المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌بحث في الوظيفة والموظفين

‌بحث في الوظيفة والموظفين

الوظيفة في اللغة: ما يقدَّر للرجل في اليوم من طعام أو رزق أو نحوه؟؛ والوظيفة العهْدُ والشَّرْط؛ والتوظيف تعيين الوظيفة؛ والمواظبة الموافقة والمؤازرة.

والوظيفة في العرف عملٌ يقوم به الرجل للمنفعة العامة، (أي المنفعة المشتركة بين جميع الأفراد الساكنين في المكان القومي) ويأخذ عليه أجرة من الخزانة العامة.

طبيعة الوظيفة ومنشؤها:

البحث في منشأ الوظيفة يقتضي البحث في ظهور الحكومة لأنها مجموع الموظفين، أو بالعبارة الثانية مجموع الأشخاص الذين يقومون بأعمال ضرورية لا تقتصر منفعتها عليهم وحدهم، بل تمتد إلى الهيئة الاجتماعية التي يكون لهم عليها حق الطاعة والانقياد.

وقد أكثر الباحثون من الكلام في منشأ الحكومة وظهر في ذلك كثير من النظريات أشهرها نظرية (العقد الاجتماعي) التي أثارها الفيلسوف الإنكليزي هوبِسْ 1679 - 1988) (Hobbes)) واشتهر بها من بعد جان جاك روسو، وكان لها أكبر الأثر في الثورة الفرنسية الكبرى؛ غير أنها سقطت الآن، وأصبحت في رأي العلم أسطورة خرافية، وأجمع العلماء على اطِّراحها، لأن هذا العقد لم يوجد أبداً، وهوبِسْ وروسو وإن اختلفا في المبدأ - فرأي الأول أن الإنسان مفطور على الشر، وأن الإنسان ذئب الإنسان Homo homini lupus واعتقد الثاني العكس - وإن اختلفا في هذا فهما متفقان على أن الإنسانية اجتازت دوراً طبيعياً مطلقاً من كل القيود، قبل أن تدخل في

ص: 61

الحياة الاجتماعية وتنشئ الحكومة، وتلك فرضية باطلة. والحقيقة أن الإنسانية لم تعرف هذه الحياة الطبيعية أبداً، وإنما عاشت من البدء حياة اجتماعية ساذجة تتمثَّل في القبيلة والأسرة والجماعة. وهذا الذي يراه العلماء المحدثون مطابق لما جاء في الكتب السماوية.

ولن نفيض في هذا البحث لأنه ليس من غرضنا تحقيق المقال في منشأ الحكومة، ولكن غرضنا عرض مسألة (الوظيفة والموظفين) عرضاً جتماعياً، وبيان صلتها بالحياة العامة، لتعالج وينظر فيها في هذا العهد الذي تقف فيه مصر والشام وغيرهما من الأقطار العربية على مفترق الطرق تصفِّي حساب الماضي تصفية عامة، فتبقي على الصالح وتلقي الفاسد. لذلك ندع الكلام في منشأ الوظيفة، وننظر إليها نظرنا إلى (ضرورة اجتماعية) نشأت من ميل الإنسان الفطري إلى الحياة الاجتماعية. وما ظهر في هذه الحياة من حاجات جديدة ليست حاجة فرد دون فرد، ولكنها حاجة المجموع، استلزم القيام بها انقطاع جماعة من الناس إليها تكفَّل لهم الناس بالمعيشة وعاهدوهم على الطاعة ليمكِّنوهم من إنجاز عملهم الذي انقطعوا له، على نحو ما يفعل الذين ينتسبون إلى جمعية أو ناد أو شركة، حين ينتخبون جماعة منهم يديرون الشركة أو الجمعية ويجعلون لهم راتباً معيناً ويعطونهم حقَّ اتخاذ القرارات ويتعهدون بطاعتها وتنفيذها؛ غير أن جماعة الموظفين أو الحكام لم تنشأ بعقد كهذا العقد، ولكنها نشأت بالتدريج وبشكل طبيعي. والراجح أنها كانت تستند في أول أمرها إلى القوة والطغيان، وأنها كانت إرادة طرف واحد، هو الطرف القوي (الحكَّام) اضطر الفريق الثاني (الشعب) إلى قبولها والخضوع لها، لأنه ضعيف ولأنه رأى وجود هذا الحاكم القوي الظالم أخفَّ الضررين وأهون الشرَّين، إذ لولاه لكانت الحالة فوضى وإذن يكون كل قويٍّ حاكماً على كل ضعيف، فيكون بدل الظالم الواحد ألف ظالم ثم تبدَّل هؤلاء الحاكمون الأقوياء على مرِّ الأيام حتى استحالوا أخيراً موظفين خاضعين لنوع من الأنظمة والقوانين يختلف رقيّها وشدَّتها باختلاف الممالك والبلدان.

أما طبيعة هذه الوظيفة فليس لها شبيه في الحقوق الخاصة.

ص: 62

وخير ما يمكن أن يقال فيها إنها تمثيل شخصية الدولة الحقوقية، والتعبير عن إرادتها، وقديماً كان يشبِّهها فريق من العلماء بالوصاية، ويرون الحكام بمثابة أوصياء على الشعب، ثم اتَّضح أن الوظيفة لا تشبه الوصاية بشيء، وأنها أقرب إلى الوكالة. فَسادَ الرأيُ بأن الحكام وكلاء عن الشعب يقومون بأعمالهم بالنيابة عنهم، ويعبِّرون عن إرادتهم؛؟ بيد أن هذه الوكالة تحتاج إلى موافقة جميع الأفراد، وهذا غير واقع ولا ممكن. فما هي طبيعة هذه الوظيفة إذن؟

إنها كما قلنا من طبيعة خاصة لاشبيه لها في الحقوق الخاصة. «وغاية ما يستطاع أن يقال في هذا الشأن هو تشبيه الحكام - كما أشار إلى ذلك الأستاذ هريو (Hauriou) - بالمتبرعين بالعمل، أي بأفراد يقومون بإدارة مصالح الدولة من دون أن يعهد إليهم بها من قبل جميع الأفراد الذين تتألف منهم الجماعة، ولكن هذا التبرع يختلف عن مثيله في الحقوق الخاصة بأنه لا يحتاج إلى إجازة المتبرع له» (1).

وكون الوظيفة ضرورية يُبَرِّرُ هذا الوضع الشاذَّ للسلطة العامة، أو هيئة الحكام أو الموظفين.

حقوق الموظفين ووجائبهم:

تبينَّ أن تقسيم الهيئة الاجتماعية إلى طبقة الحكام (أعني الموظفين) والمحكومين (أي الشعب)، وتكليف المحكومين بالعمل والكسب لإعالة الحاكمين ضرورة حيوية، ولما كانت القاعدة في الضرورة أنها تقدَّر بقدرها، وأن لها أحكاماً خاصة، وجب أن يمنح هؤلاء الحكام (أي الموظفين) أقلَّ قسط ممكن من الحقوق، لتخفَّ أحمال الشعب، وتقلَّ أتعابه، ويحملوا أكبر مقدار من الوجائب، ليتحقق على أيديهم أكبر قسط ممكن من الخدمة العامة.

أما أن يكون على الموظفين وجائب فأمرٌ أساسي اقتضته طبيعة الوظيفة؛ أما أن يكون لهم حقوق، فأمر ناشئٌ عن تلك الوجائب، يستحيل قيامهم بها دون الحصول على هذه الحقوق.

(1) عن الأستاذ ج. ستيف في كتابه الحقوق العامة الشاملة.

ص: 63

وأول الوجائب في الوظيفة أن تكون الغاية من إحداثها تحقيق منفعة عامة ضرورية لا يستغنى عنها ولا يمكن تحقيقها إلا بإحداث هذه الوظيفة، وبغير هذا الشرط لا تكون الوظيفة مشروعة، بل تكون شكلاً من أشكال الاستبداد كما لو أحدثت لمنفعة شخص أو لإرشائه أو لتأمين مصلحة خاصة لحزب من الأحزاب، أو جمعية من الجمعيات السياسية.

وثانيها أن يُختار من الأشخاص أقدرهم على تأمين هذه المنفعة وأن يُراعى في اختياره الكفاية الشخصية والمواهب الذاتية، لا الأسرة ولا اللون الحزبي ولا الشفاعات.

ولهم بعد ذلك حقُّ الطاعة على الرعيَّة من غير أن تحتاج عقودهم وأعمالهم ومقرراتهم إلى المصادقة الفردية من جميع المحكومين أو تحتاج إلى حكم قضائي. يؤيد ذلك اعتبار الحكام (الموظفين) منتخبين من قبل الشعب، وحائزين لثقته، وأنهم (لما هم عليه من الصفات والمزايا) أقل خطأً من سائر الأفراد، وأنه لو أعطي الأفراد حق الاعتراض على كل العقود العامة وإقامة الدعاوى دائماً لأدَّى ذلك إلى الفوضى وعرقلة سير القضايا العامة وضياع المصلحة التي من أجلها أوجدت الحكومة.

وبديهي أن حق الطاعة لا يكون للحكام إلا إذا اتَّبعوا الدستور وساروا على القوانين والعادات المرعية.

ومن حقِّ الموظفين الذين انقطعوا عن الكسب لأنفسهم وعن تأمين مصالحهم الخاصة أن تؤمَّن هذه المصالح من قبل الدولة وأن يُمنحوا بعض الامتيازات، ويتمتعوا ببعض الحصانات.

أي أن للموظف قبل كل شيء أن يأخذ راتباً من خزانة الدولة ولكن كيف يقدَّر هذا الراتب؟ وما هو الأسلوب الصحيح لتعيين مقداره المشروع؟

جاء في البخاري عن عائشة: «أن أبا بكر، رضي الله عنه، لما استخلف قال: لقد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي وشُغلت بأمر المسلمين فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال» .

ص: 64

وكان الذي فرضوا له بُرْدَيه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظهره (دابَّته) إذا سافر، ونفقته على أهله، كما كان ينفق قبل أن يستخلف؛ فرضي بذلك (1).

وهذا الأسلوب طبيعي ومقبول، ولكنه شخصي لا يصحُّ اتخاذه قاعدة عامة، لأنه يؤدي إلى الفوضى، ولا يجعل للرواتب أسلوباً معروفاً، ولا أصلاً ثابتاً، ثم إن فيه حَيْفاً على الموظفين المقتصدين الذين كانوا يعيشون قبل الوظيفة عيشة ضيِّقة أو النابغين المفلسين الذين لا يجدون قبل الوظيفة ما ينفقون، كما أن فيه منفعة للمُسْرفين وتشجيعاً لهم على إسرافهم. وقد يرد هذا الاعتراض الأخير بأن الموظف لا يعطى إلا ما فيه تأمين حاجاته الضرورية، غير أن في ذلك ظلماً للموظف ظاهراً.

فما هي القاعدة المقبولة إذن في هذه الرواتب؟ ..

هي أن يعطى الموظف أقلَّ بقليل مما يستطيع أن يحصِّله من العمل الحر، أو ما يحصله رجل مكافئٌ له في المواهب والسجايا والكفاءة من عمل مشابه لعمله؛ وهذا تقدير معقول دائم الاعتبار يختلف باختلاف البلدان والشعوب، وغناها وفقرها، ورقيها وانحطاطها، وكون ما يُعطاه الموظف أقلَّ بقليل مما يستطيع تحصيله في العمل الحر، ناشئ عن فكرة الدوام في الوظيفة بالنسبة للعمل الحر والراحة والاطمئنان فيها؛ فالتاجر لا يضمن لنفسه مقداراً من الربح كل شهر، كما تضمن الدولة للموظف راتبه، والتاجر مهدد بالإفلاس والضياع، وليس على الموظف شيء من ذلك. ثم إن الدولة توفر للموظف من راتبه قسطاً كبيراً يكفيه ويغنيه أيام مرضه وتقاعده عن العمل، والتاجر موكول إلى نفسه. وللرواتب ضابط آخر هو ألَّا تزيد نسبتها في الميزانية العامة عن الخُمْس (عشرين في المئة) وهذا طبيعي لأن الغاية من الحكومة ضمان المنفعة العامة، وهؤلاء الموظفون وسيلة إلى هذه الغاية، أفيعقل أن تكون الوسيلة غاية؟ أيعقل أن يأخذ

(1) أبو بكر الصدِّيق للطنطاوي، ص 199.

ص: 65

الأعضاء الإداريون في الشركة نصف الأرباح؟ كذلك لا يعقل أن يأخذ الموظفون نصف موازنة الدولة رواتب لهم.

وقبل أن ندع الحديث عن وجائب الموظفين نعرض هذه المسألة: هل الموظفون عمال يقومون بعمل بعينه ثم إذا وفّوه كانوا أحراراً في أوقاتهم وأعمالهم، أم هم مقيَّدون خارج الوظيفة ببعض القيود؟ وبالعبارة الثانية: ما هي علاقة الأخلاق والسلوك بالوظيفة؟ لا أعني التفكير والاتجاه السياسي أو العمل الأدبي، فإنه لا خلاف في أن للموظف أن يفكّر كما يشاء أو يعمل أي عمل علمي أو أدبي أراد، ويأتي كل ما يجيزه القانون لغيره من الأعمال العامة (1) ولكن أعني السلوك الشخصي، وأكثر الناس على التفريق بين الأخلاق الاجتماعية، كالصدق والأمانة والأخلاق الشخصية كالعفاف فلا يرون ما يمنع الموظف إذا كان أميناً على أموال الدولة، قائماً بما أسندت إليه من عمل أن يسلك سبيل اللهو، وينتهز اللذَّات، ويلبِّي صوت نفسه وجسمه، ولا يرون ذلك قادحاً، ولا يجدون له صلة بالوظيفة.

وهذا الرأي باطل كلّ البطلان، لا سيما في بلاد كبلادنا لا يزال الناس ينظرون فيها إلى الموظف (والموظف الكبير على التخصيص) نظرة إجلال وإكبار، ويتَّخذونه قدوة ويسلكون مسلكه، وقديماً قيل: الناس على دين ملوكهم، فإذا فسد الموظفون فسدت الأخلاق العامة، ثم إن من الوظائف ما له علاقة ماسَّة بالأخلاق وما ينبغي في صاحبه الكمال حتى يكون في نظر الناس سالماً من الشوائب منزَّهاً عن المعايب كوظائف المعارف (التعليم) والعدلية (القضاء). فما ظنُّك بمدرس يقوم في النهار واعظاً معلماً، يوفَّى التبجيل، يكاد يكون رسولاً

فإذا كان الليل اجتمع هو وتلميذه في الحانة أو الماخور أو اجتمع معه على باطل

(1) مقالي «الوظيفة والموظفون» الذي وجهته إلى وزير معارف سورية يوم كنت معلماً ابتدائياً في وزارته فقد أوضحت فيه هذه المسألة وعقدته على بيانها وهو في كتابي (مع الناس).

ص: 66

وما ظنك بمفتش يدخل الصفَّ على المدرِّس، ممثلاً القانون والأمة والدين، يُراقب ويسجل ويكون لقراره صفة التقديس فلا يردَّ ولا يكذب، وتكون مقدَّرات المدرِّس معلقة به، ما ظنك بهذا المفتِّش إذا ذهب في المساء يؤمُّ الحانات أو يطرق أبواب المعلِّمات

أو يأتي المنكرات؟ وقل مثل ذلك في القاضي، بل ربما كان احتياج القاضي إلى الكمال، في كل أحواله، وفي كافة أموره، أشدَّ من احتياج المعلم، لأنه يجلس مجلس الأنبياء، ويقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك عنيت القوانين الشرعية، بأخلاق القاضي فلم تكتف بالعلم، وإنما اشترطت فيه بعض الشروط الأخلاقية، فأوجبت فيه أن يكون حكيماً فهيماً مستقيماً أميناً مكيناً متيناً (مجلة - مادة 1792) وقيَّدته ببعض القيود فألزمته اجتناب الأفعال والحركات التي تزيل المهابة (مادة: 1795) ومنعته من قبول هديَّة الخصمين أبداً (1796) ومن الذهاب إلى ضيافة كل من الخصمين قطعاً (1797)

إلخ.

فيا حبَّذا لو عمل بهذه الأحكام، ووضع مثلها للمدرسين ورجال المعارف خاصة، وللموظفين عامة.

وقد يعترض معترض بأن هذه قيود لا يجوز أن يقيَّد بها الموظف، بل يجب أن يتمتَّع بحريته كما يتمتع بها كافة الناس، والجواب أنها قيود حقيقة، ولكنها ضرورية لتأمين الغاية من وجود الموظفين، وهي المنفعة العامة، فإذا كانت هذه القيود شاملة الموظفين، وإذا دخلوا في الوظيفة على معرفة بها، لم تعد قيوداً اضطرارية وإنما تكون بمثابة شرط اختياري، ثم إن في امتيازات الموظفين وحقوقهم التي يمتازون بها من سواد الشعب ما يبرِّر تقييدهم ببعض القيود اللازمة.

تعيين الموظفين:

درسنا الوظيفة على أنها ضرورة حيوية، الدافع إليها والغاية منها المنفعة العامة، وأبَنَّا أن الواجب في اختيار الموظفين، ملاحظة قدرتهم على تحقيق هذه الغاية وكفاءتهم للقيام بها، وهذا هو الحق الذي يقضي به العقل والنقل، جاء

ص: 67

في الحديث عن ابن عباس (1): من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.

وفي الحديث (2) عن يزيد بن أبي سفيان قال: قال أبو بكر الصدِّيق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنَّم.

وكان الشأن في المسلمين الأولين أنهم يفرُّون من الولاية ويخشونها، ولا سيما القضاء فربما عرض عليهم غأبوا، فنالهم أذى فصبروا واحتسبوا ولم يقبلوا. وحديث الأئمة في هذا الباب أبي حنيفة ومالك وغيرهما مشهور معروف، والأحاديث في التنفير من طلب الوظيفة كثيرة جداً حتى عقد لها الحافظ عبد العظيم في (الترغيب والترهيب) باباً مستقلاً. جاء في الحديث الصحيح (الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم) عن عبد الرحمن بن سمرة: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها.

وروى أبو داود والترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدِّده.

وروى مسلم وأبو داود عن أبي ذر قال: قلت يارسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر: إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلَّا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها.

(1) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

(2)

رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

ص: 68

وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يولِّي أحداً حرص على الولاية أو سألها. جاء في الحديث (الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود) عن أبي موسى. قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولَّاك الله تعالى. وقال الآخر مثل ذلك. فقال: إنا والله لا نولِّي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه.

هذا هو الأصل في تعيين الموظفين، يُختار الأصلح للعمل، الأقدر عليه وهو مقيم في بيته، ويُحتال عليه بالإقناع وبالتهديد حتى يقبل مكرهاً فانتهى الأمر عندنا إلى ما يعلمه الناس كلهم، وأصبحتَ تعرض المئة من الموظفين فلا تكاد تجد اثنين من أهل الكفاءات، وإنما تجد من أدخلته الوظيفة شفاعة شفيع، أو جاه وسيط؛ وخير شفيع اليوم «شفيع النوَّاب» (1) وخير وسيط «الأصفر الرنان» أو غير ذلك مما يعلم ولا يقال، وما في قلب كل قارئٍ منه غصَّة، وما يحفظ منه كل قارئٍ حوادث وأخباراً

...

(1) قال الفرزدق: ليس الشفيع الذي يأتيك متَّزراً

ص: 69