الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثانى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قراءة القرآن وعند استماعه وتوابع ذلك
فى هذا الباب المهم من أبواب هذا الكتاب نعيش مع خير الهدى، وأطيبه وأنفعه هدى محمد صلى الله عليه وسلم نستقى من منهله (فقه قراءة القرآن الكريم) كما استقاه الجيل الأول من صحابته الكرام الذين تعلموا العلم والعمل معا.
فكان هذا الباب (هدى النبى صلى الله عليه وسلم فى قراءة القرآن وعند استماعه، وتوابع ذلك) هدى تنفتح معه أقفال القلوب لتقتبس من أنوار المعرفة وتجنى ثمار الفهم.
وفقنا الله لذلك، وبالله نستعين ومنه نستمد الحول والقوة فأقول وبالله تعالى التوفيق:
فصل فى هديه صلى الله عليه وسلم فى الاستعاذة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا همّ بقراءة القرآن الكريم امتثل أمر ربه بالاستعاذة من الشيطان الرجيم.
قال تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (1) فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ عند بدئه للقراءة فيقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .
(1) النحل: 98.
ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أى أستنجد بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرنى فى دينى أو دنياى، أو يصدنى عن فعل ما أمرت به، أو يحثنى على فعل ما نهيت عنه).
وإن المتأمل للقرآن والسنة يجد اعتناءهما بذكر التحذير من الشيطان وكيده والعمل على محاربته كثيرا وذلك لشدة الحاجة إلى التعوذ منه عند قراءة القرآن وغيره من سبل الخير التى يسلكها الإنسان، فالشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها، فما من طريق خير إلا والشيطان قاعد عليه يقطعه على السالك ويثبطه عنه ويفسده عليه، وما من طريق سوء إلا والشيطان قاعد عليه يأمره به ويحثه عليه ويزينه فى عينه والمعصوم من عصمه الله تعالى.
وفى الاستعاذة قول كثير انتشرت فروعه فى علم أصول الفقه وأصول الحديث وأصول القراءات. فأما أصول الفقه فيبحث فيها عن التعوذ من حيث أن الأمر به فى الآية. هل هو للوجوب أم الندب؟ وهل الآية واضحة الدلالة فيتعين لفظها أم مجملة فيصلح كل لفظ يدلّ على التعوذ؟
وأما أصول الحديث فيبحث فيها عن درجة الأحاديث الدالة على التعوذ وعن سندها وحال رواتها.
وأما أصول القراءات فيبحث فيها عن التعوذ من حيث الجهر به والإخفاء ومن حيث الوقف عليه أو وصله بما بعده.
وفيما يلى أوجز أرجح الأقوال وعلى الله الاتكال:
أولا: فمن حيث التعوذ فى الآية، فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه أمر ندب- أى استحباب- وليس بواجب (1).
(1) الواجب شرعا: هو طلب الشارع الفعل على سبيل الحتم والإلزام، بحيث يذم تاركه ومع الذم العقاب، ويمدح فاعله ومع المدح الثواب والواجب هو الفرض عند الجمهور.
الندب: هو طلب الشارع الفعل على سبيل الترجيح لا الإلزام بحيث يمدح فاعله ويثاب، ولا يذم تاركه ولا يعاقب. (انظر الوجيز فى أصول الفقه ص 29).
حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة. وذهب فريق آخر من العلماء إلى أنها واجبة عند ابتداء القراءة وحكى الرازى عن عطاء بن رباح ذلك، واحتج بظاهر الأمر فى الآية (1).
قلت: والصواب ما قاله الجمهور من أن الأمر بالتعوذ فى الآية أمر ندب وليس بواجب، والذى صرفه عن الوجوب- حيث أن كل أمر من الشارع يقع موقع الوجوب إلا إذا صرفه صارف- والصارف عن الوجوب هنا هو حديث أنس بن مالك رضى الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فى المسجد، إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسما قلنا: ما أضحكك يا رسول الله. قال: «لقد أنزلت علىّ آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ثم قال: «أتدرون ما الكوثر
…
الحديث» (2).
والشاهد: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ ولو كانت الاستعاذة واجبة لما تركها.
وعن كون الاستعاذة هل هى قبل التلاوة أو بعدها؟ قالت طائفة من القراء وغيرهم، يتعوذ بعد القراءة واعتمدوا على ظاهر سياق الآية، والمشهور (4) الذى عليه الجمهور
أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها ومعنى الآية عندهم (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم) أى: إذا أردت القراءة كقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ (3) أى إذا أردتم القيام. والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذلك لأن المقصد من الاستعاذة عند ابتداء القراءة. لئلا يلبّس الشيطان على القارئ قراءته ويخلط عليه ويمنعه من التدبر والتفكر، كما أن فيها تمهيدا للجو
(1) مقدمة ابن كثير (ج 1 ص 15).
(2)
أخرجه أحمد فى مسنده (ج 3 ص 102)، مسلم بشرح النووى (ج 4 ص 113) واللفظ لمسلم.
(4)
المشهور: أى المعروف والذائع.
(3)
المائدة: 6.
الذى يتلى فيه كتاب الله وتطهيرا له من الوسوسة، واتجاها بالمشاعر إلى الله خالصة لا يشغلها شاغل من عالم الرجس، والشر الذى يمثله الشيطان (1).
وأما عن الصفة المختارة للاستعاذة فهى قول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) قاله النووى (2).
وقال صاحب النشر: هى الصفة المختارة لجميع القراء من حيث الرواية (3).
قلت: نعم وهى أقرب لمطابقة لفظ القرآن
…
لكن بغير تقييد القارئ بلفظها، بل يجوز له النقص عنه كأن يقول (أعوذ بالله من الشيطان) والزيادة عليه كأن يقول (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) فالآية مجملة. أى مطلقة- تحتمل أن يزاد عليها أو ينقص.
وبالبحث عن الأحاديث الدالة عن التعوذ وعن سندها وحال رواتها وفى ذلك تفصيل ملخصه:
أن الأحاديث الدالة على ترك الزيادة عن آية النحل ضعيفة معارضة بأصح منها سندا (4).
وفى الجهر بالاستعاذة أو إخفائها أقوال للعلماء، وفصل الخطاب فى هذه المسألة هو أن التعوذ يستحب إخفاؤه فى مواطن، والجهر به فى مواطن أخرى .. فمواطن الإخفاء.
1 -
إذا كان القارئ يقرأ سرا، سواء كان منفردا أم فى مجلس.
2 -
إذا كان خاليا- أى ليس معه أحد، سواء قرأ سرا أم جهرا.
(1) فى ظلال القرآن (ج 4 ص 2194).
(2)
الأتقان فى علوم القرآن (ج 1 ص 139).
(3)
النفحات الإلهية فى شرح الشاطبية ص 54.
(4)
ذكر هذه الأحاديث، وأقوال أهل العلم فيها طويل لا يناسبه هذا المقام، وفيما ذكر كفاية وإرشاد إلى ما ترك.