المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌آفة اللغة هذا النحو

‌آفة اللغة هذا النحو

نشرت سنة 1935

أَستاذن الأستاذ «الزيات» فأستعير منه هذا العنوان. فأكتب كلمة في هذا الموضوع الكبير، الذي نبه إليه الأستاذ بمقالته القيمة المنشورة في «الرسالة» الثالثة عشرة:

قال الأستاذ: «ليس من شكّ في أن دراسة النحو على هذا الشكل تفيد في بحث اللهجات في اللغة، ودرس القراءات في القرآن، ولكن نحن اليوم، وقبل اليوم، إنما نستعمل لغة واحدة، ونلهج في الفصيح لهجة واحدة، فلماذا لا نجرّد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة، وتقوّم تلك اللهجة، وندع ذلك الطمَّ والرمَّ لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة وطلَاّب القديم، على ألاّ يطبقوه على الحاضر، ولا يستعملوه في النقد، وإنما يلحقونه بتلك اللغات البائدة التي خلق لها، وتأثر بها، فيكون هو وهي في ذمَّة التاريخ، وفي خدمة التاريخ؟» .

ولقد صدق الأستاذ وبرَّ، وأصبح النحو علماً عقيماً، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طويلة ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب. وإنني لأعرف جماعة من الشيوخ، قرؤوا النحو بضعة عشر عاماً، ووقفوا على مذاهبه وأقواله، وعرفوا غوامضه وخفاياه، وأوّلوا فيه وعللوا، وأثبتوا فيه ودللوا، وناقشوا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كلّ مذهب، ثم لا يفهم أحدهم كلمة من كلام العرب، ولايقيم لسانه في صفحة يقرؤها، أو خطبة يلقيها، أو قصة يرويها. ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع فيه جلة النحويين وأئمتهم منذ العهد الأول:

ص: 13

وقد روى السيوطي في) بغية الوعاة) أن الكسائي (1) قد مات وهو لا يعرف حد نعم وبئس، وأن المفتوحة، والحكاية! وأن الخليل (2) لم يكن يحسن النداء. وأن سيبويه (3) لم يكن يدري حد التعجب! وأن رجلاً قال لابن خالويه (4): أريد أن تعلمني من النحو والعربية ما أقيم به لساني. فقال ابن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو، ما تعلمت ما أقيم به لساني!

فأي فائدة من النحو، إذا كانت قراءته خمسين سنة لا تعلم صاحبها كيف يقيم لسانه؟ وما الذي يبقى للنحو إذا لم يؤد إلى هذه الغاية، وإذا أصبح أصعب فنون العربية وهو لم يوضع إلا لتسهيلها وتقريبها؟

ومن -ليت شعري- يسلك الجادة ليخلص من الوعر ويدنو من الغاية، إذا رأى من هو أقوى منه وأجلد قد سلكها فانتهت حياته ولم ينته منها، وأتته منيته وهو في بعضها يقلب حصباءها، وينبش تربها، وينظر في جوانبها؟

(1) علي بن حمزة، إمام الكوفيين في النحو واللغة، وأحد القراء السبعة، استنفد علم معاذ الهراء، وقرأ على الخليل، وخرج إلى البادية، فأفرغ في الكتابة عن العرب حبر خمس عشرة قنينة، قال ابن الأعرابي: كان الكسائي أعلم الناس، ضابطاً عالماً بالعربية، قارئاً صدوقاً، توفي سنة 182.

(2)

الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب العربية والعروض، قال السيرافي: كان الغاية في استخراج مسائل النحو، وتصحيح القياس فيه، وهو أول من استخرج العروض، ورتب المعاجم، وهو أستاذ سيبويه. وعامة الحكاية في كتابه عنه، وهو على الجملة آية من آيات الله في الذكاء والفهم والعلم، على زهادة وشرف نفس، وانقطاع إلى الله، توفي سنة 175.

(3)

عمرو بن عثمان، إمام البصريين، أصله من أرض فارس ونشأ في البصرة، أخذ عن الخليل ويونس والأخفش وألف الكتاب في النحو، الذي يسمى شيخ الكتب، ارتحل إلى أرض فارس بعد مناظرته المشهورة مع الكسائي، ومات بها غماً سنة 180 وعمره 32 سنة.

(4)

هو الحسين بن أحمد بن خالويه النحوي الإمام، قرأ القرآن على ابن مجاهد والنحو والأدب على ابن دريد ونفطويه، وابن الأنباري. سكن حلب واختص بسيف الدولة، وهناك انتشر علمه وروايته، وله مع المتنبي مناظرات، كان أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب وله تصانيف جليلة، توفي بحلب سنة 370.

ص: 14

وإذا كان (ملك النحاة)(1) بعد أن أنفق عمره كله في تعلم النحو وتعليمه، يستشكل عشر مسائل، وتستعصي عليه فيسميها «المسائل العشر، المتعبات إلى يوم الحشر» (2) ويأمر أن توضع معه في قبره، ليحلها فيه! فما بالك بأمثالنا من (السوقة)؟ وكيف نفهم هذا النحو وندركه إدراكاً بله الاستفادة منه؟ وأن نجتنب به الخطأ في النطق وفي الفهم؟

ومن يقبل على النحو، وهو يرى هذه الشروح وهذه الحواشي التي تحوي كل مختلف من القول، وكل بعيد من التعليل، وفيها كل تعقيد، حتى ما ينجو العالم من مشاكلها مهما درس وبحث ونقب، ولا يستقر في المسألة على قول حتى يبدو له غيره أو يجد ما يردُّه ويعارضه، كالقائم على ظهر الحوت، لا يميل إلى جانب إلَاّ ميل به إلى جانب، ولا يدري متى يغوص الحوت، فيدعه غريقاً في اليمِّ؟

وسبب هذا التعقيد -فيما أحسب- أن النحاة اتخذوا النحو وسيلة إلى الغنى، وطريقاً إلى المال، وابتغوه تجارة وعرضاً من أعراض الدنيا، فعقَّدوه هذا التعقيد وهوَّلوا أمره، حتى يعجز الناس عن فهمه إلَّا بهم، فيأتوهم، فيسألوهم، فيعطوهم، فيغتنوا.

روى الجاحظ في كتاب الحيوان، أنه قال للأخفش: ما لك تكتب الكتاب فتبدؤه عذباً سائغاً، ثم تجعله صعباً غامضاً ثم تعود به كما بدأت؟

قال: ذلك لأن الناس إذا فهموا الواضح فسرَّهم، أتوني ففسرت لهم الغامض فأخذت منهم!

وروى السيوطي: أن سيف الدولة سأل جماعة من العلماء بحضرة ابن خالويه ذات ليلة: هل تعرفون اسماً ممدوداً وجمعه مقصور؟

(1) هو الحسن بن صافي، كان أنحى أهل طبقته، وكان فهماً ذكياً فصيحاً إلا أنه كان عنده عجب بنفسه وتيه، لقب نفسه بملك النحاة، وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك، استوطن دمشق آخر حياته ومات فيها سنة 568، قال عنه ابن خلكان: كان مجموع فضائل.

(2)

بغية الدعاة.

ص: 15

فقالوا: لا. فقال لابن خالويه: ما تقول أنت؟

فقال: أنا أعرف اسمين. قال: ما هما؟

قال: لا أقول لك إلَّا بألف درهم!

وكان نفطويه (1) لا يُقرئ كتاب سيبويه إلَّا إذا أخذ الرسم، من أجل ذلك اتخذ النحاة هذا التعقيد سنة جروا عليها، وغاية تواطؤوا على بلوغها، لتتم الحاجة إليهم وتثبت لهم مكانتهم، وتستمر الرغبة فيهم، حتى إن أبا علي الفارسي (2)، لما سأله عضد الدولة ابن بويه أن يصنف له كتاباً في النحو - وصنف الإيضاح، وأوضح فيه النحو وقربه حتى أتى عليه عضد الدولة في ليلة، واستقصره وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئاً، أحسَّ أبو علي بالخطأ، وشعر بأنه خرج على هذه الخطة التي اختطوها لأنفسهم: خطة التعقيد

فعمد إلى تدارك الخطأ، فمضى فصنف التكملة وحملها إليه، فلما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ فجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو (3).

وزاد النحو تعقيداً وإبهاماً وبعداً عن الغاية التي وضع من أجلها، ما صنعه الرماني (4) من مزج النحو بالمنطق وحشوه به، حتى ما يقدر من بعده على تجريده منه، وحتى قال أبو علي الفارسي وهو معاصر له:

(1) هو إبراهيم بن محمد، ينتهي نسبه إلى المهلب بن أبي صفرة. لقب بنفطويه لشبهه بالنفط لدمامته وأدمته، وجعل على مثال سيبويه لانتسابه في النحو إليه وجريه على طريقته وتدريسه كتابه، جلس للإقراء أكثر من خمسين سنها، وكان عالماً بالعربية واللغة والحديث، مات سنة 323.

(2)

هو الحسن بن أحمد الإمام المشهور واحد زمانه في علم العربية، أستاذ ابن جني الإمام العلم البليغ، وله مصنفات كثيرة وجليلة، توفي ببغداد سنة 377.

(3)

بغية الوعاة ووفيات الأعيان.

(4)

هو علي بن عيسى بن علي المعروف بالوراق، الأخشيدي النحوي المتكلم أحد المشاهير، جمع بين الكلام وعلم العربية، وله تفسير القرآن الكريم، قال أبو حيان: لم ير مثله قط علماً بالنحو وغزارة بالكلام، واستخراجاً للعويص وإيضاحاً للمشكل، مع تأله وتنزه ودين وفصاحة وعفاف ونظافة، مات سنة 384.

ص: 16

«إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن، فليس معه منه شيء

».

فخرج النحو بذلك عن الجادَّة، ولم يعد واسطة لفهم كلام العرب واتباع سبيلهم في القول، بل غدا علماً مستقلاً معقداً مضطرباً لا تكاد تثبت فيه مسألة. ورضي النحاة عن هذا التعقيد ووجدوا فيه تجارة وكسباً، حتى إن السيرافي (1) لما ألف كتابه الإقناع (الذي أتمه ولده يوسف) وعرض فيه النحو على أوضح شكل وأجمل ترتيب، فأصبح مفهوماً سهلاً، لا يحتاج إلى مفسر ولا يقصر عن إدراكه أحد، حتى قالوا فيه: وضع أبو سعيد النحو على المزابل بكتابه الإقناع. ولما ألَّفه قاومه النُحَاة، وما زالوا به حتى قضوا عليه، فلم يعرف له ذكر، ولم نعرف أنه بقي منه بقية!

وزاد النحو فساداً على هذا الفساد هذا الخلاف بين المذهبين (أو الدرستين على التعبير الجديد) المذهب الكوفي، والمذهب البصري، وما جرَّه هذا الخلاف من الهجوم على الحق، والتدليل على الباطل، والبناء على الشاذ، قصد الغلبة وابتغاء الظفر، كما وقع في المناظرة المشهورة بين الكسائي وسيبويه، حين ورد هذا بغداد على يحيى البرمكي فجمع بينه وبين الكسائي للمناظرة، فقال له الكسائي:

- كيف تقول: قد كنت أظن أن الزنبور أشد لسعة من العقرب، فإذا هو هي، أو هو إياها.

- فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب.

- فقال الكسائي: أخطأت، العرب ترفع ذلك وتنصبه، وجعل يورد عليه أمثلة، منها: خرجت فإذا زيد قائم أو قائماً.

وسيبويه يمنع النصب.

(1) الحسن بن عبد الله المرزباني، أبو سعيد السيرافي، كان أبوه مجوسياً اسمه بهزاد فسماه أبو سعيد عبد الله. كان يدرس ببغداد علوم القرآن والنحو واللغة والفرائض، قال التوحيدي: وكان إمام الأئمة فيها جميعاً مع الصلاح والأمانة. قضى ببغداد ولم يأخذ على الحكم أجراً. مات سنة 368 وكان معاصراً للرماني وأبي علي الفارسي.

ص: 17

فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟

قال الكسائي: هذه العرب ببابك قد وفدوا عليك، وهم فصحاء الناس فاسألهم.

- فقال يحيى: أنصفت.

وأحضروا فسئلوا، فاتَّبعوا الكسائي فاستكان سيبويه وقال:

- أيها الوزير. سألتك إلا ما أمرتهم أن ينطقوا بذلك، فإن ألسنتهم لا تجري عليه، وكانوا إنما قالوا: الصواب ما قاله هذا الشيخ!

- فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قد وفد إليك من بلده مؤملاً، فإن رأيت ألَّا ترده خائباً.

فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج إلى فارس فمات بها بعد قليل غماً وأسى!

في حين أن الحق كان في الذي يقوله سيبويه، وأن الكسائي كان -كما يقول السيوطي- ممن أفسدوا النحو، لأنه كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً.

وزاد النحو فساداً على هذا الفساد، ابتغاؤهم العفلَّة والسبب، لكل ما نطقت به العرب، وسعيهم لتعليل كل منصوب ومخفوض، وسلوكهم في ذلك أبعد السبل من الواقع، وأدناها إلى التنطع والوهم. من ذلك ما رواه ابن خلكان من أن أبا علي الفارسي كان يوماً في ميدان شيراز يساير عضد الدولة، فقال له:

- بم انتصب المستثنى في قولنا: قام القوم إلا زيداً؟ قال الشيخ: بفعل مقدر. قال: كيف تقديره؟ قال: أستثني زيداً. فقال له: هلَّا رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد!

فانقطع الشيخ وقال:

ص: 18

- هذا جواب ميداني فإذا رجعت قلت الجواب الصحيح. ثم إنه لما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاماً حسناً وحمله إليه فاستحسنه.

قال السيوطي، والذي اختاره أبو علي في الإيضاح أنه ينتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا.

قال: والمسألة فيها سبعة أقوال

حكيتها في كتابي جمع الجوامع من غير ترجيح، وأنا أميل إلى القول الذي ذكره أبو علي أولاً.

هذه بعض الأسباب التي جعلت النحو معقَّداً هذا التعقيد، مضطرباً هذا الاضطراب، بعيداً عن الغاية هذا البعد. «فلماذا لا نجرد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة التي نستعملها، وتقوم تلك اللهجة -التي نلهجها- وندع ذلك الطمَّ والرمَّ لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة؟» .

ولماذا لا يدلي علماء العربية وأدباؤهم برأيهم في سبيل الإصلاح، ولماذا لا ينشر شاعرنا الفحل الأستاذ المحقق محمد البزم، وهو أول رجل أعرفه انتبه إلى فساد هذا النحو، ولبث خمسة عشر عاماً يعالج أدواءه ويصف دواءه، ويقرأ من أجل ذلك كل ما في أيدي الناس من كتب النحو وأسفار العربية، لماذا لا ينشر ثمرة بحثه، وخلاصة دراسته في (الرسالة) مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية، ليطَّلع عليها علماء العربية وأدباؤها، ويُبْدوا آراءهم فيها، فيكون من ذلك الخير للعربية إن شاء الله، ويكون الفضل للأستاذ الزيات على أن فتح هذا الباب، وللأستاذ البزم (1) على أن كان أول من ولجه؟

(1) لم ينشر رحمه الله شيئاً، ولم ينتدب أحد من تلاميذه لجمع أوراقه، ونشر آثاره، بل هو لم يجد (ولا أستاذ الجيل محمد كرد علي وجد) من يقيم له حفلة تأبين!

ص: 19