المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٢

[صديق حسن خان]

الفصل: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ

بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‌

(125)

(بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا) أصل الفور القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد وهو من قولهم فارت القدر تفور فوراً إذا غلت، والفور الغليان، وفاز غضبه إذا جاش وفعله من فوره أي قبل أن يسكن، والفوارة ما يفور من القدر استعير للسرعة أي إن يأتوكم من ساعتهم هذه (يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة) في حال إتيانهم لا يتأخر عن ذلك (مسوّمين) أي معلمين بعلامات أو معلمين أنفسهم بعلامة على المبني المفعول أو الفاعل ورجح ابن جرير الأخير.

والتسويم إظهار سيما الشيء قال كثير من المفسرين مسوّمين أي مرسلين خيلهم في الغارة، وقيل إن الملائكة اعتمت بعمائم بيض، وقيل حمر، وقيل خضر، وقيل صفر، فهذه هي العلامة التي علموا بها أنفسهم حكي ذلك عن الزجاج.

وقيل كانوا على خيل بلق، وقيل غير ذلك، وفي بيان التسويم عن السلف اختلاف كثير لا يتعلق به كثير فائدة.

قال ابن عباس لم تقاتل الملائكة في معركة إلا يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً ومدداً. قال الحسن هؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة.

وقد سئل السبكي عن الحكمة في قتال الملائكة مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه.

وأجاب: بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبي وأصحابه وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده، والله فاعل الجميع انتهى.

ص: 326

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)

ص: 327

(وما جعله الله) أي الإمداد أو التسويم أو الانزال، ورجح الأول صاحب الكشاف (إلا بشرى لكم) استثناء مفرغ من أعم العام والبشرى اسم من البشارة وهي الإخبار بما يسر (ولتطمئن قلوبكم به) أي لتسكن، واللام لام كي، جعل الله ذلك الإمداد بشرى بالنصر، وطمأنينة للقلوب وفي قصر الإمداد عليهما إشارة إلى عدم مباشرة الملائكة للقتال يومئذ.

(وما النصر إلا من عند الله) لا من عند غيره فلا ينفع كثرة القاتلة وجودة العدة، والغرض أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة الذين أمدوا بهم، وفيه تنبيه على الأعراض عن الأسباب والإقبال على مسببها (العزيز الحكيم) فاستعينوا به وتوكلوا عليه.

ص: 327

(ليقطع طرفاً من الذين كفروا) الطرف الطائفة والمعنى نصركم الله ببدر ليقطع ويهلك طائفة من الكفار ويهدم ركناً من أركان الشرك بالقتل والأسر.

فقتل يوم بدر من قادتهم وسادتهم سبعون، وأسر سبعون.

ومن حمل الآية على غزوة أحد قال قد قتل منهم ستة عشر، وكان النصر فيه للمسلمين حتى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(أو يكبتهم) يحزنهم والمكبوت المحزون، وقال الكرخي: يذلهم، أشار به إلى أن الكبت من الذلة يقال كبت الله العدو كبتاً أي أذله وصرفه.

وقال بعض أهل اللغة: معناه يكبدهم أي يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم وهو غير صحيح فإن معنى كبت أحزن وأغاظ وأذل، ومعنى كبد أصاب الكبد وأصل الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه، والمراد منه القتل والهزيمة والإهلاك أو اللعن أو الخزي (فينقلبوا خائبين) أي غير ظافرين بمطلبهم.

ص: 327

عن قتادة قال قطع الله يوم بدر طرفاً من الكفار وقتل صناديدهم ورؤوسهم وقادتهم بالبشر، وعنه قال هذا يوم بدر قطع الله طائفة منهم وبقيت طائفة، وعن السدي ذكر الله قتلى المشركين بأحد وكانوا ثمانية عشر رجلاً فقال " ليقطع طرفاً " ثم ذكر الشهداء فقال " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ".

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيّته يوم أحد وشجّ في وجهه حتى سال الدم، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم (1)، فأنزل الله

(1) مسلم 1791.

ص: 328

(ليس لك في الأمر شيء) أي لست تملك إصلاحهم ولا تعذيبهم بل ذلك ملك الله فاصبر (أو يتوب عليهم) بالإسلام (أو يعذبهم) بالقتل والأسر والنهب (فإنهم ظالمون) بالكفر وقد روى هذا المعنى في روايات كثيرة.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل ابن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية، وللحديث ألفاظ وطرق (1).

ومعنى الآية أن الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك أو الهزيمة أو التوبة إن أسلموا، أو العذاب إن أصروا على الكفر، وقال الفراء (أو) بمعنى إلا. والمعنى إلا أن يتوب عليهم فتفرح بذلك أو يعذبهم فتشتفي بهم.

وقال السيوطي أو بمعنى (إلى أن) يعني غاية في الصبر، أي إلى أن يتوب عليهم، قيل نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلاً من الغزاة بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلموا الناس القرآن فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد (2) من ذلك وجداً شديداً وقنت شهراً الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن، وفي الباب أحاديث في الصحيحين لا نطول بذكرها.

(1) مسلم 1794 - البخاري 179.

(2)

أي حزن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

ص: 328

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)

ص: 329

(ولله ما في السموات وما في الأرض) هذا كالدليل على قوله ليس لك من الأمر شيء الخ (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) كلام مستأنف لبيان سعة ملكه أي يفعل في ملكه ما يشاء من المغفرة والعذاب، ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وفي قوله (والله غفور رحيم) إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه وتبشير لعباده بأنه المتصف بالمغفرة والرحمة على وجه المبالغة، وما أوقع هذا التذييل الجليل وأحبّه إلى قلوب العارفين بأسرار التنزيل.

ص: 329

(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا) قيل هو كلام مبتدأ للترهيب والترغيب فيما ذكر، وقيل هو اعتراض بين أثناء قصة أحد.

وقوله (أضعافاً مضاعفة) ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريمه على كل حال ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا فإنهم كانوا يربون إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في المال مقداراً يتراضون عليه ثم يزيدون في أجل الدين فكانوا يفعلون ذلك مرة بعد مرة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء، وفيه إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام، والمبالغة في هذه العبارة تفيد تأكيد التوبيخ، وفي السمين (أضعافاً) جمع ضعف ولما كان جمع قلة والمقصود الكثرة أتبعه بما يدل على ذلك وهو الوصف بمضاعفة.

ص: 329

(واتقوا الله) في أكل الربا ومضاعفته فلا تأكلوه ولا تضعفوه (لعلكم تفلحون) أي لكي تسعدوا، وفيه دليل على أن أكل الربا من الكبائر ولهذا عقبه بقوله:

ص: 330

(واتقوا النار التي أعدت للكافرين) فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم (1).

قال كثير من المفسرين وفيه أنه يكفر من استحل الربا، وقيل معناه اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار، وإنما خص الربا في هذه الآية لأنه الذي توعد إليه بالحرب منه لفاعله.

قال ابن عباس هذا تهديد للمؤمنين أن يستحلوا ما حرم الله عليهم من الربا وغيره مما أوجب الله فيه النار، قال بعضهم إن هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه ويجتنبوا محارمه.

وقال الواحدي في هذه الآية تقوية لرجاء المؤمنين رحمة من الله لأنه قال " أعدت للكافرين " فجعلها معدّة لهم دون المؤمنين.

(1) قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في " عمدة التفسير " ج/3/ 38 تعليقاً على هذه الآية: والمتلاعبون بالدين من أهل عصرنا، وأولياؤهم من عابدي التشريع الوثني الأجنبي، بل التشريع اليهودي في الربا يلعبون بالقرآن ويزعمون أن هذه الآية تدل على أن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة، ليجيزوا ما بقي من أنواع الربا، على ما ترضى أهواؤهم وأهواء سادتهم، ويتركوا الآية الصريحة: ْ (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُون) فكانوا في تلاعبهم بتأول هذه الآية الصريحة أسوأ حالاً ممن:. (يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)، (فأولئك الذي سمى الله فاحذروهم).

ص: 330

(وأطيعوا الله والرسول) حذف المتعلق مشعر بالتعميم أي في كل أمر ونهي، قال محمد بن إسحق في هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد (لعلكم ترحمون) أي راجين الرحمة من الله عز وجل.

ص: 330

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

ص: 331

(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) أي بادروا وسابقوا إلى ما يوجب المغفرة من ربكم وهي الطاعات، قرىء سارعوا بغير واو وبالواو، قال أبو علي كلا الأمرين سائغ مستقيم والمسارعة المبادرة، قال ابن عباس: إلى الإسلام وعنه إلى التوبة، وقال علي بن أبي طالب إلى أداء الفرائض، وعن أنس بن مالك وسعيد بن جبير أنها التكبيرة الأولى، وقيل إلى الإخلاص في الأعمال.

وقيل إلى الهجرة، وقيل إلى الجهاد واللفظ مطلق فيعمّ الكل ولا وجه لتخصيص نوع دون نوع، وهذا وجه من قال إلى جميع الطاعات والأعمال الصالحات.

(وجنة) أي وسارعوا إلى جنة، وإنما فصل بين المغفرة والجنة لأن المغفرة هي إزالة العقاب والجنة هي حصول الثواب فجمع بينهما للإشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين، وتقديم المغفرة على الجنة كما أن التخلية متقدمة على التحلية.

(عرضها) أي عرض الجنة (السموات والأرض) يعني كعرضهما لأن نفس السموات والأرض ليس عرضاً للجنة والمراد سعتها، وإنما خص العرض للمبالغة لأن الطول في العادة يكون أكثر من العرض يقول هذه صفة عرضها فكيف طولها، ومثله الآية الأخرى (عرضها كعرض السماء والأرض).

وقد اختلف في معنى ذلك فذهب الجمهور إلى أنها تقرن السموات بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض فذلك عرض الجنة، وقيل إن هذا الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة وذلك أنها لما كانت الجنة من الإتساع والإنفساح في غاية قصوى، حسن التعبير

ص: 331

عنها بعرض السموات والأرض مبالغة لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده، ولم يقصد بذلك التحديد كما تقول العرب: بلاد عريضة أي واسعة طويلة عظيمة، فجعل العرض كناية عن السّعة.

قال الزهري: إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله، هذا على سبيل التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير بل معناه كعرضهما عند ظنكم كقوله تعالى (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) أي عند ظنكم وإلا فهما زائلتان.

وسأل ناس من اليهود عمر بن الخطاب إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين تكون النار فقال لهم أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار، وإذا جاء النهار فأين يكون الليل، فقالوا إن مثلها في التوراة ومعناه أنه حيث شاء الله.

وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي السماء أم في الأرض فقال وأي أرض وسماء تسع الجنة، قيل فأين هي قال فوق السموات السمبع تحت العرش.

وقال قتادة: كانوا يرون الجنة فوق السموات السبع، وجهنم تحت الأرضين السبع.

(أعدت للمتقين) أي هيئت لهم، وفيه دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وهو الحق خلافاً للمعتزلة. أخرج عبد بن حميد وغيره عن عطاء ابن أبي رباح قال: قال المسلمون يا رسول الله أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم ذنباً أصبح كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه، اجدع أنفك، اجدع أذنك افعل كذا وكذا فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت (وسارعوا) الآية.

ص: 332

(الذين ينفقون في السراء والضراء) السراء اليسر والضراء العسر، وقد تقدم تفسيرهما، وقيل السراء الرخاء والضراء الشدة وهو مثل الأول، وقيل السراء في الحياة والضراء بعد الموت، والمعنى لا يتركون الإنفاق في كلتي الحالتين في الغنى والفقر والرخاء والشدة ولا في حال فرح وسرور، ولا في حال محنة

ص: 332

وبلاء، سواء كان الواحد منهم في عرس أو حبس، فأول ما ذكر الله من أخلاقهم الموجبة للجنة السخاء لأنه أشق على النفوس، وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح المنفق وذم البخيل والممسك في الصحيحين وغيرهما.

(والكاظمين الغيظ) أي الجارعين إياه عند امتلاء نفوسهم عنه والكافّين عن إمضائه مع القدرة، والكظم حبس الشيء عند امتلائه يقال كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره ومنه كظمت السّقاء أي ملأته والكظامة ما يسد به مجرى الماء وكظم البعير جرّته إذا ردها في جوفه.

وقد وردت أحاديث كثيرة في ثواب كظم الغيظ منها عن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء أخرجه الترمذي وأبو داود (1).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب رواه الشيخان (2)، وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت لله درّ التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء.

(والعافين عن الناس) أي التاركين عقوبة من أذنب إليهم واستحق المؤاخذة، وذلك من أجل ضروب الخير، وظاهره العموم سواء كان من المماليك أم لا، وقال الزجاج وغيره المراد بهم المماليك (والله يحب المحسنين) اللام يجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء وغيرهم. ويجوز أن تكون للعهد فيختص بهؤلاء، والأول أولى اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السياق فيدخل فيه كل من صدر منه مسمى الإحسان أي إحسان كان.

(1) صحيح الجامع الصغير 6398. المشكاة/5088.

(2)

مسلم 2609 - البخاري 2346.

ص: 333

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

ص: 334

(والذين إذا فعلوا فاحشة) أي فعلة فاحشة وهي تطلق على كل معصية وقد كثر إختصاصها بالزنا وأصل الفحش القبح والخروج عن الحدّ (أو ظلموا أنفسهم) باقتراف ذنب من الذنوب قيل هو ما دون الزنا مثل القبلة والمعانقة واللمس والنظر، وقيل أو بمعنى الواو والمراد ما ذكر، وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة، وقيل غير ذلك، قال النخعي الظلم من الفاحشة والفاحشة من الظلم.

(ذكروا الله) أي بألسنتهم عند الذنوب أو أخطروه في قلوبهم أو ذكروا وعده ووعيده أو جلاله الوجب للحياء منه (فاستغفروا لذنوبهم) أي طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه، وتفسيره بالتوبة خلاف لمعناه لغة.

وفي الاستفهام بقوله: (ومن يغفر الذنوب) من الإنكار مع ما تضمنه من الدلالة على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره ما لا يخفى، أي لا يغفر جنس الذنوب أحد (إلا الله) وفيه ترغيب لطلب المغفرة من الله سبحانه وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل.

(ولم يصروا على ما فعلوا) أي لم يقيموا على قبيح فعلهم ولكن استغفروا وقد تقدم تفسير الإصرار والمراد به هنا العزم على معاودة الذنب وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه، قال السدّي في الآية: فيسكتون ولا يستغفرون.

ص: 334

(وهم يعلمون) جملة حالية أي عالمين بقبحه وأنها معصية وأن لهم ربّاً يغفرها، وقيل يعلمون أن الإصرار ضار، وقيل يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنب، وقيل يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت، وقيل يعلمون أنهم إن استغفروه غفر لهم، وقيل يعلمون أن الله يتوب على من تاب قاله مجاهد، وقيل يعلمون أن تركه أولى قاله الحسن، وقيل يعلمون المؤاخذة بها أو عفو الله عنها، والمعاني متقاربة.

عن ابن مسعود قال إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنباً فقرأهما فاستغفر الله إلا غفر له (والذين إذا فعلوا فاحشة) الآية، وقوله (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) الآية.

عن ثابت البناني قال بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى، وعن عطاف بن خالد قال بلغني أنه لما نزلت هذه الآية صاح إبليس بجنده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر فقالوا مالك يا سيدنا قال آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحداً من بني آدم ذنب، قالوا وما هي؟ فأخبرهم قالوا نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق فرضي منهم بذلك.

وعن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله من ذنبه ذلك إلا غفر الله له ثم قرأ " والذين إذا فعلوا فاحشة " الآية رواه أحمد وأهل السنن الأربع وحسّنه النسائي (1).

وأخرج الترمذي وأبو داود والبيهقي في الشعب عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة (2)، وقد

(1) الترمذي الباب 181 من كتاب الصلاة، الإمام أحمد 1/ 2.

(2)

الترمذي الباب 106 من كتاب الدعوات - أبو داوود الباب 26 من كتاب الوتر.

ص: 335

وردت أحاديث كثيرة في فضل الاستغفار.

ص: 336

(أولئك) المذكورون بقوله (والذين إذا فعلوا فاحشة) على ما هو الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب في سلك الجزاء (جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار) أي ذلك ذخر لهم لا يبخس وأجر لا يوكس، وقد تقدم تفسير الجنات وكيفية جري الأنهار من تحتها (خالدين فيها) أي مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها (ونعم أجر العاملين) بطاعة الله، والمخصوص بالمدح محذوف أي الجنة على ما قاله مقاتل أو أجرهم أو ذلك المذكور (1).

(1) قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة) في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

أحدها: أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمراً فضمها، وقبلها، ثم ندم، فأتى النبي فذكر ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. أخرجه الإمام أحمد في " المسند " وابن ماجه عن ابن عمر، ونقل السُّدِّي عن " زوائد البوصيري " قال: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وذكره المنذري في " الترغيب والترهيب " وقال: رواه ابن ماجه، ورواته محتج بهم في الصحيح.

والثاني: أن أنصارياً وثقفياً آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، فخرج الثقفي مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فكان الأنصاري يتعهد أهل الثقفي، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي شعرها، فدخل ولم يستأذن؛ فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبله ثم ندم، فأبر راجعاً، فقالت: سبحان الله خنت أمانتك، وعصيت ربك، ولم تصب حاجتك، قال: فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله من ذنبه. فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه، فندم على صنيعه فوافقه ساجداً يقول: ذنبي ذنبي، قد خنت أخي. فقال له: يا فلان انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ذنبك، لعل الله أن يجعل لك منه مخرجاً، فرجع إلى المدينة، فنزلت هذه الآية بتوبته، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وذكره مقاتل.

والثالث: أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كان أحدهم إذا أذنب، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه، فنزلت هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" ألا أخبركم بخير من ذلك " فقرأ هذه الآية، والتي قبلها، هذا قول عطاء ".

ص: 336

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

ص: 337

(قد خلت من قبلكم سنن) هذا رجوع إلى وصف باقي قصة أحد بعد تمهيد مبادىء الرشد والصلاح تسلية للمؤمنين على ما أصابهم من الحزن والكآبة، وأصل الخلو في اللغة الإنفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن فيه ويستعمل أيضاً في الزمان بمعنى المضي، لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه. وكذا الأمم الخالية.

والمراد بالسنن ما سنّه الله في الأمم الماضية من وقائعه أي قد خلت من قبل في زمانكم وقائع سنها الله في الأمم المكذبة بالهلاك والاستئصال لأجل مخالفتهم الأنبياء. وأصل السنن جمع السنة وهي الطريقة المستقيمة والعادة، والسنة الإمام المتبع المؤتم به، والسنة الأمة والسنن الأمم قاله المفضل الضبي، وقال الزجاج: أهل سنن فحذف المضاف، قال مجاهد: قد خلت سنن تداول من الكفار والمؤمنين في الخير والشر.

ْ (فسيروا) أيها المؤمنون (في الأرض) والمطلوب من هذا السير المأمور به هو حصول المعرفة بذلك فإن حصلت بدونه فقد حصل المقصود، وإن كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها، والأمر للندب لا على سبيل الوجوب (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا ثم انقرضوا فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر.

ص: 337

هذا قول أكثر المفسرين، والعاقبة آخر الأمور، رغبهم في تأمل أحوال الأمم الماضية ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإعراض عن الدنيا ولذاتها لأن النظر إلى آثار المتقدمين له أثر في النفس، وفي هذه الآية تسلية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما جرى لهم في غزوة أحد.

ص: 338

(هذا بيان للناس) الإشارة إلى قوله (قد خلت) الخ وقال الحسن إلى القرآن ولا يخفى بعده. والبيان التبيين، وقيل هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة. وتعريف الناس للعهد، وهم المكذبون أو للجنس أي للمكذبين وغيرهم وفيه حث على النظر في سوء عاقبة المكذبين وما انتهى إليه أمرهم.

(و) هذا النظر مع كونه بياناً فيه (هدى وموعظة) فعطف الهدى والموعظة على البيان يدل على التغاير ولو باعتبار المتعلق وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد فالبيان للمكذبين والهدى والموعظة للمؤمنين، وإن كانت للجنس فالبيان لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، والهدى والوعظ (للمتقين) من المؤمنين وحدهم، والهدى بيان طريق الرشد المأمور بسلوكه دون طريق الغي، والموعظة هي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين.

فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان (أحدهما) الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى (والثاني) الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة وإنما خص المتقين بالهدى والموعظة لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم قال سعيد بن جبير: أول ما نزل من آل عمران هذا بيان للناس ثم أنزل بقيتها من يوم أحد.

ص: 338

(ولا تهنوا ولا تحزنوا) عزاهم وسلاهم لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم. ونهاهم عن العجز والفشل، والمعنى لا تضعفوا عن الجهاد ولا تحزنوا على من قتل منكم لأنهم في الجنة.

ص: 338

ثم بين لهم أنهم الأعلون على عدوهم بالنصر والظفر فقال: (وأنتم الأعلون) جمع أعلى والأصل أعليون هي جملة حالية أي والحال أنكم الأعلون عليهم وعلى غيرهم بعد هذه الوقعة، وقد صدق الله وعده فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة أحد ظفر بعدوه في جميع وقعاته، وقيل المعنى وأنتم الأعلون عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر فإنه أكثر مما أصابوا منكم اليوم.

أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج قال انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب يوم أحد فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما فعل فلان فنعى بعضهم لبعض وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فكانوا في همّ وحزن، فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل وكانوا على إحدى جنبتي المشركين وهم أسفل من الشعب، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم لا قوة لنا إلا بك وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء فلا تهلكهم، وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله.

وعلا المسلمون الجبل فذلك قوله (وأنتم الأعلون) وقال الضحاك أنتم الغالبون (إن كنتم مؤمنين) أي مصدقين بأن ناصركم هو الله تعالى فصدقوا بذلك فإنه حق وصدق.

ص: 339

(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) القرح بالضم والفتح الجرح وهما لغتان فيه قاله الكسائي والأخفش ومعناهما واحد، وقال الفراء: هو بالفتح الجرح وبالضم ألمه، وقرىء قرح على المصدر. والآية خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحد مع الحزن والكآبة إن يمسسكم أيها المسلمون قرح ونالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم، وأنتم أولى بالصبر منهم.

وقيل المراد ما أصاب المسلمين والكافرين في هذا اليوم، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء فأصابوا منهم جماعة ثم انتصر الله عليهم فأصابوا

ص: 339

منهم والأول أولى لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه، وكذا ما أصابه المشركون في يوم أحد لم يكن مثل ما أصابه المسلمون منهم يوم بدر بل ضعفه كما قال تعالى:(قد أصبتم مثليها) فيمكن أن يكون المماثلة في القتلى من دون نظر إلى الأسرى، ويكون القول الأول أرجح كما سلف.

(وتلك الأيام) الكائنة بين الأمم في حروبها والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوة تارة تغلب هذه الطائفة وتارة تغلب الأخرى كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر وأحد وهو معنى قوله (نداولها بين الناس) فقوله لك مبتدأ والأيام صفته والخبر نداولها أي نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقول من قال:

فيوماً علينا ويوماً لنا

ويوماً نُساء ُويوماً نسر

وكقول حسان الهند السيد ازاد البلجرامي رحمه الله تعالى:

ورأيت معالم دارسة

رسمته مزاولة السبل

وسألت رسوم الأربع ما

فعلت بك سابقة الأزل

فأجابت قال الله لنا

وسؤالك من جهة الغفل

تلك الأيام نداولها

لأمكث لهن على رجل

وأصل المداولة المعاورة وأدلته بينهم عاورته، والدولة الكرة يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر، ويقال الدنيا دول أي تنقل من قوم إلى آخرين، ثم منهم إلى غيرهم، وقيل المداولة المناوبة على الشيء والمعاودة وتعهده مرة بعد أخرى، قاله السمين.

والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس فيوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء، فكانت الدولة للمسلمين على المشركين في يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين رجلاً

ص: 340

وأسروا سبعين وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين، والقصة في البخاري بطولها عن البراء بن عازب وفي الباب أحاديث.

والمعنى نداولها ليظهر أمركم. قال ابن عباس أدال المشركون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلا عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين وكان عدد الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلاً أخرجه ابن جرير وغيره.

(وليعلم الله) علم ظهور (الذين آمنوا) أي إنما جعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة وشدة، وهو من باب التمثيل أي فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالماً، أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علماً يقع عليه الجزاء كما علمه علماً أزلياً، وقيل ليعرفهم بأعيانهم، وقيل ليعلم أولياء الله فأضاف علمهم إلى نفسه تفخيماً وقيل غير ذلك.

(ويتخذ منكم شهداء) يعني ويكرمكم بالشهادة، والشهداء جمع شهيد وهو من قتل من المسلمين بسيف الكفار في المعركة سمي بذلك لكونه مشهوداً له بالجنة أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة، ومن للتبعيض وهم شهداء أحد.

وقال ابن عباس إن المسلمين كانوا يسألون ربهم: اللهم ربّنا أرنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيراً ونلتمس فيه الشهادة فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ منهم شهداء.

(والله لا يحب الظالمين) يعني المشركين، جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله، وقيل هم الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي، قيل هم المنافقون، والأول أولى، ونفي المحبة كناية عن البغض، وفي إيقاعه على الظالمين تعريض بمحبته تعالى لمقابليهم.

ص: 341

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

ص: 342

(وليمحّص الله الذين آمنوا) التمحيص الإبتلاء والاختبار، وقيل التطهير والتنقية على حذف مضاف أي ليمحص ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء، وقيل يمحص يخلّص، قاله الخليل والزجاج أي ليخلّص المؤمنين من ذنوبهم ويزيلها عنهم.

وفي القاموس ومحصّ الذهب بالنار من باب منع أخلصه مما يشوبه والتمحيص التصفية (ويمحق الكافرين) أي يستأصلهم بالهلاك ويفنيهم، وأصل التمحيق محو الآثار والمحق نقصها قليلاً قليلا، وقال ابن عباس: يمحص يبتليهم، ويمحق ينقصهم.

ص: 342

(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز، وأم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة للإنكار، والمعنى لا تحسبوا أيها المؤمنون أن تنالوا كرامتي وثوابي (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) قال الرازي: أي ولما يصدر الجهاد عنكم، وهذا ظاهر الآية والمراد أن العلم متعلق بالعلوم.

وقال الواحدي: المعنى على الجهاد دون العلم أي لما يكن العلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم وقال الطبري: ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهد منكم على ما أمرته به، وقال أبو السعود: نفي العلم كناية عن نفي العلوم لما بينهما من اللزوم المبني على لزوم تحقق الأول لتحقق الثاني ضرورة استحالة شيء بدون علمه تعالى به.

وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف فقط وكان

ص: 342

يكفي أن يقال ولا يعلم الله جهادكم كناية عن معنى ولا تجاهدوا للمبالغة في بيان انتفاء الوصف وعدم تحققه أصلاً انتهى، ولما بمعنى لم عند الجمهور، وفرق سيبويه بينهما فجعل لم لنفي الماضي، ولما لنفي الماضي والمتوقع، ففيه إيذان بأن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل إلا أنه غير معتبر في تأكيد الإنكار.

ْ (ويعلم الصابرين) الواو للجمع قاله الخليل وغيره، وقال الزجاج بمعنى حتى، وقال الزمخشري للحال، والمعنى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما وفي الآية معاتبة لمن انهزم يوم أحد.

والخطاب في قوله

ص: 343

(ولقد كنتم تمنّون الموت) لمن كان يتمنى القتال والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر فإنهم كانوا يتمنّون يوماً يكون فيه قتال، فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحّوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج ولم يصبر منهم إلا نفر يسير مثل أنس ابن النضر عم أنس بن مالك.

وقد ورد النهي عن تمني الموت فلا بد من حمله هنا على الشهادة يعني حالة الشهداء من رفع المنزلة في الجنة وغير ذلك، ويكون المراد بالموت هنا ما يؤول إليه لا نفس الشهادة لأنها مستلزمة لتمني الموت وغلبة الكفار.

وعلى هذا التأويل يزول الإشكال لأن من طلب الجنة لا يقال أنه تمنى الموت، قال القرطبي: وتمنّي الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم لأنه معصية وكفر، ولا يجوز إرادة المعصية وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدى إلى القتل.

(من قبل أن تلقوه) أي القتال أو الشهادة التي هي سبب الموت أو العود على العدو، والجمهور على كسر لام من قبل لأنها معربة لإضافتها إلى أن

ص: 343

أي من قبل لقائه وقرىء تلاقوه ومعناه معنى تلقوه لأن لقي يستدعي أن يكون بين اثنين بمادته وإن لم يكن على المفاعلة.

(فقد رأيتموه) أي القتال أو ما هو سبب للموت يوم أحد، والظاهر أن الرؤية بصرية، وقيل علمية أي فقد علموا الموت حاضراً (وأنتم تنظرون) قيّد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة أي قد رأيتموه معاينين له حين قتل دونكم من قتل منكم.

قال الأخفش: إن التكرير بمعنى التأكيد مثل قوله (ولا طائر يطير بجناحيه) وقيل معناه بصراء ليس في أعينكم علل تتأملون الحال كيف هي فلم انهزمتم، وقيل معناه وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر، ونستشهد، أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبلي فيه خيراً ونلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق فأشهدهم الله أحداً فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم، فقال الله (ولقد كنتم تمنّون الموت) الآية وفيه توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب. وتسببوا فيها ثم جبنوا وانهزموا عنها، أو توبيخ لهم على الشهادة فإن في تمنيها تمنّي غلبة الكافرين (1).

(1) وقد ورد في سيرة ابن هشام أنهم بعد أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم للبس لأمته لاموا أنفسهم إذ اختاروا عكس رأي النبي فطلبوا عنه عدم الخروج فرفض ذلك عليه الصلاة والسلام.

وخرج بهم إلى أحد وكان ما كان من حوادث وفرار وتخلف ومعصية أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام.

ص: 344

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

ص: 345

(وما محمد إلا رسول) سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصيب يوم أحد صاح الشيطان قائلاً قد قتل محمد صلى الله عليه وسلم ففشل بعض المسلمين حتى قال قائل قد أصيب محمد فأعطوا بأيديكم فإنما هم إخوانكم (1)، وقال آخر لو كان رسولاً ما قتل فرد الله عليهم ذلك وأخبرهم بأنه رسول (قد خلت من قبله الرسل) وسيخلو كما خلوا فهذه الجملة صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقصر قصر أفراد كأنهم استبعدوا هلاكه فأثبتوا له صفتين الرسالة وكونه لا يهلك فرد الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك، وقيل هو قصر قلب.

ثم أنكر الله عليهم بقوله (أفإن مات) الهمزة للاستفهام الإنكاري أي كيف ترتدون وتكفرون دينه إذا مات (أو قتل) مع علمكم أن الرسل تخلو ويتمسك أتباعهم بدينهم وإن فقدوا بموت أو قتل، وقيل الإنكار لجعلهم خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم بموته أو قتله، وإنما ذكر القتل سبحانه مع علمه أنه لا يقتل لكونه مجوزاً عند المخاطبين.

(انقلبتم على أعقابكم) أي ترجعون إلى دينكم الأول يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه نكص على عقبيه ورجع وراءه. والحاصل أن موته صلى الله عليه وسلم

(1) ابن جرير 7/ 257.

ص: 345

أو قتله لا يوجب ضعفاً في دينه ولا الرجوع عنه بدليل موت سائر الأنبياء قبله، وأن اتباعهم ثبتوا على دين أنبيائهم بعد موتهم، فلا ينبغي منكم الانقلاب والارتداد حينئذ، لأن محمداً عبد مبلّغ لا معبود، وقد بلغكم والعبود باق فلا وجه لرجوعكم عن الدين الحق ولو مات من بلغكم إياه.

(ومن ينقلب على عقبيه) بإدباره عن القتال أو بارتداده عن الإسلام (فلن يضر الله شيئاً) وإنما يضر نفسه (وسيجزي الله الشاكرين) أي الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام ومن امتثل ما أمر به فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها عليه.

وقال علي: الشاكرين الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه فكان علي رضي الله عنه يقول: كان أبو بكر رضي الله عنه أمير الشاكرين وكان أشكرهم وأحبّهم إلى الله تعالى، وعنه أنه كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت (1).

(1) القرطبي 4/ 222.

ص: 346

(وما كان لنفس أن تموت) هذا كلام مستأنف يتضمن الحث على الجهاد والإعلام بأن الموت لا بد منه (إلا بإذن الله) أي ما كان لها أن تموت إلا مأذوناً لها فالاستثناء مفرغ والباء للمصاحبة يعني بقضاء الله وقدره وأمره، وقيل هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلى الله عليه وآله وسلم فبين لهم أن الموت بالقتل أو بغيره منوط بإذن الله، وإسناده إلى النفس مع كونها غير مختارة له للإيذان بأنه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا باذنه.

ص: 346

وفيه تحريض المؤمنين على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم بأن الجبن لا ينفع وإن الحذر لا يدفع، والثبات لا يقطع الحياة وأن أحداً لا يموت إلا بأجله وإن خاض المهالك، واقتحم المعارك، وإذا جاء الأجل لم يدفع الموت بحيلة فلا فائدة في الجبن والخوف.

وفيه أيضاً ذكر حفظ الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عند غلبة العدو وتخليصه منهم عند التفافهم عليه وإسلام أصحابه له فأنجاه الله من عدوه سالماً مسلماً لم يضره شيء.

(كتاباً مؤجلاً) معناه كتب الله الموت كتاباً، والمؤجل المؤقت الذي لا يتقدم على أجله ولا يتأخر، يعني مؤقتاً له أجل معلوم وقيل الكتاب هو اللوح المحفوظ لأن فيه آجال جميع الخلائق، والأول أولى، والغرض من هذا السياق توبيخ المنهزمين يوم أحد.

(ومن يرد) بعمله (ثواب الدنيا) كالغنيمة ونحوها، نزلت في الذين تركوا المركز وطلبوا الغنيمة، واللفظ يعم كل ما يسمى ثواب الدنيا وإن كان السبب خاصاً (نؤته منها) أي من ثوابها ما نشاء على ما قدرنا له، فهو على حذف المضاف.

(ومن يرد) بعمله (ثواب الآخرة) وهو الجنة، نزلت في الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنها عامة في جميع الأعمال (نؤته منها) أي من ثوابها ونضاعف له الحسنات أضعافاً كثيرة (وسنجزي الشاكرين) أي نجزيهم بامتثال ما أمرناهم به كالقتال ونهيناهم عنه كالفرار وقبول الإرجاف، والمراد بهم إما المجاهدون المعهودون من الشهداء وغيرهم، وإما جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولاً أولياً، وإلى الأول أشار في التقرير، والثاني أولى.

ص: 347

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)

ص: 348

(وكأيّن) قال الخليل وسيبويه: هي أي الاستفهامية وكاف التشبيه بمعنى كم التكثيرية وهي كناية عن عدد مبهم. و (من نبي) تمييز لها، وفي كأيّن خمس لغات ذكرها في الجمل واختار الشيخ أن كأيّن كلمة بسيطة غير مركبة وأن آخرها نون هي من نفس الكلمة لا تنوين لأن هذه الدعاوي لا يقوم عليها دليل. والشيخ سلك في ذلك الطريق الأسهل، والنحويون ذكروا هذه الأشياء محافظة على أصولهم مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد وتشحيذ الذهن وتمرينه، وأطال في الجمل الكلام على كأيّن من حيث الأفراد والتركيب ليس في ذكره هنا كثير فائدة.

وقرىء (قتل) على البناء للمجهول واختارها أبو حاتم ولها وجهان (أحدهما) أن يكون في قتل الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحينئذ يكون قوله (معه ربّيون) جملة حالية، والثاني أن يكون القتل واقعاً على (ربيّون) فلا يكون في قتل ضمير، والمعنى قتل بعض أصحابه وهم الربّيون، ورجح الزمخشري هذا بقراءة قتادة قتل بالتشديد.

وقرىء (قاتل) واختارها أبو عبيد وقال إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل ولم يقتل، فقاتل أعم وأمدح، ويرجح هذه القراءة الأخرى.

ص: 348

والوجه الثاني من القراءة الأولى قول الحسن ما قتل نبي في حرب قطّ، وقيل قتل فارغ من الضمير مسند إلى ربيون، والربّيون بكسر الراء قراءة الجمهور، وقرأ علي بضمها وابن عباس بفتحها، قال ابن جني والفتح لغة تميم وواحدة ربي منسوب إلى الرب، والربي بضمم الراء وكسرها منسوب إلى الربة بكسر الراء وضمها وهي الجماعة ولهذا فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة، وقيل هم الأتباع.

قال الخليل الربيّ الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية، وقال الزجاج الربيون بالضم الجماعات، وقال النقاش هم المكثرون العلم من قولهم ربا يربو إذا كثر، وقال ابن مسعود ربيون ألوف، عن الضحاك الربة الواحدة ألف، وعن ابن عباس قال جموع وعلماء.

(كثير) والمعنى أن كثيراً من الأنبياء قتلوا (فما وهنوا) قرىء بفتح الهاء وبكسرها وهما لغتان والوهن انكسار الجسد بالخوف وهن الشيء يهن وهناً كوعد يعد، ووهن يوهن كوجل يوجل ضعف أي ما جبنوا عن الجهاد (لما أصابهم) أي نالهم (في سبيل الله) من ألم الجروح وقتل الأنبياء والأصحاب والقروح (وما ضعفوا) أي عن عدوهم بل استمروا على جهادهم، لأن الذي أصابهم هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة نبيه، فكان ينبغي لكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تفعلوا مثل ذلك، قرىء ضعفوا بضم العين وفتحها وحكاها الكسائي لغة.

(وما استكانوا) لما أصابهم في الجهاد والاستكانة الذلة والخضوع، وقال ابن عباس الخشوع، وعبارة السمين فيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه استفعل من الكون والكون والذل وأصله ستكون، وقال الزهري وأبو علي: الأصل استكين وقال الفراء: وزنه افتعل من السكون انتهى، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم

ص: 349

أحد وذل واستكان وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان ولم يصنع كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل (والله يحب الصابرين) في الجهاد على تحمل الشدائد.

ص: 350

(وما كان قولهم) أي قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء، والاستثناء مفرغ أي ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون أو قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم عند لقاء العدو، واقتحام مضايق الحرب، وإصابة ما أصابهم من فنون الشدائد والأهوال شيء من الأشياء (إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) قيل هي الصغائر.

(وإسرافنا في أمرنا) قيل هي الكبائر والظاهر أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنباً من صغيرة أو كبيرة، والإسراف ما فيه مجاوزة للحد فهو من عطف الخاص على العام، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين هضماً لأنفسهم واستقصاراً لها وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم، وبراءة من التفريط في جنب الله، وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم:

(وثبت أقدامنا) أي في مواضع القتال ومواطن الحرب بالتقوية والتأييد من عندك أو ثبتنا على دينك الحق (وانصرنا على القوم الكافرين) تقريباً له إلى حين القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة، والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والتزلزل في مواقف الحرب، ومراصد الدين، وفيه من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى.

ص: 350

فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)

ص: 351

(فآتاهم الله) بسبب ذلك الدعاء (ثواب الدنيا) من النصر والغنيمة والعزة وقهر الأعداء والثناء الجميل وغفران الذنوب والخطايا ونحوها (وحسن ثواب الآخرة) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ثواب الآخرة الحسن وهو نعيم الجنة، جعلنا الله تعالى من أهلها، والفضل فوق الاستحقاق (والله يحب المحسنين) الذين يفعلون ما فعل هؤلاء، وهذا تعليم من الله سبحانه لعباده المؤمنين أن يقولوا مثل هذا عند لقاء العدو، وفيه دقيقة لطيفة وهي أنهم لما اعترفوا بذنوبهم وكونهم مسيئين سماهم الله تعالى محسنين.

ثم لما أمر سبحانه بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار وقال

ص: 351

(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) وهم مشركو العرب، وقيل اليهود والنصارى، وقيل المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى دين آبائكم، وقيل عامة في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم فإنه يستجرّ إلى موافقتهم (يردوكم على أعقابكم) أي يخرجونكم من دين الإسلام إلى الكفر (فتنقلبوا) ترجعوا (خاسرين) مغبونين فيهما أما خسران الدنيا فلان أشق الأشياء على العقلاء الانقياد إلى العدو وإظهار الحاجة إليه، وأما خسران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد.

ص: 351

(بل الله مولاكم) إضراب عن مفهوم الجملة الأولى أي إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم دون غيره (وهو خير الناصرين) فاستعينوا به وأطيعوه دونهم.

ص: 351