المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تكوين الفكرة: - فكرة كمنويلث إسلامي

[مالك بن نبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌فكرة كمنويلث إسلامي

- ‌الخطوط العامة للكتاب

- ‌ المبررات الجغرافية السياسية:

- ‌ مبررات سيكولوجية:

- ‌ مبررات فنية:

- ‌الخلاصة:

- ‌رسم دراسة لفكرة كمنويلث إسلامي

- ‌ملاحظة:

- ‌ حقائق أساسية:

- ‌ المقتضيات المنطبقة:

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول:مشروع دراسة شاملة

- ‌أ - تأريخ الفكرة:

- ‌ المحيط الجديد:

- ‌ أوَّلية المعيار الاجتماعي:

- ‌ التقليد و (التمثُّل assimilation):

- ‌ فوضى (الأشياء) و (الأفكار):

- ‌ الاضطراب:

- ‌ تكوين الفكرة:

- ‌ب - مشروع دراسة مكتملة:

- ‌ تبرير عام:

- ‌ أسباب جغرافية سياسية:

- ‌ أسباب نفسية:

- ‌ المظهر الفني:

- ‌ إعتبارات عامة:

- ‌أ - تخطيط يتعين تجنبه:

- ‌ب - التخطيط الصحيح:

- ‌القسم الثاني:قيمة (الفكرة) في المجتمع الإسلامي

- ‌أ - (الفكرة) في المجتمع الإسلامي:

- ‌ ضعف أساسنا المفاهيمي:

- ‌ الفكرة ومراقب الاستعمار:

- ‌ب - اللافعالية في المجتمع الإسلامي:

- ‌(مظاهرها المختلفة):

- ‌ملحوظة:

- ‌القسم الثالث:وظيفة كمنويلث إسلامي

- ‌ مناطق (الحضور):

- ‌ تبعية المشاكل:

- ‌ الشهادة:

- ‌ الرسالة:

- ‌ المثال البريطاني:

- ‌ نوعية المشاكل:

- ‌خلاصة

- ‌المسارد

الفصل: ‌ تكوين الفكرة:

فالتقاطب المزدوج الذي أشرنا إليه فيما مضى، ونحن بصدد النفسية الإسلامية- ملاحظين لما هو واقع من عدم الترابط العضوي بين عالم (الأشياء) وعالم (الأفكار) - يترجم هنا بعقلية مزدوجة كذلك، فالإنسان الذي يضحك في (السينما) يمثل (مناظراً) للإنسان الذي يبكي. والإنسان الذي يكتب- بين السطور على الأقل- أن الإسلام أصبح شيئاً فات أوانه، ويتعين استبداله بما يحل محله، يمثل مواجهاً للإنسان الذى ينادي بالعودة إلى إسلام اجتماعي بوصفه الوسيلة الوحيدة للنجاة. إنها قطبان متقابلان في حياة المجتمع الإسلامي الراهن: الفكرية والعاطفية. وكل هذا النشاز، وكل هذا (اللاتناغم) من شأنهما أن يضيفا مفعولهما النفسي للاضطراب الأخلاقي السائد في هذا المجتمع. وإذا كنا رأينا شاباً مسلماً ينفلت ببساطة من الأرض وتبعاتها. بمثل ذلك الجواب الذي ردّ به سنة 1912م على الضابط الفرنسي أرنست بسيكاري فإننا نستطيع أن نرى في يومنا هذا أحد كبار المسؤولين الإداريين المسلمين مثلاً، ينفلت من الإسلام بحجة أن الدين قد أدى مهمته الاجتماعية، وأنه يجب أن يدع مكانه من هنا فصاعداً في هذه المهمة إلى العلوم الاجتماعية! .. لندعْ هذا الشخص لشروده

فالذي تهمنا معرفته آنئذ، هو أن الظاهرة الاجتماعية التي يترجمها بطريقته ومنطقه الخاص، يجب أن تترجم بشكل أو بآخر في الواعية الإسلامية ذاتها

6 -

‌ تكوين الفكرة:

إن الاعتبارات التي قدّمناها في الفقرات السالفة، تترجم بكل طريقة عن أزمة النموّ، التي يجتازها العالم الإسلامي منذ أن استيقظ وعيه. وهي اعتبارات تكوّن في جملتها المظهر المرَضيّ، لما تعورف عليه (بالنهضة)؛ فالأزمة نتيجة لهذه النهضة. ونحن نستطيع أن نبوب عناصرها حسب طبيعتها الاجتماعية والنفسية، كما سلف أن قدَّمنا؛ فالتأخر في المجال الاجتماعي، وفي الشروط الراهنة لتطور العالم العام، يُترجم باضطراب في المجال الأخلاقي؛ وهذا الاضطراب

ص: 34

يُترجم بدوره في سلوك الأفراد؛ فهو في المستويات المختلفة للسُّلَّم الاجتماعي يُترجم: إمَّا بوَهَنٍ في الرَّأي أو بالسُّخط والتطرف في وجهات النظر؛ ولا أحبّ أن أذكر حالات تمثل للشقّ الأخير، لأن من بينها ما هو مضنٍ بدرجة غير محتملة، حتى ليؤول الأمر ببعض الأفراد من هذا الصنف، إلى الارتداد عن الإسلام، واعتناق المسيحية بدافع من اضطرابهم!

وإني لأعرف من بينهم على الأقل حالة في مراكش، وأكثر من حالة في الجزائر، ويتعيَّن عليّ أن أقول: إن هؤلاء المرتدّين، يكونون أحياناً من صفوة الناس .. ولكني أحب أن أذكر من بين الصنف الثاني نموذجين، لأن حالتهما على وجه الدقة، هي التي أوحت إليّ إجمالاً بموضوع هذه الدراسة.

لقد ذهبت لزيارة مسلم، كنت أقدر فيه صفته ومجهوده الفكري البارز، وكنت لا أعرفه إلا عن طريق مؤلفاته؛ وعندما دخلت عليه، وجدتُ فيه رجلاً يبعثُ على الارتياح، وربما تكون طلعتي قد حظيت بارتياحه هو الآخر! .. فقد انسجم معي في تجاوب سريع؛ وكنت أنتظر منه أن يحدثني عن عمله، وإذا به يحدثني عن حالته الروحية:

((إنني أعمل واليأس يملأ قلبي))! ..

واليأس ربما يكون أفضل من الكفران والارتداد، ولكنه ليس ببادرة صحة أخلاقية في مجتمع معين على أية حال! ..

أما المثقف المسلم الثاني، فقد سعى إليَّ بنفسه في هذه المرة. وكان. طييباً استدعيته لعلاجي من مرض ألمَّ بساقي؛ ولكن سرعان ما فهمت أنه يتعين عليَّ أن أحاول أنا نفسي علاج رأسه وقلبه اللذين يملؤهما التشاؤم فيما بدا لي. قال لي وهو يتنهد بحسرة:

((أحب أن أصارحك بأني لا أجد لدى المسلمين أي شيء في مكانه الذي يجب

ص: 35

أن يكون فيه))

وهذا النوع من التفكير. وذلك التنهد المتحسر. ينبئاننا عن الكثير فيما يتعلق بالحالة الروحية التي عليها زائري الذي لا يشكو أيَّ خصاصة من الناحية المادية

وهاتان الزيارتان- الزيارة التي قمت بها. والزيارة التي قام بها غيري إليَّ- تركتا فيَّ تأثيراً عميقا. لأن ما تبدى لي منهما قد ذكرني بحالتين أخريين وَصلتُ من مقارنتهما إلى نتائج محسوسة.

والحاصل أن هذه المقارنة قد تمت آلياً في مخيلتي، حتى لقد تلخت عني أوجاع ساقي بمجرد سماعي لكلمات الطبيب الذي استقدمته لعلاجي! ..

فقد تعرفت في باريس- أثناء المدة الواقعة بين سنة 1934م وسنة 1935م- إلى طالب صيني كان زميلاً لي في الدراسة، وقد ربطت بيننا صداقة متينة، لأن كل واحد منا يعيش مأساةَ الإنسان المستعمَر بطريقته الخاصة.

ونحن نذكر أن (الإمبريالية) اليابانية كانت طوال تلك المدة تتدفق على القارة الصينية بغية اسْتِنْحَاتِ مملكة استعمارية. وكان صديقي شديد التأثر لذلك، مما يزيد في التهاب أحاسيسه الوطنية، وكنا نتبادل بطبيعة الحال أحاسيسنا تلك فيما بيننا. إلا أنني لم أكن لأعرف كيف كانت نظرته إليَّ كمناضل جزائري في ذلك الحين؛ ولكنني أذكر جيداً كيف كانت نظرتي بالنسبة إليه كمناضل صيني؛ فقد كنت متأكداً أنه مستعد لبذل حياته في سبيل خلاص بلاده. ووراء هذا العزم الذي طالما رأيته يلتمع في عينيه كالوميض البارق، كنت أستبين كذلك قرارة من التشاؤم واليأس: لقد كنت أستشعرني إزاء إنسان حائر. إنسان مطارَد .. وعلاوة على ذلك فهو لم يدع لي في هذا الصدد أيَّ مجال للريب: ففي كل مرة يريد أن يتحدث إلي فيها عن السياسة، كان يأخذني جانباً، بعيداً

ص: 36

عن كل أذن مطارِدة؛ بل إنه كان يقتادني معه أحياناً حذو (البنثيون Panthéon) أو (مقبرة العظماء)، مبالغة منه في الحذر. أعني بطريقة لا يتاح معها لأي طفيلي أن يقتنص ما يدور بيننا، من غير أن نشاهده مقبلاً عن بعد في هذا الميدان البراح.

والمؤكد أن الفكرة التي يكونها عن الوضعية الاجتماعية والسياسية في بلاده، هي التي يترجمها سلوكه بهذه الطريقة: إنه إنسان مطارد، لأن الوضع الاجتماعي والسياسي في الصين كان على مدى من السوء اقتضى منه هذا السلوك.

وبعد عشرين سنة من هذا التاريخ، أتيج لي أن ألتقي بشاب صيني آخر، أعني بعد تحرير الصين. ولقد كان هذا الشاب أقل ثقافة من صديقي ولا شك، وأقل منه اندفاعاً كذلك. ولكن أيّ تماسك في موقفه!

لقد كان يصغرني بمراحل، ولكنه كان يتفرس فيّ ويتفحصني، يستشفني ويدرسني. وبتذكري لصديقي القديم، فهمت أن الثورة قد قامت بتبديل للشخصية الصينية: لقد هيمن مخاطبي على الصعوبات الداخلية، التي كانت تضفي فيما سلف على صديقي القديم مَيْسَم الإنسان المطارد! ..

ولقد سيطر الشاب الصيني، على هذه الصعوبات القائمة في عالمه الداخلي، وهو الآن- ونظرته إليّ توضح لي ذلك- يسعى للسيطرة على صعوبات عالمه الخارجي. وإننا لنتساءل: كيف تمّ التحول في الشخصية الصينية؟ المؤكد أن الثورة لم تأت بالحل لكل المشاكل القائمة في الصين بطرقة من عصاً سحرية؛ فعدد المشاكل وطبيعتها لما ينقصا بعد إلى حد يسمح بميلاد (عالم خارجي) يستطيع فيه الجيل الصيني الناشئ التمكُّن من الراحة والشعور بالتماسك، إلا أن هذا الجيل يجد أسباب تلك الراحة في ذاته هو، أي في (عالمه الداخلي)، فالثورة الصينية لم تحذف المشاكل ولكنها حورت موقف الفرد بالنسبة إليها من أساسه. وصديقي القديم كان يرى تلك المشاكل، ولكنه لم يكن ليرى أي طريق يؤدي إلى

ص: 37

حلولها. بينما الشاب الصيني المعنيّ يرى هذه الحلول بعيدة الأوان في قليل أو كثير، هذا هو الذي تبدل بالفعل وإنه لأساسي بالنسبة إلى مجتمع معين.

والآن، لو أنني انتقلت بهذه الاعتبارات على الصعيد النفسي لمخاطبَيّ المسلمين السالفي الذكر، لوجدت أن مشاكل المجتمع الإسلامي، في طبيعتها وعددها، ليست هي التي دفعتهما إلى عدم الأمن والقرار الذي هما عليه، ولكنه واقع عدم عثورها على حلول تلك المشاكل والطريق المؤدية إلى تلك الحلول. إن (عالمهما الداخلي) هو الذي يتضمن العلة أكثر مما هو (عالمهما الخارجي). ومخاطباي المسلمان في حاجة إلى شيء معين يبدل من موقفهما بالنسبة إلى المشاكل، وهذا الشيء المعين لا تعطيه غير إرادة جماعية ونزعة غيبية معينة كما سلف أن أعطته الثورة لست مئة مليون صيني. ومن هنا فحسب تنبثق فكرة (كمنويلث إسلامي) بصورة تلقائية، أعني من طبيعة المشاكل ذاتها، تلك التي يواجهها المجتمع الإسلامي الراهن. ولسوف نمد هذه الفكرة بتبريرات أخرى- علاوة على ما قدمنا- في الفقرات التالية.

ص: 38