الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: النهضة
التعليم
…
الفصل الثاني: النهضة
النهضة:
عصر إسماعيل على الرغم من مساوئه السياسية والاجتماعية، هو العصر الذي أينعت فيه النهضة الأدبية، وأورقت، وبشَّرَت بثمارٍ طيبةٍ حلوةٍ، وكان عهده الباب الذي دلف منه الأدب إلى الرياضة الغناء في عصرنا الحاضر، وذلك لأن إسماعيل وضع أسسًا متينةً لنهضةٍ شاملةٍ، بعد أن مضت فترة ركودٍ كادت تعصف بما غرسه محمد علي، وتعود بمصر القهقريّ إلى عصور الظلمات، وذلك أيام الواليين عباس وسعيد؛ إذ كانا من دعاة الرجعية، فألغى عباس حين توليته كل المدارس العالية إلّا المدرسة الحربية.
والأدب في عصر إسماعيل مدينٌ في نهضته ورقيه وسيره نحو التحرر من أغلال الماضي في صورته ومعناه إلى عدة عوامل لا نستطيع إغفالها، أو التقليل من أثرها، وسنلقي عليها نظرةً عاجلةً، حتى يكون إدراكنا لتطور الأدب في مصر والبلاد العربية إدراكًا صحيحًا.
1-
التعليم:
استوى إسماعيل على أريكة مصر سنة 1863، وما بها إلّا مدرسة ابتدائية واحدة، ومدرسة حربية، وأخرى طبية، وثالثة للصيدلة، وأوقفت البعثات، واستغنى عن خدمات من عاد من رجالها، وكان إسماعيل ذا طموح، ترسَّم في نهضته إلى حدٍّ ما خطوات جده محمد علي، وأراد أن يرى مصر قطعةً من أوروبا في ظرف وجيز، فأعاد البعثات سيرتها الأولى، حتى بلغ عدد أعضائها في عصره اثنين وسبعين ومائة، فأعاد مدرسة البعثات بباريس؛ لأنه عرف فائدتها أيام أن كان طالبًا هناك.
وأخذت الحياة تدب إلى كل أنواع التعليم، فأعيدت المدراس العالية التي كانت على عهد محمد علي كالهندسة والطب، وزيد عليها مدرسة الحقوق، وكانت تسمى مدرسة: الإدراة والألسن، "بدلًا من مدرسة الإدارة القديمة".
وقد أسهمت مدرسة الحقوق في النهضة اللغوية والأدبية، فالمذكرات التي يعدها المحامون، ووكلاء النيابة، ولغة المرافعات والدفاع، والخطابة القانونية، قد تحسنت كثيرًا، وأدخلت في اللغة كلمات عديدة لم تكن مستعملةً من قبل.
وظلَّ رجال الحقوق والقانون يقودون مصر في ميدان السياسة حقبةً طويلةً من الزمن، ولكنَّهم وللأسف قد أثروا بعقليتهم الجدلية، وتبريتهم النظرية، وإصلاحاتهم القانونية اللفظية في حياة الأمة أثرًا بليغًا، وأبعدوها عن جادة الصواب، وألقوا بها في لجةِ الجدلِ والتناحر الحزبيِّ، والتشدق بالإصلاح، ونأوا بها عن الحياة العلمية المنتجة، وعلى هذا الموضوع ليس يعينا في كتابنا هذا، وإنما الذي يلفت أنظارنا هو نهضة الخطابة واللغة على يد من تَخَرَّجَ في هذه المدرسة، ولا سيما في عصرنا الحاضر.
ومن المدارس التي أنشئت في عهد إسماعيل، وكان لها أكبر الفضل في نهضة اللغة العربية والآداب، مدرسة دار العلوم، التي أشار بها علي مبارك، وافتتحها في سنة 1871، وقد رأينا ما كانت تعانيه مدارس محمد علي الحديثة من فقرٍ في الكتب المدرسية المنظمة، والمدرسين الأكفاء، الذين جمعوا بين العلم القديم والحديث، وعرفوا النظام، ونالوا حظًّا من طرق التربية، وأن ذلك الفقر التربويّ كان معوقًا لنهضة الآداب، بيد أن دار العلوم سدت هذا الفراغ، فقد كان طلبتها يُخْتَارون من متقدمي طلبة الأزهر ونابغيهم، وينشئون تنشئةً لغويةً وأدبيةً وشرعيةً، مع قسطٍ وفير من العلوم الحديثة، وطرق التربية.
ولقد أدت دار العلوم ورسالتها للأمة واللغة وللدين على الوجه الأكمل، فحفظت اللغة وصانتها، وقوتها وأيدت دعائمها، وأحيت مواتها، وجددت في أساليبها، ونفضت عن تراثها المجيد غبار القرون، وقدمته للناس رائعًا جذابًا، وعكف أبناؤها على تعليم النشء، وتقويم ألسنتهم، وتدريب أقلامهم، وتزويدهم بذخائر نفيسة من مختارات الشعر والنثر، وتقديم الكتب التي تنهج نهجًا علميًّا نفسيًّا يتمشى مع الطفل وملكاته وغرائزه، فكانت بحقٍّ خير ما أسدى علي مبارك من خدمات للغة العربية.
ولا تزال دار العلوم تقوم بنصيبها الوفير في نهضة التعليم واللغة، وتعتمد عليها جامعتا القاهرة والإسكندرية وعين شمس في دارسة الآداب والنصوص وقواعد اللغة، وما زال بنوها في الطليعة من الكُتَّابِ والمؤلفين، يجارون بتأليفهم تيار النهضة الحديثة، ويمشون مع الزمن خطوةً خطوةً، وقد تَخَرَّجَ على أيديهم زعماء النهضة في كل ميادين الحياة.
وفي عهد إسماعيل، أنشئت أول مدرسة للبنات، وذلك في سنة 1873، حيث أسست السيدة "جشم آفت هانم" ثالثة زوجات إسماعيل، مدرسة السيوفية، وكان بها حين افتتاحها مائتا تلميذة، وبلغ عددهن في السنة الثالثة أربعمائة تلميذة، يتعلمن بالمجان، فضلًا عن القيام بمأكلهن وملبسهن، وكنَّ يتعلمن القراءة والكتابة ويحفظن القرآن الكريم، ويدرسن الحساب والجغرافيا والتاريخ والتطريز والنسيج.
وقبل مدرسة السوفية كانت البلاد خُلُوًّا من مدرسةٍ للبنات، إلّا مدرسة للولادة، ولم يشغها إلّا البنات الحبشيات، واستنكف المصريات من دخولها، ومدرسة إنجليزية أسستها مس "وتلي" سنة 1806، وقد نجحت بعد عشر سنواتٍ من الجهاد، في جذب كثير من الفتيات المصريات إليها، وكذلك كان الجهل متخذًا من رؤوس فتيات مصر ونسائها أعشاشًا، إلّا مَنْ حرص أهلها على تعلميها في البيت، وقليل ما هن.
وقد خطا تعليم البنات منذ مدرسة السيوفية خطواتٍ واسعةٍ في مصر، وتعددت ألوانه ومدارسه، وزاحمت الفتاة الفتى في الجامعة، واقتحمت الكليات المستعصية، ولست هنا في مقام النقد، ومناقشة طريقة تعليم الفتيات ذلك التعليم النظريّ، ومنافسة البنين في كل شيء، ولكن مما لا شك فيه أن تعليم المرأة ونهوضها دعامة متينة في النهضة الاجتّماعية والأدبية، والأم المتعلمة تربأ بابنها أن يكون فريسة الجهل، وتسعى في جهدها أن تنيله حظًّا مهما كان يسيرًا من نور العلم.
وقد أنشأت الحكومة بجانب هذه المدارس كثيرًا من المدارس الصناعية
والخصوصية، كمدرسة المساحة والمحاسبة، ومدرسة الزراعة، ومدرسة العميان والبكم.
أما عن المدارس الابتدائية: فقد زاد عددها، بلغ أربعين مدرسة، وقد صار للأقباط زيادة على ذلك اثنتا عشرة مدرسة، وافتتحوا مدرستين لتعليم البنات، واحدة بالأزبكية والأخرى "بحارة السقايين" وقد وهبهم إسماعيل ألفًا وخمسمائة فدان، ينفق ريعها على مدارسهم.
وأنشأ الحكومة كذلك عدة مدارس ثانوية؛ منها مدرسة رأس التين في سنة 1862، والمدرسة الخديوية سنة 1868، وأعادت ديوان المدارس، وهو نواة وزارة التربية والتعليم، بعد أن ألغاه سعيد، ليشرف على التعليم ويرعاه، ويدخل على نظمه وأساليبه التحسينات التي تساير الحياة.
ومن الوسائل التي ساعدت على النهضة الأدبية والعلمية في عصر إسماعيل دار الكتب، وناهيك بما لها من أثر في نشر العلم وتحبيب الاطلاع وتسهيله، ومعاونة المؤلفين والباحثين، ومساعدة الناشرين والطابعين على استنساخ نفائس الكتب وإشاعتها بين الناس.
لقد كانت الكتب قبل ذلك مبعثرةً في المساجد، يتولى أمرها خدمٌ لا يقدرونها قدرها؛ ففرطوا فيها، وتسرَّب كثير من كنوزها الأدبية والعلمية إلى مكاتب أوربا، وأهين كثير من الكتب القديمة باستعمالها في دكاكين البدالين وغيرهم.
همَّت الحكومة بتأسيس دار الكتب؛ فجمعت هذه الكنوز المبعثرة في المساجد والتكايا والزوايا والأضرحة وغيرها، وضمت إليها ألفي كتابٍ اشترتها من مكتبة المرحوم حسن "باشا" المانسترلي، ولما مات شقيق الخديو إسماعيل، الأمير مصطفى فاضل، وكان من أكبر هواة الكتب في الشرق، ابتاعت الحكومة من مكتبته ما يربى على ثلاثة آلاف كتاب، وضمتها إلى دار الكتب، فكان ذلك نواةً لهذه المؤسسة العظيمة، التي أخذت بعد ذلك تنمو وتزداد، وتجلب لها الكتب من الشرق والغرب، وتضم إليها المكتبات الكبيرة، مثل مكتبة المرحوم أحمد تيمور وغيرها.
وقد ضم القسم الأدبيّ الذي كان يشرف على إحياء الكتب القديمة بمطبعة
بولاق إلى دار الكتب، وعكف منذ سنين على تصحيح وإخراج أمهات الكتب الأدبية من أمثال: الأغاني، ونهاية الأرب، والنجوم الزاهرة،
…
وغيرها.
2-
الجمعيات العلمية:
إذا كثرت الجمعيات العلمية في أمةٍ دل ذلك على حيويتها ويقظتها، ورغبتها في السير نحو الكمال، وغير معتمدةٍ على الحكومة في غذائها العقليّ، فإذا اضطرب أمر الحكومات، أو وليها من لا يحسن القيام بشئون الحكم، لا يصاب الشعب بالشلل العقليّ، ولكن يمضي في طريقه قُدُمًا، ويتثقف ويستعد للنضال في سبيل الحياة السعيدة، بهمم أفراده اليقظين، والجمعيات القوية المنظمة.
وقد بدأت تباشير هذه اليقظة العقلية في عهد إسماعيل، وبرهنت مصر على أنها آخذةً بأسباب النهضة الصحيحة، وأنها مستعدةً للنضج الفكريّ، ولو توانت الحكومة في الإصلاح، أو قصرت في الأخذ بأسبابه، ومن أوائل من عنوا بنشر الكتب القديمة والمخطوطات:
1-
المرحوم رفاعة الطهطاوي متأثرًا بطريقة صديقه المستشرق الفرنسيّ "سلفستر دي ساسي"، وعن مجهود رفاعة في إحياء الكتب القديمة يقول العلامة علي مبارك:
"ولرغبته في نشر العلوم، وسعة دائرتها، وحبه عموم النفع بها، استدعى مع بعض أفراد الحكومة المصرية من المرحوم سعيد باشا، وكان له ميل إلى المترجم رحمه الله، صدور الأمر بطبع جملة كتب عربية على طرف الحكومة، عم الانتفاع بها في الأزهر وغيره، منها: تفسير الفخر الرازي، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، والمقامات الحريرية، وغير ذلك من الكتب التي كانت عديمة الوجود في ذلك الوقت فطبعت1".
2-
المجمع العلمي: وقد أسس على عهد الفرنسيين سنة 1798، وألغي عند
1 الخطط التوفيقية، ترجمة رفاعة ج13، ص55-56.
جلائهم، ولكنه أعيد في عصر سعيد، وظلَّ يعمل مدة حكم إسماعيل، مؤديًا رسالته في نشر المباحث العلمية. ولا يزال حتى اليوم قائمًا، وإن تغير اسمه إلى مجلس المعارف المصريّ، ومقره وزارة الأشغال، وله مجلة تنشر أبحاثه، وقد تكلمنا عنه آنفًا1.
3-
جمعية المعارف سنة 1868، وهي أول جمعيةٍ علميةٍ مصريةٍ ظهرت لنشر الثقافة عن طريق التأليف والترجمة والنشر، وأسسها محمد باشا عارف، وأسهم في تأسيسها عددٌ كبيرٌ من أعيان البلاد، وقد اقتنت مطبعة، وقامت بطبع طائفة من أمهات الكتب في التاريخ والفقه والأدب2.
ولقيت الجمعية تشجيعًا عظيمًا، حتى بلغ عدد أعضائها ستين وستمائة عضوٍ من الطبقة الممتازة في الأمة3.
وظلَّت الجمعية تعمل، وتؤدي رسالتها الثقافية، إلى أن اشتد النزاع السياسيّ بين الخديو إسماعيل، والأمير عبد الحليم؛ لتنافسهما على أريكة مصر، وكان عارف باشا من أنصار حليم باشا، ففرَّ إلى الآستانة خوفًا من إسماعيل، وبذهابه انحلت الجمعية، وكان عارف أديبًا، ويروى له قوله:
ألم تعلم بأن سماء فكري
…
تلوح بأفقها شمس المعارف
تفرس والدي في المزايا
…
فيوم ولدت لقبني بعارف
3-
الجمعية الجغرافية سنة 1875، وتعد من أهم المنشآت العلمية بمصر، وتُعْنَى بالأبحاث الجغرافية والعلمية وتدوينها، ونشرها، ولها مجلةٌ دوريةٌ تنشر أبحاثها، وما تقوم به من اكتشافات، ولا تزال قائمة إلى اليوم.
4-
الجمعية الخيرية الإسلامية، أنشئت أول الأمر بالإسكندرية سنة 1878، حين دفعت الحماسة جماعة من المتعلمين بالثغر -رأوا طغيان الأجانب، واشتداد نفوذهم، واستئثارهم بمرافق البلد- إلى تأسيسها، وكانت تعقد الاجتماعات ليلًا، ويتبادل أعضاؤها الخطب، وقبيل افتتاحها انضم إليهم السيد عبد الله نديم، فكلفته الجمعية العمل على تأسيس مدرسةٍ حرةٍ يتعلم فيها أبناء المسلمين، وينشئون تنشئةً صالحةً، وظلت الجمعية والمدرسة تتقدمان حتى قامت الثورة العرابية، فتفرق القائمون بأمرها.
وقد أنشيء على غرار هذه الجمعية التعلمية جمعية باسمها في القاهرة، وأخرى بدمياط، أما الجمعية الحالية، فقد أسست سنة 1982، على غرار الجمعية الأولى حين اشتدت الحاجة إليها، وكان الداعي إلى تأسيسها الإمام الشيخ محمد عبده، وسنعود إلى الكلام عنها في ترجمته -إن شاء الله.
1 راجع ص16 من هذا الكتاب.
2 من هذه الكتب: أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير في خمسة مجلدات، وتارج العروس من شرح جواهر القاموس، وتاريخ ابن الوردي، وشرح التنوير على سقط الزند، وديوان ابن خفاجة، وديوان ابن المعتز، والبيان والتبيين للجاحظ، وشرح الشيخ خالد على البردة، ورسائل بديع الزمان الهمذاني، وغير ذلك من الكتب.
3 كان من أعضائها: إبراهيم المويليح، وأحمد فارس الشدياق، والشيخ حسونة النواوي، والدكتور محمد شافعي، ومصطفى رياض، والشيخ بدراوي عاشور، وتجد ثبتًا بأسماء أعضاء الجمعية، في آخر "الفتح الوهبيّ" وراجع كتاب عصر إسماعيل لعبد الرحمن الرافعي، ج1 ص256، وجورجي زيدان في كتاب آداب اللغة ج4 ص78.