المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحجاب ليطمئن السيدات، فليس الكلام عن حجاب النساء، ولكن عن حجاب - فكر ومباحث

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌الحجاب ليطمئن السيدات، فليس الكلام عن حجاب النساء، ولكن عن حجاب

‌الحجاب

ليطمئن السيدات، فليس الكلام عن حجاب النساء، ولكن عن حجاب الأمراء، وإن كان الصنفان يتشابهان في أمور كثيرة:

في الحروف (امرأة. أمراء) كلها من (ام ر). وأثقل القول على النفس فعل الأمر.

وفي أنَّا إن خضعنا للنساء طغيْنَ طغيان الأمراء، وإن لِنَّا للأمراء (تدلَّلوا) دلال النساء.

وفي الحجاب الذي يغري ولا يعطي، ويطمع ولا يطعم، يلبس النساء العديد من الثياب ولكنها ثياب لا تستر جسداً، ويتَّخذ الأمراء الواسع من الأبواب، ولكنها أبواب لا تدخل أحداً.

والحجاب عند الصنفين زينة وفخر، لو كان النساء عاريات أبداً كسائر المؤنَّثات

من إخواننا (باقي المخلوقات) لفقدْنَ تسعة أعشار فتنتهن ونصف العشر أيضاً.

ولو تعرَّى الأمراء عن الشارات والزينات والأبواب والحجاب لخسروا مثل ذلك من هيبة الحكم.

وأرجو أن لا أكون قد أوقعت نفسي في ورطة، فأسخطت عليّ أقوى صنفين من البشر: الأمراء والنساء، وأنا لم أدخل بعد في الموضوع.

وليس اختيار هذا الموضوع من عملي، وليس من عادتي الإغراب في الموضوعات، ولا الرجوع إلى الكتب، ولكنه سؤال ورد على المجلة فأحالته عليَّ،

ص: 122

يسأل فيه صاحبه، عن آية «وكان سهل الحجاب» في أي سورة من القرآن؟ وعن أي نبي من الأنبياء؟ وعن الحجاب في الإسلام، كيف كان.

والجواب أن هذه الآية (!) في السورة التي لم تنزل، عن النبي الذي لم يرسل، أعني أنها ليست آية!

أما حجاب الأمراء في الإسلام فليست له حالة واحدة، ولكنه مرَّ بأدوار، لو أردت أن ألخصها لك لأتت الخلاصة في عشر صفحات، وهي مكتوبة تحت يدي، ولكن المجلة شرطت عليَّ أن تكون المقالة في صفحتين لذلك أكتفي بهذه الإشارة

...

كان الرسول يصرِّح دائماً أنه ابن امرأة من قريش. وأنه ليس ملكاً ولا يريد الملك، فلم يكن دونه حجاب، ولا على بابه بوَّاب. ولم يميز نفسه من أحد من أصحابه في طعام ولا لباس، ولا مجلس، وكان يكره حتى مظاهر الاحترام المألوفة، فيمنع أصحابه أن يقوموا له إذا دخل، ويأبى إلَّا أن يجلس حيث ينتهي به المجلس. وكان يشارك قومه في كل عمل، لمَّا بنوا مسجد المدينة اشتغل في البناء كواحد منهم، ولما حفروا الخندق حفر معهم، وكانوا إن طلعت عليهم صخرة صلْدة عجزوا عنها، رجعوا إليه فضربها هو، وإذا اشتدت المعركة احتموا به، وكان يصبر على شظف العيش ويحيا حياة أفقر واحد من الناس: أما بيته (القصر النبوي)، فكان سلسلة من الغرف الصغيرة في ركن المسجد، كل غرفة منها دار لإحدى زوجاته مبنيَّة من اللبن والطين، ومع ذلك فلم يكونوا يتركونه يستريح فيها؛ أو يتحدَّث أو يأكل، وكان يستحي منهم أن يمنعهم حتى أنزل الله قوله:{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنَّ ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق} .

ولم تبق هذه المزيَّة للرسول وحده، بل نزلت آيات سورة النور، فقررت (حريَّة المساكن) للجميع، وجعلتها قواعد عامة، فمنعتهم أن يدخلوا بيوت

ص: 123

الآخرين إلا بإذن من أصحابها {حتى تستأنسوا وتسلِّموا على أهلها} ولو كانت خالية {فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها} باستثناء حالة واحدة {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم} .

فكفَّ المؤمنون عن إزعاجه صلى الله عليه وسلم بدخول بيته في أوقات راحته، ولكنهم (أي بعضاً من أعرابهم) صاروا ينادونه من وراء الجدران ليخرج إليهم، وفي ذلك إزعاج أكبر فأنزل الله فيهم:{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم} .

ولمَّا توفي رسول الله سار خلفاؤه على طريقه، فلم يختبئوا وراء الأبواب، ولم يحتموا بالحجاب، ولم يمنعوا ذا الحاجة، وإذا قرأتم أن (يرفأ) مثلاً كان حاجب عمر، وأن عثمان حجب أبا سفيان مرة، وأمثال هذه الأخبار، فالمراد منها أن هذا الحجاب كان على المساكن الخاصَّة، في غير أوقات العمل، وهو حق للناس جميعاً، ولولاه لما ترك الناس الخليفة ينام أو يستريح أو يجالس أهله، أما النهار كله فكان لأمور الرعية، ومصالح الناس. لا يحول باب بين الخليفة وبين الناس، ولا يحجز بوَّاب.

ولما اتَّخذ سعد أمير العراق داراً لنفسه في الكوفة، وجعل لها باباً مغلقاً بعث عمر محمد بن مسلمة (المفتِّش الإداري العام) فأمره أن يكسر الباب ويرجع.

وأول من اتَّخذ لنفسه مظاهر السلطان وحوَّلها من خلافة إسلامية، إلى ملكية قيصرية، هو معاوية، وإن لم يتَّخذ من هذه المظاهر إلَّا الشيء القليل الذي تحتمله طبيعته العربية، وطبيعة هذا الشعب العربي، الممعن في فكرة المساواة، الذي يأبى على الأمير أقلَّ امتياز ولا يطيقه، وكان من ذلك اتَّخاذه الحاجب.

رفض الناس هذا الحجاب الخفيف وأبوْه. وغضب منهم كرامهم، وقالوا فيه شعراً كثيراً، منه قول عبد العزيز بن زرارة، وكان يسمَّى فتى العرب:

ص: 124

دخلت على معاوية بن حرب

وذلك إذْ يئست من الدخول

وما نلت الدخول عليه حتى

حللت محلَّة الرجل الذليل

وأغضيت الجفون على قذاها

ولم أسمع إلى قال وقيل

يشير أنَّ الناس لاموه على احتماله ذلك الحجاب ولكنه أغضى عنهم، وذلك أن الناس ينتظرون من الشريف أن يترفَّع وينصرف كما انصرف أبو الدرداء عن باب معاوية، وقال ما معناه:«إن أغلق بابه فإن باب الله مفتوح» .

واشتدَّ الحجاب بعد ذلك ولكن بقيت في الأمراء السليقة العربية، فنهى زياد حاجبه عن منع صاحب الحاجة، ورسول الثغر، وحاجب الطعام، وداعي الصلاة. وقال خالد القسْري لحاجبه: إِذا أخذت مجلسي فلا تحجبنَّ عني أحداً، فإن الوالي لا يحتجب إلا لثلاث: عيب يكره أن يطَّلع عليه أحد، أو عيٌّ يخاف أن يظهر، أو بخل يكره معه أن يسأل شيئاً.

فلما آل الأمر إلى عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، ترك قصر الخلافة، أي الدار الخضراء (في موضع المصبغة الصفراء في القباقبية) وسكن في داره (السميساطية) وفتح بابه للناس كلهم.

فلما آلت الخلافة إلى بني العبَّاس، وأخذوا أساليب الحكم الفارسي، صار للحجابة قواعد وقوانين، وصار الحاجب من أركان الدولة (الأمين العام للقص). واشتهر من الحجَّاب جماعة كان لهم أثر ظاهر في سياسة الدولة كالربيع وولده الفضل، والمنصور في الأندلس الذي استبد بالملك وأنشأ دولة لبثت أمداً، ونشأ عن ذلك شعر وحكم وقصص ملأت كتب الأدب، حتى أنه لو حاول أحد طلَّاب كلية الآداب إعداد رسالة (أطروحة) في (أدب الحجَّاب) لنال شهادة الدكتوراه.

ووقف الناس من هذا الحجاب مواقف.

منهم من كان يمثل النظرة الإسلامية التي تأبي الحجاب، وهم العلماء الذين كانوا يعظون الخلفاء دائماً، ويبيِّنون لهم كراهية الإسلام لهذا الحجاب،

ص: 125

ويروون لهم الأحاديث فيه، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من ولَّاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلَّتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وفقره (1). وقوله: «من ولي من أمر الناس شيئاً فاحتجب عن أولي الحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة» (2).

أي أن العلماء لم يعترفوا أبداً بهذا الحجاب، ولبثوا ينكرونه كما ينكرون سائر المنكرات.

ومن أباه كرامة ورجولة، وهم الشعراء الذين ملأوا الدنيا أشعاراً بذمِّه والتشنيع عليه، حتى أن المرء ليستطيع أن يجمع من ذلك ديواناً قائماً برأسه، من ذلك قول أبي تمام:

سأترك هذا الباب ما دام إذنه

على ما أرى حتى يخفَّ قليلا

إذا لم نجد للإذن عندك موضعاً

وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا

وقول محمود الورَّاق:

شاد الملوك قصورهم فتحصَّنوا

من كل طالب حاجة أو راغب

فإذا تلطف في الدخول إليهم

راج تلقَّوه بوعد كاذب

فاطلب إلى ملك الملوك ولا تكن

يا ذا الضراعة طالباً من طالب

وقول أبي مهر:

إني أتيتك للتسليم أمس فلم

تأذن عليك ليَ الأستار والحجب

وقد علمت بأني لم أردَّ ولا

والله ما ردَّ إلا العلم والأدب

وقول أبي العتاهية:

لئن عُدْتُ بعد اليوم إني لظالم

سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم

متى ينجح الغادي إليك بحاجة

ونصفك محجوب ونصفك نائم؟

(1) قال الشيخ ناصر: أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم وأحمد. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

(2)

قال: أخرجه أحمد والطبراني وهو حديث حسن، وقال المنذري: إسناده جيد.

ص: 126

ومنهم من كان يتوسَّل بطريف الوسائل للدخول بعد الحجاب. ولا يتسع المجال إلا لإشارة منها إلى بعض هذه الأخبار فمن ذلك قصة إسحاق مع المأمون، لما توسَّل إليه بأبياته الدالية المشهورة، وقصة الرجل الذي كتب بيتاً على خشبة وأجراها في الساقية إلى معن بن زائدة، وقصة الأعرابي الذي سخر من حاجب عبد الملك لما فسَّر له (إذا الأرطي توسَّد أبرديه) بأن ذلك صفة البطِّيخ الرمسي، وقصة الرجل الذي أبى الحاجب أن يدخله إلا إذا أعطاه نصف جائزته، فلما خيَّره الأمير في الجائزة طلب أن يضرب مئة مقرعة ليأخذ الحاجب نصفها، والأخبار كثيرة مستفيضة بها كتب الأدب.

وكان للخلفاء الأمويين والعباسيين مع ذلك أيام يفتح فيها الباب للجمهور وأيام يجلسون فيها للمظالم ويسمعون الشكايات من كل شاك.

والخلاصة أن الدين والعقل، يمنعان الناس من أن يدخلوا على الأمير، أو الموظف، في كل وقت، فيمنعوه من عمله، ويحرموه من راحته، ويمنعان الأمير أو الموظف، من أن يغلق دائماً بابه، وينصب بوَّابه، فلا يراه أحد ولا يصل إليه، ويوجب أن يخصِّص وقتاً للمراجعة، وأن يكون للمراجع المسكين، والمرأة الفقيرة، من وجهه ومجلسه مثل ما يكون للغني والقوي وذي السلطان، وأن يعلم أن شدَّة الحجاب تورث العداوة والبغضاء وغضب الناس وسخط الله:

إذا كان الكريم له حجاب

فما فضل الكريم على اللئيم

***

ص: 127