الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
(97)
(فيه آيات بينات) أي دلالات واضحات على حرمته ومزيد فضله واحترامه، منها الصفا والمروة ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء، ومنها أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن؟ وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب في الشام، وإذا عم البيت في جميع البلدان، ومنها انحراف الطيور عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان، ومنها إهلاك من يقصده من الجبابرة؛ ومنها الحجر الأسود والملتزم وزمزم ومشاعر الحج.
ومنها أن الآمر ببناء هذا البيت هو الله الجليل، والمهندس له جبريل، والباني هو إبراهيم الخليل، والمساعد في بنيانه هو اسمعيل، وهذه فضيلة عظيمة له، وغير ذلك من الآيات، وقد أوضحتها في كتابي (رحلة الصديق إلى البيت العتيق) فليرجع إليه، وهذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
(مقام إبراهيم) يعني الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وكان فيه أثر قدمي إبراهيم فاندرس من كثرة المسح بالأيدي.
وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات وهي جمع، بالمقام وهو فرد، وأجاب بأن المقام جعل وحده بمنزله آيات لقوة شأنه أو بأنه مشتمل على آيات، قال ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأن الإثنين نوع من الجمع، وقال ابن عطية والراجح عندي أن المقام وأمن الداخلين جعلا مثالاً لما في حرم الله تعالى من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم.
(ومن دخله كان آمناً) جمله مستأنفة من حيث اللفظ لبيان حكم من أحكام الحرم وهو أن من دخله كان آمناً، ومن حيث المعنى معطوفة على مقام إبراهيم الذي هو مبتدأ محذوف الخبر أي ومنها أمن داخله، ومن شرطية أو موصولة، وبه استدل من قال أن من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه حد من الحدود فإنه لا يقام عليه حتى لا يخرج منه، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه، وخالفه الجمهور، وقالوا تقام عليه الحدود من الحرم، وبه قال الشافعي.
وقد قال جماعة إن الآية خبر في معنى الأمر أي ومن دخله فأمنوه كقوله: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا.
أخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال كان هذا في الجاهلية كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يطلب، فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد، ومن قتل فيه قتل.
وعن عمر بن الخطاب قال لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه، وعن ابن عباس من عاذ بالبيت أعاذه البيت ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى، فإذا خرج أخذ بذنبه، وروى عنه هذا المعنى من طرق، أخرجه ابن جرير وغيره.
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي شريح العدوى قال قام النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فقال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لإمرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي في ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس (1).
(1) مسلم 1354 البخاري 89.
وقيل المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان آمناً. وقيل من دخله معظماً له متقرباً بذلك إلى الله كان آمناً من العذاب يوم القيامة.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً (1). وعنه: الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة ذكرهما أبو السعود ولم يخرجهما، وقيل آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك، والأول أولى.
(ولله على الناس حج البيت) اللام في قوله (لله) هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف " على " فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب، كما إذا قال القائل لفلان علي كذا، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته.
وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد، والمعنى ولله على الناس فرض حج البيت، والناس عام مخصوص بالمستطيع قد خصص ببدل البعض وهو قوله (من استطاع) لأنه من المخصصات عند الأصوليين.
والحج بكسر الحاء وفتحها لغتان سبعيتان في مصدر حج بمعنى قصد، والحج أحد أركان الإسلام، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة. وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان " أخرجه البخاري ومسلم (2)، فعد النبي صلى الله عليه وسلم الحج من أركان الإسلام الخمسة.
(1) الترمذي الباب 102 من كتاب الحج والنسائي الباب 41 من كتاب الجنائز.
(2)
مسلم 16 - البخاري 8.
وقد ورد في فضله وفضل البيت والعمرة أحاديث منها عن أبي سعيد الخدري قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى ". أخرجه الشيخان (1).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " أخرجه البخاري ومسلم (2)، وفي الباب أحاديث لا نطيل بذكرها، وقد ذكرنا طرفاً منها في كتابنا رحلة الصديق.
(من استطاع إليه سبيلاً) يعني من وجد السبيل إلى حج البيت الحرام من أهل التكليف لأنه المحدث عنه، وإن كان يحتمل رجوع الضمير للبيت.
لكن الأول أولى.
وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي، فقيل الزاد والراحلة، وبه فسره صلى الله عليه وسلم، رواه الحاكم وغيره، وإليه ذهب جماعة من الصحابة، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم (3)، وهو الحق، وقال مالك إن الرجل إذا وثق بقوته لزمه الحج وإن لم يكن له زاد ولا راحلة إذا كان يقدر على الكسب. وبه قال ابن الزبير والشعبي وعكرمة، وقال الضحاك إن كان شاباً قوياً صحيحاً وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه.
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أولياً أن تكون الطريق إلى الحج آمنة بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زاداً غيره، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة لأن الله سبحانه يقول:(من استطاع إليه سبيلاً) وهذا الخائف على نفسه وماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك وشبهة.
(1) مسلم 1397 - البخاري 645.
(2)
مسلم 1349 - البخاري 905.
(3)
ابن كثير 1/ 386.
وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج فقال الشافعي لا يعطي حبة ويسقط عنه فرض الحج، ووافقه جماعة، وخالفه آخرون، والظاهر أن من تمكن من الزاد والراحلة وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ولو بمصانعة بعض الظلمة بدفع شيء من المال يتمكن منه الحاج ولا ينقص من زاده ولا يجحف به فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه، لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال.
ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما يتوقف عليه الاستطاعة، فلو وجد الرجل زاداً وراحلة، ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق، لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلاً، وهذا لا بد منه، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون.
ولعل وجه قول الشافعي أنه يسقط الحج أن أخذ هذا المكس منكر فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر، وأنه بذلك غير مستطيع.
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب، فلو كان زمناً بحيث لا يقدر على المشي ولا على الركوب فهذا وإن وجد الزاد والراحلة فهو لم يستطع السبيل.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير الاستطاعة أنها الزاد والراحلة بطرق كثيرة عن جماعة من الصحابة عند أهل السنن وغيرهم.
وأقل أحوال هذا الحديث أن يكون حسناً لغيره فلا يضره ما وقع الكلام على بعض طرقه كما هو معروف.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم النهي للمرأة أن تسافر بغير ذي
رحم محرم، واختلفت الأحاديث في قدر المدة، ففي لفظ ثلاثة أيام وفي لفظ يوم وليلة وفي لفظ بريد، وقد ذكر بعض المفسرين ههنا أحكاماً تتعلق بالحج وأطال في ذكرها، ومحلها كتب الفروع فلا نذكرها.
(ومن كفر)" من " شرطية وهو الظاهر أو موصولة قيل إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه، وقيل المعنى ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً، وقيل أن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر، وعن ابن عمر: من كفر بالله واليوم الآخر، وعن ابن زيد من كفر بهذه الآيات.
وعن ابن مسعود ومن كفر فلم يؤمن فهو الكافر، وقيل هو الذي إن حج لم يره براً، وإن قعد لم يره إثماً، وقيل نزلت في اليهود وغيرهم من أصحاب الملل. قالوا الحج غير واجب وكفروا به، وعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها، وقيل إنه كلام مستأنف كما تقدم عن ابن عمر.
(فإن الله غني عن العالمين) الإنس والجن والملائكة وعن عبادتهم، وبالجملة في قوله هذا من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة وخذلانه وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم، وهو تعالى شأنه وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع.
وقد وردت أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زاداً وراحلة ولم يحج فأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج بيت الله فلا عليه بأن يموت يهودياً أو
نصرانياً (1)؛ وذلك بأن الله يقول (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
(1) ضعيف الجامع الصغير 5872. تخريج مشكاة المصابيح/2521.
سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).
وفي إسناده هلال الخراساني أبو هاشم، قال البخاري منكر الحديث، وقيل هو مجهول، وقال ابن عدي هذا الحديث ليس بمحفوظ، وفي إسناده أيضاً الحارث الأعور وفيه ضعف.
وقد ذكره الشوكاني في الموضوعات ثم قال: وقد حكم ابن الجوزي بضعفه ودفعه الحافظ ابن حجر بما هو معروف.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في كتاب الإيمان وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً (1) ".
وأخرج سعيد ابن منصور قال السيوطي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم، ما هم بمسلمين.
وأخرج الإسماعيلي عنه يقول من أطاق ولم يحج فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً، قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده: وهذا إسناد صحيح (2).
وعن ابن عمر من مات وهو موسر ولم يحج جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب كافر، وعنه من وجد إلى الحج سبيلاً سنة ثم سنة ثم سنة ثم مات ولم يحج لم يصل عليه ولا يدري مات يهودياً أو نصرانياً.
وعن عمر بن الخطاب قال لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة، ومن شاء استيفاء مسائله فليرجع إلى كتابي (رحلة الصديق إلى البيت العتيق).
(1) الدارمي كتاب المناسك الباب الثاني.
(2)
ابن كثير 1/ 386.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
(قل يا أهل الكتاب) خطاب لليهود والنصارى، وقيل لعلمائهم الذين علموا صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتخصيصهم بالخطاب دليل على أن كفرهم أوضح وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما.
(لم تكفرون بآيات الله) الدالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، وقيل المراد بها القرآن، وقيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والاستفهام للإنكار والتوبيخ لأن يكون لكفرهم بها سبب من الأسباب (والله شهيد على ما تعملون) هذه الجملة الحالية مؤكدة للتوبيخ والإنكار؛ وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في " شهيد " يفيد مزيد التشديد والتهويل.
(قل يا أهل الكتاب) أمر بتوبيخهم بإضلال غيرهم بعد توبيخهم بضلالهم (لم تصدون عن سبيل الله) الاستفهام يفيد ما أفاده الاستفهام الأول وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون في صدهم عن الإسلام، ويقولون إن صفة محمد ليست في كتابنا ولا تقدمت به بشارة، وصد وأصد لغتان بمعنى تغير وأنتن، وسبيل الله دينه الذي ارتضاه لعباده وهو دين الإسلام.
(من آمن) منهم بالفعل أو من أراد الإيمان من الكفار (تبغونهما عوجاً) بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه ميلاً إلى الحق بنفي النسخ وتغيير صفة الرسول عن وجهها وغير ذلك، أي تبغون لأجلها عوجاً، والعوج الميل
والزيغ، يقال عوج بالكسر إذا كان في الدين والقول والعمل، وبالفتح في الأجسام كالجدار ونحوه، روى ذلك عن أبي عبيدة وغيره.
والمعنى تطلبون لها اعوجاجاً وميلاً عن القصد والإستقامة بإيهامكم على الناس بأنها كذلك تنفيقاً لتحريفكم، وتقويماً لدعاويكم الباطلة، والهاء في تبغونها عائدة على السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث، ومن التأنيث هذه الآية وقوله تعالى (هذه سبيلي).
(وأنتم شهداء) جملة حالية أي والحال أنكم عالمون بأن الدين المرضي القيم هو دين الإسلام كما في كتابكم، يعني كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره، وأن فيها نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المراد وأنتم العقلاء، وقيل المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم، وقيل وأنتم تشهدون المعجزات التي تظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوته.
(وما الله بغافل عما تعملون) فيه وعيد شديد وتهديد لهم، وذلك أنهم لما كانوا يجتهدون ويحتالون بإلقاء الشبهة في قلوب الناس ليصدوهم عن سبيل الله والتصديق بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الخفية، ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حيلتهم من إحاطة علمه تعالى بأعمالهم، كما أن كفرهم بآيات الله لما كان بطريق العلانية ختمت الآية السابقة بشهادته تعالى على ما يعملون.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
ثم توعدهم سبحانه بقوله
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) خاطب سبحانه المؤمنين محذراً لهم عن طاعة اليهود والنصارى مبيناً لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردوهم ويصيروهم بعد إيمانهم كافرين، والكفر يوجب الهلاك في الدنيا بوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة والحرب وسفك الدماء، وفي الآخرة النار.
(وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) الاستفهام للإنكار والاستبعاد أي من أين يأتيكم ذلك ولديكم ما يمنع منه، ويقطع أثره، وهو تلاوة آيات الله عليكم أي القرآن الذي فيه بيان الحق والباطل، وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يبين الحق ويدفع الشبهة بين أظهركم.
وقيل (كيف) كلمة تعجب وتوبيخ والمراد منه المنع والتغليظ، قال قتادة في هذه الآية علمان بينان كتاب الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة.
وقال الزجاج يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان فيهم وهم يشاهدونه، ويجوز أن يكون الخطاب لجميع
الأمة لأن آثاره وعلامته والقرآن الذي أوتيه فينا فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا وإن لم نشاهده أ- هـ.
ثم أرشدهم إلى الإعتصام بالله ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هو الإسلام فقال.
(ومن يعتصم بالله) أي ممتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته، وقيل بالقرآن، وأصل العصمة الامتناع من الوقوع في آفة يقال اعتصم به واستعصم وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره، وعصمه الطعام منع الجوع منه، وفيه حث لهم في الإلتجاء إلى الله في دفع شر الكفار عنهم (فقد هدي إلى صراط مستقيم) أي طريق واضح وهو طريق الحق المؤدي إلى الجنة، وفي وصف الصراط بالاستقامة رد على ما ادعوه من العوج.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) أي التقوى التي تحق له وهي أن لا يترك العبد شيئاً مما يلزمه فعله، ولا يفعل شيئاً مما يلزمه تركه، ويبذل في ذلك جهده ومستطاعه.
قال القرطبي ذكر المفسرون أنها لما نزلت هذه الآية قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقوى على هذا، وشق عليهم ذلك فأنزل الله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) فنسخت هذه الآية روي ذلك عن قتادة والربيع وابن زيد، قال مقاتل وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا.
وقيل إن قوله اتقوا الله مبين لقوله (فاتقوا الله ما استطعتم) والمعنى اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، قال وهذا أصوب لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن فهو أولى.
قال ابن عباس في الآية هو أن يطاع فلا يعصى؛ ويشكر فلا يكفر ويذكر
فلا ينسى؟ وقال مجاهد هو أن تجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم. وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم.
قال أنس لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه؛ وقيل (حق تقاته) واجب تقواه وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم؛ وقيل غير ذلك؛ وتقاة مصدر وهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها إذ الأصل اتقوا الله التقاة الحق أي الثابتة.
(ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تكونوا على حال سوى حال الإسلام؛ وجاءت الحال جملة اسمية لأنها ابلغ وآكد؛ ولو قيل إلا مسلمين لم يفد هذا التأكيد.
قال السيوطي في التحبير: من عجيب ما اشتهر في تفسير (مسلمون) قول العوام أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عمدة عليه انتهى.
وقد تقدم في البقرة مثل هذه الآية وهو نهي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة، والمراد دوامهم على الإسلام وذلك أن الموت لا بد منه فكأنه قيل دوموا على الإسلام إلى الموت، وقريب منه ما حكى عن سيبويه " لا أرينك ههنا أي لا تكن بالحضرة فيقع عليك رؤيتي ".
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (1).
(1) ابن كثير 1/ 388. صحيح الجامع/5126.