الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف تكون كاتباً
نشرت سنة 1932
هذا حديث أوجِّهه إلى الطلاب التجهيزيين المحرومين من دروس الإنشاء، والذين يكلَّفون بكتابة المقالة (أو الوظيفة) في الموضوع الثقيل الذي لا يألفونه ولا يفهمونه من غير أن يكون أمامهم ما ينسجون على منواله، ويقتفون أثره، ومن غير أن يكون تحت أيديهم من القواعد ما يعلِّمهم كيف يسيرون، وهم في حالهم هذه كالرجل يريد أن يعلِّمه أبوه السباحة فلا يزيد على إلقائه في الماء وأمره بأن يسبح!
ولكنه يموت قبل أن يتعلم السباحة، ويملُّ هؤلاء قبل أن يتعلموا الكتابة ولست أريد انتقاص الأساتذة أو احتقارهم.
وبعدُ، فماذا يصنع المدرِّب القدير ليعلِّم السباحة؟ أيلقي الطالب في الماء فيدعه يختنق؟ لا، بل هو يبدأ بالقواعد الأصلية وهو على الشاطئ ثم ينزل معه إلى الماء، فيبدآن بالمكان السهل الضحل، فيشرح له كيف يسبح، ويعاونه ويصلح أخطاءه، ويضرب له الأمثلة من نفسه ليرى كيف تكون السباحة الجيِّدة، ثم يدعه يسبح مستقلاً.
وهكذا يكون معلم الإنشاء القدير، يبينِّ لتلاميذه أنواع الإنشاء: من (الإنشاء الخطابي)، إلى الإنشاء الوصفي، إلى الإنشاء القصصي، وكيف أن الأول يعتمد على العاطفة الثائرة والجمل القصيرة ذات الرنَّة الموسيقية، وكيف أن للقصة عناصر لازمة هي الحادثة وظروفها (زمانها ومكانها) وأشخاصها، وكيف أن للقصة أنواعاً مختلفة كالمأساة (Tragédie) التي تنتهي بفاجعهَ مؤلمة، والدرام والمهزلة (Comédie) وكيف أن الإنشاء الوصفي يكون خيالياً
(Idéalisme) ويكون واقعياً (Réalisme) وما هي الفوارق بين المذهبين، والأمثلة عليهما من آثار الكتَّاب البارعين، إلى آخر ما هنالك ثم يعطيه موضوعاً هيِّناً ويشرح له عناصره، ويقرأ له أمثلة عليه من القطع الفنيَّة. فإذا كتبه التلميذ قرأه هو بنفسه على المعلم على مسمع من إخوانه الذين ينقدونه ويناقشونه ثم يبين الأستاذ حكمه في الوظيفة ويقدِّم نصائحه للتلميذ، ولست أعني النصائح اللغوية والنحوية وحدها، بل الفكرية والفنية أيضاً.
…
ومن الخطأ بعد هذا كله أن يعتقد امرؤ أن الكتابة شيء يكون بالتعليم فهي شيء فطري في الإنسان والكاتب كما قالوا يولد كاتباً، كما يولد الإنسان ذا صوت جميل، أوجسم قوي (1)، ولكن الصوت الجميل يبقى ناقصاً إذا لم يدرس صاحبه الموسيقى؛ والجسم القوي لا يستكمل قوته؛ ما لم يربِّه صاحبه التربية البدنية، والملَكَةُ الكتابية لا تكمل ولا تنتج الآثار البارعة ما لم تنضجها الدراسة الأدبية العميقة، وخير سبيل لإنماء هذه الملكة عند الطلاب هو أن يقرؤوا كتب الأدب القديمة ليتعلَّموا منها الأسلوب العربي ثم يقرؤوا لأهل البيان من كتَّاب العصر ثم يقرؤوا روائع الأدب الغربي لتعينهم على إتقان الأسلوب الفني.
فإذا قعد بعد ذلك ليكتب، فلا بد له من أن يمرَّ على المراحل الآتية:
1 -
عملية الجمع:
وأعني بها جمع الأفكار والصور، يجمعها من مشاهداته في الحياة ومطالعاته في الكتب، وتنتهي هذه العملية حينما يشعر الكاتب أن هذه الأفكار قد أصبحت واضحة في ذهنه يستعرضها بسهولة ويستطيع الإحاطة بها.
2 -
عملية الاصطفاء:
فإذا انتهت هذه العملية شرع باصطفاء الصور والحالات التي توافقه وتلذُّه؛ ونبذ الباقي فإذا بقيت هذه الصور وحدها واضحة في ذهنه، انتقل إلى العملية الثالثة وأمسك حينئذ بالقلم فبدأ.
(1) في هذا مبالغة ولكن له أصلاً.
3 -
عملية الترتيب (أو التصنيف):
وذلك بأن يضع كل صورة أو فكرة في المكان الملائم لها، وليس هناك قاعدة صحيحة للبداءة بالقصة، بل أن ذلك منوط بذوق الكاتب، وكثير من الكتَّاب يبدؤون بعرض أبطال القصة أولاً وبعضهم يبدأ بالزمان والمكان، أو الحادثة.
ولزيادة الإيضاح آخذ مثالًا أطبِّق عليه هذه العمليات وليكن (فاجعة في شارع):
1 -
أستعرض أولاً الحالات الممكنة للمكان وهي:
(أ) شارع وسط المدينة.
(ب) شارع وسط الحقول.
(جـ) شارع على شاطئ البحر.
(د) شارع على شاطىء نهر.
(هـ) شارع على سفح جبل.
(و) شارع وعر.
(ز) شارع سهل معبَّد.
(ح) شارع مأهول كثير المارة.
(ط) شارع منقطع
…
إلخ.
وأستعرض الحالات الممكنة للزمان وهي:
(أ) في الصباح (قبل الشمس).
(ب) في المساء (بعد الشمس).
(جـ) في الظهيرة.
(د) ليلاً.
(هـ) السماء صاحية.
(و) السماء غائمة.
(ز) السماء ماطرة.
(ح) السماء مثلجة.
(ط) الوقت حرّ.
(ي) الوقت برد
…
إلخ.
2 -
فإذا انتهيت من عملية الجمع أبدأ بعملية الاصطفاء فأختار إحدى الحالات الممكنة وليكن:
(أ) شارع على شاطئ البحر -وعر- منقطع.
(ب) ليلاً-السماء ماطرة- الوقت برد، ذلك لأن الحادثة التي تريد وصفها هنا فاجعة لا يصلح لها إلا هذه الظروف، وأشرع بعدُ بتصنيفها فإذا تمَّ التصنيف بدأت العملية الرابعة:
4 -
عملية اختيار الأسلوب:
فأتصور نوع الأسلوب الذي أكتب به المقالة والألفاظ والتعبيرات التي أستعملها فيها وما إلى ذلك (مما يسمَّى بالفرنسية (La forme) ويقابله (Le fond) للمعاني والأفكار) ومن المعروف أن الأسلوب يختلف باختلاف الموضوعات، فلا تكتب المقالة الوصفية بالأسلوب الخطابي ولا المذكرات والرسائل العائلية بأسلوب القصص المسرحية، ومن المعروف أن لكل أسلوب قواعد تختلف عن قواعد الأسلوب الآخر، يجب على مدرس الإنشاء بيانها للطلاب، فليس في وسعي أن أبيِّنها في مقالة صغيرة كهذه، ولقد صرفت وقتاً طويلاً في دراستها بنفسي بعد أن خرجت من التجهيز خالي الوفاض منها؛ لم أدرس منها شيئاً.
5 -
ثم يبدأ بالكتابة مراعياً التصنيف الذي وضعه لنفسه، ويضع لكل مقال مقدمة جذَّابة يكون فيها براعة استهلال، وخاتمة مؤثرة، فيها حسن الاختتام.
أما الألفاظ فما أحب أن أكلم فيها إخواني الطلاب وإنما أقول لهم إني كلما تقدمت شعرت من نفسي بميل إلى انتقاء أسهل العبارات وأقربها إلى اللغة المألوفة، ونفور من زخرفة الجمل والعناية بالألفاظ.
وقد كانت هذه الزخرفة وهذه العناية بالألفاظ أكبر همِّي أولاً حتى لقد كنت أحسب البراعة في الكتابة بمقدار ما فيها من رنَّة موسيقية، لا بمقدار ما فيها من أفكار، ولا أبالي بنقد الناقدين لهذه الطريقة اللفظية الجوفاء، ولا أقيم له وزناً، كما أن إخواننا هؤلاء لا يبالون (كما أقدِّر) بهذه الكلمة مني، ولا يقيمون لها وزناً!
بقي عليَّ كلمة واحدة وهي:
إن كثيرين من الكتاب يميلون إلى معرفة آراء الناس بكتاباتهم ويهتمُّون بهذه الآراء جداً، حتى أنها لتشجعهم إذا كانت حسنة وتذهب عزائمهم إذا كانت سيئة، وهؤلاء الكتاب يخسرون كثيراً من مواهبهم، وينحطُّون عن المنزلة التي وضعهم فيها الله، يوم جعلهم كتَّاباً واختارهم لتبليغ رسالة القرون الآتية، فلا تعتادوا هذه العادة ولا تبالوا بأذواق الناس إذا خالفت أذواقكم، ولكن استمعوا إلى نقدهم إذا كان يستند إلى أساس علمي صحيح. أما إذا استند إلى الذوق وحده فلا .. ولو كان ذوق أستاذكم.
***