الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقيدة بين العقل والعاطفة
على هامش المناظرة بين خلَّاف وقطب
ذهبت مرة أزور الأستاذ «الزيات» في دار الرسالة، وكانت زيارته أحبَّ شيء إليَّ وأنا في مصر، وكانت دار الرسالة أقرب الأمكنة في القاهرة إلى قلبي، فلذلك كنت أؤمها كل يوم، ولولا خوفي من ملل الأستاذ ما كنت لأفارقها
…
أقول إني ذهبت أزوره مرة فوجدت عنده شاباً أسمر اللون لطيفاً هادئاً تبدو عليه سيما المسالمة والموادعة والإيناس، فقال لي: إني أعرِّفك بالأستاذ سيِّد قطب، وأحلف أني شدهت، وكنت أرتقب أن يكون هذا الشاب أي إنسان في الدنيا إلا سيد قطب، وكنت أستطيع أن أتخيل سيد قطب على ألف صورة إلا هذه الصورة، وازددت يقيناً بأن من الخطأ البينِّ أن تحكم على شخص الكاتب بكتابته، أو تعرف الشاعر من شعره، وفوجئت مرة أخرى بما لا أرتقب حين تفضل فأهدى إليَّ كتابه «التصوير الفني في القرآن» . لأني لم أتخيل سيد قطب إلا مقارعاً محارباً، ولم أعرفه إلا كاتباً مجادلاً مناضلاً، يهاجم مهاجماً ومدافعاً ومحايداً .. وذهبت فقرأت الكتاب فوجدت فتحاً والله جديداً، ووجدته قد وقع على كنز كأن الله ادَّخره له، فلم يعط مفتاحه لأحد من قبله حتى جاء هو ففتحه، وشعرت عند قراءته بمثل ما شعرت به عند قراءة «دفاع عن البلاغة» لسيد البلغاء الزيَّات، وجرَّبت أن أكتب عنهما فما استطعت، إكباراً لهما وإعظاماً لشأنهما، وكذلك الأثر الأدبي إذا هبط إلى قرارة الفساد أو سما إلى ذروة الجودة، أعجز النقَّاد وابتلاهم في الكتابة عنه بأضعف التكاليف، فأنا أُقرُّ بالعجز عن نقد هذين الكتابين، وعن نقد (شعر
…
) بشر فارس أو أبحاث سلامة موسى، لأن من تحصيل الحاصل أن تقول للجيد لا شك فيه، هو جيد، وأن تقول للفاسد المتَّفق عليه هو فاسد، لأنك كالذي يقول للشمس أنت مضيئة وللَّيل أنت مظلم!
وكتب عنه أخي وصديقي الأستاذ عبد المنعم خلاف صاحب الكتاب العبقري (أومن بالإنسان)، وردَّ الأستاذ سيد وكانت هذه المناظرة التي رأيت أن أُدْخل نفسي فيها لأقول كلمة على (هامشها
…
)، وهذه هي المرة الثانية أتطفَّل فيها على مناظرات الأستاذ قطب، ولكن ليطمئن القراء فما هي كالأولى ولا هي منها في شيء، وأنا في هذه المرة مؤيد له وقد كنت في الأولى عليه، وهذه مناظرة هادئة باسمة، وقد كانت تلك معركة صاخبة مجلجلة كالحة الوجه عابسة، وأنا أعرف الآن الأستاذ قطب وكنت أتخيَّله تخيلاً، والأستاذ خلَّاف أخي حقيقة، والأستاذ قطب رفيقي في دار العلوم سنها 1928 على ذمة الأستاذ اللبابيدي الفلسطيني الذي نشر ذلك في الرسالة إبَّان المعركة الأولى (معركة الرافعي والعقاد)، فأنا لست إذن غريباً عن المتناظرين.
…
لخَّص الأستاذ قطب الخلاف بينه وبين الأستاذ خلاف، في كلمات هي أنه (هل من الممكن أن نعهد إلى الذهن وحده بأمر العقيدة، وأن نقيم هذا البناء الضخم في الضمير الإنساني على أساس القوة الذهنية ومنطقها المعهود)؟ وأجاب عليها بالنفي.
وأنا أجيب كذلك بالنفي، ولكني أمهِّدُ لذلك بتحديد معنى الذهن أو العقل (كما أفهمه أنا)، ومعنى العاطفة، وهذه طريقة علمائنا في الجدل، إذ ربما اختلف اثنان، وما اختلافهما في الحقيقة إلا على معاني الألفاظ، فكلٌّ يريد بها شيئاً، وليس بينهما لفظ جامع يرجعان إليه، ويستقرَّان من بعدُ عليه.
وأعترف بأن هذا التحديد لا يمكن أن يكون تاماً، ولا نستطيع أن نضع لِكُل من العقل والعاطفة التعريف الجامع المانع، أو (الحدَّ) الذي يريده أهل المنطق، لأن مدلول كل لفظ يدخل في مدلول الآخر، فهما كدائرتين متقاطعتين، ففي كلٍّ قسمٌ متميِّز مختص بها، ولكن فيها قسماً لايدرى أهو منها أم هو من الأخرى، ثم إنه لا يصدق التشبيه ولا يكمل إلا إذا تصورت في الدائرتين حركة دائمة كحركة المدِّ والجزر، فهما لا تسكنان أبداً.
على أن الأمم كلها قديماً وحديثاً قد فرقت بين العقل والقلب، وجعلت
القلب (هذا العضو الذي لا يشتمل إلا على الدم) مقرّ العواطف ومكان الحب، وأقامت على ذلك ألسنتها ولغاتها، ونطق به شعراؤها فقالوا للمحبوب: أنت في قلبي، وقلبي عندك، وجرحت قلبي، وأحرقت قلبي، ومزقت قلبي، وأنت قلبي، يستوي في ذلك الأولون والآخرون، والعرب والعجم، ولقد فكرت في ذلك طويلاً، فتراءى لي أن منشأه، أن الإنسان الأول لما بدأ يضع لغته، ويحرك بالكلمات لسانه، نظر فرأى أنه إذا طلع عليه الحبيب أو أبصر الجميل، أو خاف أو ارتقب شيئاً، خفق قلبه واضطرب في صدره، وإذا فكر فأطال التفكير أحسَّ بألم من رأسه، فاستقر في وهمه أن الرأس مكان الفكر، وأن الصدر محل العاطفة والحبّ، والله أعلم!
ولما سَمَتِ البشرية ووضع عِلْمُ النفس، أقاموه على التفريق بين الحياة الانفعالية القائمة على اللذة والألم، والحياة العقلية المبنيَّة على المحاكمة، والحياة الفاعلة المعتمدة على الإرادة، وليس معنى هذا أن لكل من هذه الحيَوات حدوداً تحدها، ومنطقة هي لها لا تتخطاها، لا وليس هنالك عاطفة خالية من العقل، أو عقل لا عاطفة معه إنما نسمي كلَّا بالغالب عليه والظاهر فيه، فالقضية المنطقية (المحاكمة) من العقل، الإنسان حيوان، وسقراط إنسان، فسقراط حيوان، هذه مسألة عقلية، لكنك قد تصل بها إلى نتيجة موافقة، تأتي بعد طول بحث عنها فتقترن بها لذة، واللذة مسألة عاطفية. واللذة بالشعور بالجمال مسألة عاطفية ولكنها لا تخلو من محاكمة خفية هي أن كل جميل يلتذ به وهذا جميل فهذا يلتذ به، أو أن المنظر الفلاني لذَّني لأنه جميل، وهذا قد لذني، فهذا جميل.
وإذا نحن فرقنا بين العاطفة والعقل بهذا الاعتبار، وجعلنا كل حادثة نفسية تقوم على اللذة والألم من العاطفة، وكل حادثة تعتمد على المحاكمة من العقل، وجدنا أعمال الإنسان كلها تقوم على عواطف، ووجدنا العقل، أعني المحاكمة المنطقية الواضحة لا الخفية أضعف الملكات الإنسانية وأحقرها وأقلها خطراً في نفسها، وأثراً في حياة صاحبها، وليعرض كل قارئ أعمال حياته يجدها كلها عواطف تسيِّره، ووجد أنه قلَّ أن يعمل عملاً، أو يسير خطوة بهذا العقل المنطقي الجاف.
ولا بد بعد من تحديد معنى (الذهن)، فماذا يريد به الأستاذ قطب؟ أما أنا فأطلق العقل وأريد القضايا العقلية المسلمة المتفق عليها، كاستحالة اجتماع النقيضين، وكمبدأ أن الشيء هو ذاته، فهذه البديهيات هي أول ما يراد بالعقل، ومن هنا نقول مثلاً إن ديننا الإسلامي لا يناقض العقل ولا يخالفه، أما الذهن فأفهم منه أنا العقل الفردي، وليس كل ما تعقله في ذهنك يجب أن يكون صادقاً وصحيحاً، لاحتمال الخطأ في الاستدلال، ولاختلاف الذهنين في القضية الواحدة، مع ادِّعاء كل منهما أن حكم العقل معه.
ولا بُدَّ أيضاً من التفريق بين خَيِّر العواطف وشرِّيرها، فالشفقة على الفقير، والإقدام على إنقاذ الغريق عاطفة خير، ولكن الغضب المؤدي إلى العدوان، والحب الموصل إلى الرذيلة عاطفة شرّ.
…
ولندخل الآن في موضوع المناظرة، هل يكفي الذهن وحده، أي المحاكمة المنطقية الجافة، للإيمان؟ الجواب (لا) ممدودةً مؤكدة مكتوبة بالقلم الجليل لا الثلث!
الإيمان محلّه القلب لأنه أكبر من أن تتَّسع له هذه (المحاكمة) وأعلى من أن ينضوي تحتها، هذا العقل إنما يعتمد على الحواس، وحكمه مستمد من مجموع المحسَّات، فإذا جاوزها إلى ما وراء المادة لم يكن له حكم، وهذا أمر تواردت عليه الأحاديث النبوية وأبحاث أكابر فلاسفة الأرض، قال عليه الصلاة والسلام:«إذا ذكر القضاء فأمسكوا» أو ما هذا معناه، لماذا؟ لأن مسألة القضاء والقدر، ما خاض فيها العقل إلا كفر، لا لأنها مناقضة له بل لأنها أوسع من طاقته، وهذا عقلي يحاول أن يورد عليّ الآن اعتراضات كثيرة فلا أصغي إليه، وأذكر (ولا يحضرني هذه الساعة المرجع) أن بعض الصحابة شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شكوكاً يجدها، قال: أوجدت ذلك؟ قال: نعم، قال: استعذ بالله. ولم يأمره بإعلانها والبحث فيها - وهاك الفيلسوف الأكبر كانتْ يؤلف كتاباً برأسه هو (نقد العقل) في إثبات هذا الأمر، ويبطل في كتابه الآخر (مقدمة لكل
علم ميتافيزيك) علم ما وراء الطبيعة، وجرى على ذلك إمام الفلاسفة الوضعيين أوغست كونت.
فالعقل إذن قاصر حكمه على ما يدرك بالحس، وليس عنده إلا مجموعة تجاربه الحسية، فإذا جاوزها كان كالعدم، وحسب العقل هواناً في المجرَّدات، أنه ينكر أقدس شيئين في الوجود ولا يستطيع أن يفهمهما: الحب والإيمان.
سلِ العقل، ما الحب؟ ينبئك بأنه جنون! وما الفرق عند العقل بين ليلى ولبنى وسلمى وأي امرأة أخرى، ما دامت الغاية عنده الحمل والولد وبقاء النسل؟ ومن يُقْدم في الحرب على الموت، هل كان يقدم لو نزعت الحماسة من نفسه وهي عاطفة وتركته لعقله ولما يحسن العقل من محاكمات جافة؟ هل يجود لولا هزَّة الأريحية جواد بنوال؟ هل يقبل إنسان على تضحية أو بذل لولا العاطفة؟ هل يعرف العقل إلا المنفعة؟ لقد أحسن التعبير عن العقل المتنبي حين قال:
الجود يفقر والإقدام قَتّال
…
سيقول قائل، إن أساس الإيمان، الاعتقاد بوجود الله، فهل هو غريب عن العقل؟ لا، إن الاعتقاد بوجود الله من بديهيات العقل، فلا يعيش عقل بلا اعتقاد بإله كما يقول (دوركيم)، والإنسان بهذا المعنى حيوان ذو دين، وذلك لأن تجارب العقل ومحسَّات الحواس التي يستند في حكمه إليها، توصل حتماً إلى الاعتقاد بوجود إله، وسواء كان منشأ هذا الاعتقاد الخوف أو التطلع إلى المجهول، كما هو مبين في كتب الميتافيزيك، فلا شك في أنه بديهي، أما ما عداه من شُعَبِ الإيمان وأركانه، كمعرفة صفات الله، والإيمان بالمغيبات، والقضاء والقدر، فلا يستطيع العقل أن يقيم الدليل على نقضها ولكنه لا يستطيع أبداً فهمها، ولا أظنني بحاجة إلى بيان الفرق بين الاعتقاد بوجود شيء وبين فهمه ومعرفة حقيقته، هذا وليس من مصلحة الدين ولا المتدينين أن نخلِّي بين العقل
وما يجب الإيمان به، بل المصلحة بالاطمئنان العاطفي والتصديق القلبي وما يعقبه من اللذة والاطمئنان.
وهؤلاء العلماء المتكلمون الذين كانوا من رأي الأستاذ خلاف والذين حاولوا أن يجعلوا الإيمان إيمان عقل، عادوا كلهم وأنابوا واعترفوا بأن الإيمان بالقلب، هذا (ابن رشد) وناهيك به، عاد فقال في تهافت التهافت (الذي يرد به على الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة): لم يقل أحد من الفلاسفة في الإلهيات شيئاً يعتدُّ به (1) وهذا (الآمدي) وقف في المسائل الكبار وحار، و (الغزالي) انتهى إلى التصوف والتسليم، وهذا (الفخر الرازي) قال بعد تلك المؤلفات الطوال:
«نهاية إقدام العقول عقال
…
وغاية سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ولقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريق القرآن، أقرأ في الإثبات، الرحمن على العرش استوى، وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء، ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي» انتهى كلامه
…
وكلامي!
وعلى الأخوين الكريمين خلاف وقطب تحيتي وسلامي.
…
(1) وهذا ما يقوله في العصر الحاضر (كانتْ) والفلاسفة الذين يُعْتدُّ بقولهم وهو الحق.