقتضى تعليله يلزم أن يكون البيت المقدس خراباً لقلة زواره، ومن المعلوم ما بلغ إليه من العمارة والمدنية، والرجل لا يستحي من الكذب والزور، ومقصوده بيان أنه كن رئيس المحكمة الجزائية ليعلم الناس مبلغه من العلم والإيمان قاتله الله ما أعظم حماقته ورعونته.
ثم يقال: إن عمارة البلاد بالعلم والتقوى، والإيمان الكامل والعمل الصالح، والسعي للدنيا والآخرة، وأما زيارة القبور أي قبر كان إنما هي للدعاء للميت والاعتبار به، فهي شعبة من شعب الطرق الأخروية.
وقد ذكر هذا الغبي أيضاً في تضاعيف كلامه نقلاً عن بعض أسلافه الغلاة:
أن زيارة القبور تعظيم، وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واجب، فلا يجوز إهماله.
قال الإمام الحافظ ابن قدامة في "الصارم المنكي"1: الكلام عليه من وجوه:
أحدها: أن يقال: هاتان المقدمتان إن أخذتا على إطلاقهما أنتجتا أن زيارة قبره واجبة، وهو إنتاج لازم للمقدمتين لزوماً بيناً، فإن الضرب الأول من الشكل الأول، والحد الأوسط فيه محمول في الأولى موضوع في الثانية، فتكون النتيجة
1 ص 332- 340.
موضوع الأولى ومحمول الثانية، وهي زيارة قبره واجبة، ثم يلزم على هذا لوازم: منها: أن تارك زيارة قبره عاص آثم مستحق للعقوبة منتفي العدالة لا تصح شهادته ولا تقبل روايته ولا فتواه، وفي هذا تفسيق جميع الصحابة إلا من صح عنه منهم الزيارة، ولا ريب أن هذا شر من قول الرافضة الذين فسّقوا جمهورهم بتركهم تولية علي، بل هو من جنس قول الخوارج الذين يكفرون بالذنب، لأن تارك هذه الزيارة عنده تارك لتعظيمه، وتارك تعظيمه كفر أو ملزوم للكفر، فإن تعظيم الرسول من لوازم الإيمان فعدمه مستلزم الكفر، وعلى هذا فكل من لم يزر قبره فهو كافر، لأنه تارك لتعظيمه صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن الروافض والخوارج لم يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء من الجهل والكذب على الله ورسوله وعلى الأمة.
يوضحه الوجه الثاني: أن الخوارج إنما كفّروا الأمة بمخالفة أمره ومعصيته وتمسكوا بنصوص متشابهة لم يردوها إلى المحكم، وأما عباد القبور فكفروا بموافقة الرسول في نفس مقصوده، وجعلوا تجريد التوحيد كفراً وتنقصاً، فأين المكفر بالذنب من المكفر بموافقة الرسول وتجريد التوحيد؟
يوضحه الوجه الثالث: أن زيارة قبره لو كانت تعظيماً له لكانت مما لا يتم الإيمان إلا بها، ولكانت فرضاً معيناً على كل من استطاع إليها سبيلاً من قرب أو بعد، ولما أضاع السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان هذا الفرض، وقام به الخلف الذين خلفوا من بعدهم ويزعمون أنهم بذلك أولياء الرسول، وحزبه القائمون بحقوقه، وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا أهل طاعته، والقيام بما جاء به علماً ومعرفة وعملاً وإرشاداً وجهاداً، الذين جردوا توحيد الخالق وعرفوا للرسول حقه، ووافقوه في تنفيذ ما جاء به والدعوة إليه والذب عنه.
الوجه الرابع: أنه إذا كانت زيارة قبره واجبة على الأعيان كانت الهجرة إلى القبر آكد من الهجرة إليه في حياته، فإن الهجرة إلى المدينة انقطعت بعد الفتح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا هجرة بعد الفتح". وعند عُبّاد القبور أن الهجرة إلى القبر فرض معين على من استطاع إليه سبيلاً، وليس يخاف أن هذا مراغمة صريحة لما
جاء به الرسول، وإحداث في دينه ما لم يأذن به، وكذب عليه وعلى الله، وهذا من أقبح التنقص.
وقد ذكر السبكي في موضع من كتابه "شفاء السقام" أنه رأى فتيا بخط شيخ الإسلام وفيها: ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية. فالزيارة الشرعية؛ مقصودها السلام على الميت والدعاء له إن كان مؤمناً، وتذكر الموت سواء كان الميت مؤمناً أم كافراً. قال: وقال بعد ذلك: فالزيارة لقبر المؤمن نبياً كان أو غير نبي من جنس الصلاة على جنازته، [يدعى كما يدعى إذا صلى على جنازته] . وأما الزيارة البدعية؛ فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميت، مثل طلب الحوائج منه أو به، أو التمسح بقبره وتقبيله، أو السجود له ونحو ذلك، فهذا كله لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من السلف لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره.
قال السبكي- بعد حكايته هذا الكلام عن الشيخ-: وبقي قسم لم يذكره، وهو أن تكون للتبرك به من غير إشراك به، فهذه ثلاثة أقسام؛ أولها السلام والدعاء له، وقد سلم جوازه وأنه شرعي.
والقسم الثاني: التبرك به والدعاء عنده للزائر. قال: وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية أنه يلحقه بالقسم الثالث، ولا دليل له على ذلك، بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه، وأن المعلوم من الدين وسير السلف الصالحين التبرك ببعض الموتى من الصالحين فكيف بالأنبياء والمرسلين؟ ومن ادعى أن قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء فقد أتى أمراً عظيماً نقطع ببطلانه وخطئه فيه، وفيه حط لرتبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى درجة من سواه من المؤمنين، وذلك كفر بيقين، فإن من حط رتبة النبي صلى الله عليه وسلم عما يجب له فقد كفر. فإن قال: إن هذا ليس بحط ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له؛ قلت: هذا جهل وسوء أدب، وقد تقدم في أول الباب الخامس الكلام في ذلك، ونحن نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم يستحق من التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته، ولا يرتاب من في قلبه شيء من الإيمان. هذا كله كلام المعترض.
فانظر إلى ما تضمنه من الغلو والجهل والتكفير بمجرد الهوى وقلة العلم، أفلا يستحي من هذا مبلغ علمه أن يرمي أتباع الرسول وحزبه وأولياءه برأيه الذي يشهد به عليه كلامه؟ لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً.
الوجه الخامس: أن يقال لهذا المعترض وأشباهه من عباد القبور: أتوجبون كل تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم أو نوعاً خاصاً من التعظيم؟ فإن أوجبتم كل تعظيم لزمكم أن توجبوا السجود لقبره وتقبيله واستلامه والطواف به لأنه من تعظيمه، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على من عظمه بما لم يأذن به كتعظيم من سجد له، وقال:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"1. ومعلوم أن مطريه إنما قصد تعظيمه.
وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا:"عليكم بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل". فمن عظّمه بما لا يحب فإنما أتى بضد التعظيم، وهذا نفس ما حرمه الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ونهى عنه وحذر منه.
وأيضاً؛ فإن الحلف به تعظيم له، فقولوا: يجب على الحالف أن يحلف به لأنه تعظيم له وتعظيمه واجب، وكذلك تسبيحه وتكبيره والتوكل عليه والذبح باسمه كل هذا تعظيم له، ومعلوم أن إيجاب هذا مثل إيجاب الحج إليه بالزيارة على من استطاع إليه سبيلاً، ولا فرق بينهما.
وإن قلتم: إنما نوجب نوعاً خاصاً من التعظيم طولبتم بضابط هذا النوع وحده، والفرق بينه وبين التعظيم الذي لا يجب ولا يجوز، وبيان أن الزيارة من
1 أخرجه أحمد (3/ 153،241، 249) أو رقم (12573، 13554، 13622) وابن حبان (8/46/ 6207) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(248، 244) وعبد بن حميد في "المنتخب من المسند"(1307) وغيرهم، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في "الصحيحة"(1097) .
هذا النوع الواجب، وإلا كنتم متناقضين موجبين في الدين ما لم يوجبه الله وشارعين شرعاً لم يأذن به الله.
الوجه السادس: أن يقال: الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما خطر بالبال تعظيم له فأَوْجِبُوا له هذا التعظيم، واحكموا على من قال لا يجب أنه تارك لتعظيمه، بل احكموا على من قال لا تجب الصلاة عليه كلما ذكر ولا تجب الصلاة عليه في الصلاة، أو لا تجب في العمر، إلا مرة، أو لا تجب أصلاً؛ بأنه تارك للتعظيم لأن الصلاة عليه تعظيم له بلا ريب، فهل كان أئمة الإسلام وعلماء الأمة نافين لتعظيمه تاركين له بنفيهم الوجوب؟ أم كانوا أشد تعظيماً له منكم وأعرف بحقوقه وأحفظ لدينه أن يزاد فيه ما ليس منه؟!
يوضحه الوجه السابع: أن الذين كرهوا من الفقهاء الصلاة عليه عند الذبح يكونون على قولكم تاركين لتعظيمه وذلك قادح في إيمانهم، وكذلك من كره أو حزم الحلف به، وقال: لا تنعقد يمين الحالف به؛ يكون على قولكم تاركاً لتعظيمه لأن الحلف به تعظيم له بلا ريب.
الوجه الثامن: أن القول بعدم وجوب زيارة قبره أو بعدم استحبابها أو بعدم جواز شد الرحال لا يقدح في تعظيمه بوجه من الوجوه، وهو بمنزلة قول من قال من أئمة الإسلام: لا تجب الصلاة عليه في التشهد الأخير. وبمنزلة قول من قال منهم: تكره الصلاة عليه عند الذبح. وبمنزلة قول من قال: لا تستحب الصلاة عليه في التشهد الأول، ولا عند التشهد في الأذان. بل قول من نفى وجوب الزيارة أو جواز شد الرحال إلى القبر أولى أن لا يكون منافياً للتعظيم من قول من نفى وجوب الصلاة عليه أو استحبابها في بعض المواضع، لأن الصلاة عليه مأمور بها، وقد ضمن للمصلّي عليه مرة أن يُصلّى عليه عشراً، بل الصلاة عليه محض التعظيم له، فنفي وجوبها أو استحبابها في موضع ليس بترك للتعظيم وليس إنكار وجوب كل من الأمرين قادحاً في تعظيمه، بل ذلك عين تعظيمه.
يدل عليه الوجه التاسع: أن تعظيمه هو موافقته في محبة ما يحب،
وكراهة ما يكره، والرضى بما يرضى به، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والمبادرة إلى ما رغب فيه، والبعد عما حذر منه، وأن لا يتقدم بين يديه، ولا يقدم على قوله قول أحد سواه، ولا يعارض ما جاء به بمعقول ثم يقدم المعقول عليه كما يقول أئمة هذا المعترض، الذين تلقّى عنهم أصول دينه وقدم آراءهم وهواجس ظنونهم على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم ينسب ورثة الرسول الواقفين مع أقواله المخالفين لما خالفها إلى ترك التعظيم، وأي إخلال بتعظيم وأي تنقص فوق من عزل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن إفادة اليقين، وقدّم عليه آراء الرجال، وزعم أن العقل يعارض ما جاء به، وأن الواجب تقديم المعقول وآراء الرجال على قوله؟!
الوجه العاشر: أن إيجاب زيارة قبره واستحبابه وشد الرحال إليه لأجل تعظيمه يتضمن جعل القبر منسكاً يُحَجُّ إليه كما يُحَجُّ إلى البيت العتيق، كما يفعله عباد القبور، سيما فإنهم يأتون عنده بنظير ما يأتي به الحاج من الوقوف والدعاء والتضرع، وكثير منهم يطوف بالقبر ويستلمه ويقبله ويمسح عليه، فلم يبق عليه من أعمال المناسك إلا الحلق والنحر ورمي الجمار، فإيجاب الوسيلة إلى هذا المحذور واستحبابها من أعظم الأمور منافاة لما شرعه الله ورسوله، وقد آل الأمر بكثير من الجهال إلى النحر عند قبور من يشدون الرحال إلى قبورهم، وحلق رؤوسهم عند قبورهم، وتسمية زيارتها حجاً ومناسك، وصنف فيه بعضهم كتاباً سماه "مناسك حج المشاهد" وكان سبب هذا هو الغلو الذي يظنه من قل علمه تعظيماً، ولا ريب أن هذا أكره شيء إلى الرسول قصداً ووسيلة.
الوجه الحادي عشر: أن هذا الذي قصده عُبّاد القبور من التعظيم هو بعينه السبب الذي لأجله حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، ولعن فاعل ذلك، ونهى عن الصلاة إليها، وحزم اتخاذ قبره عيداً، ودعا ربه أن لا يجعل قبره وثناً يُعْبَد، ولأجله نهى فضلاء الأمة وساداتها عن ذلك. ولأجله أمر عمر بتعفية قبر دانيال لما ظهر في زمان الصحابة. ولأجله منع مالك من نذر إتيان المدينة وأراد القبر أن يوفي بنذره. ولأجله كره الشافعي أن يعظم قبر مخلوق حتى
يجعل مسجداً، كما قال: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً. ولأجله كره مالك أن يقول القائل: زرتُ قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما يوهم هذا اللفظ من أنه إنما قصد المدينة لأجل زيارة القبر، ولما فيه من تعظيم القبر بإضافة الزيارة إليه مع كونه أعظم القبور على الإطلاق وأجلها وأشرف قبر على وجه الأرض، فالفتنة بتعظيمه أقرب من الفتنة بتعظيم غيره من القبور، فحمى مالك رحمه الله تعالى الذريعة حتى في اللفظ، ومنع الناذر من إتيانه، ولو كان إتيانه قربة عنده لأوجب الوفاء به، فإن من أصله أن كل طاعة تجب بالنذر سواء كان من جنسها واجب بالشرع أو لم يكن، ولهذا يوجب إتيان مسجد المدينة على من نذر إتيانه، وقد منع ناذر إتيان القبر من الوفاء بنذره، فلو كان ذلك عنده قربة لألزمه الوفاء به، ومن رد هذا النقل عنه وكذّب الناقل فهو من جنس من افترى الكذب وكذّب بالحق لما جاءه، فإن ناقله ممن له لسان صدق في الأمة بالعلم والأمانة والصدق والجلالة، وهو القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد أحد الأئمة الأعلام، وكان نظير الشافعي، وإماماً في سائر العلوم، حتى قال المبرد: إسماعيل القاضي أعلم مني بالتصريف. وروى عن يحيى بن أكثم أنه رآه مقبلاً فقال: قد جاءت المدنية. وقد ذكر هذا النقل عن مالك في أشهر كتبه عند أصحابه وأجلها عندهم وهو "المبسوط". فمن كذبه فهو بمنزلة من كذّب مالكاً والشافعي وأبا يوسف ونظرائهم، ومن وصل الهوى بصاحبه إلى هذا الحد فقد فضح نفسه وكفى خصمه مؤنته، ومن جمع أقوال مالك وأجوبته وضم بعضها إلى بعض، ثم جمعها إلى أقوال السلف وأجوبتهم قطع بمرادهم، وعلم نصيحتهم للأمة وتعظيمهم للرسول، وحرصهم على اتباعه وموافقته في تجريد التوحيد وقطع أسباب الشرك، وبهذا جعلهم الله أئمة، وجعل لهم لسان صدق في الأمة، فلو ورد عنهم شيء خلاف هذا لكان من المتشابه الذي يرد إلى المحكم من كلامهم وأصولهم، فكيف ولم يصح عنهم حرف واحد يخالفه، فتبين أن هذا التعظيم الذي قصده عباد القبور هو الذي كرهه أهل العلم، وهو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى أمته عنه ولعن فاعله، وأخبر بشدة غضب الله عليه حيث يقول: "اشتد
غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومعلوم قطعاً أنهم إنما فعلوا ذلك تعظيماً لهم ولقبورهم، فعلم أن التعظيم للقبور مما يَلْعَنُ الله فاعله ويشتدّ غضبه عليه.
الوجه الثاني عشر: أن هذا الذي يفعله عباد القبور من المقاصد والوسائل ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه، فالتعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ويصدق هذه المحبة أمران:
أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على تجريده، حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، ونهى عن عبادة الله بالتقرب إليه بالنوافل من الصلوات في الأوقات التي يسجد فيها عباد الشمس لها، بل قبل ذلك الوقت بعد أن تصلي الصبح والعصر لئلا يتشبه الموحدون بهم في وقت عبادتهم، ونهى أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان. ونهى أن يُخْلَفَ بغير الله، وأخبر أدن ذلك شرك، ونهى أن يصلى إلى القبر ويتخذ مسجداً أو عيداً أو يوقد عليها سراج، وذم من شرك بين اسمه واسم ربه تعالى في لفظ واحد، فقال له:"بئس الخطيب أنت". بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.
الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه، والرضا بحكمه، والانقياد له والتسليم، والإعراض عمن خالفه، وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله، كما كان ربه تعالى وحده المعبود، المألوه، المخوف، المرجى، المستغاث به، المتوكل عليه، الذي إليه الرغبة والرهبة، وإليه الوجهة والعمل، الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب، الذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده، وأحياهم وحده، ويبعثهم وحده، ويغفر، ويرحم، ويهدي، ويضل، ويسعد،
ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائناً من كان، بل الأمر كله لله، وأقرب الخلق إليه وسيلة وأعظمهم عنده جاهاً وأرفعهم لديه ذكراً وقدراً، وأعمّهم عنده شفاعة؛ ليس له من الأمر شيء، ولا يعطى أحداً شيئاً، ولا يمنع أحداً شيئاً، ولا يملك لأحد ضراً ولا رشداً، وقد قال لأقرب الخلق إليه وهم ابنته وعمه وعمته:"يا فاطمة بنت محمد؛ لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس، عم رسول الله؛ لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية، عمة رسول الله؛ لا أغني عنك من الله شيئاً"1. فهذا هو التعظيم الحق، المطابق لحال المعظم، النافع للمعظم في معاشه ومعاده، الذي هو لازم إيمانه وملزومة.
وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير، فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه فالمغالي المفرط كذلك، وكل منهما شر من الآخر من وجه دون وجه، وأولياؤه سلكوا بين ذلك قواماً.
وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه وإعلاء كلمته، ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه.
وبالجملة؛ فالتعظيم النافع هو تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض لأجله وفيه، وتحكيمه وحده والرضا بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله، فما وافقها من قول الرسول قبله وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه، والله سبحانه يشهد -وكفى بالله شهيداً- وملائكته ورسله وأولياؤه أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك وهم يشهدون على أنفسهم بذلك، وما كان لهم أن ينصروا دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، شاهدين على أنفسهم بتقديم آراء شيوخهم وأقوال متبوعيهم على قوله، وأنه لا يستفاد من كلامه يقين، وأنه إذا عارضته آراء الرجال قدمت عليه وكان الحكم ما تحكم به.
1 تقدم.
أفلا يستحيي من الله من العقلاء من هذا حاله في أصول دينه وفروعه أن يتستر بتعظيم القبر ليوهم الجهال أنه معظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناصر له، منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه؟ ويأبى الله ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون. {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1. {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2 انتهى.
وقد أكثر شيخ الإسلام- قدس الله روحه- من الرد على الغلاة القبوريين في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" وغيره من كتبه، وما ذكرناه وافٍ بالغرض على اختصاره، والله أعلم.
ثم إن النبهاني الغبي ذكر قصة بلال التي ذكرها السبكي، وهي أن بلالاً رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؛ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟! فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه.. إلى آخرها. وقد تكلم عليها الحافظ ابن قدامة في كتابه "الصارم المنكى في الرد على السبكي"3 وبيّن ضعفها.
وذكر النبهاني الغبي أيضاً الأكذوبة المشهورة المسندة لأحمد الرفاعي، فقال: "إن الزيارة وصلة مع الحبيب، وقد وقع لبعض العارفين مخاطبته له صلى الله عليه وسلم وردّه عليه، ومن ذلك المعنى ما ذكره بعض العارفين عن القطب الرفاعي في حال زيارته للقبر الشريف من قوله:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها
…
تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت
…
فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
1 سورة الأنفال: 34.
2 سورة التوبة: 105.
(ص 237- وما بعدها) . وانظر: "قصص لا تثبت"(1/ 35- 39) للشيخ يوسف العتيق.
قال: "فمد يده الشريفة من الشباك فقبّلها" انتهى كلامه1.
أقول: الكلام على هذه الخرافة في مقامين؛ المقام الأول: في تكذيب وقوع القصة وافترائها على أحمد الرفاعي.
المقام الثاني: في بيان عدم إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وأن من ادّعى ذلك فهو كاذب.
أما المقام الأول؛ وهو بيان كذب هذه القصة: فمن وجوه كثيرة نذكر منها ما خطر بالبال:
الأول: أنه قد ترجم أحمد الرفاعي هذا جماعة من المؤرخين على اختلافهم المذهب، ولم يذكروا هذه القصة في ترجمته، ولو كانت ثابتة لعدّوها من أعظم مآثره وأكبر مفاخره، لاسيما التاج السبكي لتعصبه للمتصوفة، ولاسيما من هو على مذهبه ونحلته، ومع ذلك لم يذكر هذه القصة في ترجمة أحمد الرفاعي لما ترجمه في "طبقاته"2، فإنه قال:
"أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة، الشيخ الزاهد الكبير أحد أولياء الله العارفين، والسادات المشمرين، أهل الكرامات الباهرة، أبو العباس بن أبي الحسن بن الرفاعي المغربي. قدم أبوه إلى العراق وسكن ببعض
1 القصة أوردها النبهاني في "شواهد الحق" وفي "جامع كرامات الأولياء"(1/ 298) والصيادي في "قلادة الجواهر"(ص 15، 20، 108) . والقصة كذب صراح لا شك في ذلك؛ لأسباب كثيرة أهمها:
1-
أن أصحاب الكتب والتراجم الصوفية القديمة لم تذكر هذه الحادثة.
2-
أن المؤرّخين الذين أرّخوا وترجموا للشيخ أحمد الرفاعي لم يذكروها.
3-
ليس للقصة إسناد قط.
4-
أن القصة لم ينقلها إلا أفراد، فأين العدد الكثير الذين شاهدوا القصة؟!
وانظر في بيان بطلان القصة: "دراسات في التصوف" للشيخ المجاهد إحسان إلهي ظهير-رحمه الله (ص 215- وما بعدها) و "قصص لا تثبت"(3/171- وما بعدها) .
2 "طبقات السبكي"(4/40) .
القرى، وتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد، ورزق منها أولاداً، منهم الشيخ أحمد هذا، لكنه مات وأحمد حمل، فلما ولد رباه وأدبه خاله منصور، وكان مولده في المحرم سنة خمسمائة. وتفقه على مذهب الشافعي، وكان كتابه "التنبيه". ولو أردنا استيعاب فضائله لضاق الوقت، ولكنا نورد ما فيه بلاغ ". ثم ذكر كلاماً في محاسن أخلاقه إلى أن قال:"وقال الشيخ أحمد: سلكتُ كل طريق فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الذل والافتقار والانكسار لتعظيم أمر الله، والشفقة على خلق الله، والإقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يجمع الحطب ويحمله إلى بيوت الأرامل والمساكين، وربما كان يحمل الماء لهم "إلى أن قال: "وكان لا يجمع بين قميصين لا في شتاء ولا في صيف، ولا يأكل إلا بعد يومين أو ثلاثة أكلة". ثم قال: "وعن يعقوب- وقد سُئل عن أوراد سيدي أحمد، فقال-: كان يصلي أربع ركعات بألف (قل هو الله أحد) ويستغفر كل يوم [ألف] مرة، واستغفاره أن يقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت مع الظالمين، عملتُ سوءاً، وظلمتُ نفسي وأسرفتُ في أمري، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت. توفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، ومناقبه أكثر من أن تحصى، وقد أفرد لها بعض الصلحاء كتاباً يخصها" انتهى.
فلم يذكر قصة مد اليد التي هي من أعظم الخوارق وأعجبها لو صحّت! مع أنه ذكر أعظم مفاخره وهي قصة الهرة التي كانت نائمة على كمه فقطع الكم، وقصة البعوضة التي كانت على يده تمتص دمه، وقصة الكلاب التي كانت تأكل التمر من القوصرة في دار الطعام وهم يتهارجون، فوقف على الباب لئلا يدخل إليهم أحد يؤذيهم.
وذكر القاضي أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان"1 ما نصه: "أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بابن
(1/94-95/70) .
الرفاعي، كان رجلاً صالحاً فقيهاً شافعي المذهب، أصله من الغرب، وسكن في البطائح بقرية يقال لها أم عبيدة، وانضم إليه خلق عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه، والطائفة المعروفة بالرفاعية والبطائحية من الفقراء منسوبة إليه ولأتباعه، ولهم أحوال عجيبة من أكل الحيّات وهي حية، والنزول في التنانير وهي تتضرم بالنار فيطفئونها". إلى أن قال:"ولم يكن له عقب، وإنما العقب لأخيه وأولاده يتوارثون المشيخة والولاية على تلك الناحية إلى الآن، وأمورهم مشهورة مستفيضة فلا حاجة إلى الإطالة فيها" انتهى.
فلم يذكر تلك القصة من مناقبه، ولو صحّت روايتها لكانت غرة وجه مناقبه، وهكذا ذكر كل من ترجمه من الثقات وهذه مما اختلقها له أصحابه بعد موته بعدة سنين، كما ادعوا له الانتساب إلى إبراهيم المرتضى بن موسى الكاظم رضي الله عنه ولا أصل له أيضاً، قال في مختصر "عمدة الطالب":"إن الشيخ أحمد رحمه الله لم يدَّعِ ذلك، وإنما ادّعاه البطن الثالث من ولده، ويقولون هم أحمد بن علي بن الحسين بن المهدي بن أبي القاسم بن محمد بن الحسين بن أحمد الأكبر بن موسى أبي شجه بن إبراهيم المذكور. قال أبو نصر البخاري: لا يصح لإبراهيم المرتضى عقب إلا من موسى وجعفر، ومن انتسب إلى غيرهما فهو كاذب" انتهى المقصود منه.
والمقصود؛ أن قصة مد اليد ونحوها من المزايا والمآثر لو صحت لكانت أحق بالذكر من جميع ما ذكروه، فلمّا لم يذكروها علمنا أنها من إفك أفاك أثيم.
الوجه الثاني: أن أحسن من رواها الإمام السيوطي، وقد أسندها إلى بعض المجاميع، ولم يذكر لها سنداً واهياً فضلاً عن أن يكون صحيحاً، مع أن حاله في الرواية معلوم، فقال في كتابه (تنوير الحلك في رؤية النبي والملك) : وفي بعض المجاميع؛ وذكر القصة والبيتين على وجه الاختصار مع أن هذه القصة لو صحّت لتوفرت الدواعي على نقلها، لأنها حادث عظيم وخارق عجيب، فالشيء الذي تتوفر الدواعي على نقله ولم يذكره أحد من الثقات بل ذكره الدجالون الضالون المضلون فهو لا شك تزوير وبهتان، وكذب من إفك شيطان.
الوجه الثالث: أن الدجالين الذين رووا هذه القصة المكذوبة ادعوا أن من كان حاضراً هناك ورأوا اليد وسمعوا رد السلام نحو مائة ألف أو يزيدون! سبحانك هذا بهتان عظيم! كيف يمكن أن يكون هناك هذا العدد الكثير؟ وأي محل في المسجد يسعهم أو يسع عشر معشارهم؟! ثم إن القبر قد أحاطت به الجدران فمن أي شباك خرجت اليد؟!
ومن المعلوم إذا كان أمر عجيب وشيء غريب يتهاجم على رؤيته الراؤون فلا يمكن الرؤية إلا للقريب، وكذلك سماع رد السلام كيف أمكن للجميع؟ فانظر إلى هذه الأكذوبة التي لا تروج حتى على ضعفاء العقول، ومع ذلك فقد تمسك بها قوم سلب الله منهم الحياء واتخذوها حبالة من حبائل مصائدهم، وأغراهم الله على مثل هذه الدعاوي الكاذبة ليفضحهم بها في الدنيا والآخرة انتقاماً لأهل الحق منهم.
الوجه الرابع: أن كثيراً من أهل العلم والأدب نسب البيتين إلى غير أحمد الرفاعي. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في تذكرته: حكي أن ابن الفارض لما اجتمع بالشهاب السهروردي في مكة أنشده
في حالة البعد روحي كنت أرسلها
…
تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه نوبة الأشباح قد حضرت
…
فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
وكفى بما ذكره الشيخ صلاح الدين هذا شاهداً على بطلان ما ادعاه غلاة الرفاعية ومبتدعتهم، فإن هذا الشيخ كان إماماً أديباً ناظماً ناثراً، ولد سنة ست وتسعين وستمائة، وقد عقد له ابن السبكي ترجمة مجملة في "طبقاته".
وممن نقل ذلك الشهاب الخفاجي الشافعي في كتابه (طراز المجالس) وأن البيتين من شعر ابن الفارض لما اجتمع بالسهروردي في مكة قال: "وقد نسب هذا لغيره، ولم يذكر الغير ولم يصرح باسمه ".
الوجه الخامس: حسن الظن بأحمد الرفاعي رحمه الله يقتضي عدم مخالفته للسنة النبوية والشريعة المحمدية، فقد كان على ما روى الثقات بخلاف من يدّعي
الكلام على كتاب "جلاء العينين
"
…
خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش ويعلم أعمالكم1. وذكر هذا الكلام أو قريباً منه في كتاب "الاستذكار".
(ذكر قول الإمام مالك الصغير) أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني.
قال في خطبته برسالته المشهورة: باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات؛ من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان: أن الله إله واحد، لا إله غيره، ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا شريك له، ليس لأوليته ابتداء، ولا لآخريته انقضاء، ولا يبلغ كنه صفته الواصفون، ولا يحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المتفكرون بآياته ولا يتفكرون في ماهية ذاته:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 2 وهو العليم الخبير، المدبر القدير، السميع البصير، العلي الكبير، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو بكل مكان بعلمه.
وكذلك ذكر مثل هذا في نوادره وغيرها من كتبه.
وذكر في كتاب المفرد في السنة تقرير العلو واستواء الرب تعالى على عرشه بذاته أتم تقرير، فقال: ما اجتمعت عليه الأمة من أمور الديانة من السنن التي خلافها بدعة وضلالة؛ أن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، لم يزل بجميع صفاته، وهو سبحانه موصوف بأنه له علماً وقدرة ومشيئة، أحاط علماً بجميع ما بدم قبل كونه، وفطر الأشياء بإرادته وقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3 وأن كلامه صفة من صفاته ليس بمخلوق فيبيد، ولا صفة لمخلوق فينفد، وأن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام بذاته، وأسمعه كلامه لا كلاماً قام في غيره، وأنه يسمع ويرى، ويقبض ويبسط، وأن يديه مبسوطتان، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، وأن يديه غير نعمته في ذلك، وفي قوله سبحانه: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ
1 أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد"(1/ 242- 244/ 149، 150) .
2 سورة البقرة: 255.
3 سورة يس: 82.