المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النفقات والتكافل الاجتماعي - فكر ومباحث

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌النفقات والتكافل الاجتماعي

‌النفقات والتكافل الاجتماعي

[ألقيت في الحلقة الاجتماعية التي عقدتها جامعة الدول العربية ومثِّلت فيها دولها كلها، وكنت مندوب الجمهورية السورية فيها وأحد الثلاثة الذين انتخبوا للجنتها العليا (لجنة الصياغة)]

مقدمة:

كنت قاضياً في القلمون (من أقضية دمشق) سنة 1941 و1942 حين اشتدَّت أزمة الحرب، واستحكم الغلاء، وكانت سنة ضيق. والقلمون بطبيعته ضيِّق الرقعة المزروعة، قليل الموارد، أكثر أرضه جبا مقفرة، وأكثر ناسه فقراء، وقليل منهم الموسرون.

وقد قامت الحكومة يومئذ بتخصيص يوم للإسعاف العام والتبرعات سمَّته (يوم الفقير) جمعت فيه ما جاد به الناس، وواليت العمل بعد ذلك على إسعاف المحتاجين، وألَّفت لجنة لذلك كنت أبتدع لها الطرق الجديدة للجمع. ومن ذلك (مشروع الرغيف) الذي ابتكرتُه، وهو مشروع سهل جمّ الفوائد، خلاصته أن نأخذ من كل دار رغيفاً في اليوم، يسهل على المعطي إعطاؤه، ويعظم عند الأخذ نفعه. ولكني وجدت ذلك كله غير واف بحاجات الفقراء. فرجعت إلى أحكام الفقه الإسلامي، وفقهنا ذخر لا ينفذ في كل باب من أبواب الإصلاح، فأوعزت إلى خطباء المساجد أن يبينوا للناس أحكام نفقات الأقارب، وأن يرشدوهم إلى الادِّعاء بها وتتابعت الدعاوى في المحكمة، وألزم غنيُّ كل أسرة بفقيرها. فكان ذلك أجدى من كل ما كان جمع من التبرعات.

من ذلك اليوم علمت أن نفقات الأقارب، إذا طبقت أحكامها الشرعية

ص: 174

على وجهها تكون أعون على الإصلاح الاجتماعي، وأدعى للتكافل بين الناس، ودفع غائلة الفقر والحاجة، من كل تبرع أو إحسان.

من هم الأقارب:

نحن نقصد بلفظ الأقارب في هذا البحث أفراد الأسرة الواحدة، سواء أكان مصدر هذه القرابة الزواج أو الولادة أو الجوامع العائلية الأخرى. وإن كان لنفقة الأقارب في الاصطلاح الفقهي معنى أضيق من هذا المعنى.

القاعدة العامة في النفقة:

هي أن نفقة كل امرئ في ماله إن كان له مال، إلا الزوجة.

فالزوجة سواء أكانت غنية أم فقيرة. يكلف بنفقتها الزوج. وذلك في مقابلة تقيدها بالبقاء على عصمته والاحتباس لأجله. والاعتراف له بالرياسة في الشركة الزوجية.

وغير الزوجة من الأقرباء نفقة كل منهم في ماله إن كان ذا مال، ولو كان أباً أو أماً عجوزاً أو طفلاً، لا يكلف أحد بالإنفاق عليه. فإن لم يكونوا ذوي مال، وكانوا قادرين على التكسُّب كلِّفوا به ولم يسمح لهم الشرع بالبطالة، والعيش عالة على الآخرين. إلا إذا كانوا من الأصول فإن للأصل الفقير (للأب مثلاً والجد) حقَّ الاستراحة والاعتماد على ولده الغني، أو الفروع المؤنَّثة الفقيرة فإن الشرع لا يكلِّف الإناث العمل للعيش، والكدح للمعيشة، ولهن قريب موسر.

الأحكام المعمول بها في سورية:

هذا هو المعمول به في سورية -وهو المذهب الحنفي- وهو يجعل اعتبار القرابة الشديدة في وجوب النفقة لغير الزوجة والولد مقدماً على اعتبار الإرث. فيجعل النفقة على الخال ولو لم يكن وارثاً، ولا يلزم بها ابن العم مع أنه هو الوارث. ولا أجد حاجة لبيان هذه الأحكام فهي معروفة مقررة، يمكن الرجوع إليها في كتاب الأحكام الشرعية لقدري باشا. المعتبر في سورية بمثابة

ص: 175

النص القانوني فيما لم يرد في قرار حقوق العائلة تعديل له (1). وكتاب النفقات لعلي حيدر، وهو أوسع مرجع في هذا الباب، وهو مطبوع في (قاموس الحقوق).

التعديلات التي أقترحها في هذه الأحكام:

1 -

في الموضوع:

(أ) القاعدة العامة في الحقوق والواجبات أن الغرم بالغنم. والخسار بالربح، فمن كان يرث المرء إذا مات غنيّاً، أولى بان ينفق عليه إذا عاش فقيراً. ولو كان أبعد درجة من القريب الذي لا يرث. وهذا هو مذهب الإمام أحمد (2). وأنا أقترح أن تأخذ به الدول المشتركة في هذه الحلقة في تشريعاتها المتعلِّقة بالأحوال الشخصية.

(ب) إن حدَّ اليسار الذي يجب به الإنفاق على المدَّعى عليه، وتمتنع به النفقة عن المدَّعي. غير واضح في الأحكام المعمول بها. ومن الفقهاء من اعتبر فيه يسار الفطرة، ومنهم من اعتبر نصاب الزكاة. وأنا أقترح تحديده بالعرف، وإناطته بالقاضي.

(جـ) وقد شاهدنا في المحكمة مراراً حالات يكون فيها لطالب النفقة حصَّة من عقار أو حصص من عقارات مشاعة، لا تباع ولا ينتفع بمواردها، لسبب من الأسباب، كأن تكون حصصاً ضئيلة لا يرغب بشراء مثلها، أو تكون محتاجة إلى معاملات انتقال وفراغ يعجز صاحبها عن أدائها، ويعيش فقيراً في الواقع، مع أنه غني في نظر القانون بهذه الحصص، وأنا أقترح أن يسنَّ تشريع يتفق عليه في الدول المشتركة في هذه الحلقة يلزم به القريب الموسر بإدانة الطالب في مثل هذه الحال وتخويله حق الرجوع عليه متى أيسر ببيعها أو من طريق آخر (3)، على أن توضع إشارة الرهن على هذه العقارات لمصلحة الدائن.

(1) لم يكن قد صدر القانون المعمول به الآن.

(2)

قبل هذا الاقتراح وصدر به قانون الأحوال الشخصية.

(3)

العمل على ذلك الآن.

ص: 176

(جـ) مكرر - والعجز عن الكسب المعتبر الآن هو العجز الصحي، ومن المشاهد أن المرء قد يكون صحيح الجسم قادراً على العمل ولكنه لا يجد عملاً لبوار صناعته أو لانتشار التعطُّل الإجباري أو لسبب آخر، وهو في الواقع بحكم العاجز صحيّاً - وأنا أقترح أن يطبَّق في هذه الحال ما اقترحته في الفقرة (جـ).

(د) العمل في سورية على اعتبار نفقة الزوجة من تاريخ الادِّعاء، وغيرها منذ تاريخ الحكم، وقد تطول المحاكمة شهوراً أو سنة أحياناً، وقد وقع ذلك مراراً، وأنا أقترح أن يعتبر فيها جميعاً تاريخ الدعوى (1). يلزم المدَّعى عليه عند الحكم عليه بالنفقة بأدائها من ذلك التاريخ. وليس في الشرع مانع من ذلك والمسألة اجتهادية وفي أقوال الفقهاء ما يوافقه.

(د) مكرر - وقد يكون الزوج فقيراً أو عاجزاً (مع فقره) عن كسب مثله، والزوجة غنيَّة وأنا أقترح الأخذ بقول من يرى إلزامها بنفقته، فتديِّنه في الحالة الأولى إلى وقت اليسار، وتنفق عليه في الثانية بمقدار إرثها منه، مع ملاحظة أن التشريع المصري الجديد في الميراث أخذ بقول عثمان في الرد على الزوجة، وأن من المستحسن أن تأخذ بذلك سائر الدول المشتركة في الحلقة (2).

(هـ) إن الأب قد يكون شاباً قوياً ويؤثر البطالة تعنُّتاً وكسلاً وهرباً من العمل وفي إلزام ولده بنفقته في هذه الحالة تشجيع له على البطالة، وإضرار بالمجتمع. وأنا أقترح حرمانه في هذه الحالة من النفقة (3)، موافقين في ذلك أحد قولي الشافعي.

2 -

في الشكل:

(أ) دعاوى النفقات من الدعاوى المستعجلة، وفي اتباعها قواعد المرافعات العامة. ومدد التبليغ والاستمهال للإثبات ودعوة الشهود والبيِّنة

(1) جرى العمل على ذلك الآن.

(2)

أخذ بذلك في قانون الأحوال الشخصية الذي وضع بعد إلقاء هذه الكلمة وكنت أنا الذي وضع مشروعه.

(3)

أخذ بذلك أيضاً في قانون الأحوال الشخصية.

ص: 177

المعاكسة تطويل قد يضيع الغاية من إقامة الدعوى، عدا عمَّا في ذلك من نفقات يعجز عنها المدَّعي المفروض فيه أنه لا يجد ما يتبلَّغ به وأنا أقترح الاتِّفاق بين الدول المشتركة في الحلقة على سنِّ تشريع يبسط إجراءات هذه الدعاوى (1) ويقلِّل نفقاتها ويقصر مددها، ويسهال تنفيذها.

(ب) العمل الآن على أن مقدار النفقة يحدده خبير أو ثلاثة خبراء في ذلك تقييد للقاضي وتطويل للمرافعة. وما يضعه الخبير من البحث والسؤال يمكن أن يضعه القاضي، وأنا أقترح على الدول المشتركة في الحلقة جعل ذلك منوطاً بالقاضي على أن يبينِّ أسباب التقدير (2) ويكون بحث هذه الأسباب خاضعاً لإشراف المحكمة العليا.

(جـ) في بعض القوانين الجديدة في سورية مثلاً ما يضيع الغاية من إقرار أحكام نفقات الأقارب، من ذلك قانون العمل الذي يمنع أن يقتطع من راتب العامل أكثر من الثلث. وهذا القانون نافع لحماية العامل من أرباب العمل وغيرهم. ولكن من يحمي أولاد العامل وزوجته منه؟ وماذا يصنعون إن كانوا سبعة أو ثمانية أمّاً وستة أولاد أو سبعة بثلث الراتب مثلاً؟ وهل يكون له وحده أكثر مما يكون لهم جميعاً (2)؟.

إلزام الخزانة العامة بنفقة من لا قريب له:

الحكم الشرعي على أن الفقير المزمن العاجز عن الكسب والمرأة التي لا معيل لها، وأمثال هؤلاء ممن يستحق النفقة وليس له من تجب عليه، نفقتهم في بيت المال، وقد حكمنا بذلك مراراً ولكن وزارة المال لم تنفِّذ، وأنا أقترح على الدول المشتركة في الحلقة إحياء هذا الحكم والنص على إجابته بقانون يلزم خزانة الدولة بنفقة من لا يقدر على الكسب. ولا مال له ينفق منه ولا قريب ينفق عليه.

(1) و (2) أخذ بذلك أيضاً في قانون الأحوال الشخصية.

(2)

أخذ بهذا الاقتراح.

ص: 178

مشكلة:

الحكم الشرعي على أن هذه النفقة حقٌّ شخصي لصاحبها. ليست لغيره أن يطالب به، ويمكن في رأيي تنظيم أمر النفقات وجعلها مصدراً مالياً لمشروعات التكافل، من غير إخلال بالحكم الشرعي، بأن يوقِّع الفقير الذي يستحق هذه المعونة العامة وكالة (لمصلحة التكافل)، وهي تخاصم عنه قريبه، وما تحصِّله من القريب يكون مورداً للمصلحة، مقابل ما تدفعه للفقير، على نحو ما جرت عليه مصر في أجور الخبراء بعد إنشاء إدارة الخبراء في وزارة العدل المصرية.

والمشكلة هنا هي أننا في هذا التوحيد للواردات والمصروفات، نكون قد ألزمنا زيداً من الناس بنفقة من لا تلزمه نفقته. أي أنه إذا كان لدينا فقيران، قدِّرت النفقة لأحدهما على قريبه الغني بمئة ليرة في الشهر، وللآخر بثلاثين، والمعونة المخصصة لكل منهما هي خمس وستون، فيكون القريب الغني للأول قد ألزم بنفقة الفقير الثاني.

وإن جرينا على الحكم الشرعي وكانت المصلحة واسطة للتحصيل فقط، ولم توحِّد الأموال التي تحصلها، تكون قد أعطت فقيرين متماثلين، مبالغ متفاوتة جداً.

وهذه المشكلة تحتاج إلى بحث في اللجنة.

مورد آخر لتمويل المشروع:

وما دمنا نبحث في تمويل المشروع من الزكاة والوقف ونفقة الأقارب فإنني أذكر بالمناسبة مورداً آخر غزيراً جداً هو الوصايا، ونحن نسجِّل في المحكمة الشرعية في دمشق كل سنة وصايا بمبالغ طائلة يكون أكثرها في البدع والمخالفات (1) وللدجَّالين وأصحاب الطرق، وقد حاولت تنظيم أمر صرفها

(1) من قانون الأحوال الشخصية الوصيَّة بهذا كله واعتبرها باطلة.

ص: 179

بإرشاد الموصين إلى أوجه البر والخير فيها، فلو أن المصلحة التي ستنشأ للتكافل الاجتماعي فكَّرت في طريق هذا التنظيم لكان لها من ذلك مورد كبير ولدفعت به عن الأمة هذا الشرَّ المستطير.

***

ص: 180