المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم] - غاية الأماني في الرد على النبهاني - جـ ١

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌خطبة الكتاب

- ‌(الأمور التي يجب التنبيه عليها، والإشارة بيسير العبارة إليها)

- ‌(ما ذكره شيخ الإسلام في الرسالة الماردينية مما يتعلق بالمقصود)

- ‌[كلام النبهاني على الاجتهاد، والرد عليه]

- ‌[الكلام على كتب التفسير والاحتياج إلى تفسير موافق لأفكار أهل العصر]

- ‌[الكلام على قول النبهاني: إن الذي يتصدّى لطلب تفسير مشتمل على العلوم العصرية ملحد]

- ‌[الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم]

- ‌(أجوبة لشيخ الإسلام على بعض اعتراضات الأخنائي)

- ‌(المقام الثاني في الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت)

- ‌(الكلام على شبه الخصم وإبطالها)

- ‌(ذكر شبة أخرى للمجوّزين للاستغاثة وإبطالها)

- ‌(ذكر المجالس التي انعقدت لمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدته الواسطية)

- ‌(كلام مفيد في تعريف البدعة)

- ‌[الرد على النبهاني فيما ادّعاه من أن ابن تيمية مُخِلٌّ بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[الكلام على كتب ومصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية]

- ‌(الذاهبون إلى حياته)

- ‌[الكلام على كتاب "منهاج السنة" لشيخ الإسلام]

- ‌الكلام على كتاب "جلاء العينين

- ‌(ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وقدس روحه)

- ‌عودة إلى الكلام على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

الفصل: ‌[الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم]

[الكلام على قول النبهاني أن الوهابية مبتدعة غير أن ضررهم دون من قبلهم]

وأخذ يشم المسلمين بكل ما هو أهل له، ولا بد من الكلام على حقيقة ما عليه أهل نجد، وبيان حال خصومهم وعقائدهم، ليتبين الناظر المنصف من المبتدع ومن الزائغ عن المحجة البيضاء.

قال العلامة الشيخ عبد اللطيف النجدي1- من أحفاد الإمام الشيخ محمد عليهما الرحمة- في كتابه (منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس) : "ونقصّ عليك شيئاً عن سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونذكر طرفاً من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان، وأغراه، وبالغ في كفره واستهواه، فنقول: قد عُرِفَ واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته، ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته؛ أنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله تعالى، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحّت بها الأخبار النبوية، وتلقّاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها ويُمِرُّونها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان، وسلف الأمة وأئمتها؛ كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وطلحة بن عبيد الله، وسليمان بن يسار وأمثالهم، ومن الطبقة الثانية؛ كمجاهد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وابن سيرين، وعامر الشعبي، وجنادة بن أبي أمية،

1 هو الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب النجدي. ولد سنة (1225 هـ) ببلدة الدرعية، وارتحل إلى مصر، وتوفي بالرياض سنة (1292هـ) . ترجمته في:"معجم المؤلفين" لكحالة (2/215- ط. الرسالة) و"هدية العارفين"(1/619) . والكتاب المذكور طبع في دار العاصمة بتحقيق الشيخ عبد السلام البرجس.

ص: 127

وحسان بن عطية، وأمثالهم، ومن الطبقة الثالثة؛ علي بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون، وكحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس، وإسحق بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري، وإخوانهم وأمثالهم ونظرائهم من أهل الفقه والأثر في كل مصر وعصر.

وأما توحيد العبادة والإلهية؛ فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه، يوضح ذلك أن أصل الإسلام وقاعدته شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان. وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين، ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه كائناً من كان. وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الإنس والجن، وأرسل لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وهو يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 3 وقال تعالى عنه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 4

1 سورة النحل: 36.

2 سورة الأنبياء: 25.

3 سورة الزخرف: 26- 28.

4 سورة الشعراء: 75- 77.

ص: 128

وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 2 وذكر عن رسله نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3. وقال عن أهل الكهف: {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 4 وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 5 في موضعين من كتابه، وقال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 6.

قال رحمه الله: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها يدخل فيه شرك عباد القبور، وعباد الأنبياء، والملائكة، والصالحين، فإن هذا هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يدعونها، ويلتجئون إليها، ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله، كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع من كتابه، كقوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 7 وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 8. وقال

1 سورة الممتحنة: 4.

2 سورة الزخرف: 45.

3 سورة هود: 50، 61، 84.

4 سورة الكهف: 13- 15.

5 سورة النساء: 48، 116.

6 سورة المائدة: 72.

7 سورة يونس: 18.

8 سورة الزمر: 3.

ص: 129

تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 1.

قال رحمه الله: ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السموات والأرض، واستقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 2. فهم معترفون بهذا مقرون به لا ينازعون فيه، ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة، ولا يخفى ما في التنكير من العموم والشمول المتناول لا قل شيء وأدناه من ضر أو رحمة، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3. وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4. ذكر فيه السلف- كابن عباس وغيره- إيمانهم هنا بما أقروا به من ربوبيته وملكه، وفسر شركهم بعبادة غيره.

قال رحمه الله: وقد بين القرآن في غير موضع أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالكواكب، ومنهم من أشرك بالأصنام، وقد رد عليهم جميعهم وكفّر كل أصنافهم، كما قال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5 وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ

1 سورة الأحقاف: 28.

2 سورة الزمر: 38.

3 سورة المؤمنون: 84- 89.

4 سورة يوسف: 106.

5 سورة آل عمران: 80.

ص: 130

مَرْيَمَ} 1 الآية. وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 2. ونحو ذلك في القرآن كثير، وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين كعبادة الكواكب والأصنام من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله.

قال رحمه الله: وهذه العبادات التي صرفها المشركون لآلهتهم هي أفعال العبد الصادرة منه؛ كالحب، والخضوع، والإنابة، والتوكل، والدعاء، والاستعانة، والاستغاثة، والخوف، والرجاء، والنسك، والتقوى، والطواف ببيته رغبة ورجاء، وتعلّق القلوب والآمال بفيضه ومده وإحسانه وكرمه، فهذه الأنواع أشرف أنواع العبادة وأجلّها، بل هي لبّ سائر الأعمال الإسلامية وخلاصتها، وكل عمل يخلو منها فهو خِدَاج مردود على صاحبه، وإنما أشرك وكفر من كفر من المشركين بقصد غير الله بهذا وتأهيله لذلك، قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 3 وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} 4 وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ} 5 الآية. وحكى عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 6. ومعلوم أنهم ما سوّوهم به في الخلق والتدبير والتأثير، وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع، والتعظيم والدعاء، ونحو ذلك من العبادات.

قال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين نحكم بأنهم مشركون، ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية،

1 سورة التوبة: 31.

2 سورة النساء: 172.

3 سورة النحل: 17.

4 سورة الأنبياء: 43.

5 سورة الفرقان: 3.

6 سورة الشعراء: 97- 98.

ص: 131

وما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة لا نكفر بها، ولا نحكم على أحد من أهل القبلة -الذين باينوا عباد الأوثان والأصنام والقبور- بكفر بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه، وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفرهم السلف لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة، ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج وقالته في أهل الذنوب من المسلمين.

قال رحمه الله: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلماً، بل هو حجة على ابن آدم، خلافاً لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار كالكرّامية1، ومجرد التصديق كالجهمية2، وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وسجل على كذبهم مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات، قال تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 3. فأكدوا بلفظ الشهادة وأن المؤكدة واللام والجملة الاسمية، فأكذبهم وأكد تكذيبهم بمثل ما

1 الكرّامية: نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرّام بن عراق السجستاني (225هـ) وهم مشبهة في الصفات، ومن معتقداتهم أيضاً القول بالتحسين والقبح العقليين ووجوب معرفة الله بالعقل موافقة للمعتزلة، والقول بأن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط.

انظر عنهم: "الفصل في الملل والنحل" لابن حزم (5/73-75) و"الملل والنحل" للشهرستاني (1/ 124- 130- ط. المعرفة)"والفرق بين الفرق"(ص 161- 170-ط. العلمية) و"خطط مصر" للمقريزي (2/349، 375) .

2 الجهمية: هم المنتسبون إلى الجهم بن صفوان أبي محرز مولى بني راسب الخراساني تلميذ الجعد بن الدرهم. والجهمية تطلق ويراد بها المعنى العام؛ أي: نفاة الصفات عن الله تعالى.

أو المعنى الخاص؛ أي: أتباع الجهم بن صفوان. ومن آرائهم: نفي الصفات عن الله وتعطيلها، والقول بالجبر، والقول بفناء الجنة والنار، وإنكار الرؤية والكلام، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك من معتقداتهم الباطلة.

انظر عنهم: "الفصل"(5/73) و "الملل والنحل"(1/97-99) و "الفَرق بين الفِرق"(ص158-159) و"مقالات الإسلاميين"(1/338) و"فرق معاصرة تنتسب للإسلام"(2/ 983- وما بعدها) .

3 سورة المنافقون: 1.

ص: 132

أكدوا به شهادتهم سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع والعلم البشيع الفظيع، وبهذا تعلم أن مُسمّى الإيمان لا بد فيه من الصدق والعمل، ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره فلا شهادة له وإن صلّى وزكّى وصام وأتى بشيء من أعمال الإسلام، قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضاً:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 1 الآية، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} 2 الآية، وقال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} 3 الآية.

والكفر نوعان؛ مطلق ومقيد، فالمطلق: أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول، والمقيد: أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول. حتى أن بعض العلماء كفّر من أنكر فرعاً مجمعاً عليه- كتوريث الجد والأخت- وإن صلى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين، ويصرف لهم خالص العبادة ولبّها، وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة، بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلّى وصام من جرت على لسانه.

قال رحمه الله: والصحابة كفّروا من منع الزكاة وقاتلوهم مع إقرارهم بالشهادتين، والإتيان بالصلاة والصوم والحج.

قال رحمه الله: واجتمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح مع أنهم يتكلمون بالشهادتين ويصلّون ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيرها.

وذكر ابن الجوزي أنه صنف كتاباً في وجوب غزوهم وقتالهم، سماه (النصر على مصر) قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين، فتشبيه عباد القبور بأنهم يُصَلّون ويصومون ويؤمنون بالبعث مجرد تعمية على العوام

1 سورة البقرة: 85.

2 سورة النساء: 150.

3 سورة المؤمنون: 117.

ص: 133

وتلبيس ليتفق شركهم، ويقال بإسلامهم وإيمانهم، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون.

وأما مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقالات والنحل فهو أيضاً فيها على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الهدى والدين يبرأ مما قالته القدرية النفاة والقدرية المجبرة، وما قالته المرجئة والرافضة، وما عليه غلاة الشيعة والناصبة، يوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكف عما شجر بينهم، ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم، وأقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه، لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم، وما جرى على أيديهم من فتح القلوب بالعلم النافع والعمل الصالح، وفتح البلاد، ومحو آثار الشرك، وعبادة الأوثان والنيران، والأصنام والكواكب، ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام.

ويرى البراءة مما عليه الرافضة، وأنهم سفهاء لئام، ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها؛ أبو بكر، فعمر، فعثمان، فعلي، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ويعتقد أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين وخاتم النبيين، كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، ويبرأ من رأي الجهمية القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف أهل العلم والإيمان. ويبرأ من رأي الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد ابن كلاب، القائلين بأن كلام الله هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن ما نزل به جبريل حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي، ويقول هذا من قول الجهمية، وأول من قسَّم هذا التقسيم هو ابن كلاب، وأخذ عنه الأشعري وغيره كالقلانسي، ويخالف الجهمية في كل ما قالوه وابتدعوه في دين الله، ولا يرى ما ابتدعه الصوفية من البدع والطرائق المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في العبادات والخلوات والأذكار المخالفة للمشروع، ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه، ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده، بل السنة أجل في صدره وأعظم عنده من أن تترك لقول أحد كائناً من كان. قال عمر بن عبد العزيز:"لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم". نعم عند الضرورة وعدم الأهلية

ص: 134

والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط والاستظهار يصار إلى التقليد -لا مطلقاً- بل فيما يتعسّر ويخفى.

ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة، خلافاً لغلاة المقلدين.

ويوالي الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم وإمامتهم، وأنهم من الفضل والفضائل في غاية ورتبة يقصر عنها المتطاول. ويوالي كافة أهل الإسلام وعلماءهم، من أهل الحديث والفقه والتفسير وأهل الزهد والعبادة. ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين من السلف الماضين برأي مبتدع أو قول مخترع، فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر.

ويؤمن بما نطق به الكتاب وصحّت به الأخبار وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع وأهدره الرسول. ومن نسب إليه خلاف هذا فقد كذب وافترى وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين.

وأبدى رحمه الله تعالى من التقارير المفيدة، والأبحاث الفريدة على كلمة الإخلاص والتوحيد -شهادة أن لا إله إلا الله- ما دل عليه الكتاب المصدق، والإجماع المستبين المحقق، من نفي استحقاق العبادة والإلهية عما سوى الله، وإثبات ذلك لله سبحانه على وجه الكمال المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هذا هو معناها وضعا ًومطابقة، خلافاً لمن زعم غير ذلك من المتكلمين؛ كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع، أو بأنه تعالى غني عما سواه، مفتقر إليه ما عداه، فإن هذا لازم المعنى، إذ الإله الحق لا يكون إلا قادراً غنياً عما سواه، وأما كون هذا هو المعنى المقصود بالوضع فليس كذلك والمتكلمون خفي عليهم هذا وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة هو الغاية المقصودة، والفناء فيه هو تحقيق التوحيد، وليس الأمر كذلك، بل هذا لا يكفي في الإيمان وأصل الإسلام إلا إذا أضيف إليه واقترن به توحيد الإلهية، وإفراد الله بالعبادة، والحب،

ص: 135

والخضوع، والتعظيم، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، وطاعة الله وطاعة رسوله.

هذا اصل الإسلام وقاعدته، والتوحيد الأول توحيد الربوبية والقدرة والخلق والإيجاد هو الذي بني عليه توحيد العمل والإرادة، وهو دليله الأكبر، وأصله الأعظم، كما قال تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ} 1 إلى آخر الآيات.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله:

إن كان ربك واحداً سبحانه

فاخصصه بالتوحيد مع إحسان

أو كان ربك واحداً أنشاك لم

يشركه إذ أنشاك ربٌّ ثان

فكذاك أيضاً وحده فاعبده لا

تعبد سواه يا أخا العِرْفان

وهذه الجمل منقولة عن السلف والأئمة من المفسرين وغيرهم من أهل اللغة إجمالاً وتفصيلاً.

وقد قرر رحمه الله على شهادة أن محمداً رسول الله- من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية من الحب والتوقير والنصرة والمتابعة والطاعة، وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث ما وقفت والانتهاء حيث انتهت، في أصول الدين وفروعه، باطنه وظاهره، خفيه وجليه، كليه وجزئيه -ما ظهر به فضله، وتأكد علمه ونبله، وأنه سباق غايات، وصاحب آيات، لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، وأن أعداءه ومنازعيه، وخصومه في الفضل وشانيه، يصدق عليهم المثل السائر بين أهل المحابر والدفاتر:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالناس أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسداً وبغياً، إنه لذميم

1 سورة البقرة: 163.

ص: 136

وله رحمه الله من المناقب والمآثر ما لا يخفى على أهل الفضائل والبصائر، ومما اختصه الله به من الكرامة تسلط أعداء الدين وخصوم عباد الله المؤمنين على مسبّته، والتعرض لبهته وغيبته. قال الشافعي رحمه الله تعالى:"ما أرى الناس ابتلو بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله بذلك ثواباً عند انقطاع أعمالهم". وأفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر؛ وقد ابتليا من طعن أهل الجهالة والسفاهة بما لا يخفى.

وما حكيناه عن الشيخ حكاه أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة مجملاً ومفصلاً، قال: وهذه عبارة أبي الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين) قال أبو الحسن الأشعري:

"جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردُّون من ذلك شيئاً. والله تعالى إله واحد فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله تعالى على عرشه، كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وأن له يدين بلا كيف، كما قال:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2 وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 3 وأن له عينين بلا كيف [كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 4] ، وأن له وجهاً جلَّ ذكره، كما قال تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 5 وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا أن لله علماً، كما قال:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 6. وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ

1 سورة طه: 5.

2 سورة ص: 75.

3 سورة المائدة: 64.

4 سورة القمر: 14. وما بين المعقوفتين زيادة من"مقالات الإسلاميين".

5 سورة الرحمن: 27.

6 سورة النساء: 166.

ص: 137

إِلَّا بِعِلْمِهِ} 1. وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك كما نفته المعتزلة. وأثبتوا لله القوة كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 2. وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3 وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقالوا: إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله، أو أن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله.

وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال4 العباد يخلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً.

وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف للمؤمنين، ونظر لهم وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف للكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين. وأن الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف لهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم. وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره. ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره. ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله كما قال. ويُلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال.

ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ، من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق.

ويقولون: إن الله تعالى يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر،

1 سورة فاطر: 11.

2 سورة فصلت: 15.

3 سورة التكوير: 29.

4 في "المقالات": "وأن سيّئات العباد".

ص: 138

ويراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال الله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1. وأن موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وأن الله تعالى تجلّى للجبل فجعله دكاً، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة.

ولم يُكفّروا أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر.

والإيمان عندهم هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. والإسلام هو أن يشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث. والإسلام عندهم غير الإيمان.

ويقرُّون بأن الله مقلب القلوب، ويقرُّون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوضَ حق، والمحاسبة من الله للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق.

ويقرُّون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق.

ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله تعالى ينزلهم حيث شاء، ويقولون أمرهم إلى الله؛ إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.

ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوماً من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وينكرون الجدل والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما

1 سورة المطففين: 15.

ص: 139

يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من أمر دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقولون كيف؟ ولا لم؟ لأن ذلك بدعة. ويقولون إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرض بالشر وإن كان مريداً له.

ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم.

ويقدمون أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علياً رضي الله تعالى عنهم، ويقرّون أنهم الخلفاء الراشدون المهديّون، وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

ويصدّقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم1. ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2 ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله.

ويقرّون أن الله تعالى يجيء يوم القيمة، كما قال:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 3. وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 4.

ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر. ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر. ويثبتون فرض الجهاد للمشركين

1 حديث النزول رواه جمع كبير من الصحابة، وهو في "الموطأ"(1/178) - كتاب القرآن- باب ما جاء في الدعاء. والبخاري (1145، 6321) ومسلم (768) وغيرهم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

2 سورة النساء: 59.

3 سورة الفجر: 22.

4 سورة ق: 16.

ص: 140

منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال. وبعد ذلك يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وأن لا يُخْرَج عليهم بالسيف، وأن لا يقاتلوا في الفتنة.

ويصدّقون بخروج الدجال، وأن عيسى ابن مريم يقتله.

ويؤمنون بمنكر ونكير، والمعراج والرؤيا في المنام. وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم.

ويصدّقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر كافر، كما قال الله تعالى، وأن السحر كائن موجود في الدنيا.

ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم. ويقرون أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله.

وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالاً كانت أو حراماً. وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه، وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم، وأن السنة لا تنسخ القرآن1. وأن الأطفال أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد. وأن الله عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى. ويرون الصبر على حكم الله تعالى، والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والمعصية2 والفخر والكبر والإزراء على الناس والعجب.

1 هذا محل نزاع بين أهل العلم قديماً وحديثاً، وأكثر العلماء على جوازه، والأدلّة تؤيد ذلك.

وانظر لتفصيل المسألة: "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (701- 702- ط. دار ابن كثير) و"أصول السرخسي"(2/67) و "الأحكام" للآمدي (3/153) و"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام (12/165) و"نهاية الوصول في دراية الأصول" لصفي الدين الأرموي الهندي (6/ 2339- 2356) و"التحصيل من المحصول"(2/24- 26) و "المحصول"(3/347-352) و"نفائس الأصول في شرح المحصول" للقرافي (6/2604- 2611) و"نهاية السول" للإسنوي (1/ 603- 606) و"التمهيد" للكلوذاني (2/369- 645- ط. الباز) أر (2/809-814- ط. الفضيلة) أو (ص 629- 633- ط. ابن كثير) وغيرها من كتب الأصول.

2 في "المقالات": "والعصبية"وهو الأقرب للصواب.

ص: 141

ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة، وحسن الخلق، وبذل المعروف، وكفّ الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية، وتفقد المأكل والمشرب.

فهذه جملة ما يأمرون به، ويعتقدونه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل" انتهى1.

هذا ما يعتقده أهل نجد ومن يوافقهم، فكيف يقال: إنهم مبتدعون؟ ولكن الأمر كما قيل:

ومن يك ذا فم مُر مريض

يجد مراً به الماء الزلالا

وهذا النبهاني الجاهل من أشد الناس عداوة للذين آمنوا، ولذلك يرميهم بكل منكر، وإذا ذكر إخوانه المبتدعة ذكرهم بكل تعظيم.

ثم إن الشيخ عبد اللطيف لما ذكر في منهاجه معتقد جده وأتباعه ذكر طرفاً من حال هذا المبتدع وإخوانه، وعقد فصلاً لذلك، فقال:

"ونذكر لك طرفاً من معتقد عباد القبور والصالحين، وحقيقة ما هم عليه من الدين ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن، إن كان الواقف ممن اختصه الله تعالى بالفضل والمن، ولئلاّ يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم تشفعاً وتوسلاً واستظهاراً، مع ما في التسمية من الهلاك المتناهي عند من عقل الحقائق: من ذلك محبتهم مع الله محبة تأله وخضوع ورجاء، ودعاؤهم مع الله في المهمات والملمات والحوادث التي لا يكشفها ولا يجيب الدعاء فيها إلا فاطر الأرض والسموات، والعكوف حول أجداثهم، وتقبيل أعتابهم، والتمسح بآثارهم؛ طلباً للغوث، واستجابة الدعوات، وإظهار الفاقة، وإبداء الفقر والضراعة، واستنزال الغيوث والأمطار، وطلب السلامة من شدائد البر والبحار، وسؤالهم تزويجهم الأرامل والأيامى، واللطف بالضعفاء واليتامى، والاعتماد عليهم في المطالب

1 "مقالات الإسلاميين"(1/345- 350) .

ص: 142

العالية، وتأهيلهم لمغفرة الذنوب والنجاة من الهاوية، وإعطاء تلك المراتب السامية، وجماهيرهم لما ألفت ذلك طباعهم، وفسدت به فطرهم، وعز عنه امتناعهم، لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين من قصد الله تعالى، والإنابة إليه، بل ليس لذلك عندهم إلا الولي الفلاني، ومشهد الشيخ فلان، حتى جعلوا الذهاب إلى المشاهد عوضاً عن الخروج للاستسقاء، والإنابة إلى الله في كشف الشدائد والبلوى، كل هذا رأيناه وسمعناه عنهم.

قال: وقد حدث الشيخ مصطفى البولاقي أن بعض رؤساء الجامع الأزهر عاده لما اشتكى عينيه وقال له: هلاّ ذهبت إلى مولد الشيخ أحمد البدوي؟ فقد حُكي أن إنساناً شكا إليه ذهاب بصره، فسمع قائلاً يقول من الضريح أعطوه عين كذا وكذا!.

فانظر إلى ما خطر ببال هذا المتكلم من تعظيم هذا الميت، وتأهيله لتلك المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله القاهر الغالب، وقصد الوساطة هنا على ما فيها ما أظنها تخطر بباله أصلاً، فهل سمعت عن جاهلية العرب مثل هذه الغرائب، التي ينتهي عندها العجب؟ والكلام مع زكي القلب يقظ الذهن قوي الهمة العارف بالحقائق، ومن لا ترضى نفسه بحضيض التقليد في أصول الديانات والتوحيد، وأما ميت القلب، بليد الذهن، وضيع النفس، جامد القريحة، ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد والتعلق على ما يُحكى عن فلان وفلان في معتقد أهل المقابر والتنديد؛ فذاك فاسد الفطرة معتل المزاج، وخطابه محض عناء ولجاج.

قال: ومما بلغنا عن بعض علماء زبيد أن رجلين قصدا الطائف فقال أحدهما لصاحبه- والمسؤول ممن يترشح للعلم-: أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون ابن عباس، فأجابه بأن معرفتهم لابن عباس كافية لأنه يعرف الله!

فأي ملة- صان الله ملة الإسلام- لا تمانع هذه الكفريات ولا تدافعها؟

وذكر الزبيدي أيضاً أن رجلاً كان بمكة عند بعض المشاهد قال لمن عنده:

ص: 143

أريد الذهاب إلى الطواف، فقال بعض غلاتهم: مقامك ههنا أكرم!.

ومن وقف على كتاب مناقب الأربعة المعبودين بمصر -وهم البدوي والرفاعي والدسوقي ورابعهم فيما أظن أبو العلاء- فقد وقف على ساحل كفرهم، وعرف صفة إفكهم. وبلغنا عن بعض الثقات أن جماعة من المدعين للعلم بزبيد كانوا يقرؤون صحيح البخاري فإذا فرغوا منه -إما أحياناً أو مطلقاً- ذهبوا إلى قبر الجبيرتي أو غيره، فوقفوا عاكفين -ما شاء الله- وعليهم السكينة والوقار، وضرب من الخضوع لنازل الحفرة، قال من نقله: فالله أعلم أهو شيء وجدوه في صحيح البخاري أو غيره أو ما هو؟ قال: ورأيت في حاشية الشيخ إبراهيم البيجوري على السنوسية نقلاً عن الدردير- فيما أظن- عن الشعراني أن الله وكل بقبر كل ولي ملكاً يقضي حاجة من سأل ذلك الولي!

فقف هنا وانظر ما آل إليه شركهم وإفكهم، فأين هذا من قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 1. وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} 2 وقوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 3 وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 4. وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 5 الآية.

وأي حجة في هذا الذي قال الشعراني لو كانوا يعلمون؟

ولكن القوم أصابهم داء الأمم قبلهم، فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين.

ومن هذا الجنس ما ذكره الشعراني في ترجمة الملقب شمس الدين الحنفي،

1 سورة البقرة: 186.

2 سورة الأعراف: 55.

3 سورة الشرح: 7- 8.

4 سورة النمل: 62.

5 سورة غافر: 60.

ص: 144

أنه قال في مرض موته: "من كانت له حاجة فليأت قبري ويطلب أن أقضيها له، فإنما بيني وبينه ذراع من تراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل"! انتهى.

وقد اجتمع جماعة من الموحّدين من أهل الإسلام في بيت رجل من أهل مصر وبقربه رجل يدّعي العلم، فأرسل إليه صاحب البيت فسأله بمجمع من الحاضرين، فقال له: كم يتصرف في الكون؟ قال: يا سيدي سبعة، قال: من هم؟ قال: فلان، وفلان وعد أربعة من المعبودين بمصر. فقال صاحب الدار لمن بحضرته من الموحدين: إنما بعثتُ لهذا الرجل وسألته لأعرفكم قدر ما أنتم فيه من نعمة الإسلام، أو كلاماً نحو هذا.

وباب تصرّف المشائخ والأولياء قد اتسع حتى سلكه جمهور من يدّعي الإسلام من أهل البسيطة، وخرقه قد هلك في بحاره أكثر من سكن الغبراء وأظلته المحيطة، حتى نسي القصد الأول من التشفع والوساطة، فلا يعرج عليه عندهم إلا من نسي عهود الحمى، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في" منهاجه"1 عن غلاة الرافضة في عليّ، فعاد الأمر إلى الشرك في توحيد الربوبية والتدبير والتأثير، ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية، بل ذكر الله جل ذكره أنهم يعترفون له بتوحيد الربوبية ويقرون به، ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير على ما أنكروه من الإلهية.

ومن ذلك -وهو من عجيب أمرهم- ما ذكره حسين بن محمد النعمي اليمني في بعض رسائله: أن امرأة كفّ بصرها؛ فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى ولم يبق إلا حسبك!! انتهى.

وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحج، فذهبوا إلى الضريح المنسوب2 إلى الحسين رضي الله

1 أي "منهاج السنة النبوية" وهو مطبوع بتحقيق الشيخ محمد رشاد سالم رحمه الله.

2 قوله: "المنسوب"؛ ذلك لأن القبر الذي في مصر لم يصح أن الحسين عليه السلام دفن فيه، لا هو ولا رأسه الشريفة، وللإمام الطبري كلام في هذا الأمر في "تاريخه"، كذا تكلم على هذا الأمر الخطيب البغدادي وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، والله أعلم.

ص: 145

عنه بالقاهرة، فاستقبلوا القبر وأحرموا، ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر، حتى أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين، فقالوا: هذا محبة في سيدنا الحسين رضي الله تعالى عنه.

وذكر بعض المؤلفين من أهل اليمن أن مثل هذا وقع عندهم. وقد حدثني الشيخ خليل الرشيدي بالجامع الأزهر أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يدق وتد في القاهرة إلا بإذن السيد أحمد البدوي، قال فقلت له: هذا لا يكون إلا لله أو كلاماً نحو هذا. فقال: حبي في سيدي أحمد البدوي اقتضى هذا.

وحُكي أن رجلاً سأل الآخر: كيف رأيت الجمع عند زيارة الشيخ الفلاني؟ فقال: لم أر أكثر منه إلا في جبال عرفات، إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة الثلاثة أيام. فقال السائل: قد تحملها الشيخ! قال بعض الأفاضل: وباب تحمل الشيخ مصراعاه ما بين بصرى وعدن قد اتسع خرقه، وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد، انتهى.

وقد اشتهر ما يقع من السجود على أعتاب المشهد وقصد التبرك مع ما فيه لا يمنع حقيقة العبادة الصورية. ومن المعروف عنهم شراء الولدان من الولي بشيء معين، يبقى رسماً جارياً يؤدّى كل عام، وإن كانت امرأة فمهرها أو نصف مهرها، لأنها مشتراة منه، ولا يمانع هذا إلا مكابر، لأنه استفاض واشتهر فلا ينكره إلا مكابر في الحسيات، وإن فقد بعض أنواعه في بعض البلاد فكم له من نظائر، وهذا أشد، وأشنع مما ذكر جل ذكره عن جاهلية العرب بقوله:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} 1 الآية، وكذلك جعل السوائب باسم الولي لا يحمل عليها لا تذبح، وسوق الهدايا والقرابين إلى مشاهد الأولياء وذبحها حباً للشيخ وتقرباً إليه، وهذا وإن ذكر اسم الله عليه فهو أشد تحريماً مما ذبح اللحم وذكر عليه اسم غير الله كعيسى مثلاً، فإن

1 سورة الأنعام: 136.

ص: 146

الشرك في العبادة أكبر من الشرك بالاستعانة، ومن ذلك ترك الأشجار والكلأ والعشب إذا كان بقرب المشهد وجعله من ماله.

ومنها الحج إلى المشاهد في أوقات مخصوصة مضاهاة لبيت الله، فيطوفون حول الضريح، ويستغيثون، ويَهْدُون لصاحب القبر ويذبحون، وبعض مشائخهم يأمر الزائر بحلق رأسه إذا فرغ من الزيارة، كما يفعلون في بيت الله الحرام بعد الأداء، وقد صنف بعض غلاتهم كتاباً سماه "حج المشاهد" وهو متداول.

ومنها التعريف في بعض البلاد عند من يعتقدونه من أهل القبور، فيصلّون عشية عرفة عند القبر خاضعين سائلين.

والعراق فيه من ذلك الحظ الأكبر، والنصيب الأوفى الأوفر، بل فيه البحر الذي لا ساحل له، والمهامة التي لا ينجو سالكها ولا يكاد، ومن نحوه عرف الكفر وظهر الشرك والفساد، كما يعرف ذلك من له إلمام بالتواريخ ومبدأ الحوادث في الدين.

ومن شاهد ما يقع منهم عند مشهد الحسين ومشهد عليّ والكاظم عند رافضتهم، وعبد القادر والحسن البصري والزبير وأمثالهم عند سنتهم، من العبادات، وطلب العطايا والمواهب والتصرفات، وأنواع الموبقات؛ علم أنهم من أجهل الخلق وأضلهم، وأنهم في غاية من الكفر والشرك ما وصل إليها من قبلهم ممن ينتسب إلى الإسلام، والله المسؤول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته بمحو هذه الأوثان، حتى يُعبَدَ وحده، فتسلم الوجوه له، وتعود البيضاء كما كانت ليلها كنهارها.

ومن ذلك -وإن كان يعلم مما تقدم- اتخاذها أعياداً ومواسم مضاهاة لما شرعه الله ورسوله من الأعياد المكانية والزمانية.

ومنها ما يقع ويجري في هذه الاجتماعات من الفجور والفواحش، وترك الصلوات، وفعل الخلاعات، التي هي في الحقيقة خلع لربقة الدين، والتكليف، ومشابهة لما يقع في أعياد النصارى والصابئة والإفرنج ببلاد فرنسا وغيرها من

ص: 147

الفجور والطبول والزمور والخمور، وبالجملة فما أحدثه عباد القبور يعزّ حصره أو استيفاؤه" انتهى كلام الفاضل الشيخ عبد اللطيف في منهاجه.

فيا أيها النبهاني الغافل! هذا حال إخوانك ومن هو على شاكلتك، ثم إنك لم ترض بهذه المصائب والمثالب والمعائب حتى زدت في الطنبور نغمة، وذلك اعتقادك أن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان وزمان، ونظمت قصيدة من شعرك الركيك الفاسد في ذلك، ثم مع ذلك تدّعي أنك محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كلا ثم كلا، وقد أرسله الله تعالى لمحق الشرك وإزالة الضلال، وأنت بجهلك تريد تبديل الأحوال {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1.

فمن المبتدع؟ أمن يحافظ على السنة النبوية ويذب عنها من يحاول نقصها في كل كلية وجزئية، أم أمثالك الذين يدعون مع الله إلهاً آخر، ويطعنون على أخيار الأمة، وهداة المسلمين، ويذبون عن البدع وأهل الأهواء، ويحكمون بغير ما انزل الله، ويقدمون المواد القانونية على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؟! أفلا يستحي من هذه بعض أوصافه أن يثلب أهل الإيمان، وحملة القرآن وحُفّاظ سنة سيد ولد عدنان؟! ولكن الأمر كما ورد في الحديث الصحيح:"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى؛ إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شِئْتَ"2.

ولهذا النبهاني عدة قصائد في الاستغاثة والالتجاء إلى غير الله، وهي مطبوعة مشهورة، ولولا أن يدنس القلم ذكرها لذكرتها، فإنها تؤيد ما ذكره الشيخ عبد اللطيف رحمه الله عنهم، وها أنا أذكر شعر بعض الغلاة المشتمل على ما لهم من الغلو في القبور والمشاهد، من ذلك قول بعض العراقيين:-

نبا من بنات الماء للكوفة الغرا

سبوح سرت ليلاً فسبحان من أسرى

تمد جناحا من قوادمه الصبا

تروم بأكناف الغرى لها وكرا

1 سورة التوبة: 32.

2 أخرجه البخاري (3484، 6120) .

ص: 148

كساها الأسى ثوب الحداد ومن حلي

تجملها بالصبر لاعجها أعرى

جرت فجرى كل إلى خير موقف

يقول لعينيه قفا نبك من ذكرى

كم غمرة خضنا إليه وإنما

ويخوض عباب البحر من يطلب الدرا

نؤم ضريحاً ما الضراح وإن علا

بأرفع منه لا وساكنه قدرا

حوى المرتضى سيف القضا أسد الشرى

عليّ الذرى بل زوج فاطمة الزهرا

مقام علي كرم الله وجهه

مقام علي رد عين العلى حسرى

أثير مع الأفلاك خالف دوره

فمن فوقه الغبرا ومن تحته الخضرا

أحطنا به وهو المحيط حقيقة

بنا فتعالى أن نحبط به خبرا

تطوف من الأملاك طائفة به

فتسجد في محراب جامعه شكرا

وحزب من العالين يهتف بالثنا

عليه بوحي كدت أسمعه جهرا

جدير بأن يأوى الحجيج لبابه

ويلمس من أركان كعبته الجدرا

حري بتقسيم الفيوض وما سوى

أبي الحسنين إلا حسنين بها أحرا

ثرى منه بالدنيا الثراء لمترب

وللمذنب الجاني الشفاعة في الأخرى

بأهداب أجفان وأحداق أعين

وحز وجوه عفرتها يد الغبرا

أمطنا القذى عن جفن سيف مذكر

أجل سيوف الله أشهرها ذكرا

فوالله ما ندري وقد سطع السنا

جلونا قراباً أم جلينا له قبرا

وجاء من العراقيين من خمس هذه الأبيات فقال:

سرينا لنمحوا الإثم أو نغنم الأجرا

لزورة من تمحو زيارته الوزرا

وسارت وقد أرخى علينا الدجى ستراً

نبا من نبات الماء للكوفة الغرا

سبوح سرت ليلاً فسبحان من أسرى

تخيرتها دون السفائن مركبا

وأعددتها للسير شرقاً ومغربا

فكانت كمثل الطير إن رمت مطلباً

تمد جناحاً من قوادمه الصبا

تروم بأكناف الغرى لها وكرا

ص: 149

وكانت تحلى قبل هذا تجملاً

وقد غذيت فيما أمر الذي حلا

أظن على فقد الشهيد بكر بلا

كساها الأسى ثوب الحداد ومن حلى

تجملها بالصبر لاعجها أعرى

إلى موقف سرنا بغير توقف

يزيد بكائي عنده بتلهف

ولما تجارينا بفلك ومدنف

جرت فجرى كل إلى خير موقف

يقول لعينيه قفا نبك من ذكرى

ترامت بنا فلك فيا نعم مرتمى

إلى درة الفخر التي لن تقوما

فخضنا إليه البحر والبحر قد طما

وكم غمرة خضنا إليه وإنما

يخوض عباب البحر من يطلب الدرا

إلى مرقد يعلو السماكين منزلا

وقد نال ما نال الضراح من العلى

نسير ولا نلوي على السير معدلاً

نؤم ضريحاً ما الضراح وإن علا

بأرفع منه ولا ساكنه قدرا

فزوج ابنة المختار كان غضنفراً

علا وارتضته الطهر من سائر الورى

تعرف من هذا الذي طال مفخراً

حوى المرتضى سيف القضا أسد الشرى

على الذرى بل زوج فاطمة الزهرا

عيون الورى إن لاحظت منه كنهه

ترد عن التشبيه حسرى فينتهوا

وإن مقاماً لا ترى العين شبهه

مقام عليّ كرم الله وجهه

مقام عليّ رد عين العلى حسرى

لقد صير الغبراء خضراء قبره

وأشرق فيها في الحقيقة بدره

وقد وافق الأعجاز لله دره

أثير مع الأفلاك خالف دوره

فمن فوقه الغبرا ومن تحته الخضرا

أحاط بنا علماً فليت سليقة

تفيد علوماً عن علاه دقيقة

ص: 150

مجازاً وقد جزنا إليه طريقة

أحطنا به وهو المحيط حقيقة

بنا فتعالى أن نحيط به خبرا

فطف في مقام حل فيه ولبه

تر العالم الأعلى حفيفاً بتربه

كالمسجد الأقصى وأي تشبه

تطوف من الأملاك طائفة به

فتسجد في محراب جامعه شكرا

فأثنى عليه من علا مثل من دنا

وكل بما أثنى أجاد وأحسنا

فحزب من الدانين إذ ذاك أعلنا

وحزب من العالين يهتف بالثنا

عليه بوحي كدت أسمعه جهرا

حججنا إلى بيت علا بجنابه

عشية آوينا إلى باب غابه

ومن قد سمت أركان كعبتنا به

جدير بأن يأوي الحجيج لبابه

ويلمس من أركان كعبته الجدرا

فيوض علوم الله من قدم حوى

فقسم منها ما أفاد وما احتوى

ومن قبل ما يثوى ومن بعد ما ثوى

حري بتقسيم الفيوض وما سوى

أبي الحسنين إلا حسنين بها أحرى

ظللننا وكم جان لديه ومذنب

وذي حاجة منا وصاحب مطلب

نقبل والأجفان تهمى بصيب

ثرى منه في الدنيا الثراء لمترب

وللمذنب الجاني الشفاعة في الأخرى

خدمنا أمير المؤمنين بموطن

نعفر فيه الوجه قصد تيمن

ويخدم قبر المرتضى كل مؤمن

بأهداب أجفان وأحداق أعين

وحر وجوه عفرتها يد الغبرا

أزلنا غباراً كان في قبر حيدر

فلاح كغمد المشر في المشهر

ولا غرو في ذاك المكان المطهر

أمطنا القذى عن جفن سيف مذكر

أجل سيوف الله أشهرها ذكرا

ص: 151

تبدي سنى أنواره وتبينا

غداة جلونا قبره فتزينا

فحير أفهامها وأبهر أعينا

فوالله ما ندري وقد سطع السنا

جلونا قراباً أم جلينا له قبرا

وقال صاحب الأصل وقد خمسها آخر من شعراء العراق أيضاً:

شمخت رفعة وعزت منالاً

واستطالت فخامة وجلالا

واستخفت من الجبال الثقالا

قبة المرتضى علي تعالى

شأنها عن موازن وعديل

بزغت في الدجى كبدر منير

وتبدت تزهو بحسن نضير

فهي أكسير كل قلب كسير

من نضار صيغت بغير نظير

في مثال منزه عن مثيل

قد صفا كالمرآة منها صقال

فبدا للنجوم فيها مثال

فلك لا يحيط فيه خيال

فوقها كالإكليل لاح هلال

رمقته السهى بطرف كليل

ملأت قبة العوالم بالضو

واستقلت بنفسها في ذرى الجو

بعلى علت فما ضرها لو

كبرت فاستقلت الفلك الدو

وأرعنها بأن يرى ببديل

حل فيها نور الهدى فتحلت

ودنت فوق قبره فتدلت

ملئت هيبة فعزت وجلت

جللت مرقداً جليلاً تجلت

فوقه هيبة المليك الجليل

سمكها سامت السماك مقاماً

حين ضمت ذاك الإمام الهماما

أبداً شأو شأنها لن يسامى

فعلى قبة السماء إذا ما

فضلوها أقول بالتفضيل

هي عين وللتجلي سجنجل

كل ذات بعكسها تتمثل

ص: 152

وبمرآة فكر من يتخيل

هي باء مقلوبة فوق تلك الـ

ـنقطة المستحيلة التأويل

دار مجد من بابها السعد يدخل

دار في صحنها الهدى في تسلسل

في علاها مهما تشا أبداً قل

هي فلك بل ما عليه استوى الفلـ

ـك ومن فوق لوحه من قبيل

كعبة نحوها قطعنا الفجاجا

بحماها قد آوت الحجاجا

ما ترى عند بابها محتاجاً

هي كهف النجاة طور المناجا

ة ثمال العفاة مأوى الدخيل

هي كنز لدرة الفخر موئل

قد حوت كل جوهر متفضل

ليس فيها لعارض الدهر معقل

هي حق للجوهر الخاص ماللـ

ـعرض العام عندها من مقيل

هي شمس الهدى لمن ضل دوماً

ما رأى من بها اهتدى قط لوماً

كم هدت من غوى الجهالة قوماً

هي ظل ما ضل من قال يوما

بحماها من تحت ظل ظليل

صدف قد غلت بدر ثمين

وإمام للمؤمنين مبين

كنزها قد حوى لخير دفين

هي غمد لذي فقار بطين

من سيوف الله العلي صقيل

حضرة فوقها الجلال تجلى

أجمة في عرينها الليث حلا

كيف تدنو الأسود منه محلا

هي غاب ثوي به أسد اللاه

عليّ بصدر اشرف غيل

هو سيف القضا بأيدي قدير

نصله ينتضي بيوم عسير

حيدر يضرم الوغى بسعير

ذاك ليث أردى العدى بزئير

وحسام أبادهم بصليل

ص: 153

هي روض ونعم مرعى ومنهل

لأمير النحل الإمام المفضل

دار فيها كأس الرحيق المسلسل

كورة لليعوب مازج صرف الـ

ـشهد منها أطالب الزنجبيل

فلك دائر منير بشهب

نورها ظاهر بشرق وغرب

هونت في تدبيرها كل صعب

كرة مستديرة فوق قطب

دبر الكائنات بالتعديل

صاغها الله من محاسن تعجب

وطلاها من نوره المتلهب

فهي أسنى سبيكة لمذهب

أفرغتها يمنى المفاخر من تبر

المعالي في قالب التبجيل

صبغة الله زينت بالتحلى

وعليها الأملاك للوحي تملى

مذ دنا الروح نحوها بالتدلي

صبغتها بالنور أيدي التجلي

بقدامى من خافقي جبرئيل

لا يحيط الخيال وقتاً فوقتاً

بحلاها ولا يخيل نعتا

جمعت ذاتها فضائل شتى

فغشاها النور الإلهي حتى

بخيال جلت عن التخييل

أحرزت من أزاهر الشرف الغض

وأحاطت بالمجد في الطول والعرض

كل فضل من فضلهما يتبعض

قد حوى فصل بابها جمل الفضـ

ـل التي قد غنين عن تفصيل

جليت تزدهي بجسم صقيل

فهي زهراء ما لها من مثيل

منذ زفت لخير مولى جليل

كعروس بدت بوجه جميل

تسبي شمس الضحى بخد أسيل

هي بدر الدجى بغير سرار

هي شمس ضاءت بغير استتار

ص: 154

زندها في كلا الجديدين وار

هي في الليل مثلها في نهار

وبوقت الضحى كوقت الأصيل

نالت النيرات من ذاك نيلاً

يستميل المحب للحب ميلا

فتهاوت منها تقبل ذيلاً

قابلتها البدور باللثم ليلا

وشموس النهار بالتقبيل

كسراج لنا تجلت مساء

فاستعارت منها الدراري سناء

زينتها التبر يستنير ضياء

صحنها كالقنديل يزهو صفاء

وهي تحكي ذبالة القنديل

هل محب يحنو على ما أقاسي

من غرام دك الجبال الرواسي

ما لجرحي سواكما اليوم أسى

يا خليلي والخليل المواسي

منكما من يحب نفع الخليل

بالغريبين حاجة أقتضيها

وبكو فإن بلغة أرتجيها

فبحق الزهرا وحق بنيها

عللاني بذكر من حل فيها

إن قلبي يطيب بالتعليل

ذو سجايا أصفى من الدر والدر

ومزايا لم نحصها بالتفكر

أخبرت عن نعوته الكتب الغر

نعته بالزبور جاء وبالفر

قان بل بالتوراة والإنجيل

هل أتى في سواه بالذكر تملى

آي وحي بها تسامى محلا

وصفه بالقرآن قد جاء يتلى

الإمام المبين أحصى به الله

جميع الأشياء في التنزيل

صدره نسخة لما كان في الكو

ن قديماً من خطها الناس أملو

هو علم الكتاب في علمه أو

فهو اللوح بل وما خط في اللو

ح لديه مقيد التسجيل

ص: 155

كم ثملنا منه بكأس رويّ

فأمطنا برشفها كل غي

إن ترم أن تفوز منها بري

سل سبيلاً لسلسبيل عليّ

فعلى ابن السبيل قصد السبيل

زره مهما أصابك الخطب مهما

تلق غيثاً همى وبحراً خضما

فأجل في راحه عن القلب هما

هو ساقي الحوض الذي ليس يظما

من حبته يداه بالتنويل

كم غليل روى بفيض مقيل

ما رويناه عن فرات ونيل

كم أفاضت كفاه من سلسبيل

هو ذات الشفا لكل عليل

وشفاء لذات كل غليل

صاغه الله من ندى وبراه

وعلى فطرة السخا سواه

بحر جود ما للعفاة سواه

عيلم كل قطرة من نداه

هي غيث لكل عام محيل

جئت أشكو إليه بثي وحزني

حاش لله أن يخيب ظني

نلت من فضله قصارى التمني

عرض حال لاغر وإن طال أني

لذت في جاهه العريض الطويل

غيث فضل يهمي بفيض غزير

وغياث من كل أمر عسير

كيف أرضى منه بمن يسير

طامع من نواله بكثير

ما أنا منه قانع بقليل

كم عديم أحيا بجود عميم

وهدى حائراً لنهج قويم

ولا عتابه بقلب سليم

جئت مستهدياً هدى من كريم

لست مستجدياً جدي من بخيل

لجناحي أراش بعد تلافي

بقدامى أفضاله والخوافي

ص: 156

قبره كعبة غداً للطوافي

من ثراه لي ثروة وحذافي

ردعاني بهن أغنى معيل

كل من زار قبره أمن الهو

ل وإن كان ذنبه يملأ الجو

ما تراني وقد أحاط بي السو

زرته والدموع تنهل والأو

زار تنهال عن كثيب مهيل

حبه بارز بدا من ضميري

وعلينا فرض ولاء الأمير

بولاه كم اغتنى من فقير

ليس لي بعد حبه من نقير

يغن عني شيئاً ولا من فتيل

(وقال أيضاً الشاعر العراقي) :

حضرة الكاظمين منها المرايا

قد حكت قلب صب أهل الطفوف

صبغتها يد التجلي بكف

كبرت عن تشبيهها بالكفوف

وروت عن غدير خم صفاء

فتراءت لطرفي المطروف

صور الكائنات فوجاً بفوج

سابحات في موجها المكفوف

من قناديل عسجد زينوها

بصفوف تلوح أثر صفوف

رسم تعليقها الأنيق تبدى

كسطور منضودة من حروف

روضة للصدور فيها ورود

بأكف الألحاظ ذات قطوف

قد أظلت شمساً بغير كسوف

وأقلت بدراً بغير خسوف

وطوت كاظماً ولفت جواداً

فازدهت بالمطوى والملفوف

شرفت فيهما وما كل ظرف

حاز تشريفه من المظروف

وغدت للقلبين مثل شغاف

رق لطفاً كقلبي المشغوف

وهي لما على السماء أنافت

بهما قلت يا سما المجد نوفي

كلما زرتها أقول لعيني

هذه كعبة الجلال فطوفي

بحماها كم من ألوف من الزو

ار فازت من المنى بصنوف

فأخشى صروف دهري وإني

بحماها يخشى الزمان صروفي

ص: 157

حرم آمن فمن كان فيه

قاطناً كان آمناً من مخوف

ومطاف به استدارت فطافت

زمر كاستدارة الخدروف

كم لرشد من حائري هدته

وبرفدكم قد كفت من كوفي

شنفتها العلياء لما أصاخت

لصرير الأقلام أبهى شنوف

شمخت عزة بأنف أشم

مرغم بالتراب شم الأنوف

أرعفت مارن الصباح فأجرت

دمه من بروقها بسيوف

ألفت نفسي الثناء عليها

وهي لا تنثني عن المألوف

لا تلمني على الوقوف بباب

تتمنى الأملاك فيه وقوفي

هو باب مجرب ذو خواص

كان منها إغاثة الملهوف

ملجأ العاجزين كهف اليتامى

كان منها إغاثة الملهوف

من يروم الفتوح مما سواه

طرقت بابه أكف الحنوف

أنا عنه حياً وميتاً بدنيا

ي وأخراي لست بالمصروف

هم بنو المرتضى وعترة طه

سحب الفضل أبحر المعروف

فليلمني من شاء أني موال

رافل من ولائهم بشفوف

فعليهم مني الثنا ما إليهم

قطع المدلجون كل تنوف

وقال:

ألا أن صندوقاً أحاط بحيدر

وذي إلعرش قد أربى إلى حضرة القدس

فإن لم يكن لله كرسي عرشه

فإن الذي في ضمنه آية الكرسي

وقال وقد شاهد الزوار ليلاً تتهافت على الصندوق خلال الشموع الموقدة:

صندوق قبر المرتضى زواره

بين الشموع لهم عليه تهافت

فكأنه بدربه قد أحدقت

سيارة من أنجم وثوابت

(وقال لما زار موسى الكاظم) :

خلعنا نفوساً قبل خلع نعالنا

غداة حللنا مرقداً منك مأنوسا

وليس علينا من جناح بخلعها

لأنك بالوادي المقدس يا موسى

ص: 158

إلى غير ذلك من شعره الذي جمعه بمجموع سماه (الباقيات الصالحات) وكله على هذا المنهج، ومن العجب من يسلك هذا المسلك كيف يدعي أنه من أهل السنة وليس من الروافض.

وله أبيات في الشيخ عبد القادر الكيلاني وهي هذه وقد سلك فيها من الغلو مسلك ما نقلناه من شعره:

أبيات شعري حكت آيات تنزيل

تتلى بحضرة ممدوحي بترتيل

وعت من الملأ الأعلى لها آذان

فشنفتها بتكبير وتهليل

قد انطوى العالم الأسمى بأحرفها

فعطر النشر منها طيب تأويل

عن حسنها قاصرات الطرف قد قصرت

أحبب بكاعبة النهدين عطبول

ماست دلالاً تعاطيني الرضاب طلا

فهمت ما بين عسال ومعسول

تاهت على اللؤلؤ المنثور إذ نظمت

في مدح مولاي عبد القادر الجيلي

قطب عليه مدار العالمين له

دور تسلسل لا في قيد تعطيل

غوث وغيث لراجيه وخائفه

يحمى ويهمى بأفضال وتفضيل

سجنجل لتجلي ذاته ظهرت

لعينه عينه من غير تمثيل

جلاء نقطة غين العين تربته

كم فزت منها بتعفير وتكحيل

طوفان علم به نوح النبوة في

فلك الفتوة ينجى كل محمول

خضم فيض بعيد العور فيه رست

سفن الولاية لا في ساحل النيل

مصباح فضل بنبراس الجمال زهت

مشكاته فيه لا في ضوء قنديل

نور بسيط على وجه البسيطة بل

ببحر محيط بمعقول ومنقول

قرآن جمع لأشتات الهبات من الذر

ات لا قبض بسط العرض والطول

فرقان فرق العلى آياته رسمت

في جبهة كللت منه بإكليل

مفتاح غيب بلا ريب ببرزخه

باب الشهود لديه غير مقفول

في عالم الغيب قد صحت مشاهدة

له فجاء بكشف غير معلول

تواثت أولياء الله بعثته

منذ الست ومن جيل إلى جيل

في النشأتين له حال تصرفه

تالله في كل معقود ومحلول

ص: 159

باب الرجاء وقطب الأولياء وفخر

الأتقياء ومأوى كل مذلول

عين الكمال وسلطان الرجاء وممـ

ـدوح الفعال وحامي كل مخذول

ملجا المريدين منجى اللائذين به

كنز المقلين مذخوري ومأمولي

فخري وفيه غنى فقري ومدحته

فخري أنال بحشري منه تنويلي

إلى موائده اللاتي حوت مدداً

مددت باعاً به علقت كشكولي

تفصيل إجمال جزء من خوارقه

عن حصرها كل إجمالي وتفصيلي

نلت البقا بغنائي في محبته

فشاغلي فيه أضحى عين مشغولي

وبان صحوي بمحوي في هواه وعن

وهمي بأني سواه بان تخييلي

أتى من العلم في مثل الذي أتيا

موسى وعيسى بتوراة وإنجيل

ندب إذا عم خطب أو دجا حزن

جلاه في سيف حزم غير مفلول

تهديك بهجته الغرا وغنيته

تغنيك عن كل مقصود ومأمول

فناده عند نادية لفادحة

وسله ما شنت تلقى خير مسئول

وقبل الترب من أعاب سدته

وابد الخشوع بدمع منك مسبول

فسدرة المنتهى لا شك حضرته

لقد تناهى إليها علم جبريل

ترى المحبين صرعى تحت قبته

وقلبهم عن هواه غير مشغول

أما تراهم وفي أطمارهم ربضوا

ببابه كأسود الغيل بالغيل

إليه من موصل قد جئت منقطعاً

فيا لقطع بحبل الله موصول

كم ظن قوم قبولاً منه تم لهم

وحققوا الظن أني غير مقبول

فدع رجالاً على جهل تعنفني

فهل سمعت بصب غير معذول

وابغ رضا الله في مدح تقدمه

لفارق بين مفضال ومفضول

عليه أزكى سلام الله تتبعه

تحية الملأ الأعلى بتبجيل

ما دوخت ديمة الرضوان مرقده

وجللته وغشته بمنديل

إلى غير ذلك من الشعر الكثير في هذا الباب، ولو استوعبناه لطال به الكتاب. وهذا حال خواصهم، وقد سمعت غلوهم فكيف حال عوامهم؟.

وقد حكى العراقيون أن قبر عبد القادر قد غدا اليوم قبلة يطوفون عليه طواف

ص: 160

الحجيج ببيت الله الحرام، وينذرون له النذور، ويوقدون السرج على رغم ما جاء به دين الإسلام، وقد اتخذ ذراري الشيخ ذلك غنيمة يرتعون فيها كما ترتع الأنعام، وبعض سفهاء العقول، وناقصوا الأحلام يتخذهم وسائل في الدنيا والآخرة، وحكى العراقيون أن الكيلانيين اليوم أشر أمة في العراق، وعائلتهم أصبحت بلاء على بغداد، ومن العجيب أن كبير تلك العائلة (النقيب) يدّعي أنه سلفيّ العقيدة، وهو من سدنة الأصنام، لم يزل يأكل النذور المحرمة من الهنديين وغيرهم، نسأله تعالى أن يطهر الأرض من أمثال هؤلاء المعادين لدين الله تعالى، والمضادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أحق هذا النقيب بقول القائل:

نزلوا بمكة في قبائل هاشم

ونزلت في البيداء أبعد منزل

وقد سمعتُ أن بعض أدباء بلدته هجاه بقصائد كثيرة، منها قصيدة مطلعها:

أرجح بغداد وإني غريبها

على جنة الفردوس لولا نقيبها

وإني أسأل الله تعالى أن يبصّر المسلمين من أهل الهند وغيرهم حتى لا تكون أموالهم غنيمة لهؤلاء السفهاء، ويصونهم من كيدهم، إنه على كل شيء قدير، ولولا ملاحظة أن يطول الكتاب لأتينا على مفصل أحوال هؤلاء السدنة وعباد الأصنام، وما ذكرناه كاف إن شاء الله تعالى في هذا المقام.

فظهر مما ذكرنا أن قول هذا الجاهل: إن الشيخ محمد ومن وافقه من أهل نجد وغيرهم أهل بدعة هو قول عاطل، بل هم الفرقة الناجية إن شاء الله، وهم أهل السنة والجماعة، وهم عصابة الحق، وأن المبتدعة هم هذا الجاهل الغبي ومن على شاكلته لما سمعتَ من جهلهم وضلالهم، ولكن الأمر كما قيل في المثل السائر:"رمتني بدائها وانسلّت".

وأما الكلام على ما ذكره من القدح والجرح في كتب الشيخين وأضرابهما فسيأتي البحث عنه مفصلاً فيما خصص له من فصول كتابه وعادته ودأبه تكرير الكلام من غير طائل، بل ليعظم حجم الكتاب فيفرح به.

أما قوله: "وقد طبعوا إلى الآن عشرة كتب"، ثم عددها مع الطعن والقدح

ص: 161

فيها- فيقال له: أخطأت في الحساب، كما قد زغت عن جادة الحق والصواب، بل إن الذي طبع من كتب الشيخين ونحوهما نحو مائة كتاب ما بين مختصر ومفصل، منها ما طبع في مصر، ومنها ما طبع في المطابع الهندية، ومنها ما طبع في مكة شرّفها الله، وكل هذه الكتب كنوز علم ومصابيح هدى والحمد لله، كما أنها شجى لأعداء الدين والمبتدعة الملحدين، وإني أبشرك أيها المبتدع أن جميع كتب شيخ الإسلام وأصحابه ستطبع قريباً، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، حيث يظهر بها زيغ الملحدين، وافتراء السبكي وابن حجر1 وأضرابهما من المتبعين لهواهم، الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.

ثم ختم كلامه على الكتب بذكر شيء من قصيدته التي سماها طيبة الغراء، وهي التي ذكر فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان وكل زمان، غير أنه لم يأت بجميع أبياتها هنا، وزعم أنه حاكى بها قصيدة بانت سعاد.

فيقال له: لقد حكيت ولكن فاتك الشنب، وشعره ركيك جداً، وسنتكلم عليه فيما يناسب من مباحث الكتاب.

ثم نقول: إن هذه القصيدة التي ذكرها لا مناسبة لها مع البحث الذي هو بصدده، وهكذا مباحث كتابه كلها على هذا المنوال لم يزل يذكر مباحث غير متناسبة، ويورد أموراً لا تفيده شيئاً، ولم يكن قصده- والله أعلم- إلا انتفاخ كتابه، وبيان رعونته وجهله، نسأل الله تعالى العافية مما ابتلاه به.

ثم إن النبهاني ذكر القسم الثاني من المقدمة، وقال:" إنه يشتمل على اثني عشر تنبيهاً يلزم معرفتها لمن أراد مطالعة هذا الكتاب" وذكر التنبيه الأول، وفيه:"بيان أحوال ابن تيمية والتحذير عنه، وأنه ومن وافقه على ضلال" ثم ذكر التنبيه الثاني وهو بمعنى التنبيه الأول، غير أنه قال:"إنه لا يكفّر ابن تيمية وأصحابه لأنهم من أهل القبلة" وأطال الكلام في ذلك.

1 الهيتمي.

ص: 162

ثم ذكر التنبيه الثالث؛ وفيه ذكر رؤياه لابن السبكي وابن تيمية قائماً والسبكي قاعداً على عجزه مع رجل ثالث ظنه صاحب "الصارم المنكى" ولم يعلم مقصده من هذا التنبيه.

ثم ذكر التنبيه الرابع؛ وقد اشتمل على بيان منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه صاحب الشفاعة العظمى، والمقام المحمود، وأن أهل العلم حثوا على دعائه والاستغاثة به، وطلب ما يطلب من الله تعالى منه، وأنه لم يمنع منها سوى محمد بن عبد الوهاب وأصحابه، والسيد صديق حسن خان وحزبه، وأن هذا الرجل هو الذي طبع كتب السنن وأضل الناس بها.

ثم ذكر التنبيه الخامس؛ وفيه الثناء على ابن تيمية وابن القيم، ودفع التناقض بين ما كان منه من المدح والذم نظراً لاختلاف الحالات، وتغاير الجهات، وتأييد ذلك بما نقل من كتاب الصواعق الإلهية للشيخ سليمان بن عبد الوهاب الحنبلي.

ثم ذكر التنبيه السادس؛ وفيه اعتقاده في ابن تيمية وتلامذته أنهم من أئمة الدين وأكابر علماء المسلمين، وقد نفعوا الأمة المحمدية بعلمهم نفعاً عظيماً، وإن أساؤوا غاية الإساءة في بدعة منع الزيارة والاستغاثة وأضرّوا بها الإسلام والمسلمين، وهذا الذي استوجب رده عليهم حسماً لمادة الفساد. إلى آخر ما هذي به.

ثم ذكر التنبيه السابع؛ وفيه يقول: "إياك أيها المسلم أن يخدعك الشيطان بقبول أقوال ابن تيمية وأصحابه، ويقول لك إنهم من أكابر أهل العلم" إلى آخر هذيانه الذي أورده للتنفير عن أقوال الشيخ ومن يوافقه.

ثم ذكر التنبيه الثامن؛ وفيه: أنه لو كان كلام ابن تيمية حقاً في مسألة المنع من شد الرحل لزيارة القبور لترك الناس الزيارة وخربت المداينة.

ثم ذكر التنبيه التاسع؛ وفيه: أنه لم يقصد بما ألف ردع من يقول بأقوال ابن تيمية عن معتقده المبتدع، فإن هذا مما لا يفيد، بل مقصوده تنبيه الناس على فساد

ص: 163

عقائد هؤلاء القوم، وتحذير المسلمين عن اعتقاد قولهم.

ثم ذكر التنبيه العاشر؛ وفيه: أن ابن تيمية وكذلك أصحابه لم يقصدوا بمنعهم من سفر الزيارة الحط من رتبة النبي صلى الله عليه وسلم حاشاهم من ذلك، فإنهم من أكابر علماء المسلمين، وحماة هذا الدين المبين، ولكن لهم مذهب فاسد في ذلك سلكوه بحسب ما ظهر لهم من الأدلة التي قامت عندهم، وما فهموه من الكتاب والسنة على حسب استعدادهم إلخ.

وهذه التنبيهات بعضها ينقض بعضاً.

ثم نقل عبارة ابن تيمية في كتاب (العقل والنقل) في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ثم تعجب من القائل بهذا القول كيف يمنع من سفر الزيارة والاستغاثة به إلخ.

ثم ذكر التنبيه الحادي عشر؛ وفيه: تحذير الناس من مخالطة من يوافق ابن تيمية في الاعتقاد، فإنهم مبتدعة، وتكلم عليهم بكل ما يستبشع.

ثم ذكر التنبيه الثاني عشر؛ وفيه: بيان أن ابن تيمية لم يخص أحداً بالرد والتضليل، ولكنه خاصم جميع المسلمين. إلى أن قال:"ويزيد على ذلك تكفير كثير من أئمة الصوفية، الذين هم سادات الأمة" إلخ..

أقول: هذا حاصل ما ذكر في تنبيهاته، ويكفي الواقف عليها معرفة مبلغ هذا الرجل من العلم، وخفّة عقله ورعونته، فإن جميع ما ذكره في هذه التنبيهات ضرب من الوسواس وكلام المعتوهين، أو نوع من هذيان المحموم، ومآل جميعها واحد؛ وهو الحط على ابن تيمية وأصحابه، وتحذير الناس من الميل إليه ومطالعة كتبه والأخذ بأقواله بسبب ما ظهر له من منع سفر الزيارة والاستغاثة بمخلوق، وبسبب قوله بهذه المسألتين قد قامت القيامة وفار التنور، وهذا والأمر لله تعالى من إدبار المسلمين وسوء طوالعهم في هذا العصر، عصر الترقي والأخذ بنواصي الكمالات، ونحن سنتكلم على كلا المسألتين في مقامهما، ونضرب صفحاً عن مؤاخذته في كل ما هذى به في هذه التنبيهات وسنبين أقوال أهل العلم في شأن ابن تيمية مما يلقم النبهاني وأضرابه حجر السكوت.

ص: 164

وذكر في التنبيه الثالث رؤياه ولم يعبرها فوجب تعبيرها له، وذلك أنه قال:

رأيت منذ ثلاث سنوات ونيف الإمام ابن تيمية والإمام السبكي في رؤيا وهما في مجلس واحد، والسبكي جالس وهو سمين أسمر عليه هيبة ووقار، وابن تيمية واقف أسمر أغبر نحيف الوجه والجسم عليه هيبة العلم، وقد كان أقرب إلي من السبكي فقصدته لأقبل يده، ويغلب على ظني أني قبلتها وسألته عن مقدار عمره فقال ستمائة سنة، ثم انتبهت".

فيقال له: إن صحت رؤياك أيها النبهاني -وإن كان ما تراه يقظة ومناماً أضغاث أحلام- دلت على أن الله تعالى كشف لك عن حال مقتداك، وشيخ بدعك وهو السبكي، فإنه كما هو المعلوم لدى كل منصف كان من ألد الخصوم لشيخ الإسلام، بل لكل أهل الحق، وحيث كان جالساً بين يدي خصمه فهو دليل على أن خصمه وهو ابن تيمية قد أقعده على عجزه، والأمر كما رأيت، فقد تكلم السبكي على ما أفتى به الشيخ ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة، فرد عليه الشيخ ابن تيمية بعدة مجلدات. يقول ابن السبكي: رأيت منها مجلداً. وأما سواد الوجه الذي لاح في السبكي فهو بيان ما ابتدعه، قال عز ذكره:{تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} 1. وأما السمن الذي كان فيه فهو علامة غيظه وشقائه بين يدي خصمه، وأما وقوف ابن تيمية على ساقه فهو النصر على خصومه، وأنه لم يزل قائماً على ساق الهمة. وأما نحافة وجهه فهو ما كابده من عناء مخاصمة أهل البدع وأعداء الدين، وتعبير سمرته هو من السؤدد، وتقبيل يديه ذلك له وضراعتك للحق، وأما الرجل الذي رأيته وظننته ابن عبد الهادي أو ابن القيم فهو والله أعلم الأول، لأنه الذي رد على مقتداك السبكي بعد وفاة الشيخ ابن تيمية في كتاب (الصارم المنكى في الرد على السبكي) في كتابه (شفاء السقام) وأقعده على عجزه أيضاً، وبين جهله وغباوته، وقد رأيت ولله الحمد تعبير رؤياك من قبل، وأما قوله لك في جواب سؤال عن مدة عمره أنه ستمائة سنة فهو معنى قوله تعالى: {وَلا

1 سورة الزمر: 60.

ص: 165

تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 1 ومثل ابن تيمية لم يمت على تعاقب الأزمان.

وما دام ذكر العبد بالفضل باقياً

فذلك حي وهو في الترب هالك

وقال آخر:

قد مات قوم وما ماتت مكارمهم

وعاش قوم وهم في الناس أموات

فالعالم بما جاء به الرسول العامل به أطوع في أهل الأرض من كل أحد، فإذا مات أحيا الله ذكره، ونشر له في العالمين أحسن الثناء، فالعالم بعد وفاته ميت وهو حي بين الناس، والجاهل في حياته حي وهو ميت بين الناس، كما قيل:

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله

وأجسامهم قبل القبور قبور

وأرواحهم في وحشة من جسومهم

وليس لهم حتى النشور نشور

ومن تأمل أحوال أئمة الإسلام -كأئمة الحديث والفقه- كيف هم تحت التراب وهم في العالمين كأنهم أحياء بينهم لم يفقدوا منهم إلا صورهم، وإلا فذكرهم وحديثهم والثناء عليهم غير منقطع، وهذه هي الحياة حقاً، حتى عد ذلك حياة ثانية، كما قال المتنبي:

ذكر الفتى عيشه الثاني وحاجته

ما فاته وفضول العيش أشغال

ولكن النبهاني على ما حكى لي من رآه أنه كذاب، كثيراً ما يحدث بمنامات لا أصل لها، وفي الحقيقة أن غالب هؤلاء المبتدعة كذلك، وهم بيت الكذب، كما أنهم المنهمكون على الدنيا، وهذا من علائم دجاجلة العصر قبحهم الله تعالى.

هذا وما ذكره في باقي التنبيهات منه ما لا يستحق أن يُصغى إليه لأنه لا يخفى فساده حتى على صغار الطلبة، ومنه ما ذكره النبهاني في باب مختص به،

1 سورة آل عمران: 169.

ص: 166

فأجلنا البحث عنه والكلام عليه إلى وصولنا إليه، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ثم إنه عقد باباً في إثبات مشروعية السفر إلى زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم كسائر الأنبياء والصالحين، وجعله الباب الأول، وافتتحه بأرجوزة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استدل على مشروعية هذا السفر بما ذكره ابن حجر في كتابه (الجوهر المنظّم) وقد أتى بأكثره، والكتاب مشهور، وبما ذكره ابن الحاج في "مدخله" وهو كذلك، ثم بما ذكره السبكي في (شفاء السقام) ثم بما ذكره الشيخ عبد القادر الكيلاني في "الغنية" ثم عقبه بكلام النووي، ثم بكلام ابن الهمام الحنفي في (فتح القدير) ثم بما في (مشارق الأنوار) للشيخ حسن العدوي ثم ذكر ما زوروه من مد اليد للرفاعي1، ثم ذكر أربعين حديثاً في فضل المدينة لأبي الحسن البكري، ثم ختم الباب بخاتمة ذكر اختلاف الناس في التفاضل بين مكة والمدينة، ثم ذكر فصلاً ذكر فيه شيئاً مما لا ينبغي فعله للزائر، نقله من كتاب (الجوهر المنظم) لابن الحجر المكي، ثم نقل عن العدوي كلاماً يتعلق بكرامات الأولياء وتصرفهم، وبه ختم الباب، وحيث أن هذه المباحث مشهورة، بل إنها قد ملتها الأسماع لم أذكرها في هذا المقام لطولها، بل أذكر حاصلها في أثناء الرد عليه، ومن الله التوفيق والهداية إلى أقوم طريق.

أقول: كان من الحزم عدم التعرض لهذه المسائل المفروغ عن تحقيقها، وقد سبق منا بيان العذر للكلام على هذيان النبهاني، مع العلم أنه لا يفيد في رد من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة، فإنه قد ألف في هذا الباب كتب مفصلة ومجملة، قد حقق فيها الكلام على هذه المسائل أتم تحقيق، ومع ذلك لم يؤثر شيئاً في فهم هذا الخصم وأضرابه، وأعاد وأبدى، واستدل بما هو مردود مراراً عديدة، فسبحان من طبع على قلبه.

1 سيأتي الرد على هذه الخرافة.

ص: 167

وهنا كلام لابن القيم يناسب المقام، قال رحمه الله تعالى1: "ومن تأمل القرآن والسنة وسِيَر الأنبياء في أممهم ودعوتهم لهم، وما جرى لهم معهم؛ جزم بخطأ أهل الكلام فيما قالوه، وعلم2 أن القرآن مملوء من الإخبار عن المشركين عباد الأصنام أنهم كانوا يُقٍِرُّون بالله، وأنه هو وحده ربٌّهم وخالِقُهم، وأن الأرض وما فيها له وحده، وأنه ربّ السموات السبع ورب العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وأنه هو الذي سخّر الشمس والقمر، وأنزل المطر وأخرج النبات. والقرآن مناد عليهم بذلك، محتج بما أقروا به من ذلك على صحة ما دعتهم إليه رسله، فكيف يقال: إن القوم لم يكونوا مقرّين قط بأن لهم رباً وخالقاً، هذا بهتان عظيم؛ فالكفر أمر وراء مجرد الجهل، بل الكفر الأغلظ هو ما أنكره هؤلاء وزعموا أنه ليس بكفر.

قالوا: والقلب عليه واجبان لا يصير مؤمناً إلا بهما جميعاً: واجب المعرفة والعلم، وواجب الحب والانقياد والاستسلام، فكما لا يكون مؤمناً إذا لم يأت بواجب العلم والاعتقاد؛ لا يكون مؤمناً إذا لم يأت بواجب الحب والانقياد والاستسلام، بل إذا ترك هذا الواجب مع علمه ومعرفته به كان أعظم كفراً، وأبعد عن الإيمان من الكافر جهلاً، فإن الجاهل إذا عرف وعلم فهو قريب إلى الانقياد والاتباع، وأما المعاند فلا دواء فيه، قال تعالى:{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3.

قالوا: فحبُّ الله ورسوله- بل كون الله ورسوله أحب إلى العبد من سواهما- لا يكون العبد مسلماً إلا به، ولا ريب أن الحب أمر وراء العلم، فما كل من عرف الرسول أحبه كما تقدم.

قالوا: وهذا الحاسد يحمله بغض المحسود على معاداته، والسعي في أذاه

1 في "مفتاح دار السعادة"(1/331- 340 ط. ابن عفان) .

2 عبارة "المفتاح": "وعلم أن عامة كفر الأمم عن تيقّن وعلم ومعرفة بصدق أنبيائهم وصحّة دعواهم وما جاؤوا به. وهذا القرآن مملوء من الإخبار

".

3 سورة آل عمران: 86.

ص: 168

بكل ممكن، مع علمه بفضله وعلمه، وأنه لا شيء فيه يوجب عداوته إلا محاسنه وفضائله.

ولهذا قيل: الحاسد عدو للنعم والمكارم، فالحاسد لم يحمله على معادات المحسود جهله بفضله وكماله، وإنما حمله على ذلك فساد قصده وإرادته، كما هي حال الرسل وورثتهم مع الرؤساء الذين سلبهم الرسل ووارثوهم رياستهم الباطلة، فعادوهم وصدوا النفوس عن متابعتهم، ظناً أن الرياسة تبقى لهم وينفردون بها.

وسنة الله في هؤلاء أن يسلبهم رياسة الدنيا والآخرة، ويصغّرهم في عيون الخلق مقابلة لهم بنقيض قصدهم؛ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} 1.

قال: فهذا موارد احتجاج الفريقين، ومواقف إقدام الطائفتين، فاجلس أيها المنصف منهما مجلس الحكومة، وتوخّ بعلمك وعدلك فصل هذه الخصومة، فقد أدلى كل منهما بحجج لا تُعَارَضُ ولا تُمَانَعُ، وجاء ببينات لا تُرَدُّ ولا تُدَافع، فهل عندك شيء غير هذا يحصل به فصل الخطاب، وينكشف به لطالب الحق وجه الصواب فيرضى الطائفين، ويزول به الاختلاف من البين، وإلا:

فخل المطي وحاديها

وأعط القوس باريها

دع الهوى لأناس يعرفون به

قد كابدوا الحب حتى لان أصعَبُه

ومن عرف قدره وعرف لذي الفضل فضله؛ فقد قرع باب التوفيق، والله الفتاح العليم، فنقول وبالله التوفيق:

كلا الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم، ولا عدلت عن سنن الحق، وإنما الاختلاف والتباين بينهما من عدم التوارد على محل واحد، ومن إطلاق ألفاظ مجملة بتفصيل معانيها يزول الاختلاف، ويظهر أن كل طائفة موافقة للأخرى على نفس قولها.

1 سورة فصلت: 46.

ص: 169

وبيان هذا؛ أن المقتضى قسمان: مقتضى لا يتخلف عنه موجبه ومقتضاه، لقصوره في نفسه عن التمام، أو لفوات شرط اقتضائه، أو قيام مانع منع تأثيره، فإن أريد بكون العلم مقتضياً للاهتداء والاقتضاء التام الذي لا يتخلف عنه أثره بل يلزمه الاهتداء بالفعل؛ فالصواب قول الطائفة الثانية، وأنه لا يلزم من العلم حصول الاهتداء المطلوب. وإن أريد بكونه موجباً أنه صالح للاهتداء مقتض له وقد يتخلف عنه مقتضاه لقصوره أو فوات شرط أو قيام مانع؛ فالصواب قول الطائفة الأولى.

قال: وتفصيل هذه الجملة أن العلم بكون الشيء سببا لمصلحة العبد ولذاته وسروره، قد يتخلف عنه عمله بمقتضاه لأسباب عديدة.

السبب الأول: ضعف معرفته بذلك.

السبب الثاني: عدم الأهلية، وقد تكون معرفته به تامة، لكن يكون مشروطاً بزكاة المحل وقبوله للتزكية، فإذا كان المحل غير زكي ولا قابل للتزكية كان كالأرض الصلدة التي لا يخالطها الماء، فإنه يمتنع النبات منها لعدم أهليتها وقبولها، فإذا كان القلب قاسياً حجرياً لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه، كما لا تنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر وبذر فيها كل بذر، كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 1 وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2 وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 3 وهذا في القرآن كثير. فإذا كان القلب قاسياً غليظاً جافياً لا يعمل فيه العلم شيئاً، وكذلك إذا كان مريضاً مهيناً مائياً لا صلابة

1 سورة يونس: 96- 97.

2 سورة الأنعام: 111.

3 سورة يونس: 101.

ص: 170

فيه ولا قوة ولا عزيمة لم يؤثر فيه العلم.

السبب الثالث: قيام مانع، وهو إما حسد أو كبر، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر، وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وبه تخلّف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم، وهو الذي منع عبد الله بن أُبي من الإيمان، وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل وسائر المشركين؛ فإنهم لم يكونوا يرتابون في صدقه وأن الحق معه، لكن حملهم الكبر والحسد على الكفر، وبه تخلف الإيمان عن أمية وأضرابه ممن كان عنده علم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

السبب الرابع: مانع الرياسة والملك، وإن لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبر عن الانقياد للحق، لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته، فيضن بملكه ورياسته؛ كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه، وأقروا بها باطناً، وأحبوا الدخول في دينه، لكن خافوا على ملكهم، وهذا داء أرباب الملك والولاية والرياسة، وقلَّ من نجا منه إلا من عصم الله، وهو داء فرعون وقومه، ولهذا قالوا:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} 1 أنِفُوا أن يؤمنوا ويتّبعوا موسى وهارون وينقادوا لهما وبنوا إسرائيل عبيد لهم، ولهذا قيل: إن فرعون لما أراد متابعة موسى وتصديقَه شاور هامان وزيره، فقال: بينا أنت إله تُعبد تصير عبداً تعبُد غيرك! فأبى العبودية واختار الرياسة والإلهية المحال.

السبب الخامس: مانع الشهوة والمال؛ وهو الذي منع كثيراً من أهل الكتاب من الإيمان خوفاً من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم، وقد كان كفار قريش يصدُّون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته فيدخلون عليه منها، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا [والفواحش] إن محمداً يُحرّم الزنا ويحرّم الخمر، وبه صدوا الأعشى الشاعر عن الإسلام.

1 سورة المؤمنون: 47.

ص: 171

قال: وقد فاوضتُ غير واحد من أهل الكتاب في الإسلام وصحّته، فكان آخر ما كلمني به أحدهم أنا لا أترك الخمر وأشربها أمناً، فإذا أسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربها!

وقال آخر منهم- بعد أن عرف ما قلت له-: لي أقارب أرباب أموال، وإني إن أسلمتُ لم يصل إليّ منها شيء، وأنا أؤمل أن أرثهم، أو كما قال.

ولا ريب أن هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار، فتنفق قوة داعي الشهوة والمال، وضعف داعي الإيمان، فيجيب داعي الشهوة والمال ويقول لا أرغب بنفسي عن آبائي وسَلَفي.

السبب السادس: محبة الأهل والأقارب والعشيرة؛ يرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم، وهذا سبب بقاء خلق كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم.

السبب السابع: محبة الدار والوطن، وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب، لكن يرى أن في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنّوَى فيضنّ بوطنه.

السبب الثامن: تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراء، وطعناً منه على آبائه وأجداده وذماً لهم، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام؛ استعظموا آبائهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأن يختاروا خلاف ما اختار أولئك لأنفسهم، ورأوا أنهم إن أسلموا سفّهوا أحلام أولئك، وضلّلوا عقولهم، ورموهم بأقبح القبائح وهو الكفر والشرك. ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب1. فلم يدعه أعداء الله إلا من هذا الباب، لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب، وأنه إنما حاز الفخر والشرف به، فكيف يأتي أمراً يلزم

1 انظر: "البخاري"(1360) و"مسلم"(24) .

ص: 172

منه غاية تنقيصه وذمه، ولهذا قال: لولا أن تكون مسبةً على بني عبد المطلب لأقررت بها عينك، أو كما قال1. وهذا شعره يصرح فيه بأنه قد علم وتحقق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه، كقوله:

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية ديناً

لولا الملامة أو حذار مسبّة

لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

وفي قصيدته اللامية2:

فوالله لولا أن تكون مسبة

تجر على أشياخنا في المحافل

لكنا اتبعناه على كل حالة

من الدهر جَدّاً غير قول التهازل

لقد علموا أن ابننا لا مكذّبٌ

لدينا ولا يعنى بقول الأباطل

والمسبة التي زعم أنها تُجَرُّ على أشياخه؛ شهادته عليهم بالكفر والضلال، وتسفيه الأحلام، وتضليل العقول، وهذا هو الذي منعه من الإسلام بعد تيقّنه.

السبب التاسع: متابعة من يعاديه من الناس للرسول، وسبقه إلى الدخول في دينه، وتخصصه وقربه منه، وهذا القدر منع كثيراً من اتّباع الهدى، يكون للرجل عدوّ ويبغض مكانه، ولا يحب أرضاً يمشي عليها، ويقصد مخالفته ومناقضته فيراه قد اتبع الحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق وأهله، وإن كان لا عداوة بينه وبينهم. وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار، فإنهم كانوا أعداءهم وكانوا يتوعّدونهم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم يتبعونه ويقاتلونهم معه فلما بدرهم إليه الأنصار وأسلموا حملهم معاداتهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم.

السبب العاشر: مانع الإلف والعادة والمنشأ؛ فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة، كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد، ولا يعقل نفسه إلا

1 انظر: "صحيح مسلم"(24) .

2 انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 338- 347) .

ص: 173

عليها، ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه، وأن يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال، ويصعب عليه الزوال. وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب معنىً فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنَّحَل، ليس مع أكثرهم بل جميعهم، إلا ما عسى أن يشذ إلا عادة ومربى تربّى عليه طفلاً لا يعرف غيرها، ولا يحسّ به، فدين العوائد هو الغالب على أكثر الناس، فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية.

فصلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله خصوصاً على خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، كيف غيّروا عوائد الأمم الباطلة، ونقلوهم إلى الإيمان، حتى استحدثوا به طبيعة ثانية، خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم الفاسدة، ولا يعلم مشقة هذا على النفوس إلا من زاول نقل رجل واحد عن دينه ومقالته إلى الحق، فجزى الله المرسلين أفضل ما جازى به أحداً من العالمين". انتهى المقصود من نقله.

وهذا كلام حَسَنٌ يُعْلَمُ به سبب عناد المبتدعة على بدعهم، وعدم تأثير الدعوة الحقّة فيهم، إذ هم على قدم أسلافهم الذين لم ينقادوا للحق، ولم يذعنوا لدعوة المرسلين.

وأظن أن هذا الرجل وهو النبهاني المبتدع المجادل بالباطل وكذلك أضرابه من غلاة الشافعية قد توفّرت فيهم الأسباب العشرة السابقة، ولاسيما السبب الأول والثاني؛ فإن اليهود قد أخبر الله تعالى عن حال قلوبهم بقوله:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1.

ونعود إلى كلام هذا المخذول فنقول: إن ما نقله عن ابن حجر والسُّبكي وغيره كله متّحد معنى، ومن بعد السبكي كلهم قلّدوه في رأيه الفاسد، واعتقاده الكاسد، الذي ذكره في كتابه (شفاء السقام) . وقد علمتَ حال هذا الكتاب، وما

1 سورة البقرة: 74.

ص: 174

جرى عليه من الرد والإبطال، فقد رده الإمام العالم العلامة الحافظ المحقق أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي قدس الله روحه، في كتابه الذي سماه (الصارم المنكي في الرد على السبكي) وقد حقق فيه المسائل المتعلقة بزيارة القبور، وبين ما كان فيها من حق وزور، وأظهر جهل السبكي بعلم الأثر والحديث، وعدم فهمه لمقاصد الشريعة.

ومن نظر إلى هذا الكتاب تبين له أن شهرة السبكي بالعلم كانت شهرة كاذبة، وأن نظره كنظر العوام، وأن منزلته من العلماء كقطرة من بحر ماء، ونغبة من داماه لا يعلم شيئاً من معقول ولا منقول، وأن إطراء غلاة الشافعية فيه من محض تعصبهم وقسوة قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة. ولهذا ترى هذا المخذول لم يزل يتمنى أن لم يكن ألف هذا الكتاب، أعني كتاب (الصارم المنكي) فإذا رد هذا الكتاب رد جميع ما ألف في هذه المسألة من كتب الغلاة، ولو لم يكن سوى (الصارم المنكي) لكفى في ذلك، مع أن كتب الرد عليهم لا تعد ولا تحصى، ولا تكاد تستقصى، ولو وقفت على ردود (الجوهر المنظم) لتبين لك أنه خزف لدى كل منصف يعلم، وكل هذه الكتب مشهورة متداولة بين الأيدي، فإذا تكلمنا على ما ذكر هذا المخذول كان عبثاً وتضييعاً للقرطاس.

ولما كانت كتب الخصوم كلها في الرد على شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكروا عنه ما لم يقل به وزوّروا عليه أموراً كثيرة لم يقل بها، ننقل جميع ما قاله في الزيارة من الكتب والفتاوى، ثم تنبه على بطلان قول الخصم المخذول بأوجز عبارة، ومن الله نستمد التوفيق.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في كتابه (الجواب الباهر) 1، لمن سأل من أولياء الأمور عما أفتى به في زيارة المقابر ما نصه- بعد البسملة.

1 طبع الكتاب مستقلاً، وهو ضمن "مجموع الفتاوى"(27/314- 443) أو (27/ 176- وما بعدها- الطبعة الجديدة) .

ص: 175

"قد ذكرتُ فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره -كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج- عمل صالح مستحب. وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك، وكيف يُسلّم عليه، وهل يستقبل الحجرة أم القبلة؟ على قولين؛ فالأكثرون يقولون: يستقبل الحجرة، كمالك والشافعي وأحمد، وأبو حنيفة يقول: يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول، وخلفه في قول، لأن الحجرة لما كانت خارجة المسجد وكان الصحابة يسلّمون عليه لم يكن يمكن أحد أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم ويستدبر القبلة، كما صار ذلك ممكناً بعد دخولها في المسجد.

ثم قال: وأما ما ذُكِرَ في المناسك أنه بعد تحية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه والصلاة والسلام يدعو، فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبره -وذلك بعد تحيته والصلاة والسلام- ثم يدعو لنفسه، وذكروا أنه إذا حياه وصلى عليه يستقبل وجهه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا، وهذا مراعاة منهم لذلك، فإن الدعاء عند القبر لا يُكْرَهُ مطلقاً، بل يؤمر به، كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمناً وتبعاً، وإنما المكروه أن يتحرى المجيء للقبر للدعاء عنده، وكذلك ذكر أصحاب مالك، قالوا: يدنو من القبر فيسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبل القبلة يوليه ظهره، وقيل لا يوليه ظهره، فإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، فإما إذ جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور بلا خلاف، وصار في الروضة أو أمامها، ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر، فإن ذلك قد ثبت النهي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نهى أن يتخذ القبر مسجداً أو قبلة أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه كما لا يصلّى إليه، ولهذا والله أعلم حرفت الحجرة وثلثت لما بنيت، فلم يجعل حائطها الشمالي على سمت القبلة ولا جعل مسطحاً، ولذلك قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد".

ثم إن الشيخ رحمه الله أطال الكلام إلى أن ذكر مسألة السفر للصلاة في المسجد ثم قال: "والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب بإجماع المسلمين، لم

ص: 176

يقل أحد من أئمة المسلمين إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة، ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره صلى الله عليه وسلم، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة، ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك، ولا نهى عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور، بل قد ذكرت في غير موضع استحباب زيارة القبور، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وشهداء أحد، ويعقم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم:"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، ونسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتّنا بعدهم، واغفر لنا ولهم"1.

وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين، وهو أنا أُمِرْنا أن نصلّي ونسلّم عليه في كل صلاة، وشرع ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية، وأن نصلّي ونسلّم عليه عند دخول مسجده وغير مسجده، وعند الخروج منه، وكل من دخل فلا بد أن يصلّي فيه ويسلّم عليه في الصلاة. والسفر إلى مسجده مشروع، لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره، حتى كره مالك أن يقال: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليهم والدعاء لهم، وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده، وعند سماع الأذان، وعند كل دعاء، فشرع الصلاة عليه عند كل دعاء، فإنه {أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 2 ولهذا يسلّم المصلي عليه في الصلاة قبل أن يسلم على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين، فيقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ويصلّي عليه، فيدعو له قبل أن يدعو لنفسه، وأما غيره فليس عنده مسجد فيستحب السفر إليه كما يستحب السفر إلى مسجده، وإنما يشرع أن يزار قبره كما

1 أخرجه مسلم (974/ 103) وغيره من حديث بريدة به مرفوعاً.

2 سورة الأحزاب: 6.

ص: 177

شرعت زيارة القبور، وأما هو فيشرع السفر إلى مسجده وينهى عما يوهم أنه سفر إلى غير المساجد الثلاثة.

ويجب التفريق بين الزيارة الشرعية التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين البدعية التي لم يشرعها، بل نهى عن مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، والصلاة إلى القبر واتخاذه وثناً. وقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"1.

حتى أن أبا هريرة سافر إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى فقال له بصرة بن أبي بصرة الغفاري: لو أدركتك قبل أن تخرج لما خرجتَ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس"2.

فهذه المساجد شُرِعَ السفر إليها لعبادة الله فيها بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف، والمسجد الحرام يختص بالطواف لا يطاف بغيره، وما سواه من المساجد إذا أتاها الإنسان وصلّى فيها من غير سفر كان ذلك من أفضل الأعمال، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة، والعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث"3.

ولو سافر من بلد إلى بلد مثل أن يسافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها

1 أخرجه البخاري (1189، 1995) ومسلم (1397/ 511) .

2 أخرجه مالك في "الموطأ"(1/68/16) 5- كتاب الجمعة (7) باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة. وأحمد (6/ 7) أو رقم (23960- قرطبة) والنسائي (3/ 113- 116) وابن حبان في "صحيحه"(7/7/2772) والحميدي في "مسنده"(2/421/944) والطيالسي (1348) . بإسناد صحيح كما في "أحكام الجنائز" للألباني (ص 287- ط. المعارف) .

3 أخرجه البخاري (477، 647) ومسلم (649) .

ص: 178

أو بالعكس أو يسافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعاً باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، ولو نذر ذلك لم يف بنذره باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، إلا خلاف شاذ عن الليث سعد في المساجد، وقال ابن مسلمة من أصحاب مالك في مسجد قباء فقط.

ولكن إذا أتى المدينة استُحِتَّ له أن يأتي مسجد قباء ويصلّي فيه، لأن ذلك ليس بسفر ولا بشد رحل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً كل سبت ويصلي فيه ركعتين1. وقال:"من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء كان له كعمرة" 2 رواه الترمذي وابن أبي شيبة. وقال سعد بن أبي وقاص وابن عمر: صلاة فيه كعمرة.

ولو نذر المشي إلى مكة للحج والعمرة لزمه باتفاق المسلمين. ولو نذر أن يذهب إلى مسجد المدينة أو بيت المقدس ففيه قولان: أحدهما ليس عليه الوفاء، وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، لأنه ليس من جنسه ما يجب بالشرع، والثاني عليه الوفاء بذلك، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في قوله الآخر، لأن هذا طاعة لله، وقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"3. ولو نذر السفر إلى غير المساجد، أو السفر إلى مجرد قبر نبي أو صالح؛ لم يلزمه الوفاء بنذره باتفاقهم، فإن هذا السفر لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد قال: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد". وإنما يجب بالنذر ما كان طاعة، وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية -إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفى بنذره، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد". والمسألة ذكرها إسماعيل بن إسحق في "المبسوط"ومعناها في

1 أخرجه البخاري (1191) ومسلم (1399) .

2 أخرجه الترمذي (324) وابن ماجه (1411) وغيرهما من حديث أسيد بن ظهير. وأخرجه أحمد (3/ 487) والنسائي (2/37) وابن ماجه (1412) من حديث سهل بن حنيف.

3 أخرجه البخاري (6696، 6700) .

ص: 179

"المدونة" و"الخلاف"1 وغيرهما من كتب أصحاب مالك. يقول: إن من نذر إتيان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء بنذره، لأن المسجد لا يؤتى إلا للصلاة، ومن نذر إتيان المدينة النبوية فإن كان قصده الصلاة في المسجد وفّى بنذره، وإن قصد شيئاً آخر مثل زيارة من بالبقيع أو شهداء أحد لم يف بنذره، لأن السفر إنما يشرع إلى المساجد الثلاثة. وهذا الذي قاله مالك وغيره ما علمت أحداً من أئمة المسلمين قال بخلافه، بل كلامهم يدل على موافقته.

وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد في السفر لزيارة القبور قولين: التحريم، والإباحة. وقدماؤهم وأئمتهم قالوا: إنه محرم، وكذلك أصحاب مالك وغيرهم. وإنما وقع النزاع بين المتأخرين لأن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" صيغة خبر، ومعناه النهي، فيكون حراماً، وقال بعضهم: ليس بنهي؛ وإنما معناه أنه لا يشرع، وليس بواجب ولا مستحب، بل مباح كالسفر في التجارة وغيرها.

فيقال له: تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة، بل يقصد بها مصلحة دنيوية مباحة، والسفر إلى القبور إنما يُقصد به العبادة، والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب، فإذا حصل الاتفاق على أن السفر إلى القبور ليس بواجب ولا مستحب كان من فعله على وجه التعبّد مبتدعاً مخالفاً للإجماع، والتعبد به بدعة ليس بمباح، لكن من لم يعلم أن ذلك بدعة فإنه قد يعذر، فإذا تبينت له السنة لم يجز مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا التعبد بما نهى عنه، كما لا تجوز الصلاة عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، وكما لا يجوز صوم يومي العيدين -وإن كانت الصلاة والصيام من أفضل العبادات- ولو فعل ذلك إنسان قبل العلم بالسنة لم يكن عليه إثم.

فالطوائف متفقة على أنه ليس مستحباً، وما علمتُ أحداً من أئمة المسلمين قال إن السفر إليها مستحب، وإن كان قاله بعض الأتباع فهو ممكن، وأما الأئمة المجتهدون فما منهم من قال هذا.

1 تحرفت في المطبوع إلى: "الجلاب"!!.

ص: 180

وإذا قيل: هذا كان قولاً ثالثاً في المسألة؛ وحينئذ فيبين لصاحبه أن هذا القول خطأ مخالف للسنة ولإجماع الصحابة، فإن الصحابة في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبعدهم إلى انقراض عصرهم لم يسافر أحد منهم إلى قبر نبي، ولا رجل صالح.

وقبر الخليل عليه السلام بالشام لم يسافر إليه أحد من الصحابة، وكانوا يأتون بيت المقدس ويصلّون فيه، ولا يذهبون إلى قبر الخليل، ولم يكن ظاهراً بل كان في البناء الذي بناه سليمان عليه السلام. ولا كان قبر يوسف يعرف، ولكن أظهر ذلك بعد أكثر من ثلثمائة سنة من الهجرة، ولهذا وقع فيه نزاع، فكثير من أهل العلم ينكره، ونقل ذلك عن مالك وغيره، لأن الصحابة لم يكونوا يزورونه فيعرف. ولما استولى النصارى على الشام نقبوا البناء الذي كان على الخليل، واتخذوا المكان كنيسة، ثم لما فتح المسلمون البلد بقي مفتوحاً، وأما على عهد الصحابة فكان قبر الخليل عليه السلام مثل قبر نبينا صلى الله عليه وسلم. ولم يكن أحد من الصحابة يسافر إلى المدينة لأجل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يأتون فيصلون في مسجده ويسلمون عليه في الصلاة، ويسلم من سلم عند دخول المسجد والخروج منه، وهو مدفون في حجرة عائشة، فلا يدخلون الحجرة ولا يقفون خارجاً عنها في المسجد عند السور، وكان يقدم في خلافة أبي بكر وعمر أمداد اليمن الذين فتحوا الشام والعراق- وهم الذين قال الله فيهم:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1. ويصلون في مسجده كما ذكرنا، ولم يكن أحد يذهب إلى القبر، ولا يدخل الحجرة ولا يقوم خارجها في المسجد، بل السلام عليه من خارج الحجرة، وعمدة مالك وغيره فيه على ما فعل ابن عمر.

وبكل حال فهذا القول لو قاله نصف المسلمين لكان له حكم أمثاله في مسائل النزاع، وأما أن يجعل هو الدين الحق ويستحل عقوبة من خالفه ويقال بكفره فهذا خلاف إجماع المسلمين، وخلاف ما جاء به الكتاب والسنة، فإن كان

1 سورة المائدة: 54.

ص: 181

المخالف للرسول في هذه المسألة يكفر؛ فالذي خالف سنته وإجماع الصحابة وعلماء أمته فهو الكافر. ونحن لا نكفر أحداً من المسلمين بالخطأ لا في هذه المسائل ولا في غيرها، ولكن إن قدر تكفير المخطىء فمن خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والعلماء أولى بالكفر ممن وافق الكتاب والسنة والصحابة وسلف الأمة وأئمتها. فأئمة المسلمين فرقوا بين ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما نهى عنه في هذا وغيره، فما أمر به هو عبادة وطاعة وقربة، وما نهى عنه بخلاف ذلك، بل قد يكون شركاً، كما يفعله أهل الضلال من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم؛ حيث يتخذون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، ويصلّون إليها، وينذرون لها، ويحجون لها، بل قد يجعلون الحج إلى بيت المخلوق أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام، ويسمون ذلك الحج الأكبر، وصنّف لهم شيوخهم في ذلك مصنفات، كما صنف المفيد ابن النعمان كتاباً في مناسك المشاهد، سماه (مناسك حج المشاهد) وشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.

وأصل دين الإسلام؛ أن تعبد الله وحده، ولا نجعل له من خلقه نداً ولا كفواً ولا سميا، قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 1 وقال: وقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 2. وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3. وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 4.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلتُ يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشيه أن يطعم معك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تُزَاني بحليلة جارك" 5 وقال تعالى:

1 سورة مريم: 65.

2 سورة الإخلاص: 4.

3 سورة الشورى: 11.

4 سورة البقرة: 22.

5 أخرجه البخاري (4477) ومسلم (86) .

ص: 182

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 1 ممن سوّى بين الخالق والمخلوق في الحب له، والخوف منه، والرجاء له، فهو مشرك. والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أمته عن دقيق الشرك وجليله، حتى قال صلى الله عليه وسلم:"من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه أبو داود2. وقال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: "أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده"3. وقال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد"4. وجاء معاذ بن جبل مرة فسجد له، فقال له:"ما هذا يا معاذ؟ " فقال: يا رسول الله؛ رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم. فقال:"يا معاذ؛ إنه لا يصلح السجود إلا لله، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد؛ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَمِ حقّه عليها"5.

فلهذا فرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين زيارة أهل التوحيد، وبين زيارة أهل الشرك، فزيارة أهل التوحيد لقبور المسلمين تتضمن السلام عليهم، والدعاء لهم، وهو مثل الصلاة على جنائزهم، وزيارة أهل الشرك تتضمن أنهم يشبّهون المخلوق بالخالق؛ ينذرون له، ويسجدون له، ويدعونه، ويحبونه مثل ما يحبون الخالق، فيكونون قد جعلوه لله نِدّاً، وسوّوه برب العالمين، وقد نهى الله تعالى أن يشرك به الملائكة والأنبياء وغيرهم، فقال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 6 وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ

1 سورة البقرة: 165.

2 في "سننه"(3251) وأخرجه أحمد (2/87) ، وهو حديث صحيح.

3 أخرجه أحمد (1/214) وهو في "الصحيحة"(139) .

4 أخرجه أحمد (6/372) والنسائي (7/6) وفي "الكبرى"(6/254/10822،10823) وغيرهما، وهو في "الصحيحة"(137) .

5 أخرجه أحمد (4/381) وابن ماجه (1853) وغيرهما، وهو حديث صحيح؛ انظر "الصحيحة"(1203) .

6 سورة آل عمران: 79-80.

ص: 183

وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 1.

قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الأنبياء كالمسيح وعزير، ويدعون الملائكة، فأخبرهم الله أن هؤلاء عبيده، يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويتقربون إليه بالأعمال.

ونهى سبحانه أن يضرب له مثل بالمخلوق، فلا يشبه بالمخلوق الذي يحتاج إلى الأعوان والحُجّاب ونحو ذلك، قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 2. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3.

وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الشفعاء لديه، وشفاعته أعظم الشفاعات، وجاهه عند الله أعظم الجاهات، ويوم القيامة إذا طلب الخلق الشفاعة من آدم ثم من نوح ثم من إبراهيم ثم من موسى ثم من عيسى كل واحد يحيلهم على الآخر، فإذا جاؤوا إلى المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد؛ عبدٌ غَفَرَ الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال:"فأذهب فإذا رأيت ربّي خررتُ له ساجداً، وأحمدُ ربي بمحامد يفتحها عليّ لا أُحسنها الآن، فيقال: أي محمد؛ ارفع رأسك وقل يُسْمَعْ، وسَلْ تُعْطَه، واشفَعْ تشفّع، قال: فيُحَدُّ لي حداً فأُدْخِلُهم الجنة"4.

فمن أنكر شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر فهو مبتدع ضال، كما ينكرها الخوارج والمعتزلة، ومن قال إن مخلوقاً يشفع عند الله بغير إذنه؛ فقد خالف

1 سورة الإسراء: 56- 57.

2 سورة البقرة: 186.

3 سورة سبأ: 22- 23.

4 أخرجه البخاري (4476) ومسلم (193) .

ص: 184

إجماع المسلمين ونصوص القرآن، قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1. وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 2. وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 3. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 4 وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 5 ومثل هذا في القرآن كثير.

فالدين هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يأمر به، وينهى عما نهى عنه، ويحب ما أحبه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله من الأعمال والأشخاص، والله سبحانه وتعالى قد بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالفرقان، ففرّق بين هذا وهذا، فليس لأحد أن يجمع بين ما فرق الله بينه.

فمن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فصلّى في مسجده، وصلى في مسجد قباء، وزار القبور كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو الذي عمل العمل الصالح. ومن أنكر هذا السفر فهو كافر يستتاب؛ فإن تاب وإلا قُتِلَ.

وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في مسجده وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده صلى الله عليه وسلم ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع فهذا مبتدع ضال، مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء أمته، وهو الذي ذكر فيه القولان (أحدهما) : أنه محرم (والثاني) : لا شيء عليه ولا أجر له.

والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية، يصلون في مسجده صلى الله عليه وسلم،

1 سورة البقرة: 255.

2 سورة الأنبياء: 28.

3 سورة النجم: 26.

4 سورة طه: 108- 159.

5 سورة السجدة: 4.

ص: 185

ويسلّمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة؛ وهذا مشروع باتفاق المسلمين.

قد ذكرت هذا في المناسك وفي الفتيا، وذكرت أنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وهذا الذي لم أذكر فيه نزاعاً في الفتيا مع أن فيه نزاعاً، إذ من العلماء من لا يستحب زيارة القبور مطلقاً، ومنهم من يكرهها مطلقاً، كما نُقِلَ ذلك عن إبراهيم النخعي، والشَّعبي، ومحمد بن سيرين؛ وهؤلاء من أجلة التابعين، ونقل ذلك عن مالك، وعنه أنها مباحة ليست مستحبة. وأما إذا قدر من أتى المسجد فلم يصل فيه ولكن أتى القبر ثم رجع فهذا هو الذي أنكره الأئمة كمال وغيره، وليس هذا مستحباً عند أحد من العلماء، وهو محل النزاع؛ هل هو حرام أو مباح؟ وما علمنا أحداً من علماء المسلمين استحب مثل هذا".

ثم ذكر عليه الرحمة حكم السفر إلى القبور من كلامه في "الجواب الباهر" فقال: "وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجوداً في الإسلام في زمن مالك، وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة، قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فأما هذه القرون التي أثنى عليها: رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن هذا ظاهراً فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك، ولهذا لما سأل سائل لمالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان أراد المسجد فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد".

كذلك من يزور قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم أو يطلب منهم الدعاء أو يقصد الدعاء عندهم -لكونه أقرب إجابة في ظنه- فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك، لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وإذا كان مالك يكره أن يطيل الوقوف عنده للدعاء فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ولا الدعاء له، وإنما يقصد دعاءه، وطلب حوائجه منه، ويرفع صوته عنده، فيؤذي الرسول، ويشرك بالله، ويظلم نفسه؟!

ولم يعتمد الأئمة الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي

ص: 186

يرويها بعض الناس في ذلك؛ بمثل ما يروون أنه قال: "من زارني في مماتي فكأنما زارني في حياتي"1. ومن قوله "من زارني وزار أبي في عام ضمنتُ له على الله الجنة"2. ونحو ذلك، فإن هذا لم يروه أحد من أئمة المسلمين، ولم يعتمدوا

1 حديث ضعيف.

أخرجه الدارقطني في "سننه"(1/278/193) والبيهقي في "شعب الإيمان"(3/488/4151) والدينوري في "المجالسة"(1/441/130) والعقيلي في "الضعفاء"(4/ 362) .

من طريق: هارون أبي قزعة، عن رجل من آل حاطب، عن حاطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فذكره. وهذا إسناد ضعيف جداً.

هارون أبو قزعة؛ ضعفه يعقوب بن شيبة. وذكره العقيلي والساجي وابن الجارود في "الضعفاء". وقال البخاري: "لا يتابع عليه". انظر: "لسان الميزان"(6/238) .

أضف إلى ذلك جهالة الرجل الذي من آل حاط.

ومع هذا فقد قام أحد المشوّهين لعلم الحديث -وهو المدعو محمود سعيد ممدوح- في كتابه المتهافت "رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة" بمحاولة بائسة لتحسين الحديث أو الاعتبار به. فقال (ص 274) - بعد أن نقل كلام العلماء في تضعيف هارون بن أبي قزعة:

"لكن ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/580) "!

قلت: وهذا تلبيس منه وتدليس. أما التلبيس؛ فقوله: ذكره ابن حبان في "الثقات".

وهذا حق! لكنه لم يذكر كلام ابن حبان وهو قوله: "يروي عن رجل من ولد حاطب المراسيل".

وأما التدليس؛ فهو اعتباره بتوثيق ابن حبان مع ما مرّ وتقدّم من جرح أساطين المحدثين والحفاظ لهذا الراوي؛ فهل هذا من منهج من ينتسب للعلم فضلاً عمن ينتسب للحديث؟! وأغرب من ذلك قوله: "فالرجل ممن يعتبر بحديث ويستشهد به"!! فلا حول ولا وقوة إلا بالله. ثم قال- هداه الله وأخذ بيده للحق-: "وقد قال الحافظ الذهبي: "أجودها-[كذا](أي: أحاديث الزيارة) - إسناداً حديث حاطب.."!

قلت: وهذا كذب وتدليس أيضاً. فإن الذهبي إنما قال: "أجودهما حديث حاطب هذا".

يعني أجود الحديثين-[حديث ابن عمر في الزيارة وحديث حاطب]- هو حديث حاطب. وكذا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى- ولا يعني هذا- كما هو معلوم- تصحيح الحديث. فماذا بعد الحق إلا الضلال.

وانظر: "الصارم المنكي"(ص 110- 111) و "الضعيفة"(1021) .

2 حديث موضوع. قال الإمام النووي في "المجموع"(8/ 481) : "وهذا باطل ليس هو مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف، بل وضعه بعض الفجرة".

ص: 187

عليها، ولم يروها لا أهل الصحاح، ولا أهل السُّنن التي يُعْتَمَدُ عليها؛ كأبي داود، والنسائي، لأنها ضعيفة بل موضوعة، كما قد بين العلماء الكلام عليها.

ومن زاره في حياته كان من المهاجرين إليه، والواحد بعدهم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، وهو إذا أتى بالفرائض لا يكون مثل الصحابة، فكيف يكون مثلهم في النوافل، أو بما ليس بقربة، أو بما هو منهي عنه؟!

وكره مالك رحمه الله أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كره هذا اللفظ لأن السنة لم تأت به في قبره.

وقد ذكروا في تعليل ذلك وجوهاً، ورخص غيره في هذا اللفظ للأحاديث العامة في زيارة القبور، ومالك يستحب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجده، وكذلك السلام عليه وعلى صاحبيه عند قبورهم اتباعاً لابن عمر. ومالك رضي الله عنه من أعلم الناس بهذا، لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة، ولهذا كان يستحب اتباع السلف في ذلك، ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة، فكره أن يطيل القيام والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك، وكره لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك.

قال مالك: "ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها" بل كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، فإن الأربعة صلوا أئمة في مسجده، والمسلمون يصلون خلفهم، وهم يقولون في الصلاة السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته كما كانوا يقولون ذلك في حياته، ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم بأن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل، وهي المشروعة.

وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو الصلاة والدعاء فإنه لم

ص: 188

يشرعه لهم، بل نهاهم، وقال:"لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"1. فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد، وكذلك السلام، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، ومن سلّم عليه [مرة] سلم الله عليه عشراً. وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيداً وهو قد نهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجداً، ولعن من فعل ذلك، ليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة.

وكان أصحابه خير القرون، وهم أعلم الناس بسننه، وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى المسجد لا يذهب أحد منهم إلى قبره لا من داخل الحجرة ولا من خارجها، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذا كانت عائشة فيها، وبعد ذلك إلى أن بنى الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه، لا لسلام ولا لصلاة، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم- حتى يسمعهم كلاماً وسلاماً فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم، وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج- كما طمع الشيطان في غيرهم، فأضلّهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يحدثهم ويفتيهم، ويأمرهم وينهاهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجاً من القبر، ويظنون أن نفس أبداًن الموتى خرجت من القبر تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا مناماً.

فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة

1 أخرجه أحمد (2/367) وأبو داود (2042) والبيهقي في "شعب الإيمان"(3/491/4162) وابن فيل في "جزئه" كما في "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص 107) .

من طريق: عبد الله بن نافع؛ أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة به مرفوعاً.

وهذا إسناد حسن؛ لأجل عبد الله بن نافع، ففي حفظه لين. وحسّن إسناده شيخ الإسلام في "الاقتضاء"(2/ 659-660) وصحّحه النووي في "المجموع"(8/275) وحسّنه الألباني في "أحكام الجنائز"(ص 280) .

ص: 189

أخرجت للناس، وهم تلقّوا الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ففهموا من مقاصده وعاينوا من أفعاله وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم، وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه"1. وهذا قاله لخالد بن الوليد لما تشاجر هو وعبد الرحمن بن عوف، لأن عبد الرحمن بن عوف كان من السابقين الأولين، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وهو فتح الحديبية، وخالد هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة أسلموا في مدة الهدنة بعد الحديبية وقبل فتح مكة، فكانوا من المهاجرين التابعين لا من المهاجرين الأولين.

وأما الذين أسلموا عام فتح مكة فليسوا بمهاجرين، لأنه لا هجرة بعد الفتح بل كان الذين أسلموا من أهل مكة يقال لهم الطلقاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقهم بعد الاستيلاء عليهم عنوة كما يطلق الأسير، والذين بايعوه تحت الشجرة ومن كان من مهاجرة الحبشة هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.

وفي الصحيح عن جابر قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وكنا ألفاً وأربعمائة2.

ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما نال ممن بعدهم، فلم يكن فيهم يتعمّد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان له أعمال غير ذلك قد تنكر عليه- ولم يكن فيهم من أهل البدع المشهورة، كالخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجهمية، بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم، ولم يكن فيهم من طمع الشيطان أن يترائى له في صورة بشر ويقول أنا الخضر، أو أنا إبراهيم، أو موسى، أو عيسى أو المسيح، أو أن يكلمه اعند قبر حتى يظن أن

1 أخرجه البخاري (3673) ومسلم (2541) .

2 أخرجه البخاري (4154) .

ص: 190

صاحبه كلمه، بل هذا إنما ناله فيمن بعدهم، وناله أيضاً من النصارى، حيث أتاهم بعد الصلب وقال: أنا هو المسيح وهذه مواضع المسامير- ولا يقول أنا الشيطان فإن الشيطان لا يكون جسداً- أو كما قال. وهذا هو الذي اعتمد عليه النصارى في أنه صُلب، لا في مشاهدته فإن أحداً منهم لم يشاهد الصلب، وإنما حضره بعض اليهود، وعلقوا المصلوب وهم يعتقدون أنه المسيح، ولهذا جعل الله هذا من ذنوبهم وإن لم يكونوا صلبوه، ولكنهم قصدوا هذا الفعل وفرحوا به، قال تعالى:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً* وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 1. وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود؛ أن الصحابة رضي الله عنهم لم يطمع الشيطان أن يضلَّهم كما أضلَّ غيرهم من أهل البدع؛ الذين تأوّلوا القرآن على غير تأويله، وجهلوا السنة إذا رأوا أو سمعوا أموراً من الخوارق فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين، وكانت من أفعال الشياطين، كما أضل النصارى وأهل البدع بمثل ذلك، فهم يتبعون المتشابه من الكتاب، ويدَعُوَن المحكم، ولذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية، كما يسمع ويرى أموراً فيظن أنه رحماني وإنما هو شيطاني، ويدعون البيّن الحق الذي لا إجمال فيه، ولذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل في صورته، ويغيث من استغاث به، أو أن يحمل صوتاً يشبه صوته، لأن الذين رأوه قد علموا أن هذا شرك لا يحل. ولهذا أيضاً لم يطمع فيهم أني قول أحد منهم لأصحابه إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، ولا تستغيثوا بي لا في محياي ولا في مماتي، كما جرى مثل هذا الكثير من المتأخرين، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم ويقول: أنا من رجال الغيب، أو الأوتاد الأربعة، أو من السبعة، أو الأربعين، أو يقول له: أنت منهم؛ إذ كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له. ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول: أنا رسول الله- ويخاطبه عند القبر- كما وقع ذلك لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره، وعند غير القبور،

1 سورة النساء: 156- 158.

ص: 191

كما يقع كثير من ذلك للمشركين وأهل الكتاب، يرون بعد الموت من يعظّمونه، فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم، والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم، والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه؛ إما النبي صلى الله عليه وسلم، وإما غيره من الأنبياء- يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم من يخيل له أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم وعانقه هو وصاحباه، ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام إلى مكان بعيد، وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عدداً كثيراً، وقد حدثني بما وقع له في ذلك وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم.

وهذا موجود عند خلق كثير، كما هو موجود عند النصارى والمشركين، لكن كثير من الناس يكذب بهذا، وكثير منهم إذا صدق به يعتقد أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه، ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه أضل من فعل به ذلك، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله، ومن كان أقل علماً قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافاً ظاهراً، ومن عندهم علم بها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيد فائدة في دينه، بل يضله عن بعض ما كان يعرفه، فإن هذا فعل الشياطين، وهو وإن ظن أنه استفاد شيئاً فالذي خسره من دينه أكثر، ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة أن الخضر أتاه، ولا موسى ولا عيسى، ولا أنه سمع رد النبي صلى الله عليه وسلم. وابن عمر كان يسلم ولم يقل قط أنه سمع الرد، وكذلك التابعون وتابعوهم، وإنما حدث هذا في بعض المتأخرين. وكذلك لم يكن أحد من الصحابة يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم، لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به، حتى ابنته فاطمة لم يطمع الشيطان أن يقول لها اذهبي إلى قبره فسليه هل يورث، كما أنهم أيضاً لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا، ولا قال اطلبوا منه أن يستنصر لكم ولا أن يستغفر كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم وأن يستغفر لهم، فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته

ص: 192

أن يطلبوا منه ذلك، ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة، وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة فأضله الشيطان كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.

وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء، ولا أن يقطع به الأرض في مدة قريبة، كما يقع مثل هذا لكثير من المتأخرين، لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات، كسفر الحج والعمرة والجهاد، وهم يثابون على كل خطوة يخطونها فيه، وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم، كالذي يخرج من بيته إلى المسجد فخطواته إحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة، فلم يمكن الشيطان أن يفوتهم ذلك الأجر، بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزاً حتى يقطعوا المسافة بسرعة.

وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أَسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته، وأنه أراه من آياته الكبرى، وكان هذا من خصائصه فليس لمن بعده مثل هذا المعراج، ولكن الشيطان يخيل إليه معاريج شيطانية كما خيلها لجماعة من المتأخرين.

وأما قطع النهر الكبير بالسير على الماء فهذا قد يحتاج إليه المؤمنون أحياناً، مثل أن لا يمكنهم العبور إلى العدو وتكميل الجهاد إلا بذلك، فلهذا كان الله يكرم من يحتاج إلى ذلك من الصحابة والتابعين بمثل ذلك، كما أكرم به العلاء بن الحضرمي وأصحابه، وأبا مسلم الخولاني وأصحابه، وبسط هذا له موضع آخر غير هذا الكتاب.

لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون، وأفضل الخلق بعد الأنبياء، فما ظهر فيمن بعدهم مما يظن أنها فضيلة للمتأخرين ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان، وهي نقيصة لا فضيلة، سواء كانت من جنس العلوم، أو من جنس العبادات، أو من جنس الخوارق والآيات، أو من جنس السياسة والملك، بل خير

ص: 193

الناس بعدهم أتبعهم لهم، قال ابن مسعود رضي الله عنه:"من كان منكم مستناً فليستنّ بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلّها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"1. وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا: أن الصحابة تركوا البدع المتعلقة بالقبور بقبره وقبر غيره لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور الأنبياء أوثاناً، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلّم عليه إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر يفعل. بل كانوا في حياته يسلّمون عليه ثم يخرجون من المسجد لا يأتون إليه عند كل صلاة، وإذا جاء أحد سلم عليه رد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك من سلم عليه عند قبره رد عليه، وكانوا يدخلون على عائشة فكانوا يسلمون عليه كما كانوا يسلمون في حياته، ويقول أحدهم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقد جاء هذا عامّاً؛ "ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام" 2 فإذا كان رد السلام موجوداً في عموم المؤمنين فهو في أفضل الخلق أولى، وإذا سلم المسلم عليه في صلاته فإنه وإن لم يرد عليه لكن الله يسلم عليه عشراً، كما في الحديث:"من سلّم عليَّ مرة سلم الله عليه عشراً"3. فالله يجزيه على هذا السلام أفضل مما يحصل بالرد، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً.

وكان ابن عمر يسلّم عليه ثم ينصرف ولا يقف لا لدعاء له إلا لنفسه، لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة، قال مالك:"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها" مع أن فعل ابن عمر إذا لم يفعل مثله

1 أخرجه الهروي في "ذم الكلام"(4/38/758) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/947/1810) بإسناد منقطع.

2 حديث منكر كما قال ابن رجب في "أهوال القبور".

3 لم أجده بهذا اللفظ.

ص: 194

سائر الصحابة إنما يحصل للتسويغ، كأمثال ذلك فيما يفعله بعض الصحابة.

وأما القول بأن هذا الفعل مستحب، أو منهي عنه، أو مباح؛ فلا يثبت إلا بدليل شرعي. فالوجوب، والندب، والإباحة، والاستحباب، والكراهة، والتحريم؛ لا يثبت شيء منها إلا بالأدلة الشرعية، والأدلة الشرعية كلها مرجعها إليه، فالقرآن هو الذي بلغه، والسنة هي التي علمها، والإجماع بقوله عرف أنه معصوم، والقياس إنما يكون حجة إذا علمنا أن الفرع مثل الأصل، أو أن علة الأصل في الفرع. وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لا يتناقض فلا يحكم في المتماثلين بحكمين متناقضين، ولا يحكم بالحكم لعلة تارة ويمنعه أخرى مع وجود العلة، إلا لاختصاص إحدى الصورتين بما يوجب التخصيص، فشرعه هو ما شرعه، وسنته هي ما سَنَّها، لا يضاف إليه قول غيره وفعله وإن كان من أفضل الناس إذا وردت سنته، بل ولا يضاف إليه إلا بدليل يدل على الإضافة، ولهذا كان الصحابة كأبي بكر وعمر وابن مسعود يقولون باجتهادهم، ويكونون مصيبين موافقين لسنته، لكن يقول أحدهم: أقول في هذا برأي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. فإن كان ما خالف سنته فهو شرع منسوخ مبدل، لكن المجتهدون وإن قالوا برأيهم وأخطؤوا فلهم أجر وخطأهم مغفور لهم.

وكان الصحابة إذا أراد أحدهم أن يدعو لنفسه استقبل القبلة ودعا لنفسه كما كانوا يفعلون في حياته، لا يقصدون الدعاء عند الحجرة، ولا يدخل أحدهم إلى القبر، والسلام عليه قد شرع للمسلمين في كل صلاة، وشرع للمسلمين إذا دخل أحدهم المسجد أي مسجد كان.

فالنوع الأول: كل صلاة يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فإذا قلتم ذلك أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض"1. فقد شرع للمسلمين

1 أخرجه البخاري (831) ومسلم (402) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 195

في كل صلاة أن يسلّموا على النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً وعلى عباد الله الصالحين من الملائكة والإنس والجن.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" 1 وقد روُي عنه التشهد بألفاظ أخر، كما رواه مسلم من حديث ابن عباس2، وكما كان ابن عمر يعلم الناس التشهد. ورواه مسلم من حديث أبي موسى3، لكن مثل تشهد ابن مسعود. ولكن لم يخرج البخاري إلا تشهد ابن مسعود، وكل ذلك سائغ فإن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فالتشهد أولى.

والمقصود؛ أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أن المصلي إذا قال: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض، وهذا يتناول الملائكة والإنس والجن، كما قال تعالى عنهم:{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} 4.

والنوع الثاني: السلام عليه عند دخول المسجد، كما في "المسند" و"السنن" عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اكفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك"5.

1 المصدرين السابقين.

2 مسلم (403) .

3 "صحيح مسلم"(404) .

4 سورة الجن: 11.

5 أخرجه أحمد (6/282) والترمذي (314) وابن ماجه (771) وغيرهم، وصحّحه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه"(625) .

ص: 196

وروى مسلم في صحيحه1 الدعاء عند دخول المسجد بأن يفتح له أبواب رحمته، وعند خروجه بسؤال الله من فضله. وهذا الدعاء مؤكد في دخول مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكره العلماء فيما صنفوه من المناسك لمن أتى إلى مسجده أن يقول ذلك، فإن السلام عليه مشروع عند دخول المسجد والخروج [منه] ، وفي نفس كل صلاة، وهذا أفضل وأنفع من السلام عند قبره وأدوم، وهذا مصلحة محضة لا مفسدة، فبها يرضى الله، ويوصل نفع ذلك إلى رسول الله وإلى المؤمن، وهذا مشروع في كل صلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه، بخلاف السلام عند القبر؛ مع أن قبره من حين دفن لم يمكن أحد من الدخول إليه، لا لزيارة ولا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك، ولكن كانت عائشة فيه لأنه بيتها، وكانت ناحية عن القبور لأن القبور في مقدمة الحجرة، وكانت هي في مؤخرة الحجرة، ولم يكن الصحابة يدخلون إلى هناك.

وكانت الحجرة على عهد الصحابة خارجة عن المسجد متصلة به، وإنما دخلت فيه في خلافة عبد الملك بن مروان بعد موت العبادة ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمر، بل موت جميع الصحابة الذين كانوا بالمدينة، ولم يكن الصحابة يدخلون إلى عند القبر، ولا يقفون عنده خارجاً، مع أنهم يدخلون إلى مسجده ليلاً ونهاراً، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام"2. وقال: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس"3. وكانوا يقدمون من الأسفار للاجتماع بالخلفاء الراشدين وغير ذلك فيصلّون في مسجده، ويسلمون عليه في الصلاة، وعند دخول المسجد والخروج منه، ولا يأتون القبر، إذ كان عندهم مما لم يأمرهم به، ولم يسئه لهم، وإنما أمرهم وسن لهم الصلاة والسلام

1 برقم (713) .

2 أخرجه البخاري (1190) ومسلم (1394) .

3 تقدم تخريجه.

ص: 197

عليه في الصلاة، وعند دخولهم المساجد وغير ذلك، ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر، وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضاً، فهكذا رأي من رأى من العلماء هذا جائزاً اقتداء بالصحابة رضي الله عنهم، وابن عمر كان يسلم ثم ينصرف ولا يقف يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولم يكن جمهور الصحابة يفعلون ذلك، إذ لم يكن هذا سنة سنها لهم.

وكذلك أزواجه كنّ على عهد الخلفاء وبعدهم يسافرون للحج، ثم ترجع كل واحدة إلى بيتها كما وصاهن بذلك، وكانت أمداد اليمن الذين قال الله فيهم:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1 على عهد أبي بكر وعمر يأتون أفواجاً من اليمن للجهاد في سبيل الله، ويصلّون خلف أبي بكر وعمر في مسجده، ولا يدخل أحد منهم إلى داخل الحجرة، ولا يقف في المسجد خارجاً منها، لا لدعاء ولا صلاة ولا سلام ولا غير ذلك، وكانوا عالمين بسنته، كما علمهم الصحابة والتابعون أن حقوقه ملازمة لحقوق الله، وأن جميع ما أمر الله به وأحبه من حقوقه وحقوق رسوله فإن صاحبها يؤمر بها في جميع المواضع والبقاع، فليست الصلاة والسلام عليه عند قبره بأوكد من ذلك في غير ذلك المكان، بل صاحبها مأمور بها حيث كان، إما مطلقاً وإما عند الأسباب المؤكّدة لها، كالصلاة والدعاء والأذان، ولم يكن شيء من حقوقه ولا شيء من العبادات هو عند قبره أفضل منه في غير تلك البقعة، بل نفس مسجده له فضيلة لكونه مسجده، ومن اعتقد أنه قبل القبر لم يكن له فضيلة -إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه والمهاجرون والأنصار وإنما حدثت له الفضيلة في خلافة الوليد بن عبد الملك لما أدخل الحجرة في مسجده- فهذا لا يقوله إلا جاهل مفرط في الجهل، أو كافر، فهو مكذب لما جاء، مستحق للقتل.

وكان الصحابة يدعون في مسجده كما كانوا يدعون في حياته، لم يتجدد لهم

1 سورة المائدة: 54.

ص: 198

شريعة غير الشريعة التي علمهم إياها في حياته، وهو لم يأمرهم إذا كان لأحدهم حاجة أن يذهب إلى قبر نبي أو صالح فيصلّي عنده ويدعوه، أو يدعو بلا صلاة، أو يسأله حوائجه، أو يسأله أن يسأل ربه، فقد علم الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بشيء من ذلك، ولا أمرهم أن يخصُّوا قبره أو حجرته لا بصلاة ولا دعاء، لا له ولا لأنفسهم، بل قد نهاهم أن يتخذوا بيته عيداً، فلم يقل لهم كما يقول بعض الشيوخ الجهال لأصحابه: إذا كان لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، بل نهاهم عما هو أبلغ من ذلك أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجداً يصلون فيه لله، ليسد ذريعة الشرك، فصلى الله عليه وعلى اله وأصحابه وسلم تسليماً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته، قد بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فكان إنعام الله به أفضل نعمة أنعم بها على أهل الأرض.

وقد دلهم صلى الله عليه وسلم على أفضل العبادات، وأفضل البقاع، كما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول؛ أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على مواقيتها" قلت: ثم أي؟ قال: "ثم بر الوالدين" قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". سألته عنهن، ولو استزدته لزادني1.

وفي"المسند" و"سنن ابن ماجه" عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"2. والصلاة قد سُنَّ للأمة أن تُتَّخَذَ لها مساجد، وهي أحبُّ البقاع إلى الله، كما ثبت عنه في صحيح مسلم وغيره أنه قال: "أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق"3. ومع هذا فقد لعن من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد- وهو في مرض الموت- نصيحة للأمة، وحرصاً منه

1 أخرجه البخاري (2782) ومسلم (85) .

2 أخرجه أحمد (5/277) وابن ماجه (277) وصحّحه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل"(412) و"صحيح سنن ابن ماجه"(224) .

3 أخرجه مسلم (671) .

ص: 199

على هذا، كما نعته الله بقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -في مرضه الذي لم يقم منه-: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت عائشة: ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرُه، ولكن كره أن يُتَّخَذَ مسجداً2.

وعن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه، فقال- وهو كذلك-:"لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذّر ما صنعوا3.

ومن حكمة الله تعالى أن عائشة أم المؤمنين صاحبة الحجرة التي دفن فيها تروي هذه الأحاديث وقد سمِعَتْها منه، وإن كان غيرها من الصحابة سمعها أيضاً، كابن عباس وأبي هريرة وجندب وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد"4. وفي الصحيحين عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة -فيها تصاوير- لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شِرارُ الخلق عند الله يوم القيامة"5. وفي صحيح مسلم عن جندب قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتّخذتُ أبا بكر خليلاً، ألا

1 سورة التوبة: 128.

2 أخرجه البخاري (1330، 1390، 3453، 4441، 4443، 5815) ومسلم (530) .

3 أخرجه البخاري (436، 3454، 4444، 5816) ومسلم (531) .

4 أخرجه البخاري (437) ومسلم (530) .

5 أخرجه البخاري (427) ومسلم (528) .

101

ص: 200

وإن من كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"1. وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجلسوا على القبور ولا تُصَلّوا إليها"2. وفي "المسند" و"صحيح أبي حاتم" أنه قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد"3.

1 أخرجه مسلم (532) .

2 أخرجه مسلم (972) .

3 أخرجه أحمد (1/405، 435) وابن حبان في "صحيحه"(15/260-261/6847) والطبراني في "المعجم الكبير"(10/رقم: 10413) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/140) والبزار (4/151/3420- كشف الأستار) وابن خزيمة في "صحيحه"(789) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"(1/142) .

من طريق: زائدة، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً. وإسناده حسن. عاصم بن أبي النجود روى له البخاري ومسلم مقروناً، وهو حسن الحديث. وباقي رجال الإسناد رجال الشيخين.

والحديث علّقه البخاري في "صحيحه"(7067) قال: "وقال أبو عوانة؛ عن عاصم.. " فذكره.

وأخرجه أحمد (1/454) والبزار (4/151/2421- كثف) .

من طريق: قيس بن الربيع الأسدي، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عبيدة السلماني، عن ابن مسعود به.

وهو حسن بما قبله كما قال الشيخ الألباني.

والحديث قال عنه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 27) : "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن". وقال أيضاً (8/ 13) : "رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة؛ وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح". وفاته أن يعزوه لأحمد في الموضعين.

وقال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/674) : "إسناده جيد".

وقال المحدث أحمد شاكر- رحمه الله في تحقيقه على "المسند"(3844) : "إسناده صحيح".

وحسّن إسناده العلامة الألباني- رحمه الله في "تحذير الساجد"(ص 19) و "أحكام الجنائز". (ص 278) .

ص: 201

وقد تقدم نهيه أن يُتَّخَذُ قبرُه عيداً، فلما علم الصحابة أنه قد نهاهم عن أن يتخذوه مصلّى للفرائض التي يتقرب بها إلى الله- لئلا يتشبهوا بالمشركين الذين يتخذونها ويصلون بها وينذرون لها- كان نهيهم عن دعائها أعظم وأعظم، كما أنه لما نهاهم عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها- لئلا يتشبهوا بمن يسجد للشمس- كان نهيهم عن السجود للشمس أولى، فكان الصحابة يقصدون الصلاة والدعاء والذكر في المساجد التي بُنِيَتْ لله دون قبور الأنبياء والصالحين التي نُهوا أن يتخذوها مساجد وإنما هي بيوت المخلوقين، وكانوا يفعلون بعد موته ما كانوا يفعلون في حياته".

ثم ذكر فصلاً في جوابه عن غلو بعض الناس في تعظيما القبور حتى قال: "إن البلاء يندفع عن أهل البلاد أو الإقليم بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين".

قال شيخ الإسلام في أثناء كلامه في (الجواب الباهر) : "وأما ما يظنه بعض الناس أنه يندفع البلاء عن أهل بغداد بقبور ثلاثة: أحمد بن حنبل، وبشر الحافي، ومنصور بن عمار، ويظن بعضهم أنه يندفع البلاء عن أهل الشام بمن عندهم من قبور الأنبياء؛ الخليل وغيره عليهم السلام، وبعضهم يظن أنه يندفع البلاء عن أهل مصر بنفيسة أو غيرها، أو يندفع عن أهل الحجاز بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البقيع أو غيرهم؛ فكل هذا غلوّ مخالف لدين المسلمين، مخالف للكتاب والسنة والإجماع، فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله فلما عصوا الأنبياء وخالفوا ما أمر الله به ورسله سلط عليهم من انتقم منهم، والرسل الموتى ما عليهم إلا البلاغ، وقد بلّغوهم رسالة ربهم، وكذلك نبيّنا قال الله تعالى في حقه:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} 1 وقال: {عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 2.

1 سورة الشورى: 48.

2 سورة العنكبوت: 18.

ص: 202

وقد ضمن الله لكل من أطاع الرسول أن يهديه وينصره، فمن خالف الرسول استحق العذاب ولم يغن عنه أحد من الله شيئاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً"1. وقال لمن ولاه من أصحابه: "لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً؛ قد بلّغتك"2. وكان أهل المدينة في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفضل أهل الدنيا والآخرة، لتمسكهم بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وصاروا رعية لغيرهم، ثم تغيروا بعض التغير فجرى عليهم عام الحرة من النهب والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك، والذي فعل بهم ذلك وإن كان ظالماً متعدياً فليس هو أظلم ممن فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما فعل، وقد قال الله تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} 3.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون مدفونين بالمدينة، وكذلك الشام كان أهله في أول الإسلام في سعادة الدنيا والدين، ثم جرت فتن وخرج الملك من أيديهم، ثم سلط عليهم المنافقون الملاحدة والنصارى بذنوبهم، واستولوا على بيت المقدس وقبر الخليل، وفتحوا البناء الذي كان عليه، وجعلوه كنيسة، ثم صلح دينهم فأعزهم الله ونصرهم على عدوه لما أطاعوا الله ورسوله، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، فطاعة الله ورسوله هي قطب السعادة وعليها تدور:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 4.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن

1 أخرجه البخاري (4771) .

2 أخرجه مسلم (1831) .

3 سورة آل عمران: 165.

4 سورة النساء: 69.

ص: 203

يعصِهما فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً" 1.

ومكة نفسها لا يدفع البلاء عن أهلها ويجلب لهم الرزق إلا بطاعتهم لله ورسوله كما قال الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 2.

وكانوا في الجاهلية يعظّمون حرمة الحرم، ويحجون ويطوفون بالبيت، وكانوا خيراً من غيرهم من المشركين، والله لا يظلم مثقال ذرة، فكانوا يكرمون مالا يكرم غيرهم، ويؤتون مالا يؤتاه غيرهم، لكونهم كانوا متمسكين من دين إبراهيم أعظم ما تمسك به غيرهم، وهم في الإسلام إن كانوا أفضل من يغرهم كان جزاؤهم بحسب فضلهم، وإن كانوا أسوأ عملاً من غيرهم كان جزاؤهم بحسب سيئاتهم، فالمساجد والمشاعر إنما تنفع فضيلتها لمن عمل فيها بطاعة الله، وإلا فمجرد البقاع لا يحصل بها ثواب ولا عقاب، وإنما الثواب والعقاب على الأعمال المأمور بها والمنهي عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، وكان أبو الدرداء بدمشق وسلمان بالعراق، فكتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة. فكتب إليه سلمان: "إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الرجل عمله"3.

والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكنى الحرمين باتفاق العلماء، ولهذا كان سكنى الصحابة بالمدينة أفضل لهجرة.

والله هو الذي خلق الخلق وهو الذي يهديهم ويرزقهم وينصرهم، وكل من

1 أخرجه أبو داود (1097) وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود"(238) .

2 سورة إبراهيم: 37.

3 أخرجه أبو داود السجستاني في "الزهد"(رقم: 273) وعبد الله بن أحمد في زوائده على "الزهد"(2/ 90- ط. دار النهضة) أو رقم (193) والدينوري في "المجالسة" في "مصنفه"(6/154/ و 8/182) ووكيع في "أخبار القضاة"(3/200) وأبو نعيم في "الحلية"(1/205) وابن سعد في "الطبقات"(4/ 63) بأسانيد مرسلة.

ص: 204

سواه لا يملك شيئاً من ذلك، كما قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1.

وقد فسّروها بأن يؤذن للشافع والمشفوع له جميعاً، فإن سيد الشفعاء يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا أراد الشفاعة قال:"فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمده بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن، فيقال لي: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، قال: فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة"2 وكذلك ذكره في المرة الثانية والثالثة.

ولهذا قال: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} 3. فأخبر أنه لا يملكها أحد دون الله. وقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} استثناء منقطع؛ أي: من شهد بالحق وهم يعلمون، هم أصحاب الشفاعة، منهم الشافع، ومنهم المشفوع له. وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ فقال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت حرصك على الحديث؛ أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" رواه البخاري4. فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصاً، وقال في الحديث: "إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلّوا عليّ، فإنه من صلّى عليّ مرة صلى الله عليها بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت عليه شفاعتي يوم القيامة"5. فالجزاء من جنس العمل، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من صلّى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، قال:

1 سورة سبأ: 22- 23.

2 تقدم تخريجه.

3 سورة الزخرف: 86.

4 برقم (99) .

5 أخرجه مسلم (384) .

ص: 205

"ومن سأل لي الوسيلة حلّت عليه شفاعتي يوم القيامة" ولم يقل: "كان أسعد الناس بشفاعتي " بل قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه". فعُلِمَ أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال وإن كان صالحاً، كسؤال الوسيلة للرسول، فكيف بما لم يأمر به من الأعمال بل نهى عنه، فذاك لا ينال به خيراً لا في الدنيا ولا في الآخرة، مثل غلوّ النصارى في المسيح، فإنه يضرهم ولا ينفعهم، ونظير هذا في الصحيح عنه أنه قال:"إن لكل نبيّ دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً"1.

وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد، فبحسب توحيد العبد لربه وإخلاصه دينه لله يستحق كرامة الله بالشفاعة وغيرها، وهو سبحانه علّق الوعد والوعيد والثواب والعقاب والحمد والذم بالإيمان به وتوحيده وطاعته، فمن كان أكمل في ذلك كان أحق بتولي الله له بخير الدنيا والآخرة، ثم جميع عباده مسلمهم وكافرهم هو الذي رزقهم، وهو الذي يدفع عنهم المكاره، وهو الذي يقصدونه في النوائب، قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} 2. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} 3 أي: بدلاً عن الرحمن هذا أصح القولين، كقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} 4 أي: لجعلنا بدلاً منكم، كما قاله عامة المفسرين، ومنه قول الشاعر:

فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبردة باتت على طهيان

أي: بدلاً من ماء زمزم، فلا يكلأ الخلق بالليل والنهار فيحفظهم ويدفع عنهم المكاره إلا الله، قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ

1 أخرجه البخاري (7474) ومسلم (199) .

2 سورة النحل: 53.

3 سورة الأنبياء: 42.

4 سورة الزخرف: 60.

ص: 206

الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} 1. ومن ظن أن أرضاً معينة تدفع عن أهلها البلاء مطلقاً بخصوصها أو لكونها فيها قبور الأنبياء والصالحين فهو غالط، فأفضل البقاع مكة وقد عذب الله أهلها عذاباً شديداً عظيماً، فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} 2.

ومن فصول (الجواب الباهر لمن سأل من ولاة الأمر عما أفتى به في زيارة المقابر) كلام في أن الزيارة المتضمنة ترك مأمور أو فعل محظور ليست بمشروعة.

قال شيخ الإسلام- قدّس الله روحه-: "وقد تنازع المسلمون في زيارة القبور؛ فقال طائفة من السلف: إن ذلك كله منهي عنه لم ينسخ، فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري ولم تشتهر، ولما ذكر البخاري (باب زيارة القبور) احتج بحديث المرأة التي بكت على القبر. ونقل ابن بطال عن الشعبي قال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي. وقال النخعي: كانوا يكرهون زيارة القبور، وعن ابن سيرين مثله. قال: وقد سئل مالك عن زيارة القبور فقال: قد كان نهى عنه عليه السلام ثم أذن. فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيراً لم أر بذلك بأساً وليس من عمل الناس. ورُوي عنه أنه كان يضعف زيارتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولاً عن زيارة القبور باتفاق العلماء؛ فقيل: لأن ذلك يفضي إلى الشرك. وقيل: لأجل النياحة عندها. وقيل: لأنهم كانوا يتفاخرون بها. وقد ذكر طائف من العلماء في قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} 3 أنهم كانوا يتكاثرون بقبور الموتى وممن ذكره ابن عطية في تفسيره.

قال: وهذا تأنيب على الإكثار من زيارة القبور، أي: حتى جعلتم أشغالكم

1 سورة الملك: 20- 21.

2 سورة النحل: 112- 113.

3 سورة التكاثر: 1- 2.

ص: 207

القاطعة عن العبادة والعلم زيارة القبور تكثرا بمن سلف وإشادة بذكره.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زياره القبور؛ فزوروها ولا تقولوا هجراً" 1، وكان نهيه في معنى الآية. ثم أباح الزيارة بَعْدُ لمعنى الاتّعاظ، لا لمعنى المباهاة والتفاخر، وتسنيمها بالحجارة الرخام، وتكوينها سرباً2، وبنيان النواويس عليها. هذا لفظ ابن عطية.

والمقصود؛ أن العلماء متفقون على أنه كان نهى عن زيارة القبور، ونهى عن الانتباذ في الدُّبّاء3 والحنتم4 والمزفت5 والنقير6.

واختلفوا هل نسخ ذلك؟ فقالت طائفة: لم ينسخ ذلك؛ لأن أحاديث النسخ ليست مشهورة، ولهذا لم يخرج البخاري ما فيه نسخ عام.

وقال الأكثرون: بل نسخ ذلك. ثم قالت طائفة منهم: إنما نسخ إلى الإباحة، فزيارة القبور مباحة لا مستحبة، وهذا قول في مذهب مالك وأحمد، وقالوا لأن صيغة أفعل بعد الحظر إنما تفيد الإباحة، كما قال في الحديث:"كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنتُ نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا، ولا تشربوا مسكراً"7. وقد رُوي: (ولا تقولوا هجراً) . وهذا يدل على أن النهي كان لما يقال عندها من الأقوال المنكرة سداً للذريعة، كالنهي عن الانتباذ في الأوعية كان، لأن الشدة المطربة تدب فيها ولا يدرى بذلك، فيشرب الشارب الخمر وهو لا يدري.

1 أخرجه النسائي (1/285 و 2/329) بهذا اللفظ.

2 كذا؛ وفي "مجموع الفتاوى": (1/285 و 2/ 329) : "وتلوينها سرفاً".

3 الدُّبّاء: القرع.

4 الحنتم: جرار مدهونة خُضر، كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة، ثم اتسع فقيل للخزف كله: حنتم.

5 المزفّت: هو الإناء الذي طُلِيَ بالزفت.

6 المُقير: هو الإناء الذي طُلِيَ بالقار؛ وهو شيء أسود يثبه الزفت.

7 أخرجه مسلم (977) .

ص: 208

وقال الأكثرون: زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيدعو لهم، وكما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم صلاته على الموتى كالمودع للأحياء والأموات، وثبت في الصحيح: أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تِفتنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم"1. وهذا في زيارة قبور المؤمنين، وأما زيارة قبر الكافر فرخّص فيه لأجل تذكار الآخرة، ولا يجوز الاستغفار لهم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: "استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة"2.

والعلماء المتنازعون، كل منهم يحتج بدليل شرعي، ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر، فإن العلماء ورثة الأنبياء، قال الله تعالى:{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 3.

والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار، فإن الزيارة إذا تضمنت أمراً محرماً من شرك أو كذب أو ندب أو نياحة، وقول هجر؛ فهي محرمة بالإجماع، كزيارة المشركين بالله والساخطين لحكم الله، فإن هؤلاء زيارتهم محرمة، فإنه لا يقبل دين إلا الإسلام، وهو الاستسلام لخالقه وآمره، فنسلم لما قدره الله وقضاه،

1 أخرجه بهذا اللفظ أحمد (6/ 76) أو رقم (24585) بإسناد ضعيف.

فقول شيخ الإسلام أابن تيمية،:"وثبت في الصحيح..". فيه نظر؛ لأن لفظ الصحيح هو: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين.. إلى قوله: نسأل لنا ولكم العافية".

2 أخرجه مسلم (976) .

3 سورة الأنبياء: 78- 79.

ص: 209

ونسلم لما يأمر به ونحبه، وهذا نفعله وندعو إليه، وذلك نسلمه وتتوكل فيه عليه، فنرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، ونقول في صلاتنا:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مثل قوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 1 وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} 2.

والنوع الثاني: زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت لقرابته أو صداقته؛ فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة، كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال:"زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة". فهذه الزيارة كان ينهى عنها لما كانوا يصنعون من المنكر، فلما عرفوا الإسلام أذن فيها، لأن فيها مصلحة وهو تذكر الموت، فكثير من الناس إذا رأى قريبه وهو مقبور ذكر الموت واستعد للآخرة، وقد يحصل منه جزع فيتعارض الأمران، ونفس الجنس مباح إن قصد به طاعة، وإن عمل معصية كان معصية.

وأما النوع الثالث: فهو زيارتها للدعاء لها- كالصلاة على الجنازة- فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور.

وأما زيارة قباء؛ فيستحب لمن أتى المدينة أن يأتي قباء فيصلي في مسجدها، وكذلك يستحب له عند الجمهور أن يأتي البقيع وشهداء أحد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم، لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقاً من دون الله، ولا يجوز أن تتخذ مساجد، ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت.

والصلاة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتى عند

1 سورة البقرة: 153.

2 سورة هود: 114- 115.

ص: 210

قبورهم، وهذا مشروع، بل هو فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين، ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به كان هذا شركاً محرماً بإجماع المسلمين، ولو ندبه وناح لكان أيضاً محرماً، وهو دون الأولى.

فمن احتج بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع وأهل أحد على الزيارة التي يفعلها أهل الشرك وأهل النياحة، فهو أعظم ضلالاً ممن يحتج بصلاته على الجنازة على أنه يجوز أنه يشرك بالميت، ويُدْعى من دون الله، ويندب ويناح عليه، كما يفعل ذلك من يستدل بهذا الذي فعله الرسول- وهو عبادة لله وطاعة له، يثاب عليه الفاعل وينتفع المدعو له ويرضى به الرب- على أنه يجوز أن يفعل ما هو شرك بالته، وإيذاء للميت، وظلم من العبد لنفسه، كزيارة المشركين وأهل الجزع، الذين لا يخلصون له الدين، ولا يسلمون لما حكم به سبحانه وتعالى، فكل زيارة تتضمن فعل ما نهى عنه وترك ما أمر به كالتي تتضمن الجزع، وقول الهجر، وترك الصبر، أو تتضمن الشرك، أو دعاء غير الله وترك إخلاص الدين لله، فهي منهي عنه. وهذه الثانية أعظم إثماً من الأولى، ولا يجوز أن يصلّى إليها، بل ولا عندها، بل ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها" رواه مسلم في صحيحه1.

فزيارة القبور على وجهين: وجه نهى عنه صلى الله عليه وسلم، واتفق العلماء على أنه غير مشروخ، وهو أن يتخذها مساجد ويتخذها وثناً، ويتخذها عيداً، فلا يجوز أن تقصد للصلاة الشرعية، ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان، ولا أن تُتَّخَذَ عيداً يجتمع إليها في وقت معين كما يجتمع المسلمون في عرفة ومنى.

وأما الزيارة الشرعية؛ فهي مستحبة عند الأكثرين، وقيل: مباحة، وقيل: كلها منهي عنه كما تقدم. والذي تدل عليه الأدلة الشرعية أنه يحمل المطلق من كلام العلماء على المقيّد.

1 برقم (972) .

ص: 211

وتفصيل الزيارة على ثلاثة أنواع: منهي عنه، ومباح، ومستحب؛ وهو الصواب. قال مالك وغيره لا تأت إلا هذه الآثار: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد قباء، وأهل البقيع، وأحد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتين المقبرتين، كان يصلي يوم الجمعة في مسجده، ويوم السبت يذهب إلى قباء، كما في الصحيحين عن ابن عمر:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين"1. وأما أحاديث النهي فكثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرهما، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد". ثم ذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وقد سبق ذكرها غير مرة. ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". رواه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو حاتم في "صحيحه". وفي "سنن أبي داود" عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تتخذوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني". وفي موطأ مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ثم ذكر الأثر المشهور في "سنن سعيد بن منصور". وقال: فلما أراد الأئمة اتباع سنته في زيارة قبره والسلام طلبوا ما يعتمدون عليه من سنته، فاعتمد الإمام أحمد على الحديث الذي في السنن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام". وعنه أخذ أبو داود ذلك، فلم يذكر في زيارة قبره غير هذا الحديث، وترجم عليه (باب زيارة القبر) مع أن دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل، فإنه لا يدل على كل ما يسميه الناس زيارة باتفاق المسلمين، ويبقى الكلام المذكور فيه هل هو السلام عند القبر- كما كان من دخل على عائشة يسلم عليه- أو يتناول هذا والسلام عليه من خارج الحجرة؟ فالذين استدلوا به جعلوه متناولاً لهذا وهذا، وهو غاية ما كان عندهم في هذا الباب عنه صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يسمع السلام من القبر، وتبلغه الملائكة الصلاة والسلام عليه من البعيد كما في النسائي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن لله

1 تقدم تخريجه.

ص: 212

ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام"1. وفي "السنن" عن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليّ" قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ؟ فقال: "إن الله حرَّمَ على الأرض أن تأكلَ لحوم الأنبياء" 2 صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً.

وذكر مالك في "موطئه" أن عبد الله بن عمر كان يأتي فيقول: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت" ثم ينصرف. وفي رواية: كان إذا قدم من سفر3. وعلى هذا اعتمد مالك رحمه الله فيما يفعل عند الحجرة إذ لم يكن عنده إلا أثر ابن عمر، وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة الصلاة والسلام عليه- فقد كرهه مالك، وذكر أنه بدعة لم يفعلها السلف، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، والله تعالى أعلم".

هذا ما وجاناه من (الجواب الباهر) وبه علم مذهب الشيخ في زيارة القبور، وأن ما تكلم به الخصوم من غلاة الشافعية ونحوهم هو محض بهتان وزور، وله رضي الله تعالى عنه كتاب آخر في مباحث الزيارة، بحث فيه مع بعض من اعترض عليه من علماء المالكية4، وهو أبسط مما ذكرنا، وفيه مسائل مهمة أيضاً، فنذكر منه ما يخص المقام:

1 أخرجه النسائي (3/43) وفي "عمل اليوم والليلة"(66) بسند صحيح.

2 أخرجه أحمد (4/8) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/91، 92) وابن ماجه (1085، 1636) وغيرهم.

3 أخرجه مالك في "الموطأ"(1/107/68) 9- كتاب قصر الصلاة فيه السفر (22) باب ما جاء فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والبيهقي (5/345) والقاضي الجهضمي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"(رقم: 98، 99، 100) بإسناد موقوف صحيح، كما قال الألباني.

4 وهو كتاب "الرد على الأخنائي قاضي المالكية واستحباب زيارة خبر البرية الزيارة الشرعية". وقصت على تحقيق الكتاب- ولله الحمد- وهو تحت الطبع في المكتبة العصرية ببيروت.

ص: 213

"قال المعترض المالكي: وورد في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة وغيرها مما لم تبلغ درجة الصحيح، لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية، ويحصل بها الترجيح.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والجواب من وجوه:

أحدها: أن يقال: لو ورد من ذلك ما هو صحيح لكان إنما يدل على مطلق الزيارة، وليس في جواب الاستفتاء نهي مطلق عن الزيارة، ولا حكى في ذلك نزاع في الجواب، وإنما فيه ذكر النزاع فيمن لم يكن سفره إلا لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وحينئذ فلو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يتناول محل النزاع، ولا فيه رد على ما ذكره المجيب من النزاع والإجماع.

الثاني: أنه لو قدر أنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة لكان المراد بها هو المراد بقول من قال من العلماء: إنه يستحب زيارة قبره، ومرادهم بذلك السفر إلى مسجده، وفي مسجده يسلم عليه ويصلى عليه، ويدعى له ويُثنى عليه، ليس المراد أنه يدخل إلى قبره ويصلى عليه، وحينئذ فهذا المراد قد استحبه المجيب، وذكر أنه مستحب بالنص والإجماع، فمن حكى عن المجيب أنه لا يستحب ما استحبه علماء المسلمين من زيارة قبره على الوجه المشروع فقد استحق ما يستحقه الكاذب المفتري، وإذا كان يستحب هذا وهو المراد بزيارة قبره فزيارة قبره بهذا المعنى من مواقع الإجماع لا من موارد النزاع.

الثالث: أن نقول: قول القائل: إنه ورد في زيارة قبره أحاديث صحيحة قول لم يذكر عليه دليلاً. فإذا قيل له: لا نسلم أنه ورد في ذلك حديث صحيح احتاج إلى الجواب، وهو لم يذكر شيئاً من تلك الأحاديث كما ذكر قوله:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". وكما ذكر زيارته لأهل البقيع وأحد، فإن هذا صحيح، وهنا لم يذكر شيئاً من الحديث الصحيح، فبقي ما ذكره دعوى مجردة تقابل بالمنع.

الوجه الرابع: أن نقول: هذا قول باطل، لم يقله أحد من علماء المسلمين

ص: 214

العارفين بالصحيح، وليس في الأحاديث التي رُويت بلفظ زيارة قبره حديث صحيح عند أهل المعرفة، ولم يخرج أرباب الصحيح شيئاً من ذلك ولا أرباب السنن المعتمدة، كسنن أبي داود والنسائي والترمذي ونحوهم، ولا أهل المساند التي من هذا الجنس، كمسند أحمد وغيره، ولا في موطأ مالك، ولا في مسند الشافعي ونحو ذلك شيء من ذلك، ولا احتج إمام من أئمة المسلمين -كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم- بحديث فيه ذكر زيارة قبره، فكيف يكون في ذلك أحاديث صحيحة ولم يعرفها أحد من أئمة الدين ولا علماء الحديث؟ ومن أين لهذا وأمثاله أن تلك الأحاديث صحيحة وهو لا يعرف هذا الشأن؟!

الوجه الخامس: قوله: وغيرها مما لم تبلغ درجة الصحيح، لكنها يجوز الاستدلال بها على الأحكام الشرعية ويحصل بها الترجيح، فيقال له: اصطلاح الترمذي ومن بعده أن الأحاديث ثلاثة أقسام: صحيح، وحسن، وضعيف. والضعيف قد يكون موضوعاً فعلم أنه كذب، وقد لا يكون كذلك، فما ليس بصحيح إن كان حسناً على هذا الاصطلاح احتج به، وهو لم يذكر حديثاً وبين أنه حسن يجوز الاستدلال به، فنقول له: لا نسلم أنه ورد من ذلك ما يجوز الاستدلال به، وهو لم يذكر إلا دعوى مجردة فتقابل بالمنع.

الوجه السادس: أن يقال: ليس في هذا الباب ما يجوز الاستدلال به، بل كلها ضعيفة، بل موضوعة، كما قد بسط في مواضع، وذكرت هذه الأحاديث، وذكرت كلام الأئمة عليها حديثاً حديثاً، بل ولا عرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بلفظ زيارة قبره البتة فلم يكن هذا اللفظ معروفاً عندهم، ولهذا كره مالك التكلم بخلاف لفظ زيارة القبور مطلقاً، فإن هذا اللفظ معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، وفي القرآن {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} لكن معناه عند الأكثرين الموت، وعند طائفة هي زيارتها للتفاخر بالموتى والتكاثر، وأما لفظ قبر النبي صلى الله عليه وسلم المخصوص فلا يعرف لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وكل ما يروى فيه فهو ضعيف، بل هو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث، كما قد بسط هذا في مواضع.

ص: 215

الوجه السابع: أن يقال: الذين أثبتوا استحباب السلام عليه عند الحجرة- كمالك، وابن حبيب، وأحمد بن حنبل، وأبي داود- احتجوا بفعل ابن عمر، كما احتج بذلك مالك وأحمد وغيرهما، وأما الحديث الذي رواه أبو داود وغيره بإسناد جيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام،." فهذا عمدة أحمد وأبي داود وابن حبيب وأمثالهم، وليس في لفظ الحديث المعروف في السنن والمسند "عند قبري" لكن عرفوا أن هذا هو المراد، وأنه لم يرد على كل مسلم عليه في صلاة في شرق الأرض وغربها مع أن هذا المعنى إن كان هو المراد بطل الاستدلال بالحديث من كل وجه على اختصاص تلك البقعة بالسلام، وإن كان المراد السلام عليه عند قبره- كما فهمه عامة العلماء- فهل يدخل فيه من سلم من خارج الحجرة؟ هذا مما تنازع فيه الناس، وقد توزعوا في دلالته: فمن الناس من يقول هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره، كما كانوا يدخلون الحجرة على زمن عائشة فيسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يرد عليهم، فأولئك سلموا عليه عند قبره وكان يرد عليهم، وهذا قد جاء عموماً في حق المؤمنين "ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام"1. قالوا: فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره، بل سلامهم عليه كالسلام عليه في الصلاة وكالسلام عليه إذا دخل المسجد وخرج، وهذا هو السلام الذي أمر الله به في حقه بقوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2 وهذا السلام قد ورد أنه من سلم عليه مرة سلم الله عليه عشراً، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، فأما أثر "من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً" فهو ثابت من وجوه، بعضها في الصحيح كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلّى عليّ مرة

1 تقدم تخريجه.

2 سورة الأحزاب: 56.

ص: 216

صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة". وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه، كما في حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشراً"1.

وأما السلام؛ فقد جاء أيضاً في أحاديث، من أشهرها حديث عبد الله بن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن سليمان مولى الحسن بن علي، عن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه، فقال:"إنه جاءني جبريل فقال: أما يرضيك يا محمد أن الله يقول: إنه لا يصلّي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلّم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً"2.

وقد رُوي في عدة أحاديث أن الله يصلي على كل من صلى عليه، ويسلم على كل من سلم عليه، ولم يذكر عدداً لكن الحسنة بعشر أمثالها، فالمقيد يفسر المطلق.

قال القاضي عياض من رواية عبد الرحمن بن عوف عنه عليه السلام قال: "لقيتُ جبريل فقال لي: أبشرك أن الله يقول من سلّم عليك سلمت عليه، ومن صلى عليك صليت عليه"3. قال: ونحوه من رواية أبي هريرة، ومالك بن أوس بن الحدثان، وعبد الله بن أبي طلحة. قلتُ: وبسط الكلام على هذه الأحاديث له موضح آخر4.

1 أخرجه مسلم (408) .

2 أخرجه أحمد (4/30) والنسائي (3/445) وفي "عمل اليوم والليلة"(60) وغيرهما.

3 أخرجه أحمد (1/191) والحاكم (1/222- 223) والبيهقي (2/370- 371) وغيرهم. وإسناده ضعيف؛ فيه عبد الرحمن بن أبي الحويرث، وهو ضعيف. لكن الحديث صحيح بالشواهد.

4 انظرها في "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام" لابن القيم.

ص: 217

والمقصود هنا؛ أن ما امر الله به من الصلاة والسلام عليه هو كما أمر به صلى الله عليه وسلم من الدعاء له بالوسيلة، وهذا أمر اختصَّ هو به، فإن الله أمر بذلك في حقه بعينه مخصوصاً بذلك، وإن كان السلام على جميع عباد الله الصالحين مشروعاً على وجه العموم، وقد قيل: إن الصلاة تكره على غير الأنبياء، وغلا بعضهم فقال تكره على غيره من الأنبياء، وكذلك قال بعض المتأخرين في السلام على غير الأنبياء، ولكن الصواب الذي عليه عامة العلماء أنه يسلم على غيره، وأما الصلاة فقد جوزها أحمد وغيره والنزاع فيها معروف. وفي تفسير شيبان عن قتادة قال: حدث أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين"1. وهكذا رواه ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة، ورواه ابن أبي حاتم وغيره، ولم يذكروا فيه سماع قتادة له، وهو في تفسير سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً. وقد قال الله تعالى في كتابه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} 2 وقال: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 وقال لما ذكر نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وهارون وإلياسين:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} 4 {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى

1 أخرجه أبو الشيخ في (طبقات المحدثين بأصبهان، (2/10-11/ 92) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"(2/335) من طريق: إبراهيم بن أيوب، ثنا النعمان بن عبد السلام، عن أبي العوام، عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعاً.

وإبراهيم بن أيوب الفرساني "مجهول". انظر "الجرح والتعديل"(2/ 89) .

وأخرجه الخطيب البغدادي في "تاريخه"(7/380) بإسناد فيه مجهول أيضاً.

وأخرجه ابن أبي عاصم في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، (رقم:70) وابن أبي حاتم كما

في "تفسير ابن كثير"(4/34) . من طريق: شيبان، عن قتادة، قال: حدثنا أنى، عن أبي طلحة.. فذكره مرفوعاً.

وأخرجه ابن أبي عاصم (رقم: 69) من طريق: ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس مرفوعاً.

2 سورة النمل: 59.

3 سورة الصافات: 181- 182.

4 سورة الصافات: 78- 79.

ص: 218

إِبْرَاهِيمَ} 1 {وَتَرَكْنَا عَلَيهِمَا فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} 2 {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} 3.

والمقصود هنا؛ أن هذا السلام- المأمور به خصوصاً، والمشروع في الصلاة وغيرها عموماً، على كل عبد صالح كقول المصلي السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإن هذا -ثابت في التشهدات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها، مثل حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين، وحديث أبي موسى وابن عباس اللذين رواهما مسلم، وحديث ابن عمر وعائشة وجابر وغيرهم التي في المساند والسنن، وهذا السلام لا يقتضي رداً من المسلم عليه، بل هو بمنزلة دعاء المؤمن للمؤمنين واستغفاره لهم، فيه الأجر والثواب من الله، ليس على المدعو لهم مثل ذلك الدعاء بخلاف سلام التحية فإنه مشروع بالنص والإجماع في حق كل مسلم، وعلى المسلَّم عليه أن يرد السلام ولو كان المسلِّم عليه كافراً، فإن هذا من العدل الواجب، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد على اليهود إذا سلموابقوله:"وعليكم". وإذا سلّم على معيّن تعين الرد، وإذا سلّم على جماعة فهل ردهم فرض على الأعيان أو على الكفاية؟ على قولين معروفين، هما قولان في مذهب أحمد وغيره. وسلام الزائر للقبر على الميت المؤمن هو من هذا الباب، ولهذا رُوي أن الميت يرد السلام مطلقاً.

فالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم في مسجده وسائر المساجد وسائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وأما السلام عليه عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعاً لما كان ممكناً بدخول من يدخل على عائشة، وأما تخصيص هذا السلام والصلاة بالمكان القريب من الحجرة فهذا محل النزاع، وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:

منهم من ذكر استحباب الصلاة والسلام عليه إذا دخل المسجد، ثم بعد أن

1 سورة الصافات: 108- 109.

2 سورة الصافات: 119- 120.

3 سورة الصافات: 129- 130.

ص: 219

يصلي في المسجد استحب أيضاً أن يأتي إلى القبر ويصلي ويسلم، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.

ومنهم من لم يذكر إلا الثاني فقط، وكثير من السلف لم يذكروا إلا النوع الأول فقط. أما النوع الأول فهو المشروع لأهل البلد وللغرباء في هذا المجسد وغير هذا المسجد، وأما النوع الثاني فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلد والغرباء، سواء فعله مع الأول أو مجرداً عنه، كما ذكر ذلك ابن حبيب وغيره إذا دخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"باسم الله، وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، السلام علينا من ربنا، وصلى الله وملائكته على محمد، اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك وجنتك، وجنبني من الشيطان الرجيم". ثم اقصد إلى الروضة وهي ما بين القبر والمنبر، فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر، تحمد الله فيها، وتسأله تمام ما خرجت إليه والعون عليه، وإن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتك وفي الروضة أفضل. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة"1. ثم تقف بالقبر متواضعاً، وتصلي عليه، وتثني بما يحضر، وتسلم على أبي بكر وعمر، وتدعو لهما، وأكثر من الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار، ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبور الشهداء.

قلت: وهذا الذي ذكره من استحباب الصلاة في الروضة قول طائفة، وهو المنقول عن الإمام أحمد في مناسك المروزي.

وأما مالك فنُقِلَ عنه: يستحب التطوع في موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: لا يتعين لذلك موضع من المسجد، وأما الفرض فيصليه في الصف الأول مع الإمام بلا ريب، والذي ثبت في الصحيح عن سلمة بن الأكوع أنه كان

1 أخرجه أحمد (3/64) بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري (7335) من حديث أبي هريرة بلفظ: "ما بين بتي ومنبري..". وأخرجه البخاري (1195) ومسلم (1390) من حديث عبد الله بن زيد باللفظ السابق.

ص: 220

يتحرّى الصلاة عند الأسطوانة. وأما ما قصد تخصيصه بالصلاة فيه فالصلاة فيه أفضل، وأما مقامه فإنما كان يقوم فيه إذا كان إماماً يصلي بهم الفرض، والسنة أن يقف الإمام وسط المسجد أمام القوم، فلما زيد في المسجد صار موقف الإمام في الزيادة.

والمقصود؛ معرفة ما ورد عن السلف من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد وعند القبر، ففي "مسند أبي يعلى" الموصلي: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم- من ولد ذي الجناحين-، حدثنا علي بن عمر، عن أبيه علي بن الحسين، أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه، فقال: ألا أحدّثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"1. وهذا الحديث مما أخرجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي ونحوهما، فإن الغلط في هذا قليل، ليس هو مثل صحيح الحاكم، فإن فيه أحاديث كثيرة يظهر أنها كذب موضوعة، فلهذا انحطت درجته عن درجة غيره.

فهذا علي بن الحسين زين العابدين وهو من أجل التابعين علماً وديناً، حتى قال الزهري: ما رأيتُ هاشمياً مثله. وهو يذكر هذا الحديث بإسناده ولفظه: "لا تتخذوا بيتي عيداً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم" وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند بيته، كما لا مزية للصلاة عليه عند بيته، بل قد نهى عن تخصيص

1 أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(1/361- 362/ 469) وابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/345) والبزار (1/339- 340/707) والبخاري في "التاريخ الكبير"(2/186) والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق"(2/52-53) وعبد الرزاق في "مصنفه"(3/577/6726) والقاضي إسماعيل الجهضمي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"(رقم: 20) .

وانظر: "تحذير الساجد"(ص95) .

ص: 221

بيته بهذا، وهذا وحديث الصلاة مشهور في "سنن أبي داود" وغيره من حديث عبد الله بن نافع، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"1. وهذا حديث حسن، ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به، قال يحيى بن معين: هو ثقة. وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ، هو لين تعرف وتنكر. قلت: ومثل هذا قد يخاف أنه يغلط أحياناً، فإذا كان لحديثه شواهد عُلِمَ أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة قد بسطت في غير هذا الموضع. كما رواه سعيد بن منصور في "سننه"؛ حدثنا حبان، حدثنا علي، حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلّوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني ". وقال سعيد أيضاً: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند عند القبر فناداني -وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء، فقلتُ: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلتَ المسجد فسلم عليه. ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس منه إلا سواء"2. رواه إسماعيل بن إسحاق في كتاب (فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر هذه الزيادة وهي قوله: "ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". لأن مذهبه أن القادم من سفر والمريد للسفر سلامه أفضل، وأن الغرباء يسلّمون إذا دخلوا وخرجوا، وهذه مزية على من بالأندلس، والحسن بن الحسن وغيره لا يفرقون بين

1 تقدم تخريجه.

2 أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3/577/ 6694) وابن أبي شيبة (4/345) والقاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي في "فضل الصلاة"(30) .

ص: 222

أهل المدينة والغرباء، ولا بين المسافر وغيره. فرواه القاضي إسماعيل عن إبراهيم بن حمزة، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهل بن أبي سهل قال: جئت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وحسن بن الحسن يتعشّى في بيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فجنته، فقال: ادْنُ فتعشقَّ، قال: قلت: لا أريده. قال: مالي رأيتك وقفت؟ قلت: وقفت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا دخلت فسلم عليه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا في بيوتكم، ولا تجعلوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبياثهم مساجد، وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" ولم يذكر قول الحسن. فهذا فيه أنه أمره أن يسلم عند دخول المسجد، وهو السلام المشروع الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من السلف، كانوا يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد، وهذا مشروع في كل مسجد، وهذا الحسن بن الحسن المثنى وهو من التابعين وهو من ظهر علي بن الحسين هذا ابن الحسن وهذا ابن الحسين، وقد ذكر القاضي عياض هذا عن الحسن بن علي نفسه رضي الله عنهم أجمعين- فقال: وعن الحسن بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حيثما كنتم فصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني" قال: وعن الحسن بن علي: إذا دخلت المسجد فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".

قلت: والصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد مأثور عنه صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من الصحابة والتابعين، مثل الحديث الذي في المسند والترمذي وابن ماجه عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك"1 هذا لفظ الترمذي، وفي غيره أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وفي سنن أبي داود عن أبي أسيد أو أبي حميد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل..! وذكر الحديث2. وقال الضحاك بن عثمان: حدثنا سعيد

1 تقدم.

2 وقد تقدم.

ص: 223

المقبري عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل اللهم أجرني من الشيطان الرجيم". أخرجه ابن خزيمة في صحيحه1. قال القاضي عياض: ومن مواطن الصلاة والسلام عليه دخول المسجد، قال أبو إسحاق بن شعبان: وينبغي لمن دخل المسجد أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، ويترحم عليه وعلى آله، ويبارك عليه وعلى آله، ويسلم عليه تسليماً، ويقول: اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك. قال: وقال عمرو بن دينار في قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 2. قال: إن لم يكن في البيت أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته. قال: وقال ابن عباس: المراد بالبيوت المساجد. وقال النخعي: إذا لم يكن في البيت أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال: وعن علقمة قال: إذا دخلتُ المسجد أقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، صلى الله وملائكته على محمد. قال: ونحوه عن كعب إذا دخل وخرج ولم يذكر الصلاة. قال: واحتج ابن شعبان لما ذكره بحديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله إذا دخل المسجد. قال: ومثله عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وذكر السلام والرحمة. قال: وروى ابن وهب، عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخلت المسجد فصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم، وقل اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبوبى رحمتك". وفي رواية أخرى: "فليسلّم وليصل ويقول إذا خرج: اللهم إني أسألك من فضلك". وفي أخرى: "اللهم احفظني من الشيطان". وعن محمد بن سيرين: كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد: صلى الله وملائكته على محمد، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، باسم الله دخلنا وباسم الله خرجنا، وعلى الله توكلنا. وكانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك. قلت هذا فيه حديث مرفوع في "سنن أبي داود" وغيره أنه يقال

1 برقم (452) وابن ماجه (730) وابن حبان في "صحيحه"(1/رقم:321) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(90) وغيرهم.

2 سورة النور: 61.

ص: 224

عند دخول المسجد: "اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا"1. قال القاضي عياض: وعن أبي

1 قوله: يقال عند دخول المسجد. وهم؛ وقد نبّهتُ عليه في تحقيقي على كتاب "الرد على الأخنائي" فالدعاء مرري عند الدخول إلى المنزل.

والحديث أخرجه: أبو داود (5069) والطبراني في "المعجم الكبير"(3/ رقم: 3452) وفي "مسند الشاميين "(1674) وابن حجر في "نتائج الأفكار"(1/172) . من طريق: محمد بن إسماعيل، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً.

وإسناده ضعيف؛ فيه علتان:

الأولى: الانقطاع؛ فمحمد بن إسماعيل لم يسمع من أبيه.

الثانية: رواية شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري مرسلة.

قال المنذري في "مختصره على سنن أبي داود"(8/4) : "في إسناده محمد بن إسماعيل وأبوه؛ وفيهما مقال".

وقال الحافظ في "نتائج الأفكار": "هذا حديث غريب".

أما قول النووي في "الأذكار"(ص 50- ط. الهدى) : "لم يضعفه أبو داود. فقد تعقّبه الحافظ ابن حجر بقوله: "يريد في السنن؛ وإلا فقد ضعّف راويه في أسنلة الآجري، فقال: محمد بن إسماعيل بن عياش ليس بذاك، وسألت عنه عمرو بن عثمان؛ فدفعه. وقال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه فحملوه على أن حدّث عنه.

قلت:- القائل هو الحافظ- ولعله كانت له من أبيه إجازة، فأطلق فيها التحديث، أو يجوز في إطلاق التحديث على الوجادة. وقد أخرج أبو داود بهذا الإسناد أربعة أحاديث يقول في كل منها: قال محمد بن عوف: وقرأته في أصل محمد بن إسماعيل بن عياش. وإسماعيل وإن كان فيه مقال؛ لكن هذا من روايته عن شامي؟ فتثبل عند الجمهور.

وفي السند علّة أخرى؛ قال أبو حاتم: رواية شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري مرسلة. وقد حكى الشيخ الخلاف في اسم أبي مالك، وبقي منه أنه قيل: عامر، وقيل: عبيد الله- بالإضافة-. ومن سمّاه كعباً قال: ابن عاصم. وقال بعضهم: كعب بن كعب. والتحقيق؛ أن أبا مالك الأشعري ثلاثة؛ الحارث بن الحارث، وكعب بن عاصم؛ وهذان مشهوران باسميهما، ولا اختلاف في كنينهما، والثالث هو المختلف في اسمه، وأكثر ما يرد في الروايات بكنتيه وهو راوي هذا الحديث. وقد أخرجه الطبراني في مسند الحارث بن الحارث؛ فوهم. فإنه غيره، والله أعلم" اهـ.

قلت: وكلام الحافظ هنا نفيس ومتين قد لا تجده في مكان آخر.

ومنه تعلم وهم من حسّن الحديث أو صحّحه. وممن وقع في هذا الوهم الشيخ عبد القادر الأرنؤوط- سلَّمه الله- في تحقيقه على "الإذكار" فحسّنه. وصحّح إسناده هو وشعيب في تحقيقهما على "زاد المعاد"(2/282) . وقد أحسن صنعاً من قام على تحقيق "زاد المعاد"(2/299) ط. مؤسسة الريان- فأشاروا إلى تضعيف الشيخ ناصر للحديث بالعزو إلى "ضعيف سنن أبي داود". فالشيخ رحمه الله كان قد مال إلى تصحيح الحديث في "الصحيحة"(رقم: 225- الطبعة القديمة) وفي "الكلم الطيب"(ص50. رقم: 61) و"صحيح الجامع"(839) . لكنه تراجع عن تصحيحه وضعّفه في "ضعيف سنن أبي داود"(1091) وحذفه من "صحيح الكلم الطيب" الطبعة الجديد، وكذا من "السلسلة الصحيحة".

ص: 225

هريرة: "إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل "اللهم افتح لي" وقلت: وروى ابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري عن ضرار بن مرة مجاهد في هذه الآية {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} قال: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله، وإذا دخلت على أهلك فقل: السلام عليكم. قلت: والآثار مبسوطة في مواضع.

والمقصود هنا؛ أن تعرف ما كان عليه السلف من الفرق بين ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه وبين سلام التحية الموجب للرد، الذي يشترك فيه كل مؤمن حي، ويرد فيه على الكافر، ولهذا كان الصحابة بالمدينة على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم -إذا دخلوا المسجد لصلاة أو اعتكاف أو تعليم أو تعلم أو ذكر لله ودعاء له ونحو ذلك مما شرع في المساجد -لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك، ولا يقفون خارج الحجرة، كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضاً لزيارة قبره، فلم يكن الصحابة بالمدينة يزورون قبره لا من المسجد خارج الحجرة ولا داخل الحجرة، ولا كانوا أيضاً يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره، بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء، وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه، وبينوا أن السلف لم يفعلوها، كما ذكره مالك في (المبسوط) وقد ذكره أصحابه، كأبي الوليد الباجي، والقاضي عياض وغيرهما.

ص: 226

قيل لمالك: إن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه إلا يفعلون ذلك؛ أي يقفون على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون عليه، ويدعون له، ولأبي بكر وعمر، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة والأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر يسلمون ويدعون ساعة. فقال: لم يبلغني هذا عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.

فقد كره مالك رحمه الله هذا، وبين أنه لم يبلغه هذا عن أهل العلم بالمدينة ولا عن صدر هذه الأمة وأولها وهم الصحابة، وأن ذلك يكره لأهل المدينة إلا عند السفر، ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم، بل هم في ذلك ليسوا دون سائر الأمصار، فإذا لم يكره لأولئك زيارة القبور بل يستحب لهم زيارتها عند جمهور العلماء -كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل- فأهل المدينة أولى أن لا يكره لهم، بل يستحب لهم زيارة القبور كما يستحب لغيرهم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن قبر النبي صلى الله عليه وسلم خص بالمنع شرعاً وحِسّاً، كما دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة، كما يزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس كذلك، فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن، وهذا لعلو قدره وشرفه لا لكون غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين فضلاً عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بالمدينة وغيرها.

ومن هنا غلط طائفة من الناس، يقولون: إذا كانت زيارة قبر آحاد الناس مستحبة فكيف بقبر سيد الأولين والاخرين صلوات الله وسلامه عليه، وهؤلاء ظنوا أن زيارة قبر الميت مطلقاً هو من باب الإكرام والتعظيم له، والرسول صلى الله عليه وسلم أحق بالإكرام والتعظيم من كل أحد، وظنوا أن ترك الزيارة فيها تنقص لكرامته، وخالفوا السنة وإجماع الأمة سلفها وخلفها، فقولهم نظير قول من يقول: إذا كانت زيارة القبور يصل الزائر فيها إلى قبر المزور فإن ذلك أبلغ في الدعاء له، وإن كان مقصوده دعاءه، كما يقصده أهل البدع، فهو أبلغ في

ص: 227

دعائه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن نصل إلى قبره إذا زرناه.

وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشرع الوصول إلى قبره للدعاء له، ولا لدعائه، ولا لغير ذلك، بل غيره يصلى على قبره عند أكثر السلف، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، والصلاة على القبر كالصلاة على الجنازة تشرع مع القرب والمشاهدة، وهو بالإجماع لا يُصَلَّى على قبره، سواء كان للصلاة حد محدود أو كان يصلى على القبر مطلقاً، ولم يعرف أن أحداً من الصحابة الغائبين لما قدم صلى على قبره صلى الله عليه وسلم. وزيارة القبور المشروعة هي مشروعة مع الوصول إلى القبر بمشاهدته، وهذه الزيارة غير مشروعة في حقه بالنص والإجماع، ولا هي أيضاً ممكنة، فتبين غلط هؤلاء الذين قاسوه على عموم المسلمين وهذا من باب القياس الفاسد، ومن قاس قياس الأولى ولم يعلم ما اختص به كل واحد من القياس والمقيس به كان قياسه من جنس قياس المشركين الذين كانوا يقيسون الميتة على المذكى، ويقولون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1 وكذلك لما أخبر الله أن الأصنام التي تُعْبَد هي وعابدوها حصب جهنم قاس ابن الزبعري قبل أن يسلم وهو وغيره من المشركين عيسى بها، وقالوا يجب أن يعذب عيسى، قال:{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ثم قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} 2. وبين تعالى الفرق بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 3. بَيَّنَ أن من كان صالحاً- نبياً أو غير نبيّ- لم يعذَّب لأجل من أشرك به وعبده وهو بريء من إشراكهم، وأما الأصنام فهي حجارة تجعل حصباً للنار، وقد قيل: إنها من الحجارة التي قال الله تعالى فيها {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وقال تعالى:

1 سورة الأنعام: 121.

2 سورة الزخرف: 57- 59.

3 سورة الأنبياء: 101.

ص: 228

{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} 1 وبسط هذا له موضع آخر.

والمقصود هنا؛ أن يُعرف أن ما ما مضت به سنته وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والدين بالمدينة من تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره، وهو أيضاً في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ.

والمقصود هنا؛ أن يُعرف أن ما ما مضت به سنته وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والدين بالمدينة من تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره، وهو أيضاً في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ.

وأما كونه أتم في حق الله فلأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركواء به شيئاً، كما ئبت ذلك في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب، فلا يُتّقى غيره، ولا يُخاف غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يُدعى غيره، ولا يصلى لغيره، ولا يُصام لغيره، ولا يُتصدق إلا له، ولا يُحج إلا إلى بيته، قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2 فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده. فجعل الإيتاء لله والرسول، وجعل التوكل والرغبة لله وحده. وقال:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 3. وقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 4 وقال: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 5. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ

1 سورة الجن: 15.

2 سورة النور: 52.

3 سورة التوبة: 59.

4 سورة الشرح: 7- 8.

5 سورة النحل: 51- 52.

ص: 229

الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 1 وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3. وهذا الباب واسع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله"4. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"5. فهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، والرقية دعاء فكيف بما هو أبلغ من ذلك.

ومعلوم أنه لو اتخذ قبره عيداً ومسجداً ووثناً صار الناس يدعونه ويتضرعون إليه، ويسألونه ويتوكّلون عليه، ويستغيثون ويستجيرون به، وربما سجدوا له وطافوا له، وصاروا يحجّون إليه، وهذه كلها من حقوق الله وحده الذي لا يشركه فيها مخلوق. وكان من حكمة الله دفنه في حجرته، ومنع الناس من مشاهدة قبره، والعكوف عليه والزيارة له ونحو ذلك لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين لله.

وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين، فلا يحصل ذلك عندها، وإذا قُدّر أن ذلك فعل عندها منع من يفعل ذلك وهدم ما يتخذ عليها من المساجد، وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته فعل ذلك كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال. وأما كون ذلك أعظم لقدره وأعلى لدرجته فلأن المقصود

1 سورة الإسراء: 56.

2 سورة الأحقاف: 4.

3 سورة سبأ: 22- 23.

4 أخرجه الترمذي (2516) وصححه.

5 أخرجه البخاري (5705، 575، 5641) ومسلم (374) وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 230

المشروع بزيارة قبور المؤمنين- كأهل البقيع وشهداء أحد- هو الدعاء، كما كان هو يفعل ذلك، كما زارهم وكما سنه لأمته.

فلو سنّ للأمة أن يزوروا قبره للصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له –كما كان بعض أهل المدينة يفعل ذلك أحياناً، وبيِّن مالك أنه بدعة لم تبلغه عن صدر هذه الأمة ولا عن أهل العلم بالمدينة، وأنها مكروهة، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها- لكان بعض الناس يزوره ثم لتعظيمه في القلوب، وعلم الخلائق بأنه أفضل الرسل وأعظمهم جاهاً، وأنه أوجه الشفعاء إلى ربه تدعو النفس أن تطلب منه حاجاتها وأغراضها وتعرض عن حقه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له، فإن الناس مع ربهم كذلك، إلا من أنعم الله عليه بحقيقة الإيمان، وإنما يعظمون الله عند ضرورتهم إليه، كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1 وقال تعا لى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} 2 وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 3.

ونظائر هذا في القرآن متعددة، فإذا كانوا -إلا من شاء الله- إنما يعظمون ربهم ويوحّدونه ويذكرونه عند ضرورتهم لأغراضهم، ولا يعرفون حقه إذا خلصهم، فلا يحبونه ويعبدونه، ولا يسألونه، ولا يقومون بطاعته، فكيف يكونون مع الملخوق؟.

فهم يطلبون من الأنبياء والصالحين أغراضهم، وذلك مقدم عندهم على حقوق الأنبياء والصالحين، فإذا أيقنوا أن في زيارة قبر نبي أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وجاهه وشفاعته أعرضوا عن حقه واشتغلوا بأغراضهم،

1 سورة يونس: 12.

2 سورة الإسراء: 67.

3 سورة الزمر: 8.

ص: 231

كما هو الموجود في عامة الذين يحجّون إلى القبور المعظّمة ويقصدونها لطلب الحوائج، فلو أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في زيارة قبره ومكّنهم من ذلك لأعرضوا عن حق الله الذي يستحقه من عبادته وحقه، وعن حق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يستحقه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له، بل ومن جعله واسطة بينهم وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وخبره، فكانوا يهضمون حق الله وحق رسوله، كما فعلت النصارى، فإنهم بغلوّهم في المسيح تركوا حق الله من عبادته وحده، وتركوا حق المسيح، فهم لا يدعون له بل هو عندهم رب يدعى، ولا يقومون بحق رسالته فينظرون ما أمر به وما أخبر به، بل اشتغلوا بالشرك به وبغيره وبطلب حوائجهم من يستغيثون به من الملائكة والأنبياء وصالحيهم عما يجب من حقوقهم.

وأيضاً فلو جُعِلَتْ الصلاة والسلام عليه والدعاء له عند قبره أفضل منها في غير تلك البقعة -كما قد يكون الدعاء للميت عند قبره أفضل- لكانوا يخصون تلك البقعة بزيادة الدعاء له، وإذا غابوا عنها تنقص صلاتهم وسلامهم ودعاؤهم، فإن الإنسان لا يجتهد في الدعاء في المكان المفضول كما يجتهد في المكان الفاضل، وهم قد أمروا أن يقوموا بحق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مكان، وأن لا يكون البعيد عن قبره أنقض إيماناً وقياماً بحقه من المجاور لقبره، وقال لهم صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا بيتي عيداً وصلوا عليّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني". وقد شرع لهم أن يصلّوا عليه ويسألوا له الوسيلة إذا سمعوا المؤذن حيث كانوا؛ وأن يسلموا عليه في كل صلاة، ويصلوا عليه في الصلاة، ويسلموا عليه إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا منه، فهذا الذي أمروا به عام في كل مكان، وهو يوجب من القيام بحقه ورفع درجته وإعلاء منزلته ما لا يحصل لو جعل ذلك عند قبره أفضل، ولا إذا سوّي بين قبره وقبر غيره، بل إنما يحصل كمال حقه مع حق ربه بفعل ما شرعه وسنه لأمته من واجب ومستحب، وهو أن يقوموا بحق الله ثم بحق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا من المحبة والموالاة والطاعة وغير ذلك من الصلاة والسلام والدعاء وغير ذلك، ولا يقصد تخصيص القبر لما يفضي إليه ذلك من ترك حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا وغيره مما يبين أن ما نهى عنه الناس ومنعوا منه كان السلف لا يفعلونه من زيارة قبره،

ص: 232

وإن كان زيارة قبر غيره مستحبة فهو أعظم لقدره وأرفع لدرجته وأعلى في منزلته، وإن ذلك أقوم بحق الله، وأتم وأكمل في عبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له، ففي ذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإن كان أهل البدع الذين فعلوا ما لم يشرعه بل ما نهى عنه، وخالفوا الصحابة والتابعين لهم بإحسان فاستحبوا ما كان أولئك يكرهونه ويمنعون منه؛ هم مضاهون للنصارى، وأنهم نقصوا من تحقيق الإيمان بالله ورسوله والقيام بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم بقدر ما دخلوا فيه من البدعة التي ضاهوا بها النصارى، فهذا هذا والله أعلم.

وأيضاً فإنه إذا أُطيع أمره واتُّبِعَتْ سنته كان له من الأجر بقدر أجر من أطاعه واتبع سنته، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً"1. وقوله: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"2.

وأما البدع التي لم يشرعها بل نهى عنها -وإن كانت متضمنة للغلو فيه والشرك به والإطراء له كما فعلت النصارى- فإنه لا يحصل بها أجر لمن عمل بها، فلا يكون للرسول صلى الله عليه وسلم فيها منفعة، بل صاحبها إن عُذِرَ كان ضالاً لا أجر له فيها، وإن قامت عليه الحجة استحق العذاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسو له" 3 صلى الله عليه وسلم.

فإن قال هؤلاء الذين قاسوا زيارة قبره على زيارة سائر القبور: إن الناس

1 أخرجه مسلم (2674) وأبو داود (4609) والترمذي (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

2 أخرجه مسلم (1017) وأحمد (4/ 357، 358، 359) والترمذي (2675) والنسائيئ (5/ 75- 76) وابن ماجه (203) وغيرهم من حديث جرير بن عبد الله بنحوه.

3 تقدم.

ص: 233

مُنعوا من الوصول إليه تعظيماً لقدره، وجعل سلامهم وخطابهم له من وراء الحجرة لأن ذلك أبلغ في الأدب والتعظيم.

قيل: فهذا موجب الفرق، فإن الزيارة المشروعة إن كان مقصودها الدعاء له فيكون ذلك قريباً من الحجرة أفضل منه في سائر المساجد والبقاع، فالذي يدعو له داخل الحجرة أقرب، وإن كان القرب مستحباً فكلما كان أقرب كان أفضل كسائر القبور، وإن كان مقصودها ما يقوله أهل الشرك والضلال من دعائه ودعاؤه من القرب أولى فينبغي أن يكون من داخل الحجرة أولى، ولما ثبت أن هذا القرب من القبر منه ممنوع منه بالنص والإجماع وهو أيضاً غير مقدور؛ عُلِمَ أن القرب من ذلك ليس يستحب، بخلاف زيارة قبر غيره والصلاة على قبره، فإن القرب منه مستحب ما لم يُفْضِ إلى مفسدة من شرك أو بدعة أو نياحة، فإن أفضى إلى ذلك منع ذلك.

ومما يوضّح هذا: أن الشخص الذي يقصد أتباعه زيارة قبره يجعلون قبره بحيث تمكن زيارته، فيكون له باب يدخل منه إلى القبر، ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل بحيث يتمكن من القعود فيه، بل يوسع المكان ليسع الزائرين، ومن اتخذه مسجداً جعل عنده صورة محراب أو قريباً منه، صااذا كان الباب مغلقاً جعل له شباك على الطريق ليراه الناس فيه فيدعونه، وقبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا كله لم يجعل للزائر طريق إليه بوجه من الوجوه، ولا قبر في مكان كبير يتسع للزوار، ولا جعل للمكان شباك يرى منه القبر، بل منع الناس من الوصول إليه والمشاهدة له، ومن أعظم ما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته واستجاب دعاءه أن دفن في بيته بجانب مسجده، فلا يقدر أحد أن يصلي إلا إلى المسجد، والعبادة المشروعة في المسجد معروفة، بخلاف ما لو كان قبره منفرداً عن المسجد، والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد، وإذا سمي هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمى له، إنما هو إتيان إلى مسجده، ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ ولا عند قبره قناديل معلقة، ولا ستور مسبلة، بل إنما يعلق القناديل في المسجد المؤسس على التقوى، ولا يقدر أحد أن يخلق نفس قبره بزعفران أو غيره، ولا ينذر له زيتاً ولا شمعاً ولا ستراً ولا غير ذلك مما ينذر لقبر غيره، وإن كان في بعض الأحوال قد ستر بعض

ص: 234

الناس الحجرة أو خلّقها بعضهم بزعفران فهذا إنما هو للحائط الذي يلي المسجد لا نفس باطن الحجرة والقبر كما يفعل بقبر غيره وإن فعل شيء في ظاهر الحجرة، فعلم أن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاءه حيث قال:"اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" وإن كان كثير من الناس يريدون أن يجعلوه وثناً ويعتقدون أن ذلك تعظيم له كما يريدون ذلك ويعتقدون في قبر غيره، فهم لا يتمكنون من ذلك، بل هذا القصد والاعتقاد خيال في نفوسهم لا حقيقة له في الخارج، بخلاف القبر الذي جعل وثناً. وإن كان الميت ولياً لله لا إثم عليه من فعل من أشرك به، كما لا إثم على المسيح من إثم من أشرك به، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1 وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 2. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} 3.

فالمعبودون من دون الله- سواء كانوا أولياء كالملائكة والأنبياء والصالحين أو كانوا أوثاناً- قد تبرّؤوا ممن عبدهم، وبينوا أنه ليس لهم أن يوالوا من عبدهم، ولا أن يواليهم من عبدهم، فالمسيح وغيره وإن كانوا برءاء من الشرك بهم لكن المقصود بيان ما فضل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته، وما أنعم به عليهم من إقامة

1 سورة المائدة: 116- 117.

2 سورة الماثدة: 72.

3 سورة الفرقان: 17- 19.

ص: 235

التوحيد لله، والدعوة إلى عبادته وحده، وإعلاء كلمته ودينه، وإظهار ما بعثه الله به من الهدى ودين الحق، وما صانه الله به وصان قبره من أن يتخذ مسجداً، فإن هذا من أقوى أسباب ضلال أهل الكتاب، ولهذا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك تحذيراً لأمته، وبيّن أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة، ولما كان أصحابه أعلم الناس بدينه وأطوعهم له لم يظهر فيهم من البدع ما ظهر فيمن بعدهم لا في أمور القبور ولا في غيرها، فلا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه من تعمد الكذب على نبيهم، وكذلك البدع الظاهرة المشهورة مثل بدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة لم يعرف عن أحد من الصحابة شيء من ذلك، بل النقول الثابتة عنهم تدل على موافقتهم للكتاب والسنة، وكذلك اجتماع رجال الغيب بهم أو الخضر أو غيره، وكذلك مجيء الأنبياء إليهم في اليقظة وحمل من يحمل منهم إلى عرفات ونحو ذلك مما وقع فيه كثير من العباد وظنوا أنه كرامة من الله وكان من إضلال الشياطين لهم، لم تطمع الشياطين أن توقع الصحابة في مثل هذا، فإنهم كانوا يعلمون أن هذا كله من الشيطان. ورجال الغيب هم الجن، قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1.

وكذلك الشرك بأهل القبور لم يطمع الشيطان أن يوقعهم فيه فلم يكن على عهدهم في الإسلام قبر نبي يسافر إليه، ولا يقصد للدعاء عنده أو لطلب بركته أو شفاعته أو غير ذلك، بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وقبره عندهم محجوب لا يقصده أحد منهم لشيء من ذلك، وكذلك كان التابعون لهم بإحسان، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وإنما تكلم العلماء والسلف في الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره؛ منهم من نهى عن الوقوف للدعاء دون السلام عليه، ومنهم من رخص في هذا وهذا، ومنهم من نهى عن هذا وهذا، وأما دعاؤه هو وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، بل الأدعية التي ذكروها خالية عن ذلك.

1 سورة الجن: 6.

ص: 236

أما مالك فقد قاد القاضي عياض: وقال مالك في المبسوط: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يسلم ويمضي".

وهذا الذي نقله القاضي عياض ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوط، قال: وقال مالك لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر ثم يمضي. وقال مالك ذلك لأن هذا المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت أو يا أبتاه، ثم ينصرت ولا يقف يدعو. فرأى مالك ذلك من البدع، قال: وقال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده.

فقوله في هذه الرواية إذا سلم ودعا؛ قد يريد بالدعاء السلام، فإنه قال: يدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده، ويؤيد ذلك أنه قال في رواية ابن وهب: يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وقد يراد أنه يدعو له بلفظ الصلاة، كما ذكر في الموطأ من رواية عبد الله بن دينار أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر. وفي رواية يحيى بن يحيى- وقد غلطه ابن عبد البر وقالوا: إنما لفظ الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما- يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم على أبي بكر وعمر، وقال أبو الوليد الباجي: وعندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة ولأبي بكر وعمر. لما في حديث ابن عمر من الخلاف. قال القاضي عياض: وقال في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أدن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فإن أراد بالدعاء السلام والصلاة فهو موافق لتلك الرواية، وإن أراد دعاء زائداً فهي رواية أخرى، وبكل حال فإنما أراد الدعاء اليسير.

وأما ابن حبيب فقال: ثم يقف بالقبر متواضعاً موقّراً فيصلي عليه ويثني بما حضر، ويسلم على أبي بكر وعمر. فلم يذكر إلا الثناء عليه مع الصلاة.

واما الإمام أحمد فذكر الثناء عليه بلفظ الشهادة له بذلك مع الدعاء له بغير

ص: 237

الصلاة، ومع دعاء الداعي لنفسه أيضاً لم يذكر أن يطلب منه شيئاً، ولا يقرأ عند القبر قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} 1.

كما لم يذكر مالك ذلك ولا المتقدمون من أصحابنا ولا جمهورهم، بل قال في منسك المروزي: ثم ائتِ الروضة وهي بين القبر والمنبر فصلِّ فيها وادعُ بما شئت، ثم ائتِ قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقل: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا محمد بن عبد الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّك رسول الله، وأشهد أنك بلغت رسالة ربك، ونصحت لأمتك، وجاهدت في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً عن أمته، ورفع درجتك العليا، وتقبل شفاعتك الكبرى، وأعطاك سؤالك في الآخرة والأولى، كما تقبل من إبرهيم. اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشرباً روياً لا نظمأ بعده أبداً.

وما من دعاء وشهادة وئناء يذكر عند القبر إلا وقد وردت السنة بذلك وما هو منه في سائر البقاع، ولا يمكن أحداً أن يأتي بذكر يشرع عند القبر دون غيره، وهذا تحقيق لنهيه أن يتخذ قبره أو بيته عيداً، فلا يقصد تخصضه بشيء من الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم فضلاً عن الدعاء لغيره، بل يدعى بذلك للرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان الداعي، فإن ذلك يصل إليه صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف ما شرع عند قبر غيره، كقوله:"السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين إنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين" فإن هذا لا يشرع إلا عند القبور، ولا يشرع عند غيرها، وهذا مما يظهر به الفرق بينه وبين غيره، وأن ما شرعه وفعله أصحابه من المنع من زيارة قبره كما تزار القبور هو من فضائله، وهو رحمة لأمته ومن تمام نعمة الله عليها، فالسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئاً، ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته ويطلب منه يوم القيامة، لا شفاعة ولا استغفار

1 سورة النساء: 64.

ص: 238

ولا غير ذلك، وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه عند الحجرة، فبعضهم رأى هذا من السلام الداخل في قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من رجل يسلم علي إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام". واستحبه لذلك، وبعضهم لم يستحبه، إما لعدم دخوله، وإما لأن السلام المأمور به في القرآن مع الصلاة -وهو السلام الذي لا يوجب الرد- أفضل من السلام الموجب للرد، فإن هذا مما يدل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه السلف، فإن السلام المأمور به في القرآن كالصلاة المأمور بها في القرآن كلاهما لا يوجب عليه الرد، بل الله يصلي على من صلى عليه ويسلم على من سلم عليه، ولأن السلام الذي يوجب الرد هو حق للمسلم كما قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} 1. ولهذا يرد السلام على من سلم وإن كان كافراً، وكان اليهود إذا سلموا عليه يقول: (وعليكم) . وأمر أمته بذلك2. وإنما قال: (عليكم) لأنهم يقولون السام، والسام: الموت، فيقول: (عليكم) . قال صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا". ولما قالت عائشة: وعليكم السام واللعنة. قال: "مهلاً يا عائشة؛ فإن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، أو لم تسمعي ما قلت لهم؟! "3. يعني رددت عليهم، فقلت: "عليكم". فهذا إذا قالوا السام عليكم، وأما إذا عُلم أنهم قالوا السلام؛ فلا يخصون في الرد فيقال: عليكم. فيصير بمعنى السلام عليكم لا علينا بل يقال وعليكم.

وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته "عليكم" جزاء دعائهم وهو دعاء بالسلامة والسلام أمان؛ فقد يكون المستجاب هي سلامتهم منا، أي: من ظلمنا وعداوتنا، وكذلك كل من رد السلام على غيره فإنما دعا له بالسلامة، وهذا مجمل، ومن الممتنع أن يكون كل من رد على النبي صلى الله عليه وسلم من الخلق دعا له بالسلامة من عذاب الدنيا والآخرة، فقد كان المنافقون يسلمون عليه ويرد عليهم، ويرد على المسلمين

1 سورة النساء: 86.

2 أخرجه البخاري (6257، 6928) ومسلم (2164) من حديث عبد الله بن عمر. وأخرجه البخاري (6258، 6926) ومسلم (2163) من حديث أنى بن مالك.

3 أخرجه البخاري (6256) ومسلم (2165) .

ص: 239

أصحاب الذنوب وغيرهم، لكن السلام فيه أمان، ولهذا لا يبتدأ الكافر الحربي بالسلام، بل لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابه إلى قيصر قال فيه:"من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم؛ سلام على من اتبع الهدى". كما قال موسى لفرعون، والحديث في الصحيحين من رواية ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب في قصته المشهورة لما قرأ قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أحواله1.

وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ابتداء اليهود بالسلام، فمن العلماء من حمل ذلك على العموم، ومنهم من رخص إذا كان للمسلم إليه حاجة يبتدئه بالسلام بخلاف اللقاء، والكفار كاليهود والنصارى يسلمون عليه وعلى أمته سلام التحية الموجب للرد، وأما السلام المطلق فهو كالصلاة عليه إنما يصلي عليه ويسلم عليه أمته، فاليهود والنصارى لا يصلون عليه ولا يسلمون عليه، وكانوا إذا رأوه يسلمون عليه، فذلك الذي يختص به المؤمنون ابتداءً وجواباً أفضل من هذا الذي يفعله الكفار معه ومع أمته ابتداءً وجواباً، ولا يجوز أن الكفار إذا سلموا عليه سلام التحية فإن الله يسلم عليهم عشراً، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم على ذلك فيوفيهم كما لو كان لهم دين فقضاه.

وأما ما يختص بالمؤمنين فإذا صلوا عليه صلى الله على من صلى عليه عشراً، لماذا سلم عليه سلم الله عليه عشراً، وهذا الصلاة والسلام هو المشروع في كل مكان بالكتاب والسنة والإجماع، بل هو مأمور به من الله سبحانه وتعالى، لا فرق في هذا بين الغرباء وبين أهل المدينة عند القبر.

وأما السلام عليه عند القبر فقد عرف أن الصحابة والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه إذا دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولو كان هذا كالسلام عليه لو كان حياً لكانوا يفعلونه كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه كما لو دخلوا المسجد في حياته وهو فيه؛ فإنه مشروع لهم كلما رأوه أن يسلموا عليه، بل السنة لمن جاء إلى قوم أن يسلم عليهم إذا قدم وإذا قام، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك،

1 تقدم في أول الكتاب.

ص: 240

وقال: "ليست الأولى أحق من الآخرة"1. فهو لما كان حياً كان أحدهم إذا أتى يسلم، وإذا قام يسلم، ومثل هذا لا يشرع عند القبر باتفاق المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من عادة الصحابة، ولو كان سلام التحية خارج الحجرة كان مستحباً لكل أحد، ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة، ولا بين حال السفر ويغره، فإن استحباب هذا لهؤلاء وكراهته لهؤلاء حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، ولا يمكن أحداً أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر، وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه ولم يشرع ذلك لأهل المدينة، فمثل هذه الشريعة ليس منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه، ولا هو معروف من عمل الصحابة، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة.

قلت: روى عبد الرزاق في مصنفه، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه2.

وأنبأه عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر. هكذا قال: عبيد الله بن عمر العمري الكبير، وهو أعلم آل عمر في زمانه وأحفظهم وأثبتهم. قال الشيخ: كما كان ابن عمر يتحرّى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وغير ذلك في السفر.

وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك بل أبوه عمر كان ينهى عن مثل ذلك، كما روى سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن

1 أخرجه أحمد (2/230، 287، 439) وأبو داود (5208) والترمذي (2706) والبخاري فى "الأدب المفرد"(1007) والنسائي في "الكبرى"(6/100/ 10200- 10202) وهو حديث صحيح.

2 تقدم تخريجه.

ص: 241

المعرور بن سويد، عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في صلاة الفجر (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) و (لإيلاف قريش) في الثانية. فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار الأنبياء بيعاً، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصلّ، ومن لم تعرض له فليمضِ1.

وما اتفق عليه الصحابة- ابن عمر وغيره؛ من أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا بل يكره ذلك- يبين ضعف حجة من احتج بقوله: "ما من رجل يسلّم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أردَّ عليه السلام". فإن هذا لو دل على استحباب السلام عليه من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك، ولم يفرق في ذلك بين القادم من السفر وغيره، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسيره علم أنه غير مستحب، بل لو كان جائزاً لفعله بعضهم، فدل على أنه كان من المنهي عنه كما دلت عليه سائر الأحاديث.

وعلى هذا فالجواب عن الحديث؛ إما بتضعيفه على قول من يضعّفه، وإما بأن ذلك يوجب فضيلة الرسول صلى الله عليه وسلم لا فضيلة المسلم بالرد عليه إذا كان هذا من باب المكافأة والجزاء، حتى أنه يشرع للبر والفاجر التحية بخلاف ما يقصد به الدعاء المجرد وهو السلام المأمور به. وإما بأن يقال: هذا مما هو فيمن سلم عليه من قريب، والقريب أن يكون في بيته، فإنه إن لم يحد بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع، كما تقدم ذكر هذا.

وأما الوجه: فتوجيهه؛ أن الحديث ليس فيه ثناء على المسلم ولا مدح له ولا ترغيب له في ذلك، ولا ذكر أجر له كما جاء في الصلاة والسلام المأمور بهما، فإنه قد وعد أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً، وكذلك من سلم عليه. وأيضاً فهو مأمور بهما وكل مأمور به ففاعله محمود مشكور مأجور. وأما

1 أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1/118-119/ 2734) من طريق الأعمش به. رهو غير موجود في المطبوع من "سنن سعيد بن منصور".

ص: 242

قوله: "ما من رجل يمر بقبر الرجل فيسلّم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، وما من رجل يسلم عليّ إلا رد الله علي روحي حتى أردَّ عليه السلام". فإنما فيه مدح المسلم عليه والإخبار بسماعه السلام، وأنه يرد السلام فيكافىء المسلم عليه لا يبقى للمسلم عليه فضل، فإنه بالرد يحصل المكافأة، كما قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} 1. ولهذا كان الرد من باب العدل المأمور به الواجب لكل مسلم إذا كان سلامه مشروعاً، وهذا كقوله: "من سَأَلَنَا أعطيناه، ومن لم يَسْأَلْنَا أحبّ إلينا"2. هو إخبار بإعطائه السائل، ليس هذا أمر بالسؤال وإن كان السلام ليس مثل السؤال لكن هذا اللفظ إنما يدل على مدح الراد.

وأما المسلّم فيقف الأمر فيه على الدليل، وإذا كان المشروع لأهل المدينة أن لا يقفوا عند الحجرة ويسلّموا عليه عُلِمَ قطعاً أن الحديث لم يُرَغِّبْ في ذلك، ومما يبين ذلك أن مسجده كسائر المساجد لم يختصّ بجنس من العبادات لا تشرع في غيره، وكذلك المسجد الأقصى، ولكن خُصّا بأن العبادة فيهما أفضل، بخلاف المسجد الحرام، فإنه مخصوص بالطواف، واستلام الركن، وتقبيل الحجر، وغير ذلك. وأما المسجدان الآخران فما يشرع فيهما من صلاة، وذكر، واعتكاف، وتعلم وتعليم، وثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلاة عليه، وتسليم وغير ذلك من العبادات فهو مشروع في سائر المساجد، والعمل الذي يسمى زيارة لقبره لا يكون إلا في مسجده لا خارجاً عن المسجد، فعُلِمَ أن المشروع من ذلك العمل مشروع في سائر المساجد لا اختصاص لقبره بجنس من أجناس العبادات، ولكن العبادة في مسجده أفضل منها في غيره لأجل المسجد لا لأجل لقبر.

قال الشيخ: ومما يوضح هذا أنه لم يُعرَف عن أحد من الصحابة أنه تكلم

1 سورة النساء: 86.

2 أخرجه أحمد (3/3، 4، 7، 9، 12، 44، 93) أو رقم (11002، 11018، 11058، 11074، 11105، 11416، 11417، 11906- قرطبة) والطيالسي (2161) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 243

باسم زيارة قبره لا ترغيباً في ذلك ولا غير ترغيب، فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم، ثم ذكر ما حكيناه عنه فيما تقدم.

ثم قال: والمقصود؛ أن هذا كله يبين ضعف حجة المفرق بين الصادر من المدينة، الوارد عليها، والوارد على مسجده من الغرباء والصادر عنه، وذلك أنه يمتنع أن يقال أنه يرد على هؤلاء ولا يرد على أحد من أهل المدينة المقيمين بها، فإن أولئك هم أفضل أمته وخواصها، وهم الذين خاطبهم بهذا، فيمتنع أن يكون المعنى من سلم منكم يا أهل المدينة لم أرد عليه ما دمتم مقيمين بها، فإن المقام بها هو غالب أوقاتهم، وليس في الحديث تخصيص، ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك.

يبين هذا؛ أن الحجرة لما كانت مفتوحة وكانوا يدخلون على عائشة لبعض الأمور فيسلمون عليه إنما كان يرد عليهم إذا سلّموا.

فإن قيل: إنه لم يكن يرد عليهم فهذا تعطيل للحديث.

وإن قيل: كان يرد عليهم من هناك ولا يرد إذا سلّموا من خارج فقد أظهر الفرق.

وإن قيل: بل هو يرد على الجميع فحينئذ إن كان رده لا يقتضي استحباب هذا السلام بطل الاستدلال به، وإن كان رده يقتضي الاستحباب وهو الآن مختص بمن سلّم من خارج لزم أن يستحب لأهل المدينة عند الحجرة كلما دخلوا المسجد وخرجوا وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وخلاف قول المفرقين، ومن أهل المدينة من قد لا يسافر منها أو لا يسافر إلا للحج، والقادم قد يقيم بالمدينة العشر والشهر، فهذا يرد عليه عشر مرات في اليوم والليلة وأكثر كلما دخل وخرج، وذاك المدني المقيم لا يرد عليه قط في عمره ولا مرة.

وأيضاً فاستحباب هذا للوارد والصادر تشبيه له بالطواف الذي يشرع للحاج عند الورود إلى مكة- وهو الذي يسمى طواف القدوم وطواف التحية وطواف الورود- وعند الصدور- وهو الذي يسمى طواف الوداع- وهذا تشبيه لبيت

ص: 244

المخلوق ببيت الخالق، ولهذا لا يجوز الطواف بالحجرة بالإجماع ولا الصلاة إليها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". وأيضاً فالطواف بالبيت لأهل مكة ولغيرهم كلما دخلوا المسجد والوقوف عند القبر كلما دخل المدني لا يشرع بالاتفاق، فلم يبق الفرق بين المدني وغير المدني له أصل في السنة ولا نظير في الشريعة، ولا هو مما سنه الخلفاء الراشدون وعمل به عامة الصحابة، فلا يجوز أن يجعل هذا من شريعته وسنته، وإذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر دون غيرهم كان غايته أنه يثبت به التسويغ، بحيث يكون هذا مانعاً من دعوى الإجماع على خلافه، بل يكون كسائر المسائل التي ساغ فيها الاجتهاد لبعض العلماء، أما أن يجعل من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وشريعته وحكم ما تدل عليه سنته لكون بعض السلف فعل ذلك فهذا لا يجوز، ونظير هذا مسحه للقبر، قال أبو بكر الأثرم: قلت لأبي عبد الله- يعني الإمام أحمد- قبر النبي صلى الله عليه وسلم يُلْمَسُ ويُتَمَسَّحُ به؟ قال: ما أعرف هذا. قلت فالمنبر؟ قال: أما المنبر، فنعم قد جاء فيه. قال أبو عبد الله: شيء يروونه عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن عمر أنه مسح على المنبر. قال: ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة. قلت: ويروى عن يحيى بن سعيد- يعني الأنصاري- شيخ مالك وغيره أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسن ذلك، ثم قال: لعله عند الضرورة. قلت لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقلت له: ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحيته فيسلمون. فقال أبو عبد الله: نعم وهكذا كان ابن عمر يفعل ذلك، ثم قال أبو عبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر أحمد بن حنبل أيضاً في منسك المروزي نظير ما نقل عن ابن عمر وابن المسيب ويحيى بن سعيد، وهذا كله يدل على التسويغ وأن هذا مما فعله بعض الصحابة، فلا يقال انعقد إجماعهم على تركه بحيث يكون فعل من فعل ذلك اقتداء ببعض السلف لم يبتدع هو شيئاً من عنده، وأما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ندب إلى ذلك ورغب فيه وجعله عبادة وطاعة يشرع فعلها فهذا يحتاج إلى دليل شرعي لا

ص: 245

يكفي في ذلك فعل بعض السلف، ولا يجوز أن يقال إن الله ورسوله يحب ذلك أو يكرهه، وأنه سنّ ذلك وشرعه، أو نهى عن ذلك وكرهه، أو نحو ذلك؛ إلا بدليل يدل على ذلك، لاسيما إذا عُرف أن جمهور أصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك، فيقال: لو كان هو ندبهم إلى ذلك وأحبه لفعلوه، فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير ونظائر هذا متعددة، والله أعلم.

والمؤمن قد يتحرّى الدعاء والصلاة في مكان دون مكان لاجتماع قلبه فيه، وحصول خشوعه فيه، لا لأنه يرى الشارع فضل ذلك المكان؛ كصلاة الذي يكون في بيته ونحو ذلك، فمثل هذا إذا لم يكن منهياً عنه فلا بأس به ويكون ذلك مستحباً في حق ذلك الشخص لكون عبادته فيه أفضل، كما إذا صلى القوم خلف إمام يحبونه كانت صلاتهم أفضل من أن يصلوا خلف من هم له كارهون.

وقد يكون العمل المفضول في حق بعض الناس أفضل لكونه أنفع له وكونه أرغب فيه وهو أحب إليه من عمل أفضل منه لكونه يعجز عنه فهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص، وهو غير ما ثبت فضل جنسه بالشرع كما ثبت أن الصلاة أفضل، ثم القراءة، ثم الذكر بالأدلة، مع أن العمل المفضول في مكانه هو أفضل من الفاضل في غير مكانه، كفضيلة الذكر والدعاء والقراءة بعد الفجر والعصر على الصلاة المنهي عنها في هذا الوقت، وكفضيلة التسبيح في الركوع والسجود على القراءة لأنه نهى أن يقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، وكفضيلة آخر القرآن هناك لأنه موطن الدعاء، ونظائر هذا متعددة، وبسط هذا له موضع آخر.

لكن المقصود هنا؛ أن يعلم أن ما قيل إنه مستحب للأمة قد ندبهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ورغّبهم فيه فلا بد له من دليل يدل على ذلك، ولا يضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ما صدر عنه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فرض الله على جميع الخلق الإيمان به وطاعته وإتباعه، وإيجاب ما أوجبه وتحريم ما حرمه، وشرع ما شرعه، وبه فرق الله بين الهدى والضلال، والرشاد والغي، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وهو الذي شهد الله له بأنه يدعو إليه بإذنه ويهدي إلى صراط مستقيم، وهو الذي جعل الرب طاعته طاعة له في مثل قوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ

ص: 246

اللَّهَ} 1 وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 2. وهو الذي لا سبيل لأحد إلى النجاة إلا بطاعته، ولا يسأل الناس يوم القيامة إلا عن الإيمان به واتباعه وطاعته، وبه يمتحنون في القبور، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} 3. وهو الذي أخذ الله الميثاق على النبيين وأمرهم أن يأخذوا على أممهم الميثاق أنه إذا جاءهم أن يؤمنوا به ويصدقوه، وهو الذي فرق الله به بين أهل الجنة والنار، فمن آمن به وأطاعه كان من أهل الجنة، ومن كذبه وعصاه كان من أهل النار، قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 4.

والوعد بسعادة الدنيا والآخرة، والوعيد بشقاوة الدنيا والآخرة يتعلق بطاعته، فطاعته هي الصراط المستقيم، وهي حبل الله المتين، وهي العروة الوثقى، وأصحابها هم أولياء الله المتقون، وحزبه المفلحون، وجنده الغالبون والمخالفون لهم هم أعداء الله، حزب إبليس اللعين، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} 5. وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} 6 وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 7

1 سورة النساء: 80.

2 سورة النساء: 64.

3 سورة الأعراف: 6.

4 سورة النساء: 13- 14.

5 سورة الفرقان: 27- 29.

6 سورة الأحزاب: 66- 68.

7 سورة آل عمران: 32.

ص: 247

وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 1. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً* ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} 3. وجميع الرسل أخبروا بأن الله أمر بطاعتهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 4 يأمرون بعبادة الله وحده، وتقواه وحده، وخشيته وحده، ويأمرون بطاعتهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 5. وقال نوح: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 6 وقال في الشعراء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 7. وكذلك قال هود وصالح ولوط وشعيب. والناس محتاجون إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم فطاعته في كل زمان ومكان، ليلاً ونهاراً، سفراً وحضراً، سراً وعلانية، جماعة وفرادى، وهم أحوج إلى ذلك من الطعم والشراب، بل من النفس، فإنهم متى فقدوا ذلك فالنار جزاء من كذب بالرسول وتولى عن طاعته، كما قال تعالى:{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 8 أي: كذّب بما أخبر به وتولى عن طاعته، كما قال تعالى في موضع آخر:{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 9. أي: كذّب بما أخبر به وتولى عن طاعته. وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ

1 سورة النساء: 65.

2 سورة النور: 63.

3 سورة النساء: 69- 70.

4 سورة النساء: 64.

5 سورة النور: 52.

6 سورة نوح: 3.

7 سورة الشعراء: 108.

8 سورة الليل: 14- 16.

9 سورة القيامة: 31- 32.

ص: 248

فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} 1 وقال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} 2.

والله تعالى قد سماه سراجاً منيراً، وسمى الشمس سراجاً وهّاجاً، والناس إلى السراج المنير أحوج منهم إلى السراج الوهّاج، فإنهم يحتاجون إليه ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، وهو أنفع لهم، فإنه منير ليس فيه أذى، بخلاف الوهّاج؛ فإنه ينفع تارة ويضرُّ أخرى.

ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به وطاعته ومحبته وموالاته وتعظيمه وتعزيزه وتوقيره عامة في كل مكان وزمان، كان ما يؤمر به من حقوقه عاماً لا يختص بقبره، فمن خص قبره بشيء من الحقوق كان جاهلاً بقدر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدر ما أمر الله به من حقوقه، وكل من اشتغل بما أمر الله به من طاعته شغله عما نهى عنه من البدع المتعلقة بقبره وقبر غيره، ومن اشتغل بالبدع المنهي عنها ترك ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من حقه، فطاعته هي مناط السعادة والنجاة، والذين يحجون إلى القبور ويدعون الموتى من الأنبياء وغيرهم عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وأشركوا بالرب، ففاتهم ما أمروا به من تحقيق التوحيد، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميع الخلق يأتون يوم القيامة فيُسألون عن هذين الأصلين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ كما بُسِطَ هذا في موضعه.

والمقصود؛ أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين يدخلون المسجد، ويصلّون فيه الصلوات الخمس، ويصلّون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلّمون عليه عند دخول المسجد وبعد دخوله، ولم يكونوا يذهبون ويقفون إلى جانب الحجرة ويسلّمون عليه هناك، وكان على عهد الخلفاء الراشدين

1 سورة المزمل: 15- 16.

2 سورة النساء: 41- 42.

ص: 249

والصحابة حجرته خارجة عن المسجد، ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار، ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان من آخرهم موتاً جابر بن عبد الله، وتوفي في خلافة عبد الملك؛ فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك.

وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبه النميري في كتاب "أخبار المدينة" -مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياخه وعمّن حدّثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب، وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخلها في المسجد، وأدخل القبر فيه.

ثم ذكر الشيخ الآثار المروية في عمارة عمر بن عبد العزيز المسجد وزيادته فيه، وذكر أن حكم الزيادة حكم المزيد، فقال: وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده حكم المزيد، تضعف فيه الصلاة بألف صلاة، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد، فيجوز الطواف فيه، والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجاً منه، ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلّون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده ويأمرون بذلك. قال أبو زيد: حدثني محمد بن يحيى، حدثني من أثق به؛ أن عمر زاد في المسجد من القبلة إلى موضع المقصورة التي هي به اليوم. قال: فأما الذي لا يشك فيه أهل بلدنا أن عثمان هو الذي وضع القبلة في موضعها اليوم، ثم لم تغير بعد ذلك.

قال أبو زيد: حدثنا محمد بن يحيى، عن محمد، عن عثمان، عن

ص: 250

مصعب بن ثابت، عن خباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال- وهو يوماً في مصلاّه-:"لو زدنا في مسجدنا"1. وأشار بيده نحو القبلة.

حدثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن إسماعيل، عن ابن أبي ذئب، قال: قال عمر: لو مد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لكان منه.

حدثنا محمد بن يحيى، عن سعد بن سعيد، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بُني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي"2. فكان أبو هريرة يقول: والله لو مد هذا المسجد إلى داري ما عدوت أن أصلي فيه.

حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن فليح بن سليمان، عن ابن أبي عمرة، قال: زاد عمر في المسجد في شاميه، ثم قال: لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وهذا الذي جاءت به الآثار هو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم، فإنهم قالوا: إن الصلاة الفرض خلف الإمام أفضل. وهذا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة. وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان، فإن كليهما زاد من قبلي المسجد، فكان مقامه في الصلاة الخمس في الزيادة، وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، وإذا كان كذلك فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا، لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت لمن ذكر ذلك سلفاً من العلماء. قال: وهذه الأمور نبهنا عليها ههنا، فإنه

1 أخرجه ابن النجار في "تاريخ المدينة"(ص 369) كما في "الضعيفة"(2/403/974) وقال الشيخ الألباني هناك: "ضعيف جداً".

2 قال الشيخ الألباني في "الضعيفة"(2/402/ 973) : "ضعيف جداً".

ص: 251

يحتاج إلى معرفتها، وأكثر الناس لا يعرفون الأمر كيف كان، ولا حكم الله ورسوله في كثير من ذلك.

وكان من المقصود أن المسجد لما زاد فيه الوليد وأدخلت فيه الحجرة كان قد مات عامة الصحابة، ولم يبق إلا من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغ من التمييز الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة، ومن المعلوم بالتواتر أن ذلك كان في خلافة الوليد بن عبد الملك، وقد ذكروا أن ذلك كان سنة إحدى وتسعين، وأن عمر بن عبد العزيز مكث في بنائه ثلاث سنين، وسنة ثلاث وتسعين مات فيها خلق كثير من التابعين، مثل سعيد بن المسيب وغيره من الفقهاء السبعة- ويقال لها سنة الفقهاء- وجابر بن عبد الله، وكان من السابقين الأولين ممن بايع بالعقبة تحت الشجرة، ولم يكن بقي من هؤلاء غيره لما مات، وذلك قبل تغيير المسجد بسنين، ولم يبق بعده ممن كان بالغاً حين موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا سهل بن سعد الساعدي، فإنه توفي سنة ثمان وثمانين، وقيل سنة إحدى وتسعين، ولهذا قيل فيه إنه آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله أبو حاتم البستي وغيره.

وأما من مات بعد ذلك فكانوا صغاراً، مثل: السائب بن زيد الكندي ابن أخت نمر، فإنه مات بالمدينة سنة إحدى وتسعين، وقيل: إنه مات بعده عبد الله بن طلحة الذي حنّكه النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك محمود بن الربيع الذي عقل مجة مجّها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه من بئر كانت في دراهم وله خمس سنين، مات سنة تسع وتسعين وله ثلاث وتسعون سنة. وأبو أمامة بن سهل بن حنيف سماه النبي صلى الله عليه وسلم أسعد باسم أسعد بن زرارة، مات سنة مائة. لكن هؤلاء لم يكن لهم في حياته من التمييز ما ينقلون عنه أقواله وأفعاله التي ينقلها الصحابة، مثل ما ينقلها جابر وسهل بن سعد وغيرهما.

وأما ابن عمر، فكان قد مات قبل ذلك بعد قتل ابن الزبير بمكة سنة أربع وسبعين، وابن عباس مات قبل ذلك بالطائف سنة ثمان وستين، فهؤلاء وأمثالهم من الصحابة لم يدرك أحد منهم تغيير المسجد وإدخال الحجرة فيه. وأنس بن مالك كان بالبصرة ولم يكن بالمدينة، وقيل: إنه آخر من مات بها من الصحابة.

ص: 252

وكانت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم شرقي المسجد وقبليه- وقيل وشاميه- فاشتريت من ملاكها ورثة أزواجه وزيدت في المسجد فدخلت حجرة عائشة، وكان الذي تولى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة، فسد باب الحجرة وبنوا حائطاً آخر عليها غير الحائط القديم، فصار المسلم عليه من وراء الجدار أبعد من المسلّم عليه لما كان جداراً واحداً.

قال هؤلاء: ولو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعاً في المسجد لكان له حد ذراع أو ذراعان أو ثلاثة، فلا يعرف الفرق بين المكان الذي يستحب فيه هذا والمكان الذي لا يستحب.

فإن قيل: من سلّم عليه عند الحائط الغربي رد عليه. قيل: وكذلك من كان خارج المسجد، وإلا فما الفرق حينئذ، فيلزم أن يرد على جميع أهل الأرض، وعلى كل مصلٍّ في صلاة- كما ظنه بعض الغالطين- ومعلوم بطلان ذلك، وإن قيل يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة، قيل: فما حد ذلك؟ وهم لهم قولان: منهم من يستحب القرب من الحجرة كما استحب ذلك مالك وغيره. ولكن يقال: فما حد ذلك القرب؟ وإذا جعل له حد فهل يكون من خرج عن الحد فعل المستحب؟! وآخرون من المتأخرين يستحبون التباعد عن الحجرة، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي، فهل هو بذراع أو باع أو أكثر؟ وقدره من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربعة أذرع، فإنهم قالوا: يكون حين يسلم عليه مستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، ولا يدنوا أكثر من ذلك، وهذا- والله أعلم- قاله المتقدمون، لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن كالصلاة عليه، ليس المقصود به سلام التحية الذي يرد جوابه المسلم عليه، فإن هذا لا يشرع فيه هذا البعد، ولا يستقبل به القبلة، ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد.

وبالجملة؛ فمن قال إنه يسلم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد من تحديد مكان ذلك فإن قال: إلى أن يسمع ويرد السلام فإن حد في ذلك ذراعاً أو

ص: 253

ذراعين أو عشرة أذرع، أو قال: إن ذلك في المسجد كله أو خارج المسجد؛ فلا بد له من دليل، والأحاديث الثابتة عنه فيها أن الملائكة يبلغونه صلاة من صلى عليه وسلام من يسلم عليه، ليس في شيء منها أنه يسمع بنفسه ذلك، فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان فلا بد له من حد، ومعلوم أنه ليس في ذلك حد شرعي وما أحد يحد في ذلك حداً إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق.

وأيضاً فذلك يختلف باختلاف ارتفاع الأصوات وانخفاضها، والسنة للمُسَلِّم في السلام عليه خفض الصوت، ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك، بخلاف المسلّم من الحجرة، فإنه فرق ظاهر بينه وبين المسلّم عليه من المسجد، ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته، فالمسلّم عليه إن رفع الصوت أساء الأدب برفع الصوت في المسجد، وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة، وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله، الذي يسلّم الله على صاحبه كما يصلّي على من صلَّى عليه، فإن هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر.

وبالجملة؛ فهذا الموضع فيه نزاع قديم بين العلماء على كل تقدير، فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجّون به، فعلم أن هذه الأحاديث ليست مما يعرفه أهل العلم، ولهذا لما تتبعت وجدت رواتها إما كذّاب وإما ضعيف سيء الحفظ، ونحو ذلك، كما قد بين في غير هذا الموضع.

وهذا الحديث الذي فيه: "ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" قد احتج به أحمد وغيره من العلماء، وقيل: هو على شرط مسلم. وهو معروف من حديث حيوة بن شريح المصري الرجل الصالح الثقة، عن أبي صخر. عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة. وأبو صخر هذا؛ متوسط، ولهذا اختلف فيه عن يحيى بن معين، فمرة قال: هو ضعيف، ووافقه النسائي. ومرة قال: لا بأس به، ووافقه أحمد. فلو قذّر أن

ص: 254

هذا؛ مخالف لما هو أصح منه وجب تقديم ذاك عليه.

ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جاء في غير هذا الحديث، ولو أريد إثبات سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفاً فيه، فالنزاع في إسناده وفي دلالة متنه.

ومسلم روى بهذا الإسناد قوله صلى الله عليه وسلم: "من خرج مع جنازة من بيتها وصلّى عليها ثم تبعها حتى تدفن؛ كان له قيراطان من الأجر، كل قيراط مثل أُحُد، ومن صلّى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد"1. وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة، وعائشة2، من غير هذا الطريق.

ومسلم قد يروي عن الرجل في المتابعات ما لا يرويه فيما انفرد به، وهذا معروف منه في عدة رجال، يفرق بين من يروى عنه ما هو معروف من رواية غيره وبين من يعتمد عليه فيما ينفرد به، ولهذا كثير من أهل العلم يمتنعون أن يقولوا في مثل ذلك: هو على شرط مسلم أو البخاري، كما بسط هذا في موضعه.

الوجه الثامن: أنه لو كان في هذا الباب حديث صحيح لم يَخْفَ على الصحابة والتابعين بالمدينة، ولو كان ذلك معروفاً عندهم لم يكره أهل العلم بالمدينة مالك وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فلما كرهوا هذا القول ردّ على أنه ليس عندهم فيه أثر لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه.

الوجه التاسع: إن الذين كرهوا هذا القول والذين لم يكرهوه من العلماء متفقون على أن السفر إلى زيارة قبره إنما هو سفر إلى مسجده، ولو لم يقصد إلا السفر إلى القبر لم يمكنه أن يسافر إلا إلى المسجد، لكن قد يختلف الحكم بنيته كما تقدم. وأما زيارة قبره- كما هو المعروف في زيارة القبور- فهذا ممتنع غير مقدور ولا مشروع، وبهذا يظهر أن الذين كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره قولهم أولى بالصواب، فإن هذا ليس زيارة لقبره ولا فيه ما يختص بالقبر، بل كل ما يفعل

1 أخرجه مسلم (945) .

2 أخرجه البخاري (1323، 1324) ومسلم (945) .

ص: 255