الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدخل
في هذه الصفحات التي نتناول فيها موضوع: (كملنويلث إسلامي)( Commonwealth islamique) ليس للقارئ أن ينتظر وجود حل جاهز، بينما المشكلة التي تستدعي حلاًّ كهذا، ما تزال هي نفسها لم توضع بعد تماماً. وسوف يتاح للقارئ- خلال تتبعه لنا- أن يعرف البعض من أسباب هذه الثغرة. ولكن ينبغي علينا منذ الآن، أن نحدد الحدود المفروضة التي نستطيع تناول الموضوع في نطاقها، فالعالم الإسلامي، وهو في المرحلة الراهنة من تطوره، ليس مجهزاً لهذا النوع من العمل؛ فتجهيزه في هذا النطاق ليس كافياً، لأسباب عديدة: منها ما هو ذو صبغة نفسية، ومنها ما هو ذو صبغة مادية. وسنعود لتناول هذه المسألة التي تمثل مظهراً من المظاهر الأساسية فيما ندعوه بـ (اللافعالية)، التي أشرنا إليها في مناسبات شتى، والتي نرجئ تحليلها إلى ما بعد.
ومهما يكن من شيء، فموضوعنا لا يتطلب عملاً إدارياً، أو مجرد مقايسة نظرية ( Spéculation)، ولكنه يستدعي عملاً دقيقاً، على مجال القضية نفسها، وتحقيقاً مُعَمَّقاً على صعيد العالم الإسلامي؛ مضافاً إلى ذلك أن تحقيقاً من هذا النوع، لا يمكن أن يقوم به فرد منعزل، لأنه من مهام هيئة مشتركة من الأخصائيين، الذين يتقاسمون فيما بينهم المظاهر والقطاعات المختلفة لهذه المهمة، كل في دائرة اختصاصه، بنفس الطريقة التي سارت على منوالها هيئات العلماء الذين تقاسموا أعمال السنة الجغرافية- الطبيعية ( Géo-physique) الجارية على مساحة الكرة الأرضية لدراسة خصائصها. وهذا يعني أن دراستنا يجب أن تتناول
تحت إشراف (مركز للبحوث) لَمَّا يوجد بعد في العالم الإسلامي، حيث المنشآت التي تستطيع أن تقم بهذا الدور لا تعدو أحد أمرين:
إما أن تكون قد شاخت وهرمت، كما هو الحال في يومنا هذا بالنسبة إلى الهيئات التي سبق أن لعبت دوراً هاماً في الحياة العقلية للعالم الإسلامي، وإما أنها لا تزال حديثة وشابة، ومن ثَمَّ فهي لم تتكيف بعد مع عمل علميّ واسع النطاق.
صحيح أن جهوداً قيمة تبذل في مصر، بقصد التكيف مع ضرورات البحث، في مجالات عدة، ولكن العالم الإسلامي بصفة عامة يجتاز فترة تحول و (حَمْلٍ)؛ فبعض الأشياء قد أصبح ميتاً، ولم يعد صالحاً للاستعمال، وبعضها الآخر لما يولد بعد. ومن هنا نجمت فترة من (اللاتكيف)، يتعين على المنشآت والأفراد؛ الأشياء والأفكار، أن تجتازها جميعها بالضرورة، لكي تتكيف مع عالم جديد، لما تزل مقاييسه بعيدة عن متناولنا حتى الآن. إنها فترة ذات صبغة طفولية يمكن أن يعوِّق فيها فعل الإنسان المسلم وفكره، من جرات مركبات معينة، خاصة بوشطه. وفيما عدا ذلك، فالمسلم- لكي يتفوّق على بعض مركبات نقصه بإزاء عالم راضخ للتصميم، وللمنهج (التيلوري)؛ المنهج الذي يعمد إلى تنظيم العمل بشكل مُنَمٍّ لحصوله، حيث يستشعر نفسه، بطريقة غامضة، أنه غير متكيف مع هذا العالم- قد اتخذ بالنسبة له، وبسهولة مرموقة، بعض الدعاوى التي تترجم عموماً عن حقائق معينة. ونحن عندما نواصل تحليل الأشياء أبعد من ذلك، نلاحظ التأثير التنويميّ لهذه الدعاوى التي تخدر وعينا، في نوع من الانقياد المترفع بإزاء العالم الراضخ للتصميم
…
فنحن على سبيل المثال، نتقبل على حق ما هو متعارَف من أن المادة تحظى في العالم المخطط، بمرتبة القيمة العليا، وأحسب أننا متفقون على هذه النقطة؛ ولكن لنواصل أبعد من ذلك: فالحق أننا نرى المجتمع الإسلامي الراهن- كما سلف أن أشرت إلى ذلك منذ عشر
سنوات، في كتابي (وجهة العالم الإسلامي) - يتخذ بالنسبة إلى المادة موقفاً غريباً:
فالواقع أن المادة قد واكبت تياراً. فكرياً مزدوجاً، ففي العالم الراضخ للتصيم، وللمنهج التيلوري، توجد نزعة مادية رأسمالية أو (بورجوازية) نوعياً، ونزعة مادية ماركسية أو (بروليتارية) نوعياً كذلك. فالنزعة الأولى تلتقي في الغرب، مع رفاهية طبقة مالكة لمصالحها وأذواقها وأشيائها. والنزعة الثانية، تمثل مذهب نضال طبقة كادحة، وتلتقي مع أصول هذا النضال، وتصوراته وأفكاره. وإذا بالعالم الإسلامي، الذي يريد الانفلات من أسر المادة - متخذاً من وجهة نظرية نفس التحفظ بالنسبة إلى كل من النزوعين اللذين تواكبهما- يسقط لا شعورياً في النزغة الأولى، ذلك أنه في الحقيقة منحصر التعلق - في المرحلة الراهنة من تطوره- (بالأشياء) لا (بالأفكار). ونحن نستطيع أن نفهم هذا الميل، على ضوء السيكولوجية الصبيانية: فالطفل لا يرى في العالم أفكاراً، ولكنه يرى أشياء؛ فكومة من قطع الحلوى، أثمن لديه بكثير من كومة من الجواهر! .. وكل المجتمعات البشرية تمر بهذه المرحلة من الصبيانية؛ وليس لغير ما سبب، أن يكون (لينين) قد كرَّس أحد كتبه (لأمراض الماركسية الصبيانية). غير أن هذا النزوع الفكري قد واكب، في العالم الإسلامي، استمراء السهولة. وإنه لمن المؤكد، أن شراء سيارة (كدلاك) أو ثلاجة، أسهل بكثير من الحصول على (الأفكار) الضرورية لصنعهما. ومن ثَمَّ نصل إلى هذا التقرير المتميز، المُتَمَثِّل في أن المادة التي كان من نتائجها في العالم المصمِّم التنمية من كمية (الأفكار)، كان من نتائجها العكسية في العالم الإسلامي، مضاعفة (الأشياء) فحسب .. ولا أحب أن أدفع بهذا التحليل الذي نجازف معه بالخروج عن الإطار الضيق المرصود لهذا المدخل، إلى أبعد من ذلك؛ مع أننا لو واصلنا أشواطاً أخرى، لعثرنا على تقريرات غير منتظرة. إلا أن هناك خلاصة لها أهميتها
بالنسبة إلى موضوعنا وهي: أن (الفكرة) ليس لها فعاليتها الكافية في العالم الإسلامي، أو هي لا تلعب دورها فيه. ولا ريب في أن فحص كل العوامل التي كان لها مفعول ما، في هذا القصور، سيكون ذا أهية بالغة. ولكن المؤكد، أن أحد مظاهر هذا القصور، هو ما نلاحظه في التطور الراهن للعالم الإسلامي، من تخلف بالنسبة إلى التطور العام. وإن هذا المظهر بالذات، لهو الذي تتضمنه بصفة خاصة، دراستنا هذه، لأنه يتصل بكل العوامل النفسية- الزمنية، التي تبرر فكرة (الكمنويلث).