الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدب إقليمي
نشرت سنة 1936
أريد أن يكون لكل قطر من الأقطار العربية (أدب إقليمي) يصف طبيعة الإقليم الذي نشأ فيه، وجمال هذه الطبيعة، ويصور البيئة التي ظهر فيها وعادات أهلها، وأخلاقهم ومشاعرهم، ويكون من الأدب المحض، لأنه تصوير للجمال وعرض للحياة، ويكون من العلم، لأنه مصدر التاريخ الاجتماعي للأمة.
وهذا الأدب هو الذي نريده عندما نقول إن دمشق مثلاً ليس فيها أدب، أي ليس فيها شعر ولا نثر يصف طبيعة بلادها وجمالها وعادات أهلها، وإذا أنت علمت أن فرنسا مثلاً لم يكد يبقى فيها جبل مشهور ولا بحيرة ولا نهر إلا وصفه الشعراء والكتاب ولم يبق في تاريخها حادثة كبيرة إلا استغلَّها الأدب. ورأيت بلادنا (وهي أجمل بلاد الدنيا) مهملة لم توصف ولم تذكر ورأيت تاريخنا (أحفل تاريخ في الوجود بالعظمة والمجد) منسيّاً متروكاً كأنه المنجم البكر، أو الأرض الخصبة العذراء، لعجبت وطوَّح بك العجب.
وما لي أذهب بك بعيداً. وهذه جبال بلودان، يصطاف فيها كل عام جلَّة شعرائنا (1) فكم قصيدة قالوا فيها؟ وهذا وادي بردى والعين الخضراء، وقلمون ومنين وتلفيتا وصيدنايا، بل هاك بردى، ألا نزال (من الفقر) ننشد في بردى بيتاً قيل منذ ألف وأربعمئة سنة:
بردى يصفِّق بالرحيق السلسل
ولا نعرف لشعرائنا في بردى مقطوعة مشهورة؛ أو شعراً سائراً ..
(1) منهم شفيق جبري الذي أمضى فيها عشرين صيفاً ولم يقل فيها عشرين بيتاً.
وماذا لنا لولا شاعرا الإسلام وعلما الشعر؛ حسان الأول (ابن ثابت) وحسان الأخير (شوقي)؟
…
أما أن يكون هذا الأدب الإقليمي علماً ويكون منبع التاريخ الاجتماعي واضح لا يحتاج إلى دليل، وذلك أننا (نحن العرب خاصة) في أشد الحاجة إلى الأدب. لأن تاريخنا العلمي والاجتماعي. لم يكتب بعد ولم يفرد بالتأليف، بل ظلَّ متفرقاً في ثنايا القصص الأدبية والأخبار والتراجم، يحتاج إلى الاستقراء الشامل والتقاط هذه النتف وتنظيمها واستنتاج المعلومات منها، على نحو ما فعل المستشرقون وليس هذا الأمر بالسهل الميسور، كما أنه ليس بالصعب المتعذر. وإني لأذكر أنَّا كنا نقرأ السنة الماضية (أنا والطلاب) قصة من كتاب الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي، يتحدث فيها الفضل بن الربيع عما جرى له في اختفائه واشتداد المأمون في طلبه، فمر في القصة أن جندياً طلبه ففر منه حتى أدركه على الجسر وهمَّ بالقبض عليه فمن حلاوة الروح دفعه فسقط هو ودابته في بعض سفن الجسر. فوقفت وساءلت الطلاب أي شيء هذه السفن؟ إنها لا تعدو أن تكون سفناً عادية تكون تحت الجسر فأضيفت إليه، وهذا مقبول ولكنه بعيد، وأقرب منه أن تكون السفن لا صقة بالجسر، بمعنى أنه قائم عليها وهذا أقرب، أفلا يكون معنى هذا الفرض إذا صحَّ أن الجسر كان من زمان المأمون (كما هو الآن)(1) قائماً على عوامات، أي كان جسراً متنقلاً؟ أحسب أنه لا شك في ذلك. وأن المسألة من الوضوح بمكان. وعلى هذا لم أجد من ذكر هذه المسألة بالنص من المؤرخين.
ووجدنا في هذه القصة، أن الفضل عرف الجندي لأنه من الذين كانوا ينوبون في داره أيام وزارته، ففهمنا من ذلك أن الوزراء إذا تولَّوا الوزارة، قام على أبوابهم حرس يحرسون بالنوبة، على نحو ما عليه الحال اليوم، وهذه المسألة على ضآلتها قد تفيد المشتغلين بأوضاع الحكومة الإسلامية، ولم أجد من نص عليها.
(1) أي عند كتابة المقال.
ووجدنا في هذه القصة أن الفضل أمسى عليه المساء وهو هارب ماش في الطرقات فلما كان بعد العشاء أغلقت أبواب الأحياء، ففهمنا من هذا أن التجول ليلاً لم يكن ميسوراً، وأن العسس كانوا يغلقون الأبواب. وهذا الأمر معروف في دمشق وفي القاهرة. وأنا أذكر البوَّابات وكيف كانت تغلق، وآخر ما بقي منها (أو ما أعلم أنه بقي) بوابة عند حمام أسامة (قرب البادرائية).
استطردت هذا الاستطراد الذي كاد يخرج بي عن الموضوع لبيان أن التاريخ الاجتماعي لا يستخلص إلا من الأدب، وأن تاريخنا الاجتماعي والعلمي لم يكتب، وإنما كتب التاريخ السياسي، أو كتبت مصادره على الأصح.
هذا هو الأدب الإقليمي الذي أريده، ولست أريد أن يكون لقطر من الأقطار العربية أدب مستقل في لغته، خارج على العربية لغة الجميع، وأن يهجر كل أدب أخاه فلا يعرفه، وأن تأخذ كل قوم العصبية لأدبهم؛ فتنقطع أوصال الأدب العربي، وتتفكك أجزاؤه. وينبتر من ماضيه، وهذا ما لا نحسبه يكون لمكان القرآن من هذه اللغة، ولأن الله يحفظها به وله، ولأن هذه العربية أكثر من لغة هي رابطة متينة لا تحلها يد أجنبي أو منافق أو ضعيف جهلها فعاداها.
والقطر الشامي أبعد الأقطار بحمد الله عن هذه العصبية الباطلة، وأشدها تسامحاً، ولكنه (بالغ في الرقة حتى انخرق) واشتدَّ به التسامح حتى صار ضعفاً وتفريطاً وصار الشاميون؛ أعني صرنا نسيء الظن بأنفسنا حتى لا نجد نابغاً ينبغ فينا إلا فتَّشنا عن عيوبه وحططنا منه. ولقد فكرت في هذا الأمر أمس فوجدته واقعاً وحقيقياً؛ ووجدتني أنا من أكثر الناس التباساً به. حتى أنني (والله) أسيء الظن ولا أرضى عن شيء كتبته قط.
أقول إننا قد بالغنا في التسامح فنحن في حاجة إلى شيء من العصبية؛ كما أن إخواننا في لبنان ومصر في حاجة ماسة إلى شيء من التسامح.
أما لبنان فيذم أدباؤه الفئة المختارة من رسل البيان ولسن القرآن كالرافعي والزيَّات والبشري وشوقي ويقيم الدنيا ويقعدها دعاية لفئة من الأدباء الناشئين أكبر ما يقال فيهم إن لهم بصراً بفن القصة ويحسنون الوصف على ركاكة وبعد
عن البلاغة. وكل حسنة عند إخواننا اللبنانيين لمصري أو دمشقي سيئة لأنه ليس عليها طابع لبنان، وكل سخافة يأتي بها لبناني أدب وكل سيئة أكبر الحسنات.
وأما مصر فلا يكاد يعرف كثير من أهلها أن في الدنيا بلاداً عربية فيها أدب وحياة فهم يقنعون بمصر ويسمّون مصر (أم الدنيا) ويجهلون أحوال البلدان المجاورة سياستها وأدبها وطبيعتها، وعندي في هذا الباب نوادر منها أنني سمعت مرة قاضياً شرعياً يتحدث عن عكا فخلط في موضوعها خلطاً ظاهراً فسألته فلم يدرِ أين تقع من القدس أو من دمشق وآخر من المتعلمين لم يفرِّق بين سورية وفلسطين ونحن معه أنهما كلهما سورية ما خلق الله إلا هذا، ولكنه لم يدر أنهما اليوم حكومتان. بينما تجد الشاميين أو العراقيين يعرفون من أحوال مصر وسياستها أكثر مما يعرف الكثرة من المصريين أنفسهم.
ومصر متعصِّبة لأدبها وعلمها، فالأثر الأدبي الذي لا يكون مصرياً، أو لا يطبع في مصر، لا يكتب له الرواج الواسع في مصر. يعرف ذلك الورَّاقون ومن درس حالة المكتبات وسوق الكتب في البلدين وقد وصل هذا الأمر إلى النقاد، فأرسل الأستاذ معروف الأرناؤوط (كتاب سيِّد قريش) إلى كثير من ناقدي مصر كالعقاد وطه حسين فلم يكتبوا عنها.
ولا أدع هذا البحث قبل أن أشير إلى حادثين كان لهما أكبر الأثر في إضعاف العصبية المصرية؛ وتعرُّف المصريين: كتَّابهم وأدبائهم، الأقطار العربية الأخرى بعض التعرف:
أولهما حادث ظاهر في تاريخ الأدب العربي الحديث. وباب وحده فيه سيتَّسع ويشغل من هذا التاريخ يوم يكتب صحائف كثيرة؛ ذلك هو إنشاء الأستاذ أحمد حسن الزيات مجلة الرسالة لأنها أولا مجلة مصرية كبيرة كسرت هذا الحاجز وفتحت صدرها للأقطار العربية جمعاء. فكانت كبرى المجلات العربية وأرقاها ولا خلاف، وكانت أجل صلة بين أبناء العربية وكانت الندوة التي يلتقون فيها، ففيها من كل بلد طائفة من أهله: من الشام وفلسطين والعراق والحجاز والمغرب وأوروبا وأميركا وسنغافورة، وصاحبها من أكابر أدباء العصر،
وأبلغهم وله في صدور الرسالة آيات بينات تتخذ مثالاً يحتذى، وإماماً يقتدي به البلغاء في فن الإنشاء، فنالت الرسالة بهذا من المنزلة في القلوب؛ والذيوع في البلدان والشهرة والمكانة ما لم تنله مجلة عربية قط.
وثانيهما هو انتشار الفكرة الإسلامية في مصر، ويرجع الفضل فيها لكثير أولهم وأظهرهم وأعمقهم فيها أثراً لأستاذ محب الدين الخطيب وجريدته (الفتح).
…
كان يحمل هذه الفكرة طائفة من الكتَّاب على رأسهم إمام الأدب وحجَّة العرب الرافعي، رحمه الله، وكانوا يسمُّونهم المحافظين، والأستاذ العلَّامة السيد رشيد رضا صاحب المنار، ثم أنشأ الأستاذ محب الدين الخطيب (الفتح) فحملت هذه الرسالة بقوة، وكان من أثر الفتح وأثر الأستاذ محب الدين، إنشاء جمعية الشبَّان المسلمين، وقد أنشئت في دار المطبعة السلفية، ثم اتَّسعت وعظمت حتى بلغت اليوم هذه المنزلة من الفخامة والضخامة وكثرة الفروع، ثم أنشئت الهداية الإسلامية، والجمعيات الأخرى، ثم أنشأ الأستاذ العبقري الشيخ البنا (الإخوان المسلمين) وانخرط في سلكهم القسم الأعظم من طلَّاب الجامعة والمدارس العالية ثم أنشئت (الرسالة) واتَّجهت هذا الاتجاه، وأنشأت أعداداً خاصة كل سنة في ذكرى الهجرة، والمواقع الإسلامية، ثم انضم إلى هذه الجبهة الكاتب الكبير حسين هيكل، بل انضم إليها طه حسين وتوفيق الحكيم أيضاً، ولم يبق إلا هذا الصعلوك الشعوبي سلامة موسى، ومن هذه الجهة أجل علماء مصر كالغمراوي أستاذ الكيمياء في الجامعة، وأحمد زكي رئيس مصلحة الكيمياء وأبو شوشة وغيرهم.
وبعد فإننا نريد أدباً إقليمياً، ولكنه عربي اللغة، بليغ العبارة، بعيد عن العصبية الإقليمية الباطلة، قريب من الحق والفضيلة.
***