المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الترجمة والتأليف نشرت سنة 1945   ما تفتأ الأفكار تحمل وتلد، وما تني - فكر ومباحث

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌الترجمة والتأليف نشرت سنة 1945   ما تفتأ الأفكار تحمل وتلد، وما تني

‌الترجمة والتأليف

نشرت سنة 1945

ما تفتأ الأفكار تحمل وتلد، وما تني المطابع تتلقَّى الولائد وتلفها بالثياب، وتخرجها للناس كتباً، فلا يدري القارئ من كثرتها ماذا يقرأ، ويحار المرء من تعدُّدها ماذا يختار. ولكن العبقري في الكتب كالعبقريّ في الناس، لا تراه الدنيا إلا مرة واحدة في الدهر الطويل، ولا يكون إلا واحداً في ملايين. أحْصِ السابقين من العباقرة في الأمم كلها تجدهم قد جمعهم لقلتهم سجل واحد، وضمَّت أسماءهم صحيفة، ثم اذكر كم من ملايين البشر عاشوا معهم، وتنفَّسوا الهواء الذي كانوا يتنفَّسونه، وأكلوا من الطعام الذي كانوا يأكلونه، ثم طوتهم الأيام، ونسيهم الناس، فكأنهم ما ولدوا ولا عاشوا، بل ربما كان في هؤلاء المنسيين المجهولين من كانت له دنيا أعرض من دنيا أولئك العبقريين، وكانوا يتمنَّون الأقل منها فلا يصلون إليه، وكانت لهم منزلة وكان لهم سلطان، ولكن الزمان محَّص الحقائق ومَازَ الأباطيل، فإذا ذلك السلطان زبَدٌ يذهب جفاء، وإذا العبقرية تمكث في الأرض لأنها تنفع الناس. وكذلك الكتب، فربَّ كتاب يطبَّل له ويزمر، ويقام له ويقعد، وآخر لا يدري به أحد، يبطل الزمان الأول، ويبقى الثاني خالداً. ولقد قرأت في بعض ما قرأت من شعر الإفرنج كلمة أحسبها لتيوفيل غوتييه يقول فيها مخاطباً الملك العظيم لويس الرابع عشر:«لقد نسي التاريخ اللآلئ التي كانت في تاجك أيها الملك، ولكنه لا يزال يذكر الرقع التي كانت في حذاء كورني» . كما نسي التاريخ ألوف الأمراء والملوك إلا ما خلَّده شاعر حين أمرَّ اسمه على لسانه في قصيدة من قصائده.

هؤلاء الرجال العبقريون، وهذه الكتب العبقريات، التي لا تقوى حدود البلدان، ولا فوارق اللسان، على إبطال فتنتها، وإذهاب روعتها، هذه الكتب

ص: 170

(قدر مشترك) بين أبناء الشعوب المتمدنة كلها، ليست لشعب ولا لجيل، لأنها حديث القلوب فهي لكل ذي قلب، ولغة القلوب واحدة وإن اختلفت الألسنة وتعددت البلدان، فما يليق بأمة لها شعور وكرامة وعقل، أن تجهل هذه الكتب ولا هؤلاء الرجال.

أكتب هذا تعليقاً على مقالة الأستاذ الزيات في العدد الماضي من الرسالة.

ولقد عادت بي مقالة الأستاذ إلى أيامي الخوالي حين قرأت قصة (رفائيل) أول مرة، بإذن أستاذنا شيخ أدباء الشام سليم الجندي، وكان يحرم علينا أن نلمَّ بشيء من الأدب الحديث أو ننظر في جريدة من الجرائد، قبل أن نتمكن من الأدب القديم، ونألف الصياغة العربية، وتستقيم مَلَكاتنا على طريق البلاغة السويِّ خشية أن تدخل جراثيم العجمة إلى أسلوبنا، وأن يفشو الضعف في بياننا، فلما سألته عن قصة رفائيل غداة صدورها هل أقرؤها؟ نظر فيها ثم أذن لي بقراءتها لأنه رآها بليغة الأسلوب، صافية الديباجة، سليمة اللغة، سامية البيان، فكانت من أوائل ما قرأت من الأدب الحديث بعد (النظرات) لا أستطيع أن أصف أثرها في نفسي ولا في خيالي ولا في قلمي تلك الأيام، ولا أملك حتى الإلمام بذلك إلماماً، لأنه شيء فوق الوصف وإنما أعترف أنها أحد المصنفات القلائل التي كانت غذاء أدبي من الكتب الجديدة بعد أن غذيته بأمهات كتب الأدب القديم. وقرأت (آلام فرتر) فكان لها مثل ذلك الأثر؛ ثم افتقدت هذا اللون من الأدب فلم أجده؛ ثم وجدت شبهه في مثل (عطيل) مطران و (مرجريت) زكي و (فاوست) عوض وإن كانت هذه من قماش وتلك من قماش، وإن اختلف النسج وتغيَّرت الديباجة، وأمثال (تأبين فولتير) التي نقلها المنفلوطي إلى العربية بقلم أحسب لو أن (هوغو) كان عربياً ما كتبها بأبلغ منه (1)؛ كما أن لامارتين لم يكن ليكتب قصته ولا جوت كتابه، خيراً مما كتبهما الزيات ولو خلقا عربيين من أبين العرب. وإني حين أقرأ اليوم هذه الروائع من

(1) وهي الأنموذج الأكمل للإنشاء الخطابي.

ص: 171

أدب الغرب مترجمات في (روايات الجيب) مثلاً أكاد أخرج من ثيابي غيظاً وغضباً لهذه المعاني الكريمات تجيء في هذه الكلمات، وأسفاً على هذه العرائس الفاتنات تخرج في هذه الثياب الأخلاق الباليات، وأفكر لو أن الله قيَّض لقصة (ذهب مع الريح) مثلًا أو (الفندق الكبير) أو (الأم) وأمثالها الكثيرات من عبقريات القصص العالمية التي ترجمها كتاب روايات الجيب، ونشكرهم على كل حال على حسن اختيارها، وبذل الجهد فيها، إذ لم يدَّخروا في التجويد وسعاً؛ لكن البلاغة درجات، والكتَّاب طبقات؛ لو أن الله قيض لها قلماً لدناً قوياً، لا يشتد فيجرح ولا يضعف فينكسر، فترجمت بأسلوب عذب بليغ، لا يصح من غير جمال فيجف ويجمد، ولا يحمل من غير صحة فيميع ويسيل، لكان منها لهذا النشئ مدرسة، الله وحده يعلم كم كانت تخرِّج لهذه الأمة من كتاب. وليست العبرة في الترجمة بنقل المعنى المجمل للقصة، بل بنقل التفاصيل الفنية الدقيقة والصناعة الناعمة، وطريقة عرض الفكرة، وأسلوب تصوير المشهد. ولو أن المعنى المجمل هو المقصود للخصت قصة يوسف مثلاً في كلمات وضاع إعجاز السورة وجمالها الإلهي، ولكانت قصص الحب في الأدب متشابهة لا تخرج عن أن رجلاً أحب امرأة حباً عاطفياً أو جسمياً، فوصل إليها أو حيل بينه وبينها؛ فهذه أنواع أربعة للقصص الغرامية ينشأ منها أربع قصص فقط ويكون الباقي كله لغواً، مع أن في كل قصة جوّاً خاصاً بها ودنيا لها وحدها، لا تغني في المتعة الروحية بها قصة منها عن قصة، وما ذاك إلا لاختلاف الدقائق والتفاصيل، ولا يظهر هذه الدقائق والتفاصيل إلا قلمُ بليغ، بصير بمواقع الكلام، عارف بأوجه الدلالة في الألفاظ، له الحاسَّة الخفية التي يفاضل فيها بين الكلمات ويحسن انتقاءها، إذ ربَّ كلمتين بمعنى، وبين إحداهما والأخرى مثل ما بين البلاغة والعيّ. ورب كلمة في لسان لها جوٌّ ولها مدلول، وتحيط بها ذكريات عند أهل ذلك اللسان، لا يمكن أن تجيء بها مرادفتها في اللسان الآخر، ومن هنا علت بعض النصوص كالقرآن مثلاً عن الترجمة واستحال أن تنقل إلى غير لغتها.

***

ص: 172

ونحن اليوم أشبه العصور بعصر المنصور والمأمون، أمة كانت معتزلة منطوية على نفسها، ثم اتَّصلت بأمم غيرها لها مدنيات ولها علوم، فإذا استمرت على عزلتها علت عليها تلك الأمم بعلمها وقويت، وإن تعلمت ألسنتها لتفهم علومها، أضاعت لسانها وعصبيتها، فلم يبق إلا أن تنقل كتب الأمم إلى لسانها، فتزداد به غنى في الأفكار وفتى طرق التعبير، ثم تفهمها وتسيغها وتهضمها كما يقولون ثم تنشئ مثلها إنشاء.

ونحن في الواقع لا نستغني عن الترجمة ولانقلّ منها، ولكنا نسيء الاختيار فندع الكتاب العبقريّ الفذَّ الذي يعدّ واحداً من مئة كتاب هي خلاصة آداب الأمم كلها ونترجم الكتاب الذي لا فائدة فيه، ثم نسيء التعبير فلا ننقل هذه الكتب إلى العربية وإنما نضع في مكان ألفاظها الأعجمية ألفاظاً عربية، ولايقدر على الترجمة الصحيحة إلا متمكِّن من اللغتين، بليغ في اللسانين، يقرأ الفقرة ثم يفهمها ثم يدعها تخالط روحه وتصير كأنها له، ثم يعبِّر عنها بلسانه، ويزيِّنها بجمال بيانه.

***

ص: 173