الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقلها، بل إن كل كلمة من كلماته دلت على باطل، فكلامه ظلمات بعضها فوق بعض، وكله ينادي على جهله وغلوه، ويدل على أنه ممن أنزل الله تعالى فيه:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1 ولو أخذنا نتكلم على جميع ما حواه كلامه من المفاسد لطال الكلام جداً، ولكنا نتكلم على مقاصده على سبيل الإجمال:
فأقول: حاصل ما دل عليه كلامه من المقاصد أمور:
الأول: أن تفسير القرآن قد أخذ حده، وعلم قد نضج واحترق، ولا يمكن أن يستنبط من التنزيل ما لم يُستنبط.
الثاني: من الأمور التي دل عليها كلامه: أن الذي يتصدّى لطلب تفسير مشتمل على الأذواق العصرية وعلومه هو ملحد مبتدع زائغ، إلى آخر ما ذكره فيه من الذم.
الثالث: أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم.
الرابع: القدح في ابن تيمية، وجرح كتبه وكتب ابن القيم وابن قدامة، هذا ما دل عليه كلامه، ونحن نتكلم على مطلب مطلب على سبيل الإيجاز والاختصار، وبالله التوفيق وهو المستعان.
1 سورة الملك: 10- 11.
[الكلام على كتب التفسير والاحتياج إلى تفسير موافق لأفكار أهل العصر]
إن من طالع كتب التفسير المتداولة بين الأيدي اليوم وجدها أعظم مانع من الوقوف على مراد الله تعالى بكتابه الكريم، فإن منها ما هو مشحون بقواعد النحو ووجوها،، فتراه يذكر في كل آية من الوجوه ما يفوت الحصر، ومنها ما هو مشحون بالمسائل الكلامية، والقواعد الحكمية، حتى يصرف الآيات إلى ما أصله من الأصول ويُؤَول النصوص القطعية إلى ما يوافق معتقده.
إذا نظرت تفسير الرازي والبيضاوي وأبي السعود تعلم حقيقة هذا الكلام.
ومنها ما اشتمل على قصص بني إسرائيل وأكاذيبهم وأقوالهم التي تحيلها العقول وتنفر عنها الطباع، ومنها تفاسير لا يدل عليها نقل ولا عقل ولا لغة من اللغات، كالتفسير الشهير بأنه من باب الإشارة، ومنها مما لا يحيط به العد والإحصاء.
وقد تكلم على التفسير كلام منصف واقف على الحقيقة العلامة السيد محمد بدر الدين الحلبي- فسح الله تعالى في مدته وبارك في حياته- في كتاب (التعليم والإرشاد) فقال- سلمه الله تعالى بعد أن تكلم على علم التفسير وأن أهل العلم لم يعطوه حقه-: "والذي ينظر فيما طبع من نحو قرن في مصر- وهي محط رحال العلوم الدينية وكعبة العلوم التي يَفِدُ إليها الحجاج من جميع الآفاق، والقدوة لكافة أهل الأمصار؛ يرى العجب العجاب، يرى أن الذي طبع منها إلى الآن "تفسير الخازن"، "تفسير الجلالين" بحاشية الصاوي وبحاشية الجمل، "البيضاوي" بحاشية الشهاب بقطعة من حاشية السيد، "تفسير فخر الدين الرازي"، "تفسير أبي السعود"، "تفسير النسفي"، "تاج التفاسير"، ابن جرير الطبري، "الدر المنثور" للسيوطي، تفسير ابن عباس، وبعض تفاسير ضئيلة، هذه هي كتب التفاسير التي تتداولها أيدي الناس اليوم، وهي التي يعتمد عليها طلاب العلوم الشرعية في تفسير كتاب الله جل شأنه، والوقوف على مراده منه.
فأما تفسير الخازن؛ وهو أكثر كتب التفاسير تداولاً، وأعظمها انتشاراً بين عامة المسلمين وطلبة العلوم الشرعية، فهو الكتاب الذي يقف القلم حائراً عند وصفه، لا يدري ما يقول فيه، وما الذي يحذر به المسلمين منه، وخير ما يقال فيه إنه مجموعة الأكاذيب، ولا أرى إلا أن الإنسان لو جرد ما فيه من الأكاذيب الموضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأقاصيص الكاذبة التي وضعها اليهود -كقصة بابل والغرانيق وإرم ذات العماد وغيرها- لكانت فوق نصف الكتاب، وبعد ذلك فأشياء إن لم تضر لم تنفع.
وهو على اشتماله على هذين الوصفين اللذين هما من أقبح أوصاف المؤلفات فهو العمدة لعامة المسلمين، وأكثر طلبة العلوم الشرعية، وأكثر انتشاراً بينهم، ولقد أرى أن نسخه التي نشرت في مصر لا تقل عن مائة ألف نسخة، فسد بواسطتها عشرة أضعاف هذا العدد من المسلمين، ودخل عليهم في دينهم ما ليس منه من حديث موضوع وتفسير مفترى.
ومن العجيب أن لا يوجد في علماء الإسلام من ينهى الناس عن نشر مثل هذه الكتب المفسدة للعلوم والشرائع، المضرة بالأخلاق والعقائد، وقد لا يخلو بلد من بلاد الإسلام عن قوم من أهل العلم -ولو قليلين- يعرفون ما في هذه الكتب من المفاسد، ولا يحظرون على الناس استعمال هذه الكتب لاتقاء شرها، بل ربما سُئلوا عنها فأثنوا عليها خيراً مسايرة لأميال العامة، ومصانعة لهم فيما هو من أهم مهمات الدين". قال: "وهذا البحث موعدنا به إن شاء الله القسم الثاني من هذا الكتاب، وهو قسم الإرشاد، وإنما غرضنا في هذا القسم النظر في طرق التعليم، وكتب العلم المستعملة، وبيان جيدها من رديئها.
وأما "تفسير الجلالين" بحاشيتيه الجمل والصاوي فهما يساويان "تفسير الخازن" انتشاراً وكثرة تداول، إلا أن انتشار الخازن بيد العوام أكثر، وانتشار هذين بيد الخاصة- يعني طلاب العلوم الشرعية- أكثر، فأما الشرح فهو غاية في الاختصار لا يمكن الاستقلال به في فهم كتاب الله تعالى، مع علل فيه أخر يعلمها من جمع بينه وبين بعض تفاسير المتقدمين الموثوق بها وبمؤلفيها، وأما حاشيتاه الضخمتان فهما من مؤلفات متأخري أهل العلم بمصر، وحسبك هذا في معرفة منزلتيهما بين المؤلفات".
ثم إنه سلّمه الله عقد فصلاً في انحطاط العلم، ثم قال: وأما الكشاف ومختصره للقاضي البيضاوي فهما المشكلة التي لا تحل إجمالاً وإغلاقاً وغموضاً، ولشدة عراقتها في ذلك أكثر المتأخرون من تعليق الحواشي والشروح عليهما، لبيان عبارتهما وتوضيح مقاصدهما، حتى لو جمعت الحواشي والشروح التي
عليهما لأربت على ألف مجلد، وما ذكره صاحب (كشف الظنون) مما كتب عليهما قليل من كثير، ولولا أنهما بحيث يخفيان إلا على من ألف حل الرموز والطلاسم واستخراج المخبآت لم يعتن من جاء بعدهما بالتوسع في الكتابة عليهما، والمبالغة في توضيح غوامضهما، وفوق هذا كله اشتمالهما على مسائل كثيرة خارجة عن التفسير بالمرة، لا ترتبط فيه بوجه من الوجوه، كالمسائل الكلامية التي حشيا بها كتابيهما، وهي ليست من فن التفسير ولا من متعلقاته، وإنما كان الغرض من ذكرها بيان معتقديهما والاستشهاد له بكتاب الله.
ويلحق تفسير أبي السعود بهذين التفسيرين، فإنه صورة أخرى لهما مع بعض تغييرات قليلة جداً، ويلحق تاج التفاسير بتفسير الجلالين، ونسبته إليه كنسبة تفسير أبي السعود إلى تفسيري الكشاف والبيضاوي، وإن اختلف عنه فيسير.
وأما تفسير فخر الدين الرازي- وهو كتاب العامة والخاصة وعمدة الناس في هذا الموضوع- فأبو حيان المفسر يقول في تفسيره: تفسير الإمام فخر الدين فيه كل شيء إلا التفسير. وما أحسن ما ترجم به أبو حيان هذا التفسير الكبير، بل البحر العميق، ولقد يفتح الإنسان جزءً من أجزاء هذا التفسير للمراجعة والكشف فيه عن تفيد آية من آي كتاب الله فلا يشعر إلا وقد توسط بحراً لجياً لا يخلص الإنسان منه إلى ساحل. ويظهر مما كتبه الإمام فخر الدين في مقدمة كتابه أنه قد أودع كتابه كثيراً مما لا تعلق له بعلم تفسير كتاب الله، ولا ارتباط له فيه بوجه من الوجوه، وإنما كان غرضه مما جمعه في تفسيره من هذه المسائل الغريبة- مع أن الكتاب في تفسير كتاب الله خاصة على ما يظهر من كلامه في أول كتابه- أن يبرهن على حقيقة ما قاله لبعض مناظريه من أن كتاب الله- جل ثناؤه وعلا سلطانه- لا يمكن استقصاء ما فيه من الأسرار، ولا الإحاطة بما فيه من المعاني والحكم، ولو كتب في ذلك مئات من المجلدات، وإن فاتحة الكتاب يمكن أن يكتب فيها مجلد ضخم في أحكامها وأسرارها ومعانيها، ولذلك وضح في تفسير الفاتحة مجلداً لرد ما أنكره المنكروه عليه، وإن كان لم يصنع شيئاً بالرد عليهم بحشو كتابه بهذه
المسائل التي ذكرها، ولا ارتباط لها بتفسير كتاب الله بوجه من الوجوه، وكل كلام مؤلف كلام الله أو غيره يمكن للعالم أن يتوسع في الكتابة عليه إلى مثل ما توسع به الإمام فخر الدين في تفسير كتاب الله، والمؤلف إذا أغمض عينه وتسامح في تأليفه وراعى المناسب والمجاور ومجاوره استطال في يده حبل الكلام، فلم يقف به عند حد.
ولقد رأينا لمتأخر من متأخري المصريين يدعى السحيمي حاشية على شرح عبد السلام على جوهرة التوحيد تقع في أربع مجلدات ضخام، على أن الأمير وهو أطول باعاً منه في علم الكلام وأدق نظراً استوعب الكلام على شرح عبد السلام في مجلد صغير، وكان في قدرة السحيمي أن يضيف إلى مجلداته الأربع أربعة أخر، ولكن رأى أن الاقتصار على هذا المقدار كاف في البلاغ إلى ما قصد من البرهان على سعة إطلاعه".
ثم تكلم على تفسير "روح المعاني" وأن مصنفه أخذه من تفسير الإمام فخر الدين، إلا أنه حذف منه كثيراً من الزوائد، وأضاف إليه وأحسن غاية الإحسان، وضم شيئاً من أقوال سلف المفسرين ومتقدميهم، وإن لم يميز بين ما قوي سنده من هذه الأقاويل وما وهي، فبقي في الأمر بعض لبس وإشكال، وأضاف إليه أيضاً جملة كبيرة من تفاسير المتصوفة، فلم يكتف رحمه الله بجمع تأويلات المتكلمين التي تأولوا بها القرآن للاستدلال على عقائدهم وتطبيقها على ما أدتهم إليه عقولهم منها عملاً بقاعدتهم المشهورة عندهم من وجوب تأويل النقل إذا عارض العقل حتى يرجع إلى العقل، فأضاف إلى ذلك تأويلات المتصوفة التي صرفوا بها القرآن عن ظاهره إلى معان لا تدل الألفاظ العربية عليها بوجه من وجوه الدلالات المعروفة عند الناس فجاء كتابه جامعاً للطرق الثلاثة: طريقة السلف، وطريقة المتكلمين، وطريقة المتصوفة؛ إلا أن طريقة السلف لم يتعرض فيها لبيان طرق نقلها وتمييز صحيحها من سقيمها، ولذلك كان ككتب الحديث التي لا يبين فيها سند الحديث وحال رجاله لا تقع الثقة به، سيما إذا تعارض مع غيره ولم يقع الترجيح بينهما بوجه من وجوه الترجيح.
وأما تفسير "الدر المنثور" للجلال السيوطي فقد زعم أنه اختصر به -على حسب عادته- تفسير ابن جرير، الذي جمع فيه صحاح الأحاديث المتعلقة بتفسير كتاب الله تعالى، وبيان أسباب النزول، وأضاف السيوطي في مختصره أحاديث واهية الإسناد في هذا الموضوع نفسه، ومزجها بتلك الأحاديث -أحاديث الأصل- فاختلطت بها حتى لا يمكن التمييز بينها، وقلّت الثقة في الجميع.
وربما استبعد أحد أن يضع السيوطي في تفسيره "الدر المنثور" أحاديث واهية الإسناد، أو موضوعة مع ما له من المؤلفات في موضوعات الأحاديث -فنقول إن من علم طريقة السيوطي في التأليف لم يستنكر هذا الذي قلناه، وطريقته- رحمه الله على ما علمنا من استقراء كتبه- أنه كلما وقع إليه كتاب من الكتب في أي فن من الفنون واستحسنه اختصره ونسبه إلى نفسه بدون تمييز بين غث وسمين، ولا وقوف على حقائق العلوم، ولذلك تراه مضطراً في كتبه، لأنه لا يُحَكّم فِكْرَ نفسه، وإنما يُحكّم في كل كتاب فكر ملفه هو، فيضيفه إلى نفسه ببعض تصرف يحدثه في الكتاب.
وإن كنت قد قرأت في كتابه الذي سماه (الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير) 1 وكتابه الذي سماه (اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) ورأيت في (الجامع الصغير) كثيراً من الأحاديث التي نصّ في كتابه اللآلىء على أنها موضوعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تصح عنه بطريق من الطرق، جزمت بصحة هذا الذي قلنا، وعلمت أنه لا يؤلف، وإنما يلخص كتب الناس وينسبها لنفسه.
ثم أطال الكلام في السيوطي وابن كمال باشا، وأنهما على منهج واحد في انتحال الكتب بعد الاختصار إلى أن قال سلمه الله:
1 وقد ميّز المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله صحيح أحاديثه من ضعيفها في كتابيه العظيمين المشهورين "صحيح الجامع الصغير" و"ضعيف الجامع الصغير".
وأما تفسير محيى الدين فهو مسخ للقرآن، ونقض للدين من أساسه، ويرى بعض الباحثين أنه ليس من مؤلفات محيي الدين، وإنما هو من مؤلفات القاشاني أحد الملاحدة الباطنية، نسبه لمحيي الدين ليروجه بين عوام المسلمين، ومن يستميتون إلى ما يقول محيي الدين مهما كان حاله، والظن بمحيي الدين أنه لا يضع مثل هذا الكتاب، ولا يذهب هذه المذاهب الفاسدة في تفسير كتاب الله تعالى. وسواء كان من مؤلفات محيي الدين أو غيره فإن انتشاره بين المسلمين بحت ضرر، سيما ولا موقف يوقف الناس على الصحيح والفاسد من هذه الكتب.
وأما تفسير ابن عباس؛ فهو من مؤلفات مجد الدين الفيروز آبادي صاحب "القاموس"، جمع فيه رواية محمد بن السائب الكلبي عن ابن عباس. قال: وقد علمت مما ذكرناه في المقدمة حال ابن السائب الكلبي وضعفه، وقلة ثقة العلماء بمروياته.
قال: هذه كتب التفسير التي نقرأها اليوم، وإن كان قد فاتنا ذكر شيء منها فإنه لا يخرج عن مضارعة واحد من هذه الكتب التي ذكرناها، فلم يبق بيدنا ما يصح الاعتماد عليه والثقة به غير تفسير ابن جرير، وهو الحسنة الوحيدة للمطابع الإسلامية بعد قرن وأكثر من ظهور المطابع في الممالك الإسلامية، ولولا أن بعض أمراء العرب- من سكان الجزيرة العربية- راسل بعض تجار الكتب بمصر في شأنه، وأعانه على ذلك بمساعدات جليلة، لم يظهر له ظل في عالم المطبوعات، اكتفاء منه (بالخازن والجمل) .
وإن أردتَ معرفة تفاسير الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وعلماء القرن الثالث فارجع إلى ما كتبناه في المقدمة على هذا العلم، فقد بسطنا هناك مؤلفات القرون الثلاثة، والباحث عليها إن لم يجدها كلها وجد منها ما يكفي لحاجة الناس.
ثم إنه اعتذر عما كتبه بأنه لم يرد انتقاص أحد بذلك، بل إن غرضه بيان أن
هذه التفاسير المتداولة قاطعة عن العلوم الإسلامية، وإن ضرورة المحافظة على الدين تقتضي باختيار الكتب النافعة.
قال: فكل ما نذكره فإنما الغرض منه تمحيص الحقيقة والتماس الأنفع لنا في علوم ديننا، وهذا عذرنا في كل ما نسطره عن هذه المؤلفات التي ابتلينا بها اليوم وابتليت بنا إلخ". انتهى المقصود مما ذكره هذا الفاضل المنصف.
وبه يعلم حال المتداول من التفاسير على الإجمال، فكيف يقال إن تفسير القرآن قد فرغ منه العلماء، مع أنهم هم الذين قالوا في شأن علم التفسير علم لا نضج ولا احترق، وقالوا: المراد بنضج العلم تقرير قواعده وتفريع فروعها وتوضيح مسائله، والمراد باحتراقه بلوغه النهاية في ذلك؟!.
وقد ذكر الإمام السيوطي في (الإتقان) أن القرآن في اللوح المحفوظ كل حرف منه بمنزلة جبل قاف، وكل آية تحتها من التفاسير ما لا يعلمه إلا الله تعالى. انتهى. فمتى أعطاه العلماء حقه حتى يقال أنهم قد فرغوا منه؟ فهل هذا إلا قول من قد بلغ من الجهل بدينه إلى الغاية؟
وأي ذنب لمن طلب في هذا العصر، أو تمنى أن يفسر القرآن تفسيراً نافعاً للعامة والخاصة بعبارة سلسة، يفهمها كل أحد، كعبارات ببناء هذا العصر، وكتّابه النابغين فيه، لا كعبارات الكتاب الماضين من الأعاجم وغيرهم، فإنهم كانوا يتفاخرون بدقة العبارات وصعوبتها وعدم فهمها ويعيبون الواضح منها، مع أن البلغاء المتقدمين والكتبة السابقين على العكس من ذلك، فقد رأيت في بعض كتب أصول الحديث ما نصه:"ويكره كراهة تنزيه الخط الدقيق لفوات الانتفاع أو كماله به لمن ضعف نظره، وربما ضعف نظر كاتبه بعد ذلك فلا ينتفع به، كما قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل لابن عمه حنبل بن إسحاق بن حنبل- ورآه يكتب خطاً دقيقاً-: فإنه يخونك أحوج ما تكون إليه" انتهى.
فكتب عليه الوالد رحمه الله في هامش الكتاب: "انظر إذا كانت الدقة في الخط هكذا فكيف بها في عبارات العلوم الشرعية؟ وقد عدوا ذلك وجعلوه من
الفضائل العلية، وجعلوا فهمها من أقصى مراتب العلم، حتى أهلموا حفظ العلوم والمسائل، بل لا يعدون ذلك شيئاً، وليت شعري هل كان علم المتقدمين في الصدور أم في السطور؟ وكيف كان علماء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين؟
قال: وقد رأيتُ بعض المؤلفين -وأنا أقابل معه تأليفه وقد دقق فيه- يتوقف في فهم بعض العبارات، ولا يهتدي لها إلا بتأمل طويل، فهل ينبغي لمسلم ذلك؟ وليت شعري إذا اشتغل المتعلم في فهم العبارة فمتى يشتغل بحفظ المعنى فأنصف.
ثم قال: وما أحوجهم إلى ذلك إلا عبارات الأعاجم الركيكة القاصرة عن مقاصدهم، وكم رأينا ممن رسخ في فهم ذلك ولا يستطيع إعراب بيت من الشعر العربي، فهل يليق ذلك بالعلماء أمناء الدين"؟ انتهى.
وشكوى الناس في كل عصر من الكتب المتداولة بين الأيدي قد عرفها كل أحد، فأي ذنب لمن تمنى أن يؤلف في هذا العصر- عصر ظهور كنوز العلم وانتشار الكتب العجيبة -تفسيراً يفصل فيه محاسن الشريعة الغراء، ويطبق فيه أحوال العصر، ويوافق فيه بين القواعد التي ثبتت بالبرهان وبين الآيات الكريمة، مما يستوجب ميل العامة لمطالعته ومراجعته، فإنه الكتاب الذي قال الله تعالى في شأنه:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 1 وقال عزَّ اسمه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 2 فهذه الآية شملت جميع ما خلق الله تعالى من العرش إلى الفرش، ولمن تكلم على هذه الآية له مجال واسع في البحث عن سائر الفنون، ولهذا كانت هذه السورة من أحب السورة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال سبحانه لما قالت الملائكة:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. وهنا ذكر المفسرون أن من
1 سورة الأنعام: 38.
2 سورة الأعلى: 1- 3.
3 سورة البقرة:35.
جملة حِكَم خلق الإنسان وتخليفه في الأرض إبراز ما أودع الله في الأرض من خواص النبات والحيوان والمعدن على يدي هذا الخليفة، لما أودع فيه من الشهوات وحوائج المأكل والملبس وغير ذلك مما استنتجه بأفكاره ووصل إليه ببصيرته. فدخل في هذا الباب من العلوم ما لا يحيط به دوائر الأمكان، ولا يقوم به قلم ولا لسان.
فالاشتغال بمثل هذا التفسير أليس أولى من صرف العمر بذكر القبور وأهلها وتشويق الجهلة وحثهم على عبادتها؟ والالتجاء إليها؟ مع أنهم لم يقصروا في ذلك وهي لديهم من أعظم الواجبات، بل ليس لهم سوى هذا الكمال من أمور الدنيا والآخرة، فتراهم مفلسين من كل فضيلة.
ويقال للنبهاني الجاهل القبوري: هلاّ رأيتَ كتاب الفاضل الشيخ حسين الجسر الطرابلسي؟ وقد كتب ما نصه: "وقد خطر لي حيث وجدت مجالاً للكلام، وسميعاً للنداء، أن أحرر رسالة يستبان منها حقيقة الدين الإسلامي، وكيفية تحققه لمتبعيه على أسلوب جديد سهل الفهم، لا تمله الأنفس ولا تستوعره الأفكار، يروق العقول الحرة، ويعجب الأذهان المطلقة عن قيود التعصب إن شاء الله". انتهى المقصود من نقله.
فيقال: إن الكتاب الذي ألفه فيه مغمز لثالب؟ كلا، بل هو كتاب من أجل الكتب المصنفة في هذا الفن -إن لم نقل أحسنها- فأي فائدة في الكلام مع الفلاسفة الأولين؟ وأي نفع يترتب على الكلام في عقائد المعتزلة وإبطال دلائلهم، مع تقلص ظل وجودهم من هذا العالم.
وفلاسفة العصر لهم فنون أخرى غير فنون أسلافهم، وسلاحهم الذي يحملونه على أهل الدين غير سلاح أوائلهم، فينبغي للحازم أن يعد لهم ما ينخذلون له وينقادون إليه، فأي ذنب لمن تمنى تفسيراً على هذا المنهج والمسلك الذي سلكه الفاضل الطرابلسي؟! وهلا شد النبهاني رواحله إلى هذا الفاضل وتعرف منه دينه، وداوى أدواء جهله بعقاقير معارفه؟ أو سافر إلى الفاضل السيد
بدر الدين الحلبي؟ فتعلم منه ما يخرجه من ظلمات جهالته، وينور قلبه بأنوار علومه، فإن الرجل ممن ابتلي بداء (النوك) والجهل، فلا بد له من طبيب حاذق وإن قيل إن داء النوك ليس له دواء1.
نرى كثيراً من المفسرين يؤول آيات الله تعالى المحكمة ليوافقها مع قواعد هيئة اليونان، ويطبقها على أصول الحكمة الإلهية، أو الطبيعية اليونانية، مع مكابدة المشاق وتحمل الصعوبات، مع أن ما ظهر من الفنون الجديدة التي قام على صحتها البرهان يمكن تطبيقها وتوفيقها مع النصوص من غير كلفة لموافقة صحيح المعقول لصريح المنقول.
فلم لم يعترض النبهاني على مثل تفسير الإمام فخر الدين الرازي؟ وقد شحنه من كلام المتكلمين وفلاسفة اليونانيين، ومتى كانت هذه المباحث لدى المسلمين قبل أن تترجم كتب الفلاسفة، فإذا لم يعترض على مثل ذلك فلم يعترض على من يسلك ذلك المسلك في الفلسفة الجديدة التي هي أصح وأولى بالاعتبار من هذيان اليونانيين؟ فهل هذا الكلام منه إلا تحكم وترجيح بلا مرجح؟!
ثم إن هذا القبوري لم يعترض على تفاسير القوم التي فسروا بها كلام الله تعالى ولم يقصدها -من كلامه- رب العالمين، بل عد مثل هذه التفاسير من أجلّ المآثر، وأعظم التحف والمفاخر، ولم يتكلم بها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا غيرهم، فلم يعترض على من تمنى أن يصنف تفسير يدلى عليه كلام الله دلالة صريحة ويصدقه العيان ويؤيده البرهان؟! فأي ذنب لمن يطلب تصنيف مثل هذا التفسير؟! (نعم) المذنب هو الذي يطلب تصنيف ذلك من هذا الجاهل القبوري الغبي أحد الغلاة، ويتكلم معه مثل هذا الكلام، وهو- على ما سمعنا به ممن رآه- من قراء المولد، والتهاليل للأموات، فأين هو من مثل هذه المطالب العالية؟ فلا شك أن الذي تكلم معه بذلك الكلام، وطلب منه أن يفسر
1 النوك: الحمق.