المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٢

[صديق حسن خان]

الفصل: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‌

(249)

(فلما فصل طالوت بالجنود) فصل معناه خرج بهم يقال فصلت الشيء فانفصل أي قطعته فانقطع، وأصله متعد يقال فصل نفسه ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل، وقيل يستعمل لازماً ومتعدياً، يقال فصل عن البلد فصولاً وفصل نفسه فصلاً، والمعنى قطع مستقره شاخصاً إلى غيره، فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم سبعون ألف مقاتل، وقيل ثمانون ألفاً وقيل مائة وعشرون ألفاً ولم يتخلف عنه إلا كبير لكبره أو مريض لمرضه أو معذور لعذره، وكان مسيرهم في حر شديد فشكوا إلى طالوت قلة الماء بينهم وبين عدوهم، وقالوا إن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهراً.

(قال) طالوت (إن الله مبتليكم بِنَهَرٍ) أي مختبركم والإبتلاء الاختبار، والنهر قيل هو بين الأردن وفلسطين، وأردن موضع ذو رمل قريب من بيت المقدس، والمراد بهذا الابتلاء اختبار طاعتهم فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه ومن عصى في هذا وغلبته نفسه فهو في العصيان في سائر الشدائد أحرى.

(فمن شرب منه) قليلاً كان أو كثيراً (فليس مني) أي ليس من أهلِ ديني وطاعتي (ومن لم يطعمه) أي لم يذقه يعني الماء أصلاً لا قليلاً ولا كثيراً (فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده) رخص لهم في الغرفة ليرتفع عنهم أذى

ص: 77

العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال.

وفيه أن الغرفة تكف سَوْرة العطش عند الصابرين على شظف العيش الدافعين أنفسهم عن الرفاهية.

فالمراد بقوله (فمن شرب منه) أي كرع ولم يقتصر على الغرفة، ومعنى ليس مني ليس من أصحابي، من قولهم فلان من فلان كأنه بعضه لاختلاطهما وطول صحبتهما، وهذا في كلام العرب معروف، يقال طعمت الشيء أي ذقته، وأطعمته الماء أي أذقته.

وفيه دليل على أن الماء يقال له طعام، والإغتراف الأخذ من الشيء باليد أو بآلة، والغرف مثل الإغتراف، والغرفة المرة الواحدة، وقد قرىء بفتح الغين وضمها فالفتح للمرة والضم اسم للشيء المغترف، وقيل بالفتح الغرفة الواحدة بالكف وبالضم الغرفة بالكفين، وقيل هما لغتان بمعنى واحد.

(فشربوا منه) أي من النهر (إلا قليلاً منهم) وهم المذكورون في قوله (ومن لم يطعمه) قال القرطبي: إن القليل لم يشرب أصلاً، قال سعيد بن جبير: القليل ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً عدة أهل بدر.

وعن البراء قال: كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلثمائة وعن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت (1).

(1) رواه ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر، فذكره. وأخرج أحمد والبخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: كنا أصحاب محمد نتحدث أن أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر -ولم يجاوز معه إلا مؤمن- بضعة عشر وثلاثمائة.

ص: 78

وعن ابن عباس قال: كانوا ثلثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة عشر فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فردهم طالوت ومضى ثلثمائة وثلاثة عشر، وقرىء إلا قليل، ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى أي لم يطعمه إلا قليل وهو تعسف.

(فلما جاوزه هو) أي جاوز النهر طالوت (والذين آمنوا معه) وهم القليل الذين أطاعوه واقتصروا على الغرفة وقال القرطبي: هم الذين لم يذوقوا الماء أصلاً (وقالوا) أي الذين شربوا (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) أي بمحاربتهم ومقاومتهم فضلاً عن أن يكون لنا غلبة عليهم لما شاهدوا منهم من الكثرة والشدة، قال القرطبي: قيل وكانوا مائة ألف رجل شاكي السلاح وأكثر المفسرين على أنهم قالوا هذا القول بعدما عبروا النهر مع طالوت، ورأوا جالوت وجنوده فرجعوا منهزمين قائلين هذه المقالة.

وبعض المفسرين على أن العصاة لم يعبروا النهر بل وقفوا بساحله وقالوا معتذرين عن التخلف منادين ومسمعين لطالوت والمؤمنين الذين معه لا طاقة لنا اليوم الخ، والجند الأنصار والأعوان والجمع أجناد وجنود الواحد جندي.

فالياء للوحدة مثل روم ورومي.

و (قال الذين يظنون) أي يتيقنون رداً على المتخلفين (أنهم ملاقوا الله) أي أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله، صرح به القاضي كالكشاف (كم من فئة قليلة) الفئة الجماعة لا واحد له من لفظه والقطعة منهم من فأوت رأسه بالسيف أي قطعته (غلبت فئة كثيرة بإذن الله) أي بقضاء الله وإرادته (والله مع الصابرين) بالنصر والعون، وهذه من جملة مقولهم، ويحتمل أنها من كلام الله تعالى أخبر بها عن حال الصابرين فلا محل لها من الإعراب.

ص: 79

وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

ص: 80

(ولما برزوا لجالوت وجنوده) أي صاروا في البراز وهو المتسع من الأرض وما انكشف منها واستوى، ومنه سميت المبارزة في الحرب لظهور كل قرن إلي صاحبه.

والمعنى ظهروا لقتالهم وتصافحوا، والبراز بالفتح والكسر لغة قليلة: الفضاء الواسع الخالي من الشجر، وجالوت أمير العمالقة وكان جباراً من أولاد عمليق بن عاد (قالوا) أي جميع من معه من المؤمنين (ربنا أفرغ) أي أصبب (علينا صبراً) الإفراغ يفيد معنى الكثرة (وثبت أقدامنا) عبارة عن كمال القوة والرسخ وعدم الفشل والتزلزل عند المقاومة، يقال ثبت قدم فلان على كذا إذا استقر له ولم يزل عنه وثبت قدمه في الحرب إذا كان الغلب له والنصر معه، وليس المراد تقررها في مكان واحد (وانصرنا على القوم الكافرين) هم جالوت وجنوده، ووضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لما هو العلة الموجبة للنصرة عليهم وهي كفرهم، وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام لكون الثاني هو غاية الأول.

ص: 80

(فهزموهم بإذن الله) الهزم الكسر ومنه سقاء منهزم أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف، ومنه ما قيل في زمزم إنها هزمة جبريل أي هزمها برجله فخرج الماء، والهزم ما يكسر من يابس الحطب، وتقدير الكلام فأنزل الله عليهم النصر فهزموهم بأمر الله وإرادته.

ص: 80

(وقتل داود جالوت) هو داود بن إيشاو ويقال ابن داود بن زكريا ابن بشوى من سبط يهوذا ابن يعقول جمع الله له بين النبوة والملك بعد أن كان راعياً، وكان أصغر أخوته، اختاره طالوت لمقابلة جالوت فقتله، وكان يومئذ صغيراً لم يبلغ الحلم سقيماً أصفر اللون يرعى الغنم، فهذه الواقعة قبل نبوته وأن أباه كان من جملة جيش طالوت.

وعن مجاهد وغيره قال: كان طالوت أميراً على الجيش فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته فقال داود لطالوت: ماذا لي وأقتل جالوت فقال: لك ثلث ملكي وأنكحك ابنتي فأخذ نحلاة فجعل فيها ثلاث مروات ثم سمى إبراهيم وإسحق ويعقوب ثم أدخل يده فقال بسم الله إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب فخرج على إبراهيم فجعله في مرجمته فرمى بها جالوت فخرق ثلاثة وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت ما وراءه ثلاثين رجلاً فأخذ داود جالوت حتى ألقاه بين يدي طالوت ففرح بنو إسرائيل فزوجه ابنته، وأعطاه نصف الملك فمكث معه كذلك أربعين سنة فمات طالوت واستقل داود بالملك سبع سنين، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى فسبحان من لا ينقضي ملكه، وقد ذكر المفسرون أقاصيص كثيرة من هذا الجنس فالله أعلم.

(وآتاه الله) أي داود (الملك) الكامل سبع سنين بعد موت طالوت (والحكمة) والمراد بالحكمة هنا النبوة، وقيل هي تعليمه صنعة الدروع من الحديد وكان يلين في يده وينسجه كنسج الغزل، ومنطق الطير والألحان أي فهم أصواته، وكذا البهائم، وقيل هي إعطاؤه السلسلة التي كانوا يتحاكمون إليها.

(وعلّمه مما يشاء) قيل إن المضارع هنا موضوع موضع الماضي وفاعل ذلك هو الله تعالى، وقيل داود، وظاهر هذا التركيب أن الله سبحانه علمه مما قضت به مشيئته وتعلقت به إرادته، وقد قيل إن من ذلك ما قدمناه من تعليمه

ص: 81

صنعة الدروع وما بعده، قيل كان ملك طالوت إلى أن قتل مدة أربعين سنة فأتى بنو إسرائيل إلى داود فملكوه عليهم وأعطوه خزائن طالوت.

قال الكلبي والضحاك: ملك داود بعد قتل طالوت نحو سبع سنين ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود، فجمع الله لداود بين الملك والنبوة ولم يكن كذلك من قبل، ولم يجتمعا لأحد قبله، بل كانت النبوة في سبط، والملك في سبط ثم جمع الله له ذلك ولابنه سليمان بين الملك والنبوة.

(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) قرىء الدفع والدفاع وهما مصدران لدفع كذا وعلى القراءتين فالمصدر مضاف إلى الفاعل أي ولولا دفع الله الناس، وبعضهم بدل من الناس وهم الذين يباشرون أسباب الشر والفساد ببعض آخر منهم، وهم أهل الإيمان الذين يكفّونهم عن ذلك ويردونهم عنه.

(لفسدت الأرض) لتغلب أهل الفساد عليها وإحداثهم الشرور التي تهلك الحرث والنسل، قال ابن عباس: يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يزكي عمن لا يزكي.

وأخرج ابن عدي وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ ابن عمر (ولولا دفع الله الناس) الآية في إسناده يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف جداً ورواه أحمد أيضاً (1).

(ولكن الله ذو فضل) التنكير للتعظيم (على العالمين) أي عمّ فضله الناس كلهم.

(1) ضعيف جداً رواه ابن جرير في التفسير 5/ 574/5753 والعقيلي في الضعفاء/463 والواحدي في تفسيره الوسيط 1/ 91/2 وابن عدي 100/ 2.

ص: 82

تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

ص: 83

(تلك آيات الله) هي ما اشتملت عليه هذه القصة من الأمور المذكورة (نتلوها عليك بالحق) والمراد بالحق هنا الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب والمطلعين على أخبار العالم (وإنك لمن المرسلين) إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه تقوية لقلبه وتثبيتاً لجنانه وتشييداً لأمره، وأن الذي يخبر به من الأخبار العجيبة والقصص القديمة وحي من الله من غير أن يعرفها بقراءة كتب ولا استماع أخبار فدل ذلك على رسالتك.

ص: 83

(تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض) قيل هو إشارة إلى جميع الرسل فيكون الألف واللام للاستغراق، وقيل هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة، وقيل إلى الأنبياء الذي بلغ علمهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

والمراد بتفضيل بعضهم على بعض أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر فكان الأكثر مزايا فاضلاً، والآخر مفضولاً، وكما دلت هذه الآية على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، كذلك دلت الآية الأخرى عليه وهي قوله تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً).

وعن قتادة قال: اتخذ الله إبراهيم خليلاً وكلم الله موسى تكليماً وجعل

ص: 83

عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون وهو عبد الله وكلمته وروحه وآتى داود زبوراً وآتى سليمان ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعده وغفر لمحمد صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

قال الخازن: أجمعت الأمة على أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء لعموم رسالته وهو قوله (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً).

وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " لا تفضلوني على الأنبياء " وفي لفظ آخر: " لا تفضلوا بين الأنبياء "(1)، وفي لفظ:" لا تخيروا بين الأنبياء " فقال قوم إن هذا القول منه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وقيل إنه قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال: لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متى (2)، تواضعاً مع علمه أنه أفضل الأنبياء كما يدل عليه قوله:" أنا سيد ولد آدم ".

وقيل إنما نهى عن ذلك قطعاً للجدال والخصام في الأنبياء فيكون مخصوصاً بمثل ذلك لا إذا كان صدور ذلك مأموناً.

وقيل إن النهي هو من جهة النبوة فقط لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات والكرامات.

وقيل إن المراد النهي عن التفضيل بمجرد الأهواء والعصبية، وفي جميع هذه الأقوال ضعف.

(1) روى مسلم في صحيحه 2374.

(2)

رواه مسلم في صحيحه 2376 برواية أنه قال -يعني الله عز وجل لا ينبغي لعبدي أن يقول أنا خير من يونس بن متى عليه السلام.

ص: 84

وعندى أنه لا تعارض بين القرآن والسنة فإن القرآن دل على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله تعالى لا يخفى على الله منها، خافية، وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل أتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلاً عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلاً وهذا مفضولاً لاقبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها، فإن ذلك تفضيل بالجهل وإقدام على أمر لا يعمله الفاعل له وهو ممنوع منه.

فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن بالإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك.

وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرض للجمع بينهما زاعماً أنهما متعارضان فقد غلط غلطاً بيناً.

(منهم) تفصيل للتفضيل المذكور إجمالاً (من كلّم الله) أي بغير واسطة وهو موسى كلمه في الطور، ونبينا سلام الله عليهما كلمه ليلة الإسراء، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آدم نبي مكلم، وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر، والإلتفات حيث لم يقل كلمنا لتربية المهابة بهذا الاسم الشريف والرمز إلى ما بين التكليمين ورفع الدرجات من التفاوت.

(ورفع بعضهم درجات) هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت

ص: 85

منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء، ويحتمل أن يراد به نبينا صلى الله عليه وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله، ويحتمل أن يراد به إدريس لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكاناً علياً، وقيل إنهم أولو العزم، وقيل إبراهيم.

ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع فلا يجوز لنا التعرض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه أو من نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يرد ما يرشد إلى ذلك، فالتعرض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء وقد نهينا عنه.

وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا صلى الله عليه وسلم، وأطالوا في ذلك واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات ومزايا الكمال وخصال الفضل. وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب قد وقعوا في خطرين، وارتكبوا نهيين، وهما تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء وإن لم يكن ذلك تفضيلاً صريحاً فهو ذريعة إليه بلا شك ولا شبهة، لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبي الفلاني، انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهيّ عنه (1).

وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل، فإياك أن تتقرب إليه صلى الله عليه وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه وتسيء وأنت تظن أنك مطيع محسن.

(وآتينا عيسى بن مريم البينات) أي الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة

(1) وقد استدل هؤلاء بحديث: بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأُحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وغيرها من المعجزات.

ص: 86

من إحياء الأموات وإبراء المرضى من الأكمه والأبرص وغير ذلك (وأيدناه) أي قويناه (بروح القدس) هو جبريل وكان يسير معه حيث سار إلى أن رفعه الله إلى عنان السماء السابعة وقد تقدم الكلام على هذا.

(ولو شاء الله ما اقتتل) أي ما اختلف فأطلق الاقتتال وأراد سببه وهو الاختلاف (الذين من بعدهم) أي من بعد الرسل وقيل من بعد موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لأن الثاني مذكور صريحاً، والأول والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله (منهم من كلم الله) أي لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة، وقيل أن لا يؤمروا بالقتال وقيل أن يصيرهم إلى الإيمان وكلها متقاربة.

(من بعد ما جاءتهم البينات) أي الدلالات الواضحات من الله بما فيه مزدجر لمن هداه الله تعالى ووفقه (ولكن اختلفوا) استثناء من الجملة الشرطية أي ولكن الاقتتال ناشىء عن اختلافهم اختلافاً كثيراً حتى صاروا مللاً مختلفة، والمعنى لو شاء الله الاتفاق لاتفقوا، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا وفيه إشارة إلى قياس استثنائي.

(فمنهم من آمن ومنهم من كفر) أي ثبت على إيمانه أو تعمد الكفر بعد قيام الحجة كالنصارى بعد المسيح (ولو شاء الله) عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف (ما اقتتلوا) تأكيد (ولكن الله يفعل ما يريد) من توفيق من شاء، وخذلان من شاء، لا رادّ لحكمه ولا مبدل لقضائه فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض عليه في ملكه وفعله.

وسأل رجل علياً عن القدر فقال: طريق مظلم فلا تسلكه، فأعاد السؤال فقال: بحر عميق فلا تلجه، فأعاد السؤال فقال: سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه.

ص: 87