المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سؤال كان في بلدنا أوقاف كثيرة وقفت على المشتغلين بالعلم والمنقطعين - فكر ومباحث

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌سؤال كان في بلدنا أوقاف كثيرة وقفت على المشتغلين بالعلم والمنقطعين

‌سؤال

كان في بلدنا أوقاف كثيرة وقفت على المشتغلين بالعلم والمنقطعين إليه. يفتحون لهم بريعها المدارس الواسعة، ويعدُّون لهم الغرف المفروشة، ويهيئون لهم فيها المكتبات القيِّمة، ويقيمون لهم الخدم ويقدمون إليهم كل ما يحتاجون إليه من طعام وشراب وحلية ومتاع، ويفرِّغون قلوبهم من كل همٍّ إلا همَّ الدرس والبحث، فكان الناس يرغبون في العلم، ويقبلون عليه ويبرزون فيه

ثم ذهب ذلك كله بذهاب أهله، وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الأوقاف، وأكلوا أموالها، فتهدَّمت هذه المدارس، وأمست خرائب وأطلالاً. ثم سرقها الناس فحوَّلوها بيوتاً، وطمسوا آثارها

فأعرض الناس عن العلم وزهدوا فيه، فقلنا: لا بأس، إنها قد تتحوَّل -تلك المدارس- إلى دور عجزة، وقد تصير أحياناً ملجأ كسالى، ومأوى عاطلين، وعندنا المدارس الجديدة، تسير على منهج مقرر، ونظام معروف، وطريق واضح، فما نحن إلا كمن أضاع درهماً ووجد ديناراً. وأقبلنا على هذه المدارس، إقبال العطاشى على المنهل الصافي، ومنينا أنفسنا بكلِّ جليل وجميل ولكنا علمنا بعد أن خرجنا منها وواجهنا الحياة، أنها لم تقم بما كان يرجى منها ويجب عليها

ووجدنا أننا لا نصلح في هذه الحياة إلا لشيء واحد، هو (الوظيفة)؛ أما العمل الحرّ، والمغامرة في الحياة فنحن أبعد ما يكون امرؤ عنه؛ ووجدنا سبيل الوظيفة مسدوداً وكراسيَّها مملوءة؛ وكيف لا تكون كذلك وكل الناس يسعى إليها ويريدها؟ هل يكون أبناء الشعب كلهم موظفين؟ فكنا واحداً من رجلين: أما الغييُّ الموسر فعاش بمال أبيه. وأقام منه سوراً حوله،

ص: 209

فلا يرى الحياة، ولا تصل إليه بآلامها ومصائبها. وأما الفقير فيتخبَّط في لجَّة اليم (يمِّ الحياة) تضربه بأمواجها، فلا ينجو من لطمة إلا إلى لطمة، ولا يخلص من شقاء إلا إلى شقاء.

وقد يكون في هؤلاء الفقراء موهوبون، وقد يكون فيهم ذوو المَلَكَات، وفيهم من إذا استراح من همِّ العيش واشتغل بالعلم برَّز فيه وبرع، ونفع أمته ووطنه وخلَّف للأجيال الآتية تراثاً علمياً فخماً كالذي خلَّفه لنا الأجداد

فماذا يعمل هؤلاء؟ ومن أين لهم العقل الذي يدرسون به، والهمَّة التي يؤلفون بها، وعقولهم ضائعة في البحث عما يملأ مِعَدهم الجائعة، ويستر أجسادهم العارية، وهممهم مصروفة إلى ضمان الكفاف، والحصول على ما يتبلَّغون به؟

لقد قال الشافعي، رحمه الله، منذ الزمن الأطول: لو كلِّفت شراء بصلة ما تعلَّمت مسألة

فكيف يتعلم ويدرس ويؤلِّف من يكلَّف شراء الرغيف وشراء ثمن الرغيف؟

إني أعرف كثيرين ممن يؤمَّل لهم أن يبرعوا في الأدب، ويتفوقوا في العلم، قدَّر الله عليهم الفقر والإفلاس، وعلَّق بأعناقهم أسراً عليهم إعالتها، والسعي في إعاشتها، فألقوا القلم والقرطاس، ورموا الدفتر والكتاب، وخرجوا يفتِّشون عن عمل

يطلبون وظيفة؛ غير أن الطريق إلى الوظيفة وعْرٌ ملتو طويل، لايقدر على سلوكه، ولايبلغ غايته، إلا من حمل معه تميمة من ورق (البنكنوت) يحرقها أمام أبواب الرؤساء لتخرج شياطينها فتفتح له الباب. أو صحب معه (الشفيع العريان) وأين من هذين الشاب النابغ المفلس الشريف؟ ثم إنه إذا بلغ الوظيفة وجدها لا تصلح له ولا يصلح لها، وضاقت به وضاق بها!

أعرف كثيرين من هؤلاء يظهرون فجأة كتَّاباً مجدِّين، وشعراء محسنين، وعلماء باحثين. فما هي إلا أن تنزل بهم الحاجة وتنيخ عليهم (هموم الخبز) حتى تقطعهم عما فيه، ثم تذوي ملكاتهم وتَجفُّ قرائحهم وتتركهم يموتون على مهل، ويموت بموتهم النبوغ. وأرباب الأقلام وأصحاب الصحف يشهدون مصارعهم

ص: 210

في صمت وإعراض، لا يهتمُّون بهم، ولا يظنون أن عليهم واجباً تلقاءهم، حتى إذا قضوا قاموا يطنطنون بذكرهم ويشيدون بمواهبهم، ويركبون على قبورهم ليقولوا للناس: انظروا إلينا

هذه هي علَّة الشرق:

لا ألفينَّك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادي

ورحم الله القاضي عبد الوهاب المالكي، خرج من بغداد فخرج لوداعه عشرون ألفاً، يبكون وينتحبون، فقال لهم: يا أهل بغداد، والله ما فارقتكم عن قِلَى، ووالله لو وجدت عندكم عشاء ليلة ما فارقتكم، وهم يبكون وينتحبون ويصرخون: إنه يعزُّ علينا فراقك، إننا نفديك بأرواحنا، يا شوقنا إليك، يا مصيبتنا بفقدك!

...

هذه هي المسألة

أفليس هناك طريقة لإنقاذ الدماغ من المعدة؟ لإنصاف العلم من المال، لحماية النبوغ من الضياع؟.

من يشتغل بالعلم والدرس والكتابة والتأليف إذا كان الفقراء لا يطيقونه، والأغنياء لايحسُّونه؟ أكان لزاماً على من يشتغل بذلك أن يموت من الجوع؟ ألا يستحق هذا المسكين بطريقة من الطرق، بقانون من القوانين، عشرين ديناراً، يأخذها موظف جاهل خامل بليد، لا يحسن شيئاً إلا النفاق والالتماسات والوساطات، ولا ينفع الأمة معشار ما ينفعها هذا الذي يذيب دماغه، ويحرق نفسه، ويعمي بصره، وينفق حياته في النظر في الكتب، والخطِّ بالقلم؟

أما في ميزانية الدولة، أما في صندوق الجمعية، أما في مال الجريدة، ما تشترى به آثار هذا الكاتب (1)، وأشعار هذا الشاعر، وبحوث هذا العالم، بالثمن الذي يعدل ما بذل فيها، ليعيش فيصنع غيرها.

(1) تحقق هذا الأمل، وصارت الدولة تشجِّع الأدباء، وتشتري الكتب، ولكن حظُّنا من ذلك كله أن نسمع به ولا نراه.

ص: 211

هذه هي المسألة!

هل يجب أن يموت النابغ لأنه نابغ، ويعيش الأغبياء والجاهلون؟ أم يجب عليه أن يميت نبوغه ليعيش، ويبيع عقله وذكاءه برغيف من الخبز؟.

***

ص: 212