الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ
(79)
(ما كان) أي ما ينبغي ولا يستقيم (لبشر) أي جميع بني آدم ولا واحد للفظ بشر كالقوم والرهط، بيان لافترائهم على الأنبياء إثر بيان افترائهم على الله، وإنما قيل " لبشر " إشعاراً بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي تقوّلوه عليه (أن يؤتيه الله الكتاب) الناطق بالحق (والحكم) يعني الفهم والعلم وقيل هو إمضاء الحكم من الله، والأول أولى (والنبوة) يعني المنزلة الرفيعة (ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله) أي هذه المقالة وهو متصف بتلك الصفة وفيه بيان من الله سبحانه لعباده أن النصارى افتروا على عيسى ما لا يصح عنه، ولا ينبغي أن يقوله.
(ولكن) يقول (كونوا ربانيين) قال سيبويه: الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة كما يقال لعظيم اللحية لحياني ولعظيم الجمة جماني ولغليظ الرقبة رقباني.
وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، فكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور، وقال المبرد الربانيون أرباب العلم واحدهم رباني، من قوله ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه، والياء للنسب، فمعنى الرباني العالم بدين الرب القوي التمسك بطاعة الله، وقيل العالم الحكيم أي كونوا ربانيين بسب كونكم عالمين فإن حصول العلم للإنسان والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم وقوة التمسك بطاعة الله، قال ابن عباس معناه: حكماء علماء.
وقيل الرباني العالم الذي يعمل بعلمه، وقيل العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، وقيل الجامع بين علم البصيرة والسياسة.
ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية اليوم مات رباني هذه الأمة، وقيل هو ولاة الأمر والعلماء، وقال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية.
(بما كنتم تعلمون الكتاب) بالتخفيف والتشديد، قال مكي التشديد أبلغ لأن العالم قد يكون عالماً غير معلّم فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط، ويؤيد الأولى (وبما كنتم تدرسون) بالتخفيف.
والحاصل إن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم والتعليم، هو أن يكون مع ذلك مخلصاً أو حكيما أو حليماً حتى تظهر السببية، ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلّم الناس، فيكون المعنى كونوا معلمين بسبب كونكم علماء، وبسبب كونكم تدرسون العلم.
وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه، والدراسة مذاكرة العلم والفقه، فدلت الآية على أنّ العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً فمن اشتغل بها لا لهذا المقصود فقد ضاع علمه وخاب سعيه (1).
(1) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حرّ ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه -ثم تلا هذه الآية- ولكن كونوا ربانيين " الآية.
رواه ابن عباس.
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
(ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) أي ليس له أن يأمر بعبادة نفسه ولا أن يأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً بل ينهى عنه، والمعنى يقول ويأمر، وقيل ولا أن يأمركم وقرىء على الاستئناف برفع الراء أي لا يأمركم الله أو محمد أو عيسى أو الأنبياء.
(أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) قاله على طريق التعجب والإنكار يعني لا يقول هذا ولا يفعله، وقد استدل من قال إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين في أن يسجدوا له.
(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما) بفتح اللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق وبكسرها متعلقة بأخذ، وما موصولة على الوجهين أي للذي (آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) وجواب القسم لتؤمنن به ولتنصرنه.
قد اختلف في تفسير هذه الآية فقال سعيد بن جبير وقتادة وطاوس والحسن والسدى أنه أخذ الله ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً بالإيمان، ويأمر بعضهم بعضاً بذلك، فهذا معنى النصرة له والإيمان به وهو ظاهر الآية.
فحاصله أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر
وينصره إن أدركه، وإن لم يدركه يأمر قومه بنصرته إن أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الكسائي يجوز أن يكون معناها وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين، ويؤيده قراءة ابن مسعود (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) وقيل في الكلام حذف والمعنى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ليعلّمنّ الناس ما جاءهم من كتاب وحكمة وليأخذنّ على الناس أن يؤمنوا، ودل على هذا الحذف قوله (وأخذتم على ذلكم إصري) قيل إنما أخذ الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم خاصة وبه قال علي وابن عباس وقتادة والسدى.
وقيل أخذ الميثاق على الأنبياء وأممهم جميعاً في أمره صلى الله عليه وسلم، فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الأتباع، وبه قال علي بن أبي طالب والأول أولى وبه قال كثير من المفسرين، والرسول محمد- صلى الله عليه وسلم الذي ذكر في التوراة والإنجيل وصفه وشرح فيهما أحواله.
قال البغوي: أخذ الله هذا الميثاق منهم حين استخرج الذرية من صلب آدم، وقال الرازي: هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لله واجب والأول أولى وهو الظاهر من الآية.
(قال) الله تعالى للنبيين (أأقررتم) بالإيمان به والنصر له أو قال كل نبي لأمته أأقررتم، والأول أولى (وأخذتم على ذلك إصري) أي عهدي، والإصر في اللغة الثقل، سمي العهد إصراً لما فيه من التشديد (قالوا أقررنا) بما ألزمتنا من الإيمان برسلك.
(قال) الله تعالى (فاشهدوا) أي أنتم على أنفسكم أو ليشهد بعضكم على بعض، وقيل الخطاب للملائكة، والأول أولى (وأنا معكم) أي على إقراركم وشهادة بعضكم على بعض (من الشاهدين) هذا هو الخبر لأنه محط الفائدة.
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
(فمن تولى) أي أعرض عما ذكر (بعد ذلك) الميثاق (فأولئك هم الفاسقون) أي الخارجون عن الطاعة والغائصون في الكفر، وأعاد الضمير في (تولى) مفرداً على لفظ (من) وجمع أولئك حملاً على المعنى.
(أفغير دين الله يبغون) عطف على مقدر أي تتولون فتبغون غير دين الله، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار، وقرأ أبو عمرو وحده يبغون بالتحتية، وترجعون بالفوقية قال لأن للأول خاص، والثاني عام، ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى، وكيف يبغون غير دينه (و) الحال أنّ (له أسلم) أي خضع وانقاد (من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً) أي طائعين ومكرهين والطوع الانقياد والاتباع بسهولة، والكره ما فيه مشقة وهو من أسلم مخافة القتل، وإسلامه استسلام منه.
أخرج الطبراني بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وله أسلم) قال أما من في السموات فالملائكة، وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام، وأما كرهاً فمن أتى به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون (1).
وأخرج الديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الآية الملائكة أطاعوه في السماء، والأنصار وعبد القيس أطاعوه في الأرض.
(1) ابن كثير 1/ 378.
قال ابن عباس: أسلم من في السموات والأرض حين أخذ عليهم الميثاق، وعن قتادة قال أما المؤمن فأسلم طائعاً فنفعه ذلك وقبل منه، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأس الله فلم ينفعه ولم يقبل منه فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ساء خلقه من الرقيق والدواب والصبيان فاقرؤا في أذنه أفغير دين الله يبغون (1).
وأخرج ابن السني في (عمل يوم وليلة) عن يونس بن عبيد قال ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقرأ في أذنها أفغير دين الله يبغون الآية إلا ذلت (2) بإذن الله عز وجل (وإليه يرجعون) أي مرجع الخلق كلهم إلى الله يوم القيامة، ففيه وعيد عظيم لمن خالفه في الدنيا.
(1) هذا والذي قبله في النفس منه شيء.
(2)
هذا والذي قبله في النفس منه شيء.
(قل آمنا بالله وما أنزل على إبراهيم واسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم) إخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه وعن أمته، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بوجودهم ولم يختلفوا في نبوتهم، وعدّى الإنزال هنا بعلى، وفي البقرة بإلى، لأنه يصح تعديته بكل، فله جهة علو باعتبار ابتدائه وانتهائه باعتبار آخره، وهو باعتبار ابتدائه متعلق بالنبي، وباعتبار انتهائه متعلق بالمكلفين، ولما خص الخطاب هنا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ناسب الاستعلاء، ولما عم هناك جميع المؤمنين ناسبه الانتهاء، والأسباط كانوا اثني عشر وهم أولاد يعقوب وهم بالنسبة لإبراهيم أحفاده لأنهم أولاد ولده، فالمراد بالأسباط هنا الأحفاد لا المعنى اللغوي وهم أولاد البنات.
(لا نفرق بين أحد منهم) كما فرقت اليهود والنصارى فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وقد تقدم تفسير هذه الآية (ونحن له مسلمون) أي منقادون مخلصون موحدون.
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
(ومن يبتغ غير الإسلام) العامة على إظهار هذين المثلين لأن بينهما فاصلاً، وهو الياء فلم يلتقيا في الحقيقة، وروي الإدغام مراعاة للفظ، وليس هذا مخصوصاً بهذه الآية بل كلما التقى فيه مثلان يجري فيه الوجهان نحو (يخل لكم، وإن يك كاذباً)، وقد استشكل على هذا نحو (يا قوم مالي، ويا قوم من ينصرني) فإنه لم يرو عن أبي عمرو خلاف في إدغامهما، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديراً، قاله السمين.
(ديناً فلن يقبل منه) يعني أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام، وأن كل دين سواه غير مقبول لأن الدين الصحيح ما يرضي الله عن فاعله ويثيبه عليه (وهو في الآخرة من الخاسرين) أي الواقعين في الخسران يوم القيامة وهو حرمان الثواب وحصول العقاب.
أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول يا رب أنا الصلاة فيقول إنك على خير، وتجيء الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول إنك على خير، ويجيء الصيام فيقول أنا الصيام، فيقول إنك على خير، ثم تجيء الأعمال، كل ذلك يقول الله إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول يا رب أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول إنك على خير، بك اليوم آخذ وبك أعطي، قال الله تعالى في كتابه، يعني هذه الآية (1).
(1) ابن كثير 1/ 379.
(كيف يهدي الله) هذا الاستفهام معناه الجحد أي لا يهدي الله، ونظيره قوله تعالى (كيف يكون للمشركين عهد عند الله) أي لا عهد لهم، ويجوز أن يكون الاستفهام للتعجب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان أو للاستبعاد والتوبيخ فإن الجاحد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد، فليس للإنكار حتى يستدل به على عدم توبه المرتد، وإن كان إنكاراً فالاستثناء يمنعه، قاله الكرخي.
(قوماً) إلى الحق (كفروا بعد إيمانهم و) بعدما (شهدوا أن الرسول حق و) بعدما (جاءهم البينات) من كتاب الله سبحانه ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله لا يهدي القوم الظالمين) أي كيف يهدى المرتدين والحال أنه لا يهدي من حصل منهم مجرد الظلم لأنفسهم ومنهم الباقون على الكفر، ولا ريب أن ذنب المرتد أشد من ذنب من هو باق على الكفر لأن المرتد قد عرف الحق ثم أعرض عنه عناداً وتمرداً.
عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل لي من توبه فنزلت هذه الآية إلى قوله (غفور رحيم) فأرسل إليه قومه وأسلم (1)، وروى هذا من طرق، وعنه أيضاً هم أهل الكتاب من اليهود عرفوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ثم كفروا به، وروى نحوه عن الحسن.
(1) رواه النسائى وابن حبان وابن أبي حاتم والطبري والبيهقي والحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي ورواه ايضاً وإسناده صحيح.
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
(أولئك) أي المتصفون بتلك الصفات السابقة (جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة أجمعين خالدين فيها) أي اللعنة أو النار المدلول بها عليها، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة
(لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون) يؤخرون ويمهلون.
ثم استثنى التائبين فقال
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك) الارتداد (وأصلحوا) بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردة، وفيه دليل على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام مخلصاً، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ وقيل ضمّوا إلى التوبة الأعمال الصالحة لأن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح، وقيل أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات والطاعات، والأول ألصق بظاهر الآية (فإن الله غفور) لقبائحهم في الدنيا بالستر وقيل بإزالة العذاب (رحيم) في الآخرة بالعفو، وقيل بإعطاء الثواب.
(إن الذين كفروا) بعيسى (بعد إيمانهم) بموسى (ثم ازدادوا كفراً) بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال قتادة وعطاء الخرساني والحسن: نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته، ثم ازدادوا بإقامتهم على كفرهم كفراً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل ازدادوا كفراً بالذنوب التي اكتسبوها ورجحه ابن جرير الطبري وجعلها في اليهود خاصة.
وقيل نزلت في جميع الكفار، وذلك أنهم أشركوا بالله بعد إقرارهم بأن الله خلقهم، ثم ازدادوا كفراً يعني بإقامتهم على الكفر حتى هلكوا، وقيل زيادة كفرهم هو قولهم نتربص بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ريب المنون، وقيل نزلت في أحد عشر رجلاً من أصحاب الحارث بن سويد الذين ارتدوا عن الإسلام، فلما رجع الحارث أقاموا على كفرهم بمكة.
وقد استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى (لن تقبل توبتهم) مع كون التوبة مقبولة كما في الآية الأولى وكما في قوله تعالى (هو الذي يقبل التوبة عن عباده) وغير ذلك فقيل المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت، قال النحاس وهذا قول حسن كما قال تعالى (وليست التوبة للذين يعملون السيآت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) وبه قال الحسن وقتادة وعطاء والسدي، ومنه حديث:" إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (1) ".
وقيل المعنى لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا لأن الكفر أحبطها، وقيل لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفر إلى كفر آخر، وقال ابن عباس إنهم الذين ارتدوا وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم.
وقال أبو العالية: هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال الشرك، ولم يتوبوا من الشرك، وقال مجاهد: لن تقبل توبتهم إذا ماتوا على الكفر، وقال ابن جرير: هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل الله منه توبة ما أقام على كفره.
(وأولئك هم الضالون) أي هم الذين ضلوا عن سبيل الحق وأخطئوا منهاجه والمراد هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً، والأولى أن يحمل عدم قبول التوبة في هذه الآية على من مات كافراً غير تائب، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة.
(1) صحيح الجامع الصغير 1899.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
ويكون قوله
(إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) في حكم البيان لها، قال ابن عباس: نزلت فيمن مات من أصحاب الحارث على الكفر، وقيل نزلت فيمن مات كافراً من جميع أصناف الكفار من أهل الكتاب وعبدة الأصنام، فالآية عامة فيهم (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً) الملء بالكسر مقدار ما يملأ الشيء، والملء بالفتح مصدر ملأت الشيء والمعنى مقدار ما يملأ الأرض مشرقها ومغربها ذهباً، مع أنه أعز الأشياء وقيمة كل شيء.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً فيقول نعم فيقال له لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فذلك قوله تعالى (إن الذين كفروا) الآية (1).
(ولو افتدى به) قيل الواو زائدة مقحمة. وقيل الواو للعطف، والمعنى وكذلك لو افتدى من العذاب في الآخرة بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه، وهذا آكد في التغليظ لأنه تصريح بنفي القبول في جميع الوجوه، أو المراد بالواو التعميم في الأحوال كأنه قيل لن يقبل منهم في جميع الأحوال ولو في حال افتدائه نفسه في الآخرة.
(أولئك) إشارة إلى من مات على الكفر (لهم) أي استقر لهم (عذاب أليم) مؤلم (وما لهم) أي ما استقر لهم (من ناصرين) يمنعونهم من العذاب، وأتى بناصرين جمعاً لتوافق الفواصل.
(1) مسلم 2805 - البخاري 1574.
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدى به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم عليه السلام أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك، هذا لفظ مسلم (1).
(1) مسلم 2805.
(لن تنالوا البر) هذا كلام مستأنف خطاب للمؤمنين عقب ذكر ما لا ينفع الكفار، والنيل إدراك الشيء ولحوقه يقال نالني من فلان معروف ينالني أي وصل إلي والنوال العطاء من قولك نولته تنويلاً أي أعطيته.
وقيل هو تناول الشيء باليد يقال نلته أناله نيلاً، قال تعالى (ولا ينالون من عدو نيلاً) وأما النول بالواو فمعناه التناول يقال نلته أنوله أي تناولته وأنلته زيداً أنيله إياه أي ناولته إياه.
والبر فعل الخيرات والعمل الصالح، ففي الآية حذف المضاف أي ثوابه وهو الجنة، وقال ابن مسعود ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون والسدى: هو الجنة.
فمعنى الآية لن تنالوا العمل الصالح أو الجنة، وقيل التقوى وقيل الطاعة، وقيل الثواب، وأصل البر التوسع في فعل الخير، وقد يستعمل في الصدق وحسن الخلق.
وعن النواس بن سمعان قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " أخرجه مسلم (1).
والمعنى لن تصلوا ثواب البر المؤدي إلى الجنة (حتى تنفقوا) أي تصدقوا
(1) مسلم 2553.
وحتى بمعنى إلى (مما تحبون) أي حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها، ومن تبعيضية؛ وقيل بيانية، وما موصولة أو موصوفة والمراد النفقة في سبل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات، وقيل المراد الزكاة المفروضة.
قال البيضاوي: أي من المال أو مما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس، والبدن في طاعة الله، والمهجة في سبيله انتهى وكتعليم العلم.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن أبا طلحة لما نزلت هذه الآية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أحب أموالي إليّ بير حاء وأنها صدقة، الحديث وقد روي بألفاظ (1).
وعن ابن عمر لم أجد شيئاً أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله، الحديث أخرجه البزار وعبد بن حميد، وكذلك أعتق عمر جارية من سبي جلولاء، وجاء زيد بن حارثة بفرس له يقال له سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هي صدقة (2).
(وما تنفقوا من شيء) بيان لقوله ما تنفقوا أي ما تنفقوا من أي شيء سواء كان طيباً أو خبيثاً جيداً أو رديئاً فيجازيكم بحسبه، وما شرطية جازمة (فإن الله به عليم) تعليل لجواب الشرط واقع موقعه. وفيه من الترغيب في إنفاق الجيد، والتحذير عن إنفاق الرديء ما لا يخفى.
(1) ابن كثير 1/ 381. زاد المسير 421.
(2)
روى البخاري، ومسلم في " الصحيحين " من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله إن الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها حيث أراك الله، فقال صلى الله عليه وسلم:" بخ بخ، ذاك مال رابح أو رائح [شك الراوي] وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين " فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه.