المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٢

[صديق حسن خان]

الفصل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‌

(282)

(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين) هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا، أي إذا داين بعضكم بعضاً وعامله بذلك سواء كان معطياً أو آخذاً، وذكر الدين بعد ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله:(ولا طائر يطير بجناحيه) وقيل إنه ذكر ليرجع إليه الضمير من قوله فاكتبوه، ولو قال فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله (إذا تداينتم بدين) والدين عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر في الذمة نسيئة فإن العين عند العرب ما كان حاضراً والدين ما كان غائباً.

وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله (إلى أجل مسمّى) يعني إلى مدة

ص: 146

معلومة الأول والآخر، مثل السنة والشهر، والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السَّلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محل الأجل، وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز وخصوصاً أجل السَّلم.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم "(1) وقد قال بذلك الجمهور، واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين قالوا ولا يجوز إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع القافلة أو نحو ذلك وجوزه مالك، قال ابن عباس: لما حرم الربا أباح السَّلم.

(فاكتبوه) أي الدين بأجله بيعاً كان ذلك أو سلماً أو قرضاً لأنه أدفع للنزاع وأقطع للخلاف، قال ابن عباس: نزلت يعني هذه الآية في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم، وأخرج البخاري وغيره عنه: قال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله قد أحله وقرأ هذه الآية.

(وليكتب بينكم كاتب) هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال عطاء والشعبي وابن جريج والنخعي واختاره محمد بن جرير الطبري، وأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك ولم يوجد كاتب سواه وقيل الأمر للندب والاستحباب، وبه قال الجمهور.

(بالعدل) صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانبين، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب منصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه وقلمه هوادة لأحدهما على الآخر، بل يتحرى الحق بينهم والعدالة فيهم.

(ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه الله) النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم أي لا يمتنع أحد من الكتاب من أن يكتب كتاب التداين على الطريقة التي علّمه الله من الكتابة أو كما علمه الله بقوله بالعدل (فليكتب) بالحق من

(1) مسلم 1604 - البخاري 1123.

ص: 147

غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخيره بل يكتب ما يصلح أن يكون حجة عند الحاجة ويكون كل واحد منهما آمناً من إبطال حقه وأن يحترز من الألفاظ التي يقع النزاع فيها.

(وليملل) الإملال والإملاء لغتان، الأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة بني تميم فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى (فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً) والإدغام في مثل ذلك جائز لا واجب.

(الذي عليه الحق) هو من عليه الدين أمره الله تعالى بالإملاء لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته (وليتق الله) الذي عليه الحق (ربه) أمره بالتقوى فيما يمليه على الكاتب فلا يجحد جميع الحق والبعض كما سيأتي، وبالغ في ذلك بالجمع بين الإسم والوصف (ولا يبخس منه شيئاً) نهاه عن البخس وهو النقص، وقيل إنه نهي للكاتب، والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ولو كان نهياً للكاتب لم يقتصر في نهيه على النقص لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص.

(فإن كان الذي عليه الحق) إظهار في مقام الإضمار لزيادة الكشف والبيان لا لأن الأمر والنهي لغيره (سفيهاً) السفيه هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء، شبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة وعلى ضعف البدن أخرى، وبالجملة فالسفيه هو المبذّر إما لجهله بالتصرف أو لتلاعبه بالمال عبثاً مع كونه لا يجهل الصواب، وقيل الطفل أي جاهلاً بالإملاء.

(أو ضعيفاً) وهو الشيخ الكبير أو الصبي، قال أهل اللغة: الضعف بضم الضاد في البدن وفتحها في الرأي لعته أو جنون (أو لا يستطيع أن يملّ هو) يعني لخرس أو عِيّ أو عُجمة في كلامه أو حبس أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكاتب أو يجهل بماله وعليه أو لا يقدر على التعبير كما ينبغي، فهؤلاء

ص: 148

كلهم لا يصح إقرارهم فلا بد أن يقوم غيرهم مقامهم، وقيل إن الضعيف هو الدخول العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء، والذي لا يستطيع هو الصغير.

(فليملل وليه) الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيمل عن السفيه وليّه المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله، ويمل عن الصبي وصيه أو وليه وكذلك يمل عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعفه وليه لأنه في حكم الصبي أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي، ويمل عن الذي لا يستطيع وكيله إذا كان صحيح العقل وعرضت له آفة في لسانه أو لم تعرض ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي.

وقال الطبري: إن الضمير في قوله وليه يعود إلى الحق، وهو ضعيف جداً.

قال القرطبي في تفسيره: وتصرّف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعاً مفسوخ أبداً لا يوجب حكماً ولا يؤثر شيئاً فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف انتهى.

(بالعدل) أي الصدق من غير زيادة ولا نقص.

(واستشهدوا شهيدين) الاستشهاد طلب الشهادة وسمَاهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة (من رجالكم) أي كائنين من المسلمين فيخرج الكفار، ولا وجه لخروج العبيد عن هذه الآية فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين، وبه قال شريح وعثمان البتي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبو ثور.

وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق، وقال الشعبي والنخعي: تصح في الشيء اليسير دون الكثير، واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالداينة، والعبيد لا يملكون شيئاً تجري فيه المعاملة،

ص: 149

ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وأيضاً العبد تصح منه المداينة وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك.

وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب أو مندوب؟ قال أبو موسى الأشعري وابن عمر والضحاك وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي الظاهري وابنه أنه واجب، ورجحه ابن جرير الطبري، وذهب الشعبي والحسن ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه أنه مندوب.

وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع واستدل الموجبون بقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله (واستشهدوا) فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة.

(فإن لم يكونا رجلين) أي الشاهدان أي بحسب القصد والإرادة أي فإن لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين (فرجل وامرأتان) أي فليشهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يكفون، كائنون (ممن ترضون) دينهم وعدالتهم حال كونهم (من الشهداء).

وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهن إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة.

واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدعي؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك.

وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدعي، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه وهو زيادة لم يخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها، وقد أوضحنا ذلك في شرح بلوغ المرام، وأوضحه الشوكاني في شرحه

ص: 150

للمنتقى وغيره من مؤلفاته.

ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يرد به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على جرف هار هي قولهم إن الزيادة على النص نسخ، وهذه دعوى باطلة بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها، وقد أوضحت ذلك في كتابي حصول المأمول من علم الأصول فليرجع إليه.

وأيضاً كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب، ولا بيمين الرد على الطالب، وقد حكموا بهما، والجواب الجواب.

(أن تضل إحداهما) قال أبو عبيد: معنى تضل تنسى أي لنقص عقلهن وضبطهن، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء (فتذكر إحداهما) أي الذاكرة (الأخرى) أي الناسية، قرىء فتذكر بالتخفيف ومعناها تزيدها ذكراً وقراءة الجماعة بالتشديد أي تنبهها إذا غفلت ونسيت.

وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء أي فليشهد رجل ولتشهد امرأتان عوضاً عن الرجل الآخر لأجل تذكير إحداهما الأخرى إذا ضلت، وعلى هذا فيكون في الكلام حذف وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضاً عن الرجل الواحد، فقيل وجهه أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.

والعلة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سبباً له نزل منزلته وأبهم الفاعل في تضل وتذكر لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان، فالمعنى إن ضلت هذه ذكرتها هذه وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين أي إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها الأخرى.

وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال.

وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك يعني الضلال والتذكير يقع بينهما

ص: 151

متناوبا حتى ربما ضلت هذه عن وجه، وضلت تلك عن وجه آخر، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها.

قال سفيان بن عُيَينة: معنى قوله (فتذكر إحداهما الأخرى) تصيرها ذكراً يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد، وروى نحوه عن أبي عمرو بن العلاء، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ولا لغة ولا عقل.

(ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) أي لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل، وقيل إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم، وحملها الحسن على المعنيين وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام.

(ولا تسأموا) أي لا تملوا ولا تضجروا، والخطاب للمؤمنين أو للمتعاملين أو للشهود (أن تكتبوه) أي الدين الذي تداينتم به وقيل الحق وقيل الشاهد وقيل الكتاب، نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا.

ثم بالغ في ذلك فقال (صغيراً أو كبيرا) أي لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيراً أو قليلاً وعلى أي حال كان الكتاب مختصراً أو مشبعاً، وقدم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن يقال أن هذا مال صغير أي قليل لا احتياج إلى كتبه (إلى أجله) أي إلى محل الدين أو الحق.

(ذلكم) أي المكتوب المذكور في ضمير قوله أن تكتبوه (أقسط عند الله) أي أعدل وأحفظ وأصح، من القسط بالكسر، والقسوط الجور والعدول عن الحق (وأقوم للشهادة) أي أعون على إقامة الشهادة وأثبت لها، وهو مبني من أقام وكذلك أقسط مبني من فعله أي أقسط وقد صرح سيبويه بأنه قياسي أي بناء أفعل التفضيل.

ص: 152

(وأدنى أن لا ترتابوا) أي أقرب لنفي الريب في معاملاتكم أي الشك، وذلك أن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائناً ما كان.

(إلا أن تكون تجارة) أي تقع أو توجد تجارة على أن كان تامة، والتجارة تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء والزيادة بالأرباح، والاستثناء منقطع أي لكن وقت تبايعكم وتجارتكم فإنه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها، وقال أبو البقاء إنه متصل والأول أولى، وقرىء بالنصب على الناقصة أي تكون التجارة تجارة (حاضرة) بحضور البدلين وهي تعم المبايعة بعين أو دين (تديرونها بينكم) أي تتعاطونها يداً بيد، فالإدارة التعاطي والتقابض فالمراد التبايع الناجز يداً بيد.

(فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها) أي فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته، وإنما رخص الله في ترك الكتابة في هذا النوع من التجارة لكثرة جريانه بين الناس، فلو كلفوا الكتابة فيه لشق عليهم، ولأنه إذا أخذ كل واحد حقه في المجلس لم يكن هناك خوف الجحود فلا حاجة إلى الكتابة.

(وأشهدوا إذا تبايعتم) قيل معناه هذا التبايع المذكور هنا وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي، وقيل معناه أي تبايع كان حاضراً أو كالِئاً لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف، وأقطع لمنشأ الشجار، وهذا وما قبله أمر ندب وقد تقدم قريباً ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجباً أو مندوباً.

(ولا يضارّ كاتب ولا شهيد) يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل أو للمفعول، فعلى الأول معناه لا يضار كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما إما بعدم الإجابة أو بالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في كتابته، ويدل على هذا قراءة عمر وابن عباس وغيرهما " لا يضارِر " بكسر الراء الأولى وعلى الثاني لا يضارَر كاتب ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهم لهما ويضيق عليهما في الإجابة ويؤذَيا إن حصل منهما التراخي أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود " لا يضارر " بفتح الراء الأولى،

ص: 153

وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعاً وقد تقدم في تفسير قوله تعالى (لا تضار والدة بولدها) ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله تعالى.

(وإن تفعلوا) أي ما نهيتم عنه من المضارة (فإنه) أي فعلكم هذا (فسوق بكم) خروج عن الطاعة إلى المعصية ملتبس بكم (واتقوا الله) في فعل ما أمركم به وترك ما نهاكم عنه (ويعلمكم الله) ما تحتاجون إليه من العلم، حال مقدرة أو مستأنفة وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه، ومنه قوله تعالى (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً)(والله بكل شيء عليم) هذا آخر آية الدَّين.

وقد حث الله سبحانه فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد. قال القفال: ويدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسط شديد، ألا ترى أنه قال:(إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) ثم قال ثانياً (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) ثم قال ثالثاً (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) فكان هذا كالتكرار لقوله (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) لأن العدل هو ما علمه الله ثم قال رابعاً (فليكتب) وهذا إعادة للأمر الأول ثم قال خامساً (وليملل الذي عليه الحق) لأن الكاتب العدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادساً (وليتق الله ربه) وهذا تأكيد، ثم قال سابعاً (ولا يبخس منه شيئاً) وهذا كالمستفاد من قوله (وليتق الله ربه) ثم قال ثامناً (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله) وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا) فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة.

وكل ذلك يدل على المبالغة في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك، ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخطه من الرياء وغيره، والمواظبة على ذكر الله وتقواه، ذكره الخطيب.

ص: 154

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

ص: 155

(وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة) لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة والإشهاد لحفظ الأموال ودفع الريب، عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب، ونص على حالة السفر فإنها من جملة أحوال العذر، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة أي فإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتباً في سفركم فرهان مقبوضة، و " على " هنا بمعنى في، وفيه إشارة أن " على " استعارة تبعية شبّه تمكنهم من السفر بتمكن الراكب مركوبَه.

قال أهل العلم: الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم رهن درعاً له من يهودي.

وأفاد قوله (مقبوضة) اشتراط القبض في الرهن والاكتفاء به من المرتهن ووكيله، وقرأ الجمهور (كاتباً) أي رجلاً يكتب لكم، وقرئ " كتاباً " قال ابن الأنباري: فسره ابن مجاهد فقال: معناه فإن لم تجدوا مداداً في الأسفار.

وقرىء " فرهن " بضم الراء والهاء جمع رهان، وقرىء فرهن، وقراءة الجمهور (فرهان) قال الزجاج: يقال في الرهن رهنت وأرهنت، وكذا قال ابن الأعرابي والأخفش.

ص: 155

وقال أبو علي الفارسي: يقال أرهنت في المعاملات، وأما في القرض والبيع فرهنت، وقال ابن السكيت: أرهنت فيهما بمعنى أسلفت، والمرتهن الذي يأخذ الرهن والشيء مرهون ورهين، وراهنت فلاناً على كذا مراهنة خاطرته، وقد ذهب الجمهور إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض.

(فإن أمن بعضكم بعضاً) أي الدائن المديون على حقه فلم يرتهنه يعني إن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق لحسن ظنه به وأمانته واستغنى بأمانته عن الارتهان (فليؤد الذي اؤتمن) وهو المديون (أمانته) أي الدين الذي عليه، والأمانة مصدر سُمي به الذي في الذمة وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة.

(وليتق الله ربه) في أن لا يكتم من الحق شيئاً وفي أداء الحق عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا جحود، بل يعامله المعاملة الحسنة كما أحسن ظنه فيه، وفيه مبالغات من حيث الإتيان بصيغة الأمر الظاهرة في الوجوب، والجمع بين ذكر الله والرب وذكره عقب الأمر بأداء الدين، وفيه من التحذير والتخويف ما لا يخفى.

(ولا تكتموا الشهادة) نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة إذا دعوا لإقامتها وهو في حكم التفسير لقوله (ولا يضار كاتب) أي لا يضارِر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدمين (ومن يكتمها) يعني الشهادة (فإنه آثم) أي فاجر (قلبه) خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله ولكونه رئيس الأعضاء وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد كله.

وإسناد الفعل إلى الجارحة التي تعمله أبلغ، وهو صريح في مؤاخذة الشخص بأعمال القلب، وارتفاع القلب على أنه فاعل أو مبتدأ وآثم خبره على ما تقرر في علم النحو، ويجوز أن يكون قلبه بدلاً من آثم، بدل البعض من

ص: 156

الكل، ويجوز أيضاً أن يكون بدلاً من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من. وقرىء قلبه بالنصب كما في قوله إلا من سفه نفسه (والله بما تعملون عليم) فيه وعيد وتحذير لمن كتم الشهادة ولم يظهرها، ويقال لهذه الآية آية الدين.

وأخرج البخاري في تاريخه وأبو داود وغيرهما عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية، وقال هذه نسخت ما قبلها.

(وأقول) رضي الله عن هذا الصحابي الجليل، ليس هذا من باب النسخ فهذا مقيد بالائتمان وما قبله ثابت محكم لم ينسخ، وهو مع عدم الائتمان. وعن سعيد ابن المسيب أنه بلغه أن أحدثَ القرآن بالعرش آية الدين، وعن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين.

ص: 157

(لله ما في السموات وما في الأرض) ملكاً وأهلهما له عبيد وهو مالكهم، واستدل بسعة ملكه على سعة علمه (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم وأظهرته من الأمور التي يحاسب عليها (فيغفر لمن يشاء) منهم ما يغفره منها (ويعذب من يشاء) منهم بما أسر وأظهر منها.

هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال:

الأول: أنها وإن كانت عامة فهي مخصوصة بكتمان الشهادة، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة أو لم يظهر، وقد روى هذا عن ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به.

ص: 157

والقول الثاني: أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين، قاله مجاهد وهو أيضاً تخصيص بلا مخصص.

والقول الثالث: أنها محكمة عامة ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين، حكاه الطبري عن قوم، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصص فإن قوله (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) لا يختص ببعض معين إلا بدليل.

والقول الرابع: أن هذه الآية منسوخة، قاله ابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها (1).

وأخرج البخاري والبيهقي عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسبه ابن عمر (إن تبدوا ما في أنفسكم) الآية قال نسختها الآية التي بعدها.

وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن علي نحوه.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عى أبي هريرة قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم) الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا

(1) مسلم 127.

ص: 158

يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم، سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) إلى آخرها (1).

وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس مرفوعاً نحوه، وزاد فأنزل الله (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال قد فعلت (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) قال قد فعلت (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قال قد فعلت (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا) الآية قال قد فعلت (2)، وقد رويت هذه القصة عن ابن عباس من طرق.

وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما روي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال نزلت في كتمان الشهادة، فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة.

وعلى كل حال فبعد الأحاديث المصرحة بالنسخ والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها.

ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها

(1) مسلم 125.

(2)

مسلم 126.

ص: 159

ما لم تتكلم أو تعمل به (1) ".

وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: كل عبد همّ بسوء ومعصية وحدّث نفسه به حاسبه الله في الدنيا يخاف ويحزن ويشتد همه لا يناله من ذلك شيء كما هم بالسوء ولم يعمل بشيء.

والأحاديث المتقدمة المصرحة بالنسخ تدفعه.

عن ابن عباس قال: إن الله يقول يوم القيامة إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم فأغفر لمن شئت وأعذب من شئت، وهو مدفوع بما تقدم.

وقيل محكمة لأنه إذا حمل ما في الأنفس على خصوص العزم لم يكن نسخ لأنه مؤاخذ به وقد نظم بعضهم مراتب القصد بقوله؛

مراتب القصد خمس. هاجس ذكروا

وخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليه هم فعزم كلها رفعت

سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعاً

(والله على كل شيء قدير) فيغفر للمؤمنين فضلاً ويعذب الكافرين عدلاً قال ابن عباس يغفر الذنب العظيم ويعذب على الذنب الصغير.

(1) روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم عن صفوان بن محرز قال:" بينا نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف، إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول له: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب اعرف مرتين، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، قال: فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه، وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رؤوس الأشهاد (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين).

ثم قال ابن جرير: فتأويل الآية إذاً: وإن تبدوا ما في أنفسكم أيها الناس فتظهروه، أو تخفوه فتنطوي عليه نفوسكم يحاسبكم به الله، فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه، ومغفرته له، فيغفره له، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه، ونبوة أنبيائه.

ص: 160