الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فى هديه صلى الله عليه وسلم فى تجويد القرآن
كانت قراءته صلى الله عليه وسلم ترتيلا لا هذّا كهذّ الشعر، ولا عجلة بالإسراع فى القراءة، بل قراءة مفسرة حرفا حرفا. قراءة لينة سهلة، وكان صلى الله عليه وسلم يقطّع قراءته آية آية يقف على رءوس الآى، ولا يصلها بما بعدها ويمد بها صوته.
وهذا يدل على أن هناك صفة معينة وكيفية ثابتة لقراءة القرآن الكريم، لا بد لكل مسلم ومسلمة من تعلمها والاجتهاد فى تحققها عند تلاوته لكتاب الله تعالى:
قال تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (1).
وعن أم سلمة رضى الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: «قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يقطّع قراءته آية آية» .
وفى رواية «كان إذا قرأ قطع آية آية. يقول: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ثم يقف. ثم يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» * ثم يقف
…
الحديث» (2).
وعن قتادة قال: سألت أنس بن مالك عن قراءة النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «كان يمدّ مدّا» (3).
(1) المزمل: 4.
(2)
رواه أبو داود (ج 4 ص 36)، وصححه الحاكم ووافقه الإمام الذهبى، وهو فى الإرواء (ج 2 ص 59)، ورواه أبو عمرو الدانى وقال: ولهذا الحديث طرق كثيرة وهو أصل فى الباب.
(3)
فتح البارى بشرح صحيح البخارى (ج 9 ص 90).
وهكذا كانت صفة قراءته صلى الله عليه وسلم والتى علمها أصحابه- رضى الله عنهم- فكان يتعاهدهم بإسماعهم القراءة أحيانا، وبالاستماع لهم أحيانا أخرى، ومن هؤلاء النفر من الصحابة من أتقنوا القراءة حتى صاروا فيها أعلاما يقتدى بهم، ويؤخذ عنهم كأبى بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعلى بن أبى طالب ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة وغيرهم.
وبدأ الناس يتعلمون القراءة منهم، وتواتر تلقى القرآن عن طريق المشافهة، وصارت قراءة القرآن سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول، وقد ثبت عن زيد بن ثابت قوله: «القراءة سنة
…
» (1).
فعن موسى بن يزيد الكندى- رضى الله عنه- قال: كان ابن مسعود- رضى الله عنه- يقرئ رجلا، فقرأ الرجل:«إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين» مرسلة، فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الرجل: وكيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أقرأنيها هكذا: «إنّما الصّداقات للفقراء والمساكين» ومدها (2).
وهكذا أنكر ابن مسعود- رضى الله عنه- على الرجل أن يقرأ كلمة (الفقراء) بالقصر لأن النبى صلى الله عليه وسلم قرأها وأقرأه إياها بإطالة الصوت عند الألف، وهو من حروف المد الثلاثة مع الواو والياء.
وصفة القراءة التى سبق الإشارة إليها، والتى تلقاها النبى صلى الله عليه وسلم عن أمين الوحى جبريل عليه السلام. وكان يعارضه إياها فى كل عام مرة، وفى العام الذى توفى فيه مرتين، والتى أقرأها أصحابه- رضى الله عنهم- وعلمهم إياها، وحثهم على تعلمها، والقراءة، والإقراء بها.
(1) أخرجه سعيد بن منصور فى سننه عن زيد بن ثابت (ج 2 ص 260) بتحقيق د. سعد بن عبد الله وصححه، كذا صححه الحاكم ووافقه الإمام الذهبى.
(2)
هذا الأثر ذكره السيوطى بسنده (ج 3 ص 250) فى الدر المنثور وقال أخرجه سعيد بن منصور والطبرانى وابن مردويه.
وتواتر نقلها جيلا بعد جيل بأعلى درجات الرواية وهى المشافهة، حيث يتلقى القارئ القرآن عن المقرئ، والمقرئ قد تلقاه عن شيخه، وشيخه عن شيخه، وهكذا
…
حتى تنتهى السلسلة إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
هذه الصفة هى التى اصطلح على تسميتها بعد ذلك (بعلم التجويد).
وإن أول من وضع قواعد التجويد العلمية أئمة القراءة واللغة فى ابتداء عصر التأليف فى القرن الثالث الهجرى وذلك بعد ما كثرت الفتوحات الإسلامية وانضوى تحت راية الإسلام كثير من الأعاجم واختلط اللسان الأعجمى باللسان العربى وفشا اللحن على الألسنة.
فخشى ولاة المسلمين أن يفضى ذلك إلى التحريف فى كتاب الله تعالى، فعملوا على تلافى ذلك، وأحدثوا من الوسائل ما يكفل صيانة كتاب الله عز وجل من اللحن. فأحدثوا فيه النقط والشكل. بعد أن كان المصحف العثمانى خاليا منهما، ثم وضعوا قواعد التجويد حتى يلتزم كل قارئ بها عند ما يتلو شيئا من كتاب الله.
وهذا العلم- ولا شك- هو حلية التلاوة وزينة الأداء والقراءة، وهو إعطاء الحروف حقها من الصفات اللازمة لها، ومستحقها من الأحكام الناشئة عن تلك الصفات.
كما أن لتعلمه أهمية كبيرة حيث يعين المسلم، والمسلمة على تلاوة كتاب الله غضا كما أنزل.
وعلم التجويد وإن كان صناعة علمية لها قواعدها. فإنه لا يكتسب بالدراسة بقدر ما يكتسب بالممارسة، والمرانة، والسماع من المشايخ، وقراءة القرآن على أهل الفضل والحذاق فيه
…
قال ابن الجزرى- رحمه الله وهو من أئمة القراءات:
«ولا أعلم لبلوغ النهاية فى التجويد مثل رياضة الألسن والتكرار على اللفظ
المتلقى من فم المحسن» (1)
هذا وقد عد العلماء القراءة بغير تجويد لحنا- أى خطأ فى القراءة وميلا عن الصواب- سواء كان هذا اللحن جليا ظاهرا يتعلق بمبنى الكلمة كالخطإ الإعرابى أو الصرفى أو لحنا خفيا يتعلق بعرف القراءة كترك بعض أحكام التجويد أثناء القراءة.
أما اللحن الجلى الظاهر: فهو حرام ولا سيما إذا تعمده القارئ أو تساهل فيه فأخل بالمعنى.
وأما اللحن الخفى: فحكمه بين الكراهة والتحريم بحسب تعمد القارئ له وتساهله فيه ولكونه يذهب برونق القراءة.
قال ابن الجزرى فى النشر: (والناس فى ذلك بين محسن مأجور، ومسىء آثم، أو معذور. فمن قدر على تصحيح كلام الله باللفظ الصحيح العربى الفصيح وعدل إلى اللفظ الفاسد استغناء بنفسه واتكالا على ما ألفه من حفظه واستكبارا عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه. فإنه مقصر- بلا شك- وآثم- بلا ريب، وأما من كان لا يطاوعه لسانه أو لا يجد من يهديه إلى الصواب (فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها)(2).
قلت: على الجانب الآخر فإنى أحذر من المبالغة فى التجويد إلى حد الإفراط، والتكلف فى النطق، أو التعسف. فهذه المبالغة ليست أقل من اللحن، لأنها زيادة فى الحروف فى غير مواضعها.
إذا القراءة كالبياض إن قل صار سمرة، وإن زاد صار برصا ومن تأمل هدى
(1) الإتقان فى علوم القرآن (ج 1 - 132).
(2)
من كتاب غاية المريد فى علم التجويد للشيخ عطية قابل نصر (ص 42) بتصرف.
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع والتشدق فى إخراج الحروف ليس من سنته.
إذن فلتكن القراءة بالطبع والسليقة التى جبل عليها المرء من غير زيادة، ولا نقص، حتى يجاوز الحناجر إلى القلوب. فتعيه وتعمل به وذلك هو حق تلاوته.
قال تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (1).
ومن يؤمن به ويتبعه يهبط به على رياض الجنة.
فائدة فى مراتب القراءة وللقراءة بحسب الصفة التى سبق الإشارة إليها ثلاث مراتب: الترتيل، التدوير، الحدر:-
فالترتيل: هو قراءة القرآن بتؤدة، وطمأنينة مع تدبر المعانى، وتجويد الحروف، ومراعاة الوقوف، وهذه المرتبة هى أفضل المراتب الثلاث لقوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (2).
والتدوير: هو قراءة القرآن بحالة متوسطة بين الاطمئنان والسرعة مع مراعاة أحكام التجويد. وهى تلى الترتيل فى الأفضلية.
(1) البقرة: 121.
(2)
المزمل: 4.