الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
(195)
(فاستجاب لهم ربهم) الاستجابة بمعنى الإجابة وقيل الإجابة عامة والاستجابة خاصة بإعطاء المسئول، وهذا الفعل يتعدى بنفسه وباللام، يقال استجابه واستجاب له، وإنما ذكر سبحانه الاستجابة وما بعدها في جملة ما لهم من الأوصاف الحسنة لأنها منه، إذ من أجيبت دعوته فقد رفعت درجته.
(أني لا أضيع عمل عامل منكم) أي أعطاهم ما سألوه وقال لهم إني لا أحبط عملكم أيها المؤمنون بل أثيبكم عليه، والمراد بالإضاعة ترك الإثابة (من ذكر أو أنثى)" من " بيانية مؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم.
(بعضكم من بعض) أي رجالكم مثل نسائكم في ثواب الطاعة والعقاب ونساؤكم مثل رجالكم فيهما، وقيل في الدين والنصرة والموالاة، والأول أولى، والجملة معترضة أو مستأنفة لبيان كون كل منهما من الآخر ما أجمل في قوله (إني لا أضيع عمل عامل منكم).
(فالذين هاجروا) من أوطانهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزمخشري: هذا تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم، قال الكرخي: والظاهر أن هذه الجمل التي بعد الموصول كلها صفات له، فلا يكون الجزاء إلا لمن جمع هذه الصفات، ويجوز أن يكون ذلك على التنويع؛ وقد يكون حذف الموصولات
لفهم المعنى فيكون الخبر بقوله لأكفرن عن كل من اتصف بواحدة من هذه الصفات (1).
(وأخرجوا من ديارهم) في طاعة الله عز وجل (وأوذوا في سبيلي) آذاهم المشركون بسبب إسلامهم وهم المهاجرون (وقاتلوا) أعداء الله (وقتلوا) في سبيل الله، وقرىء قتلوا على التكثير وقرىء وقتلوا وقاتلوا، وأصل الواو لمطلق الجمع بلا ترتيب كما قال به الجمهور، والمراد هنا أنهم قاتلوا وقتل بعضهم، والسبيل الدين الحق والمراد هنا ما نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله وعملهم بما شرعه الله لعباده.
(لأكفرنّ عنهم سيّآتهم) أي والله لأغفرنها لهم (ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله) يعني تكفير سيآتهم وإدخالهم الجنة (والله عنده حسن الثواب) وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله، من ثاب يثوب إذا رجع (2)، وقد ورد في فضل الهجرة أحاديث كثيرة.
(1) روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فنزلت هذه الآية.
رواه ابن جرير الطبري 7/ 195.
رواه الحاكم في المستدرك 2/ 300 وقال صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2)
زاد المسير/531.
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد تثبيته على ما هو عليه كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) أو خطاب لكل أحد؛ وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار؛ بعد ذكر حسن حال المؤمنين، والمعنى لا يغرنك؛ ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم، والتقلب في البلاد الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة، قال السدي: يعني ضربهم فيها وقال عكرمة تقلب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النعم.
(متاع قليل) يتمتعون به يسيراً في هذه الدار ويفنى وهو متاع نزر لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه، والمتاع ما يعجل الانتفاع به، وسماه قليلاً لأنه فان؛ وكل فإن وإن كان كثيراً فهو قليل.
(ثم مأواهم) أي ما يأوون إليه (جهنم وبئس المهاد) ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم أو ما مهد الله لهم من النار؛ فالمخصوص محذوف وهو هذا المقدر؛ قال ابن عباس: بئس المنزل.
(لكن الذين اتقوا ربهم) وقعت " لكن " هنا أحسن موقع فإنها وقعت بين ضدين وذلك أن معنى الجملتين التي قبلها والتي بعدها آيل إلى تعذيب الكفار وتنعيم المتقين، وهو استدراك مما تقدمه لأن معناه معنى النفي كأنه قال ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع، لكن الذين اتقوا وإن أخذوا في التجارة لا يضرهم ذلك وإن لهم ما وعدهم به.
وفي الشهاب وجه الاستدراك أنه رد على الكفار فيما يتوهمون من أنهم ينعمون، وأن المؤمنين في عناء ومشقة، فقال ليس الأمر كما توهمتم فإن المؤمنين لا عناء لهم إذا نظر إلى ما أعد لهم عند الله، أو أنه لما ذكر تنعمهم بتقلبهم في البلاد، أوهم أن الله لا ينعم المؤمنين، فاستدرك عليه بأن ما هم فيه عين النعيم لأنه سبب لما بعده من النعم الجسام (1).
(لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي مقدرين الخلود (نزلاً) النزل ما يهيّأ للنزيل ويعد للضيف، والجمع أنزال ثم اتسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء وإن لم يكن ضيف، ومنه (فنزل من حميم) وهو مصدر مؤكد عند البصريين أو جمع نازل، وقال الهروي ثواباً (من عند الله) وقيل إكراماً من الله لهم أعدها لهم كما يعد القرى للضيف إكراماً.
(وما عند الله) مما عده لمن أطاعه (خير) للتفضيل وهو ظاهر (للأبرار) مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار، فإنه متاع قليل عن قريب يزول.
عن ابن عمر قال إنما سماهم أبراراً لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالدك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق وروى هذا مرفوعاً والأول أصح قاله السيوطي، وقال ابن زيد خير لمن يطيع الله.
(1) روى ابن الجوزي في تفسيره سبباً لنزول هذه الآية:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستلف من بعضهم (اليهود) شعيراً فأبى إلا على رهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أعطاني لأوفيته إني لأمين في السماء أمين في الأرض ".
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
(وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم) هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظ من الدين وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق وفيما سيأتي، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله وبما أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم (خاشعين لله لا يشترون) تصريح بمخالفتهم للمحرفين والجملة حال (بآيات الله) التي عندهم في التوراة والإنجيل (ثمناً قليلاً) من الدنيا بالتحريف والتبديل كما يفعله سائرهم بل يحكون كتاب الله كما هو.
(أولئك) أي هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة (لهم أجرهم) الذي وعدهم الله سبحانه بقوله (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم (عند ربهم) يوفيه إليهم يوم القيامة.
أخرج النسائي والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس قال: لما مات النجاشي قال صلى الله عليه وسلم " صلوا عليه " قالوا يا رسول الله نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله، يعني هذه الآية (1)، وفي الباب أحاديث.
(1) ابن كثير 1/ 441. رواه ابن جرير 7/ 497 وإسناده ضعيف وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى على النجاشي صلاة الجنازة الغائبة وهي ثابتة صحيحة.
وقال مجاهد: هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وعن الحسن قال هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم.
(إن الله سريع الحساب) يحاسب الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا فيجازي كل أحد على قدر عمله لنفوذ علمه في كل شيء، والمراد سرعة وصول الأجر الموعود به إليهم.
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا) هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه (إن في خلق السموات) ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا والآخرة؛ فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر حبس النفس؛ وقد تقدم تحقيق معناه وهو لفظ عام تحته أنواع من المعاني، وقد خصه بعضهم بالصبر على طاعة الله، وقيل على أداء الفرائض وقيل على تلاوة القرآن؛ وقيل على أمر الله ونهيه؛ وقيل على الجهاد؛ وقيل على البلاء وقيل على أحكام الكتاب والسنة، واللفظ أوسع من ذلك.
(وصابروا) المصابرة مصابرة الأعداء قاله الجمهور أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، ولا تكونوا أضعف فيكونوا أشد منكم صبراً وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر لكونها أشد منه وأشق وأكمل وأفضل من الصبر على ما سواه، فهو كعطف الصلاة الوسطى على الصلوات، وقيل المعنى صابروا على الصلوات وقيل صابروا الأنفس عن شهواتها، وقيل صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا والقول الأول هو المعنى العربي.
وقد روى عن السلف غير هذا في قصر الصبر على نوع من أنواع الطاعات والمصابرة على نوع آخر، ولا تقوم بذلك حجة، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي وقد قدمناه.
(ورابطوا) أي أقيموا في الثغور مرابطين خيلكم فيها كما يربطها أعداؤكم، وهذا قول جمهور المفسرين، وعن محمد بن كعب القرظي قال: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوي وعدوكم.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، والرباط اللغوي هو الأول، ولا ينافيه تسميته صلى الله عليه وسلم لغيره رباطاً، ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول وعلى انتظار الصلاة، قال الخليل: الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة، وهكذا قال وهو من أئمة اللغة.
وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال: يقال ماء مترابط دائم لا يبرح، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور، قال الخازن كل مقيم بثغر يدفع عمن وراءه وإن لم يكن له مركوب مربوط.
وعن أبي هريرة: قال أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلوات في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها.
وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط (1) ".
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط، وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله، وهو يرد ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى الرباط في سبيل الله وهو الجهاد، فيحمل ما في الآية عليه.
(1) مسلم 251.
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمى حراسة الجيش رباطاً فأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أجر الرابط فقال: من رابط ليلة حارساً من وراء السلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى (1).
(واتقوا الله) في جميع أحوالكم، ولا تخالفوا ما شرعه لكم (لعلكم تفلحون) أي تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل الكروب.
وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر هذه السورة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أخرجه ابن السني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة، وفي إسناده مظاهر بن أسلم وهو ضعيف (2).
ومن حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ هذه العشر الآيات لما استيقظ، وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام الليلة.
تمت بعون الله سورة آل عمران
(1) صحيح الجامع الصغير 6135. زاد المسير 534.
(2)
ابن كثير 1/ 441.
خاتمة الجزء الثاني
تم بعون الله سبحانه وتعالى الجزء الثاني من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الثالث وأوله تفسير سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا.