الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
(185)
(كل نفس ذائقة الموت) من الذوق وهذه الآية تتضمن الوعد والوعيد للمصدق والمكذب بعد إخباره عن الباخلين القائلين أن الله فقير ونحن أغنياء، وقرىء ذائقة الموت بالتنوين ونصب الموت، وقرأ الجمهور بالإضافة.
والمعنى ذائقة موت أجسادها إذ النفس لا تموت، ولو ماتت لما ذاقت الموت في حال موتها. لأن الحياة شرط في الذوق وسائر الإدراكات، وقوله تعالى:(الله يتوفى الأنفس حين موتها) معناه حين موت أجسادها، قاله الكرخي.
وهذا يقتضي أن المراد بالنفس هنا الروح، والحامل له على تفسيرها بذلك التأنيث في قوله ذائقة لأنها بمعنى الروح مؤنثة وتطلق أيضاً على مجموع الجسد والروح الذي هو الحيوان، وهي بهذا المعنى مذكر، وهذا المعنى الثاني تصح إرادته هنا أيضاً بل هو الأقرب المتبادر إلى الفهم.
(وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة) أجر المؤمن الثواب وأجر الكافر العقاب أي أن توفية الأجور وتكميلها على التمام إنما يكون في ذلك اليوم، وما يقع من الأجور في الدنيا أو في البرزخ فإنما هو بعض الأجور كما ينبىء عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران (1).
(فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) الزحزحة التنحية والإبعاد تكرير الزحّ وهو الجذب بعجلة، قاله في الكشاف، وقد سبق الكلام عليه أي فمن بعد عن النار يومئذ ونحّى فقد ظفر بما يريد ونجا مما يخاف، ونال غاية مطلوبه.
(1) الترمذي كتاب القيامة الباب 26.
وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه. فإن كل فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة إليها إلا رؤية الله سبحانه وتعالى فهو أفضل نعيم الآخرة في الجنة، اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة ولا عيش إلا عيشها ولا نعيم إلا نعيمها فاغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وارض عنا رضاً لا سخط بعده، واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، إقرؤوا إن شئتم (فمن زحزح عن النار إلى قوله الغرور) أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه وغيرهما (1).
(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) المتاع كل ما يتمتع به الإنسان وينتفع به ثم يزول ولا يبقى كذا قال أكثر المفسرين، وقيل المتاع كالفاس والقدر والقصعة ونحوها، والأول أولى، والغرور إما مصدر أو جمع غار، وقيل ما يغر الإنسان مما لا يدوم وقيل الباطل، والغرور الشيطان يغر الناس بالأماني الباطلة والمواعيد الكاذبة.
شبّه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلّس به على من يريده وله ظاهر محبوب، وباطن مكروه، قيل متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم، قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة فأما من اشتغل بطلبها فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منها.
(1) روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئتم: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) ورواه أحمد في " المسند "، والترمذي، والحاكم في " المستدرك " وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وروى الإمام أحمد في " المسند " رقم 6807، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ". ورواه الإمام مسلم بأطول منه.
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم) اللام لام القسم أي والله لتبونّ، هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته تسلية لهم بما سيلقونه من الكفرة والفسقة ليوطّنوا أنفسهم على الثبات والصبر على المكاره، والابتلاء الامتحان والاختبار، والمعنى لتمتحننّ ولتختبرنّ في أموالكم بالمصايب والإنفاقات الواجبة وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب والقتل في سبيل الله.
(ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) قال الزهري: الذين أوتوا الكتاب هو كعب بن الأشرف وكان يحرض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في شعره، وعن ابن جريج قال: يعني اليهود والنصارى. فكان المسلمون يسمعون من اليهود عزيز ابن الله ومن النصارى المسيح ابن الله.
(ومن الذين أشركوا) سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب (أذى كثيراً) من الطعن في دينكم وأعراضكم. وزاد السيوطي والتشبيب بنسائكم، قاله في الجمل، هو ذكر أوصاف الجمال وكان يفعل ذلك كعب بن الأشرف بنساء المؤمنين.
(وإن تصبروا وتتّقوا) الصبر عبارة عن احتمال الأذى والمكروه والتقوى عن الاحتراز عما لا ينبغي (فإن ذلك) الصبر والتقوى المدلول عليهما بالفعلين وأشار بما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوّ درجتهما وبعد منزلتهما وتوحيد حرف الخطاب إمّا باعتبار كل واحد من المخاطبين، وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير ملاحظة خصوصية أحوال المخاطبين.
(من عزم الأمور) معزوماتها التي يتنافس فيها المتنافسون، أي مما يجب عليكم أن تعزموا عليه لما فيه من كمال المزيّة والشرف، أو لكونه عزمة من عزمات الله التي أوجب عليكم القيام بها، يقال عزم الأمر أي شده وأصلحه، وأصله ثبات الرأي على الشيء إلى إمضائه.
وقالى المرزوقي: إنه توطين النفس عند الفكر، والمراد أن يوطدوا أنفسهم على الصبر، فإن العالم بنزول البلاء عليه لا يعظم وقعه في قلبه بخلاف غير العالم فإنه يعظم عنده ويشق عليه.
وقالى ابن جريج: أي من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به، والحاصل أن المصدر بمعنى اسم المفعول قال التفتازاني: إما معزوم العبد بمعنى أنه يجب عليه العزم والتصميم عليه أو معزوم الله لمعنى عزم الله أي أراد الله وفرض أن يكون ذلك ويحصل.
(وإذ أخذ الله) كلام مستأنف سيق لبيان بعض أذيّاتهم وهو كتمانهم شواهد النبوة (ميثاق الذين أوتوا الكتاب) هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أو اليهود فقط على الخلاف في ذلك، والظاهر أن المراد بأهل الكتاب كل من أتاه الله علم شيء من الكتاب أي كتاب كان كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب.
قال الحسن وقتادة: إن الآية عامة لكل عالم، وكذا قال محمد بن كعب، ويدل على ذلك قول أبي هريرة لولا ما أخذه الله على أهل الكتاب ما حدّثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية.
والضمير في قوله (لتبيّننّه) راجع إلى الكتاب وقيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يتقدم له ذكر لأنّ الله أخذ على اليهود والنصارى أن يبينوا نبوته، وهذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم كأنه قيل لهم بالله لتبيننه، وقرىء بالياء جرياً على الإسم الظاهر، وهو كالغائب وبالتاء خطاباً على الحكاية تقديره وقلنا لهم.
(للناس ولا تكتمونه) أي الكتاب بالياء والتاء والواو للحال أو للعطف، والنهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان إما للمبالغة في إيجاب الأمور به، وإما لأن المراد بالبيان ذكر الآيات الناطقة بنبوته، وبالكتمان القاء التأويلات الزائغة والشّبه الباطلة.
(فنبذوه) أي الكتاب أو الميثاق، وقرأ ابن عباس:(وإذ أخذ الله ميثاق النّبيين لتبينه)، ويشكل على هذه القراءة قوله (فنبذوه) فلا بد أن يكون فاعله الناس والنّبذ الطرح وقد تقدم في البقرة.
وقوله (وراء ظهورهم) مبالغة في النبذ والطرح وترك العمل وضياعه، ومثّل في الاستهانة به والأعراض عنه بالكلية (واشتروا به) أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه (ثمناً قليلا) أي حقيراً يسيراً من حطام الدنيا وأعراضها والمآكل، والرّشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم وسفلتهم برياستهم في العلم فكتموه خوف فوته عليهم (فبئس ما يشترون) أي بئس شيئاً ما يشترونه بذلك الثمن.
وعن ابن عباس قال: كان الله أمرهم أن يتبعوا النبي الأمي، وعنه قال: في التوراة والإنجيل أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده، وأن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل فنبذوه.
وعن قتادة في الآية قال: هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم علماً فليعلمه الناس، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، وعن الحسن قال: لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.
وظاهر هذه الآية وإن كان مخصوصاً بعلماء أهل الكتاب فلا يبعد أن يدخل فيه علماء هذه الأمة الإسلامية لأنهم أهل كتاب هو القرآن، قال قتادة: طوبى لعالم ناطق ومستمع واع، هذا علم علماً فبذله، وهذا سمع خيراً فقبله ووعاه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سئل علماً يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار، أخرجه الترمذي ولأبي داود من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة (1)، وفي الباب أخبار وآثار كثيرة.
(1) قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: هذا توبيخ من الله تعالى وتهديد لأهل الكتاب، الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تعالى تابعوه، فكتموا ذلك، وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلم بهم مسلكهم. فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئاً، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من سئل عن علم فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار ". وهذا الحديث الذي استشهد به ابن كثير أخرجه أحمد وأبو داود، وابن ماجه، وأبو يعلى، والترمذي، وحسنه، والحاكم وصححه، والبيهقي من حديث أبي هريرة به مرفوعاً، وهو عند الحاكم أيضاً وغيره عن ابن عمرو، وعند ابن ماجه وأبي سعيد، وعند الطبراني من حديث ابن عباس وابن عمر وابن مسعود، وهو حديث صحيح.
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
(لا تحسبن الذين يفرحون) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له قرىء بالتاء والياء وهما سبعيتان (بما أتوا) أي بما فعلوا من إضلال الناس، وقد اختلف في سبب نزولها كما سيأتي (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) من التمسك بالحق وهم على ضلال، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته هذه الآية عملاً بعموم اللفظ وهو المعتبر لا بخصوص السبب، فمن فرح بما فعل، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل.
(فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) وقرىء بالتحتية أى لا يحسبن الفارحون فرحهم منجياً لهم من العذاب، والمفازة المنجاة مفعلة من فاز يفوز إذا نجا أي ليسوا بفائزين، سمّي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعي، وقيل لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب فوز الرجل إذا هلك.
وقال ثعلب. حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت مفازة لأن من قطعها فاز وقال ابن الأعرابي: بل لأنه مستسلم لما أصابه، وقيل المعنى لا تحسبنهم بمكان بعيد عن العذاب، لأن الفوز التباعد عن المكروه بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم.
(ولهم عذاب أليم) يعني مؤلم في الآخرة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال ابن عباس سألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد
أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوه بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.
وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وقد روى أنها نزلت في فنحاص وأسيع وأشباههما، وروي أنها نزلت في اليهود.
(ولله ملك السموات والأرض) قال الخطيب فهو يملك أمرهما وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها انتهى، والملك بالضم تمام القدرة واستحكامها، والمعنى ولله ملك خزائن السموات والأرض يتصرف فيه كيف يشاء، وفيه تكذيب لمن قال إن الله فقير ونحن أغنياء، فمن كان له جميع ما فيهما كيف يكون فقيراً.
(والله على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء، ومنه تعذيب الكافرين وإنجاد المؤمنين.
(إن في خلق السموات والأرض) هذه جملة مستأنفة لتقرير اختصاصه سبحانه بما ذكره فيها والمراد ذات السموات والأرض وصفاتهما وما فيهما من العجائب (واختلاف الليل والنهار) تعاقبهما بالمجيء والذهاب وكون كل واحد منهما يخلف الآخر، وكون زيادة أحدهما في نقصان الآخر وتفاوتهما طولاً وقصراً وحراً وبرداً وغير ذلك.
(لآيات) أي دلالات واضحة وبراهين بينة تدل على الخالق سبحانه، وقد تقدم تفسير بعض ما هنا في سورة البقرة (لأولي الألباب) أي لأهل العقول الصحيحة الخالصة عن شوائب النقص، فإن مجرد التفكر فيما قصه الله تعالى في هذه الآية يكفي العاقل ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبهة ولا يدفعه التشكيك.
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
(الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) المراد بالذكر هنا ذكره سبحانه في هذه الأحوال من غير فرق بين حال الصلاة وغيرها، وذهب جماعة من المفسرين إلى أن الذكر هنا عبارة عن الصلاة وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس وقتادة أي لا يضيعونها في حال من الأحوال فيصلونها قياماً مع عدم العذر، وقعوداً وعلى جنوبهم مع العذر، وعن ابن مسعود قال: إنما هذه في الصلاة إذا لم يستطع قائماً فقاعداً، وإن لم يستطع قاعداً فعلى جنبه.
وقد ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين قال كانت لي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب (1).
وثبت فيه عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال: من صلّى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد (2).
وعن قتادة قال: هذه حالاتك كلها يا ابن آدم، اذكر الله وأنت قائم فإن لم تستطع فاذكره جالساً فإن لم تستطع جالساً فاذكره وأنت على جنبك، يسر من الله وتخفيف.
وأقول هذا التقييد الذي ذكره بعدم الاستطاعة مع تعميم الذكر لا وجه له لا من الآية ولا من غيرها فإنه لم يرد في شيء من الكتاب ولا من السنة ما يدل على أنه لا يجوز الذكر من قعود إلا مع عدم استطاعة الذكر من قيام، ولا
(1) صحيح الجامع الصغير 3672.
(2)
صحيح الجامع الصغير 6239.
يجوز على جنب إلا مع عدم استطاعته من قعود، وإنما يصلح هذا التقييد لمن جعل المراد بالذكر هنا الصلاة كما سبق عن ابن مسعود وغيره.
(ويتفكّرون في خلق السموات والأرض) أي في بديع صنعهما وإتقانهما مع عظم أجرامهما فإن هذا الفكر إذا كان صادقاً أوصلهم إلى الإيمان بالله سبحانه، وعن عائشة مرفوعاً: ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها، وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في استحباب التفكر مطلقاً.
ويقولون (ربّنا ما خلقت هذا) الخلق الذي نراه (باطلاً) أي عبثاً ولهواً بل خلقته دليلاً على حكمتك ووحدانيتك وقدرتك. والباطل الزائل الذاهب، وخلق بمعنى جعل والإشارة بقوله " هذا " إلى السموات والأرض أو إلى الخلق على أنه بمعنى المخلوق.
(سبحانك) تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلاً وهزلاً وعبثاً، والفاء في (فقنا) لترتيب هذا الدعاء على ما قبله (عذاب النار) علم عباده كيفية الدعاء، فمن أراد أن يدعو فليقدم الثناء على الله أولاً ثم يأتي بالدعاء.
(ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) تأكيد لما تقدمه من استدعاء الوقاية من النار منه سبحانه، وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار، وهو أن من أدخله النار فقد أخزاه أي أذله وأهانه. وقال المفضل: معنى أخزيته أهلكته، ويقال معناه فضحته وأبعدته.
يقال أخزاه الله أبعده ومقته، والاسم الخزي، قال ابن السكيت، خزى يخزي خزياً إذا وقع في بلية، وعن أنس قال:" من تدخل النار " من تخلد، وعن سعيد بن المسيب قال هذه خاصة لمن لا يخرج منها.
(وما للظالمين) المشركين، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بتخصيص الخزي بهم (من) زائدة (أنصار) ينصرونهم يوم القيامة ويمنعونهم من العذاب.
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
(ربنا إننا سمعنا منادياً) هو عند أكثر المفسرين النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل هو القرآن، وأوقع السماع على المنادي مع كون المسموع هو النداء لأنه قد وصف المنادي بما يسمع وهو قوله (ينادي) قال أبو علي الفارسي. ذكره مع أنه قد فهم من قوله منادياً لقصد التأكيد والتفخيم لشأن هذا المنادى به (للإيمان) اللام بمعنى إلى وقيل للعلة أى لأجله (أن آمنوا بربكم فآمنا) أي امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من الإيمان.
وتكرير النداء في قوله (ربنا) لإظهار التضرع والخضوع (فاغفر لنا) الفاء لترتيب المغفرة والدعاء بها على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيّته، فإن ذلك من دواعي المغفرة والدعاء بها (ذنوبنا وكفر) حط (عنا سيآتنا) قيل المراد بالذنوب هنا الكبائر وبالسيآت الصغائر، والظاهر عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين والآخر بالآخر بل يكون المعنى في الذنوب والسيآت واحداً، والتكرير للمبالغة والتأكيد كما أن معنى الغفر والكفر الستر.
(وتوفنا مع الأبرار) جمع بار أو بر، وأصله من الاتساع وكأن البار متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمته، قيل هم الأنبياء ومعنى اللفظ أوسع من ذلك أي معدودين ومحسوبين في جملتهم، أو المراد في سلكهم على سبيل الكناية أو أن مع بمعنى (على) أي على أعمال الأبرار أو محشورين معهم.
(ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) هذا دعاء آخر، والنكتة في تكرير النداء ما تقدم والموعود به على ألسن الرسل هو الثواب الذي وعد الله به أهل
طاعته، ففي الكلام حذف وهو لفظ الألسن كقوله:(واسأل القرية) وقيل المحذوف التصديق أي ما وعدتنا على تصديق رسلك، وقيل ما وعدتنا منزّلاً على رسلك ومحمولاً على رسلك.
ولا يخفى أن تقدير الأفعال الخاصة في مثل هذه المواقع تعسف، فالأول أولى. وصدور هذا الدعاء منهم مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا محالة إما لقصد التعجيل أو للخضوع بالدعاء لكونه مخ العبادة.
(ولا تخزنا) لا تفضحنا ولا تهنا (يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) فيه دليل على أنهم لم يخافوا خلف الوعد، وأن الحامل لهم على الدعاء هو ما ذكرنا (1).
(1) إن قيل: ما وجه قولهم: " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد؛ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول. أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وُعد بذلك دون الخزي والعقاب.
الثاني: أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع، والدعاء مخ العبادة. وهذا كقوله:" قل رب أحكم بالحق " وإن كان هو لا يقضي إلا بالحق.
الثالث: سألوا أن يعطوا ما وعدوا به من النصر على عدوهم معجلاً؛ لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه ذلك إعزازاً للدين. والله أعلم. وروى أنس ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما وعده الله عز وجل على عمل ثواباً فهو منجز له رحمة ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار ". والعرب تذم بالمخالفة في الوعد وتمدح بذلك في الوعيد؛ حتى قال قائلهم:
ولا يرهب ابن العتم ما عشت صولتي
…
ولا اختفي من خشية المتهدد
وإني متى أوعدته أو وعدته
…
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي