المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود) - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ١

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌خطبة الكتاب

- ‌(الأمور التي يجب التنبيه عليها، والإشارة بيسير العبارة إليها)

- ‌(ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود)

- ‌[كلام النبهاني على الاجتهاد، والرد عليه]

- ‌[الكلام على كتب التفسير والاحتياج إلى تفسير موافق لأفكار أهل العصر]

- ‌[الكلام على قول النبهاني: إن الذي يتصدّى لطلب تفسير مشتمل على العلوم العصرية ملحد]

- ‌[الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم]

- ‌(أجوبة لشيخ الإسلام على بعض اعتراضات الأخنائي)

- ‌(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت)

- ‌(الكلام على شبه الخصم وإبطالها)

- ‌(ذكر شبة أخرى للمجوّزين للاستغاثة وإبطالها)

- ‌(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية)

- ‌(كلام مفيد في تعريف البدعة)

- ‌[الرد على النبهاني فيما ادّعاه من أن ابن تيمية مُخِلٌّ بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية]

- ‌(الذاهبون إلى حياته)

- ‌[الكلام على كتاب "منهاج السنة" لشيخ الإسلام]

- ‌الكلام على كتاب "جلاء العينين

- ‌(ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وقدس روحه)

- ‌عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

الفصل: ‌(ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود)

(ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود)

قد ذكر رحمه الله في فصل حكم الصلاة خلف أهل الأهواء كلاماً مفصّلاً يوضح هذه المسألة ويكشف حجاب تلك المعضلة، فأحببت نقله حرصاً على اقتناء فوائده وإن طال الكلام.

قال رحمه الله: "وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع وخلف أهل الفجور؛ ففيه نزاع مشهور وتفصيل، ليس هذا موضع بسطه، لكن أوسط الأقوال في هؤلاء: أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على ذلك، فإن كان مظهراً للفجور أو البدع وجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته.

ولهذا فرّق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت؛ فإنه بمنزلة من أسرّ بالذنب، فهذا لا يُنكَرُ عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أُعلنت فلم تنكر ضرت العامة، ولهذا كان المنافقون يقبل منهم علانيتهم وتوكل سرائرهم إلى الله بخلاف من أظهر الكفر، فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته لما في ذلك من النهي عن المنكر لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن الإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب ذلك. لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشَرٍّ أعظم ضرراً من ضرر ما أظهره من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظم الضررين، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها بترجيح خير الخيرين إذا لم [يمكن أن] يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً. فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك، بل يُصلّى خلفه ما لا يمكن فعلها إلا خلفه؛ كالجمع والأعياد والجماعة إذا لم يكن هناك إمام غيره.

ص: 49

ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يصلّون خلف الحجاج والمختار بن أبي عبيد وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الإقتداء بإمام فاجر، لاسيما إذا كان التخلف عنها لا يرفع فجوره فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة، ولهذا كان التاركون للجماعات والجمعيات خلف أئمة الجور مطلقاً معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع، وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعات خلف البَرّ فهو أولى من فعلها خلف الفاجر.

وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد للعلماء، منهم من قال يعيد لأنه فعل ما لا يشرع له بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته منهياً عنها فيعيدها، ومنهم من قال لا يعيد، قال لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة، وأما إذا لم يمكنه الصلاة إلا خلفه كالجمعة فهنا لا تعاد الصلاة وإعادتها من فعل أهل البدع، وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا قيل: إن الصلاة خلف الفاسق لا تصح أعيدت الجمعة خلفه وإلا لم تعد وليس كذلك، بل النزاع في الإعادة حيث نهي الرجل عن الصلاة، فأما إذا أمر بالصلاة خلفه فالصحيح هنا أنه لا إعادة عليه لما تقدم من أن العبد لم يؤمر بالصلاة مرتين، وأما الصلاة خلف من يكفر ببدعته من أهل الأهواء فهناك قد تنازعوا في نفس صلاة الجمعة خلفه، ومن قال إنه يكفر أمر بالإعادة، لأنها صلاة خلف كافر، لكن هذه المسألة متعلقة بتكفير أهل الأهواء، فيها قولان، وعن الإمام أحمد أيضاً فيها روايتان، وكذلك أهل الكلام قد ذكروا للأشعري فيها قولين، وغالب مذاهب الأئمة فيها تفصيل.

وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول قد يكون كفراً؛ فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال لا يُحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً

ص: 50

وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 1. فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يُشهد عليه بالوعيد، فلا يُشهد على معيّن من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحوا عقوبة ذلك المحرم، وقد يُبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يُشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفه الحق، وقد يكون بلغته ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية والعلمية، أو المسائل الفروعية العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام.

وأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول، ونوع آخر وتسميته مسائل الفروع؛ فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ من المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه عن ذكره من الفقهاء في كتبهم وهو تفريق متناقض. فإنه يقال لمن فرّق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطىء فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، والفروع مسائل العمل. قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا، وفي أن عثمان أفضل من عليّ أم عليّ أفضل، وفي كثير من معاني القرآن، وتصحيح بعض الأحاديث؛ هي من المسائل الاعتقادية لا العملية ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحريم الفواحش والخمر؛ هي مسائل علمية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق. وإن قال: الأصول هي الأصول القطعية. قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل النظر ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن يسمع النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتيقن مراده منه- وعند

1 سورة النساء: 10.

ص: 51

غيره لا تكون ظنية فضلاً عن أن تكون قطعية، لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته".

ثم ذكر حديث الذي قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني إلخ.. إلى أن قال: "وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع. لكن المقصود هنا: أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين، ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف في ذلك ولم يفهموا غور قولهم؛ فطائفة تحكي عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقاً حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلي، وربما رجحت التكفير والتخليد، وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله إنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، ولا يكفر من يفضل علياً على عثمان، بل ونصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة بينة، ولأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق، وقد ابتلى بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل، وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كان يكفر أعيانهم، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقوله، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يعاقبه، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك، ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفّرون من لم يجبهم، حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لا يطلقونه حتى يقر بقول الجهمية إن القرآن مخلوق وغير ذلك، ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رضي الله عنه ترحم عليهم واستغفر لهم، لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذّبون للرسول صلى الله عليه وسلم ولا جاحدون لما جاء به، لكن تأولوا فأخطأوا وقلّدوا من قال لهم ذلك.

وكذلك الشافعي لما قال لحفص الفرد حين قال: القرآن مخلوق كفرتَ بالله العظيم، بين أن هذا القول كفر ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك، لأنه لم يتبين

ص: 52

له بعد الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وقد صرّح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم. وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد في القدري: إن جحد علم الله كفر، ولفظ بعضهم: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا كفروا.

وسئل أحمد رحمه الله عن القدري هل يكفر؟ قال: إن جحد العلم كفر.

وحينئذ فجاحد العلم هو من جنس الجهمية، وأما قتل الداعية إلى البدع فقد يقتل لكف ضرره عن الناس كما يقتل المحارب وإن لم يكن في نفس الأمر كافراً، فليس كل من أمر بقتله يكون قتله لردته، وعلى هذا قتل غيلان القدري وغيره قد يكون على هذا الوجه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا عليها تنبيهاً". انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله1.

والذي تحصّل مما سقناه من النصوص: أن الغلاةَ ودعاةَ غير الله وعَبَدَةَ القبور إذا كانوا جهلة بحكم ما هم عليه ولم يكن أحد من أهل العلم قد نبههم على خطئهم فليس لأحد أن يكفرهم.

وأما من قامت عليه الحجة وأصرّ على ما عنده واستكبر استكباراً، أو تمكّن من العلم فلم يتعلّم فسنذكر حكمه في الآتي.

والمقصود؛ أن من تمسّك من المسلمين بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعتقد والدّين الذي خالفوا به أهل البدع وباينوهم فلم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه الجهمية المعطلة، ولا إلى ما ذهبت إليه القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، ولا إلى ما ذهبت إليه الخوارج والمعتزلة، ولا إلى ما ذهبت إليه الرافضة والمرجئة، ولم يذهبوا إلى ما افتراه الغلاة في الأولياء والصالحين من عباد القبور ونحوهم؛ فإن هؤلاء لا يسمون عند أهل السنة والجماعة غالية، كما سموا به من غلا في عليّ وزعم أنه الإله الحق، فاستتابهم عليّ، فأبوا، فخذّ لهم الأخاديد، وأوقد فيها النيران وقذفهم فيها، وقال:

1 "مجموعة الفتاوى"(3/ 194- 197- الطبعة الجديدة المخرجة) .

ص: 53

إني إذا رأيتُ أمراً منكراً

أجّجْتُ ناري ودعوتُ قنبراً

وفي رواية: لما رأيت الأمر أمراً منكراً إلخ 1.

فهؤلاء هم المسلمون الذين لا يكفرون، وتسمية من عبد غير الله مسلماً فهو إلى أن يعالج عقله أحوج منه إلى أن يقام عليه الدليل.

الأمر الرابع من الأمور التي يجب التنبيه عليها: أن من مكايد الغلاة التي كادوا بها العوام أنهم يقولون: إن الاستغاثة بالأموات، وندائهم في المهمات، وشد الرحال لزيارة قبورهم، وتقديم قرابينهم إليها ونذورهم؛ هو من علامات محبتهم، والتقرب بقربتهم، ومن أنكر ذلك وأبى ما هنالك، ونهى عن زخرفتها وإيقاد السُّرُج عليها، وبناء المساجد عليها، وقصد أهلها في طلب الحاجات، والالتجاء إليها في المهمات؛ فهو من المبغضين للصالحين، والمنكرين لكرامات الأولياء والصدّيقين! إلى غير ذلك من أقوالهم المناسبة لضلالهم، كبُرت كلمة تخرج من أفواههم. فإن من أنكر مثل تلك البدع والضلالات هم المحبون لهم، والمحافظون على هديهم وطريقتهم، وأما هؤلاء الغلاة وأعداء الهداة، فقد أفسدوا الدين، وسدّوا طريق الموحّدين، يعرف ذلك من وقف على أحوالهم، وما قالوه

1 الخبر أخرجه: الآجري في "الشريعة"(3/559/2066، 2067، 2068) وابن الأعرابي في "معجمه"(1/56/ 67) وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان"(2/ 342- 343) وابن عبد البر في "التمهيد"(5/ 317) والبلاذري في "أنساب الأشراف"(2/ 393- 394- ط. دار الفكر) وابن المؤبد الجويني في "فرائد السمطين"(1/174) من طريق: خارجة بن مصعب، عن سلام بن أبي القاسم، عن عثمان بن أبي عثمان به.

وإسناده ضعيف.

خارجة بن مصعب "ضعيف؛ يدلّس عن المجهولين الكذابين".

وعثمان بن أبي عثمان: "منكر الحديث مجهول" كما في "الميزان".

لكن للحديث طرق أخرى، ذكر بعضها الحافظ في "الفتح"(12/282) وحسّنها.

والخبر ذكره: الملطي في "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع"(ص18) والجوزجاني في "أحوال الرجال"(ص 38) وابن القيم في "الطرق الحكمية"(ص 15) والذهبي في "ميزان الاعتدال"(2/426- ط. الحجاوي) أو (2/ 404- ط. العلمية) وغيرهم.

ص: 54

في الإسلام وما بدّلوه من الدين. وما عليه أهل البوادي اليوم والأعراب من الكفر بآيات الله ورد أحكام القرآن والاستهزاء بذلك، والرجوع إلى سوالف البادية، وما كانت عليه من العادات والأحكام الجاهلية، وأمثلهم حالاً من عرف أن كتاب الله وأحاديث رسوله عند أهل البلاد فلم يرفع بذلك رأساً، ولم يبال بشيء مما هنالك أو هو جاهل بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، لا شعور له بشيء من ذلك، ولا يدري ما الناس من أمر دينهم.

وغالب أهل المدن منهمكون في اللذائذ والشهوات، وقد أعرضوا عن الشريعة وما ورد فيها من الأوامر والنواهي، ولم يلتفتوا إلى ما في كتب الفقه من الأحكام، وظنوا أن سيئاتهم تُغفر بنذورهم إلى القبور ونداء أهلها والاستغاثة بهم، وأن من منعهم من دعاء الأنبياء والصالحين، والاستعانة بهم، والاستغاثة في الشدائد والمهمات وأنهم لا يدعون مع الله في الحاجات والملمات ولا يذبح لهم تقرباً، ولا يطاف بقبورهم ولا يتوكل عليهم؛ فقد استخف بهم وتنقصهم وهضمهم حقهم.

وأصل هذا؛ أنهم لا يفرقون بين حق الله وحق عباده، ولا تمييز عندهم في ذلك، بل يرون استحقاقهم كثيراً من العبادات المختصة بالله، وهذا يشبه غلوّ النصارى في المسيح وغيره، وقد قالوا لمن أنكر عليهم عبادة المسيح: قد تنقّصت المسيح وقلت فيه قولاً عظيماً، كما قال عمرو بن العاص وأصحابه للنجاشي- لما قدموا عليه بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة وسألوه أن يخلي بينهم وبين المهاجرين وعنده جعفر بن أبي طالب وأصحابه وأبى ذلك النجاشي، فقال عمرو-: إنهم يقولون في المسيح قولاً عظيماً. يعني: يقولون هو عبدٌ ليس بإله، فأرسل النجاشي لجعفر وأصحابه وسألهم عن ذلك، فقالوا: نقول فيه ما قال الله تعالى، وتلا جعفر صدر سورة مريم حتى أتى على ذكر المسيح وشأنه، فقال النجاشي: والله ما زاد المسيح على هذا1.

1 القصة أخرجها: أحمد في "المسند"(1/ 201- 202 و5/ 209- 292) والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 301- 303) وأبو نعيم في "دلائل النبوة"(رقم: 194) وفي "حلية الأولياء"(1/115) بإسناد حسن.

انظر: "مجمع الزوائد"(6/24-27) وتعليق العلامة أحمد شاكر على "المسند" رقم (1740) وتخريج العلامة الألباني لـ "فقه السيرة"(ص115) .

ص: 55

وبالجملة؛ فمن عرف ما جاءت به الرسل من وجوب توحيد الله وإفراده بالعبادة وتبين له أن المنع من دعائهم وقصدهم من دون الله في الحاجات والملمات هو عين تعظيمهم، وتوقيرهم، وتعزيزهم، والإيمان بهم وتصديقهم، وقبول ما جاؤوا به، ومنابذة أعدائهم وأضدادهم من المشركين على اختلاف أجناسهم وتباين مللهم، فإن أصل النزاع بينهم وبين أعدائهم في عبادة الله وحده، والبراءة من عبادة ما سواه، ولا يحصل ولا يتصوّر الإيمان بهم إلا باعتقاد هذا وموافقتهم عليه، وأما مخالفتهم فيه ومعصيتهم فهي عين التنقص والاستخفاف بهم.

ومن عرف هذا عرف أن أهل الحق والإيمان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هم المعظّمون للرسل، الموقِّرون لهم، العارفون بحقوقهم، القائمون بما يجب لله، وما يجب لعباده من الحقوق، لا أهل الشرك بهم والمعصية لهم، ونبذ أوامرهم وترك ما جاؤوا به وهجره وعزله عن الحكم به، وتقديم منطق اليونان في باب معرفة الله وصفاته، وتقديم آراء الرجال وحدسهم على النصوص والأحاديث الصريحة، وتقديم غلو النصارى ورأيهم في عبادة الأحبار والرهبان على ما جاء به من تجريد التوحيد وإخلاص الدين لله، هذا هو حقيقة الاستخفاف عند كافة العقلاء، وأما طاعة الرسول في إخلاص الدين دنه، وترك دعاء الأنبياء والصالحين فهو عين التعظيم والتوقير، ولذلك قال عز من قائل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 1 فظهر أن كيدهم جعله الله في نحرهم، وتبين أنهم قوم لا يعقلون.

فنسألك اللهم أن تخلع من أعداء الحق وثائق قلوبهم وأفئدتهم، وأن تباعد بينهم وبين أزودتهم، وأن تحيرهم في سبلهم، وأن تضللهم عن وجههم، وأن

1 سورة آل عمران: 31.

ص: 56

تقطع المدد عنهم، وأن تنقص منهم العدد، وأن تملأ أفئدتهم بالرعب، وتقبض أيديهم عن البسط، وتحرم ألسنتهم عن النطق، وتشرد بهم من خلفهم، وتنكل بهم من وراءهم، وتقطع بحربهم أطماع من بعدهم، اللهم عقم أرحام نساءهم، ويبّس أصلاب رجالهم، واقطع نسل دوابهم وأنعامهم، اللهم لا تأذن لسمائهم في قطر، ولا لأرضهم في نبات.

الأمر الخامس: أن كثيراً ممن يُظهِرُ عقيدة الغلاة وينتصر لهم ويصوّبُ رأيهم- في جواز نداء الصالحين ودعائهم، والالتجاء إليهم والاستغاثة بهم، وقصدهم بالنذور وبكل زور، مما استباحوه من الأعمال والأقوال المناقضة لما جاءت به الأديان التي شرعها ذو الجلال والملك المتعال -هم زنادقة لا يعترفون بأن للعالم إلهاً خالقاً مدبراً للكائنات علويها وسفليها، منكرين للكتب الإلهية وما اشتملت عليه من الأحكام، نافين للمعاد وليوم التناد، ويقولون: لا حساب، ولا كتاب، ولا جنة ولا نار، ولا آخرة ولا دار قرار، ومقصودهم من الانتصار للغلاة وأهل الطرائق المبتدعة وما اشتملت عليه من المنكرات وما لم يأذن به الله من العبادات؛ ستر عوارهم بباطل انتصارهم، والتوصل إلى شتم أهل الحق وحماة الدين، وإغاظة من خاصمهم على باطلهم من الموحدين. وقد سمعت أن بعض الأوغاد من زنادقة بغداد ألّفوا كتاباً سموه "الفجر الصادق"- وكان الحرّيُّ أن يسموه بأقوال المارق -قد اشتمل على تصحيح أقوال المبتدعة وضلالات الغلاة، ومخازي آراء الغواة، معاداة للرادين على أقوالهم، والمظهرين لأحوالهم والكاشفين حجب جهلهم وضلالهم، وتوصلاً إلى شتم من عاداهم من أهل الحق لزيغهم، ومراغمة لمن جرد عليهم صوارم براهين رد باطلهم، وهم من مشاهير زنادقة بغداد، مربع الزور والفساد، قد أنكروا المعبود واليوم الموعود، وجحدوا إرسال الرسل والأنبياء، وما اشتملت عليه الكتب الإلهية من الأحكام، والأنبياء، فليس لهم من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا زي منتحله ورسمه، وكيدهم لا يفيدهم، وحالهم معلوم لدى العموم.

ومهما تكن عند امرىء من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

ص: 57

وقد ذكر المفسرون عند الكلام على قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 1. إن المنافق اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره ويُظْهِرُ إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفاً، يقال: نافق ينافق منافقة ونفاقاً، وهو مأخوذ من النافقاء، وهي إحدى حجر اليربوع وهي التي يدخل منها، وليس مأخوذاً من النفق وهو السرب الذي يستتر فيه لستره كفره2.

وكان المنافقون يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشهدون شهادة مؤكدة أنه رسول الله، فشهد الله عليهم أنهم كاذبون، ومن أصدق من الله قيلاً؟ أفلا ينبغي أن يصدق بأقوالهم؟! وقد عدّد الله تعالى قبائحهم، وهي موجودة في منافقي بغداد وزنادقة العراق، فمنها أن من عادتهم الاستجنان بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة، أي: اتخذوا حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة عن القتل أو السبي أو نحوهما مما يعامل به الكفار، ومن هنا أخذ الشاعر قوله:

وما انتسبوا إلى الإسلام إلا

لصون دمائهم أن لا تُسَالا

وقد أخبر سبحانه عن صفتهم وشأنهم فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} لفصاحتها وتناسب أعضائها {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} 3 لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم، وهكذا أولئك المنافقون يعجب الناس من هياكلهم ويسمعون لكلامهم، أي: ما هم إلا أجرام خالية من الإيمان والخير، كالخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونها أشباحاً خالية عن الفائدة، أو كأنهم أصنام منحوتة من خشب مسندة إلى الحيطان، شُبّهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم، وفي مثلهم قال الشاعر:

1 سورة المنافقون: 1.

2 "لسان العرب"(14/ 243) .

3 سورة المنافقون: 4.

ص: 58

لا يخدعنك اللحى ولا الصور

تسعة أعشار من ترى بقر

تراهم كالسحاب منتشراً

وليس فيها لطالب مطر

في شجر السرو منهم شبه

له رواء وما له ثمر

ثم إن الله تعالى زادهم إيضاحاً فقال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي: متى سمعوا صياحاً بأي وجه كان طارت عقولهم، وظنوا ذلك إيقاعاً بهم، كما قال جرير يخاطب الأخطل:

ما زلتَ تحسب كل شيء بعدهم خيلاً تكر عليهم ورجالاً وقال المتنبي:

وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً ثم استأنف سبحانه الكلام عنهم لبيان ما يجب من معاملتهم فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ} أي: هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها، فإن أعدى الأعادي العدو المداجي، الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي، ككثير من أبناء الزمان. {فَاحْذَرْهُمْ} لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترنّ بظاهرهم.

لا تقنع بأول ما تراه

فأول طالع فجر كذوب

{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} أي: لعنهم وطردهم، فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها، وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز وجل، وغاية نكاله جل وعلا. والسورة من أولها إلى آخرها في بيان أحوال المنافقين وبيان أحكامهم.

والمقصود: أن كثيراً من الزنادقة والمنافقين -ومنهم من سبق ذكرهم- يظهرون ما يظهره الغلاة، وأولئك الزائغون الغواة، لمزيد حبهم للدنيا وخوفهم على مناصبهم ومراتبهم، وهم لا دين لهم ولا إيمان، ولا صلاة ولا زكاة، ولا حج ولا صيام، وهم كل وقت على وجل يحسبون كل صيحة عليهم، فلا يلتفت

ص: 59

إلى هذيانهم وضلالهم وبطلانهم، فما أشبه كلامهم بطنين ذباب، أو صرير باب، أو نبح كلاب، {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} 1.

وقد تسلب الأيام حالات أهلها

وتعدو على أسد الرجال الثعالب

الأمر السادس من تلك الأمور: أن الغلاة وعبدة القبور وسالكي الطرق المبتدعة يكيدون الجهلة والعوام بمكائد كثيرة؛ منها ما سبق، ومنها: أنهم يقولوا لهم: إن المخالفين لنا لم تزل تصيبهم نكبات الدنيا ومصائبها بخلاف من سلك مسلكنا، فإنا ممتّعون منعّمون بنعم الدنيا ومناصبها الرفيعة، ومراتبها العالية، والقرب من أولياء الأمور، انظروا إلى فلان وفلان وفلان، ويعدّدون لهم كثيراً من كلاب الدنيا الدنية، ويقولون لهم: ثم انظروا إلى مخالفينا كابن تيمية وأضرابه، ويذكرون لهم ما حل بهم من المخالفين، ومثل هذا الكيد كثيراً ما يكرره النبهاني في كتابه "شواهد الحق" الذي تصدّينا لرده، ويقول مرة بعد أخرى: إن ابن تيمية شق العصا، وشوّش عقائد المسلمين بسبب ما اختاره من عدم جواز دعاء غير الله، والالتجاء إلى ما سواه ونحو ذلك، وإن الله لم يبارك في كتبه فلم ينتفع بها أحد من المسلمين لقوله بذلك، وإن العلماء اتفقوا على حبسه الحبس الطويل، فحبسه حاكم مصر يومئذ ومنعه من الكتابة في الحبس، وأن لا يدخل عليه بدواة، ومات في الحبس، ونحو من ذلك الهذيان، وهكذا قال ابن حجر في "الجوهر المنظم" وفي "فتاواه"، وهكذا السبكي في بعض كتبه.

واعلم أن من له نظر وبصيرة لا يلتفت إلى مثل هذا الهذيان من هذا الكلام الذي يشبه كلام الصبيان، بل ينظر إلى الدليل والبرهان، وما أصاب ابن تيمية وأضرابه من أهل الحق فله أسوة بسادات أهل الدين والأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، ولو بسطنا الكلام على ما جرى عليهم وما جرى على أكابر المجتهدين وأهل العلم لما وسعه سفر كبير، ولم يختص بذلك عصر، بل هكذا جميع الأعصار.

1 سورة الأنعام: 91.

ص: 60

إن الرياح إذا اشتدت عواصفها

فليس ترمي سوى العالي من الشجر

قال العلامة الشيخ شهاب الدين أحمد بن علي الدلجي1 -وكان من أكابر حفاظ عصره ومحدثيهم، وأعلمهم بعقائد السلف وعلومهم -في كتاب "الفلاكة والمفلوكين": قلما خلا عالم أو نبيل من نكبة، وأنا أذكر هنا طرفاً لائقاً بمقصودي من ذوي النكبات من الأعيان الذين عرضت لهم:-

(مالك بن أنس) بن أبي عامر بن [عمرو بن] الحارث بن غَيْمان -بالغين المعجمة- أبو عبد الله الإمام المدني أحد أئمة الإسلام، سُعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي ابن عم أبي جعفر المنصور، فدعا به وجرده، وضربه سبعين سوطاً، ومدت يداه حتى انخلع كتفاه. وسبب ضربه أنهم سألوه عن مبايعة محمد بن عبد الله بن حسن، وقالوا له: إن في أعناقنا مبايعة أبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين. فأسرع الناس إلى محمد فسعى به فضرب لذلك، ثم لم يزل بعده في علو ورفعة كأنما كانت تلك السياط حلياً تحلى بها، توفي سنة أربع وسبعين ومائة2.

(أبو حنيفة النعمان بن ثابت) الفقيه الكوفي أحد الأئمة المتبوعين. كان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين، فأراده لقضاء الكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية فأبى، فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، وبقي على الامتناع، وسجنه فتوفي بالسجن في أحد القولين، سنة خمسين ومائة ببغداد.

(الإمام أحمد بن محمد بن حنبل) بن هلال الشيباني المروزي ثم البغدادي.

1 انظر ترجمته في "الضوء اللامع"(2/ 27) و"هدية العارفين"(1/124) و"الأعلام" للزركلي (1/177) .

2 انظر: "تاريخ الطبري"(7/560) و"سير أعلام البلاء"(8/80-81) و "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (1/228) .

ص: 61

استحوذ على المأمون جماعة من المعتزلة وقوّلوه بخلق القرآن، فعنّ له بطرسوس أن يكتب إلى نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، فكان ذلك أول الفتنة، وكان ذلك آخر عمر المأمون قبل موته بشهور سنة ثمانية عشر ومئتين، فلما وصل الكتاب استدعى جماعة من العلماء فامتنعوا، فهددهم بالضرب وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجند سابوري، فحُمِلا على بعير متعادلين مقيّدين إلى الخليفة عن أمره بذلك، ثم جاء الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة وأن الأمر شديد، فرُدًا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ومات محمد بن نوح في الطريق، وأودع الإمام أحمد السجن ببغداد نحواً من ثمانية وعشرين شهراً، ثم أحضره المعتصم في قيوده وأجلسه، فجلس ودعاه إلى القول بخلق القرآن، فامتنع وقال: فما قال ذلك ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن القرآن علم الله، ومن علم أن علم الله مخلوق فقد كفر، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به، وناظره أحمد بن أبي دؤاد وغيره، وأنكروا الآثار التي أوردها، وقالوا للمعتصم: هذا أكفرك وأكفرنا، وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين؛ ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمي واشتد غضبه، فأخذ وجيء بالعقابيين والسياط، وضربه ضرباً مبرحاً شديداً، حتى أغمي عليه وغاب عقله، وأمر بإطلاقه إلى أهله فنقل وهو لا يشعر، ولما شفي من الضرب بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وكان الضرب في الخامس والعشرين من رمضان سنة إحدى وعشرين ومائتين، وتوفي سنة إحدى وأربعين ومائتين.

(يوسف بن يحيى البويطي) صاحب الإمام الشافعي، كان الشافعي يسأل عن الشيء فيحيل عليه، فإذا أجاب قال: هو كما أجاب. وقال عنه الشافعي: هو لساني. حُمِلَ إلى بغداد في أيام الواثق بالله من مصر -وفي عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة حديد فيها طوق وزنتها أربعون رطلاً- وأرادوه على

ص: 62

القول بخلق القرآن فامتنع ومات بالسجن في قيوده سنة إحدى وثلاثين ومائتين1.

(الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري) أراد منه خالد بن أحمد الذُّهلي أن يأتيه في بيته ليسمع أولاده فأبى، وقال: في بيته يؤتى الحكم، فاتفق أن جاءه كتاب من محمد بن يحيى الذهلي من نيسابور بأن البخاري يقول بأن لفظه بالقرآن مخلوق، وكان قد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلام، وصنّف البخاري في ذلك كتابه (خلق أفعال العباد) فأراد الأمير أن يصرف الناس عن السماع من البخاري فلم يقبلوا، فأمر عند ذلك بنفيه من البلاد، فخرج منها، ودعا على خالد بن أحمد، فلم يمض شهر حتى أمر ابن طاهر بأن يُنادى على خالد بن أحمد على أتان، وزال ملكه وسجن ببغداد حتى مات، فبرح البخاري إلى بلد يقال لها (خزتنك) فمات سنة ستين وثلاثمائة. نقلته بلفظه من تاريخ ابن كثير2.

(أحمد بن علي بن شعيب النسائي) صاحب السنن إمام عصره، والمقدّم على أضرابه، رحل الآفاق وأخذ عن الحُذّاق، وكان ينسب إلى شيء من التشيّع، قالوا: دخل دمشق فسأله أهلها أن يحدّثهم بشيء من فضائل معاوية، فقال: ما يكفي معاوية أن يذهب رأساً برأس حتى يُروى له فضائل. فجعلوا يطعنون فيه حتى أخرج من الجامع، فسار إلى مكة فمرَّ بالرملة، فسُئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه. فضربوه في الجامع، فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه وهو عليل، فتوفي بمكة مقتولاً شهيداً سنة ثلاث وثلاثمائة3.

(أبو عمر عيسى الثقفي النحوي) 4 شيخ سيبويه- صاحب كتاب "الجامع"

1 انظر: "سير أعلام النبلاء"(12/59) .

2 انظر: "البداية والنهاية"(11/ 27) .

3 انظر: "سير أعلام النبلاء"(14/ 127) .

4 انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء"(7/ 200) و"معجم الأدباء" لياقوت (16/146) و"النجوم الزاهرة"(2/11) و "بغية الوعاة"(2/ 237- 238/ 1880) .

ص: 63

الذي قيل: إن سيبويه أخذه وزاد عليه ما استفاده من الخليل ونسبه إليه -أودعه شخص وديعة، فنمي الخبر إلى يوسف بن عمر أمير العراقين، فكتب إلى نائبه بالبصرة يأمره أن يحمل عيسى بن عمرو مقيداً، فدعا به، ودعا حداداً وأمره بتقييده، فلما قيده قال له: لا بأس عليك إنما أرادك لتعليم ولده، قال: فما بال القيد إذاً؟! فلما وصل إليه سأله فأنكر، فأمر بضربه فضُرب بالسياط، توفي سنة تسع وأربعين ومائة. كان كثير الاستعمال للغريب والتقعّر في كلامه، وهو القائل: افرنقعوا عني. قال يوماً لأبي عمرو بن العلاء: أنا أفصح من معد بن عدنان، فاستنشده أبو عمرو بيتاً فيه بدا بمعنى ظهر، وقال له: كيف تسنده إلى جماعة الإناث أتقول بدين أو بدان؟ فقال: بدَيْنَ، فقال: أخطأت. ولو قال بدان لأخطأ أيضاً. وإنما أراد أبو عمر تغليطه، وإنما الصواب بَدَوْنَ من بدا يبدو إذا ظهر، وبدأ يبدأ إذا شرع في الشيء معنى آخر ذكرت هذا استطراداً لاشتماله على فائدة.

(أبو جعفر محمد بن الزيات بن عبد الملك) 1 وزير المعتصم، ثم ابنه هارون ثم الواثق، ثم لما مات الواثق أشار هو بتولية ولده، وأشار القاضي أحمد بتولية أخيه المتوكل، وتم أمر المتوكل، فحقد ذلك عليه مضموماً إلى حقده عليه القديم، لأنه كان يغلظ عليه في حياة الواثق تقرباً إليه، وكان ابن الزيات قد صنع تنوراً من حديد في أيام وزارته وله مسامير محدودة إلى داخله يعذب فيه الناس، وكان يقول إذا استرحم: الرحمة خور في الطبيعة. فلما اعتقله المتوكل أدخله التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد ومات في التنور، فوجد قد كتب في التنور بفحمة:

من له عهد بنور

يرشد الصب إليه

سهرت عيني ونامت

عين من هنت عليه

رحم الله رحيماً

دلت عيني عليه

1 ترجمته في: "تاريخ الطبري"(11/ 27) و"تاريخ بغداد"(2/ 342) و "سير أعلام النبلاء"(11/ 172) و "البداية والنهاية"(10/ 346) .

ص: 64

توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.

(ناصح الدين أبو محمد سعيد المعروف بابن الدهان) النحوي البغدادي شارح كتاب "الأيضاًح" و"التكملة" وكتاب "اللمع" لابن جني، وكان يُفضِّل على ابن أبي محمد الجواليقي وابن الخشاب وابن الشجري المعاصرين له. انتقل إلى الموصل قاصداً جناب الوزير جمال الدين الأصفهاني المعروف بالجواد، وكانت كتبه ببغداد واستولى الغرق في تلك السنة على البلد، فغرقت كتبه، وكان خلف داره مدبغة ففاضت بالغرق إلى بيته فتلفت كتبه بهذا السبب زيادة على تلف الغرق، فأرسل من أحضرها له -وكان قد أفنى عمره فيها- فأشاروا عليه أن يطيبها بالبخور ويصلح ما أمكنه فيها، فبخرها باللاِّذن ولازمها بالبخور إلى أن بخرها بأكثر من ثلاثين رطلاً لاذناً، فطلع ذلك إلى رأسه وعينيه فأحدث له العمى. توفي سنة تسع وستين وخمسمائة1.

(أبو العباس أحمد بن محمد بن عطاء) أحد أئمة الصوفية، حدّث عن يوسف بن موسى القطان والمفضل وغيرهما، كانت له ختمة يتلوها سبع عشرة سنة يتدبرّها، مات ولم يكملها. أحضر في أمر الحلاّج -وقد كتب الحلاّج اعتقاده- فسأله الوزير حامد بن العباس عما قاله الحلاج، فقال: من لا يقول بهذا فهو بلا اعتقاد، فقال له الوزير: ويحك تُصَوّب مثل هذا الاعتقاد؟ فقال: مالك ولهذا؟ عليك بما نصبت له من أخذ أموال الناس وظلمهم، مالك والكلام مع هؤلاء السادة. فأمر الوزير بضرب شِدْقَيْهِ، ونزع خُفِّيْهِ وأن يُضْرَبَ بهما رأسه، فما زال يفعل به كذلك حتى سال الدم من منخريه، وأمر بسجنه، فقيل له: أيها الوزير؟ إن العامة تتشوش بهذا. فحُمل إلى منزله. قال ابن عطاء: اللهم اقتله أخبث قتلة، واقطع يديه ورجليه، فمات ابن عطاء بعد سبعة أيام سنة تسع وثلاثمائة، ثم مات الوزير مثل ما دعا عليه ابن عطاء مقطوع اليدين والرجلين مقتولاً2.

1 انظر:"الفلاكة والمفلوكين"(ص126-127) و"سير أعلام النبلاء"(20/581- 582) و"النجوم الزاهرة"(6/72) و"بغية الوعاة"(1/578) .

2 انظر: "سير أعلام النبلاء"(14/256) و"تاريخ بغداد"(5/26- 30) .

ص: 65

(المقري محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت) أبو الحسين المقري المعروف بابن شنبود، روى عن أبي مسلم وبشر بن موسى وخلق، وكان يختار حروفاً أنكرها أهل زمانه عليه، وصنف أبو بكر بن الأنباري محمد بن القاسم الحافظ -الذي كان يحفظ في كل جمعة عشرة آلاف ورقة- كتاباً في الرد عليه.

كان أبو بكر المذكور من أعلم الناس بالنحو والأدب، وكان لا يأكل إلا البقالي، ولا يشرب ماء إلا قريب العصر مراعاة لحفظه، عقد لابن شنبود مجلس في دار الوزير أبي علي محمد بن مقلة، وادّعى عليه بالحروف التي كان يقرؤها فأقرّ بالبعض، فضربه الوزير أبو علي بالدرة على رأسه واستتيب، فدعا على ابن مقلة فلم يفلح بعد ذلك، توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة1.

(الوزير ابن مقلة) 2 أحد المشاهير الكتّاب محمد بن علي بن الحسين بن عبد الله بن علي المعروف بابن مقلة الوزير، كان له بستان كبير جداً، وعليه- جمعيه- شبكة من أبريسم، وفيه من الطيور والقماري والهزار والطواويس شيء كثير، وفيه من الغزلان وبقر الوحش وحميره والنعام والأيل شيء كثير أيضاً. وولي الوزارة لثلاثة من الخلفاء المقتدر والقاهر والراضي، وبنى له داراً فجمع عند بنائها خلقاً كثيراً من المنجّمين، فاتفقوا على أن تبنى في الوقت الفلاني، فأسس جدرانها بين العشاءين كما أشاروا، فما لبث بعد استتمامها إلا يسيراً، وقد أنشد فيه بعض الشعراء:

قل لابن مقلة لا تكن عجلاً

واصبر فإنك في أضغاث أحلام

تبني بأنقاض دور الناس مجتهداً

داراً ستنقض أيضاً بعد أيام

ما زلت تختار سعداً تطلبن لها

فلم يوف بها من نحس بهرام

إن القرآن وبطليموس ما اجتمعا

في حال نقض ولا في حال إبرام

1انظر: "تاريخ بغداد"(1/ 280- 281) .

2 انظر: "سير الأعلام"(15/224) و"البداية والنهاية"(11/195) و"النجوم الزاهرة"(3/268) .

ص: 66

ثم عُزل عن وزارته، وأُحرقت داره، وانقلعت أشجاره، وقطعت يده، ثم قطع لسانه، وأغرم ألف ألف دينار، ثم سجن وحده مع الكبر والضعف والضرورة، وكان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق يدلى الحبل بيده اليسرى ويمسكه بفيه، وقاسى جهداً جهيداً، حتى مات في الحبس سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، ومن نظمه وهو يبكي على يده:

إذا ما مات بعضك فابك بعضاً

فإن البعض من بعض قريب

قال: والنكبات كثيرة لا تُحصى، وفيما ذكرناه مقنع، فإن الكتاب كله أنموذج ومسودة في بابه والله تعالى أعلم. انتهى ما قصدنا نقله من كتاب "الفلاكة" للإمام الحافظ الشيخ شهاب الدين. وقد ذكر عدداً كثيراً من الأئمة المفلوكين الذين أصيبوا بأنواع المصائب والبلايا، وهذا الكتاب فريد في بابه.

ولصاحب الأغاني أبي الفرج الأصفهاني كتاب سماه (مقاتل الطالبيين) ذكر فيه ما لاقاه أهل البيت النبويّ من المصائب والنوائب من القتل والحبس وغير ذلك من الخطوب التي جرت عليهم، ويكفيك منها الطامة الكبرى، والمصيبة التي لم تزل عين الدين المحمّدي منها عبرى، وهي ما فعلوه بريحانة الرسول، وقرة عين فاطمة البتول، وهو من أكبر سادات الأمة، وأعز أبناء بني الرحمة، فبأي وجه يلاقي من تجرأ على هذه الجريمة جد أولئك الأئمة.

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه

والصور في نشر الخلائق ينفخ

لا بد أن ترد القيامة فاطم

وقميصها بدم الحسين ملطّخ

فيقال للنبهاني: هل كان ما أصاب أولئك الأكابر الأماجد لفساد في الدين؟ أم لخلل في العقائد؟! كلا بل ذلك فضل من الله تعالى عليهم، وإعلاء لشأنهم، ابتلوا فصبروا، والدرجات الرفيعة لا تُنال إلا بالثبات على الأهواء، وهيهات أن تحصل راحة بلا تعب وهيهات، وفي الخبر: "حُفّتِ الجنة بالمكاره، والنار

ص: 67

بالشهوات" 1. والعيش الرغد والاتكاء على الأرائك وإقبال الدنيا؛ إنما يكون لمثل النبهاني وأضرابه، لا لمثل شيخ الإسلام وأحزابه.

في النفس أشياء لا أستطيع أذكرها لو قلتها قامت الدنيا على ساق

والمقصود؛ أن ما أصاب الشيخ ابن تيمية وأصحابه هو مما يزيد ذوي الألباب بصيرة على علوّ قدره، ورفعة ذكره، ولكن الجهول الحسود لما نظر بعين السخط رأى الحسنات سيئات، والمدائح قبائح.

بليت به جهولاً جاهلياً

ثقيل الروح مذموماً بغيضاً

ولم يك أكثر الطلاب علماً

ولكن كان أسرعهم نهوضاً

وستقف إن شاء الله تعالى على حاله، ومبلغ علمه، وسيكون لنا إلمام على هذه المسألة مرة بعد أخرى، كلما عاد إليها الخصم، فهناك ترى ما تنشرح له الصدور.

الأمر السابع من تلك الأمور: أن من علم حال النبهاني -وما هو عليه من المعرفة وما يعتقده من العقائد ويراه من الآراء -لم يلتفت إلى ما ذكره في كتابه الذي سماه "شواهد الحق" ولا غيره من هذيانه الصريح، فإن الرجل جاهل كما ستعلم من رد كتابه هذا، سقيم الفهم بأخبار العدول الثقات ورواية الصادقين من الرواة، وما نشره من هذيانه أعدل شاهد على ذلك، وأصح دليل على ما هنالك، فضلاً عما ذكره فيه جهابذة العصر الذين رأوه وخالطوه، وعرفوا حاله وشاهدوا أعماله، ومع ذلك نذكر كلام بعضهم فيه، ليحمد الله من عوفي من شقائه وعضال دائه.

(قال الفاضل العلامة السيد بدر الدين الحلبي- متع الله المسلمين بحياته- في كتابه "الإرشاد والتعليم" - عند ذكره مقالات الأمم- ما نصه:-

1 أخرجه البخاري (6487) ومسلم (2823) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (2822) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 68

"ومن شنيع مقالاتهم في الإسلام قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان، يريدون بذلك: أنه ما من زمان إلا وهو فيه موجود، ولا من مكان إلا وهو فيه موجود -قال حفظه الله-: وهذه المقالة الشنيعة لم نرها لأحد من المتكلمين المتقدمين منهم والمتأخرين، ولا رأيناها في كتب العقائد، ولا كنا نظن أحداً يقول هذه المقالة الشنيعة، وإنما ذكرها الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني البيروتي، صاحب الكتب الكثيرة في الأدعية والصلوات في منظومة له سماها "طيبة الغراء" ناقلاً لها عن البرهان الحلبي. قال: ذكر يوسف النبهاني أنه اطلع على رسالة ألفها البرهان الحلبي في هذا الموضوع، فطالعها وانتفع بها.

قال: وهذه مقالة شنيعة في الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وإنزال له فوق منزلته التي أنزله الله بها، فإن هذا إشراك للنبي صلى الله عليه وسلم في أخص أوصاف الباري جل شأنه، ومهما يأوي الناس لإصلاح هذه المقالة الشنيعة فلن يجدوا إلى الخروج عن قبيحها سبيلاً، والأمر لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ويا ليت شعري أي دليل قام عند هذا الذي قال هذه المقالة حتى قال بها، هل تلا في ذلك آية منزلة أو حديثاً صحيحاً؟ إن قال ذلك فقد كذب وشهد على نفسه بالكذب، أو ساق الدليل الذي أورده المتكلمون على أن الباري جل شأنه لا يحويه زمان ولا مكان فكيف النبي صلى الله عليه وسلم؟! فحكم له بما حكم للباري جل وعلا، فهو عين الشرك الصريح، ومثل هذه العقائد الفاسدة الباطلة الكاذبة يلقيها أهل الغفلة من المنتمين للعلم في آذان العامة، فتصادف منهم قبولاً وتجتمع عليها قلوبهم حتى يصير من المتعذر نزعها من أذهانهم، وربما كفّروا من أنكرها عليهم، ورأوا أن إنكار ذلك نوع من الإلحاد في الدين، واستخفاف بصاحب الشريعة المطهرة صلى الله عليه وسلم".

وقال أيده الله تعالى:"ومثل هذه العقيدة في الشر أو أقل منها فساداً دعوى بعض المغفلين ممن ينتمون إلى العلم أن النجي صلى الله عليه وسلم كان يعلم جميع ما كان وما يكون، ولأهل هذه العقيدة دلائل على هذه المقالة الشنيعة كلها مبنية على مقدّمات

ص: 69

فاسدة أوقعها في قلوبهم المبالغة في إطراء النبي صلى الله عليه وسلم، المنهي عنه بقوله:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى"1. وأحاديث موضوعة كاذبة وقعت إليهم فاعتقدوا صحتها، وهي مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويكفي لمن ينكر هذه العقيدة أنه لم يقم دليل من كتاب أو سنة صحيحة عليها، مع الجزم باتفاق الكل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض له الأمر فيتوقف فيه إلى أن يأتيه الوحي من الله به، وحديث الإفك على الصدّيقة الطاهرة شاهد، ومن ادّعى أنه أفيضت عليه بعد ذلك العيون فليأتِ بآية أو حديث، ولا طريق لإثبات مثل هذا إلا الخبر الصادق.

وهذه العقيدة هي الفرقان بين أهل السنة وبين المبتدعة عند أكثر مسلمي الهند، فمن كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم جميع ما كان وما يكون فهو من أهل السنة والخير، وإن لم يكن يعتقد ذلك فهو من أهل البدعة والفساد، ولعلمائهم في ذلك رسائل لا تكاد تحصى، شحنوها بالدلائل الفاسدة على هذه المقالة الشنيعة والرد على مخالفيهم فيها.

قال: وقد سُئِلْتُ عن هذه المسألة وأنا بالهند سنة تسع عشر وثلاثمائة بعد الألف، وكان قصد السائل تعرف عقيدتي بما أعرف من الحق الذي لا مرية فيه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله تعالى على كثير من المغيبات لمصالح يقتضيها التشريع، ولم يطلعه على كل ما كان ويكون، وبينت له أن هذا لا يحط من عليِّ مرتبته عليه السلام، بل من الأدب مع الله ومعه أن لا نصفه بما لم يصف نفسه به، ولا أن نثبت له ما لم يخبر هو بثبوته لنفسه.

فأنكر علينا ذلك، وتحركت نفسه للمحاجّة، فقلنا له: أترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم عدد الشعرات التي في لحيتك؟ فقال: لا. فقلنا: أفترى أن لحيتك ليست من المكونات؟ فانقطع في ميدان المناظرة قبل أن ينقل فيه قدماً. إلا أن هذا

1 أخرجه البخاري (3445، 6830) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتمامه:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ؛ فقولوا: عبدُ الله ورسوله".

ص: 70

الشيخ الهندي ما زال بعد أن فارقني يذكر من فساد عقيدتي بين العامة، وتطاولي على الدين، واحتقاري للشرع ما وسوس له به شيطانه، وسولته له نفسه الخبيثة، حتى ألهب قلوبهم حقداً عليّ وغيظاً مني، وتحركت نفوسهم الشريرة لإيذائي على حق أذعته فيهم ونشرته بينهم، وبدعة أنكرتها عليهم، وبيّنتُ لهم فسادها وأنها ليست من الدين".

وذكر قصة جرت له بسبب ذلك في أحد مساجد الجامعة في الهند، ثم قال:"هكذا بذر علماء السوء بذور الخرافات والبدع والعقائد الفاسدة في قلوب العامة، فتمكنت في قلوبهم، حتى تعذر على أحذق الناس بأمراض القلوب علاجها، واختيار دواء نافع لها، وليس هذا محل بسط الكلام على هذا الموضوع، وموعدنا إن شاء الله القسم الثاني من هذا الكتاب وهو قسم الإرشاد، فإنه به أمس وأشد ارتباطاً". انتهى كلامه. وقد شفى به صدور المؤمنين جزاه الله خير الجزاء، ومقصودنا منه ما يتعلق بمقالة النبهاني وخرافته، وسقنا الكلام كله حرصاً على ما فيه من الفوائد.

ثم إن النبهاني هذا أخذ مقالته هذه من أهل الاتحاد والحلول، قال عبد الكريم الجيلي: إنّ "هو" من قوله: (قل هو الله أحد) راجع إلى ضمير الخطاب المستتر في (قل) المقدّر بِأنْتَ؛ مراداً به الإنسان الكامل، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا ضرب من الهذيان تفرّع على قول محي الدين 1: "سبحان من أظهر الأشياء

1 هو محيي الدين أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن أحمد الطائي الحاتمي، المعروف بابن عربي.

ولد سنة (560) في مرسيه بالأندلس، وانتقل إلى إشبيليه، ونزل دمشق وتوفي بها سنة (638) .

له تصانيف كثيرة ملأها بالشحطات، والقول بوحدة الوجود، مما أدى بجماعة من أهل العلم إلى الحكم بكفره.

قال الذهبي في "السير": "ومن أردأ تواليفه كتاب "النصوص" فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة. فواغوثاه بالله".

انظر: "سير أعلام النبلاء"(23/ 48) و"ميزان الاعتدال"(3/ 108) و "شذرات الذهب"(5/190) و "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي" للبقاعي و"جزء فيه عقيدة ابن عربي وما قال المؤرخون والعماء فيه" لتقي الدين الفاسي.

ص: 71

وهو عينها". وقال الجيلي أيضاً: إن النصارى لم يكفروا بأصل الحلول، وإنما كفروا بالحصر الذي تضمّنه كلامهم: إن الله هو المسيح لا غيره من الأشياء، ولو عمموا لم يكفروا! وهذا الكلام مما تقشَعِرُّ منه جلود المؤمنين. فقول النبهاني: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان- ناقلاً عن البرهان الحلبي- هو من شعب ذلك الوادي.

وللقوم غلو في هذا المقام يأباه المتشرعون، ومنه قولهم: إن الشرائع المتقدمة على ظهور صلى الله عليه وسلم شريعته، والأنبياء من قبله نوّابه في التبليغ، ووقوع النسخ في هاتيك الشرائع كوقوعه في شريعته التي ظهر بها، وعلى هذا قول قائلهم:

كل النبيين والرسل الكرام أتوا

نيابة عنه في تبليغ دعواه

فهو الرسول إلى كل الخلائق في

كل الدهور ونابت عنه أفواه

وقال ابن الفارض على لسان الحقيقة المحمدية:

وإني إن كنت ابن آدم صورة

فلي فيه معنى شاهد بأبوتي

ومن ذلك دعواهم لرؤياه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فقد ادّعاها غير واحد منهم، وادّعوا أيضاً الأخذ منه يقظة، قال الشيخ سراج الدين بن الملقِّن في "طبقات الأولياء" في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي: كان كثير الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومناماً، فكان يقال إن أكثر أفعاله يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم يقظة ومناماً، ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة، قال له في إحداهن: يا خليفة؛ لا تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي!

وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في "لطائف المنن": قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي: يا سيدي! صافحني بكفك هذه فإنك لقيت رجالاً وبلاداً! فقال: والله ما صافحت بكفي هذه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: وقال الشيخ لو حجب

ص: 72

عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين! ومثل هذه النقول كثير في كتب القوم جداً.

وفي "تنوير الحالك" لجلال الدين السيوطي الذي رد به على منكري رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في اليقظة طرف من ذلك، وكل ما أتى به لا دليل فيه، وأطال الكلام في ذلك، ثم قال: وقد ذُكِرَ عن السلف والخلف وهَلُمَّ جراً ممن كانوا رأوه في اليوم، فرأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوّشين فأخبرهم بتفريجها، ونصّ لهم على الوجوه التي منها فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص! انتهى المراد منه.

وليت شعري لم كان عثمان يطلب شاهدين من كل من أتاه بآية يشهدان على أنها من القرآن؟! وهلاّ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وسأله عن تلك الآية، وهو وسائر الصحابة أحق ممن ذكر بهذه الفضيلة، وقد وقع بينهم ما وقع من الاختلاف لم يره أحد منهم ويدفع إشكاله؟! والسيوطي رحمه الله كان فيما ألفه من الكتب حاطب ليل، في كل كتاب له مذهب ومشرب، وما أتى به في كتابه هذا لا يُعوَّلُ عليه كما سيرد عليك مردوداً.

ثم إن رؤيته صلى الله عليه وسلم عند القائلين بها يقظة أكثر ما تقع بالقلب، ثم يترقّى الحال إلى أن يُرى بالبصر على ما زعموا، واختلفوا في حقيقة المرئي؛ فقال بعضهم: المرئي ذات المصطفى بجسمه وروحه. وأكثر أرباب الأحوال على أنه مثاله، وبه صرّح الغزالي فقال: ليس المراد أنه يُرى جسمه وبدنه، بل مثالاً له، صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه، قال: والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه، بل هو مثال له على التحقيق.

وفصّل القاضي أبو بكر بن العربي فقال: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، واستحسنه السيوطي، وقال- بعد نقل أحاديث وآثار- ما نصه: فحصل من مجموع هذا الكلام-

ص: 73

النقول والأحاديث- أن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌّ بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض وفي الملكوت. وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيّبت الملائكة -مع كونهم أحياء بأجسادهم- فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمّن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليها، لا مانع من ذلك، ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال، انتهى.

وذهب إلى نحو هذا في سائر الأنبياء عليهم السلام، فقال: إنهم أحياء رُدّت إليهم أرواحهم بعد أن قبضوا، وأذن لهم في الخروج من قبورهم، والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي! وأتى بأخبار كثيرة تشهد له، وكلها لا أصل لها، ولا متصرف في الكون إلا الله تعالى، كما سنبرهن على ذلك إن شاء الله، ويكفي في إبطال هذا القول قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} 1 فإذا أمسك التي قضى عليها فمن أين لها التمكن من التصرف؟ ومن أين لأحد أن يراها؟.

وأعجب من ذلك كله؛ ما نقله الشيخ صفيّ الدين بن أبي المنصور، والشيخ عبد الغفار، عن الشيخ أبي العباس الطنجي، من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزعم من زعم أن السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسلام في زمان واحد في إقطار متباعدة يخل به، ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم، وقد سئل عن ذلك فأنشد:

كالشمس في كبد السماء وضوءها

يغشى البلاد مشارقاً ومغارباً

اللهم إنا نعوذ بك من أن نقول ما لا ترضاه، وأن تعصمنا من الزيغ والزلل والاشتباه.

1 سورة الزمر: 42.

ص: 74

والمقصود: أن قول النبهاني- الذي سبق بيانه في كلام العلامة السيد بدر الدين الحلبي- وما وافقه من أقوال الذين ذكرناهم كلها من واد واحد، وأنها متفرعة على القول بالحلول والاتحاد، غير أن كلامهم ليس صريحاً في ذلك، ولكن الأمر كما قيل:"ربّ كناية أبلغ من تصريح" فعلى المسلم التجنب عن مثل هذه الأقاويل، والأخذ بالكتاب والسنة، وبما كان عليه سلف الأمة.

فخير أمور الدين ما كان سنة

وشرّ الأمور المحدثات البدائع

هذا حال النبهاني في عقائده، وجهله في العلوم النقلية والعقلية أشهر من أن يُنَبّه عليه، كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.

لكن بقي علينا بيان حاله، وما هو عليه إلى اليوم من أفعاله وأعماله، وحيث أني لم أقف على حقيقة أمره -وإن كان ما نشره من الكتب تطلعنا على حُلْوِهِ ومُرّه- سألتُ عنه بعض الأفاضل من الأصحاب، ممن رآه واجتمع به، وعرف ما عنده من الفصول والأبواب، فكتب كلاماً طويلاً فيه، وعرّفني بظاهره وخافيه، فمن ذلك قوله: إن النبهاني قد قضى شطراً من عمره في المحاكم النظامية، وتسمى أيضاً بالمحاكم القانونية، ثم ذكر كلاماً طويلاً في بيان حال تلك القوانين، وما فيها من المخالفة لقواعد الدين، ثم قال: إن النبهاني تولّى رياسة الجزاء في بيت الله المقدس عدداً كثيراً من الأعوام، وبين حقيقة هذا المنصب وما يتعاطاه الرئيس من الأحكام، قال: ثم تحول إلى رياسة محكمة البداية في بيروت، وبين ما يرى في هذا المحل من الوظائف والمواد، ثم قال: وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت.

قلت: إن كان صادقاً عليه ذلك المقال يكون تائهاً في أودية الجهل والضلال، فكيف يدّعي الإيمان فضلاً عن دعواه المحبة لسيد ولد عدنان، وهو معرض عن هديه وسنته، ناء عن العمل بشريعته، فهلاّ قرأ قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ

1 سورة المائدة: 44.

ص: 75

الظَّالِمُونَ} 1 {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2. وسنذكر إن شاء الله تعالى فيما سيأتي تفصيل هذه المسألة وبيان حكمها بما ينشرح لها الخاطر.

ثم ذكر شيئاً كثيراً من بيان أحواله مما يطول ذكره.

وظنّ يوسف النبهاني المسكين أنه قد خلا له الجو فصفّر، وطاول العلماء الأعلام بما ذكر في كتابه الذي وسمه بدلائل الحق ما ذكر، وصال وجال وقال ما قال:

وإذا ما خلا الجبان بأرض

طلب الطعن وحده والنزالا

وتصدِّي مثله لما تصدِّي له دليل على جهله، ومزيد غباوته وخفة عقله، بل هو كما قيل:

لو أن خفة عقله في رجله

سبق الغزال ولم يفته الأرنب

ولولا الترفع عن مكافأة أمثاله، والأنفة من مخاطبة أشكاله، لعرفناه قدره، وأوضحنا له شأنه وأمره، ولكن مثله لا يخاطب ولا يعاتب، ولا يؤاخذ بالهذيان ولا يعاقب، وإن الظفر بمثله شر من الهزيمة، والتلطخ بذكره قريب من محاورة بهيمة.

إذا ما أتيت الأمر من غير بابه

ضللت وإن تقصد إلى الباب تَهْتَدِ

والمقصود من ذكر هذه النبذة من أحوال النبهاني؛ أن الذي خاصم أهل الحق كلهم على هذا المنوال، وقد تشابهوا كأسنان الحمار في الاتفاق على الضلال، وباطل الأقوال، فلا يغترّ بما زخرفوه وزوّروه، فإنهم ليسوا من رجال العلم والكمال، والله أعلم بحقيقة الحال.

الأمر الثامن من تلك الأمور: لا بد للمتناظرين من مرجع يكون مهيمناً على

1 سورة المائدة: 45.

2 سورة المائدة: 47.

ص: 76

الحق الذي يدّعيه كل منهما، وإلا فالمناظرة لا تتم، قال الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز: كل متناظرين على غير أصل -يكون بينهما يرجعان إليه إذا اختلفا في شيء من الفروع- فهما كالسائر على غير طريق، وهو لا يعرف المحجة فيتبعها، ولا يعرف الموضع الذي يريده فيقصده، وهو لا يدري من أين جاء فيرجع، فيطلب الطريق أو هو على ضلال.

قال: ولكنا نؤصل بيننا أصلاً، فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه فيه وإلا رمينا به ولم نلتفت إليه. ثم قال: الأصل بيني وبين خصمي ما أمرنا الله عز وجل واختاره لنا، وعلّمناه وأدّبناه به في التنازع والاختلاف ولم يكلنا إلى غيره، ولا إلى أنفسنا واختيارنا فنعجز، ثم بينه بقوله، قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1. فهذا تعليم من الله، وتأديبه واختياره لعباده المؤمنين ما أصّله المتنازعون بينهم. قال: وقد تنازعت أنا وبِشْرٌ وبيننا كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما أمر الله عز وجل، فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى كتاب الله عز وجل، فإن وجدناه فيه وإلا فإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن وجدناه فيها وإلا ضربناه في الحائط ولم نلتفت إليه، إلى آخر ما قاله في حضرة الخليفة العباسي عند مناظرته مع بِشْر.

وقال الإمام العلامة الشيخ عبد اللطيف في موضع من كتبه: "اعلم أن مستند المسلمين في العقائد ومرجعهم في أصول الدين وفروعه إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع من سلف من علماء الأمة، والتقليد في باب أصول الدين ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله لا يفيد ولا يجدي عندهم، وإن كان المقلَّد -بفتح اللام مع التشديد- فاضلاً عالماً في نفسه "إلى آخر ما قال.

وقال في موضع آخر: "إن الأصل المعتمد في هذا الباب وغيره من أصول

1 سورة النساء: 59.

ص: 77

الدين وفروعه؛ وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، وإجماع علماء الأمة، هي هذه الأدلة الشرعية بالإجماع، والقياس مختلف فيه، والجمهور على قبوله بشروط1، وليس المعوّل على كلام الآحاد من أهل العلم والدين وإن علت درجتهم وارتفعت رتبتهم، ولا تصلح المعارضة بقول فلان وفلان من أهل العلم والدين، ولا ينتقض الدليل بمخالفة أحد كائناً من كان" انتهى.

وقال في موضع آخر: "إن العمدة عند المسلمين في مسائل أصول الدين وفروعه؛ على كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أهل العلم، ولا تُذكر أقوال أهل العلم إلا تبعاً وبياناً، لا أنها المقصودة بالذات والأصالة، ثم المسائل التي لا يلزم بها المجتهد غيره هي ما كان للاجتهاد فيه مساغ، ولم تخالف كتاباً ولا سنة صريحة ولا إجماعاً، وما خالف ذلك فهو مردود على قائله، ويلزمه أهل العلم بصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال إمام الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى: ما منا إلا رادٌ ومردودٌ عليه إلا صاحب هذا القبر- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسن منه قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ

} 2 الآية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكتِهِ يأتيه الأمر من أمري، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله! ألا وإني أوتيت الكتابَ ومثله معه.."3. فإذا كان ردُّ السنة محرّماً لا يجوز -ولو ردّها ظاناً أن القرآن لا يدل عليها- فكيف رد الكتاب والسنة وعدم الإلزام بهما لخلاف أحد من الناس كائناً من كان؟.

ومسائل معرفة الله ووجوب توحيده، وإسلام الوجه له وحده لا شريك له،

1 انظر في ذلك رسالة "القياس بين مؤيّديه ومعارضيه" للدكتور عمر الأشقر، نشر الدار السلفية بالكويت.

2 سورة النساء: 59.

3 حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 130- 131) أو رقم (17223- قرطبة) وأبو داود (4604) والترمذي (2664) وابن ماجه (12) والحاكم (1/109) والدارقطني (4/286) والدارمي (1/153/ 586) والبيهقي (7/76) وغيرهم.

من طرق؛ عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه مرفوعاً. وللحديث طرق كثيرة عن المقدام وغيره من الصحابة، وانظر:"الصحيحة"(2870) .

ص: 78

ومسائل ربوبيته، واختصاصه بالخلق والإيجاد والتدبير، ونحو ذلك مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام، كصمديته تعالى، ونفي الكفو والصاحبة والولد، وغناه بذاته، ومباينته لمخلوقاته، وعموم قدرته، وإحاطة سمعه وبصره، وعلمه بجميع المعلومات والمبصرات والمسموعات، ونحو ذلك من أصول الدين؛ فكل الرسل متفقة عليه، وجميع الكتب داعية إليه، والعقول الصحيحة حاكمة به، فكل اجتهاد خالفه فباطل مردود، لا يسوغ العمل به في شريعة من الشرائع، ولا عند عالم من العلماء، ولا فقيه من الفقهاء.

ثم قال: قال شمس الدين في "هدايته"1: بل جميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقه على أصول:

أحدها: أن الله تعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه، ولا ند ولا ضد، ولا وزير ولا مشير ولا ظهير، ولا شافع إلا من بعد إذنه.

الثاني: أنه لا والد له ولا ولد، ولا كُفؤ ولا نسب بوجه من الوجوه، ولا زوجة.

الثالث: أنه غني بذاته، فلا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه.

الرابع: أنه لا يتغير، ولا تعرض له الآفات، من الهرم والى س ض، والسِنَةُ والنوم، والنسيان، والندم والخوف، والهم والحزن، ونحو ذلك.

الخامس: أنه لا يماثله شيء من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

السادس: أنه لا يحل بشيء من مخلوقاته ولا يحل في ذاته شيء منها، بل هو بائن عن خلقه بذاته والخلق بائنون عنه.

1 انظر: "هداية الحيارى" لابن القيم (ص522- 525) .

ص: 79

السابع: أنه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وعال على كل شيء، وليس فوقه شيء البتة.

الثامن: أنه قادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء يريده، بل هو فعال لما يريد.

التاسع: أنه عالم بكل شيء، يعلم السِّرَّ وأخفى، ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} 1 ولا متحرك ولا ساكن، إلا وهو يعلمه على حقيقته.

العاشر: أنه سميع بصير، يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنّن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، قد أحاط سمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، وعلمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع المقدورات، ونفذت مشيئته في جميع البريّات، وعمّت رحمته جميع المخلوقات، وسع كرسيه الأرض والسموات.

الحادي عشر: أنه الشاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلِفُ أحداً على ملكه، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده، أو يعاونه أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم.

الثاني عشر: أنه الأبدي الباقي، الذي لا يضمحل ولا يتلاشى، ولا يعدم ولا يموت.

الثالث عشر: أنه المتكلّم المُكَلّم، الآمر الناهي، قائل الحق، وهادي السبيل، مرسل الرسل، ومنزل الكتب، قائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

1 سورة الأنعام: 59.

ص: 80

الرابع عشر: أنه الصادق في وعده وخبره، فلا أصدق منه قيلاً، ولا أصدق منه حديثاً، وهو لا يخلف الميعاد.

الخاص عشر: أنه تعالى صمد بجميع معاني الصمدية، يستحيل عليه ما يناقض صمديته.

السادس عشر: أنه قدوس سلام، فهو المبرّأ من كل عيب وآفة ونقص.

السابع عشر: أنه الكامل، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه.

الثامن عشر: أنه العدل، الذي لا يجور ولا يظلم، ولا يخاف عباده منه ظلماً.

وهذا ما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر شيء بخلافه.

فترك المثلثة عبّاد الصليب هذا كله، وتمسّكوا بالمتشابه من المعاني، والمجمل من الألفاظ، وأقوال من قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل، وأصول المثلثة ومقالاتهم في رب العالمين تخالف هذا كله وتباينه أشد المخالفة والمباينة" انتهى.

قال:"فقف وتأمل هذه الأصول وأولها- وهو أنه تعالى لا شريك له ولا ند ولا شافع إلا من بعد إذنه- ووازن بينه وبين قول الغلاة" إلى آخر ما قال.

فعُلِمَ من جميع ما نقلناه أن الدلائل إنما تكون من الكتاب والسنة والإجماع، وعليه كتب الأصول، وأما القياس، فقد اختلف فيه الأصوليون، ومن أراد تفصيل الكلام في هذا المقام فعليه بتلك الكتب. وقد جمع العلامة والفاضل الفهامة، الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي1- حفظه الله تعالى ومتّع المسلمين

1 هو: محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل القاسمي الحلاق. علامة الشام وإمامها في العلم، مولده ووفاته فيها؛ ولد سنة (1283) وتوفي سنة (1332هـ) .

كان سلفيَّ العقيدة، محارباً للبدع والمحدثات.

له كتب قيمة كثيرة؛ أهمها: "قواعد التحديث" و"إصلاح المساجد من البدع والعوائد" وغيرهما. ترجمته في "الأعلام" للزركلي (2/135) .

ص: 81

بحياته- عدة رسائل في أصول الفقه، ترشد الناظر إليها إلى الحق، وتغنيه عن كثير من المطولات.

فهذه هي الدلائل لا ما ذكره النبهاني من استدلاله على مطالبه بكلام السبكي أو ولده، أو ابن حجر المكّي وأضرابهم، وكما استدل على مشروعية الاستغاثة بغير الله -في الصحيفة الخامسة والستين ومائة- بما نقل عن أحمد الرفاعي أنه قال: من كانت له حاجة فليستقبل عَبَّادان نحو قبري، ويمشي سبع خطوات ويستغيث بي، فإن حاجته تُقضى إلخ.

فمثل هؤلاء إذا قالوا أقوالاً تخالف الكتاب والسنة يضرب بها على وجوه قائليها كان من كان، ومَنْ ابن حجر والسبكي والرفاعي ونحوهم حتى نعارض بكلامهم وحي الرسول صلى الله عليه وسلم ولاسيما في مثل هذه المطالب العالية.

فكلام النبهاني من أوله إلى آخره على هذا المنهج، لا يستدل على مطلوبه إلا بحديث موضوع، أو قول أحد الغلاة، أو قول من لا يؤخذ بقوله، على أنه مع بطلانه مقلّد فيه تقليد الخوارج أبا أمامة، وهكذا شأن أسلافه، فلا ينبغي أن يلتفت إلى أقواله، ولولا خوف التطويل، لأتينا في هذا المقام بما يشفي العليل، ويروي الغليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وقد آن للقلم أن يجري في ميدان المناظرة، ويثير غبار البحث على وجه الخصم الألد الذي ركب متن المكابرة، وأسأل الله تعالى أن لا يذيق فم قلمي صاب الافتراء، وأن يعصمني من الخطأ والزلل في الأقوال والأفعال، فهو الملاذ والملجأ من كل بلاء، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

ص: 82