الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقالة في التحليل الأدبي
نشرت سنة 1934
لما هممت بكتابة هذه المقالة، عرضت الفكرة على طالب من طلاب البكالوريا فأعرض عنها، وعجب مني إذ أخمِّلُ المسألة ما لا تطيق، وأنفق فيها من الجهد ما لا تحتاج إلى بعضه، وهي في ذاتها أيسر مما أظن
…
وشرح لي كيف يكون هذا اليسر، فإذا المسألة كلها في استظهار الطالب طائفة من آراء النقاد القدماء والمحدثين في الأديب الذي يكلف بدراسته، وطائفة من آثاره الأدبية - أو أن يستظهر ما يسمعه من الأستاذ، أو يراه في كتاب ويكون له صلة لهذا الأديب، يصب ذلك كله في صحيفة الامتحان، فينجح ويحمل هذه الورقة السحرية .. فإذا كان له ذلك فهو منصرف عن الأدب ما عاش
…
ومعنى هذا أنه يرى الأدب شراً، ولكنه -كما قال شيشرون عن الزواج- شرٌّ لا بد منه فهو يحمل منه أقل قسط ينجيه من هول الامتحان، ثم يقذف به ويفر منه
…
ونحن نعيذ طلاب البكالوريا أن يكون رأيهم كلهم في الأدب، كرأي صاحبنا هذا وأن يكون همهم جواز الامتحان، وحمل الشهادة، لا درس الأدب لذاته، وإدراك لذَّته، وتلقيه على أنه مظهر من مظاهر الجمال السامي. ونعيذ صفوف البكالوريا من هذا الجمود، أن تستمر فيه. وأن تسلك أبداً هذه المناهج الملتوية التي لا تبلغ بسالكها الغاية، ولا تخرج للناس من تلاميذها كاتباً مجيداً، ولا ناقداً بصيراً ولا شاعراً مطبوعاً .. ولا تأخذ بيد الحركة الأدبية في الشام، فتقيلها عثرتها، وتنهض بها منذ كبوتها. ونعيذ الوزارة من هذا البرنامج، أن تثبت عليه وأن تضطر الطلاب أبداً إلى دراسة هؤلاء الشعراء الماجنين وتفهم أشعارهم، والإحاطة بأخبارهم، وفي ذلك كله أشياء لا ترضى عنها الأخلاق، ولا تستقيم مع الحياء والعفاف. وإذا كان الأدب لا يهتم بالأخلاق ولا يمتنع من
درس الأدباء الجادين والماجنين على السواء، فإن الأمة تهتم بأخلاقها، والأدب شيء كمالي، أما الأخلاق فهي سر حياة الأمم، (فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا)!
الحقيقة في الأدب:
وأول ما ننبه إليه إخواننا طلاب البكالوريا هو أن الأدب لا يعرف الجزم في الحكم، ولا يستطيع أن يقول هذا قانون التحليل الأدبي، وهذا قانون النقد، كما يقول صاحب الطبيعة هذا قانون السقوط، وهذا قانون الجذب، وكما يقول صاحب الرياضيات هذا قانون تساوي المثلثات وهذا قانون التابع
…
أي أن الأدب ليس فيه حقيقة كالحقيقة العلمية الموضوعية (Objectif) ولكن فيه حقائق نسبية ذاتية (Subjectif) وإني إذا وضعت للتحليل منهجاً، وعرضته في هذه المقالة. فلن أحمل أحداً على هذا المنهج، ولن أدَّعي أنه المتفرد بالصحة والاستقامة، ولكني أبين عن رأيي واجتهادي، وأنت إذا بحثت يوم الامتحان بحثاً دقيقاً، سرت فيه على طريق واضحة مستقيمة، فبلغت غاية لايرضاها الأساتذة المميزون أو خرجت برأي لا يرونه، فليس يحق لهم أن يتخذوا رأيهم مقياساً، وأن يعدوك مخطئاً، لأن تاريخ الأدب لم يدخل بعد في حظيرة العلوم.
الأدب:
والأدب هو مجموع الآثار الجميلة في لغة من اللغات. أو عصر من عصور هذه اللغة، فالأدب العباسي هو مجموع الأشعار التي تركها لنا شعراء هذا العصر من لدن بشار إلى أبي تمام إلى المتنبي إلى المعري، والرسائل التي خلفها كتابه من ابن المقنع وابن مسعدة، إلى ابن العميد والصاحب، والخطب التي ورثناها عن داود بن علي وشبيب بن شيبة وغير هذا وذاك - والأدب الفرنسي في القرن السابع عشر هو مجموع القصص التي وضعها كورناي وراسين، والمهازل التي ألفها موليير، والحكايات التي صنَّفها لافونتين، وكل كلام بليغ، ومقال شريف، أثر عن أهل ذلك الزمان، وكل ما يهز النفس، ويوقظ فيها الحسَّ بالجمال.
النقد:
الأدباء هم الذين ينتجون هذه الآثار، وينسجونها من خيالاتهم وأفكارهم، أما النقَّاد فهم الذين يَزِنون هذه الآثار ويقوِّمونها. والنقد هو عرض هذه الآثار على الميزان الذي يتخذه الناقد لنفسه، والمبدأ الذي يصدر عنه في أحكامه.
والنقد نقدان: نقد صوري (de forme) ونقد معنوي (de fond) والميزان في الأول اللغة وقواعدها وعلومها. مما لا مجال للرأي فيه ولا سبيل إلى الاختلاف في شيء منه. والميزان في الثاني مذهب الناقد الذي اتخذه لنفسه، وآمن به. ولكنك إذا حققت لم تجد في هذا المذهب إلا رأي الناقد وصورة من نفسه وأسلوبه. مهما حاول النقاد إثبات الموضوعية لمذاهبهم. ذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يتجرد في نقده من نفسه، وأن يبرأ من أسلوبه.
ولعلي لا أكون مغالياً إذا قلت: إن النقد هو الموازنة بين أسلوبين ذاتيين ليس إلا!
تاريخ الأدب:
أما تاريخ الأدب فهو المرحلة التي تلي مرحلة النقد. بل هو الشكل الكامل للنقد. وهو تصنيف الآثار الأدبية (Classification) وبيان تسلسلها وارتباطها بما قبلها وما بعدها. وبعبارة جامعة هو كما يقول بعض الإفرنج: «مجموع القواعد المتعلقة بآثار الفكر والخيال» - وتاريخ الأدب أقرب إلى العلم من الأدب نفسه وإن لم يصبح بعد في مرتبة العلوم.
عناصر التحليل الأدبي:
إن على مؤرخ الأدب عند تأريخه أديباً، وتحليل شخصيته. أن يدرسه من حيث هو رجل له شخصية متميزة كوَّنتها طائفة من العوامل، ونتج عنها طائفة من الأخلاق والسجايا. ومن حيث هو أديب له آثار أدبية تتصل بنفسه صلة
ضعيفة أو قوية، ولها في سلسلة الآثار الأدبية مكان خفي أو ظاهر: أي أن يعرف العوامل التي عملت في تكوين الأديب- ويقف على ميول الأديب وأخلاقه- ويطلع على ترجمته وأخباره- ثم يعمد إلى أدبه فيفهم نصوصه ويحللها- وينظر مقدار صلته بنفس صاحبه- ومقدار تأثيره في عصره- وينطوي تحت كل جملة من هذه الجمل، عنصر من عناصر التحليل الأدبي.
العوامل التي تعمل في تكوين الأديب:
هل إلى حصر هذه العوامل من سبيل؟ هل تستطيع أن تعرف العوامل التي كوَّنت شخصيتك؟ هل تعرف كل خلق من أخلاقك، وطبع من طباعك، من أين مصدره، وما هو منحدره إلى نفسك؟ إن الشخصية تتكون في الإنسان تبعاً لماضيه، والأعمال التي قام بها في هذا الماضي والمكانة التي تبوَّأها، والخطيئات التي ارتكبها، وتتكون تبعاً لحاضره، فتختلف باختلاف منزلته في الحياة، والمرتبة التي حازها، والشهرة التي نالها، والمال الذي حصَّله، وتتكون تبعاً لمستقبله، والآمال التي يحملها في صدره، والسبل التي مهدها لبلوغ تلك الآمال، تتكون شخصية الإنسان تبعاً لعوامل كثيرة معقَّدة، منها الظاهر ومنها الخفي. ولا سبيل إلى استعراضها كلها، ولكنا نستعرض طائفة من العوامل نعتقد أنها ذات الأثر الأكبر في تكوين الأدباء. هي:
الزمان - والبيئة - والثقافة - والوراثة - والتكوين الجسمي.
الزمان:
على إخواننا طلاب البكالوريا أن يتنبَّهوا إذا أخذوا في الكلام على زمان الشاعر، كيلا يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه كثيرون، ويحترسوا من أن يكون كلامهم على الزمان كلام مؤرِّخ إذ إن المؤرخ يؤرخ كل شيء، ينال ببحثه السياسة والحروب، والعلم والعادات، وبلاط الملوك ومجامع السوقة، أما مؤرخ الأدب فلا ينبغي له أن ينصرف إلا إلى شيء واحد، يقصر عليه بحثه ويبذل في اكتشافه جهده، هو (الذوق الأدبي العام).
لكل عصر ذوق أدبي عام خاص به، والأديب في كل عصر يحسُّ بضغط
هذا الذوق عليه وسلبه إياه شيئاً من حريته، ولا أحْسَبُ أن أبا نواس مثلاً كان يستطيع أن ينظم هذا الشعر المخجل (1) لو أنه كان في وسط لايقبل ذوقه الأدبي، هذا النوع من الشعر. وأرجو أن لا يفهم مني القراء أن عصر أبي نواس كان عصر مجون وتهتك، فما هذا أردت ولكني أردت أن أقول إن زمان أبي نواس كان فيه من يتذوق هذا النوع من الأدب ويسيغه، كما أن في زماننا من يتذوقه ويسيغه، ويردده بمناسبة وغير مناسبة!
على أن الذوق الأدبي العام، ليس إلا نتيجة لهذه الحوادث السياسية والاجتماعية والعلمية فإذا نحن ألممنا بهذه الحوادث واستنبطنا منها طبيعة هذا الأثر من الوضوح، إذ إن الأدباء لا يتأثَّرون بالزمان على مقياس واحد، ولايخضعون له خضوعاً مطلقاً، بل قد ينشأ فيهم من يتمرَّد على هذا الذوق ويَخْرقه، ويقيم نفسه عدوّاً له. غير أن العداء لا يخرج في رأينا عن أن يكون (عملاً منعكساً) عن تأثير هذا الذوق فيه ولن تجد أديباً في نجوة من تأثير الزمان أو البيئة.
البيئة:
أما الزمان فقد عرفت أننا نعني به الذوق الأدبي العام، فماذا نعني بالبيئة؟ إن البيئة هي هذا الوسط الذي يعيش فيه الشاعر، وهذه البقعة التي يستنشق هواءها، ويتمتَّع بمشاهدها، ويرى وجوه أهلها، ويتكلم بكلامهم، ويقتبس عاداتهم، فيؤثِّر ذلك فيه من حيث يشعر أو لا يشعر ولهذا بالغ بعض النقَّاد في تقدير أثر البيئة في الأدباء، حتى زعموا أن الأديب ليس له من الأمر شيء، وما هو إلَّا مرآة تنعكس فيها صُوَر البيئة وأشكالها، وسواء أكنَّا من أصحاب هذا الرأي أم لم نكن، فإن البيئة من أكبر العوامل في تكوين أخلاق إلانسان. وإن البيئة الصالحة يكون حصادها أناساً صالحين، والبيئة الفاسدة تكون ثمرتها أناساً فاسدين، بل إن الرفاق وهم بعض من هذا الكلِّ الذي نسمِّيه البيئة، يرجع إليهم الفضل في صلاح رفيقهم وعليهم الوزر في فساده.
(1) في أدباء الغرب كثيرون على غرار أبي نواس كويلد الإنكليزي وجيد الفرنسي!
فليس إذن لمؤرِّخ الأدب بدٌّ من العناية بدرس البيئة وأثرها في الأديب: أي لا بدَّ له من أن يعرف بلد الأديب وطبيعة هذا البلد، وأخلاق أهله، وحالته الاجتماعية، وأن يعرف -معرفة أدقّ- أسرة هذا الأديب، والطريقة التي تربِّي عليها أبناءها، والأخلاق التي تأخذهم بها، وأن يعرف كيف نشأ هذا الأديب، ومن هم رفاقه، وعلى الجملة فعلى مؤرخ الأدب أن ينقِّب عن كل ما له صلة بالشاعر، ووسطه الذي نشأ فيه، وأثر ذلك في تكوين أخلاقه وأدبه ولك في بشَّار وأبي نواس، بل لك ما الأدباء المعاصرين الذين تقرأ لهم وتحبّهم، دليل على قوة هذا الأثر. فلو نشأ أبو نواس في بيئة تقيَّة وَرِعة، ولو نشأ بشَّار في بيئة رفيعة نبيلة، بل لو نشأ أديب من أدباء مصر البارزين في بيئة قروية منعزلة لما كان أبو نواس ولما كان بشَّار ولما كان الأديب على الحال التي تعرفه عليها.
كل هذا واضح لا مشقة في فهمه - ولكن المشقة في تطبيقه، والعُسْر كل العسر في درس هذه البيئة (بالنسبة لمؤرخ الأدب العربي على التخصيص) لأن الباحث المحقِّق الذي ألف البحث واستجابت له المراجع؛ يعجز عن أن يلقى في كتب الأدب العربي أخبار كثيرين من أعلام الأدب في شبابهم، ووصف أسرهم وأصحابهم ليؤلِّف منها صورة للبيئة، فما بالك بطالب البكالوريا الذي لم يعرف -وأحسبه لن يعرف بعد- كيف يفتِّش عن مسألة من المسائل في المكتبة العربية القديمة ولا يدري كيف يوفِّق بين الروايات المتضاربة والأخبار المتباينة، وكيف يصبر على تلاوة هذه التراجم والأخبار المتفرِّقة في عشرات الكتب المطبوعة والمخطوطة منثورة فيها نثراً بلا نظام ولا ترتيب، وإذا هو صبر وعرف كيف يفتش فلن يصل إلى شيء كثير - لأن كثيرين من أعلام الأدب كالجاحظ والبحتري مثلاً قد فقدت سِيَرُهمْ في شبابهم مرَّة واحدة.
الثقافة:
وهناك عامل آخر غير عامل البيئة له أثر كبير في تكوين الأديب، وقد يغلب في كثير من الأحيان على عامل البيئة وقد يقضي عليه ويمحو آثاره، ذلك هو عامل الثقافة، وفي كل إنسان -كما يقول غوستاف لوبون- شخصان مختلفان يتصارعان على الاستئثار بنفسه، والغلبة عليها، أولهما هذا الذي كوَّنته
البيئة، وثانيهما هذا الذي كوَّنته الثقافة. وليس في هذا القول شيء من الغلوّ، بل هو الحقيقة بعينها نراها في حياتنا اليومية في الكثير من الشباب الناشئين في بيئة عربية إسلامية؛ إذ تخالط قلوبهم الثقافة الغربية المشوَّهة، فلا تلبث حتى تجعل منهم شبَّاناً ملحدين؛ يعادون العربية ويؤذون الإسلام.
وإن عاملاً له هذه القوَّة، لا بد لمؤرِّخ الأدب من العناية به، والجدِّ في درسه، ومن أن ينظر فيمن يدرس من الأدباء، هل كان نصيبه من الثقافة كبيراً؟ وما هو لون هذه الثقافة؟ وعمَّن تلقَّاها؟ وما هو أثرها في نفسه؟ وما هو أثرها في أدبه؟ هل استطاعت أن تعدِّل أثر البيئة؟ أو تضعفه؟ هل بدَّلت أخلاق الأديب وسجاياه؟ هل هضمها أم ظهرت كما هي في آثاره الأدبية؟
ما هي الصلة بين فلسفة المعرِّي وثقافته التي حصَّلها؟ ما هو عمل ثقافة الجاحظ في تكوين أدب الجاحظ؟
ثم إننا حيال لونين من ألوان الثقافة: الثقافة اللغوية - إن صحَّ تسميتها ثقافة - ولها عمل كبير في تكوين الأدباء العباسيين الذين كانوا عرباً فسدت لغاتهم، أو من غير العرب، ولم يكن لهم سبيل إلى إتقان العربية إلا بالتعلُّم والدرس والمثابرة، وكثرة الخروج إلى البوادي التي كانت تحتفظ بلغتها الأولى الصحيحة، وهذه الثقافة لا بدَّ منها، لأن اللغة هي وسيلة الإبانة والتعبير عما في النفس، ولايقوي الأدب إلَّا عليها، وعلى مقدار تفاوت حظوظ الأدباء منها تتفاوت حظوظهم من البلاغة والبيان.
والثقافة الفكرية -أو الثقافة على الإطلاق- من دين وعلم وفلسفة، لم يكن للأدباء حظ واحد منها، وإنَّا لنعرف من الأدباء العباسيين من يجهلها مرَّة واحدة، وقد نسيت أن أستثني الدِّين الذي لم يكن يجهله (ولا ينبغي أن يجهله) أحد، ونعرف منهم من ألمَّ منها بطرف، ونعرف قليلاً من الأدباء كالجاحظ والمعري كان لهم منها أوفر نصيب.
والخلاصة أن على طالب البكالوريا أن يعرف ميل الأديب إلى الثقافة ومبلغ اتِّصاله بها؛ ويعرف من هم شيوخه الذين أقرؤوه، وما هي الفنون التي قرأها، وما هو مبلغ تأثير ذلك في أدبه.
الوراثة:
وللوراثة عملٌ في تكوين الأديب، ولكنه دون عمل الزمان والبيئة والثقافة، ولسنا نعني بالوراثة ما يرثه المرء عن أبيه من ميول وأخلاق فقط، بل نعني بها وراثة الدم، نعني هذه الصفات وهذه المزايا التي يمتاز بها شعب من الشعوب، والتي تظهر في أفراد هذا الشعب جميعاً، ولم لا؟ ألا تفهم إذا قيل لك (فلان إنكليزي) أنه بارد الدم لا يثيره شيء؟ ألا تفهم إذا قلت لك إني عربي أني رجل مروءة وشرف وأني لا أصبر على الضيم؟ ألا تشعر أن بعضاً من الصفات قد تقترن في نفسك ببعض الشعوب؟ هذه هي الوراثة التي أعنيها، وقد بسطت آراء الفلاسفة فيها في غير هذه المقالة (1)، فما أحب أن أعيدها هنا، وما كتبت هذه المقالة إلَّا موجزاً ما استطعت الإيجاز، ولكني أحب أن أظهرك على أنهم على خلاف في أمر هذه الوراثة، وأن من يقول بها لا يستطيع أن يثبتها أو يضع لها قانوناً كقانون ماندال في النوع الآخر من الوراثة وأن بعض المستشرقين المعروفين ممن يقول بها قد توصَّل إلى وصف الخيال السامي بأنه واسع وقليل العمق، والخيال الآري بأنه ضيق وعميق، أي أن السامي يصف لك أشياء كثيرة وصفاً سطحياً، والآري يصف شيئاً واحداً وصفاً عميقاً دقيقاً.
وإذا نحن فرضنا هذا صحيحاً أو قريباً من الصحيح نستطيع أن نجد له أدلة من أدبنا في هؤلاء الشعراء الكثيرين الذين امتازوا بالوصف الدقيق وكانوا جميعاً من غير العرب كبشَّار وابن الرومي وابن حمديس، ونحن إذا فرضناه صحيحاً نستطيع أن نتكئ عليه في بحثنا.
التكوين الجسمي:
ألا يؤثِّر التكوين الجسمي في التكوين الأدبي؟ أليست الحواسُّ منافذ النفس التي تطلّ منها على العالم الخارجي؟ أليس كل ما في النفس مستمداً من العالم؟ إذن فلِقوَّة الحواسِّ وضعفها، ولمتانة الجملة العصبية وتهافتها، عمل كبير
(1) في كتابي عن بشار، المطبوع سنة 1930 وهو من آثار الشباب وقد نفدت نسخه من سنين طوال ولست أنوي إعادة طبعه الآن
…
في تكوين الأخلاق والميول، أي في تكوين الشخصية الأدبية .. وإذن فبنية بشَّار وحيويَّته المتدفقة، ومعدته القوية، هي التي صنعت غزل بشَّار، ولا غرابة في ذلك فإن خمسة غرامات من السكَّر في بول أشد الناس كفراً وإلحاداً، تجعله -كما يقول أناتول فرانس- أشد الناس إيماناً، وإذن فجمال أبي نواس، وطراوة جسمه، وبياض بشرته سبب نبوغ أبي نواس الشعري
…
ولو أن بشَّاراً كان مسلولاً، ضعيف البنية، مهدود الجسم، لما مال إلى المرأة، ولما تغزَّل فيها هذا الغزل الزاخر بالميل الجنسي، ولو أن أبا نواس كان غلاماً بشعاً قبيحاً، لما حمله والبة معه، ولما علَّمه الشعر ولكان أجيراً ذكياً، يطوي الزمان ذكره كما طوى ذكر الملايين من أمثاله (1)!
وطالب البكالوريا يدرك مقدار ما بين الجهاز الهضمي والجملة العصبيَّة من صلة، ويعرف أن التبدُّل الفيزيائي والكيميائي في ناحية من نواحي هذا الجهاز، يلازمه اضطراب في ناحية من الشخصية أي يلازمه اضطراب نفسي، بل إن قبضاً في الأمعاء، يلزم عنه صداع في الرأس يبدّل نظر المرء إلى الدنيا، فيجعله يائساً حزيناً إن كان شاعراً، ومتشائماً إن كان فيلسوفاً، أي أن الأدب والفلسفة قد يبدِّل طريقهما، ويحولهما عن وجهتهما، فنجان من زيت الخروع، أو حبَّة من البولدولاكسين
…
وهذا بحث واسع جداً. قد يجرّنا الإيغال فيه إلى شهود المعركة التي لا تنقضي بين الفلاسفة الروحيين والماديين
…
وكل ما يعنينا هنا أن هذا العامل من العوامل القويَّة في تكوين شخصيَّة الأديب، وإن لم يكن كما يرى بعض النقَّاد الذين غالوا في تقديره حتى قال أحدهم: صِفُوا لي الجملة العصبيَّة عند أديب أصف لكم أدبه.
ميول الأديب وأخلاقه - حياته:
فإذا نحن درسنا هذه العوامل وعرفنا أثرها في الأديب، انصرفنا إلى درس هذا الأديب نفسه، ودرس الأديب لا يكون باستظهار آثاره الأدبية فقط، ولا يكون بجمع أخباره وحوادثه، ولا يكون بإحصاء آراء النقاد فيه، أعني أن
(1) ويا ليته طوى ذكره، وكفَّ عنا شرَّه.
الدرس لا يكون بواحد من هذه الأشياء، بل بها كلها، بل إنه يكون قبل هذه كلها، وبعد هذه كلها، بدرس ميوله وأخلاقه - قلت إن معرفة الميول والأخلاق قبل أخبار الرجل وآثاره الأدبية، لأنها هي الوسيلة إلى تمحيص الأخبار، وفهم الآثار الأدبية فهماً صحيحاً، والحكم عليها حكماً مستقيماً، وقلت إنها بعد الأخبار والآثار، لأنها لا تستنبط إلا منها.
على أن هذه الصلة بين أخلاق الأديب وآثاره، ليست وثيقة في أدبنا كما هي في الآداب الغربية، وليس كل شعر نقرؤه في العربية يمثل أخلاق صاحبه وميوله، ولو أن ناقداً اقتصر في بحثه على تحليل الآثار الأدبية لشاعر عربي من غير أن يدرس حياته، وآراء النقَّاد فيه، لكانت نتيجة بحثه بعيدة كل البعد عن الحقيقة، بل إنه سيعتقد أن أبا العلاء كان من الشجعان المغاوير الذين لا يبالون بشيء كما يصوِّر نفسه في قصيدته اللامية، وأن أبا نواس كان متنسِّكاً مشتغلاً بإثبات الوحدانية والاعتبار بمخلوقات الله كما يبدو في مقطوعاته الزهدية!
فلا بد إذن من العناية بآراء النقَّاد المعاصرين للأديب، وحكمهم عليه، على شرط أن يتنبَّه طالب البكالوريا إلى صلة هذا الناقد بالأديب، إلى ما بينهما من صداقة أو عداوة وأن يقدِّر قيمة الحكم بمقدار تنزُّهه عن الأغراض النفسية وبعده عن الرضا والسخط - كما يقدِّر القاضي قيمة الشهادة بمثل هذا المقياس.
ولا بد له إذن من العناية بترجمة الأديب، وتاريخ حياته ولا بد له من تمحيص الرواية والتثبُّت منها قبل الاعتماد عليها. وليست ترجمة الأديب كما يظنُّ طائفة من الأساتذة - عملاً لا أهمية له، بل هي في الغاية من الأهمية واللزوم، وسرد حياة العظيم -مهما كان نوع هذه العظمة- أبلغ في الدلالة على هذا العظيم من درس خال من الأخبار والحوادث.
وإذا أنكر بعض النقَّاد المعاصرين قيمة التراجم فإنما ينكرون الاقتصار عليها، والقناعة من البحث الأدبي بتاريخ ولادة الأديب ووفاته وسرد طائفة من أخباره. أما درس هذه الأخبار واستنباط أخلاق الشاعر منها، ومبلغ ظهور هذه الأخلاق في شعره، فلا يستطيع أن ينكره أحد، وماذا يبقى إذا محونا حياة الأديب؟ وكيف نبني البحث الأدبي إذا نحن أهملنا مواد البناء؟
فدرس حياة الأديب عمل في غاية الأهمية. وهذا البعد بين أخلاق الأديب وأدبه، الذي نلمسه أحياناً في أدبنا يزيد هذه الأهمية، ويحفزنا إلى الدقَّة والعناية بدرس أخلاق الأديب لندرس مقدار الصلة بينها وبين أدبه - وليس يكفينا أن نفهم غزل بشَّار دون أن نعرف شيئاً عن حبِّ بشَار: كيف كان يفهم الحب؟ وهل كان يحب هذه التي يتغزَّل بها؟
وإذا قرأنا فخر المتنبي وجب علينا أن نفهم شعور المتنبي بعزَّة النفس ويجب أن نفهم إباء المتنبي وكبرياءه. وإذا قرأنا مديحاً للبحتري وجب علينا أن نعرف مقدار تعبيره عما في نفسه وأن نعرف وفاء البحتري ومبلغ اعترافه بالجميل
…
دراسة الآثار الأدبية:
كل ما مرَّ بك إنما هو دراسة للرجل، والرجل بآثاره، بها يخلد، وبها يسمو على الألوف المؤلَّفة من أهل زمانه، الذين ضاعت أجسادهم في بطن الأرض، وضاعت أسماؤهم وذكرياتهم في بطن التاريخ، ونحن لا نصنع شيئاً حين ندرس الرجل ونهمل درس آثاره، ولا بدَّ لنا من العناية بهذه الآثار، ولا بد لنا من تحليلها وتصنيفها؛ واكتشاف مصادرها ومواردها، إذ إن الأثر الأدبي هو القسم المضيء من خط طويل غاب طرفاه في الظلام. ومن العبث أن نفتِّش عن فكرة أو صورة انبثقت من صدر صاحبها كاملة، ولم يكن لها بداية سبقه إليها غيره؛ ومن العبث أن نقول إن هذا الشاعر قد جاء بشيء جديد في جوهره وشكله، لأن النفس الإنسانية لا يخرج منها إلا ما دخل إليها من العالم الخارجي، فهي مصنع يأخذ المواد الأولية، ويعطي مصنوعات نافعة جميلة، ولكنه لا ينشئ شيئاً بلا مواد (1)
…
وإذا اعتقد بهذا إخواننا طلَّاب البكالوريا كان لهم في الاقتباس الشعري،
(1) هذا هو رأي الفيلسوف لوك والتجريبيين. وهو نفحة من حديث: «كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجسانه» رواه البخاري.
وفي السرقات الشعرية، رأي غير الذي يلقِّنهم إيَّاه مدرِّسوهم - وكنا نحبُّ أن نناقش هذا الرأي لولا أننا نريد الإيجاز ما استطعنا.
فهم النصوص وتحليلها:
إن أول ما يجب على الطالب عند درس الأثر الأدبي هو فهمه، وليس في الإمكان دراسة قصيدة أو قصَّة لم يفهمها صاحب الدرس، وليس في الإمكان فهم القصيدة، ولا سيَّما القصيدة من الشعر الجاهلي، إلا بالاطِّلاع الواسع على اللغة وقواعدها وعلومها. واللغة وقواعدها وعلومها مهملة بعض الإهمال في صفوف البكالوريا، وكثير من طلاب هذه الصفوف لم يتمكَّنوا من النحو والصرف والبلاغة؛ بل لا أغالي إذا قلت إن فيهم من لا يعرف كيف يفتِّش عن كلمة في اللسان أو القاموس، ومن لا يقيم لسانه في قراءة صفحة من كتاب، وهؤلاء يسترون ضعفهم بحفظ طائفة من الأشعار والرسائل، أو على الأصلح بحفظ كلماتها بالحركات التي تجري عليها ألسنتهم (1) والمعنى الذي يبتدر إلى أذهانهم، وكتابتها في ورقة الفحص؛ والفحص كتابي يأمنون فيه أن يفاجؤوا بسؤال يكشف عن ضلالهم في الفهم - في حين أن لدراسة الأدب غاية أسمى من جواز الفحص، والسعي وراء شهادة هي كالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً
…
ووجد تعبه قد ذهب في غير طائل
…
والوصول إلى هذه الغاية لا يكون إلا من سبيل فهم الآثار الأدبية حقَّ فهمها وذلك بفهم: كلماتها المفردة، والاستعانة بالمعاجم على تفسير غريبها؛ وحل عويلها - ثم فهم جملها؛ والرجوع في المشكل منها إلى أمثال العصر ومصطلحاته وشروح الشرَّاح ومذاهبهم - ثم فهم معنى القطعة كلها، وبيان أقسامها وتعيين الخطَّة التي يسير عليها الأديب حين يعرض الفكرة على القارئ، وبعبارة أخرى معرفة طريقة تفكير الأديب، ومقدار انسجام الفكرة، أو مبلغ تفكُّكِها - هذا إن كانت القطعة الأدبية فكرية، فإن كانت وصفيَّة بحث عن الصور وجمالها وارتباطها
(1) هذا كلام قيل من ست وعشرين سنة فما بالك بالطلاب الآن:
ربَّ يومٍ بكيتُ منه فلما
…
صرتُ في غيره بكيتُ عليه
وتسلسلها، لأن الفكرة عماد الأولى، والصورة عماد الثانية ثم التفتيش عن طابع الأديب أي مقارنة هذه القطعة بسائر آثار الأديب، وتحرِّي روح الأديب وأسلوبه فيها، ولنضرب على ذلك مثلاً ابن المقفَّع وابن المقفَّع حين يريد الكلام في فكرة من الفكر، يعرضها موجزة على القارئ كما تعرض الدعوى الرياضية، ثم يثبتها بالجدل أو بالمثال كما يثبت صاحب الرياضة دعواه، ثم يسوق لك نتيجة هذا الجدل، أو مغزى هذا المثل، وإذا هي الفكرة بعينها، وإذا هو كالرياضي ينتهي به الإثبات من حيث بدأ الدعوى (وهو المطلوب!).
وإني عارض عليك فقرة من كليلة ودمنة من الباب الذي أجمعوا على أنه لابن المقفَّع، وهو باب غرض الكتاب ولم أتخيَّرها تخيُّراً وإنما أخذتها كما اتَّفق، قال:
(ومن استكثر من جمع العلوم، وقراءة الكتب، من غير إعمال الرويَّة كان خليقاً أن يصيبه ما أصاب الرجل الذي زعمت العلماء أنه اجتاز ببعض المفاوز فظهر له موضع آثار الكنوز، فجعل يحفر ويطلب فوقع على شيء من عين وورق، فقال في نفسه: إن أنا أخذت في نقل هذا المال قليلاً قليلاً طال علي وقطعني الاشتغال بنقله وإحرازه عن اللذَّة بما أصبت منه؛ ولكن سأستأجر أقواماً يحملونه إلى منزلي وأكون أنا آخرهم، ولا يكون بقي ورائي شيء يشغل فكري بفعله، وأكون قد استظهرت لنفسي في إراحة بدني عن الكدِّ بيسير أجرة أعطيها لهم، ثم جاء بالحمَّالين فجعل يحمل كل واحد منهم ما يطيق فينطلق به إلى منزله فيفوز به حتى إذا لم يبق منه الكنز شيء انطلق خلفهم إلى منزله فلم يجد فيه من المال شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً، وإذا كل واحد من الحمَّالين قد فاز بما حمله لنفسه ولم يكن له من ذلك إلا العناء والتعب لأنه لم يفكر في آخر أمره).
وهاك مثالاً آخر، تجد فيه الطريقة بعينها، كما تجدها في جميع آثار ابن المقفَّع الفنيَّة، وكدت أقول القصصية، وهذا المثال تتمة الكلام السابق؛ قال:
(الفكرة) وكذلك من قرأ هذا الكتاب ولم يفهم ما فيه ولم يعلم غرضه
ظاهراً وباطناً لم ينتفع بما بدا له من خطِّه ونقشه (المثال) كما لو أن رجلاً قدم له جوز صحيح لم ينتفع به إلا أن يكسره.
(المثال الثاني) وكان أيضاً كالرجل الذي طلب علم الفصيح من كلام الناس فأتى صديقاً له من العلماء، له علم بالفصاحة فأعلمه حاجته إلى علم الفصيح؛ فرسم له صديقه في صحيفة صفراء فصيح الكلام وتصاريفه ووجوهه، فانصرف إلى منزله فجعل يكثر قراءتها ولا يقف على معانيها، ثم إنه جلس ذات يوم في محفل من أهل العلم والأدب فأخذ في محاورتهم فجرت له كلمة أخطأ فيها فقال له بعض الجماعة إنك قد أخطأت والوجه غير ما تكلمت به، فقال كيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء وهي في منزلي!
(النتيجة) فكانت مقالته لهم أوجب للحجَّة عليه. وزاده ذلك قرباً من الجهل وبعداً من الأدب.
ثم المقارنة بين هذه الطريقة التي يسير عليها الأديب في تفكيره، واللون الذي يصبغ به أدبه، وبين طريقة غيره من الأدباء.
…
كل هذا من ناحية المعنى، ومن جهة طريقة التفكير، وهناك ناحية أخرى هي ناحية الألفاظ؛ وبالألفاظ وحسنها تتفاوت أقدار الأدباء، لأن المعاني ملقاة على الطريق يستطيع كل إنسان أن يلتقط منها!
هذا ما يقوله نقَّاد العرب، وهذا ما يختلف فيه النقَّاد المعاصرون، على أننا إذا بذَّلنا كلمة الألفاظ بكلمة التعبير، أي إذا قلنا: الأفكار والمعاني ملقاة على الطريق وإنما تتفاوت أقدار الأدباء بتفاوت قدرتهم على التعبير عنها - لما بقي في الأمر خلاف.
وذلك أن كل إنسان يحسُّ بالألم في موقف الوداع، ويحزُّ هذا الألم في نفسه، ويدع الدنيا مظلمة في عينيه، وليس في هذا الحسِّ شيء من النبوغ، ولكن النبوغ والتفوُّق في القدرة على التعبير عن هذا الألم، والقدرة على وصفه!
ولا أحب أن أفيض في هذا الموضوع، كما أنني لا أحب أن أدعه من غير أن أنبه إخواننا إلى أن الكتَّاب ثلاثة:
كاتب همُّه أن ينقل الفكرة التي في رأسه إلى رأسك على أهون سبيل؛ فلا يتخيَّر من الألفاظ إلا أقربها دلالة على هذه الفكرة. ولا من الجمل إلا أقلها إتعاباً لك، وأشدها وضوحاً، وهذا هو أسلوب ابن المقفَّع.
وكاتب يحافظ على الفكرة. ويريد أن ينقلها إليك، ولكنه يحبُّ أن يختار الألفاظ الجميلة، والعبارات الأخَّاذة ليحمِّلها فكرته، أي أنه لا يكتفي بوضوح الأسلوب، بل يفتِّش عن الجمال الفني في هذا الأسلوب، وهذه هي طريقة الجاحظ وابن العميد.
وكاتب يصرف همَّه إلى هذا الجمال الفني اللفظي ولو ضاعت فيه الفكرة أو تقطَّعت أوصالها، وهذا هو أسلوب القاضي الفاضل، وهذا هو شرُّ الأساليب!
وأن أنبِّههم إلى أن من الواجب عند دراسة الأثر الأدبي، دراسة أسلوبه، ومميزات هذا الأسلوب لا من ناحية المعنى فقط، ولا من ناحية الألفاظ فقط، بل من الناحيتين معاً، ولا يمكن أن تنفكَّ الألفاظ عن المعاني أبداً، ولا يمكن أن نذكر كلمة السماء من غير أن نفكر في مدلولها أي في السماء - وأن من الواجب مقارنة هذا الأسلوب بالأساليب الأخرى؛ والبحث عن مصادر هذا الأسلوب، أي عن الكتَّاب الذين تأثَّر بهم صاحب هذا الأسلوب، وعن الكتاب الذي أثَّر فيهم والذين احتذوا أسلوبه، ونسجوا على منواله.
…
فإذا انتهينا إلى هذا الحدِّ من البحث، أي إذا عرفنا الرجل، وعرفنا آثاره، وجب علينا أن نبحث عن الصلة بينها وبينه، عن مبلغ تعبير أدبه عن أخلاقه، ومبلغ وصفه للحياة التي تحيط به، ومبلغ اقترابه من العواطف الإنسانية الثابتة، وتعبيره عنها، أي مبلغ دنوِّه من الخلود!
وبعد، فهذه كلمة موجزة في هذا البحث - أرجو أن أكون قد وفِّقت فيها إلى إنارة السبيل إلى إخواننا طلَّاب البكالوريا الذين طلبوا ذلك إليَّ، وأن أعود إلى هذا البحث فأكتب فيه في وضوح وتفصيل.
***