الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذن فما هي قيمة مجتمعنا الآن؟ .. مهما يكن من أمر، فإن شيئاً واحداً هو المؤكد: وهو أن (أساسنا المفاهيمي) ضعيف للغاية، و (عالم أشيائنا) لا يرتكز على كبير شيء. مضافاً إلى ذلك أنه حتى (الأشياء) الموجودة في هذا العالم، كنَّا قد اشتريناها من مجتمعات تملك (أفكاراً).
2 -
الفكرة ومراقب الاستعمار:
والواقع أنه يضاف- إلى ضعف جهازنا المفاهيمي الذي كنا بصدد الإشارة إلى فساده الداخلي- مفعول إضعاف آخر يتأتى من الخارج. فنحن عندما نجهل قيمة شيء معين، لا يعني هذا مطلقاً أن كل العالم يجهلها مثلنا. ولنتخذ لهذا مثلاً: فهناك أجيال من إخواننا في الدين، قد عاشت في العراق على مقربة من منابع البترول المنتشرة على سطح الأرض، ولكن هذه الأجيال قد ظلت تجهل الثروة الماثلة لأبصارها، حتى حان الوقت الذي أحسّ فيه مغامر أرْمنِيُّ بالأمر، وكان يحيا في اسطنبول معدماً لا يملك نقيراً، وإذا به يقوم بأكبر صفقة مالية في ذلك الحين، بتخليه لإحدى الشركات الإنكليزية عن حقوق ليست له، ولكن جهالة المسلمين هي التي مكنته من اكتسابها في مقابل لقمة خبز!.
وقسْ على ذلك الحال بالنسبة إلى القيمة الاجتماعية للفكرة؛ إذ يمكن أن نكون على جهل بقيمتها، بل نحن نجهلها فعلاً، ولكن الاستعمار لا يجهلها مثلنا. فقد مَكَّنَ في العالم لجهاز من المراقب التي تقتصر مهمتها على تَرَصُّد حركة الأفكار، ومنها نفهم أن كل ما يمرّ في العالم الإسلامي من أفكار يهمه بصفة خاصة، بقدر ما يهمه البترول، بل أكثر من ذلك بكثير.
وبطبيعة الحال فهذا الاهتمام ليس لمصلحة فكرية محضة، فالاستعمار ليس من هواة الرَّقائق الفكرية أو المولعين بها، ولا هو من زارعي الأفكار أو مكتسبيها. فله أفكاره الخاصة به، وهو يحتفظ بها لنفسه بغيرة، مفضلاً بيع
(أشيائه) لنا. ولكنه لكي يحافظ على احتكاره (للأفكار)، قد مكن، على وجه الدقة، في العالم: لجهاز كامل من الْمَراقب التي تستكشف الأفكار، وتتتبع تحركاتها باهتمام بالغ. واهتمامه بها، اهتمام عملي محض، لأن الأمر ينحصر بالنسبة إليه في حماية ذلك الاحتكار لنفسه. وهذا يؤول عملياً إلى صياغة فنية واستراتيجية خاصة، ليس لدى العالم الإسلامي أي فكرة عنها.
والاستعمار لا يقنع بمجرد الاستعلام عن حركة الأفكار؛ فهذا شأن (الفيلسوف)، إلا أن للاستعمار فلسفته الخاصة التي تتمثل في التخلص من الأفكار التي تضايقه، وفي الانحراف بها عن مراميها، بتوجيهها خارج المدار الذي أراد أصحابها استبقاءها فيه.
- كيف يتخلص من فكرة معينة!
…
كيف ينحرف بها ويوجهها خارج مدارها؟
…
- ها هنا بالذات تتجلى عبقرية الاستعمار الجهنمية.
ويتعين علينا أولاً أن نقبل مبدئياً: أن الاستعمار يعرف- على الأقل أكثر مما نعرف نحن أنفسنا- كلَّ التفاصيل التي أشرنا إليها بصدد ضعف أساسنا المفاهيمي، وربما لا نكون سوى مجرد أطفال بإزاء الأخصائيين الذين يعملون منذ عشرات السنين في مختبرات الاستعمار النفسية، حيث يمتلكون بالإضافة إلى ذلك، كل وسائل الاستعلام التي لا يمكننا امتلاكها الآن. وإذن فهو محيطٌ علماً بكل ثغرات نفسيتنا، ولذلك فهو عندما يقوم بمعركة مفاهيمية، يكون على معرفة تامة بأرض المعركة أولاً وبالذات، ثم إنه على معرفة فنية (بالفكرة) باعتبارها وسيلة من الوسائل، من حيث معرفته لقيمتها الرياضية، وحدود هذه القيمة في النهاية.
ولذلك فهو يطبق عليها كل قواعد الحساب الأوَّلي تقريباً، للتبديل من قيمتها بالزيادة أو النقص، حسب متطلبات القضية، وحسب البطاقات النفسية
التي تشير لديه إلى الاتجاه الذي يتعين على العمل أن يَتمَّ في منحاه. وحساب (الأفكار) هذا، يرتكز من ناحية على القيمة (الصُّلْبِيَّة) للفكرة، وعلى قواعد (علم ردود الأَفعال البافلوفي) من ناحية أخرى.
فالفكرة (ف) لها قيمة معطاة هي (ك) مثلاً، وهذا الفرض يمكن أن يكتب كما هي الحال في علم الجبر: ف = ك، وهذه العلاقة تعبر عن القيمة الرياضية للفكرة. ولكن إذا كانت القيمة العددية في الرياضة يمكن أن تزداد بجمعها إلى أخرى، فإن القيمة المفاهيمية تنقص عموماً بمجرد ما نضيف لها أي قيمة أخرى، حتى ولو كان حدّاً إيجابياً: ت>س (أكبر من) صفر، مثلاً؛ فأنا إذا أضفت هذا الحدّ مثلاً إلى العلاقة السالفة يكون لدي ف1 = ك + ت، ويكون لدي الإحساس بأني زدت في القيمة الرياضية لِـ: ف، ولكن ليس أقل من ذلك يقيناً: فالحد: ت يمكن أن يُنقص تماماً من قيمة الفكرة، ولا يزيد فيها كفكرة .. ولكي نفهم ذلك نأخذ حالة محسوسة وجد بسيطة، وإن كانت قد تكون غير معبرة بطريقة كافية: فكرة = ماء، لنضف إلى هذه المعادلة حدّاً إيجابياً: فنقول: فكرة جديدة = ماء عذب؛ والمعلوم أن قيمة (الماء) باعتبارها تعبيراً رياضياً عن فكرة معينة، أهم من (الماء العذب) لأنها أكثر (عموماً). وحتى لو أن المثال مفرط في التبسيط، فإنه يوضح مع ذلك أن قيمة فكرة معينة، يمكن أن تنقص حتى بإضافة حدّ إيجابي لها، وإذا كان التدليل صحيحاً بالنسبة إلى الحد الإيجابي، فحري به أن يكون كذلك بالنسبة إلى حدّ سلبي.
والآن فلنطبق هذا التخطيط المبسَّط على تصميم المعركة المفاهيمية، فالاستعمار يمتلك كما قلنا جهازاً من المراقب التي تستكشف الأفكار، كما يمتلك منهجاً يتيح له تبديل قيمة فكرة ما، بالإضافة أو الحذف لحدّ من حدودها، وهذا المنهج يطبق قانون ردود الفعل الشرطية الذي اكتشفه (بافلوف)، مستعملاً ما يمكن أن نطلق عليه (المرآة الْمُعَطِّلة) ذات الآلية المبسَّطة؛ فهذه
المرآة تُسْتَعْمَل في تسليط الانعكاسات التي (يسقطها) حدٌّ مختار لغاية معينة، بطريقة تلقائية على (فكرة) ما، في ذهن قارئ من القراء.
ونحن نستطيع أن نأخذ على سبيل المثال، بغية توضيح الكيفية التي تعمل بها هذه المرآة، (الفكرةَ) التي نتحدث عنها هنا بالذات، أعني فكرة الكمنويلث الإسلامي؛ ولنكن على اقتناع كما سيأتي توضيح ذلك، أن هذه (الفكرة) لم تغب عن مراقب الاستعمار المختصة، منذ الوهلة الأولى التي أذيعت فيها على الجمهور بين سلسلة الدراسات التي يُزْمَع نشرها في (سلسلة الثقافة الإسلامية)، ومن ثَمَّ فهل تدهش أيها القارئ المسلم الطيِّب القلب، إذا ما قرأت صبيحة ذات يوم في صحيفتك هذه السطور المحرَّرة كما يلي:
وإنك لتتساءل أيها القارئ الطيب القلب، عما إذا كان هذا ممكن الوقوع؟! .. - بلى قد حصل ذلك بالفعل، وقد تكون قرأت الخبر المذكور في إحدى الصحف التي تصدر بالقاهرة، في عددها الصادر بتاريخ: 5/ 10/ 1958م.
ها نحن على وجه الدقة، أمام (مرآة) تامة الشروط، حيث يأتي اسم (فاضل الجمالي) كما هو المرآة، ليعكس في ذهن القارئ ردود فعل معَطِّلة، وربما ليس فيما يتعلق بهذه الدراسة فحسب، لأنه من يدري إلى أيِّ مدى ترمي فكرة الاستعمار في هذه الحالة؟
مهما يكن من شيء، فنحن نرى في نطاق موضوعنا، أيَّ (حدٍّ سلبيّ)
يريد الاستعمار إضافته في هذه المرَّة إلى الفكرة التي نحن بصدد تحريرها هنا، وهذه لغة مرآته، وكأنها تقول للقارئ: إننا هنا بصدد تحرير فكرة عزيزة على رجل يقف في هذه الآونة أمام عدالة بلاده، متَّهماً بالخيانة العظمى!! ..
ولكي نترك للقارئ تحكيم حاسته النقدية، نُذكِّره فحسب، بأن السيد (فاضل الجمالي) وبقية الرجال الذين كانوا يحكمون معه ببغداد، كان لهم قاموس ديبلوماسي آخر؛ وبما أنني أعرف من هو فاضل الجمالي منذ زمن بعيد- وقد كنت أجاهر بذلك في كتاباتي عندما كان بعض الساسة المعيَّنين يفسحون له صدورهم في صحافتهم- فإنني أستطيع أن أؤكد أن (فرس الرّهان) السابق (لنوري السعيد)، كان يستعمل كلمة (إسلامستان): بدل (كملنويلث إسلامي) وهي الكلمة التي قذفَت بها وزارة الخارجية الإنكليزية في (طهران) منذ نهاية الحرب الأخيرة، لتَضع بها قاعدة مفاهيمية تمهِّد (لحلف بغداد) مستقبلاً!
وإذن فنحن قلباً وقالباً أمام (مرآة) تُسْتَعمل بدقَّة متناهية في (إسقاط) انعكاسات معينة على فكرة الكمنويلث الإسلامي، ويتعين علينا أن ندع للقارئ التَّمَرُّن على زيادة تحليل آليتها إذا أراد.
فقد أردنا في هذه الفقرة أن نبين له ببساطة أنه يَنْضافُ إلى الضِّعف الداخلي في تجهيزنا المفاهيمي، (إضْعَاف) ناتج عن مجهود منهجي، من المعاكسة الموتجِّهة من الخارج؛ وباجتماع ذينك المفعولين تصبح حياة (الأفكار) صعبة في المجتمع الإسلامي، المجتمع الذي لم يَصِلْ بعد- في طوره/ ما قبل الاجتماعي/- عالمَ الأشياء بعالم الأفكار. وبطبيعة الحال فإنَّ لهذا التخلُّف الذي يَسِمُ طوره/ ما قبل الاجتماعي/ دَوِيُّه وتأثيره على كل الحياة في الأشكال المختلفة للافعَّالية التي قد تكوِّن من الوجهة الاجتماعية أهمَّ مشكلات العالم الإسلامي.