المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌القضاء في الإسلام

‌القضاء في الإسلام

قطعة من محاضرة ألقيت سنة 1942 وضاعت تتمتها

يا سادتي! أحب أن أكون هذه العشيَّة مؤرخاً لا شاعراً، وأن أعرض عليكم حقائق ثابتة بأسلوب هادئ، فلا أفخر ولا أبالغ، ولا أملأ الآذان إغراقاً وتهويلاً، فإذا سمعتم مبالغة فاعلموا أن الواقع هو الذي يبالغ، وما هو ذنبي إذا كان قضاتنا الأولون قد نظموا بأعمالهم قصائد دونها في الفخر معلَّقة ابن كلثوم، وجعلوا من مناقبهم مفخرة خالدة لكل من قال:«أنا عربي» ، أو قال:«أنا مسلم»

وكانوا أعلام الهدى في طريق العدالة، وكانوا الدراري في سماء القضاء، قد بذُّوا كل سابق وفاتوا كل لاحق، وما كان مثلهم، ولا أحسبه يكون!

إني والله آخذ تاريخهم فأختصره وألخِّصه وأعرضه عليكم، وربما أشرت إشارة عابرة إلى القصة لو سمعتموها على أصلها ما دريتم لفرط ما يخالطكم من السموِّ والزهو وهزَّة الطرب وإخذة العجب، أفي أرض أنتم أم في سماء

لاتعجبوا، ففي تاريخنا من الأمجاد ما لو أفيض على أفراد البشر لجعلهم كلهم عظماء!

وبعد، يا سادتي، فإن القضاء أعلى درجة استطاع البشر الارتقاء إليها. ارفعوا القضاء من تاريخ الإنسان يهبط إلى درك البهائم، ويأكل القوي من بني آدم الضعيف، وإن معنى الإنسانية وحقيقتها في الحياة المجتمعة الهادئة الآمنة، التي لا يطغى فيها أحد على أحد، والتي تصان فيها الحيوات والحريَّات، وتحفظ الدماء والأعراض، ويتحقق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يكون ذلك كله إلا بالقضاء.

ص: 102

والقضاء (عند المسلمين) أقوى الفرائض بعد الإيمان، وهو عبادة من أشرف العبادات، لأنه إظهار للعدل، وبالعدل قامت السماوات والأرض. وصف الله به نفسه إذ قال:{فالله يحكم بينهم} و {إن ربك يقضي بينهم} ، وأمر به نبيَّه فقال:{وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} ، وجعل أنبياءه قضاة بين خلقه {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيُّون} ، وبه أثبت الله اسم الخلافة لداود حين قال له:{يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتَّبع الهوى} .

والقضاء أول ما تعقد عليه أمة خناصرها، إذا عدَّدت أمجادها ومفاخرها.

وإذا استدلَّ بفرد على سلائق جيل، كان القاضي العالم العادل أظهر دليل على مكارم شعبه ونبل أمته. وإذا كان بين الشعوب اليوم من يفخر باستقلال قضائه، وعزته ومضائه، ففاخروه يا شبابنا بقضائكم يكن لكم الفخار، وتعقد على جباهكم تيجان (الغار)، ولكن لا تناموا على هذا المجد التليد، بل انهضوا فَصِلوه بمجد لكم جديد!

يا أيها السامعون! إني لا ألقي خطابيات، ولكن أسرد حقائق:

هذا قضاؤنا، فمن عرف قضاء أشدَّ منه استقلالاً؟ هل نال قاض في أمة من الحرية مثل ماكان لقضاتنا؟

لم يكن القاضي مقيداً بمذهب بعينه لا يد له في مخالفته، ولا مربوطاً بقانون بذاته لا يملك الخروج من ربقته، وليس لخليفة عليه في حكمه سلطان، ولا لأمير معه في قضائه كلام، تبدَّلت على المسلمين دول، واختلفت حكومات، وقام قاسطون ومقسطون، وخيِّرون وشريرون، والقضاء في حصن حصين، لا تبلغه يد عادل ولا ظالم ولا يمسّه خليفة حق ولا سلطان جائر

القاضي واجتهاده، مرجعه كتاب الله وسنَّة نبيه، ورقيبه ضميره ودينه، ووازعه إيمانه ويقينه.

ص: 103

وسيأتي الكلام في صفات القاضي، وأن الأصل فيه أن يكون من أهل الاجتهاد لا من المقلِّدين.

ولقد رأيت في تراجم بعض القضاة أنهم كانوا يرجعون إلى الخلفاء يسألونهم ويستفتونهم، وأن من الخلفاء من كان يذيع من (البلاغات) ما ظاهره إلزام القاضي بقول أو مذهب.

وتحرير الكلام في هذه المسألة أن من أعمال الخلفاء الاجتهاد والفتوى والقضاء وقيادة الجيوش وسدِّ الثغور، ومن شرائطهم العلم، فإذا رجع القضاة إلى الخلفاء، فإنما يرجعون إليهم لعلمهم وفقههم لا لسلطانهم ومنصبهم، وأكثر ما رأيت من السؤال إنما هو لعمر بن عبد العزيز وأمثاله. ولقد كانوا يقولون:«العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة»

ولم يكن القضاة ملزمين بالعمل بجواب الخليفة أو بلاغه. ولقد ردَّ القاضي المصري بكَّار بن قتيبة بلاغ الموفَّق العباسي، لما ثبت عنده أنه مخالف للحكم، مناهض للدليل وأسقط العمل به (1).

ولعمر الحق ما فرَّط قضاتنا بهذه الأمانة ولا أضاعوها، بل كانوا أمناء عليها، قائمين بحق الله فيها، لا يعرفون في الحق كبيراً ولا صغيراً يقيمونه على الملوك قبل السوقة، ويأخذون للضعيف الواني من القوي العاتي، لم تكن تنال منهم رغبة ولو جئتهم بكنوز الأرض، ولا تبلغ رهبة ولو لوَّحت لهم بالموت منشوراً، بل كانوا في الحق كالجبال هيبة وثباتاً، وفي إنفاذه كالصواعق مضاءً وانقضاضاً، وسيأتيكم حديث محمد بن عمران قاضي مكة، الذي ادَّعى لديه جمَّال على أمير المؤمنين، العظيم المخيف، أبي جعفر المنصور، فبعث إليه (مذكرة جلب)، فجاء في خفٍّ وطيلسان ما عليه من شارات الإمارة شيء، حتى وقفه بين يديه مع الجمَّال. وشُرَيْك قاضي الكوفة حين ادَّعت لديه امرأة مجهولة على الأمير الخطير ابن عم الخليفة وثاني رجل في الدولة بعده عيسى بن موسى، فحكم عليه حكماً غيابياً، فامتنع الأمير من إنفاذه وتوسَّل إليه بكاتبه، فحبس

(1) راجعوا الكندي وذيوله.

ص: 104

القاضي الكاتب لأنه مشى في حاجة لظالم، فاستعان عليه بجماعة من وجوه العراقيين من إخوان القاضي، فساقهم جميعاً إلى الحبس، فغضب الأمير وبعث من أخرجهم. عند ذلك -أيها السادة- عصفت نخوة الشرع في رأس القاضي، وأخذته عزَّة الإيمان فقال:«والله ما طلبنا هذا الأمر (يعني المنصب)، ولكنهم أكرهونا عليه، وضمنوا لنا فيه الإعزاز إذ تقلَّدناه لهم» . ثم ختم قمطره، وجمع سجلَّاته، واحتمل بأهله، فتوجَّه نحو بغداد، ووقعت الرجفة في الكوفة حين مشى فيها خبر خروج القاضي، حتى خاف الأمير على سلطانه، فلحق بالقاضي يناشده الله أن يرجع، فقال القاضي:«لا والله حتى يردَّ أولئك إلى الحبس، فما كنت لأحبس أنا وتطلق أنت» ؛ فبعث الأمير من يرجعهم إلى الحبس، والقاضي واقف ينتظر حتى جاءه الخبر بأنهم قد أُرجعوا، فقال القاضي لغلامه: خذ بلجام دابة الأمير وسُقه أمامي إلى مجلس الحكم، إلى المسجد، أيها السادة، وهناك أجلسه بين يديه مع المرأة، فلما انتهت المحاكمة وحكم لها عليه، نهض إليه فسلَّم عليه بالإمارة وقال له: هل تأمر بشيء؟ فضحك الأمير وقال: بماذا آمر؟ وأي شيء بقي؟ قال له شُريك: أيها الأمير، ذاك حقُّ الشرع، وهذا حقُّ الأدب. فقام الأمير وهو يقول: من عظَّم أمر الله، أذلَّ الله له عظماء خلقه!

هذا قضاؤنا، فهل سمعتم عن قضاء أنه بلغ في التسوية بين الخصوم مبلغه؟ لقد سووا بينهم في المجلس والخطاب والبِشْر، واللفتة العارضة، والبسمة البارقة، بله الحكم. وقد بلغ التدقيق في تحقيق هذه التسوية مبلغاً لا غاية وراءه، فاقترن في هذه المسألة العلم بالعمل، وحقَّق القضاة ما دوَّن الفقهاء، فافتحوا أقرب كتاب فقه إليكم تروا ماذا دوَّنوا

وقف بين يدي المأمون وهو في مجلس المظالم رجل يتظلَّم منه نفسه، فترادَّا الكلام ساعة فما اتفقا، قال المأمون: فمن يحكم بيننا؟ قال: الحاكم الذي أقمته لرعيتك يحيى بن أكثم، فدعا به المأمون فقال له: اقض بيننا؛ قال: في حكم وقضية (أي في دعوى)؟ قال: نعم؛ قال القاضي: لا أفعل. فعجب المأمون وقال: لماذا؟ قال يحيى: لأن أمير المؤمنين لم يجعل داره مجلس قضاء، فإن كانت له دعوى فليأت مجلس الحكم (أي المحكمة)؛ قال المأمون: قد جعلت داري

ص: 105

مجلساً للقضاء. قال: إذن فإني أبدأ بالعامة ليصحَّ مجلس القضاء (وتكون المحاكمة علنية)؛ قال المأمون: افعل؛ ففتح الباب، وقعد في ناحية من الدار، وأذن للعامة، ونادى المحضر، وأخذت الرقاع (أوراق الدعوة والإعلان)، ودعي الخصوم على ترتيبهم حتى جاءت النوبة إلى المتظلِّم من المأمون، فقال له القاضي: ما تقول؟ قال، أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين المأمون. فنادى المحضر:«عبد الله المأمون» ! فإذا المأمون قد خرج في رداء وقميص وسراويل في نعل رقيق ومعه غلام يحمل مصلَّى حتى وقف على يحيى، ويحيى جالس، فقال للمأمون: اجلس! فطرح الغلام المصلى ليقعد عليه، فمنعه القاضي حتى جاء بمصلَّى مثله، فبسط للخصم وجلس عليه والقصة طويلة عجيبة، تتمتها أعجب من فاتحتها، فاقرؤوها في (المحاسن والمساوئ) للبيهقي، الجزء الثاني الصفحة 151، وإنكم لتحارون بعدُ مِمَّ تعجبون: من جرأة الرجل، أو من صلابة القاضي، أو من أخلاق المأمون!

ومن قبله غضب عليٌّ (كما قيل) حين كانت له دعوى مع اليهودي، لأن القاضي ناداه: يا أبا الحسن، ودعا اليهودي باسمه، فرأى في ذلك تعظيماً له وإخلالاً بالمساواة بين الخصوم، والله أعلم بصحَّة ما قيل. ونزل ضيف بخير بن نعيم قاضي مصر فأطعمه وأكرمه، ثم علم أن له خصومة لديه، فتركه في الدار، وذهب يفتِّش عن خصمه حتى جاء به فأجلسه معه على المائدة. وقد حدَّثني حمي القاضي صلاح الدين الخطيب عن عمِّه قاضي يافا في زمانه العالم الجريء المشهور صاحب النوادر الشيخ أبي النصر الخطيب بمثل هذه القصة

وما كان الخير لينقطع في أمة محمد إلى يوم القيامة.

هذا قضاؤنا، فهل سمعتم أن قضاءً أسرع في إحقاق الحق منه، وأبعد عن التعقيد والالتواء والتسويف والتأجيل؟ إن الحق اليوم لا يكاد يصل إليه صاحبه حتى تنقطع دونه الأعمار، وما جَدَى حق يأتي من دونه المدى الأطول؟ لقد كانت بيننا وبين آل الصلاحي في دمشق دعوى على أرض لبثت في المحاكم ثلاثاً وثمانين سنة وخمسة أشهر

أقامها جدّهم على جدِّي الذي قدم من (طنطا)، وانقرض منا ومنهم بطنان والدعوى قائمة، وقد خسرناها أخيراً.

ص: 106

وصدِّقوني إذا قلت لكم إني لم أدر إلى الآن مع من منا الحق، ولم أفهمها، وكيف أدرس ملفّاً فيه من الأوراق المكتوبة بالعربية والتركية والفرنسية أكثر مما في تاريخ ابن جرير الطبري؟ أما قضاؤنا، فكان يبتُّ في القضية مهما عظمت في جلسة أو جلستين، لا يعرف هذا التطويل وهذا التأجيل. ولقد حكم قاضي مصر محمد بن أبي الليث في دعوى بني عبد الحكم المشهورة بمبلغ مليون وأربعمئة وأربعة آلاف دينار ذهبي في جلسة واحدة يوم السبت 8 جمادى الأولى سنة 237هـ، ورضي بحكمه الفريقان. روى ذلك الكندي.

وهل مثل قضاتنا في التنزُّه عن كل ما يقدح بحشمة القاضي ووقاره، وفي التحرُّز من أدنى التهم، وأضعف الميل؟ وهل للقضاة في أمة اليوم مثل ما كان لقضاتنا من رفيع الشأن وعظيم القدر؟

يا أيها السادة! اذهبوا إلى سوق الكتب فاطلبوا كتاب «الخراج» الذي ألَّفه القاضي الإمام أبو يوسف للرشيد واقرؤوا مقدمته، واذكروا عظمة الرشيد وكبر نفسه وجلال ملكه، ثم انبشوا تواريخ الأمم الماضية وأخبار الأمم الحاضرة، وانظروا

هل تجدون قاضياً، أو عالماً، يقول لملك دون الرشيد بمئة مرة مثل هذا الكلام أو قريباً منه:«الله الله، إن البقاء قليل، والخطب خطير، والدنيا هالكة وهالك من فيها، والآخرة هي دار القرار، فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين، فإن ديَّان يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم، وقد حذَّرك الله فاحذر، فإنك لم تخلق عبثاً، ولن تترك سُدَى، وإن الله سائلك عما أنت فيه، وعما عملت به، فأعدَّ يا أمير المؤمنين للمسألة جوابها، فإن ما عملت قد أثبت فهو عليك غداً يقرأ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد» .

أيها السادة، هذا بعض ما خاطب به أبو يوسف القاضي هارون الرشيد أمير المؤمنين والحاكم المطلق في ست عشرة حكومة من حكومات هذه الأيام!

ولقد اشترط القانون اليوم فيمن يولَّى القضاء سناً معينة لا بد من إكمالها وامتحاناً مسلكياً. والشرع لم يشترط في السن إلا البلوغ. ولما قلَّد المأمون

ص: 107

يحيى بن أكثم قضاء البصرة وكان ابن ثماني عشرة تكلم بعض الناس فيه لحداثة سنِّه، فكتب إليه المأمون: كم سنُّ القاضي؟ فكتب في جوابه: أنا على سنِّ عتَّاب بن أسيد لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة قاضياً وأميراً. فسكت عنه المأمون وأعجبه.

والامتحان المسلكي معروف عندنا، وقد دعا عمر قاضياً كان في الشام حديث السن فامتحنه بالعلم فقال له: بم تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بما قضى به رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بما قضى به أبو بكر وعمر. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فقال له عمر: أنت قاضيها. وردَّه إلى عمله. وحديث عمرو بن العاص لما جرَّبه النبي صلى الله عليه وسلم واختبره عمليّاً، معروف معلوم.

هذا وإمام المسلمين مأمور بأن لا يقلِّد أحداً شيئاً من عمل المسلمين إلا إذا علم صلاحه له. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قلَّد رجلاً عملاً وفي رعيَّته من هو أولى به منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين» .

وكان الخليفة هو الذي يقلِّد القضاء، وربما قلده الوزير أو الأمير إذا ولَّاه الخليفة ذلك وصرَّح به في عهده، لأن القضاء في الأصل من حقِّ الخليفة، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم واستقضى، وقضى الخلفاء الراشدون من بعده واستقضوا. وفي تاريخنا أسلوب بارع لتقليد القضاء، هو أن يدعو الخليفة أو الأمير مشيخة العلماء وكبار القوم ويأمرهم أن يعرضوا عليه أسماء من يصلح للقضاء، ويذكروا لكل عيوبه ومزاياه، ثم يختار من تُجمع عليه الكلمة أو من يظهر فضله على غيره ظهوراً لا خفاء فيه، وأكثر ما رأيت هذا الأسلوب في قضاة مصر. ولقد كان تقلد عيسى بن المنكدر وأبي الذكر محمد بن يحيى بالانتخاب، ولما كان وفد مصر في العراق عند المنصور وجاءه نعي قاضي مصر، قال لهم: أعظم الله أجركم في قاضيكم أبي خزيمة. ثم التفت إلى الربيع فقال له: أبغنا لأهل مصر قاضياً، فقال له ابن حديج (وكان في الوفد): ما أردت بنا

ص: 108

يا أمير المؤمنين؟! أردت أن تشهرنا في الأمصار بأن بلدنا ليس فيه من يصلح لقضائنا حتى تولِّي علينا من غيرنا. قال المنصور: فسمِّ رجلاً. فقال: أبو معدان اليحصبي. فقال: إنه لخيار ولكنْ به صمم، ولا يصلح الأصمُّ للقضاء. قال: فعبد الله بن لهيعة. فقال: فابن لهيعة.

انظروا أيها السادة إلى معرفة المنصور بأهل العلم من رعيَّته على بعد ما بين العراق ومصر، ورجوعه عن أمره الذي أمر به الربيع لما بدا له الحق فيما قال ابن حديج. واختياره الصالح للعمل بعد الاستشارة والسؤال. وتوليته إياه القضاء من غير طلب له ولا سعي منه إليه. ولولا حقُّ المجاملة وأني ربما نشرت هذه المحاضرة في الرسالة، لقلت: انظروا إلى حبِّ أهل مصر بلدهم وقديم عصبيَّتهم له!

ونصَّ الحنفيَّة على أنه يجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر، وإنما يجوز تقلد القضاء في السلطان الجائر إذا كان يمكِّنه من القضاء بحق ولا يخوض في قضاياه بشرٍّ ولا يتداخل في أحكامه، ويجوز التقلُّد من أهل البغي، كل ذلك لأن القضاء فريضة محكمة والقاضي إذا حكم بالحق فقد أقام الفريضة، وضرر تقلّده من السلطان الجائر، أو الغاصب الباغي لا يعدل ضرر تعطيل القضاء وترك أمور الناس فوضى!

وكان أبو حنيفة يرى ولاية القاضي سنة واحدة يعزل بعدها ليعود إلى الاشتغال بالعلم فلا ينساه، وكأنَّ أبا حنيفة ينظر إلى ما وراء القرون فيرى هذا الزمان الذي نجد فيه العلماء ينصرفون عن العلم إذا ولوا الولايات فكيف وقد كثر ما يتولَّاها الجاهلون

وكان طلب الرجل العمل قادحاً في صلاحه ولم يكن الخلفاء يولُّون الأعمال طالبها. كان ذلك والإسلام إسلام؛ والناس ناس، فرحمة الله على أولئك الناس.

***

ص: 109

وكانت وظيفة القاضي (أي مرتبه) أجزل الوظائف ورزقه أكثر الأرزاق، ففي العهد الذي كان عمر يلبس فيه الثوب المرقَّع ويقنع بالزيت، وكان عليٌّ تُجزئه قصعة ثريد، كان مرتب شريح القاضي خمسمئة درهم في الشهر، وكان مرتب ابن حجيرة الأكبر كما ذكره الكندي، ألف دينار في السنة فلا يحول عليه الحول وعنده منها شيء، بل كان ينفقها على أهله وإخوانه وفي وجوه البر. وكان مرتب ابن لهيعة ثلاثين ديناراً في الشهر. وأجري مثل ذلك على القاضي المفضل بن فضالة. وجعل عبد الله بن طاهر راتب القاضي عيسى بن المنكدر أربعة آلاف درهم في الشهر، وراتب الفضل بن غانم مئة وثمانية وستين ديناراً في كل شهر، وكان راتب أبي عبيد القاضي الفقيه مئة وعشرين ديناراً في الشهر، وكان يقول: ما لي وللقضاء؟ لو اقتصرت على الوراقة ما كان خطِّي بالرديء! وقد نقل الكندي في تاريخه صورة براءة (سند راتب) من أيام مروان بن محمد فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم من عيسى بن أبي عطاء إلى خزَّان بيت المال. فأَعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رزقه لشهر ربيع الأول وربيع الأخر سنة إحدى وثلاثين ومئة، عشرين ديناراً، واكتبوا بذلك البراءة. وكتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين ومئة). وهي تبين لنا أن الرواتب قد تدفع سلفاً (وهي كذلك اليوم في بلاد الشام) وتكشف عن ناحية من الأسلوب المالي لدفع المرتَّبات.

نظر خلفاء المسلمين بنور الله فدفعوا إلى القضاة المال الوفير، والرزق الكثير، لتعفَّ نفوسهم عن حرامه اكتفاءً بحلاله، وذلك ما تفعله أرقى الأمم في زماننا وأقومها سيرة في القضاء، على أنهم لو تركوا قضاتنا إلى دينهم لوزعهم، ولو خلُّوا بينهم وبين نفوسهم لقمعوها بخوف الله، وأزاحوا شهوتها بانتظار جنته وخشية ناره. ولقد كانوا على هذا المرتب الكثير، والعطاء الجزل، أولي تقشُّف وزهد، ينفقون المال يشترون به الجنة ثم يعودون إلى زهادتهم وقناعتهم: حدَّث إبراهيم بن نشيط قال: دخلت على القاضي ابن حجيرة الأصغر (وكان قد تغدَّى) فقال: أتتغدى؟ قلت: نعم. قال: أعيدي عليه الغداء يا جارية. فأتت بعدس بارد على طبقِ خوص وكعك وماء. فقال: ابللْ وكلْ، فلم تتركنا الحقوق نشبع من الخبز!

ص: 110

وأيُّ حقوق هي يا سادة؟! حقوق الله، حقوق الشرف والنبل والكرم، حقوق المسلمين. أبلل وكل يا إبراهيم! هذه لعمري أعظم وأجل من موائد الملوك.

واسمعوا تتمة القصة تعلموا ما هذه الحقوق؟ قال: وأتاه رجل يسأل حاجة. فقال: ليرجع. وسأل عنه وحقَّق عن فقره، فلما عرف فاقته. أعطاه ثمانية عشر ديناراً.

هذه هي التي تركته لا يشبع الخبز!

ولقد كانوا يغرمون الغرامات في أموالهم: كان القاضي أبو زرعة كثير الشفقة رقيق القلب، يغرم عن الفقراء والمستورين إذا أفلسوا، حتى كان بعضهم إذا أراد أن يتكسَّب أخذ بيد رفيقه فادَّعى عليه عند القاضي، فيعترف ويبكي ويدَّعي أنه لا يقدر على وفائه فيغرم عنه. وحصلت لبعض الشاميين اضاقة (والشامي ولا مؤاخذة بصير باصطياد الدراهم)، فقال لبعض أصدقائه: قُدني إلى القاضي فلعلَّه يعطيك عني شيئاً أنتفع به، ففعل وقال: أيَّد الله القاضي: لي على هذا الرجل ستُّون درهماً. قال: ما تقول؟ فأقرَّ. فقال: أعطه حقَّه. فبكى وقال: ما معي شيء، فقال للمدَّعي: إن رأيت أن تنظره. قال: لا. قال: فصالحه. قال: لا. قال: فما الذي تريد؟ قال: السجن. قال: لا تفعل. وأدخل يده تحت مصلَّاه فأخرج دراهم فعدَّ منها ستين درهماً فدفعها إلى الرجل.

قال صاحب القصَّة: وآليت ألَّا أعود لمثلها!

وكان بمصر أخوان توأمان تكهَّلا ولا يفرِّق بينهما من رآهما من قوةِ الشبه بينهما، فوجب على أحدهما دين فحبسه القاضي أبو عبيد، وكان أخوه يجيء زائراً له فيجلس مكانه في الحبس ويتوجَّه الأول. وشاع ذلك حتى بلغ القاضي فاحضرهما وقال: أيُّكما فلان؟ فقال كل واحد منهما: أنا! فأطرق القاضي. ثم طلب الغريم فدفع إليه الدين من ماله فراراً من الغلط في الحكم. فهل سمعتم في قضاة أمة بمثل هذا؟

ص: 111

على أن في القضاة من كان يقضي بالمجان. قال ابن خذامر: ما أخذت على القضاء شيئاً إلا جوزتين فلما صرفت تصدَّقت بهما! وقريب من هذا ما صنعه القاضي بكَّار بن قتيبة لما همَّ ابن طولون بخلع الموفَّق من ولاية العهد، وأجابه القضاة كلهم إلا بكَّاراً، فطلب أن يلعنوا الموفق فامتنع بكار فألح عليه فأصرَّ على الامتناع حتى أغضبه، فقال له: أين جوائزي؟ وكان يصله كل سنة بألف دينار، فقال: هي على حالها، هناك، فنظروا فإذا هي ملقاة بأكياسها في دهليز منزله. فبعث أحمد فقبضها.

على أن الغنم بالغرم. وإذا كثرت مرتبات القضاة فلقد كثرت تكاليفهم وازدادت الواجبات عليهم، وإذا كان العرف اليوم على أن الموظف إذا قام بعمله كان حراً في نفسه ووقته. وهو لعمر الفضيلة عرف أشبه بالنكر، وإذا كان القانون اليوم لا (يكاد) يؤاخذ قاضياً على فسوق في نفسه أو عصيان لربه ما لم يتَّصل بعمله، فلقد كان القاضي يؤاخذ على الصغيرة والكبيرة وتطلب منه أخلاق الملائكة، وشمائل الصدِّيقين، قد بوِّبت في ذلك الأبواب، وصنِّفت فيه الكتب، وشاع واشتهر، وأغنى الخُبر فيه عن الخبر، ولم يبق للكلام فيه مجال، ولا لقائل مقال. وإني لأسرد طائفة من ذلك على سبيل التمثيل عليها، والإشارة إليها، لا أريد المتعلق منها بالمحاكمة وأصولها فسيأتي الكلام في ذلك، ولكن أريد شمائل القاضي وآدابه في نفسه، وملاكها استشعار التقوى، وإدامة المراقبة لله عز وجل. وقد امتحن عليٌّ، رضي الله عنه، قاضياً فقال له: بِمَ صلاح هذا الأمر؟ قال: بالورع. قال: ففيم فساده؟ قال: بالطمع. قال: حُق لك أن تقضي. ونصُّوا على أن من آكد الواجبات على القاضي ألَّا يحفل بالناس، ولا تأخذه لومة من لائم، وأن يقيم الحق، ولو أغضب الحق أقواماً. قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس عليَّ غضبان.

وهذه يا أيها السادة مزلَّة أقدام القضاة، ولا سيَّما في أيامنا، لأن القاضي اليوم لا يعلم في كل قضية شفاعة ووساطة، فإذا أمضى الحق لم يحفل بالشفاعات ولا الوساطات، لم يخلُ من أعداء يشونَ به إلى أولي أمره، ويسوِّدون

ص: 112

ما بينهم وبينه، فيسوء رأيهم فيه، ويطول عتبهم عليه، ويؤخِّرون ترفيعه، وربما احتالوا على قانون حصانة القاضي فنقلوه إلى مكان سحيق، لأن العرف الحكومي اليوم أن الموظف الصالح هو الذي يألف ويؤلف، ويرضى عنه من حوله، ولا تثور عليه ثائرة، ولاتضجُّ ضجة. وهل ينال ذلك قاض نزيه لا يعرف من الطرق إلا الصراط المستقيم. وليس له إلا وجهه الواحد الذي ركَّبه الله له، ولسانه الفرد الذي وضعه فيه، وما معه إلا قانون واحد يسوق بعصاه الوجيه الخامل، والكبير والصغير.

وقديماً نال بعض قضاتنا أذى كبيراً من أجل إقامة العدل ودحض الظلم، والصدع بالحق؛ ولكنهم صبروا فأعزَّهم الله بصبرهم وأظهرهم وأعلى أمرهم. هذا الحارث بن مسكين قاضي مصر يحمل إلى المأمون أيام المحنة، محنة الدين والخلق التي جرِّبت فيها صلابة الرجال، وقوة العزائم ففاز في هذا الامتحان أقوام وخسر أقوام. وكان إمام الفائزين أحمد بن حنبل - فيظل الحارث على ما يرى أنه الحق، ما لانت له عزيمة ولا وهت له قوة. وهذا عمر بن حبيب القاضي لا يسعه أن يسمع الطعن على أبي هريرة ويسكت فيحتسب دمه عند الله ويردَّ رأي الخليفة العظيم الذي قال للغمامة أمطري حيث شئت فسيأتي خراجك، هارون الذي أباد البرامكة في ساعة وكانوا أعزة الأرض وكرام الناس، يرد عليه فيغضب ويعرضه على السيف والنطع، فيغلب حقه وثباته عليه، بطشة الرشيد البطَّاش، فيلين ويعفو ويكافئ ويشكر.

أو سمعتم قصة سلطان العلماء العز بن عبد السلام القاضي، أحد أفذاذ البشر علماً وحزماً وإيماناً ومضاءً، لما صح عنده أن المماليك لم يفارقهم الرقّ وهم حق لبيت المال، والمماليك يومئذ هم الملوك يا سادة! هم أصحاب الدولة والسلطان، فنادى ببيعهم فقاموا عليه قومة رجل واحد، وقام معهم كل متزلِّف من الناس لذوي الإمارة، وهدَّدوه وسعى ساعيهم بالسيف إلى باب داره، فنزل إليه فأطفأ بهيبة إيمانه شعلة غضبه، وفلَّ بعزيمته حدَّ سيفه. وبقي على موقفه

ص: 113

منهم حتى باعهم في سوق العبيد وقبض أثمانهم. يا أيها السادة. إن منَّا قضاةً كانوا يبيعون الملوك (1)!

القضاء، أيها السادة، مركب وعر، ومسلك خطر، وكيف لعمري يستطيع بشر، لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها، قد خفيت عنه البواطن، وحجبت الأسرار

كيف يستطيع أن يقيم حقيقة العدل، ويصيب كبد الحق، ويقوم مقام الرسل والأنبياء، والرسل يتَّصلون بالسماء بالوحي، ويسلمون من المعصية بالعصمة، وهم مع ذلك لم يؤتوا علم الغيب، وإمام الأنبياء محمد يقول: إنما أبا بشر مثلكم، وإنكم لتحتكمون إليَّ، ولعل أحدكم ألحن بحجَّته من صاحبه فأقضي له فإنما أقضي له بقطعة من النار (2) وكيف يهدأ له بال، ويقرّ له قرار، ويلتذّ بمطعم أو مشرب، ويطرب ويلعب، وهو يحمل أثقل عبء حمله إنسان: يريد أن يحقِّق العدل الإلهي بالوسائل البشرية، ويقول كلمته هو، فيسمِّيها كلمة الشرع، ويصفها بأنها حكم الله؟

لذلك فزع الصالحون من القضاء، وفرُّوا منه فراراً، ورضوا بالسجن ولم يرتضوه، وصبروا على الضرب ولم يقبلوه. عرض على أبي حنيفة ثلاثاً، وهو الإمام الأعظم، فأباه، فضرب على إبائه تسعين سوطاً وظلَّ على الإباء. وقلد سفيان الثوري القضاء، وشرطوا له ألا يعارَض فيه، فألقى عهده في دجلة واختفى. وطُلب ابن وهب ليولَّى قضاء مصر، فجمع إخوانه وأهله فشاورهم فقالوا: اقبله فلعلَّ الله يحيي الحق على يديك! فقال: أكلة في بطونكم، أردتم أن تأكلوا ديني؟ ثم اختفى وجعل الوالي يطلبه فلا يقدر عليه، فلما عجز عنه هدم بعض داره. وكان في اختفائه يقول: يا رب، يقدم عليك إخواني غداً علماء حلماء فقهاء، وأقدم قاضياً؟! لا يا رب، ولو قُرضْتُ بالمقاريض!

ولم يكن الولاة يفعلون ذلك تشفِّياً وانتقاماً ممن أبى الولاية، بل رغبة منهم في صلاح الأمة بتولية خيارها قضاءها. ومن قبل هؤلاء فرَّ إياس من

(1) انظر الخبر في كتابي (رجال من التاريخ).

(2)

أخرجه الستة وقد نقلته هنا بالمعنى.

ص: 114

القضاء، فلما تعذَّر عليه الفرار ووقع، نهض به نهضة جعلته علماً فيه شامخاً، وجبلاً باذخاً، وجعلت المثل يضرب به في إصابة قضائه، وحدَّة ذكائه، فيقول القائل: إياس، ويكتفي.

خوفهم من القضاء أنه محنة لا يدرون مامغبَّتها، وبلاء لايعرفون ما عاقبته، أيفلحون فيه أم يخرجون منه وقد حبطت أعمالهم. وزاد خوفهم منه ما ورد في أهله من الوعيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شبَّه صاحبه بالمذبوح بغير سكين (1)، وأنه جعل القضاة ثلاثة: قاضياً في الجنة وقاضيين في النار (2).

نظر هؤلاء بعين الورع، ونظر غيرهم بمنظار الشريعة، فرأوه كما قال عمر بن الخطاب: فريضة محكمة، وسنَّة متبعة، وعبادة من أفضل العبادات، وطاعة من أجلِّ الطاعات، فرغبوا فيه، وتقرَّبوا إلى الله به. قال مسروق، الإمام التابعي الثقة: لأن أقضي يوماً بالحق أحب إليَّ من أن أرابط سنة في سبيل الله. واستدلَّ على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: عدل ساعة خير من عبادة سنة. وحديث ابن مسعود: إنه لا حسد (يريد لا غبطة) إلا في اثنتين، إحداهما: رجل آتاه الله علماً، فهو يعلِّمه ويقضي به. وقال مكحول فقيه الشام في عصره: لأن أكون قاضياً أحب إليَّ من أن أكون خازناً. (قال السرخسي): لأن الخازن يحفظ على المسلمين مالهم، والقاضي يحفظ عليهم دينهم. وفسَّر عليٌّ، رضي الله عنه، والعلماء من بعده حديث قاضيي النار أنهما، قاض علم علماً فقضى بخلافه، وقاض جاهل يقضي بغير علم (3). وفسَّروا حديث المذبوح بغير سكِّين بأنه القاضي الجائر، يدل على ذلك ما رووه من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله مع القاضي ما لم يجُرْ، يسدِّده للحق ما لم يردْ غيره (4).

(1) أخرجه أبو داود والترمذي

(2)

أبو داود.

(3)

وأخرج ذلك أبو داود مرفوعاً.

(4)

كذلك جاء لفظه في كتب الحنفية، وأخرجه الترمذي بلفظ آخر وقال: غريب.

ص: 115

وقد فصَّل الحنفية فذكروا أن القضاء من فروض الكفاية، وأن طلبه تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً إذا لم يكن في الأمة من يصلح له إلا واحد، فطلب القضاء واجب على ذلك الواحد. ويكون مستحبّاً إن كان فيها صالحون ولكنه أصلح منهم، ومباحاً إن كان صالحاً له ويصلح له غيره، ومكروهاً إن كان غيره أصلح منه. وطلب القضاء حرام على من يعلم من نفسه أنه عاجز عنه لرهله وقلة علمه، أو لأنَّ من طبعه الميل مع الهوى، ومجاراة الناس، واتِّباع المغريات.

وليس كل طالب للقضاء يُولَّاه، وما عمل من أعمال الدولة إلا لتولِّيه شروط، ولأهله صفات، باجتماعها تكون التولية، وبانتفائها يكون الرد، يعملون بها اليوم في بلادنا حيناً وتهمل أحياناً، خطأً أو عمداً، فتوسد الأعمال إلى غير أهلها، ويدخل فيها غير مستحقيها. أما القضاء عندنا، فباب الدخول إليه أضيق وشروطه أشد، ولولا ثغرة كانت (1) ربما ولج منها الضامر الهزيل الذي يمرُّ من هذا الشق، فإذا صار من داخل ترعرع وسمن وصار من أرباب المكان وخلاصة السكان، فإذا عدونا ذلك لم نجد في أصول تقليد القضاء عندنا مغمزاً.

وتعالوا قابلوا بين شرائط تقليد القضاء اليوم، وقد نصَّ عليها القرار ذو الرقم 238 وبين ما اشترطه الفقهاء في القاضي تروا أمرها من أمره قريب، فقد شرط القرار أن يكون القاضي سورياً، لأن القضاء مظهر من مظاهر السيادة، وأداة من أدوات السلطان، فهو يوسد إلى أبناء البلد تثبيتاً لسيادتها وتقوية لسلطانها. وشرط الفقهاء أن يكون مسلماً، لأن الجنسية عند المسلمين هي الدين، وقد منعوا سماع شهادة غير المسلم على المسلم، لأنها ولاية، والله تعالى يقول:{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} ، والقضاء بذلك المنع أولى.

(1) وسدَّت وهي الجزيرة كانوا لا يشترطون في القاضي يرسل إليها ما يشترط في قضاة غيرها من ولايات الشام وبقي ذلك إلى سنوات خلت.

ص: 116

واشترط القرار ألا يكون القاضي محكوماً بعقوبة شائنة، وأن يكون فاضل الخلق، واشترط الفقهاء العدالة فيه، وإن ذهب الحنفية إلى صحَّة ولاية الفاسق إن لم يجاوز في أحكامه حدَّ الشرع مع تأثيم من يولِّي فاسقاً.

واتفق القانون والشرع على اشتراط صحة الحواسِّ في القاضي، لأن بها تمييز ما بين الخصوم، وتمييز المحقِّ من المبطل، وعلى اشتراط الذكورة في القاضي، ولم يجوَّز القانون تقليد امرأة القضاء بين الناس، وقد قال أبو حنيفة، رحمه الله، بجواز تقليدها القضاء فيما تصحُّ به شهادتها، أي في الشرعيَّات والمدنيَّات دون الجنائيات، فمن لي بإفهام هؤلاء الذي يسمُّون أنفسهم أنصار المرأة أن الشرع أعطاها أكثر مما يطلبون لها، وأن مذهبهم يقوم على واحد من شيئين: إما الغفلة وابتغاء ما لا يكون أبداً من تساوي المرأة بالرجل، وإما المجانة واتخاذ هذه الدعوة مطيَّة يبلغون بها حاجات في نفوسهم.

ولم يَرْوِ لنا التاريخ خلال هذه العصور الطويلة أن امرأة وليت القضاء ولا يكاد يسيغ العقل ذلك ولا الطبع يألفه، وقد قال الله تعالى:{الرجال قوَّامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض} ؛ وفسَّروا الفضل بأنه العقل والدين.

واتفقت قوانين اليوم وأحكام الفقه على اشتراط العلم في القاضي؛ غير أن القانون أوجب نيله ليسانس الحقوق قاضياً شرعياً كان أو مدنياً.

وأكثر الفقهاء شرطوا في القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد، واحتجُّوا بحديث معاذ حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له: بِمَ تحكم؟ قال بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنَّة رسول الله. قال: فإن أتجد؟ قال: أجتهد رأيي، فارتضى ذلك رسول الله، وقال: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله إلى ما يرضي رسوله (1)؛ واحتجوا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد فيما لم يُوحَ إليه حكمه، ويقضي باجتهاده (ولكن الله لا يقرُّه على الخطأ)، وأن الاجتهاد كان جائزاً للصحابة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام.

(1) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده ليس بمتَّصل.

ص: 117

وجاء في المبسوط: إن للقاضي أن يجتهد فيما لا نصَّ فيه، وإنه لا ينبغي أن يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ، فإن ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه، فكما أنه لا ينبغي له أن يشتغل بالاجتهاد مع النصِّ، لا ينبغي له أن يدع الاجتهاد فيما لا نصَّ فيه.

غير أن الحنفية ذكروا أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية لا شرط صحة التولية، وأنه يصح قضاء المقلِّد إذا قضى بفتوى غيره (الهداية والهندية)، أما المفتي، فأجمعوا على اشتراط كونه من أهل الاجتهاد، أو النظر في الدليل. قال أبو حنيفة: لا يحلُّ لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعرف من أين قلنا. وهذا منتهى ما تصل إليه حرِّية البحث، وما تبلغه الروح الاستقلالية في العلم.

قال في المبسوط: «وإذا لم يكن القاضي من أهل اجتهاد الرأي ليختار بعض الأقاويل، سأل المفتين (أي المجتهدين)، ونظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضى بفتواه، وهذا اجتهاد مثلِهِ، ولا يعجل بالحكم إذا لم يَبِنْ له الأمر حتى يتفكَّر فيه ويشاور أهل الفقه لأنه مأمور بالقضاء بالحق، ولا يستدرك ذلك إلا بالتامُّل والمشورة» .

ومهما كان من أمر، فالأصل في القضاء الاجتهاد، ولا يكون إلا كذلك، لأن النصوص محدودة، والوقائع لا حدَّ لها، ولا ينقطع الاجتهاد في المسائل الجزئية أبداً، ومن قال بسدِّ باب الاجتهاد، إنما أراد به الاجتهاد في غير موضع الحاجة أو الاجتهاد المطلق، أما الاجتهاد عند وقوع الواقعة لا بدَّ من معرفة حكم الله فيها، أو عند تبدُّل العرف الذي بني عليه الحكم الاجتهادي، فلم يمنعه أحد ولم ينقطع أبداً، ولا يقلِّد في هذا الموطن إلا عصبي أوغبيّ كما قال القاضي أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب:

قال الطحاوي (أبو جعفر الإمام الحنفي الكبير)، وكان كاتب هذا القاضي: كان أبو عبيد يذاكرني بالمسائل فأجبته يوماً في مسالة فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها القاضي، أو كل ما قال أبو حنيفة أقول به؟! قال: ما ظننتك إلا مقلِّداً، قلت: وهل يقلِّد إلا عصبي؟ قال لي: أو غبي.

ص: 118

فطارت هذه الكلمة في مصر حتى صارت مثلاً، وكان ذلك في أول القرن الرابع.

سمعتم خلاصة الكلام في هذه المسألة، وعلمتم أن العزيمة هي كون القاضي من أهل الاجتهاد، والرخصة التي قال بها الحنفية هي جواز كونه مقلِّدأ يا أيها السادة: إنهم كانوا يختلفون في القاضي هل يجوز له التقليد، فلم يبق خلاف بيننا اليوم في أن القاضي لا يجوز له الاجتهاد!

ونقل للماوردي، أن السلطان إذا قال للقاضي قد ولَّيتك فلا تحكم إلا بمذهب فلان (من الأئمة) كان الشرط باطلاً، وكان له أن يحكم بما أدَّاه إليه اجتهاده. ومن الاجتهاد اختيار من يفتي بقوله من المفتين كما جاء في المبسوط.

أما القضاء اليوم فالأهلي منه على مذهب (أئمة) الإفرنج، كأننا أمة من البرابرة لا دين لها ولا فقه، ولا كتاب. وقد بَدَتْ في سواد هذا الليل خيوط الفجر، وأوشك أن يفيق النائمون. وأما الشرعي فعلى مذهب أبي حنيفة، إلا مسائل بأعيانها جرى العمل فيها (في مصر) على غيره، منها ما عدل فيه إلى قول معتمد في أحد المذاهب الثلاثة، ومنها ما خولفت فيه المذاهب الأربعة اجتهاداً ورجوعاً إلى دليل كمسألة طلاق الثلاث دفعة واحدة ووقوع طلقة واحدة به، ومنها ما خولفت فيه بلا دليل شرعي كمنع سماع دعوى الزواج ممن لم تبلغ سنها السابعة عشرة أو ما لم تسجل في كتاب وقد مات أحد الزوجين - ولو أنهم اجتهدوا في مصر ونظروا في الأدلَّة لهان الخطب، ولكن سبيلهم أن يهوِّنوا حكماً، كتوريث ابن الابن مع الابن، فيحتالوا عليه، وصيَّة إجبارية، أو يجدوا له مستنداً قولاً لمجتهد من المجتهدين الأولين ولو كان مرجوحاً أو منقطعاً سنده، فيأخذوا به، وهذا ما سمَّاه ابن عابدين في رسالته اتِّباع الهوى.

أما القضاء عندنا فليس فيه ابتداع أو مخالفة إلا في مسألة واحدة ولكنا خالفنا فيها ظاهر القرآن وثابت السنة والإجماع. لا تعجبوا يا سادة قبل أن تسمعوا البيان:

ص: 119

نصَّت المادة 7 من قرار حقوق العائلة (1) على أنه لا يجوز لأحد أصلاً أن يزوِّج الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة ولا الصغيرة التي لم تكمل التاسعة. ونصَّ في المادة 52 منه على أن هذا النكاح فاسد. وفي المادة 77 على أن البقاء على الزوجية ممنوع في هذا النكاح فإذا لم يفترقا يفرِّق بينهما القاضي.

أما خلافها لظاهر القرآن (وظواهره حجَّة كما هو محرَّر في كتب الأصول) فلقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدَّتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن

} (2). ففهم من ذلك صحة زواج المرأة وطلاقها قبل بلوغها سن الحيض. أما السنَّة فلزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة في السنة السادسة من عمرها، والحديث (كما قال في فتح القدير) قريب من المتواتر. وقد انعقد الإجماع على أن حكمه عام وليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بعائشة. وقد زوَّج الزبير ابنته لقدامة بن مظعون يوم ولدت، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة مع علمهم به. أفنكاح قديمة بنت الزبير نكاح فاسد يا أيها السادة؟ أم أنه يجب التفريق بين محمد سيِّد النبيين وإمام المرسلين، وعائشة أم المؤمنين، لأن قرار حقوق العائلة يمنع بقاءهما على الزوجية؟ أم إنه يزعم أن أحكام الإسلام تتبدَّل ولو نطق بها القرآن وجاءت بها السنة المتواترة وانعقد عليها الإجماع؟

سيقول قائل منكم أو من غيركم إن قانون العائلة وضعه فحول من العلماء، وعرض على شيخ الإسلام وأمر به السلطان واستند فيه إلى اجتهاد ابن شبرمة وأبي بكر بن الأصم.

لا يا سادة، إنه لا شيخ الإسلام، ولا السلطان، ولا مئة مجتهد يستطيعون مخالفة الكتاب والسنة والإجماع، وما أحسب قاضياً يخاف الله ويعرف طرق العلم يحكم بغير ما أنزل الله فيصح فيه الوصف بالفسوق والظلم والكفر، وقد وصف الله بها من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف بمن يحكم بخلافه؟!

(1) وهذا القرار ألغي سنة 1953 وأحلَّ محله (قانون الأحوال الشخصية).

(2)

سورة الطلاق.

ص: 120

وإني أحب أن أسرَّكم فأخبركم بأن هذه المادة قد وضعت من أكثر من ثلاثين سنة، ولكن قاضياً واحداً لم يقض بها، فلم يبق منها إلا سواد الحبر في بياض الورق (1)، ذلك لتعلموا أن هذا القرآن قد تولى الله حفظه وحمايته {إنَّا نحن نزَّلنا الذكر وإنا له لحافظون} وإن قلعةً يدافع عنها الله لا يستطيع أن يقتحمها بشر (2)!

(1) ونحن مع ذلك ننصح الناس ألا يزوّجوا الصغيرات حتى يبلغن، ونؤخر عقودهنَّ في المحكمة، ولا نسجل عقداً إلا لبالغة مبلغ النساء، ولكنا لا ننقض عقداً أبرمته الشريعة، ولا نحرم ما أحلَّ الله، ولا يسوقنَّ أحد ما في تزويج الصغار من مضرَّة يراها، بل السبيل أن يسوق من شاء الكلام شرعياً أصولياً فينظر في الأدلة وقوَّتها وما يفهم منها؛ فإذا صحَّت الأدلة وكان ذلك جائزاً في الشرع قبلناه لأن الشرع في نظر المسلم يكفل المنافع ويدرأ المفاسد كلها، ولا يقرّ مفسدة، والفرق واضح بين عدم تزويج الصغار، وبين الحكم بفساد العقد بعد عقده، لأن التزويج للمولى أو القاضي إن كانت الولاية إليه له أن يزوِّج أو يدع، ولكن العقد إن أبرم لله لا ينقض إلا بموت أو طلاق أو تفريق أمر به الشرع.

(2)

هذه القطعة من تلك المحاضرة وهي طويلة، وعندي بعض أوراقها وأضعت بعضاً، وعجزت عن العودة إليها وإكمالها.

ص: 121