المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

(8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٢

[صديق حسن خان]

الفصل: (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ

(8)

رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

ص: 191

(ربنا لا تزغ قلوبنا) قال ابن كيسان سألوا أن لا يزيغوا فتزيغ قلوبهم نحو قوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) كأنهم لما سمعوا قوله تعالى (وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) قالوا ربنا لا تزغ قلوبنا باتباع المتشابه (بعد إذ هديتنا) إلى الحق بما أذنت لنا من العمل بالآيات المحكمات.

(وهب لنا من لدنك رحمة) أي كائنة من عندك، ومن لابتداء الغاية ولدن بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وفيه لغات أخر هذه أفصحها، وهو ظرف مكان وقد يضاف إلى الزمان، وتنكير رحمة للتعظيم أي رحمة عظيمة واسعة تزلفنا إليك ونفوز بها عندك، أو توفيقاً للثبات على الحق أو مغفرة للذنوب (إنك أنت الوهاب) لكل مسؤول تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤول.

وهذا العموم مفهوم من عدم ذكر الموهوب، فالتخصيص بموهوب مسؤول دون آخر تخصيص بلا مخصص، وفيه دليل على أن الهدى والضلال من الله وأنه متفضل بما ينعم به على عباده لا يجب عليه شيء لأنه وهاب.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ثم قرأ (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) (1) الآية " وقد ورد نحوه من طرق أخر.

(1) أحمد 4/ 1‌

‌8

2، ابن ماجه مقدمة 13.

ص: 191

(ربنا إنك جامع الناس) أي باعثهم ومحييهم بعد تفريقهم وهو من إضافة الفاعل إلى المفعول (ليوم) هو يوم القيامة أي لحساب يوم أو لجزاء يوم على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه (لا ريب فيه) أي في وقوعه ووقوع ما فيه من الحساب والجزاء، وقد تقدم تفسير الريب (إن الله لا يخلف الميعاد) تعليل لمضمون ما قبلها أي أن الوفاء بالوعد شأن الإله سبحانه، وخُلفُه يخالف الألوهية كما أنها تنافيه، وإظهار الاسم الجليل لإبراز كمال التعظيم والإجلال الناشىء من ذكر اليوم المهيب الهائل بخلاف ما في آخر هذه السورة فإنه مقام طلب الإنعام.

والميعاد مِفعال من الوعد بمعنى المصدر لا الزمان والمكان. قاله أبو البقاء، وإليه أشار في التقرير، وفيه التفات من الخطاب ويحتمل أن يكون من كلامه تعالى، والغرض من الدعاء بذلك بيان أن همهم أمر الآخرة ولذلك سألوا الثبات على الهداية لينالوا ثوابها.

[أخرج ابن النجار في تاريخه عن جعفر بن محمد الخلدي قال روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه رده الله عليه ويقول بعد قراءتها يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين مالي إنك على كل شيء قدير].

ص: 192

(إن الذين كفروا) المراد بالذين كفروا جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف، وقيل وفد نجران، وقيل قريظة، وقيل النضير، وقيل مشركو العرب (لن تغني) أي لن تنفع ولن تدفع (عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله) أي من عذابه (شيئاً) أي شيئاً من الإغناء، ومن لابتداء الغاية مجازاً، وقيل إن كلمة من بمعنى عند أي لها تغني عند الله شيئاً قاله أبو عبيد وقيل هي بمعنى بدل، والمعنى من رحمة الله، قاله القاضي وهو بعيد، قال أبو حيان أنكره أكثر النحاة بل هي لابتداء الغاية كما قاله المبرد.

ص: 192

(وأولئك هم وقود النار) الوقود اسم للحطب. وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة أي هم حطب جهنم الذي تُسَعَّر به، والجملة مستأنفة مقررة لقوله:(لن تغنى عنهم أموالهم) الآية، وقرىء وقود بضم الواو وهو مصدر أي هم أهل وقود.

ص: 193

(كدأب آل فرعون) الدأب الاجتهاد، يقال دأب الرجل في عمله يدأب دأباً ودؤباً إذا جد واجتهد، والدائبان الليل والنهار، والدأب الحال والعادة والشأن. والمراد هنا كعادة آل فرعون وشأنهم وحالهم، وقال ابن عباس كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر. وقيل كسنة آل فرعون.

واختلفوا في الكاف فقيل دأبهم كدأب آل فرعون مع موسى. وقال الفراء كفرت العرب ككفر آل فرعون، وأنكره النحاس. وقيل أخذهم أخذة كما أخذ آل فرعون. وقيل لم تغن عنهم غناء كما لم تغن عن آل فرعون.

وقيل العامل فعل مقدر من لفظ الوقود ويكون التشبيه في نفس الإحراق قالوا ويؤيده قوله تعالى (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً) والقول الأول هو الذي قاله جمهور المحققين ومنهم الأزهري.

(والذين من قبلهم) أي من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة الماضية مثل عاد وثمود وغيرهم أي وكدأب الذين من قبلهم (كذبوا بآياتنا) لما جاءتهم بها الرسل يحتمل أن يراد بالآيات المتلوة. ويحتمل أن يراد بها الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية ويصح إرادة الجميع. وقال في الأنفال (كذبوا) وفي موضع آخر منها (كفروا) تفننا جريا على عادة العرب في تفننهم في الكلام.

(فأخذهم الله بذنوبهم) أي فعاقبهم بسبب تكذيبهم. أو المراد سائر ذنوبهم التي من جملتها تكذيبهم (والله شديد العقاب) أي شديد عقابه.

فالإضافة غير محضة، وقيل المعنى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الماضية فأخذناهم فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم.

ص: 193

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

ص: 194

(قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم) قيل هم اليهود.

وقيل هم مشركو مكة وقد صدق الله وعده بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وفتح خيبر، وضرب الجزية على سائر اليهود ولله الحمد.

وقرىء الفعلان بالتاء والياء فعلى الأولى معناه قل لهم ستغلبون وتحشرون. وعلى الثانية معناه بلغهم يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم سيغلبون ويحشرون (وبئس المهاد) يحتمل أن يكون من تمام القول الذي أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله لهم، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة تهويلاً وتفظيعاً أي بئس ما مهد لهم في النار، والمهاد الفراش.

ص: 194

(قد كان لكم آية) أي علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم.

وهذه الجملة من تمام القول المأمول به لتقرير مضمون ما قبله. والخطاب لليهود وقيل لجميع الكفار. وقيل للمؤمنين وعلى الأخيرين تكون الآية مستأنفة غير مرتبطة بما قبلها.

ولم يقل (كانت) لأن التأنيث غير حقيقي، وقيل إنه رد المعنى إلى البيان فمعناه قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى وترك اللفظ، وقال الفراء إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والإسم المؤنث فذكر الفعل، وكل ما جاء من هذا فهذا وجهه، ومعنى الآية قد كان لكم عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون.

(في فئتين) أي فرقتين، وأصلها فيء الحرب لأن بعضهم يفيء إلى

ص: 194

بعض، أي يرجع، والفئة الجماعة ولا واحد لها من لفظتها وجمعها فئات، وقد تجمع بالواو والنون جبراً لما نقص، وسميت الجماعة من الناس فئة لأنه يفاء إليها أي يرجع في وقت الشدة قاله القرطبي، وقال الزجاج الفئة الفرقة مأخوذ من فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته.

(التقتا) لا خلاف في أن المراد بالفئتين هما المقتتلتان يوم بدر، وإنما وقع الخلاف في المخاطب بهذا الخطاب، فقيل المخاطب به المؤمنون وبه قال ابن مسعود والحسن، وقيل اليهود، وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت نفوسهم وتشجيعها، وفائدته إذا كان مع اليهود عكس الفائدة المقصودة بخطاب المسلمين، وقيل هو خطاب لكفار مكة.

(فئة تقاتل في سبيل الله) أي في طاعة الله وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار، وكان صاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان، وكان من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف وأكثرهم رجالة.

(وأخرى كافرة) وهم مشركو مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة، وكان رأسهم عتبة بن ربيعة، وكان فيها مائة فرس، وكانت وقعة بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة.

وفي الكلام شبه احتباك تقديره فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الشيطان، فحذف من الأول ما يفهم من الثاني، ومن الثاني ما يفهم من الأول.

(يرونهم مثليهم رأي العين) قال أبو علي الفارسي: الرؤية في هذه الآية رؤية العين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد، ويدل عليه قوله (رأي العين) والمراد أنه يرى المشركون المؤمنون مثلى عدد المشركين أو مثلي عدد المسلمين.

ص: 195

وقد ذهب الجمهور إلى أن فاعل يرون هم المؤمنون، والمفعول هم الكفار، والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين أي يرى المسلمون المشركين مثلَي ما هم عليه من العدد، وفيه بُعد، إذ يلزم أن يكثر الله المشركين في أعين المسلمين، وقد أخبرنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، وأن يكون للمسلمين فيكون المعنى يرى السلمون المشركين مثلي المسلمين ليطمعوا فيهم، وقد كانوا علموا من قوله تعالى (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) أن الواحد يغلب الأثنين، وهذا على قراءة الجمهور بالياء التحتية.

وأما على قراءة نافع بالفوقية ففيها وجهان (الأول) أن يكون الخطاب في ترونهم للمسلمين والضمير المنصوب فيه للكافرين، والضمير المجرور في مثليهم أيضاً للمسلمين بطريق الالتفات فيكون المعنى ترون أيها المسلمون المشركين مثليكم في العدد، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عِدتهم لتقوى أنفسهم.

(والثاني) أن يكون الضمير المنصوب أيضاً للمسلمين أي ترون أيها المسلمون أنفسكم مثلي ما أنتم عليه من العدد لتقوى بذلك أنفسكم.

وقد قال من ذهب إلى التفسير الأول أعني أن فاعل الرؤية المشركون، وأنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم، أنه لا يناقض هذا ما في سورة الأنفال من قوله تعالى (ويقللكم في أعينهم) بل قللوا أولا في أعينهم ليلاقوهم ويجترؤا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ورأي العين مصدر مؤكد لقوله (يرونهم) أي رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها.

(والله يؤيد بنصره من يشاء) أي يقوي من يشاء أن يقويه ولو بدون الأسباب العادية، ومن جملة ذلك تأييد أهل بدر بتلك الرؤية.

(إن في ذلك) أي في رؤية القليل كثيراً (لعبرة) فعلة من العبور كالجلسة من الجلوس، والمراد الاتعاظ، والتنكير للتعظيم أي عبرة عظيمة وموعظة جسيمة (لأولي الأبصار).

ص: 196

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

عن الربيع يقول قد كان لكم في هؤلاء عبرة وتفكُّر، أيدهم الله ونصرهم على عدوهم يوم بدر كان المشركون تسعمائة وخمسين رجلاً وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً.

وعن ابن مسعود قال هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً، وعن ابن عباس قال أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً وكان المشركون مثليهم ستمائة وستة وعشرين فأيد الله المؤمنين.

ص: 197

(زين للناس حب الشهوات) كلام مستأنف لبيان حقارة ما تستلذه الأنفس في هذه الدار، وتزهيد الناس فيها وتوجيه رغباتهم إلى ما عند الله، والمزين قيل هو الله سبحانه وبه قال عمر كما حكاه عنه البخاري وغيره، ويؤيده قوله تعالى (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم) ويؤيده قراءة مجاهد (زين) على البناء للفاعل، وقيل المزين هو الشيطان وبه قال الحسن وقد جاء صريحاً في قوله (وزين لهم الشيطان أعمالهم) والآية في معرض الذم وهو قول طائفة من المعتزلة والأول أولى.

والمراد بالناس الجنس، والشهوات جمع شهوة وهي نزوع النفس إلى ما تريده وتوقان النفس إلى الشيء المشتهى، والمراد هنا المشتهيات عبر عنها

ص: 197

بالشهوات مبالغة في كونها مرغوباً فيها أو تحقيراً لها لكونها مسترذلة عند العقلاء من صفات الطبائع البهيمية، والشهوة إما كاذبة كقوله تعالى (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) أو صادقة كقوله (فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين).

قاله الكرخي، ووجه تزيين الله سبحانه لها ابتلاء عباده كما صرح به في الآية الاخرى.

(من النساء) بدأ بالنساء لكثرة تشوق النفوس إليهن والإستئناس والإلتذاذ بهن لأنهن حبائل الشيطان، وأقرب إلى الافتتان (والبنين) خصهم دون البنات لعدم الاطراد في محبتهن ولأن حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى.

(والقناطير المقنطرة) جمع قنطار، وهو اسم للكثير من المال، قال الزجاج القنطار مأخوذ من عند الشيء وإحكامه تقول العرب قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقد اختلف في تقديره على أقوال للسلف.

أخرج أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القنطار اثنا عشر ألف أوقية "(1).

وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القناطير المقنطرة فقال: " القنطار ألف أوقية "(2)، ورواه ابن أبي حاتم عنه مرفوعاً بلفظ ألف دينار.

وأخرج ابن جرير عن أبي كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية " وبه قال معاذ بن جبل وابن عمر وأبو هريرة وجماعة من

(1) ابن ماجة كتاب الآداب الباب الأول، الإمام أحمد 2/ 363.

(2)

كتاب النكاح 2/ 178.

ص: 198

العلماء، قال ابن عطية وهو أصح الأقوال ولكن يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية.

وعن أبي سعيد الخدري قال القنطار ملء مسك الثور ذهباً، وعن ابن عمر سبعون ألفاً، وعن سعيد بن المسيب ثمانون ألفاً، وعن أبي صالح مائة رطل، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقالاً والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً وعن الضحاك قال هو المال الكثير من الذهب والفضة وعن السدى أن المقنطرة المضروبة، وقال ابن جرير الطبري معناها المضعفة، وقال القناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة.

وقال الفراء القناطير جمع القناطر، والمقنطرة جمع الجمع، فيكون تسعة قناطير، وقيل المقنطرة المكملة كما يقال بدرة مبدرة وألوف مؤلفة، وبه قال مكي وحكاه الهروي، وقال ابن كيسان لا يكون القنطرة أقل من سبع قناطير، وفي نونه قولان (أحدهما) وهو قول جماعة أنها أصلية وأن وزنه فِعلال كقرطاس (والثاني) أنها زائدة ووزنه فنعال.

(من الذهب والفضة) من بيانية وإنما بدأ بالذهب والفضة من بين سائر أصناف الأموال لأنهما قيم الأشياء قيل سمي الذهب ذهباً لأنه يذهب ولا يبقى، والفضة لأنها تنفض أي تتفرق.

(والخيل المسومة) عطف على النساء لا على الذهب لأنها لا تسمى قناطير قاله أبو البقاء وتوهم مثل هذا بعيد جداً فلا حاجة إلى التنبيه عليه، قيل هي جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط بل مفرده فرس، وسميت الأفراس خيلاً لاختيالها في مشيتها وقيل لأن الخيل لا يركبها أحد إلا وجد في نفسه مخيلة أي عجباً.

وقيل واحده خائل كراكب وركب وتاجر وتجر وطائر وطير، وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش، فسيبويه يجعله اسم جمع والأخفش يجعله جمع تكسير.

ص: 199

واختلفوا في معنى المسومة فقيل هي المرعية في المروج والمسارح يقال سامت الدابة والشاة إذا سرحت، وقيل هي المعدة للجهاد، وقيل المعلمة من السومة وهي العلامة أي التي يجعل عليها علامة لتتميز عن غيرها، قال ابن فارس في المجمل المسومة المرسلة وعليها ركبانها، قال ابن عباس هي الراعية والمطهمة الحسان وبه قال مجاهد، وقال عكرمة تسويمها حسنها أي الغرة والتحجيل، وقال ابن كيسان البلق.

(والأنعام) هي الإبل والبقر والغنم، فإذا قلت نعم فهي الإبل خاصة قاله الفراء وابن كيسان (والحرث) اسم لكل ما يحرث وهو مصدر سمي به المحروث تقول حرث الرجل حرثاً إذا أثار الأرض فيقع على الأرض والحرث والزرع، قال ابن الإعرابي الحرث التفتيش.

(ذلك) المذكور (متاع الحياة الدنيا) أي ما يتمتع به ثم يذهب ولا يبقى، وفيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة (والله عنده حسن المآب) أي المرجع وهو الجنة، يقال آب يؤب إياباً إذا رجع وفيه إشارة إلى أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها فيما يكون فيه صلاحه في الآخرة لأنها السعادة القصوى.

ص: 200

(قل أؤنبئكم) أي أخبركم استفهام تقرير وليس في القرآن همزة مضمومة بعد مفتوحة إلا ما هنا وما في (ص)(أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) وما في اقتربت (أأُلقي الذكر عليه)(بخير من ذلكم) أي بما هو خير لكم من تلك المستلذات ومتاع الدنيا وإبهام الخير للتفخيم.

ثم بينه بقوله (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار) خص المتقين لأنهم المنتفعون بذلك، ويدخل في هذا الخطاب كل من اتقى الشرك، وقال ابن عباس يريد المهاجرين والأنصار، والأول أولى.

ص: 200

(خالدين) أي مقدرين الخلود (فيها) إذا دخلوها (وأزواج مطهرة) من الحيض والنفاس والمنى والبزاق وغيرها مما يستقذر (ورضوان) بكسر أوله وضمه لغتان، وقد قرىء بهما في السبع في جميع القرآن إلا في المائدة فإنه بالكسر باتفاق السبعة، وهو قوله (من اتبع رضوانه) وهما بمعنى واحد وإن كان الثاني سماعياً والأول قياسياً والتنوين للتكثير أي رضاً كثيراً (من الله).

عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً. أخرجه البخاري ومسلم (1)، والعبد إذا علم أن الله قد رضي عنه كان أتم لسروره وأعظم لفرحه.

(والله بصير بالعباد) أي عالم بمن يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا فيجازى كُلَاّ على عمله فيثيب ويعاقب على قدر الأعمال، وقيل بصير بالذين اتقوا فلذلك أعد لهم الجنات.

(1) وفي حديث آخر رواه مسلم (2837) في نعيم الجنة. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينادي منادٍ: آن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وآن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وآن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وآن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً ".

ص: 201

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

ص: 202

(الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) في ترتيب هذا السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة وفيه رد على أهل الاعتزال لأنهم يقولون إن استحقاق المغفرة لا يكون بمجرد الإيمان، قاله الكرخي.

ص: 202

(الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين) قد تقدم تفسير الصبر والصدق والقنوت والإنفاق، عن قتادة قال هم قوم صبروا على طاعته وصبروا عن محارمه وصدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم وصدقوا في السر والعلانية والقانتون هم المطيعون (والمستغفرين) هم السائلون للمغفرة وقيل أهل الصلاة وقيل هم الذين يشهدون صلاة الصبح.

وعن ابن عباس قال أمرنا رسول- الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة، وعن سعيد الجريري قال بلغنا أن داود عليه السلام سأل جبريل أي الليل أفضل قال يا داود ما أدرى إلا أن العرش يهتز في السحر.

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من

ص: 202

مستغفر فاغفر له (1) " وفي الباب أحاديث وفيه وفي أمثاله مذهب السلف الإيمان به وإجراؤه على ظاهره ونفى الكيفية عنه وهو الحق.

(بالأسحار) جمع سحر بفتح الحاء وسكونها قال الزجاج هو من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر، وقال الراغب السحر اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار، ثم جعل ذلك اسماً لذلك الوقت، وقيل السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر، وقيل السحر عند العرب من آخر الليل ثم يستمر حكمه إلى الأسفار كله يقال له سحر، والسحر بفتح فسكون منتهى قصبة الحلقوم، وخص الأسحار لأنها من أوقات الإجابة أو لأنها وقت الغفلة ولذة النوم.

(1) مسلم 168 البخاري 1599. صحيح أبي داود/1117 والدارمي والآجري وابن خزيمة باختلافات في الرواية. وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول يا نافع هل جاء السحر فإذا قال نعم أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح .. رواه الطبري.

ص: 203

(شهد الله) أي بين الله وأعلم، قال الزجاج الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبين، وقال أبو عبيدة شهد الله بمعنى قضى أي أعلم قال ابن عطية وهذا مردود من جهات، وقيل إنها شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة.

(أنه لا إله إلا هو) سئل بعض الإعراب ما الدليل على وجود الصانع فقال إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على وجود الصانع الخبير، وفي القرآن من دلائل التوحيد كثير طيب، وهو دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله.

(والملائكة) عطف على الاسم الشريف وشهادتهم إقرارهم بأنه لا إله إلا هو (وأولوا العلم) معطوف أيضاً على ما قبله وشهادتهم بمعنى الإيمان منهم

ص: 203

وما يقع من البيان للناس على ألسنتهم، وعلى هذا لا بد من حمل الشهادة على معنى يشمل شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم (1).

وقد اختُلف في أولي العلم هؤلاء من هم فقيل هم الأنبياء وقيل المهاجرون والأنصار، قاله ابن كيسان وقيل مؤمنو أهل الكتاب، قاله مقاتل، وقيل المؤمنون كلهم قاله السدى والكلبي وهو الحق إذ لا وجه للتخصيص، وفي ذلك فضيلة لأهل العلم جليلة ومنقبة نبيلة لقرنهم باسمه واسم ملائكته.

والمراد بأولي العلم هنا علماء الكتاب والسنة وما يتوصل به إلى معرفتهما إذ لا اعتداد بعلم لا مدخل له في العلم الذي اشتمل عليه الكتاب العزيز والسنة المطهرة.

(قائماً بالقسط) بالعدل في جميع أموره أو مقيماً له، وانتصاب قائماً على الحال من الاسم الشريف، قال جعفر الصادق: الأولى وصف وتوحيد والآتية رسم وتعليم أي قولوا (لا إله إلا هو) وقيل كرره للتأكيد، وفائدة تكريرها الاعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه، ففيه حث للعباد على تكريرها والاشتغال بها فإنه من اشتغل بها فقد اشتغل بأفضل العبادات، وقوله (العزيز الحكيم) لتقرير معنى الوحدانية (1).

(1) وروى ابن السائب أن حبرين من أحبار الشام قدما النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة.

فقالا: أنت محمد.

قال نعم.

قالا: وأحمد.

قال: نعم.

قالا: نسألك عن الشهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك.

فقال: سلاني.

فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتب الله .... فنزلت هذه الآية. فأسلما.

ص: 204

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

ص: 205

(إن الدين عند الله) جملة مستأنفة وآية مستقلة على قراءة كسر " إن " وأما على قراءة فتحها فهو من بقية الآية السابقة (الإسلام) يعني الدين المرضي هو الإسلام المبني على التوحيد كما قال تعالى (ورضيت لكم الإسلام دينا) قال الزجاج الدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه، والإسلام هو الدخول في السلم، وهو الإنقياد في الطاعة.

وقد ذهب الجمهور إلا أن الإسلام هنا بمعنى الإيمان وإن كانا في الأصل متغايرين كما في حديث جبريل الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإسلام والإيمان وصدقه جبريل وهو في الصحيحين وغيرهما، ولكن قد يسمى كل واحد منهما باسم الآخر وقد ورد ذلك في الكتاب والسنة.

قال قتادة الإسلام شهادة أن لا اله إلا الله والإقرار بما جاء به الرسول من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه لا يقبل غيره، وعن الضحاك قال لم يبعث الله رسولاً إلا بالإسلام، وعن الأعمش قال أنا أشهد بما شهد الله به واستودع الله هذه الشهادة وهي لي وديعة عند الله، وقرأ (إن الدين عند الله الإسلام، قالها مراراً).

قلت وأنا أيضاً أشهد كما شهد الأعمش وبالله التوفيق.

ص: 205

(وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) فيه الإخبار بأن اختلاف اليهود والنصارى كان لمجرد البغي بعد أن علموا بأنه يجب عليهم الدخول في دين الإسلام بما تضمنته كتبهم المنزلة إليهم، قال الأخفش وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى ما اختلف الذين أوتوا الكتاب أي بنو إسرائيل بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.

وفي التعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وقوله (إلا من بعد) زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد العلم أزيد في القباحة، وقوله بغياً بينهم زيادة ثالثة لأنه في حيز الحصر فيكون أزيد في القبح.

والكتاب هو التوراة والإنجيل، والمراد بهذا الخلاف الواقع بينهم هو خلافهم في كون نبينا صلى الله عليه وسلم نبياً أم لا، وقيل في دين الإسلام فقال قوم إنه حق وقال قوم إنه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقاً، وقيل في التوحيد، فثلثت النصارى، وقالت اليهود عزير ابن الله. وقيل اختلافهم في نبوة عيسى، وقيل اختلافهم في ذات بينهم حتى قالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء.

قال أبو العالية بغياً على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها فقتل بعضهم بعضاً على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس وسلط الله عليهم الجبابرة.

(ومن يكفر بآيات الله) الدالة على أن الدين عند الله الإسلام أو بأي آية كانت، على أن يدخل فيها ما نحن فيه دخولاً أولياً (فإن الله سريع الحساب) يجازيه ويعاقبه على كفره بآياته، والإظهار في قوله (فإن الله) مع كونه مقام الإضمار للتهويل عليهم والتهديد لهم.

ص: 206

(فإن حاجوك) يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي خاصموك وجادلوك اليهود والنصارى بالشبه الباطلة: والأقوال المحرفة بعد قيام الحجة عليهم في أن الدين عند الله هو الإسلام (فقل أسلمت وجهي لله) أي أخلصت ذاتي لله وانقدت له بقلبي ولساني وجميع جوارحي، وعبر بالوجه عن سائر الذات لكونه أشرف أعضاء الإنسان وأجمعها للحواس، وقيل الوجه هنا بمعنى القصد (ومن اتبعن) عطف على فاعل أسلمت وجاز للفصل، وقال الزمخشري الواو بمعنى مع.

(وقل للذين أوتوا الكتاب) يعني اليهود والنصارى (والأميين) أي الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب، وقال ابن عباس هم الذين لا يكتبون (أأسلمتم) استفهام تقريري يتضمن الأمر أي أسلموا، كذا قال ابن جرير وغيره، وقال الزجاج أسلمتم تهديد، والمعنى أنه قد أتاكم من البراهين ما يوجب الإسلام فهل عملتم بموجب ذلك أم لا، تبكيتاً لهم وتصغيراً لشأنهم في قلة الإنصاف وقبول الحق لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف في إذعانه للحق (1).

(فإن أسلموا فقد) دخلت قد على الماضي مبالغة في تحقق وقوع الفعل وكأنه قرب من الوقوع (اهتدوا) أي ظفروا بالهداية التي هي الحظ الأكبر وفازوا بخيري الدنيا والآخرة (وإن تولوا) أي أعرضوا عن قبول الحجة ولم يعملوا بموجبها (فإنما عليك البلاغ) أي إنما عليك أن تبلغهم ما أنزل إليك ولست عليهم بمسيطر فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والبلاغ مصدر بمعنى التبليغ قيل الآية محكمة والمراد بها تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل منسوخة بآية السيف (والله بصير بالعباد) فيه وعد ووعيد لتضمنه أنه عالم بجميع أحوالهم.

(1) ذكر ابن كثير: وهذه الآية وأمثالها من: أصرح الدلالات على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق.

ص: 207

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

ص: 208

(إن الذين يكفرون بآيات الله) ظاهره عدم الفرق بين آية وآية وهم اليهود والنصارى (ويقتلون النبيين) يعني اليهود قتلوا الأنبياء (بغير حق) إنما قيد بذلك للإشارة إلا أنه كان بغير حق في اعتقادهم أيضاً فهو أبلغ في التشنيع عليهم (ويقتلون الذين يأمرون) بالمعروف وينهون عن المنكر (بالقسط) أي العدل (من الناس) قال المبرد كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون فدعوهم إلى الله فقتلوهم فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم ففيهم أنزلت الآية (فبشرهم بعذاب أليم) خبر لقوله (إن الذين يكفرون) وذهب بعض النحاة إلى أن الخبر قوله

ص: 208

(أولئك الذين حبطت أعمالهم) ومنهم سيبويه والأخفش، وذكر البشارة تهكم بهم.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيده بن الجراح قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة قال: رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية إلى قوله (وما لهم من ناصرين) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم

ص: 208

بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله في كتابه وأنزل الآية فيهم (1).

وعن ابن عباس بسند صحيح قال: بعث عيسى يحيى بن زكريا في اثني عشر رجلاً من الحواريين يعلمون الناس، فكان ينهى عن نكاح بنت الأخ وكان ملك له بنت أخ تعجبه فأرادها وجعل يقضي لها كل يوم حاجة فقالت لها أمها: إذا سألك عن حاجة فقولي: حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا فقال: سلي غير هذا فقالت: لا أسألك غير هذا، فلما أبت أمر به فذبح في طست فبدرت قطرة من دمه فلم يزل يغلي حتى بعث الله بختنصر، فدلت عجوز عليه فألقى في نفسه أن لا يزال يقتل حتى يسكن هذا الدم فقتل في يوم واحد من ضرب واحد وسن واحد سبعين ألفاً فسكن.

(أولئك الذين حبطت) أي بطلت (أعمالهم) كصدقة وصلة رحم (في الدنيا والآخرة) أي أنه لم يبق لحسناتهم أثر في الدنيا حتى يعاملوا فيها معاملة أهل الحسنات لعدم الإسلام بل عوملوا معاملة أهل السيئات فلعنوا وحل بهم الخزي والصغار، ولهم في الآخرة عذاب النار (وما لهم من ناصرين) يمنعونهم من العذاب.

(1) ابن كثير 1/ 355.

ص: 209

(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من تصح منه الرؤية من حال هؤلاء وهم أحبار اليهود، والكتاب التوراة. وتنكير النصيب للتعظيم أي نصيباً عظيماً كما يفيده مقام المبالغة، والمراد بذلك النصيب ما بين لهم في التوراة من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقية الإسلام والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصه بهم، ومن قال إن التنكير

ص: 209

للتحقير فلم يصب، وفيه أن اختلافهم إنما كان بعد ما جاءهم العلم فلم ينتفعوا بذلك، وذلك بأنهم.

(يدعون إلى كتاب الله) الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة (ليحكم بينهم) إضافة الحكم إلى الكتاب هو على سبيل المجاز (ثم يتولى) عن مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وثم للاستبعاد لا للتراخي في الزمان (فريق منهم) يعني الرؤساء والعلماء (وهم معرضون) أي والحال أنهم معرضون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه مع علمهم به واعترافهم بوجوب الإجابة إليه.

قال السيوطي نزلت في اليهود، زنى منهم اثنان فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحكم عليهما بالرجم، فأبوا فجيء بالتوراة فوجد فيها، فرجما فغضبوا (1).

(1) زاد المسير/366.

ص: 210

(ذلك) أي ما مرّ من التولي والإعراض (بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات) أي أربعين يوماً وهي مقدار عبادتهم العجل، وقد تقدم تفسير ذلك في البقرة، وقال مجاهد يعنون الأيام التي خلق الله فيها آدم (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) من الأكاذيب التي من جملتها هذا القول. أو قالوا إن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، أو أنه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذَّب أولادُه إلا تحلة القسم.

وقال قتادة: حين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل: قولهم نحن على الحق وأنتم على الباطل، معنى يفترون يكذبون ويحلفون.

ص: 210

فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)

ص: 211

(فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) هو رد عليهم وإبطال لما غرهم من الأكاذيب باستعظام ما سيقع لهم وتهويل لما يحيق بهم من الأهوال، أي فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم الجزاء الذي لا يرتاب مرتاب في وقوعه فإنهم يقعون لا محالة فيه، ويعجزون عن دفعه بالحيل والأكاذيب.

قال الكسائي اللام في قوله ليوم بمعنى " في " وقال البصريون والمعنى لحساب يوم، وقال ابن جرير الطبري المعنى لما يحدث في يوم.

" (ووفيت كل نفس) " من أهل الكتاب وغيرهم (ما كسبت) أي جزاء ما كسبت من خير وشر على حذف المضاف (وهم لا يظلمون) بزيادة سيئة ولا ولا نقص حسنة من أعمالهم، والمراد كل الناس المدلول عليهم بكل نفس.

ص: 211

" (قل اللهم) " قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين أن أصل " اللهم " يا الله وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل فيه يا الله آمنا، قال النحاس هذا عند البصريين من الخطأ العظيم والقول في هذا ما قاله الأولون قال النضر ابن شميل من قال " اللهم " فقد دعا الله بجميع أسمائه.

(مالك) جنس (الملك) على الإطلاق، ومالك العباد وما ملكوا، وقيل المعنى مالك الدنيا والآخرة، وقيل الملك هنا النبوة، وقيل الغلبة، وقيل المال والعبيد، والظاهر شموله لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص.

(تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) المراد بما يؤتيه من الملك

ص: 211

وينزعه هو نوع من آنواع ذلك الملك العام، قيل نزل لما وعد صلى الله عليه وسلم أمته ملك فارس والروم.

عن ابن عباس قال اسم الله الأعظم (قل اللهم مالك الملك -إلى قوله- بغير حساب).

وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني عن معاذ: " أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم دَيناً عليه فعلمه أن يتلو هذه الآية ثم يقول رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك اللهم أغنني من الفقر واقض عني الدين " وأخرجه الطبراني في الصغير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: " ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً لأداء الله عنك "، فذكره وإسناده جيد (1).

(وتعز من تشاء وتذل من تشاء) أي في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، يقال عز إذا غلب ومنه (وعزني في الخطاب) ويقال ذل يذل ذلاً إذا غلب وقهر.

(بيدك الخير) أي النصر والغنيمة، وقيل الألف واللام تفيد العموم، والمعنى بيدك كل الخيرات، وتقديم الخبر للتخصيص أي بيدك الخير لا بيد غيرك، وذكر الخير دون الشر لأن الخير تفضل محض بخلاف الشر فإنه قد يكون جزاء لعمل من وصل إليه، وقيل لأن كل شر من حيث كونه من قضائه سبحانه هو متضمن للخير، فأفعاله كلها خير، قاله القاضي كالكشاف، وقيل أنه حذف كما حذف في قوله:(سرابيل تقيكم الحر) قاله البغوي وأصله بيدك الخير والشر، وقيل خص الخير لأن المقام مقام دعاء (إنك على كل شيء قدير) تعليل لما سبق وتحقيق له.

(1) الترمذي كتاب الدعوات باب 110.

ص: 212

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

ص: 213

(تولج الليل في النهار) وهو أن تجعل الليل قصيراً وما نقص منه زائداً في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة، وذلك غاية طول النهار، ويكون الليل تسع ساعات وذلك غاية قصر الليل، وفيه دلالة على أن من قدر على أمثال هذه الأمور العظام المحيرة للعقول والأفهام، فقدرته على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم أهون عليه من كل هين، يقال ولج يلج من باب وعد ولوجاً ولجة كعدة والولوج الدخول والإيلاج الإدخال.

(وتولج النهار في الليل) أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة وذلك غاية طوله، ويكون النهار تسع ساعات وذلك غاية قصره، وقيل المعنى تعاقب بينهما ويكون زوال أحدهما ولوجاً في الآخر والأول أولى، قال ابن مسعود تأخذ الصيف من الشتاء وتأخذ الشتاء من الصيف.

(وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) قيل المراد إخراج الحيوان وهو حي من النطفة وهي ميتة، وإخراج النطفة وهي ميتة من الحيوان وهو حي، وقيل المراد إخراج الطائر وهو حي من البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية، وقال عكرمة النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة والسنبلة من الحبة.

وعن الحسن قال المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والمؤمن عبد حي الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد.

ص: 213

قلت ويدل له قوله تعالى (أو من كان ميتاً فأحييناه) وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن حاتم وابن مردويه عن عبيد الله بن عبد الله: أن خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من هذه قيل: خالدة بنت الأسود، قال: سبحان الذي يخرج الحي من الميت، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافراً، وأخرج ابن سعد عن عائشة مثله.

(وترزق من تشاء بغير حساب) أي بغير تضييق ولا تقتير بل تبسط الرزق لمن تشاء وتوسعه عليه كما تقول فلان يعطى بغير حساب إذ المحسوب يقال للقليل.

قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه، بمعنى التعب قال تعالى (وترزق من تشاء بغير حساب) وبمعنى العدد قال تعالى (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب) وبمعنى المطالبة قال تعالى (فامنن أو امسك بغير حساب).

ص: 214

(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء) فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار بسبب من أسباب المصادقة والمعاشرة كقرابة أو صداقة جاهلية ونحوهما، وعن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية ومثله قوله تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم) الآية وقوله (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وقوله (لا تجد قوماً يؤمنون بالله) الآية وقوله (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) وقوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء).

(من دون المؤمنين) أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالاً أو اشتراكاً (ومن يفعل ذلك) الاتخاذ المدلول عليه بقوله لا يتخذ (فليس من الله) أي من ولايته وقيل من دينه وقيل التقدير ليس كائناً من الله (في شيء) من الأشياء هو منسلخ عنه بكل حال، وبريء الله منه، وهذا أمر معقول إذ موالاة الله وموالاة الكفار ضدان لا يجتمعان.

ص: 214

(إلا أن تتقوا منم تقاة) على صيغة الخطاب بطريق الالتفات أي إلا أن تخافوا منهم أمراً يجب اتقاؤه وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال وتقاة مصدر واقع موقع المفعول به، وهو ظاهر قول الزمخشري وزنه فُعلة ويجمع على تُقى كرطبة ورطب، وأصله وقيه لأنه من الوقاية، والتقوى والتقى واحد، والتقاة التقية يقال أتقي تقيه وتقاة.

وفي القاموس تقيت الشيء اتقيه من باب ضرب، وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً، وخالف في ذلك قوم من السلف فقالوا لا تقيه بعد أن أعز الله الإسلام.

عن ابن عباس قال التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية الله فيتكلم به مخافة الناس، وقلبه مطمئن بالإيمان فإن ذلك لا يضره، إنما التقية باللسان، وعنه قال التقاة التكلم باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان ولا يبسط يده فيقتل ولا إلى إثم فإنه لا عذر له.

وعن أبي العالية قال: التقية باللن وليس بالعمل، وقال قتادة إلا أن تكون بينك وبينه قرابة فتصله لذلك.

وأخرج عبد بن حميد والبخاري عن الحسن قال التقية جائزة إلى يوم القيامة. وحكى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال إنا لنكشر (1) في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم.

ويدل على جواز التقية قوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) ومن القائلين بجواز التقية باللسان أبو الشعثاء والضحاك والربيع ابن أنس.

وعن ابن عباس قال نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين إلا إن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم

(1) أي نبتسم.

ص: 215

اللطف ويخالفونهم في الدين، وذلك قوله تعالى (إلا أن تتقوا منهم تقاة).

ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكونوا غالبين أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من مخير أن يستحل دماً أو مالاً حراماً أو غير ذلك من المحرمات أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النية.

ثم هذه التقية رخصة فلو صبرعلى إظهار إيمانه حتى قتل كان له بذلك أجر عظيم.

وقال سعيد بن جبير ليس في الأمان التقية إنما التقية في الحرب، وقيل إنما تجوز التقية لصون النفس عن الضرر لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان.

(ويحذركم الله نفسه) أي ذاته المقدسة أن تعصوه بأن ترتكبوا النهي عنه أو تخالفوا المأمور به، أو توالوا الكفار فتستحقوا عقابه على ذلك كله، وإطلاق النفس عليه سبحانه جائز في المشاكلة كقوله (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) وفي غيرها.

وذهب بعض المتأخرين إلى منع ذلك إلا مشاكلة، وقال الزجاج معناه يحذركم الله إياه، ثم استغنوا عن ذلك بهذا وصار المستعمل، قال: وأما قوله (تعلم ما في نفسي، إلخ فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك).

وقال بعض أهل العلم معناه ويحذركم الله عقابه، مثل (واسأل القرية) فجعلت النفس في موضع الإضمار، والنفس عبارة عن وجود الشيء وذاته، وذكر النفس للإيذان بأن له عقاباً هائلاً لا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة (وإلى الله المصير) في هذه الآية تهديد شديد وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه.

ص: 216

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

ص: 217

(قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) فيه إن كل ما يضمره العبد ويخفيه أو يظهره ويبديه فهو معلوم لله سبحانه لا يخفى عليه منه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة (ويعلم ما في السموات وما في الأرض) مما هو أعم من الأمور التي يخفونها أو يبدونها فلا يخفى عليه ما هو أخص من ذلك (والله على كل شيء قدير) فيكون قادراً على عقوبتكم.

ص: 217

(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً) يوم القيامة ولم يبخس منه شيء قال قتادة محضراً موفراً (وما عملت من سوء) محضراً (تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً) الأمد الغاية وجمعه آماد، قال السدى أي مكاناً بعيداً، وعن ابن جريج أمداً أي أجلاً وعن الحسن قال يسر أحدكم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً يكون ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئة يستلذها.

وفي السمين الأمد غاية الشيء ومنتهاه، والفرق بين الأمد والأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول، والفرق بين الأمد والزمان أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عام في المبدأ والغاية انتهى، قال السيوطي أي غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها: اهـ، وهو أعم من المكان والزمان وعبارة الخازن أي مكاناً بعيداً، كما بين المشرق والمغرب.

ص: 217

(ويحذركم الله نفسه) كرر للتأكيد وللاستحضار ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر منهم لا يغفلون عنه، قيل والأحسن ما قاله التفتازاني أن ذكره أولاً للمنع من موالاة الكافرين وثانياً للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشر (والله رؤوف بالعباد) ومن رأفته بهم أنه حذرهم نفسه، قاله الحسن وفيه دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه سبحانه لعباده لطفاً بهم، وما أحسن ما يحكى عن بعض العرب أنه قيل له إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله فقال أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه.

ص: 218

(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) الحب والمحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، يقال أحبه فهو محب وحبه يحبه بالكسر فهو محبوب، قال ابن الدهان في حب لغتان حب وأحب، وقد فسرت المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته، قال الأزهري محبة العبد لله ولرسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران.

قيل: العبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله، وإن كل ما يراه كمالاً من نفسه أو من غيره فهو من الله وبالله لم يكن حبه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عبادته والحث على مطاوعته قاله القاضي.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن من طرق قال: قال أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا محمد إنا لنحب ربنا فأنزل الله هذه الآية، وعن أبي الدرداء قال على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس.

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن تحب على شيء من الجور وتبغض على شيء من العدل، وهل الدين

ص: 218

إلا الحب والبغض في الله (1)، قال الله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله) الآية.

قيل نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل نزلت في قريش قالوا نعبدها أي الأصنام حباً لله لتقربنا إلى الله زلفى.

والمعنى قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله فكونوا منقادين لأوامره وأوامو رسوله مطيعين لهما فإن اتباع الرسول من محبة الله وطاعته، وفيه حث على اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم وإشارة إلى ترك التقليد عند وضوح النص من الكتاب والسنة.

(ويغفر لكم ذنوبكم) يعني أن من غفر له أزال عنه العذاب (والله غفور رحيم) يغفر ذنوب من أحبه ويرحمه بفضله وكرمه، وهذا تذييل مقرر لما قبله.

(1) المستدرك للحاكم. كتاب التفسير 2/ 291.

ص: 219

(قل) لقريش (أطيعوا الله والرسول) حذف المتعلق مشعر بالتعميم أي في جميع الأوامر والنواهي، والمقلد غير مطيع لله وللرسول بل مشاقق لهما حيث ترك إطاعة الله ورسوله وأطاع غيرهما من غير حجة نيرة وبرهان جلي.

(فإن تولوا) يحتمل أن يكون من تمام مقول القول فيكون مضارعاً أي تتولوا، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى فيكون ماضياً من باب الالتفات (فإن الله لا يحب الكافرين) أي لا يرضى بفعلهم ولا يغفر لهم، ونفي المحبة كناية عن البغض والسخط، ووجه الإظهار في قوله (فإن الله الخ) مع كون المقام مقام إضمار لقصد التعظيم أو التعميم.

ولا فرغ سبحانه من أن الدين المرضي هو الإسلام وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول الذي لا يصح لأحد أن يحب الله إلا باتباعه، وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو لمجرد البغي عليه والحسد له، شرع في تقرير رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أنه من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة فقال:

ص: 219

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)

ص: 220

(إن الله اصطفى آدم ونوحاً) الإصطفاء الإختيار من الصفوة وهي الخالص من كل شيء، قال الزجاج اختارهم بالنبوة على عالمي زمانهم، وقيل إن الكلام على حذف مضاف أي اصطفى دين آدم، وتخصيص آدم بالذكر لأنه أبو البشر، وكذلك نوح فإنه آدم الثاني.

وحكى ابن الجوزي عن أبي سليمان الدمشقي أن اسم نوح السكن وإنما سمى نوحاً لكثرة نوحه، وعمر آدم تسعمائة وستون سنة، ونوح من نسل إدريس بينه وبينه إثنان لأنه ابن لملك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس، وعمر نوح ألف سنة وخمسون، ونوح اسم عجمي لا اشتقاق له عند محققي النحاة.

(وآل إبراهيم) قيل يعني نفسه، وقيل اسمعيل وإسحق ويعقوب، وقيل من كان على دينه، والثاني أولى، وذلك أن الله جعل إبراهيم أصلاً لشعبتين، فجعل إسمعيل أصلاً للعرب، ومحمد صلى الله عليه وسلم منهم فهو داخل في الاصطفاء، وجعل إسحق أصلاً لبني إسرائيل وجعل فيهم النبوة والملك إلى زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم جعل له ولأمته النبوة والملك إلى يوم القيامة، وعمر إبراهيم مائة وسبعون سنة.

ص: 220

(وآل عمران) قيل هو والمد موسى وهارون، وقيل هو من ولد سليمان وهو والد مريم، والظاهر الثاني بدليل القصة الآتية في عيسى ومريم، وبين العمرانين من الزمن ألف وثمانمائة سنة، وبين الأول وبين يعقوب ثلاثة أجداد، وبين الثاني وبين يعقوب ثلاثون جداً، وعمران اسم أعجمي، وقيل عربي مشتق من العمر، وعل كلا القولين ممنوع من الصرف إما للعلمية والعجمه أو لزيادة الألف والنون، قاله السمين.

فلما كان عيسى عليه السلام منهم كان لتخصيصهم بالذكر وجه، يعني خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل من نسلهم (على العالمين) قد تقدم الكلام على تفسيره أي اختارهم واصطفاهم على العالمين بما خصهم به من النبوة والرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية.

ص: 221

(ذرية) قد تقدم تفسير الذرية قيل مشتق من الذرء وهو الخلق فعلى هذا يطلق على الأصول حتى على آدم كما يطلق على الفروع، وقيل منسوب إلى الذر لأن الله أخرجهم من ظهر آدم كالذر أي صغار النمل، ويكون هذا من النسب السماعي إذ كان القياس فتح الذال والنصب على البدل من آدم أو من نوح وإليه نحا أبو البقاء أو من الآلين وإليه نحا الزمخشري أو النصب على الحال.

(بعضها من بعض) معناه متناسلة متشعبة أو متناصرة متعاضدة في الدين، قال قتادة في النية والعمل والإخلاص والتوحيد، أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد- صلى الله عليه وسلم (والله سميع عليم) إنما يصطفى لنبوته ورسالته من يعلم استقامته قولاً وفعلاً.

ص: 221

(إذ قالت) قال أبو عمرو إذ زائدة وقال محمد بن زيد تقديره اذكر إذ قالت، وقال الزجاج متعلق بقوله (اصطفى) وقيل بقوله سميع عليم.

ص: 221

(امرأة عمران) اسمها حنة بالحاء المهملة والنون المشددة بنت فاقوذ أم مريم فهي جدة عيسى، وعمران هو ابن ماثان جد عيسى وليس نبياً.

(رب إني نذرت لك) هذا النذر كان جائزاً في شريعتهم، وتقديم الجار والمجرور لكمال العناية ومعز ذلك أي لعبادتك (ما في بطني محرراً) أي عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة، والمراد هنا الحرية التي هي ضد العبودية، وقيل المراد بالمحرر هنا الخالص لله سبحانه الذي لا يشوبه شيء من أمر الدنيا، ورجح هذا بأنه لا خلاف أن عمران وامرأته حران وهلك عمران وهي حامل.

(فتقبل مني) التقبل أخذ الشيء على وجه الرضا أي تقبل مني نذري بما في بطني، عن ابن عباس قال كانت نذرت أن تجعله في الكنيسة يتعبد بها، وقال مجاهد خادماً للبيعة (إنك أنت السميع) لتضرعي ودعائي (العليم) بنيتي وما في ضميري.

ص: 222

(فلما وضعتها) التأنيث باعتبار ما علم من المقام أن الذي في بطنها أنثى أو لكونه أنثى في علم الله أو بتأويل ما في بطنها بالنفس أو النسمة أو نحو ذلك (قالت) يعني حنة (رب إني وضعتها أنثى) إنما قالت هذه المقالة لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكر دون الأنثى فكأنها تحسرت وتحزنت لما فاتها من ذلك الذي كانت ترجوه وتقدره.

(والله أعلم بما وضعت) بضم التاء فيكون من جملة كلامها ويكون متصلاً بما قبله وفيه معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفي عليه شيء، وقرأ الجمهور وضعت بسكون التاء فيكون من كلام الله سبحانه على جهة التعظيم لما وضعته والتفخيم لشأنه والتجهيل لها حيث وقع منها التحسر والتحزن، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين وعبرة للمعتبرين ويختصها بما لم يختص به أحداً.

ص: 222

وقرأ ابن عباس وضعت بكسر التاء على أنه خطاب من الله سبحانه لها أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام، وتصاغر عندها العقول، وإن له شأناً عظيماً.

(وليس الذكر كالأنثى) أي ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت، فإن غاية ما أرادت من كونه ذكراً أن يكون نذراً خادماً للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم وشأنها فخيم، فهي خير منه وإن لم تصلح للسدانه فإن فيها مزايا أخر لا توجد في الذكر، وعلى هذا: الكلام على ظاهره ولا قلب فيه، وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع ورفع شأنه وعلو منزلته، واللام في الذكر والأنثى للعهد.

هذا على قراءة الجمهور، وأما على قراءة أبي بكر وابن عامر فيكون قوله (وليس الذكر كالأنثى) من جملة كلامها ومن تمام تحسرها وتحزنها أي ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادماً ويصلح للنذر كالأنثى التي لا تصلح لذلك، بل هو خير منها لأنه يصلح لمقصودي دونها، وكأنها اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت، وعلى هذا في الكلام قلب، وكانت مريم من أجمل النساء وأفضلهن في وقتها.

(وإني سميتها مريم) تعني العابدة مقصودها من هذا الإخبار بالتسمية التقرب إلى الله سبحانه، وأن يكون فعلها مطابقاً لمعنى اسمها فإن معنى مريم خادم الرب بلغتهم، فهي وإن لم تكن صالحة لخدمة الكنيسة، فذلك لا يمنع أن تكون من العابدات (1).

(وإني أعيذها) أي أمنعها وأجيرها (بك وذريتها من الشيطان الرجيم).

(1) وقال ابن إسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت، فرأت طائراً يطعم فرخاً

⦗ص: 224⦘

له، فدعت الله أن يهب لها ولداً، وقالت: اللهم لك علي إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس، فحملت بمريم، وهلك عمران، وهي حامل.

ص: 223

عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " ما من بني آدم من مولود إلا نخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من نخسه إياه إلا مريم وابنها متفق عليه (1) وللبخاري عنه " كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب " وللحديث ألفاظ عنه وعن غيره.

والرجيم المردود، وذكر في القاموس الطرد من معاني الرجم، وأصله المرمي بالحجارة، طلبت الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وإغوائه.

وفي المقام إشكال قوي لم أر من نبه عليه من المفسرين، وحاصله أن قولها وإني أعيذها بك معطوف على ما قبله الواقع في حيز لما وضعتها، فيقتضي أن طلب هذه الإعاذة إنما وقع بعد الوضع، فلا يترتب عليه حفظ مريم من طعن الشيطان وقت نزولها وخروجها من بطن أمها فلا يتلاقى الحديث مع الآية، بل مقتضى ظاهر الآية أن إعاذتها من الشيطان إنما كان بعد وضعها وهذا لا ينافي تسلط الشيطان عليها بطعنها ونخسها وقت ولادتها الذي هو عادته فإن عادته طعن المولود وقت خروجه من بطن أمه، تأمل، قاله سليمان الجمل.

(1) مسلم 2366، البخاري 1550. صحيح الجامع/5661.

ص: 224

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

ص: 225

(فتقبلها ربها بقبول حسن) أي رضي بها في النذر وسلك بها مسلك السعداء، وقال قوم معنى التقبل التكفل والتربية والقيام بشأنها، وليست صيغة التفعل للتكلف كما هو أصلها بل بمعنى الفعل كتعجب بمعنى عجب وتبرأ بمعنى برىء، والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق، والباء زائدة أو هي على حالها.

(وأنبتها نباتاً حسناً) المعنى أنه سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، قيل إنها كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام وفيه بعد، وقيل هو مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها.

(وكفلها) أي ضمها إليه بالقرعة لا بالوحي، وقال أبو عبيدة ضمن القيام بها، وقال الكوفيون أي جعله الله كافلاً لها وملتزماً بمصالحها، وفي معناه في مصحف أبي (وأكفلها) وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناه ما تقدم من كونه ضمها إليه، وقرأ مجاهد فتقبلها وأنبتها بإسكان اللام والتاء وكفلها على المسألة والطلب.

(زكريا) وكان من ذرية سليمان بن داود، وروى عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وناس من الصحابة أن مريم كانت ابنة سيدهم وإمامهم فتشاح عليها أحبارهم فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها، وكان زكريا زوج أختها فكفلها أي جعلها معه في محرابه، وكانت عنده وحضنها.

ص: 225

(كلما دخل عليها زكريا المحراب) يعني الغرفة، والمحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس، قاله القرطبي وسميت محراباً لأنها محل محاربة الشيطان لأن المتعبد فيها يحاربه، وكذلك هو في المسجد وكذلك يقال لكل من محال العبادة محراب، وقيل إن زكريا جعل لها محراباً لا ترتقي إليه إلا بسلم وكان يغلق عليها حتى كبرت.

(وجد عندها) أي أصاب وصادف ولقي فيتعدى لواحد (رزقاً) أي نوعاً من أنواع الرزق، أي كان إذا دخل عليها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، قال ابن عباس عنباً في مكتل في غير حينه.

(قال يا مريم أنى لك هذا) أي من أين يجيء لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا (قالت هو من عند الله) فليس ذلك بعجيب ولا مستنكر (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) جملة تعليلية لما قبلها وهو من تمام كلامها، ومن قال أنه من كلام زكريا فتكون الجملة مستأنفة وهذا دليل على جواز الكرامة لأولياء الله تعالى.

ص: 226

(هنالك) ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان، وقيل إنه للزمان خاصة (وهناك) للمكان، وقيل يجوز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر، واللام للدلالة على البعد والكاف للخطاب.

(دعا زكريا ربه) يعني أنه دعا في ذلك المكان الذي هو قائم فيه عند مريم، أو في ذلك الزمان أن يهب الله له ذرية طيبة.

والذي بعثه على ذلك ما رآه من ولادة حنة لمريم وقد كانت عاقراً، فحصل له رجاء الولد وإن كان كبيراً، وامرأته عاقراً أو بعثه على ذلك ما رآه من فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء عند مريم، لأن من

ص: 226

أوجد ذلك في غير وقته يقدر على إيجاد الولد من العاقر، وكان أهل بيته انقرضوا.

وعلى هذا يكون هذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من قوة الارتباط.

(قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) الذرية النسل يكون للواحد ويكون للجمع ويدل على أنها هنا للواحد قوله (فهب لي من لدنك ولياً) ولم يقل (أولياء) وتأنيث طيبة لكون لفظ الذرية مؤنثاً، والمعنى أعطني يا رب من عندك ولداً مباركاً تقياً صالحاً رضياً كهبتك لحنة العجوز العاقر مريم (إنك سميع الدعاء) أي سامعه ومجيبه.

ص: 227

(فنادته الملائكة) قيل المراد هنا جبريل، والتعبير بلفظ الجمع عن الواحد جائز في العربية، ومنه (الذين قال لهم الناس) وقيل ناداه جميع الملائكة وهو الظاهر من إسناد الفعل إلى الجمع والمعنى الحقيقي مقدم فلا يصار إلى المجاز إلا لقرينة (وهو قائم يصلي في المحراب) أي في المسجد قال السدى المحراب المصلى.

وقد أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب (1).

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن موسى الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى (2) " وقد رويت كراهة ذلك عن جماعة من الصحابة.

(1) صحيح الجامع الصغير 19.

(2)

الإمام أحمد 2/ 229.

ص: 227

(إن الله يبشرك بيحيى) هو ممتنع من الصرف لكونه أعجمياً أو لكون وزن الفعل فيه مع العلمية كيعمر ويعيش ويزيد ويشكر وتغلب، وقيل أعجمي لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهر فامتناعه للعلمية والعجمة الشخصية.

قال القرطبي حاكياً عن النقاش كان اسمه في الكتاب الأول حنا انتهى، والذي رأيناه في مواضع من الإنجيل أنه يوحنا قيل سمى بذلك لأن الله أحياه بالإيمان والنبوة، وقيل إن الله أحيا به الناس بالهدى، والمراد هنا التبشير بولادته أي يبشرك بولادة يحيى.

(مصدقاً بكلمة من الله) أي بعيسى عليه السلام، وسمى كلمة الله لأنه كان بقوله سبحانه (كن) وقيل لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله، وقيل لأن الله بشر به مريم على لسان جبريل، وقيل لأن الله أخبر في كتبه المنزلة على الأنبياء أنه يخلق نبياً من غير واسطة أب فلما جاء قيل هذا هو تلك الكلمة يعني الوعد الذي وعد.

وقال أبو عبيد " بكلمة " أي بكتاب من الله، قال والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة.

ويحيى أول من آمن بعيسى وصدقه وكان أكبر من عيسى بثلاث سنين، وقيل بستة أشهر، قال ابن عباس كان يحيى وعيسى ابني الخالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى في بطن أمه، وهو أول من صدق بعيسى، وقتل يحيى قبل أن يرفع عيسى.

(وسيداً وحصوراً) السيد الذي يسود قومه، قال الزجاج السيد الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير، ويا لها من سيادة ما أسناها، والحصور أصله من الحصر وهو الحبس تقول حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسك، والحصور

ص: 228

الذي لا يأتي النساء كأنه تحجم عنهن كما يقال رجل حصور وحصير إذا حبس رفده ولم يخرجه.

فيحيى عليه السلام كان حصورًا عن إتيان النساء أي محصوراً لا يأتيهن كغيره من الرجال إما لعدم القدرة على ذلك أو لكونه يكف عنهن منعاً لنفسه عن الشهوة مع القدرة، وقال السمين الحصور فعول محول عن فاعل للمبالغة والضروب محول من ضارب، وهو الذي لا يأتي النساء إما لطبعه على ذلك وإما لمخالفة نفسه.

وفي القاموس الحصور من لا يأتي النساء وهو قادر على ذلك، والممنوع منهن أو من لا يشتهيهن ولا يقربهن انتهى.

وقد رجح الثاني بأن المقام مقام مدح وهو لا يكون إلا على أمر مكتسب يقدر فاعله على خلافه لا على ما كان من أصل الخلقة وفي نفس الجبلة.

قال ابن عباس سيداً حليماً تقياً، وقال مجاهد السيد الكريم على الله، وقال ابن المسيب: السيد الفقيه العالم، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان ذكره مثل هدبة الثوب، وأخرجه أحمد في الزهد من وجه آخر عنه موقوفاً وهو أقوى وكان اسم أم يحيى اسيع.

(ونبياً من الصالحين) أي ناشئاً من الصالحين لكونه من نسل الأنبياء وأصلابهم أو كائناً من جملة الصالحين كما في قوله (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) قال الزجاج الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم، وقيل المراد بالصلاح ما فوق الصلاح الذي لابد منه في منصب النبوة قطعاً من أقاصي مراتبه وعليه مبني دعاء سليمان (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) وفيه بعد، لأنه لا صلاح فوق صلاح النبوة.

ص: 229

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)

ص: 230

(قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) ظاهر هذا أن الخطاب منه لله سبحانه، وإن كان الخطاب الواصل إليه هو بواسطة الملائكة، وذلك لمزيد التضرع والجهد في طلب الجواب عن سؤاله، وقيل إنه أراد بالرب جبريل أي يا سيدي.

وقيل في معنى هذا الاستفهام وجهان (أحدهما) أنه سأل هل يرزق هذا الولد من امرأته العاقر أو من غيرها، وقيل معناه بأي سبب أستوجب هذا وأنا وامرأتي على هذه الحال.

والحاصل أنه استبعد حدوث الولد منهما مع كون العادة قاضية بأنه لا يحدث من مثلهما لأنه كان يوم التبشير كبيراً قيل في تسعين سنة، وقيل في عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته في ثمان وتسعين سنة، ولذلك جعل الكبر كالطلب له لكونه طليعة من طلائع الموت، فأسند الفعل إليه، والعاقر التي لا تلد أي ذات عقر على النسب، ولو كان على الفعل لقال عقيرة أي بها عقر يمنعها من الولد.

وإنما وقع منه هذا الاستفهام بعد دعائه بأن يهب الله له ذرية طيبة ومشاهدته لتلك الآية الكبرى في مريم، استعظاماً لقدرة الله سبحانه، لا لمحض الاستبعاد وقيل أنه قد مر بعد دعائه إلى وقت بشارتها أربعون سنة، وقيل عشرون سنة فكان الاستبعاد من هذه الحيثية.

ص: 230

(قال كذلك الله يفعل ما يشاء) من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو إيجاد الولد من الشيخ الكبير والمرأة العاقر.

ص: 231

(قال رب اجعل لي آية) أي علامة أعرف بها صحة الحبل فأتلقى هذه النعمة بالشكر، والجعل هنا بمعنى التصيير أو بمعنى الخلق والإيجاد، وإنما سأل الآية لأن العلوق أمر خفي، فأراد أن يطلع عليه ليتلقى تلك النعمة بالشكر من حين حصولها ولا يؤخره إلى ظهورها المعتاد.

ولعل هذا السؤال وقع بعد البشارة بزمان مديد إذ به يظهر ما ذكر من كون التفاوت بين سن يحيى وعيسى ستة أشهر لأن ظهور العلامة كان عقب طلبها لقوله في سورة مريم (فخرج على قومه من المحراب) الآية قاله أبو السعود.

(قال آيتك أن لا تكلم الناس) أي علامتك أن تحبس لسانك عن تكليم الناس ثلاثة أيام لا عن غيره من الأذكار، وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكر الله سبحانه شكراً على ما أنعم به عليه، وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال، وقيل كان ذلك عقوبة من الله سبحانه له بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه، حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين.

وقيل أن لا تقدر على تكليمهم وتمنع من كلامهم قهراً بحيث لو حاولت الكلام لم تقدر عليه (ثلاثة أيام) بلياليها لقوله تعالى في سورة مريم (ثلاث ليال سوياً)(إلا رمزاً) أي إشارة، والرمز في اللغة الإيماء بالشفتين أو العينين أو الحاجبين أو اليدين وأصله الحركة وهو استثناء منقطع لكون الرمز من غير جنس الكلام ورجحه القاضي.

وقيل هو متصل على معنى أن الكلام ما حصل به الإفهام من لفظ أو إشارة أو كتابة وهو بعيد، والصواب الأول وبه قال الأخفش والكسائي وقيل

ص: 231

أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا، والأول أولى لموافقة أهل اللغة عليه.

(واذكر ربك) أي في مدة الحبسة وعند اللسان عن كلامهم شكراً لهذه النعمة (كثيراً وسبح بالعشي) هو جمع عشية وهي آخر النهار قاله الواحدي، وقيل هو واحد وهو المشهور وهو من حين زوال الشمس إلى أن تغيب، ومنه سميت صلاة الظهر والعصر صلاتي العشاء، وقيل من العصر إلى ذهاب صدر الليل وهو ضعيف (والإبكار) بالكسر مصدر استعمل اسماً للوقت الذي هو البكرة وهو من طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وقيل المراد بالتسبيح الصلاة.

ص: 232

(وإذ قالت الملائكة) عطف على إذ قالت امرأة عمران عطفاً لقصة البنت على قصة أمها لما بينهما من كمال المناسبة، وقصة زكريا وقعت فاصلة بينهما لمناسبة، والمعنى إذ قالت الملائكة مشافهة لها بالكلام. وهذا من باب التربية الروحانية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها بعد التربية الجسمانية اللائقة بحال صغرها.

(يا مريم إن الله اصطفاك) اختارك أولاً حيث قبلك من أمك وقبل تحريرك ولم يسبق ذلك لغيرك من الإناث ورباك في حجر زكريا ورزقك من الجنة (وطهرك) من مسيس الرجال أو الكفر أو من الذنوب أو من الأدناس على عمومها، وكانت مريم لا تحيض أي خلقك مطهرة مما للنساء وبه جزم القاضي كالكشاف، وسيأتي في سورة مريم حاضت قبل حملها بعيسى مرتين.

(واصطفاك) قيل هذا الاصطفاء الأخير غير الاصطفاء الاول، فالأول هو حيث تقبلها بقبول حسن، والأخير لولادة عيسى من غير أب، واصطفاها أيضاً بأن أسمعها كلام الملائكة مشافهة ولم يقع لغيرها ذلك، وقيل الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول والمراد بهما جميعاً واحد (على نساء العالمين) المراد بهن هنا قيل نساء عالم زمانهم وهو الحق، وقيل نساء جميع العالم إلى يوم القيامة واختاره الزجاج.

ص: 232