الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فى هديه صلى الله عليه وسلم فى استماع القرآن
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن من غيره، وأمر عبد الله بن مسعود فقرأ عليه وهو يسمع، وخشع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن منه حتى ذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم.
فعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: «قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقرأ علىّ القرآن» . فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال:«إنى أحب أن أسمعه من غيرى» . فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية «فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا» قال: «حسبك الآن. فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان» (1).
وطلب استماع القراءة من القارئ حسن الصوت الذى يجيد التلاوة ويفصّلها أمر متفق على استحبابه، وهو عادة الأخيار، والصالحين من سلف هذه الأمة.
فللتلاوة الجيدة أكبر الأثر فى فهم معانى القرآن لكن لا بد من تقييد ذلك بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الاستماع من الإنصات لتلقى الموحيات المؤثرة فى القرآن الكريم والاستجابة لها ثم التدبر الذى يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ ويسكب النور، ويحرك المشاعر ويطمئن القلوب. أما ما يفعله بعض الناس عند سماعهم للقرآن من رفع الأصوات وقولهم (الله) أو ما شابه ذلك مما هو معلوم فهو بدعة منكرة ومصرفة عن فهم وتدبر القرآن الكريم.
ولمّا كان القرآن الكريم هو الذكر الإلهى، الذى تحيا به قلوب المؤمنين. فتتفتح
(1) فتح البارى بشرح صحيح البخارى (ج 9 ص 94)، صحيح مسلم بشرح النووى (ج 6 ص 87).
وتنشرح، وتأنس، وتطمئن، وتلين لذكر الله، وما نزل من الحق فتفهمه، وتنقاد له، وتسمع له، وتطيعه، جاء التوجيه من الله لعباده المؤمنين إلى أدب الاستماع لهذا القرآن فى الأمر بالإنصات له عند تلاوته إعظاما له وإكبارا، ومخالفة للمشركين، الذين كانوا يتواصون فيما بينهم بعدم سماعه- فقالوا كما حكاه القرآن عنهم لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ (1). لمّا عجزوا عن مغالبته لعقولهم وقلوبهم رغم كفرهم.
قال تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (2) وفى الآية أقوال كثيرة لأهل العلم تدور حول موضع الإنصات بمعناه فى الآية «وهو السكوت عن
الكلام مع الاستماع» (3).
- أعرض لهذه الأقوال ثم أذكر الراجح منها:
قال القاسمىّ فى محاسن التأويل: (وظاهر الآية يقتضى وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن فى الصلاة وغيرها. وعليه أهل الظاهر وهو قول الحسن البصرى، وأبى موسى الأصفهانى).
* وهو أيضا قول الإمام القرطبى فى الجامع لأحكام القرآن، والشوكانى فى فتح القدير، والسعدى فى تفسيره وغيرهم (4).
وقال أبو جعفر بن جرير الطبرى فى جامع البيان: (
…
وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال أمروا باستماع القرآن فى الصلاة إذا قرأ الإمام وكان من خلفه ممن يأتم به يسمعه
…
).
(1) فصلت: 26.
(2)
الأعراف: 204.
(3)
كذا فى مختار الصحاح (ص 661).
(4)
انظر محاسن التأويل للقاسمى (ج 7 ص 2934)، والجامع (ج 7، ص 353).
وفتح القدير (ج 2 ص 278)، وتيسير الكريم الرحمن للسعدى (ج 3 ص 138).
* وتبعه فى ذلك الإمام ابن كثير فى تفسيره حيث قال: لكن يتأكد ذلك فى الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة وحجة من خص الأمر بالإنصات على الصلاة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» (1).
قلت: والجمع بين هذه الأقوال هو الراجح لدى وهو كون الاستماع والإنصات للقرآن الكريم يدور حكمه بحسب المقام الذى يقرأ فيه. فإن كان فى الصلاة، أو كان المقام الذى يقرأ فيه مقام قراءة للقرآن، كأن يكون الإنسان فى مقرأة مثلا وجب وتأكد الاستماع والإنصات.
أما ما عداها من الأحوال المختلفة التى يتنقل بينها الإنسان من عمل، أو حديث أهل، أو جلوس على طعام، أو ما شابه ذلك. فالاستماع، والإنصات بالمعنى الذى سبق الإشارة إليه يستحب ولا يجب. فلا يقل أحد: بأنه يجب على كل مسلم إذا سمع أحد يقرأ القرآن أن يشتغل بالاستماع وينصت إذ قد يكون القارئ يقرأ بمحضر صانع. فلو وجب عليه الاستماع لأمر بترك عمله، وهذا لا يصح بحال. والله أعلم.
ثم يسوق الله سبحانه وتعالى. لنا مشهدا من عالم الغيب وهو حكاية استماع نفر من الجن للقرآن ويصور لنا ما وقع فى حسهم منه من التأثر والخشوع. فتعالوا بنا ننظر ماذا قالوا ....
قال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (2).
فإن أول ما قالوا حينما طرق القرآن أسماعهم أن تنادوا بالإنصات فكانت الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن مع الإنصات له. اطمأنت قلوبهم إلى
(1) صحيح مسلم بشرح النووى (ج 4، ص 131) من حديث أبى موسى الأشعرى.
(2)
الأحقاف: 29.
الإيمان وانصرفوا بعد ذلك متأثرين بجاذبية القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح هذا التأثر دعاهم منذ أول وهلة أن يكونوا دعاة إلى الله فانصرفوا بعد ما قضى إلى قومهم مبشرين ومنذرين. فعلا لقد كان لهذا النفر من الجن قلوب يعقلون بها، وذوق ذواق، ومشاعر مرهفة.
فليعتبر بهم من دونهم من بنى البشر ممن يقولون بعدم تأثرهم بسماع القرآن وعدم تحرك قلوبهم به.
والعيب كل العيب فى هذه القلوب الغافلة. يا ترى ما الذى صرفها عن التذوق والتأثر بكتاب لا يثبت له شىء يتلقاه بحقيقته حتى لو كان هذا الشيء هو الجبل بعظمته وغلظته وشموخه. قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (1).
فعند ما يصل هذا الإيقاع إلى الحس البشرى بلا عائق يعوقه ولا مانع يمنعه فإنه سوف يهزه هزا ويؤثر فيه تأثيرا ويفعل فيه الأفاعيل مما لا يدركه إلا من ذاقه وعرفه
…
وها هو الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- (خرج ذات ليلة يتفقد أحوال الرعية يعس بالمدينة. فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائما يصلى، فوقف يستمع قراءته وكان الرجل يقرأ من سورة (الطور) فلما بلغ قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ قال رضى الله عنه قسم ورب الكعبة حق فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليا ثم رجع إلى منزله فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه» (2).
وذلك سر القرآن. فهناك لحظات خاصة غير مرقوبة تمس فيها الآية أو السورة موضع الاستجابة فإذا وافقت قلبا مكشوفا وحسا مرهفا مفتوحا نفذت إليه وفعلت به الذى فعلت فيكون منها ما يكون.
(1) الحشر: 21.
(2)
هذا الأثر ذكره ابن كثير بسنده (ج 4 ص 241) وعزاه للحافظ ابن أبى الدنيا.
ومن تأثير هذا القرآن العجيب فى النفوس ووقعه الهائل على القلوب أن تأثيره لا يقتصر على المؤمنين به فحسب، بل يتعداه لغيرهم. وكم سمعنا ورأينا الداخلين فى دين الله أفواجا بفعل عمل القرآن فى قلوبهم، وقوة سلطانه الذى لا يتحمله الجبل- لولا تثبيت الله له- فضلا عن هذا القلب البشرى. وها هم أولاء مشركو قريش، قد ضربوا لنا المثل على وقع كتاب الله على قلوبهم- رغم كفرهم- والنماذج على تقرير هذه الحقيقة كثيرة، لا يسع المقام لسردها جميعا. أذكر منها على سبيل المثال:
* حادثة سجود المشركين مع المسلمين، عند ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (النجم) فلما كان عند آخر آية منها وهى قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا لم يتمالك المشركون أنفسهم. ومن ثم سجدوا، سجدوا وهم مشركون، وهم يمارون فى الوحى والقرآن، وهم يجادلون فى الله ورسوله، إنما سجدوا تحت وطأة القرآن، وسلطانه على الوجود (1).
وعن جبير بن مطعم قال: «سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ فى المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية «أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون» كاد قلبى أن يطير» (2). وكان جبير إذ ذاك مشركا فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول فى الإسلام بعد ذلك.
* وإنه لمن عظيم نعم الله علينا أن هيأ لنا فى هذه الأيام مع تقدم العلم الحديث فرصة أوسع لخدمة كتاب الله من حيث سهولة استماعه عى المذياع، والمسجل.
ولعل الله يقيض لهذه الأمة أمر رشد. فتكون هناك قناة تليفزيونية للقرآن الكريم بدلا من اللغو، واللهو الذى يبث فى البيوت على مدار الساعة. والذى صرف الناس عن دينهم حتى صارت مزامير الشيطان احب إليهم من استماع سور القرآن.
فلما انصرفوا صرف الله قلوبهم عن فهم كتابه. فلا يجتمع بهتان الشيطان، وقرآن
(1) فتح البارى بشرح صحيح البخارى (ج 8 ص 614).
(2)
فتح البارى بشرح صحيح البخارى (ج 8 ص 603).
الرحمن فى قلب أبدا .. وها هى أقوال الأئمة والعلماء فى ذم الغناء وتحريمه، وكونه صادا عن ذكر الله، وعن فهم كتاب الله. فهل أنتم منتهون؟
* سئل الإمام مالك عن الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.
* وقال الشافعى فى كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال. ومن استكثر منه سفيه ترد شهادته.
* وقال الإمام أحمد: الغناء ينبت النفاق فى القلب، لا يعجبنى.
* وأما الإمام أبو حنيفة: فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب، وصرح أصحابه بتحريم المعازف كلها (1).
…
(1) من أراد المزيد فليراجع كتاب إغاثة اللهفان للإمام ابن القيم (ج 1 ص 231).