المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ - فتح البيان في مقاصد القرآن - جـ ٢

[صديق حسن خان]

الفصل: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

ص: 233

(يا مريم اقنتي لربك) أي أطيلي القيام في الصلاة أو ادعيه ودومي على طاعته بأنواع الطاعات، وقد تقدم الكلام في معاني القنوت (واسجدي واركعي مع الراكعين) أي صلي مع المصلين، أطلق الجزء وأراد الكل وقدم السجود على الركوع لكونه أفضل أو لكون صلاتهم لا ترتيب فيها مع كون الواو لمجرد الجمع بلا ترتيب، والظاهر أن ركوعها مع ركوعهم فيدل على مشروعية صلاة الجماعة، وقيل المعنى أنها تفعل كفعلهم وإن لم تصل معهم، قال الأوزاعي لما قالت الملائكة لها ذلك شفاها قامت حتى تورمت قدماها وسالت دماً وقيحاً، وحكي عن مجاهد نحوه.

وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث علي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد (1) " وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون (2) ".

وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت

(1) مسلم 2‌

‌43

0، البخاري 1602.

(2)

كتاب التاريخ 2/ 594.

ص: 233

عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام (1).

وفي المعنى أحاديث كثيرة تفيد أن مريم عليها السلام سيدة نساء عالمها لا نساء العالم، ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال أربع نسوة سادات نساء عالمهن مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضلهن عالما فاطمة.

(1) مسلم 2431، البخاري 1606.

ص: 234

(ذلك من أنباء الغيب) أي أخبار ما غاب عنك، فالإشارة إلى ما سبق من الأمور التي أخبره الله بها (نوحيه إليك) هو أي الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ونظهرك على قصص من تقدم مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في (نوحيه) وهذا أحسن من عوده على (ذلك)، وقال أبو السعود: صيغة الاستقبال للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد،

انتهى، والوحي في اللغة الإعلام في خفاء، يقال وحى وأوحى بمعنى، قال ابن فارس: الوحي الإشارة والكتابة والرسالة وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه.

(وما كنت لديهم) أي بحضرتهم يعني المتنازعين في تربية مريم، وإنما نفى حضوره عندهم مع كونه معلوماً لأنهم أنكروا الوحي، فلو كان ذلك الإنكار صحيحاً لم يبق طريق للعلم به إلا المشاهدة والحضور وهم لا يدعون ذلك، فثبت كونه وحياً مع تسليمهم أنه ليس ممن يقرأ التوراة ولا من يلابس أهلها.

(إذ يلقون أقلامهم) في الماء يقترعون، والأقلام جمع قلم من قلمه إذا قطعه وهو فعل بمعنى مفعول أي مقلوم، والقلم القطع ومنه قلمت ظفري أي

ص: 234

قطعته وسويته، ومثله القبض والنقض بمعنى المقبوض والمنقوض، أي أقلامهم التي يكتبون بها، وقيل قداحهم ليعلموا (أيهم يكفل مريم) أي يربي، وذلك عند اختصامهم في كفالتها كما قال تعالى (وما كنت لديهم إذ يختصمون) كفالتها، فقال زكريا هو أحق بها لكون خالتها عنده، فاقترعوا وجعلوا أقلامهم في الماء الجاري على أن من وقف قلمه ولم يجر مع الماء فهو صاحبها، فجرت أقلامهم، ووقف قلم زكريا.

وقد استدل بهذا من أثبت القرعة، والخلاف في ذلك معروف وقد ثبتت أحاديث صحيحة في اعتبارها، وذكر الشوكاني في نيل الأوطار أن القرعة وردت في خمسة مواضع ثم عددها.

ص: 235

(إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) أي كائنة من عنده وناشئة منه من غير واسطة الأسباب العادية وهي ولد يولد لك من غير بعل ولا فحل، وسمى كلمة لأنه وجد بكلمة (كن) فهو من باب إطلاق السبب على المسبب.

وفي أبي السعود في سورة النساء: يحكى أن طبيباً حاذقاً نصرانياً جاء للرشيد فناظر علي بن الحسين الواقدي ذات يوم فقال له إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى جزء من الله وتلا هذه الآية أي قوله (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) وقال إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءاً منه سبحانه، فانقطع النصراني وأسلم، وفرح الرشيد فرحاً شديداً، وأعطى للواقدي صلة فاخرة.

وذلك الولد (اسمه المسيح عيسى ابن مريم) المسيح اختلف فيه من ماذا أخذ فقيل من المسح لأنه مسح الأرض أي ذهب فيها فلم يستكن بكن، وقيل إنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء فسمي مسيحاً، فهو على هذين فعيل بمعنى فاعل، وقيل لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به، وقيل إنه كان ممسوح الأخمصين، وقيل لأن الجمال مسحه وقيل لأنه مسح بالتطهير من

ص: 235

الذنوب، وهو على هذه الأربعة الأقوال فعيل بمعنى مفعول.

وقال أبو الهيثم المسح ضد المسخ بالخاء المعجمة، وقال ابن الأعرابي المسيح الصديق، وقال أبو عبيد أصله بالعبرانية مشيخاً بالمعجمتين فعرب كما عرب موشى بموسى، وقال في الكشاف هو لقب من الألقاب المشرفة ومعناه باللغة العبرية المبارك.

وأما الدجال فسمى مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينين، وقيل لأنه يمسح الأرض أي يطوف بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس.

وعيسى هو اسم أعجمي مأخوذ من العيس وهو بياض تعلوه حمرة، وقيل هو عربي مشتق من عاسه يعوسه إذا ساسه، وقال في الكشاف هو معرب من ايشوع انتهى.

والذي رأيناه في الإنجيل في مواضع أن اسمه يشوع بدون همزة، وإنما قيل إن مريم مع أن الخطاب معها تنبيهاً على أنه يولد من غير أب فنسب إلى أمه.

فإن قلت هذه ثلاثة أشياء الاسم والكنية واللقب، قلت المراد اسمه الذي يتميز به عن غيره وهو لا يتميز إلا بمجموع الثلاثة، وبهذا تعلم أن الخبر عن اسمه إنما هو مجموع الثلاثة من حيث المعنى لا كل واحد منهما على حياله، فهذا على حد: الرمان حلو حامض.

وقال " ابن مريم " ولم يقل ابنك كما هو الظاهر إشارة إلى أنه يكنى بهذه الكنية المشتملة على الإضافة للظاهر وخاطبها بنسبته إليها تنبيهاً على أنها تلده بلا أب إذ عادة الناس نسبتهم إلى آبائهم، فأعلمت من نسبته إليها أنه لا ينسب إلا إلى أمه.

(وجيهاً في الدنيا والآخرة) الوجيه ذو الوجاهة وهي القوة والمنعة ووجاهته في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة (ومن المقربين) عند الله يوم القيامة، وفيه تنبيه على علو منزلته وأنه رفعه إلى السماء.

ص: 236

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

ص: 237

(ويكلم الناس في المهد وكهلاً) المهد مضجع الصبي في رضاعه، قاله ابن عباس ومهدت الأمر هيأته ووطأته، والكهل هو من كان بين سن الشباب والشيخوخة أي يكلم الناس حال كونه رضيعاً في المهد قبل وقت الكلام، وحال كونه كهلاً بالوحي والرسالة، قاله الزجاج.

وقد ثبت في الصحيح أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة منهم عيسى، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتكلم في المهد إلا عيسى وشاهد يوسف وصاحب جريج وابن ماشطة فرعون (1).

وقال الخفاجي: الذين تكلموا في المهد أحد عشر نظمهم الجلال السيوطي في قوله:

تكلم في المهد النبي محمد (2)

ويحيى وعيسى والخليل ومريم

ومبري جريج ثم شاهد يوسف

وطفل لدى الأخذوذ يرويه مسلم

وطفل عليه مر بالأمة التي

يقال لها تزنى ولا تتكلم

وماشطة في عهد فرعون طفلها

وفي زمن الهادي المبارك يختم

انتهى، وقال قتادة في المهد وكهلاً يعني يكلمهم صغيراً وكبيراً، قال ابن عباس الكهل هو من في سن الكهولة، وعن مجاهد قال الكهل الحليم.

(1) مسلم 2550، البخاري 653.

(2)

هذا وأكثر ما يذكر في هذه الأبيات لا يصح.

ص: 237

وعن ابن عباس قال تكلم عيسى ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق والذي تكلم به هو قوله (إني عبد الله آتاني الكتاب) الآية وتكلم ببراءة أمه عما رماها به أهل القرية من القذف.

قال ابن قتيبة لما كان لعيسى ثلاثون سنة أرسله الله فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله، وقال وهب مكث ثلاث سنين.

قيل وفي الآية بشارة لمريم بأنه يبقى حتى يكتهل، وفيه أنه يتغير من حال إلى حال، ولو كان إلهاً لم يدخل عليه التغير، ففيه رد على النصارى، وقال الحسن ابن الفضل يكلم الناس كهلاً بعد نزوله من السماء، وفيه نص على أنه سينزل من السماء إلى الأرض.

(ومن) العباد (الصالحين) مثل إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب وموسى وغيرهم من الأنبياء، وإنما ختم أوصافه بالصلاح لأنه لا يسمى المرء صالحاً حتى يكون مواظباً على النهج الأصلح والطريق الأكمل في جميع أحواله، وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح، ولهذا قال سليمان بعد النبوة وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.

ص: 238

(قالت) على طريقة الاستبعاد العادي (رب أنىّ) كيف (يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) أي والحال أنه على حالة منافيه للحالة المعتادة من كون له أب ولم يصبني رجل بتزوج ولا غيره.

(قال كذلك الله يخلق ما يشاء) يعني هكذا يخلق الله منك ولداً من غير أن يمسك بشر، وعبر هنا بالخلق وفي قصة يحيى بالفعل لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ، فكان الخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل.

(إذا قضى أمراً) هو من كلام الله سبحانه وأصل القضاء الأحكام وقد تقدم وهو هنا الإرادة أي إذا أراد أمراً من الأمور (فإنما يقول له كن فيكون) من غير عمل ولا مزاولة وهو تمثيل لكمال قدرته.

ص: 238

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

ص: 239

(ويعلمه) بالنون والياء وعلى كلتا القراءتين هو كلام مستأنف لأن النحاة وأهل البيان نصوا على أن الواو تكون للاستئناف أو عطف على يبشرك أو وجيهاً، وقال التفتازاني إنما يحسنان بعض الحسن على قراءة الياء، وأما على قراءة النون فلا يحسن إلا بتقدير القول أي إن الله يبشرك بعيسى ويقول نعلمه أو وجيهاً، ومقولاً فيه نعلمه.

(الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) الكتاب الكتابة أو جنس الكتب الإلهية قال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، وكان أحسن الناس خطاً، والحكمة العمل، وقيل تهذيب الأخلاق.

ص: 239

(ورسولاً إلى بني إسرائيل) أي ويجعله رسولاً أو يكلمهم رسولاً أو أرسلت رسولاً إليهم في الصبا أو بعد البلوغ، وفي حديث أبي ذر الطويل " وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى ".

(أني قد جئتكم بآية من ربكم) يعني بعلامة على صدق قولي، ولما قال ذلك لهم قالوا وما هذه الآية قال (أني أخلق) أي أصور وأقدر (لكم) خلقاً أو شيئاً (من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه) أي في ذلك الخلق أو ذلك الشيء أو في الطين، قيل: إنه لم يخلق غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة فإن له ناباً وأسناناً وأذناً، والأنثى منه له ثدي، وتحيض وتطهر وتطير.

قيل: إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة، ولكونه

ص: 239

يطير بغير ريش ويلد كما يلد سائر الحيوان مع كونه من الطير ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة، وهو يضحك كما يضحك الإنسان.

وقيل: إن سؤالهم له كان على وجه التعنت، قيل كان يطير ما دام الناس ينظرونه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الله من فعل غيره، قال ابن عباس " إنما خلق عيسى طائراً واحداً وهو الخفاش ".

وقال هنا (فأنفخ فيه) وفي المائدة (فتنفخ فيها) بإعادة الضمير هنا إلى الطير أو الطين وفي المائدة إلى هيئة الطير جرياً على عادة العرب في تقنتهم في الكلام.

وخص ما هنا بتوحيد الضمير مذكراً وما في المائدة بجمعه مؤنثاً لأن ما هنا إخبار من عيسى قبل الفعل فوحده، وما في المائدة خطاب من الله له في القيامة، وقد سبق من عيسى الفعل مرات فجمعه، قاله الكرخي.

(فيكون طيراً) اسم جنس يقع على الواحد والاثنين والجمع، وقرىء طائراً على التوحيد (بإذن الله) فيه دليل على أنه لولا الإذن من الله عز وجل لم يقدر على ذلك، وإن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه أجراه على يد عيسى عليه السلام، قيل كانت تسوية الطين والنفخ من عيسى، والخلق من الله عز وجل.

(وأبرىء الأكمه والأبرص) الأكمه هو يولد أعمى كذا قال أبو عبيدة، وقال ابن فارس: الكمه العمى يولد به الإنسان، وقد يعرض، يقال كمه يكمه كمهاً إذا عمي وكمهت عينه إذا أعميتها وقيل الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل وقيل الأعمش وقيل هو الممسوح العين.

والبرص معروف وهو بياض يظهر في الجلد، ولم تكن العرب تنفر من شيء نفرتها منه، يقال برص يبرص برصاً أصابه ذلك ويقال له الوضح، وفي الحديث " وكان بها وضح " والوضاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له

ص: 240

الأبرص، ويقال للقمر أبرص لشدة بياضه وللوزغ سام أبرص لبياضه، والبريص الذي يلمع لمعان البرص ويقارب البصيص.

وقد كان عيسى عليه السلام يبريء من أمراض عدة كما اشتمل عليه الإنجيل، وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر لأنهما لا يبرآن في الغالب بالمداواة، وقال السيوطي: لأنهما داءان أعْيَا الأطباء وكان بعثه في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفاً بالدعاء بشرط الإيمان.

ولم يقل في هذين بإذن الله، لأنهما ليس فيهما كبير غرابة بالنسبة إلى الآخرين، فتوهم الألوهية فيهما بعيد، فلا يحتاج إلى التنبيه على نفيه خصوصاً وكان فيهم أطباء كثيرون.

(وأحيي الموتى) أي وكذلك إحياء الموتى، قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك، قال ابن عباس: قد أحيى أربعة أنفس: عازر وابن العجوز وابنه العاشر وسام ابن نوح، وكلهم بقي وولد له إلا سام، قيل وكان دعاؤه بإحيائهم يا حي يا قيوم (بإذن الله) كرره لنفي توهم الألوهية فيه لأن الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية فهو رد على النصارى.

(وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) أي بما أكلتم البارحة من طعام وما خبأتم منه، عن عمار بن ياسر قال: بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فأكلوا وادخروا وخانوا، فجعلوا قردة وخنازير، وفي هذا دليل قاطع على صحة نبوة عيسى معجزة عظيمة له.

وهذا إخبار من المغيَّبات مع ما تقدم له من الآيات الباهرات وإخباره عن الغيوب بإعلام الله إياه بذلك، وهذا مما لا سبيل لأحد من البشر إليه إلا الأنبياء عليهم السلام، وأما أخبار المنجم والكاهن فلا بد لكل واحد منهما من مقدمات يرجع إليها ويعتمد في اخباره عليها، وقد يخطىء في كثير مما يخبر به.

(إن في ذلك) المذكور من خلق الطير وغيره (لآية لكم) أي عبرة ودلالة على صدقي (إن كنتم مؤمنين) يعني مصدقين بذلك انتفعتم بهذه الآية.

ص: 241

وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)

ص: 242

(ومصدقاً) أي وجئتكم مصدقاً (لما بين يديّ من التوراة) وذلك لأن الأنبياء يصدق بعضهم بعضاً وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة وخمس وسبعون سنة (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) أي لأجل أحل لكم بعض الذي حرم عليكم من الأطعمة في التوراة كالشحوم وكل ذي ظفر كما في قوله تعالى (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) الآية، وقوله (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) وقيل إنما أحل لهم ما حرمته عليهم الأحبار ولم تحرمه التوراة.

وقال أبو عبيدة يجوز أن يكون بعض بمعنى كل، قال القرطبي: وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل، ولأن عيسى لم يحلل لهم جميع ما حرمته عليهم التوراة فإنه لم يحلل القتل ولا السرقة ولا الفاحشة وغير ذلك من المحرمات الثابتة في الإنجيل مع كونها ثابتة في التوراة وهي كثيرة يعرف ذلك من يعرف الكتابين.

ولكنه قد يقع البعض موقع الكل مع القرينة، وعن وهب أن عيسى كان على شريعة موسى وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس. وقال لبني إسرائيل إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأضع عنكم الآصار.

ص: 242

وعن الربيع قال كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرم عليهم الشحوم فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل.

(وجئتكم بآية من ربكم) هي قوله

ص: 243

(إن الله ربي وربكم) وإنما كان ذلك آية لأن من قبله من الرسل كانوا يقولون ذلك فمجيئه بما جاءت به الرسل يكون علامة على نبوته، ويحتمل أن تكون هذه الآية هي الآية المتقدمة فيكون تكريراً لقوله (إني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) الآية، وقيل هذه الجملة تأكيد للأولى، وقيل تأسيس لا توكيد.

(فاتقوا الله) يا معشر بني إسرائيل فيما أمركم به ونهاكم عنه (وأطيعون) فيما أدعوكم إليه لأن طاعة الرسول من توابع تقوى الله (إن الله ربي وربكم فاعبدوه) وجميع الرسل كانوا على دين واحد وهو التوحيد، ولم يختلفوا في الله، وفيه حجة بالغة على نصارى وفد نجران ومن قال بقولهم (هذا صراط مستقيم) يعني التوحيد، فكذبوه ولم يؤمنوا به.

ص: 243

(فلما أحس عيسى منهم الكفر) أحس علم ووجد، قاله الزجاج، وقال أبو عبيدة: معنى أحس عرف، وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة، والإحساس العلم بالشيء، قال تعالى (هل تحس منهم من أحد) والمراد بالإحساس هنا الإدراك القوي الجاري مجرى المشاهدة وبالكفر إصرارهم عليه، وقيل سمع منهم كلمة الكفر، وقال الفراء أرادوا قتله.

وعلى هذا فمعنى الآية فلما أدرك منهم عيسى إرادة قتله التي هي كفر، والذين أرادوا قتله هم اليهود وذلك أنهم كانوا عارفين من التوراة بأنه المسيح المبشر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم، فلما أظهر عيسى الدعوة اشتد ذلك عليهم

ص: 243

وأخذوا في أذاه وطلبوا قتله وكفروا به فاستنصر عليهم كما أخبر الله عنه بقوله.

(قال من أنصاري) الأنصار جمع نصير (إلى الله) أي متوجهاً إلى الله وملتجئاً إليه أو ذاهباً إليه، وقيل إلى بمعنى مع كقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) وقيل المعنى من أنصاري في السبيل إلى الله، وقيل المعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله.

وقيل لما بعث الله عيسى وأمره بإظهار رسالته والدعاء إليه نفوه وأخرجوه من بينهم، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض يقول من أنصاري إلى الله.

(قال الحواريون) جمع حواري، وحواري الرجل صفوته وخلاصته وهو مأخوذ من الحور وهو البياض عند أهل اللغة حورت الثياب بيضتها، والحواري من طعام ما حوري أي بيض، والحواري الناصر، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لكل نبي حواري، وحواري الزبير، وهو في البخاري وغيره، قال ابن عباس كانوا صيادين، وقال الضحاك هم قصارون مر بهم عيسى فآمنوا به.

وعن قتادة قال: الحواريون هم الذين تصلح لهم الخلافة، وقيل هم أصفياء الأنبياء، وقيل الحواري الوزير.

وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك فقيل لبياض ثيابهم، وقيل لخلوص نياتهم، وقيل لأنهم خاصة الأنبياء وكانوا اثني عشر رجلاً وهم أول من آمن به.

(نحن أنصار الله) أي أنصار دينه ورسله (آمنا بالله) استئناف جار مجرى العلة لما قبله فإن الإيمان يبعث على النصرة (واشهد) أنت يا عيسى لنا يوم القيامة (بأنا مسلمون) أي مخلصون لإيماننا منقادون لما تريد منا إيذاناً بأن غرضهم السعادة الأخروية.

ص: 244

رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

ص: 245

(ربنا آمنا بما أنزلت) في كتبك، تضرع إلى الله سبحانه وعرض لحالهم عليه بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم (واتبعنا الرسول) أي عيسى وحذف المتعلق مشعر بالتعميم أي اتبعناه في كل ما يأتي به (فاكتبنا مع الشاهدين) لك بالوحدانية ولرسولك بالرسالة فأثبت أسماءنا بأسمائهم، واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به، أو اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم وقيل مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته أنهم شهدوا له أنه قد بلغ وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا.

(ومكروا) أي الذين أحس عيسى منهم الكفر وهم كفار بني إسرائيل إذ وكلوا به من يقتله غيلة أي خفية (ومكر الله) هو استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون، قاله الفراء وغيره، وقال الزجاج مكر الله مجازاتهم على مكرهم.

فسمى الجزاء باسم الإبتداء كقوله تعالى (الله يستهزيء بهم) وهو خادعهم.

وأصل المكر في اللغة الاغتيال والخدع. حكاه ابن فارس. وعلى هذا فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة، وقيل مكر الله هنا إلقاء شبه عيسى على غيره ورفع عيسى إليه.

أخرج ابن جرير عن السدى قال إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إلى السماء فذلك قوله

ص: 245

(ومكروا ومكر الله)(والله خير الماكرين) أي أقواهم مكراً وأنفذهم كيداً وأقدرهم على إيصال الضرر بمن يريد ايصاله من حيث لا يحتسب.

ص: 245

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)

ص: 246

(إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ) قال الفراء إن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره إني رافعك ومطهرك بعد إنزالك من السماء، قال أبو زيد: متوفيك قابضك، وقيل الكلام على حاله من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه، والمعنى كما قال في الكشاف: مستوفى أجلك، ومعناه أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم، عن مطر الوراق قال متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت.

وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر لأن الصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبرى.

ووجه ذلك أنه قد صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزوله وقتله الدجال، وقيل إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء وفيه ضعف، وقيل المراد بالوفاة هنا النوم ومثله (هو الذي يتوفاكم بالليل) أي ينيمكم وبه قال كثيرون.

وقيل الواو في قوله (ورافعك) لا تفيد الترتيب لأنها لمطلق الجمع فلا فرق بين التقديم والتأخير قاله أبو البقاء، وقال أبو بكر الواسطي: المعنى إني متوفيك عن شهواتك وحظوظ نفسك، وهذا بالتحريف أشبه منه بالتفسير.

ص: 246

وعن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة رفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من رمضان وحملت به أمه ولها ثلاث عشرة سنة، وولدته بمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل وعاشت بعد رفعه ست سنين.

وأورد على هذا عبارة المواهب مع شرحها للزرقاني وإنما يكون الوصف بالنبوة بعد بلوغ الموصوف بها أربعين سنة إذ هو سن الكمال ولها تبعث الرسل، ومفاد هذا الحصر الشامل لجميع الأنبياء حتى يحيى وعيسى هو الصحيح، ففي زاد المعاد للحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى ما يذكر: أن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه، قال الشامي وهو كما قال، فإن ذلك إنما يروى عن النصارى، والمصرح به في الأحاديث النبوية أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة.

ثم قال الزرقاني: وقع للحافظ الجلال السيوطي في تكملة تفسير المحلى وشرح النقاية وغيرهما من كتبه الجزم بأن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ويمكث بعد نزوله سبع سنين، وما زلت أتعجب منه مع مزيد حفظه وإتقانه وجمعه للمعقول والمنقول حتى رأيته في (مرقاة الصعود) رجع عن ذلك انتهى.

قلت: وفي حديث أبي داود الطيالسي بدل سبع سنين أربعين سنة ويتوفى ويصلى عليه، قال السيوطي: فيحتمل أن المراد مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده انتهى، وفيه ما تقدم.

وأورد على قوله " ليلة القدر " أنها من خصائص هذه الأمة وربما يقال في الجواب لعل الخصوصية على الوجه الذي هي عليه الآن من كون العمل فيها خيراً من العمل في ألف شهر، ومن كون الدعاء فيها مجاباً حالاً بعين المطلوب

ص: 247

وغير ذلك فلا ينافي أنها كانت موجودة في الأمم السابقة لكن على مزية وفضل أقل مما هي عليه الآن.

(ومطهرك) أي مبعدك ومخرجك (من الذين كفروا) أي من خبث جوارهم وسوء صحبتهم ودنس معاشرتهم برفعك إلى السماء وبعدك عنهم. قال الحسن: طهره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه، لأن كونه في جملتهم بمنزلة التنجيس له بهم، قاله الكرخي.

(وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا) أي الذين اتبعوا ما جئت به وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلو فيه إلى ما بلغ من جعله إلها، ومنهم المسلمون فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلو فلم يفرطوا في وصفه كما فرطت اليهود، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم.

وقيل المراد بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين علي اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة، وقيل هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين، وقيل هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح. وقيل هم المسلمون والنصارى.

وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين لطوائف المسلمين كما يفيده الآيات الكثيرة بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل قاهرة لها مستعلية عليها.

وقد أفرد الشوكاني هذه الآية بمؤلف سماه (وبل الغمامة في تفسير)(وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) فمن أراد استيفاء ما في المقام فليرجع إلى ذلك.

ص: 248

وحاصل ما ذكره أن صيغة الذين اتبعوك من صيغ العموم، وكذلك صيغة الذين كفروا من صيغ العموم، والواجب العمل بما دل عليه النظم القرآني، وإذا ورد ما يقتضي تخصيصه أو تقييده أو صرفه عن ظاهره وجب العمل به، وإن لم يرد ما يقتضي ذلك وجب البقاء على معنى العموم، وظاهره شمول كل متبع، وأنه مجعول فوق كل كافر، وسواء كان الاتباع بالحجة أو بالسيف أو بهما. وفي كل الدين أو بعضه، وفي جميع الأزمنة والأمكنة والأحوال أو في بعضها.

والمراد بالكافر الذي جعل المتبع فوقه كل كافر سواء كان كفره بالستر لما يعرفه من نبوة عيسى أو بالمكر به، أو بالمخالفة لدينه، إما بعدم التمسك بدين من الأديان قط كعبدة الأوثان والنار والشمس والقمر والجاحدين لله والمنكرين للشرائع، وإما مع التمسك بدين يخالف دين عيسى قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كاليهود وسائر الملل الكفرية.

فالمتبعون لعيسى بأي وجه من تلك الوجوه هم المجعولون فوق من كان كافراً بأي تلك الأنواع.

ثم بعد البعثة المحمدية لا شك أن المسلمين هم المتبعون لعيسى لإقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبشيره بها كما في القرآن الكريم والإنجيل، بل في الإنجيل الأمر لأتباع عيسى باتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فالمتبعون لعيسى بعد البعثة المحمدية هم المسلمون في أمر الدين، ومن بقي على النصرانية بعد البعثة المحمدية فهو وإن لم يكن متبعاً لعيسى في أمر الدين ومعظمه، لكنه متبع له في الصورة وفي الإسم وفي جزئيات من أجزاء الشريعة العيسوية، فقد صدق عليهم أنهم متبعون له في الصورة وفي الإسم، وفي شيء

ص: 249

مما جاء به، وإن كانوا على ضلال ووبال وكفر، فذلك لا يوجب خروجهم عن العموم المذكور في القرآن الكريم.

ولا يستلزم اندراجهم تحت هذا العموم أنهم على شيء، بل هم هالكون في الآخرة وإن كانوا مجعولين فوق الذين كفروا، فذلك إنما هو في هذه الدار، ولهذا يقول الله جل وعلا بعد قوله (وجاعل الذين اتبعوك) الآية (ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) إلى قوله (لا يحب الظالمين).

فالحاصل أن المجعولين فوق الذين كفروا هم أتباع عيسى قبل النبوة المحمدية، وهم النصارى والحواريون، وبعد النبوة المحمدية هم المسلمون والنصارى والحواريون، والأولون هم الأتباع حقيقة، وغيرهم هم الأتباع في الصورة، وقد جعل الله الجميع فوق الذين كفروا من اليهود وسائر الطوائف الكفرية.

وقد كان الواقع هكذا فإن الملة النصرانية قبل البعثه المحمدية كانت قاهرة لجميع الملل الكفرية ظاهرة عليها، غالبة لها، وبعد البعثة المحمدية صارت جميع الأمم الكفرية نهبى بين الملة الإسلامية والملة النصرانية ما بين قتيل وأسير ومسلم للجزية وهذا يعرفه كل من له إلمام بأخبار العالم.

ولكن الله تعالى جعل الملة الإسلامية قاهرة للملة النصرانية مستظهرة عليها. وفاء بوعده في كتابه العزيز كما في الآيات المشتملة على الأخبار بأن جنده هم الغالبون، وحزبه هم المنصورون، ومن ذلك قوله تعالى (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين)(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً).

وقد أخبر الصادق المصدوق بظهور أمته على جميع الأمم وقهر ملته لجميع الأمم. وبالجملة إنا إذا جردنا النظر إلى الملة الإسلامية والملة النصرانية فقد ثبت

ص: 250

في الكتاب والسنة ما يدل على استظهار الملة الإسلامية على الملة النصرانية، وإن نظرنا إلى جميع الملل فالملة الإسلامية والملة النصرانية هما فوق سائر الملل الكفرية لهذه الآية.

ولا ملجىء إلى جعل الضمير المذكور في الآية وهو الكاف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما تكلفه جماعة من المفسرين، لأن جعله لعيسى كما يدل عليه السياق، بل هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه، لا يستلزم إخراج الملة المحمدية بعد البعثة، إذ هم متبعون لعيسى كما عرفت سابقاً.

ولا خلاف بين أهل الإسلام أن الملة النصرانية كانت قبل البعثة المحمدية هي القاهرة لجميع الملل الكفرية، فلم يبق في تحويل الضمير عن مرجعه الذي لا يحتمل السياق غيره فائدة إلا تفكيك النظم القرآني والإخراج له عن الأساليب البالغة في البلاغة إلى حد الإعجاز.

ومن تدبر هذا الوجه الذي حررناه علم أنه قد أعطى التركيب القرآني ما يليق ببلاغته من بقاء عموم الموصول الأول والموصول الثاني وعدم التعرض لتخصيصه بما ليس بمخصص، وتقييده بما ليس بمقيد، وعدم الخروج عن مقتضى الظاهر في مرجع الضمائر وعدم ظن التعارض بين ما هو متحد الدلالة: انتهى.

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية، ويكون المسلمون أنصاره وأتباعه إذ ذاك، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة (1).

(إلى يوم القيامة) غاية للجعل أو للاستقرار المقدر في الظرف لا على معنى أن ذلهم ينتهي يوم القيامة، بل على معنى أن المسلمين يعلونهم إلى تلك

(1) مسلم/2940.

ص: 251

الغاية، فأما بعدها فيفعل الله بهم ما يريد كما ذكره بقوله (فأما الذين كفروا) الخ.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يبالون بمن خالفهم حتى يأتي أمر الله (1) " قال النعمان من قال إني أقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل فإن تصديق ذلك في كتاب الله (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة).

وأخرج ابن عساكر عن معاوية مرفوعاً نحوه، ثم قرأ معاوية الآية.

عن ابن زيد قال النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة ليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق ولا غرب، وهم في البلدان كلها مستذلون.

(ثم إليّ مرجعكم) أي مرجع الفريقين: الذين اتبعوا عيسى والذين كفروا به، والمرجع الرجوع، وتقديم الظرف للقصر (فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) أي من أمور الدين.

(1) مسلم 1920، ابن ماجه المقدمة.

ص: 252

(فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة) تفسير للحكم الواقع بين الفريقين إلى آخر الآية (1)، وتعذيبهم في الدنيا بالقتل والسبي والجزية والصغار، وأما في الآخرة فبعذاب النار (وما لهم من ناصرين) يمنعونهم من عذابنا من مقابلة الجمع بالجمع.

(1) قيل المراد بهم هم اليهود والنصارى.

ص: 252

وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)

ص: 253

(وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم) بالياء والنون (أجورهم) أي يعطيهم إياها كاملة موفرة (والله لا يحب الظالمين) نفي الحب كناية عن بغضهم، واستعمال عدم محبة الله في هذا المعنى شائع في جميع اللغات جار مجرى الحقيقة، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها.

ص: 253

(ذلك) إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى وغيره (نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) المشتمل على الحكم أو المحكم الذي لا خلل فيه.

ص: 253

(إن مثل عيسى عند الله) أي شأنه الغريب، والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها تعلقاً صناعياً بل تعلقاً معنوياً، وزعم بعضهم أنها جواب قسم، وذلك القسم هو قوله (والذكر الحكيم) فالواو حرف جر لا حرف عطف وهذا بعيد أو ممتنع إذ فيه تفكيك لنظم القرآن وإذهاب لرونقه وفصاحته.

(كمثل آدم) في الخلق والإنشاء تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقاً بغير أب كآدم ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة وهو كونه لا أم له كما أنه لا أب له، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه وأعظم عجباً وأغرب أسلوباً، وعبارة الكرخي هو تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس، وبه قال السيوطي.

(خلقه من تراب) جملة مفسرة لما أبهم في المثل وخبر مستأنف على جهة التفسير لحال خلق آدم أي أن آدم لم يكن له أب ولا أم بل خلقه الله من تراب، وقدره جسداً من طين، وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من

ص: 253

غير أب مع اعترافه بأن آدم خلق من غير أب وأم.

(ثم قال له كن) بشراً أي أنشأه خلقاً بالكلمة، وكذلك عيسى أنشأه خلقاً بالكلمة وقيل الضمير يرجع إلى عيسى (فيكون) أي فكان بشراً، أريد بالمستقبل الماضي أي حكاية حال ماضية.

عن ابن عباس أن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيهم السيد والعاقب فقالوا ما شأنك تذكر صاحبنا. قال من هو قالوا عيسى تزعم أنه عبد الله، قالوا فهل رأيت مثل عيسى وأنبئت به، فخرجوا من عنده، فجاء جبريل فقال قل لهم إذا أتوك (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) الآية (1).

وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة من الصحابة والتابعين، وأصلها عند البخاري ومسلم، وحكى أن بعض العلماء أسر في بعض بلاد الروم فقال لهم لم تعبدون عيسى؟ قالوا لأنه لا أب له، قال فآدم أولى لأنه لا أب له ولا أم، قالوا وكان يحيي الموتى فقال حزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وأحيا حزقيل أربعة آلاف، قالوا وكان يبرىء الأكمه والأبرص، قال فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليماً.

(1) ابن كثير 1/ 368.

ص: 254

(الحق من ربك) أي جاءك الحق من ربك يعني الذي أخبرتك به من تمثيل عيسى بآدم هو الحق، والجملة على هذا خبر مبتدأ محذوف، وقيل مستأنفة برأسها، والمعنى أن الحق الثابت الذي لا يضمحل هو من ربك، ومن جملة ما جاء من ربك قصة عيسى وأمه فهو حق ثابت.

(فلا تكن من الممترين) الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس أي لا يكن أحد منهم ممترياً أو للرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون النهي له لزيادة التثبيت لأنه لا يكون منه شك في ذلك.

ص: 254

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)

ص: 255

(فمن) شرطية وهو الظاهر أو موصولة (حاجّك فيه) أي في عيسى وهو الأظهر، وقيل في الحق وهو الأقرب، والحاجة مفاعلة وهي من الاثنين وكان الأمر كذلك.

(من بعد ما جاءك من العلم) بأن عيسى عبد الله ورسوله ومن للتبعيض أو لبيان الجنس (فقل تعالوا) العامة على فتح اللام لأنه أمر من تعالى يتعالى كترامى بترامى، وأصل ألفه ياء وأصل هذه الياء واو لأنه مشتق من العلو وهو الإرتفاع، تقول في الواحد تعال يا زيد، وفي الجمع المذكور تعالوا، وتقول يا زيدان تعاليا، ويا هندان تعاليا ويا نسوة تعالين، قال تعالى (فتعالين أمتّعكن).

وقرأ الحسن (تعالوا) بضم اللام، وتعال فعل أمر صريح وليس باسم فعل لاتصال الضمائر المرفوعة البارزة به، قيل وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع تفاؤلاً بذلك وإذناً للمدعو لأنه من العلو والرفعة، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء حتى تقول ذلك لمن تريد إهانته كقولك للعدو " تعال " ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها، وقيل هو الدعاء لمكان مرتفع ثم توسع فيه حتى استعمل في طلب الإقبال إلى كل مكان حتى المنخفض.

(ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) هذا وإن كان عاماً فالمراد الخاص وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلى الله عليه وسلم من نجران كما أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والسيد فدعاهما إلى الإسلام فقالا أسلمنا يا محمد صلى الله عليه وسلم -

ص: 255

فقال كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام، قالا فهات، قال حب الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير (1).

قال جابر فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على ذلك الغد فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له فقال " والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً " قال جابر فيهم نزلت (قل تعالوا ندع أبناءنا) الآية.

قال جابر " أنفسنا وأنفسكم " رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي، وأبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة، ورواه الحاكم من وجه آخر عن جابر وصححه وفيه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هل لك أن نلاعنك.

وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن اسعد بن أبي وقاص قال لما نزلت هذه الآية (قل تعالوا) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال اللهم هؤلاء أهلي (2).

وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه (تعالوا ندع أبناءنا) الآية قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده.

وممكن أن يقال هو على عمومه لجماعة أهل الدين وإن كان السبب خاصاً، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وآله وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام، وأمته أسوته.

وضمير " فيه " لعيسى كما تقدم، والمراد بمجيء العلم هنا مجيء سببه وهو الآيات البينات، والمحاجة المخاصمة والمجادلة وتعالوا أي هلموا وأقبلوا، وأصله الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأى إذا كان المخاطب حاضراً، كما تقول لمن هو حاضر عندك تعال ننظر في هذا الأمر.

(1) ابن كثير 1/ 368.

(2)

ابن كثير 1/ 371.

ص: 256

واكتفى بذكر البنين عن البنات إما لدخولهن في النساء أو لكونهم الذين يحضرون مواقف الخصام دونهن.

ومعنى الآية ليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة، وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وآله وسلم أراد بالأبناء الحسنين كما تقدم.

وإنما خص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل، وإنما قدمهم في الذكر على نفسه لينبه بذلك على لطف مكانهم وقرب منزلتهم.

إن قلت القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهذا يختص به وبمن يباهله فلم ضم إليه الأبناء والنساء في المباهلة.

قلت ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث تجرأ على تعريض أعزته، وفي الدلالة على ثقته بكذب خصمه ولأجل أن يهلك خصمه مع أعزته جميعاً لو تمت المباهلة.

(ثم نبتهل) نتضرع إلى الله، وأصل الإبتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره يقال بهله الله أي لعنه والبهل اللعن.

قال أبو عبيد والكسائي نبتهل نلتعن، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك قال في الكشاف: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن إلتعاناً.

أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " هذه الإخلاص، يشير بأصبعه التي تلي الأبهام، وهذا الدعاء فرفع يديه حذو منكبيه، وهذا الابتهال فرفع يديه مداً ".

قال في الجمل: وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار وكلام الأئمة، وحاصل كلامه فيها أنها لا تجوز إلا في أمر مهمّ شرعاً وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة

ص: 257

فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة، وتقديم النصح والإنذار، وعدم نفع ذلك ومساس الضرورة إليها انتهى من تفسير الكازروني انتهى.

(قلت) وقد دعا الحافظ ابن القيم رحمه الله من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل إلى المباهلة بين الركن والمقام، فلم يجبه إلى ذلك وخاف سوء العاقبة، وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بالنونية (1).

وأتى سبحانه وتعالى هنا بثم تنبيهاً لهم على خطيئتهم في مباهلته كأنه يقول لهم لا تعجلوا وتأنوا لعله أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) يعني منا ومنكم بأن نقول اللهم العن الكاذب في شأن عيسى أي الذي يقول إنه ابن الله ويقول إنه إله، هذه جملة مبينة لمعناه.

وفي الآية دليل قاطع وبرهان ساطع على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ومخالف أنهم أجابوا إلى المباهلة، لأنهم عرفوا صحة نبوته وما يدل عليها في كتبهم.

(1) القصيدة النونية للإمام ابن القيم تبلغ أكثر من ستة آلاف بيت ذكر فيها جميع الفرق الإسلامية. السلفية والخلفية، وانتصر فيها للسلف وبين زيغ الخلف، وقد شرحها العلامة خليل الهراس من علماء الأزهر في جزأين وطبعها بمطبعة الإمام 13 شارع قرقول المنشية بالقلعة بمصر.

ص: 258

(إن هذا) أي الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى (لهو القصص الحق) القصص التتابع يقال فلان يقص أثر فلان أي يتبعه، فأطلق على الكلام الذي يتبع بعضه بعضاً، وضمير الفصل للحصر ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده، وزيادة من في قوله (وما من إله) لتأكيد العموم والاستغراق (إلا الله) وهو رد على من " قال " بالتثليت من النصارى (وإن الله لهو العزيز) أي الغالب المنتقم ممن عصاه وخالف أمره، وادعى معه إلهاً آخر (الحكيم) أي في تدبيره، وفيه رد على النصارى لأن عيسى لم يكن كذلك.

ص: 258

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

ص: 259

(فإن تولوا) أي أعرضوا عن الإيمان ولم يقبلوه (فإن الله عليم بالمفسدين) أي الذين يعبدون غير الله ويدعون الناس إلى عبادة غيره وفيه وعيد وتهديد لهم شديد.

ص: 259

(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلا كلمة سواء بيننا وبينكم) قيل الخطاب لأهل نجران بدليل ما تقدم قبل هذه الآية، وقيل ليهود المدينة، وقيل لليهود والنصارى جميعاً، وهو ظاهر النظم القرآني، ولا وجه لتخصيصه بالبعض، لأن هذه دعوة عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالسواء العدل.

قال الفراء يقال في معنى العدل سوى وسواء. فإذا فتحت السين مددت وإذا ضممت أو كسرت قصرت، وفي قراءة ابن مسعود (إلى كلمة عدل) فالمعنى أقبلوا إلى ما دعيتم إليه وهي الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، والعرب تسمى كل قصة أو قصيدة لها أول وآخر وشرح " كلمة " وقد فسرها بقوله (أن لا نعبد إلا الله) أي هي أن لا نعبد (ولا نشرك به شيئاً) وذلك أن النصارى عبدوا غير الله وهو المسيح وأشركوا به وهو قولهم أب وابن وروح القدس، فجعلوا الواحد ثلاثة.

وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرىء فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم

ص: 259

يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (1) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلى قوله بأنا مسلمون (2) ".

وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكفار (تعالوا إلى كلمة) الآية.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا يهود المدينة إلى ما في هذه الآية فأبوا عليه فجاهدهم حتى أقروا بالجزية، وعن قتادة قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء.

(ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر، وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلل ما حللوه وحرم ما حرموه عليه، فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده رباً، ومنه (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).

قال ابن جريج لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، ويقال إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة وإن لم يصلوا لهم، وعن عكرمة قال سجود بعضهم بعضاً.

(فإن تولوا) أعرضوا عن التوحيد، قال أبو البقاء هو ماض ولا يجوز أن يكون التقدير فإن تتولوا لفساد العنى. وهذا الذي قاله ظاهر جداً قاله السمين (فقولوا) أي أنت والمؤمنون (اشهدوا بأنا مسلمون) موحدون لما لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم.

(1) الأريسين: هم العامة.

(2)

صحيح مسلم 1773. البخاري 7.

ص: 260

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)

ص: 261

(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) لما ادعت كل طائفة من طائفتي اليهود والنصارى أن إبراهيم عليه السلام كان على دينهم، رد الله سبحانه ذلك عليهم وأبان بأن الملة اليهودية والملة النصرانية إنما كانتا من بعده.

قال الزجاج هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى أن التوراة والإنجيل نزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، وإسم الإسلام في كل كتاب، وفيه نظر فإن الإنجيل مشحون بالآيات من التوراة وذكر شريعة موسى والاحتجاج بها على اليهود، وكذلك الزبور فيه مواضع ذكر شريعة موسى، وفي أوائله التبشير بعيسى، ثم في التوراة ذكر كثير من الشرائع المتقدمة، يعرف كل هذا من يعرف هذه الكتب المنزلة.

وقد اختلف في قدر المدة التي بين إبراهيم وموسى. والمدة التي بين موسى وعيسى، قال القرطبي يقال كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة، وكذا في الكشاف وقيل كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وستمائة وإثنان وثلاثون سنة.

وقيل كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة وعشرون سنة.

عن ابن عباس قال اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى

ص: 261

الله عليه وآله وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانياً فنزل فيهم (يا أهل الكتاب لم تحاجون) الآية (1)، وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف (أفلا تعقلون) أي تتفكرون في دحوض حجتكم وبطلان قولكم حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.

(1) ابن كثير 1/ 372. وقد توسع ابن الجوزي في هذه المسألة في كتابه القيم زاد المسير 1/ 402.

ص: 262

(ها أنتم) يا (هؤلاء) الرجال الحمقى (حاججتم) ها للتنبيه وهو موضع النداء والمراد بهم أهل الكتابين، والمعنى جادلتم وخاصمتم، وفي (هؤلاء) لغتان المد والقصر (فيما لكم به علم) المراد هو ما كان في التوراة وإن خالفوا مقتضاه وجادلوا فيه بالباطل (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) وهو زعمهم أن إبراهيم كان على دينهم بجهلهم بالزمن الذي كان فيه.

وفي الآية دليل على منع الجدال بالباطل، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحق كما في حديث " من ترك المراء ولو محقاً فأنا ضمينه على الله ببيت في ربض الجنة " وقد ورد تسويغ الجدال بالتي هي أحسن كقوله تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن)(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) ونحو ذلك فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة.

(والله يعلم) أي كل شيء فيدخل في ذلك ما حاججتم به دخولاً أولياً (وأنتم لا تعلمون) أي محل النزاع أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها ذلك.

ص: 262

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

ص: 263

(ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً) يعني مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين المستقيم وهو الإسلام، وقيل الحنيف الذي يوحد ويختتن ويضحي ويستقبل الكعبة في صلاته وهو أحسن الأديان وأسهلها وأحبها إلى الله عز وجل.

قال الشعبي: أكذبهم الله وأدحض حجتهم في هذه الآية (وما كان من المشركين) فيه تعريض بكون النصارى مشركين لقولهم بأن المسيح ابن الله، وكذلك اليهود حيث قالوا عزيز ابن الله.

ص: 263

(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) أي أحقهم به وأخصهم الذين اتبعوا ملته واقتدوا بدينه (وهذا النبي) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أفرده بالذكر تعظيماً له وتشريفاً وأولويته صلى الله عليه وسلم بإبراهيم من جهة كونه من ذريته ومن جهة موافقته لدينه في كثير من الشريعة المحمدية.

(والذين آمنوا) معه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم (والله ولي المؤمنين) بالنصر والمعونة.

أخرج الترمذي والحاكم وصححه وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي خليل ربي " ثم قرأ هذه الآية (1).

(1) كتاب التفسير 2/ 292.

ص: 263

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن ميناء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبي المتقون فكونوا أنتم سبيل ذلك فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا تحملونها فأصد عنكم بوجهي ثم قرأ إن أولى الناس بإبراهيم الآية، وقال الحسن كل مؤمن ولي إبراهيم ممن مضى وممن بقى.

ص: 264

(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) الطائفة هم يهود بني النضير وقريظة وبني قينقاع حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم، وقيل هم جميع أهل الكتاب فتكون (من) لبيان الجنس ولو مصدرية أي تمنت وأحبت إضلالكم أو حرف امتناع لامتناع والجواب محذوف أي لسروا بذلك وفرحوا؛ قاله السمين (وما يضلون إلا أنفسهم) جملة حالية للدلالة على ثبوت قدم المسلمين في الإيمان فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه (وما يشعرون) أن وبال الإضلال يعود عليهم.

عن سفيان كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى، ويدفع هذا أن كثيراً من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصح حملها على النصارى البتة، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، فإن الطائفة التي ودت إضلال المسلمين وكذلك الطائفة التي قالت آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار كما سيأتي من اليهود خاصة.

ص: 264

(يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) المراد بآيات الله ما في كتبهم من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (وأنتم تشهدون) ما في كتبكم من ذلك ثم تكفرون به وتنكرونه، ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمي، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرون بنبوتهم، أو المراد كتم كل الآيات عناداً وأنتم تعلمون أنها حق، وعن ابن جريج قال وأنتم تشهدون على أن الدين عند الله الإسلام، ليس لله دين غيره.

ص: 264

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

ص: 265

(يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) لبس الحق بالباطل خلطه بما يتعمدونه من التحريف، قال الربيع لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام (وتكتمون الحق) شأن محمد صلى الله عليه وسلم (وأنتم تعلمون) أي تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، وعن قتادة مثله.

ص: 265

(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) هم رؤساؤهم وأشرافهم قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة، ووجه النهار أوله، وسمي وجهاً لأنه أحسنه، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم واعتراه الشك، وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين ومكن أقدامهم فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله ولا تحركهم ريح المعاندين.

عن ابن عباس قال: قال عبد الله ابن الصيف وعدي بن زيد والحرث بن عوف بعضهم لبعض تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله عليهم هذه الآية إلى قوله (واسع عليم) وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.

ص: 265

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

ص: 266

(ولا تؤمنوا) هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض أي قال الرؤساء للسفلة لا تصدقوا تصديقاً صحيحاً (إلا لمن تبع دينكم) من أهل الملة التي أنتم عليها، وأما غيرهم ممن أسلم فأظهروا لهم ذلك خداعاً وجه النهار، واكفروا آخره ليفتتنوا.

والمعنى أن ما بكم من الحسد والبغي، أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، أولا تؤمنوا إيماناً صحيحاً وتقروا بما في صدوركم إقراراً صادقاً لغير من تبع دينكم، فعلتم ذلك ودبرتموه وإن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق.

وقال الأخفش المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجوكم، وقيل المراد لا تؤمنوا وجه النهار وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم أي لمن دخل في الإسلام وكان من أهل دينكم قبل إسلامه، لأن إسلام من كان منهم هو الذي قتلهم غيظاً وأماتهم حسرة وأسفاً.

وقيل لا تؤمنوا أي لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا لإتباع دينكم.

وقيل المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم بالمد على الاستفهام تأكيداً للإنكار الذي قالوه لا يؤتى أحد مثل ما أوتوه.

وقال ابن جريج المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهة أن يؤتى،

ص: 266

وقيل المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد- صلى الله عليه وسلم إلا لمن تبع دينكم لئلا يكون ذلك سبباً لإيمان غيركم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

واختلف الناس المفسرون والمعربون في هذه الآية على أوجه، وذكروا منها تسعة أوضحها وأقربها ما ذكرناه، وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله إلا لمن تبع دينكم، ثم قال الله سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم (قل إن الهدى هدى الله) أي إن البيان الحق بيان الله بين (أن) لا (يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) على تقدير لا كقوله تعالى (يبين الله لكم أن تضلوا) أي لئلا تضلوا.

(أو يحاجوكم عند ربكم)" أو " بمعنى حتى، كذلك قال الكسائي: وهي عند الأخفش عاطفة، وقد قيل إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالاً وذلك صحيح.

قال الواحدي: وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيراً وإعراباً، ولقد تدبرت أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية فلم أجد قولاً يطرد في الآية من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى وصحة النظم انتهى، وقد لخصه من كلام الناس الشيخ سليمان الجمل مع اختلافه فمن شاء فليرجع إليه.

(قل إن الفضل) يعني التوفيق للإيمان والهداية للإسلام (بيد الله يؤتيه من يشاء) أي من أرادة من خلقه وفيه تكذيب اليهود في قولهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم (والله واسع) أي ذو سعة يتفضل على من يشاء (عليم) بمن هو أهله.

ص: 267

(يختص برحمته من يشاء) قيل هي الإسلام وقيل هي القرآن وقيل هي النبوة، وقيل أعم منها، وهو رد عليهم ودفع لما قالوه ودبروه، وفيه دليل على أن النبوة لا تحصل إلا بالاختصاص والتفضل لا بالاستحقاق (والله ذو الفضل العظيم) أصل الفضل في اللغة الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير.

ص: 267

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

ص: 268

(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين، وقد تقدم تفسير القنطار، والدينار معروف، قالوا ولم يختلف وزنه أصلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً، كل قيراط ثلاث شعيرات معتدلات فالمجموع اثنتان وسبعون شعيرة.

ومعنى الآية أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته، وإن كانت كثيرة (1)، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة، ومن كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائناً في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى، وقال عكرمة: المؤدي النصارى، والذي لا يؤدي اليهود (إلا ما دمت عليه قائماً) استثناء مفرع أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت مطالباً له مضيقاً عليه متقاضياً لرده.

(ذلك) أي ترك الأداء المدلول عليه بقوله لا يؤده (بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) الأميون هم العرب الذين ليسوا بأهل كتاب أي ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل، قاله قتادة وعن السدى نحوه، أو ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا، وادعوا، لعنهم الله، أن ذلك في

(1) هذا من إنصاف القرآن حيث يشهد بالخير لبعض الطوائف الأخرى.

ص: 268

كتابهم، فرد الله سبحانه عليهم بقوله (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).

عن سعيد بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر (1)، أخرجه الطبراني وغيره مرسلاً.

(1) أبو داود الباب 56 من كتاب المناسك، ابن ماجه باب 76 كتاب المناسك.

قال القرطبي 4/ 117: الأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جنبتي الصراط؛ كما في صحيح مسلم. فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما. وروى مسلم عن حذيفة قال حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة، قال:" ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه " الحديث. وقد تقدم بكماله أول البقرة. وروى ابن ماجه حدثنا محمد ابن المصفى حدثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة كثير ابن مرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً فإذا لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائناً مخوناً.

ص: 269

(بلى) عليهم سبيل بكذبهم واستحلالهم أموال العرب، فقوله " بلى " إثبات لما نفوه من السبيل، قال الزجاج تم الكلام بقوله بلى ثم قال (من أوفى بعهده) الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وبأداء الأمانة إلى من ائتمنه، وقيل الضمير راجع إلى الموفي، وقيل إلى من، أو إلى الله تعالى (واتقى) الشرك أي فليس هو من الكاذبين (فإن الله يحب المتقين) الذين يتقون الشرك، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى " من " أي فإن الله يحبه، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للإعتناء بشأنهم وإشارة إلى عمومه لكل متق.

ص: 269