الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعبير الرؤيا لابن قتيبة
وصف وتلخيص لنسخة ثمينة من كتاب مفقود
نشرت سنة 1935
[يزاول ابن قتيبة في هذا الكتاب بأسلوبه المتين، وطريقته السوية، بحثاً هو اليوم جديد في اللغات الأوروبية، لم يكد يعرفه أصحابها قبل فرويد النمساوي وأصحابه: يونج السويسري، وادلر الألماني، وبودوان الفرنسي، ورفرز الإنجليزي، وهو يتفق وهؤلاء الباحثين في كثير من مسائل هذا البحث، وإنما يختلف عنهم في أنه استمدَّ من معين النبوَّة، فأصاب كبد الحقيقة، وتمكن من سواء الثغرة. واتكلوا على ظنونهم، فحاموا حول الورد، وصدروا من غير ري!
والكتاب كما سترى في وصفه من الكتب الجليلة التي نرجو أن يتيح الله لها ناشراً، وهذه النسخة التي نصفها من مخطوطات (المكتبة العربية) العامرة (بدمشق).]
…
أما تعبير الرؤيا فقد ثبت في الدين، ونطقت به السنَّة، وتواترت به الأخبار: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» .
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي عن سَمُرَة بن جُندب، أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون، وبينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض، فوضع في يديَّ سواران من ذهب، فكبرا عليَّ وأهمَّاني، فأوحي إليَّ أن أنفخهما، فنفختهما فطارا. فأوَّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء (أي الأسود) وصاحب اليمامة (أي مسيلمة).
والأخبار في ذلك مستفيضة.
وأما ابن قتيبة، فهو الإمام العَلَم. صاحب التصانيف الجليلة: أدب الكاتب، وعيون الأخبار، وطبقات الشعراء، والميسر والقداح، والمعارف (1) وغيرها
…
قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص: «هو لأهل السنَّة مثل الجاحظ للمعتزلة» ، وقال الحافظ السيوطي في البغية:«كان ابن قتيبة رأساً في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس، ثقة ديِّناً فاضلاً» ، وقالت القاضي ابن خلكان:«وكان فاضلاً ثقة وتصانيفه كلها مفيدة» ، وقال الخطيب البغدادي:«كان ثقة ديِّناً فاضلاً» ، وقال الحافظ الذهبي:«ما علمت أحداً اتَّهمه في نقله» ، وقال ابن النديم: «كان صادقاً فيما يرويه، عالماً باللغة والنحو وغريب القرآن ومعانيه، والشعر والفقه، كثير التصنيف والتأليف، توفي ابن قتيبة سنة (276) وله (63) سنة.
أما كتابه تعبير الرؤيا فقد ذكره ابن النديم في الفهرست في باب الكتب المؤلفة في تعبير الرؤيا، وسمَّاه تعبير الرؤيا. وذكره أبو الطيب اللغوي في كتابه (مراتب النحويين) كما نقل الأستاذ محب الدين الخطيب في مقدمة (الميسر والقداح)(2).
وذكره في كتاب (فهرست ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنَّفة في ضروب العلم وأنواع المعارف الشيخ أبو بكر بن خير بن عمر بن خليفة الأموي الإشبيلي (طبع سرقسطه سنة 1893) باسم (عبارة الرؤيا) قال:
(1) ذكر الأستاذ المحقق محب الدين الخطيب في مقدمة (الميسر والقداح) أن في الخزانة الظاهرية كتاباً باسم تاريخ ابن قتيبة (تحت رقم 80 تاريخ) وأن صاحب كشف الظنون أشار إليه، وتابعته في ذلك دار الكتب في مقدمة (عيون الأخبار) وقد أخبرني صديقي الشاعر الأديب السيد أحمد عبيد، أن الكتاب الذي في الخزانة الظاهرية هو كتاب (المعارف) ذاته.
(2)
قال: وهو من نفائس مخطوطات الخزانة التيمورية وهو فيها (تحت رقم 1425 تاريخ).
كتاب عبارة الرؤيا لابن قتيبة؛ حدثني به أبو بكر بن محمد بن أحمد بن طاهر، رحمه الله، عن أبي علي الغساني، قال: حدثني به أبو العاصي حكم بن محمد الجذامي، عن أبي بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل المهندس. عن أحمد بن مروان المالكي عن ابن قتيبة.
ثم ذكر لروايته طريقاً أخرى، والنسخة التي نصفها مرويَّة من طريق أقصر وتلتقي برواية أبي بكر هذا عند أحمد بن مروان المالكي، وهذا مما يثبت صحة نسبة هذه النسخة لابن قتيبة، رحمه الله.
وقال الزمخشري في (الفائق) في مادة (جنه) وهو يفسر بين الفرزدق (1):
في كفِّه جُنَهيٌّ ريحهُ عَبقٌ
…
من كفِّ أرْوعَ في عرنينه شَممُ
قال القتيبي (يعني ابن قتيبة) الجنهي، الخيزران. ومعرفتي بهذه الكلمة عجيبة، وذلك أن رجلًا من أصحاب الغريب سألني عنه (الجنهي) فلم أعرفه. فلما أخذت من الليل مضجعي أتاني آت في المنام، فقال لي: ألا أخبرته عن الجنهي؟ قلت: لم أعرفه، قال: هو الخيزُران! فسألته شاهداً، فقال:«هدية طرفنَّه، في طبق مجنَّه» ، فهببت وأنا أكثر التعجب، فلم ألبث إلا يسيراً، حتى سمعت من ينشد: في كفِّه جنهي
…
وكنت أعرفه: في كفِّه خيزران
…
قال في (تاج العروس) في تفسير الجنهي:
هو الخيزران، رواه الجوهري، عن القتيبي قال (يعني ابن قتيبة): وسمعت من ينشد: في كفه جنهي
…
والقصة التي رواها الزمخشري مروية في الورقة الخامسة عشرة من المخطوط الذي نصفه، وهذا مما يثبت صحة نسبته إلى ابن قتيبة، ومما يثبت هذه النسبة أسلوب الكتاب، فإنه لا يكاد يختلف عن الأسلوب الذي نعرفه لابن قتيبة، في تحقيقه اللغوي وتفسيره الغريب، وإكثاره من الشواهد.
(1) المشهور أنه للفرزدق ويقول كثير من المحققين إنه للحزين الليثي الشاعر. راجع الأغاني.
أما هذه النسخة فتقع في (134) صفحة من القطع الصغير في كل صفحة (15) سطراً، وهي مكتوبة بخط نسخي جميل، على ورق صقيل، ويزيد عمرها على (500) سنة.
في الصفحة الأولى منها، اسم الكتاب:
كتاب عبارة الرؤيا تصنيف أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينوَري، رضي الله عنه.
وفيها كتابات أخرى، أكثرها ممحوٌّ:
من مواهب ذي الكرم على عبده رجب الأعلم اشتريته من سي يحيى الذهبي، وقيل في المعاني:
ونكس الرأس أهل الكيميا خجلاً
…
وقطروا أدمعاً من بعد ما سهروا
إن طالعوا كتبه بالدرس بينهم
…
صاروا ملوكاً وإن هم جربوا افتقروا
تعلقوا بحبال الشمس من طمع
…
فتى منهم قد غرَّه القمر
ونو -الشمسي خادم - الفقير - لسنة 1209 - من شهر ذي الحجة من تركة الشيخ عمر بن عبد الهادي، رحمه الله.
وفي الصفحة الأخيرة، هذه العبارة مكتوبة بخط الناسخ:
«آخر كتاب تعبير الرؤيا لابن قتيبة، رضي الله عنه، قابلناها على نسخة الأصل بقدر الإمكان:
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على سيِّدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فقد وقع الفراغ من كتابة هذه النسخة الشريفة الموسومة بكتاب عبارة الرؤيا على يد العبد الضعيف النحيف الراجي إلى رحمة الله الباري يحيى بن محمد البخاري في عشرين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثمانمئة بدمشق المحروسة صانها الله تعالى عن الآفات والنكبات، اللهم اغفر لكاتبه ولن نظر فيه آمين يارب العالمين».
وفيها أسماء بعض المالكين:
دخل هذا الكتاب في نوبة العبد الفقير رجب الأعلم المجاور بمدرسة العمرية عفا عنه آمين.
الحمد لله مالكه من فضل ربه الهادي، الشيخ عبد الرزاق الهادي غفر الله له آمين، كتبه الفقير ابنه محمد.
ساقها الرب الهادي، إلى محمد الهادي.
والنسخة مشكولة ولكنه شكل لايعتدُّ به، وليس في هوامشها تعليقات تذكر.
…
رواية الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.
كتاب تعبير الرؤيا تصنيف أبي محمد عبد الله بن محمد بن مسلم بن قتيبة.
قرأت على الشيخ الصالح أبي الحسن عبد الباقي بن فارس بن أحمد المقري المعروف بابن أبي الفتح المصري، أخبركم أبو حفص عمر بن عراك الحضرمي قراءة عليه، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن مروان، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن مسلم بن قتيبة الدِّينوَري، قال:
مقدمة الكتاب:
الحمد لله الذي رفع منار الحق وأوضح سبيل الهدى، وقطع عذر الجاحدين، بما أشهدنا من صنعته الظاهرة، وآياته الباهرة وأعلامه الدالَّة عليه، وآثاره المؤدِّية إليه. في كل ماثل للعيون. من فلك دائر، وكوكب سائر، وجبال راسيات، وبحار طاميات ورياح جاريات، وفُلك في البحر مسخَّرات بأمره
…
إلخ.
(قال) حدثني محمد بن عبيد، عن
…
عن
…
عن أم كرز الكعبية قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت النبوَّة وبقيت المبشرات (1) وحدثني محمد بن زياد عن
…
عن
…
عن عروة أنه قال في قول الله عز وجل: {لَهمُ البُشرَى في الحَياة الدُّنيا وفي الآخرَةِ} قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له (2).
(قال أبو محمد) وليس فيما يتعاطى الناس من فنون العلم، ويتمارسون من صنوف الحكم، شيء هو أغمض وألطف، وأجلَّ وأشرف، وأصعب مراداً وأشكالاً، من الرؤيا، لأنها جنس من الوحي، وضرب من النبوة
…
إلخ. ولأن كل علم يطلب فأصوله لا تختلف، ومقاييسه لا تتغير، والطريق إليه قاصد، والسبب الدال عليه واحد، خلا التأويل: فإن الرؤيا تتغير عن أصولها باختلاف أحوال الناس في هيئاتهم، وصناعاتهم وأقدارهم، وأديانهم، وهممهم، وإراداتهم. وباختلاف الأوقات والأزمان فهي مرَّة مثل مضروب يُعبّر بالمثل والنظير، ومرَّة مثل مضروب يعبّر بالضد والخلاف، ومرَّة تنصرف عن الرائي لها إلى الشقيق أو النظير أو الرئيس، ومرَّة تكون أضغاثاً.
ولأن كل عالم بفن من العلوم، يستغني بآلة ذلك العلم لعلمه، خلا عابر الرؤيا: فإنه يحتاج إلى أن يكون عالماً بكتاب الله عز وجل وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ليتَعبَّرهما في التأويل. وبأمثال العرب، والأبيات النادرة، واشتقاق اللغة، والألفاظ المبتذلة عند العوام، وأن يكون مع ذلك أديباً لطيفاً ذكياً، عارفاً بهيئات الناس وشمائلهم وأقدارهم وأحوالهم، عالماً بالقياس حافظاً، ولن تغني عنه معرفة الأصول، إلا أن يمدَّه الله بتوفيق، يسدِّد حكمه للحق، ولسانه للصواب، وأن يحضره الله تعالى تسديده، حتى يكون طيب الطعمة، نقياً من الفواحش، طاهراً من الذنوب، فإذا كان كذلك، أفرغ الله
(1) رواه البخاري عن أبي هريرة بلفظ: لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة.
(2)
قال في تيسير الوصول في حديث المبشرات المتقدم: رواه مالك عن عطاء مرسلاً، وزاد: الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو تري له.
عليه من التوفيق ذنوباً، فجعل له من مواريث الأنبياء نصيباً.
وسأخبرك عن كيفية الرؤيا، بالاستدلال على ذلك من كتاب الله والحديث، إذ كنت لم أجد فيه مقالاً كافياً لإمام متبع، وأقدم قبل ذلك ذكر النفس والروح، إذ كنت لا تصل إلى علم كيفيتها إلا بمعرفتهما، وفرق ما بينهما. وعلى الله أتوكل فيما أحاول وأستعين.
(إلى أن قال) وقد اختلف الناس في النفس والروح، فقال بعضهم، هما شيء واحد يسمَّى باسمين، كما يقال، إنسان ورجل، وهما الدم أومتَّصلان بالدم، يبطلان بذهابه، والدليل على ذلك، أن الميت لا يُفقد من جسمه إلا دمه، واحتجُّوا لذلك أيضاً من اللغة: بقول العربي: نُفست المرأة (إذا حاضت) ونَفِست (من النفاس) وبقولهم للمرأة، عند ولادتها: نُفَساء، لسيلان النفس وهو الدم. وبقول إبراهيم النخعي: كل شيء ليست له نفس سائلة لا ينجس الماء
…
إلخ.
والعرب تضع النفس موضع الروح، والروح موضع النفس، فيقولون: خرجت نفسه وفاضت، وخرجت روحه منه، إما لأنهما شيء واحد، أو لأنهما شيئان متَّصلان لا يقوم أحدهما إلَّا بالآخر، وكذلك يسمون الجسد نفساً، لأنه محل النفس، قال ذو الرُّمَّة حين احْتُضِر:
يا قابض الروح من نفسي إذا احتُضِرت
…
وغافر الذنب زحزحني عن النار
ويسمون الدم جسداً لأن الجسد محله. قال النابغة الذبياني:
فلا لَعَمْرُ الذي قد زُرته حِججاً
…
وما أُريق على الأنصاب من جسدِ
والمهجة عندهم الدم. قال الأصمعي: سمعت أعرابية
…
إلخ.
وقد أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر
…
إلخ. وأرواح أهل النار
…
إلخ.
(قال أبو محمد): ولما كانت الرؤيا على ما أعلمتك من اختلاف مذاهبها، وانصرافها عن أصولها، بالزيادة الداخلة، والكلمة المعترضة، وانتقالها عن سبيل الخير إلى سبيل الشرِّ باختلاف الهيئات واختلاف الأزمان والأوقات، وأن تأويلها قد يكون مرة من لفظ الاسم ومرَّة من معناه، ومرة من ضدِّه، ومرة من كتاب الله، ومرة من الحديث، ومرة من البيت السائر والمثل المشهور، احتجت إلى أن أذكر قبل ذكر الأصول أمثلة في التأويل، لأرشدك بها إلى السبيل.
فأما التأويل بالأسماء فتحمله على ظاهر اللفظ
…
إلخ. قال: وأخبرنا محمد بن عبد العزيز عن
…
عن
…
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني في دار عقبة بن رافع وأُتيت برطب من رطب ابن طاب (نوع من تمر المدينة)، فأوَّلته أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة وأن ديننا قد طاب (1).
أخبرنا أبو حاتم
…
إلخ. (قال أبو محمد): وربما اعتبر من الاسم إذا كثرت حروفه البعض
…
إلخ. قال الشاعر:
أهدت إليه سفرجلاً فتطيَّرا
…
منه وظل نهاره متفكراً
خاف الفراق لأن أول ذكره
…
سفر وحق له بأن يتطيَّرا
وكذلك السُّوسَن
…
إلخ. قال الشاعر:
سوسنة أعطيتنيها فما
…
كنتِ بإعطائها محسنه
أولها سوء فإن جئت بالآ
…
خر منها فهو سوء سنه
وأما التأويل بالقرآن فكالبيض يعبر بالنساء لقول الله عز وجل {كأنهنَّ بيض مكنون}
…
إلخ. وكالحبل يعبر بالعقد لقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً} ، ولقوله تعالى:{ضربت عليهم الذلَّة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} ،، أي بأمان وعهد. والعرب تسمِّي العهد حبلاً، قال الشاعر:
(1) رواه مسلم وأبو داود.
وإذا تجوزها حبال قبيلة
…
أخذت من الأخرى إليك حبالها
وكاللباس يعبر بالنساء لقوله جل وعزَّ: {هن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن} . قال النابغة الجعدي، وذكر امرأة
…
إلخ.
وأما التأويل بالحديث فالغراب هو الفاسق لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّاه فاسقاً، والفأرة
…
إلخ.
وأما التأويل بالمثل السائر واللفظ المبذول كقولهم في الصائغ: إنه رجل كذوب لما جرى على ألسنة الناس من قولهم: فلان يصوغ الأحاديث إذا كان يضعها
…
إلخ. وكقولهم في الماسح: إنه ذو أسفار، لقولهم لمن كثرت أسفاره هو يمسح الأرض. قال الشاعر في هذا المعنى:
قبَّح الله آل برمك إني
…
صرت من أجلهم أخا أسفار
إن يكن ذو القرين قد مسح الأر
…
ض فإني موكلٌ بالغبار
ويرى أهل النظر من أصحاب اللغة أن الدجَّال إنما سمي مسيحاً لأنه يمسح الأرض إذا خرج أي يسير فيها، ولا يستقر بمكان، وأن عيسى عليه السلام إنما سمِّي بذلك لأنه كان سائحاً في البلاد لا يقيم بشيء منها ولا يوطنه، ومن ذهب إلى هذا جعله فعيلاً في معنى فاعل مثل قدير ورحيم؛ ويرى قوم أن الدجال سمِّي مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينين. وهذا وإن كان وجهاً فالاشتقاق الأول أعجب، لأن تسميتهم إياه الدجال تشهد له (1)، والدجالة هي الرفقة في السفر والقافلة، قال خداش بن زهير:
فإن يك ركبت الحضرمي غرامة
…
فإن كِلا ركبيكمُ أنا غارم
سأغرم من قد نالت الحجر منهم
…
ودجالة الشام التي نال حاتم
يعني قافلة أصابها حاتم
…
إلخ.
(1)(قال في اللسان): الداجل المموِّه الكذَّاب، وبه سمِّي الدجال لأنه يدجل الحق بالباطل؛ وقيل بل لأنه يغطِّي الأرض بكثرة جموعه، وقيل لأنه يغطي على الناس بكفره
…
إلخ. (وقال في التاج): وقيل هو من دجل الرجل: إذا قطع نواحي الأرض سيراً. (الطنطاوي).
وكقولهم فيمن غسل يديه بأشنان، إنه اليأس من الشيء يطلبه، لقول الناس لمن يئسوا منه: قد غسلت يدي منك بأشنان، قال الشاعر:
فاغسل يديك بأشنان وأنقهما
…
غسل الجنابة من معروف عثمان
وكقولهم في الكبش
…
إلخ.
وأما التأويل بالضد والمقلوب فكقولهم في البكاء إنه فرح ما لم يكن معه رنَّة ولا صوت، وفي الفرح والضحك إنه حزن
…
إلخ.
وأما تعبير الرؤيا بالزيادة والنقص فكقولهم
…
إلخ.
وقد تتغير الرؤيا عن أصلها باختلاف هيئات الناس وصناعاتهم وأقدارهم وأديانهم، فتكون لواحد رحمة، وعلى الآخر عذاباً
…
إلخ. حدثنا محمد
…
إلخ. قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي بكر، فرأى سلمان لأبي بكر رؤيا فجانبه وأعرض عنه، فقال له أبو بكر: أي أخي! ما لك قد أعرضت عني وجانبتني؟ قال: رأيت كأن يديك جمعتا إلى عنقك، فقال أبو بكر: الله أكبر! جمعت يداي عن الشرِّ إلى يوم القيامة.
حدثني محمد عن
…
عن
…
عن عطاء، قال: كان محمد بن سيرين يقول في الرجل يرى له أنه يخطب على منبر: إن كان ممن ينبغي له السلطان أصاب سلطاناً. وإلا فإنه يصلب. شبَّه الجذع بالمنبر. وقال الرشيد ليزيد بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة! قال: نعم، ولكن منابرهم الجذوع
…
إلخ.
ومن عجب الرؤيا أن الرجل يكون مفحماً لا يقدر على أن يقول بيت شعر، أو بكيّاً يتعذر عليه القليل منه إلا في المدة الطويلة، مع إعمال الفكر، وإنعام الروية، فينشد في المنام الشعر الجيد لم يسمع به قط فيحفظه أو يحفظ منه البيت أو البيتين، ويكون عيِيّاً أو أعجمياً، فيتكلم بالكلمة من الحكمة البليغة ويوعظ بالموعظة الحسنة، ويخاطب بالكلام البليغ الوجيز الذي لا يستطيع أن يتكلَّف مثله في اليقظة بعرق الجبين، وهذا من أدلِّ الدلائل على اللطيف الخبير.
روى الرازي
…
إلخ. وروى واصل
…
إلخ. وأما الشعر فإن أبا اليقظان قال: تزوج رجل امرأة، فعاهد كل واحد منهما صاحبه ألَّام يتزوج الأخر بعده، ومات الرجل، فلما انقضت عدَّة المرأة أتاها النساء فلم يزلن بها حتى تزوجت، فلما كانت ليلة أدائها أغفت بعد ما هُيِّئت فإذا هي بالرجل آخذاً بعضادتي الباب يقول: ما أسرع ما نسيت العهد يا رباب! ثم قال:
حييت ساكن هذا البيت كلهم
…
إلا الرباب فإني لا أحييها
أمست عروساً وأمسى منزلي جَدَثاً
…
إن القبور تواري من ثَوَى فيها
فانتبهت فزعة، فقالت: والله لا يجمع رأسي ورأسه بيت أبداً، ثم تخالعا. وروى ابن الكلبي عن جبلَّة بن مالك الغسَّاني قال: سمع رجل من الحيِّ قائلاً يقول في المنام على سور دمشق:
ألا يا لقومي للسفاهة والوهن
…
وللعاجز الموهون والرأي ذي الأفن
ولابن سعيد بينما هو قائم
…
على قدميه خرَّ للوجه والبطن
رأى الحصن منجاة من الموت فالتجا
…
إليه فزارته المنيَّة في الحصن
فأتى عبد الملك بن مروان فأخبره، فقال: ويحك، هل سمعها منك أحد؟ قال: لا. قال: فضعها تحت قدميك.
ثم قال، عبد الملك عمرو بن سعيد، عن عقيل
…
عن
…
أن رجلاً
…
إلخ.
(قال أبو محمد) وسأخبرك في هذا الباب بأعجوبة عن نفسي: سألني رجل من أصحاب الغريب كان يكثر الاختلاف إليَّ عن جنهي ما هو؟ ولم أعرفه
…
إلخ.
ورأيت أيضاً في المنام وأنا حديث السن كتباً فيها حكم كثيرة بألفاظ غريبة - كنت أحفظ منها شيئاً ثم أنسيت ذلك إلا حرفاً وهو: وبلغت إليه صلَّة الهواء، وما كنت أعرف في ذلك الوقت ما الصلَّة، ثم عرفتها بعد، والصلة: اليبس.
ومن عجائب الرؤيا أن الرجل يرى الشيء لنفسه أو يُرى له فيكون ذلك لشقيقه أو ابنه أو شبيهه أو سميِّه
…
إلخ.
قال (أبو محمد) وحكى أبو اليقظان
…
إلخ. (قال أبو محمد): وما أشبه هذا الحديث بحديث رجل رأى في المنام -أيام الطاعون- أن الجنائز تخرج من داره على عدد من فيها، فطعن أهل الدار جميعاً غيره، فبقي ينتظر الموت ولا يشك في أنه لاحق بهم، فدخل الدار لص، فطُعن فيها فمات في الدار، فأخرجت جنازته منها وسلم الرجل.
(حدثنا أبو محمد) قال: حدثني بعض الكتاب
…
إلخ.
وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة لاتلتئم على الأصول علمت أنها من الأضغاث فأرجيتها، وإن اشتبه عليك الأمر، سألت الرجل عن ضميره في سفره إن كان رأى السفر، وفي صلاته إن كان رأى الصلاة، وفي صيده إن كان رأى الصيد، ثم قضيت بالضمير، وإن لم يكن هناك ضمير أخذت بالأسماء على ما بينت لك. وقد تختلف طبائع الناس في الرؤيا، ويجرون على عادة فيها، يعرفونها من أنفسهم، فيكون ذلك أقوى من الأصل، فتسأل عن طبع الرجل، وما جرت عليه عادته
…
إلخ. وإن كان الأصل طائراً
…
إلخ. وإن كان غراباً
…
إلخ، وقيل لمن أبطأ عليك أو ذهب فلم يعد إليك: غراب نوح، وإن كان عقعقاً كان رجلاً لا عهد له ولا حفاظ ولا دين. قال الشاعر:
ألا إنما حملتم الأمر عقعقا
وإن كان عقاباً
…
إلخ.
…
هذه فقرة من المقدمة القيِّمة التي قدم بها الكتاب وهي تقع في أكل من أربعين صفحة، وتأتي من بعدها أبواب الكتاب وهي ستة وأربعون باباً، فيها من نوادر الشعر وطرائف اللغة ودرر الأدب مثل ما في المقدِّمة، ولولا أن هذا الفصل قد طال، لاخترنا منها فقراً رويناها في (الرسالة)، والكتاب على الجملة من نفائس تراثنا العلمي، ومكانه من الخزانة العربية لا يزال خالياً لم يشغله كتاب. وإنا لنأمل له من رجال الأدب ومن الناشرين الاهتمام اللائق به.
***