المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الأدب في عهد محمد علي: - في الأدب الحديث - جـ ١

[عمر الدسوقي]

الفصل: ‌ الأدب في عهد محمد علي:

4-

‌ الأدب في عهد محمد علي:

لا نستطيع أن نقول أن الأدباء الذين ظهروا في عهد محمد علي هم أثر النهضة العلمية في عصره، ولكنهم ولا شكَّ أفادوا منها، مع أنهم من آثار العصر السابق، اطلعوا في عصر محمد علي على أشياء كثيرة لم يروها من قبل، وأحاطت بهم نهضة شاملة، مع ذلك، فقد كانوا مكبلين بقيود الألفاظ والزخارف في كتبابتهم وشعرهم إلّا القليل، ومن هؤلاء:

1-

الشيخ حسن العطار1:

من أسرة مغربيةٍ، نزحت إلى القاهرة، فوُلِدَ بها سنة 1180هـ 1866م، وكان أبوه عطَّارًا، فتبع أباه في تجارته أول الأمر، ولكن الله قد أودع قلبه حب الأدب والعلم، فلم يضن عليه والده بالمساعدة على تحصيلها، وجَدَّ الولد، وحصل منهما الشيء الكثير، ووعى ما حَصَّلَ، وتتلمذ على أكابر علماء عصره؛ كالشيخ الأمير والشيخ الصبان.

وفي أيامه دخل الفرنسيون، فاتصل بهم، وأفاد منهم بعض الفنون الشائعة ببلادهم، وعَلَّمَ بعضهم اللغة العربية، ثم ارتحل إلى الشام، وسكن دمشق زمنًا.

وتَجَوَّلَ في بلادٍ كثيرةٍ يفيد ويستفيد، ثم آب إلى مصر، فأقرَّ له علماؤها بالفضل، وعُهِدَ إليه بتحرير الوقائع المصرية، ثم تولَّى التدريس بالأزهر، ثم صار شيخًا له بعد الشيخ العروسي سنة 1246، فأحسن إدراته، وظلَّ في منصبه إلى أن توفي سنة 1250هـ- 1835م، وكان محمد علي يجلُّه ويكرمه لما امتاز به من التفوق في العلوم العصرية والأدبية وفنونها، ويقول عنه تلميذه رفاعة الطهطاوي في كتابه "مباهج الآدب المصرية":"كانت له مشاركة في كثير من هذه العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقويم البلدان، لإسماعيل أبي الفداء سطان حماة.. وله هوامش أيضًا وجدتها بأكثر التواريخ على طبقات الأطباء وغيرها، وكان يطلِّعُ دائمًا على الكتب المعرَّبة من تواريخ على طبقات الأطباء وغيرها، وكان له ولوعٌ شديدٌ بسائر المعارف البشرية"2".

وقد خلَّف عدة مؤلفاتٍ في النحو والبيان والمنطق والطب، وله في البلاغة حاشيةٌ على السمرقندية، وله كتاب في الإنشاء والمرسلات، طبع مرارًا بمصر، وجمع ديوان ابن سهل الإشبيلي وبوبه، وكان على إلمامٍ بعلم الفلك، وله رسالة في كيفية العمل بالأسطرلاب، وكان يحسن عمل المزاول الليلية والنهارية، وقد اشتهر بالأدب والشعر.

وكان صديقًا للسيد إسماعيل الخشاب، واستمرت صحبتهما بعد عودة الشيخ العطار من الشام -حتى كانا يبيتان معًا- إلى أن مات الخشاب، وللعطار ديوان شعرٍ، وروى له الجبرتي كثيرًا، وكان على صلة بكثير من أدباء عصره، ومنهم المعلم بطرس كرامة اللبناني، وقد قال فيه كرامة لما لقيه بمصر:

قد كنت أسمع عنكم كل نادرة

حتى رأيتك يا سؤلي ويا أربي

والله ما سمعت أذني بما نظرت

لديك عيناني من فضل ومن أدب

1- راجع ترجمته في الخطط التوفيقية، ج4 ص48، وتاريخ آداب اللغة العربية، ج: ص222، وكنز الجوهر في تاريخ الأزهر، لسلمان رصد الزياتي ص138، وعصر محمد علي للرافعي، ص472.

2-

مباهج الألباب المصرية، ص375.

ص: 46

ومن نثر الشيخ العطار:

"أما بعد، فإن أحسن وشي رقمته الأقلام، وأبهى زهر تفتحت عنه الأكمام، عاطر سلام يفوح بعبير المحبة نفحه، ويشرق في سماء الطروس صبحه.

سلام كزهر الروض أو نفحة الصبا

أو الراح تجلى في يد الرشأ الألمي

سلام عاطر الأردان، تحمله الصبا سارية على الرند والبان، إلى مقام حضرة المخلص الوداد، الذي هو عندي بمنزلة العين والفؤاد، صاحب الأخلاق الحميدة، حلية الزمان الذي حلى معصمه وجيده

إلخ".

ومن شعره قوله يتغزل:

ألزمت نفسي الصبر فيك تأسيًا

والصبر أصعب ما يقاد نجيبه

وبليت منك بكل لاح لو تبدَّى

نحو طودٍ أثقلته كروبه

أفلا رثيت لعاشق لعبت به

أيدي المنون ونازعته خطوبه

أنت النعيم له ومن عجب

تعذبه وتمرضه، وأنت طبيبه

وهو شعر إذا قيس بعصره دل على روح أديب، وذوق شاعر، كما أن النثر، وإن كان مسجوعًا، إلّا أنه غير مثقل بالحلى اللفظية، مما يدل على بعض التطور في كل من النثر والشعر، نعم، إن في النثر تكلفًا وتعمدًا للسجع، فإذا كان السلام عاطر الأردان، فلابد أن تحمله الصبا ساريةً على الرند والبان، إلى غير ذلك مما يذكرنا بسجع القاضي الفاضل، وتذليل المعاني للألفاظ، وخفاء شعور الكاتب والشاعر تحت هذه الزخارف الكثيرة، على أن الشيخ العطار مع هذا، من أحسن كُتَّابِ عصره وشعرائه ديباجة، وأقلهم تكلفًا.

2-

الشيخ حسن قويدر:

تلميذ العطار، ولد 1204هـ-1789م، وهو مغربيّ الأصل كأستاذه، ونزح أهله إلى بلدة الخليل بالشام، وجاء والده إلى القاهرة وأقام بها، فولد فيها المترجم، ونال شهرة عظيمة في العلوم، وكان مع ذلك يشتغل بالتجارة، وصارت

ص: 47

له مع أهل الشام صلات تجارية، ومن تأليفه شرحه المطول على منظومة الشيخ العطار في النحو، وكان قد قرظها من قبل بقوله:

منظومة الفاضل العطار قد عبقت

منها القلوب بريا نهكة عطره

لو لم تكن روضة في النحو يانعة

لما جنى الفكر منها هذه الثمرة

وله كتاب إنشاء ومراسلات، وكتاب نيل الأرب في مثلثات العرب، وهو مزدوجات ضمنها الألفاظ المثلثة الحركات، المختلفات المعاني، كمثلثات قطرب، وقد طبع بمصر، ونقله إلى الإيطالية المستشرق "إريك فيتو" قنصل إيطاليا ببيروت، وهو أرجوزة طويلة مطلعها.

يقول من أساء واسمه حسن

لكن له ظن بمولا حسن

فكم لملواه عليه من منن

بالعد لا تدخل تحت الحصر

ويقول في المنظومة:

جمعت فيها الكلمات اللاتي

تكون في الشكل مثلثات

أبدًا بالمفتوح ثم آتي

بالضم لكن بعد ذكر الكسر

وهاك مثلًا من مثلثاته:

أجمة الحَلْفاء هي الأباء

والامتناع من كذا إباء

والغيث كان يا أخي أباء

وهو كراهة الطعام فادر

وهي ألفان ومائتان وعشرة أبيات، ومن مطبوعات جمعية المعارف.

وكان مشهورًات بالتأريخ الشعري، وقد أرَّخ وفاته وهو مريض سنة 1263هـ بقوله:"رحمة الله على حسن قويدر" ومما يُرْوَى من شعره قول:

يا طالب النصح خذ مني محبرة

تلقى إليها على الرغم المقاليد

عروسة من بنات الفكر قد كسيت

ملاحة، ولها في الخد توريد

ص: 48

كأنها وهي بالأمثال ناطقة

طير له في صميم القلب تغريد

واحذر من الناس لا تركن إلى أحد

فالخِلُّ في مثل هذا العصر مفقود

بواطن الناس في ذا الدهر قد فسدت

فالشر طَبْعٌ لهم والخير تقليد

وله قصيدة تسمى: المزدوجة جاء منها، وهي طويلة:

رأيت بدرًا فوق غصن مائس

يخطر في خضر من الملابس

ويسحر العقل بطرفٍ ناعسٍ

وهو بشوش الوجه غير عابسٍ

كأن ماء الحسن منه يجري

خاطرت لما أن رأيته خطر

وحار فكري في بها ذاك الحور

وقلت لا والله ما هذا بشر

ومن بشمس قاسهه أو القمر

فليس عندي بالقياس يدري

وهو شعركما ترى، قريب المعاني جدًّا، ليس فيه من الخيال شيء، وهو إن خلا من المحسنات البديعية إلّا أنه غير متين النسج، بل هو قريب من الكلام المعتاد، وكل تشبيهاته قديمة.

وقد رثاه محمد صفوت الساعاتي بقصيدة مطلعها:

بكت عيون العلا وانحطت الرتَبُ

ومزقت شملها من حزنها الكتب

ص: 49

2-

السيد علي الدوريش:

تُوفِيَ سنة 1270هـ-1853م.

وهو السيد علي الدرويش بن إبراهيم المصري، وُلِدَ بالقاهرة سنة 1211هـ، ونشأ بها، وأُغْرِمَ بالأدب، وحفظ كثيرًا من الشعر، وأصاب شهرةً كبيرةً في زمانه، وله عدد وفير من المقطوعات الغنائية، واتصل بأمراء أسرة محمد علي، وعُرِفَ بشاعر عباس الأول، ولم يكن يتكسب بالشعر؛ لأن الله رزقه حظًّا من الثروة، فاكتفى بما لديه.

وله من المؤلفات "الدرج والدرك"، وضعه في مدح من اشتهر في أيامه بحميد المزايا وكريم الصفات، وكتاب "محاسن الميل لصور الخيل" وضعه بأمر عباس الأول، ذكر فيه محاسن الخيل ومساوئها، و"سفينة الأدب".

وشعره يمثل لنا عصره؛ من حيث الولوع بالمحسنات البديعية، يحشرها حشرًا، ويتكلفها تكلفًا، ومعانيه وأخيلته لا تدل على شاعرية ممتازة إذا قيست بشعر عصرنا، ولكنه بالنسبة لعصره كان طليعة الشعراء، وقد اشتهر بالتواريخ الشعرية، وله ديوان طبعه تلميذه مصطفى سلامة النجاري في 482 صفحة، وقد جمع كل ما قاله السيد على الدرويش من شعر ونثر.

ومن نثره قوله في مقامة الفضيلة والرذيلة:

"وفقك الله لما يرضاه، وعصمك في موجب الذم، ومن لا يتحاشاه، إن الفضيلة والرذيلة صفتان متضادتان، ونوع الإنسان مجبول على الميل للأولى، والفرار من الأخرى على حسب آراء العباد، وعوائد البلاد، فربما كانت الفضيلة عند قوم رذيلة عند آخري، وكانت الرذيلة عند أممٍ فضيلة عند غيرهم من المتأخرين، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، مع تفاوت في طباعهم، وأشكالهم، وصنائعهم، فمنهم ذو الطبع السليم، ومنهم الذميم، ولا سبيل إلى ترغيب الأول ليجتهد في الازدياد، وترهيب الثاني لينطبع على أن يتحاشى بالاعتياد، لا باللسان، الآتي بسحر البيان، فقد جاء في الحديث: "إن إيمان المرء ليربوا إذا مدح، وربما

ص: 50

يصح الجسم إذا جرح، فمن ذلك كان المدح على المحاسن تذكيرًا، والذم على القبائح تنفيرًا، وكلاهما مطلوب شرعًا، ومرغوب فرعًا، فيستقيظ الغافل، ويقبل الكمال الكامل".

ومن شعره قطعةٌ قالها في منفلوط "وهي من قرى الصعيد":

سعيد من نأى عنه الصعيد

صعود ما لطالعه سعود

وردنا منفلوط فلا سقاها

وردناها فأظمأنا الورود

فما لي قد بعثت لقوم عاد

كأني صالح وهم ثمود

أراهم ينظرون إليّ شزرًا

كعيسى حين تنظره اليهود

فما لي منهم خِلٌّ ودودٌ

ولي من طبعهم خلٌّ ودود

ويقول في الهرمين:

انظر إلى الهرمين واعلم أنني

فيما أراه منهما مبهوت

رسخا على صدر الزمان وقلبه

لم ينهضا حتى الزمان يموت

ومن شعره يصف الجراد الذي اجتاح مصر سنة 1259هـ:

فترى الجراد على الجريد

مكللًا مثلَ الثمر

ورقشٌ تراها إنها

نارٌ تلظَّى بالشجر

لواحة للأرض لا

تبقي النبات ولا تذر

وصغيرةٌ في حجمها

لكنها إحدى الكبر

الأرضُ كانت جنة

فالآن ترمي بالشرر

نزل الجراد بها كما

نزل القضاء أو القدر

ص: 51

4-

المعلم بطرس كرامة:

وهو من شعراء سوريا في عهد محمد علي، وُلِدَ في حمص سنة 1188هـ 1774م، وجاء لبنان واتصل بالأمير بشير الشهابي، وتُوفِيَ سنة 1268هـ 1851م، ومن شعره يصف ينبوع الصفا، وقد مد "بيت الدين" مقر الأمير بشير بماء هذا الينبوع:

صاح قد وافى الصفا يروي الظما

بشرابٍ كوثريّ العس "كذا"

وأفاض الشهد في روض الحمى

لجلا الغم وبرء الأنفس

حبذا الفوار عنه حين راق

فأرانا ماؤه ذوب اللجين

نَزَّه القلب عن الهم، وراق

بسنا صافي صفاه كلّ عين

نثره الدر بفيض واندفاق

وسقى الوراد أهنا الأطيبين

قد جرى عذبًا فأغنى الندما

بزلال من رحيق الأكؤس

وعلى الأغصان أبقى النِّعَما

فزهت مثل ندامى العُرُس1

وقال يصف باقة زهر أهداها له الأمير بشير:

وقال يصف باقة زهر من ميلك منحتها

معطرةَ الأرواح مثلَ ثنائه

فأبيضاها يحكي جميل خصاله

واصفرُها يحكي نضار عطائه

وأزرقها عين تشاهد فضله

وأحمرها يحكي دماء عدائه

1 قد نظم الشاعر هذه القصيدة على منوال الموشح الأندلسيّ المشهور، لابن سهل الإشبيليّ، ومطلعه.

جادك الغيث إذا الغيث همى

يا زمان الوصل بالأندلس

لم يكن وصلك إلّا حلمًا

بالكرى أو خلسة المختلس

ص: 52

وقال يهنيء إبراهيم باشا بفتح عكا:

فتحٌ به الفتح القريب موكد

وكواكب النصر المبين توقد

ما المجد إلّا بالحسام ولم يدم

شرف الفتى ما لم يصنه مهند

ما يوم عكة لم تذع ذكرًا لما

غبر الزمان به وما يتجدد

يوم به الحرب العوان تضرمت

بقنابل مثل الصواعق ترعد

رجمت بشهب كراتها الأسوار من

لهب فدك الشامخ المتوطد

ورمت بصدر بورجها قلل الفضا

تلك المدافع فهي طورًا تسجد

فتخال والهيجاء تلهب حولها

نار الجحيم بجوها تتصعد

سبقت إليها الصبح أسد عرينة

وبغير صبحٍ حرابهم لم يهتدوا

من كل أروع قد تعود في الوغى

أخذ الكمأة وما يقول السيد

وتراه يبسهم للكفاح كأنما

ورد الحمام لديه نعم المورد

وثبوا على الأسوار، ثم تسنموا الـ

أبراج السيف الصقيل مجرد

وتجلد القوم العدة وإنما

لم يجدهم عند العراك تجلد

5-

الشيخ ناصيف البازجي:

هو الشيخ ناصيف بن عبد الله اليازجي، وُلِدَ بكفر شيما بلبنان، سنة 1800م، واشتغل أول أمره بالعلوم والطب، ولكن الأدب غلب عليه، واتصل بالأمير بشير الشهابي، فاتخذه كاتم سره، ولما دالت دولة الأمير بشير انقطع للتأليف ومراسلة الأدباء، ونظم الشعر، وقد خلَّف عدة مؤلفات، من أشهرها:

1-

مقاماته الستون المعروفة بمجمع البحرين، عارض فيها مقامات الحريري، ويقول في إحداها المعروفة بالمقمامة الخزرجية:

"قال سهيل بن عباد: دخلت بلاد العرب في التماس بعض الأدب، فقصدت نادي الأوس والخزرج، لأتفرج وأتخرج، وآخذ من ألسنتهم بعض المنهج، فلما صرت في بهرة1 النادي، أخذ بمجام فؤادي، فجلست بين القوم ساعة، وأنا

1 بهرة النادي: وسطه.

ص: 53

أحدق إلى الجماعة، وإذا شيخنا ميمون بن خزام، قد تَصَدَّرَ في ذلك المقام، وهو يقول: من أراد أن يعرف جهينه1 أو شاعر مزينه2، فليحضر ليسمع ويرى، فإن كل الصيد في جوف الفرا3، فعمد إليه رجل وقال: أطرق كرى، إن النعامة في القرى4 إلخ".

ومن نثره المرسل قوله:

"وكان الملوك ومن يليهم في الأيام القديمة يعرفون كثيرًا من العلوم ويتمكنون منها، حتى كان منهم من يخطيء العلماء في بعض المسائل؛ ولذلك كانوا يعتنون بشأن العلم والعلماء ويعرفون حقهم، وكانوا يقيمون مدارس في علوم شتَّى، حيثما وجدوا لها موضعًا، ويغرمون المشايخ والطلبة بالعطايا والإحسان، فكان الناس يدخلون فيها أفواجه، ويعكفون على تحصيل ما يستطيعون من العلوم، حتى إذا استتم الرجل علمه خرج إلى منصب، أو وظيفة عند السلطان، متمتعًا ببسطة الجاه والمال، ومستغنيًا عن جميع المهمات والأشغال، فيفرغ للتوسع في العلوم، وإنشاء المصنفات فيها، وبذلك يكون مثالًا لغيره في طلب العلم والتجرد له".

2-

وله كتاب فصل الخطاب في الصرف والنحو، وله شرح على ديوان المتنبي، أتمه ابنه الشيخ إبراهيم، واسمه العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب.

3-

وله ديوان شعر في ثلاثة أجزاء: أحدهما: نفحة الريحان، وثانيها: فاكهة الندماء، وثالثها: ثالث القمرين.

وشعره يجمع بين الرقة والمتانة، ومن شعره في بخيل:

1 جهينة: قبيلة قتل رجل منها قتيلًا، ومر بامرأته وهي تبحث عنه فقال:

تناشد كل حي عن حصين

وعند جهينة الخبر اليقين

2 هو زهير بن أبي سلمى.

3 الفرا: حمار الوحش، ومن صاده أغناه عن كل صيد سواه، ويضرب بهذه الكلمة المثل.

4 الكرى: الكروان: أخفض رأسك ولا تتكبر، فإن النعامة وهي أكبر منك قد صيدت وحبست في القرى.

ص: 54

قد قال قومٌ إن خبزك حامض

والبعض أثبت بالحلاوة حكمه1

كذب الجميع بزعمهم في طعمه

من ذاقه يومًا ليعرف طعمه؟

وقال في الزهر:

مر النسيم على الرياض مسلمًا

سحرًا فرد هزارها مترنما

وحنى إليه الزهر مفرق رأسه

أدبًا، ولو ملك الكلام تكلما

يا حبذا ماء الغدير وشمسه

تعطيه دينارًا فيقلب درهما

وقال يرثي صديقًا:

قد كنت أنتظر البشرى برؤيته

فجاءني غير ما قد كنت أنتظر

إن كان قد فات شهد الوصل منه فقد

رضيت بالصبر لكن كيف أصطبر

أحب شيء لعيني حين أذكره

دمع، وأطيب شيء عندها السهر

هذا الصديق الذي كانت مودته

كالكوثر العذب لا يغتالها كدر

لا غرو أن أحزان الزوراء مصرعه

فحزنه فوق لبنان له قدر

وقال يمدح محمد علي "باشا" ويهنئه بفتح عكا:

يا فاتح القطرين أنت محمد

هل دون فتحك في البلاد مسدد؟

أنت العلي كما يقال ونسله

منك المعالي لم تزل تتولد

لما بعثت من الكنانة سهمها

حلفت عليه أنه لا يصرد

ما زالت النار التي وقدت له

بردًا عليه وناره لا تبرد

من مثل إبراهيم إلّا سيفه

يوم الكريهة والقنا المتأود

1 أل لا تدخل على بعض في صحيح اللغة، وعجب أن يفوت ذلك على الشيخ ناصيف، وهو العالم اللغوي.

ص: 55

ولقد ضربت حصون عكاء التي

كانت لهيبتها الفرائص ترعد

الله أكبر ليس دونك قلعة

تحمي ولا حصن أشم ممرد

وتحصنت منك الأسود فلا تلم

قومًا بإغلاق الحصون استنجدوا

أسألت "عبد الله1" أين قلاعه

ورجاله وفؤاده المتوقد؟

ومما كنا نحفظه في الصغر للشيخ ناصيف اليازجي، قوله في عروس الزهر "الوردة":

هذي عروس الزهر نقطها الندى

بالدر فابتسمت ونادت معبدًا

لما تفتق سترها عن رأسها

عبث الحياء بخدها فتوردا

فتح البنفسج مقلة مكحولة

غمز الهزار بها فقام وغردا

وتبرجت ورق الحمام بطوقها

لما رأين التاج يعلو الهدهدا

بلغ الأزاهر أن ورد جنانها

ملك الزهور فقابلته سجدا

فَرَنَا الشقيق بأعين مُحْمَرَّةٍ

غضبًا وأبدى منه قلبًا أسودا

بسط الغدير الماء حتى مسه

برد النسائم قارسًا فتجمدا

ورأى النبات على جوانب أرضه

مهدًا رطيبًا لينًا فتوسدا

يا صاحبي تعجبًا لملابس

قد حاكها من لم يمد لها يدا

كل الثياب يحول لون صباغها

وصباغ هذي حين طال تجددا

وفي هذه القصيدة خيال جميل، وسهولة لفظ، ورقة وصف، تجعل مثل ناصيف اليازجي يقف وحده بين شعراء عصره، كما يقف وحده بين كتاب جيله؛ لمتانة عبارته، وحسن صياغته، ولأنه ترسل في كتابته على خلاف المعهود في زمنه.

ومن جميل شعره الذي يدل على رقة حسٍّ، ودماثة عاطفةٍ، قوله يرثي ولده حبيبًا:

1 يقصد عبد الله الجزار، والي عكا حينذاك.

ص: 56

ذهب الحبيب فيا حشاشة ذوبي

أسفًا عليه ويا دموع أجيبي

ربيته للبين حتى جاءه

في جنح ليلٍ خاطفًا كالذيب

يا أيها الأم الحزينة أجملي

صبرًا فإن الصبر خير طبيب

لا تخلعي ثوب الحداد ولازمي

ندبًا عليه يليق بالمحبوب

إني وقفت على جوانب قبره

أسقي ثراه بدمعي المصبوب

ولقد كتبت له على صفحاته

يا لوعتي من ذلك المكتوب

الشهاب الألوسي:

هو أبو الثناء شهاب الدين محمود الألوسي، وُلِدَ ببغداد سنة 1217هـ-1802م، وتوفي 170هـ-1854م.

وكان إمامًا في التفسير والإفتاء، وعالمًا ضليعًا باللغة، وكاتبا بليغًا، وخطيبًا مصقعًا، وقد حظي بشهرة عظيمة في عصره، وصار مقصد الأدباء والمتأدبين، وطلاب التفسير والفقه.

وقد كثر حاسدوه وشانئوه بغداد، واضهده الوالي التركي، فقام برحلةٍ إلى الآستانة، يبث شكواه لأولي الأمر، ويعرض عليهم تفسيره المشهور "روح المعاني"، ولقي في رحلته من الإكرام ما أنساه غلظة الوالي، وسجل رحلته بعد عودته لبغداد في ثلاثة كتب.

كان سريع الخاطر، منطلق الذهن في الكتابة والتحرير، وقيل: إن أقل ما كان يكتبه في الليلة من مؤلفاته ورقتان كبيرتان، وله عدة كتب في التفسير والفقه والمنطق والأدب واللغة، ومن أشهرها:

1-

روح المعاني في التفسير، وهو تسعة أجزاء، ويعد خير كتبه، ومن أحسن التفاسير المتداولة، وقد طبع مرةً على نفقة ولده السيد نعمان خير الدين بمطبعة بولاق بمصر سنة 1301هـ.

ص: 57

2-

شرح السلم في المنطق.

3-

كشف الطرة عن الغرة، وهو شرح على درة الغواص للحريري.

4-

وله كتاب في المقامات، طبع في كربلاء.

ومن نثره يصف القسطنطينية:

"بلدة مونقة الأرجاء، رائعة الأنحاء، ذات قصور تضيق عن تصويرها الأذهان، وتتجاذب الحسن هي وقصور الجنان، وربة رياض أريضة، وأهوية صحيحة مريضة، وقد تغنت أطيارها فتمايلت طربًا أشجارها، وبكت أمطارها فتضاحكت أزهارها، وطاب نسيمها، فصحَّ مزاج إقليمها، وليتك رأيت ما فيها من الرياض الأنيقة، والأشجار المتهدلة الوريقة، وقد ساقت إليها أرواح الجنائب، زقاق حمر السحائب، فسقت مروجها مدام الطل، فنشأ على أزهارها حباب كاللؤلؤ المنحلّ، فلما رويت من الصهباء أشجارها، رنحها مع النسيمات المسكية خمارها، فتدانت ولا تداني المحبين، وتعانقت ولا تعانق العاشقين، يلوح من خلالها شقيق، كأنه جمرات من آثار حريق، ويتخللها بهر يبهر ناظره.

وكأن النرجس الغض بها

أعين العين وما فيهن غمض

ومن نثره قوله يحذر أولاده من الدجاجلة وأبالسة التضليل:

"يا بني! بعض الناس ذئاب، عليهم من جلود الشاة ثياب، فلا تخدعوا بمتماوت تغنجت كالهلوك كلمته، ولانت كالصعلوك عريكته، وولع الذبول بقمامته، فتناطحت تفاحة كتفه ورمانة هامته، وربما لزق ذقنه بصدره، وأصاخ بسمعه نحوه بسره، وحمل سبحة من ذوات الأذناب، وجعلها شبكةً، وأعمل فيها سبابته تنقر حباتها كما تنقر الحب الديكة.

قريب الخطو تحسبه لهون

وليس مقيدًا يمشي بقيد

فوأبى! لقد رأيت في هؤلاء المتماوتين من هو أَمَرُّ من أبي مرة، وأضر منه بألف مرة.

ص: 58

وقد جربتهم فرأيت منهم

خبائث بالمهيمن تستجير1

ومن شعره قوله في العراق:

أهيم بآثار العراق وذكره

وتغدو عيوني من مسرتها عبرى

وألثم أخفافًا وطئن ترابه

وأكحل أجفانًا برتبته العطرى

وأسهر أرعى في الدياجي كواكبًا

تمر إذا سارت على ساكني الزورا

وأنشق ريح الشرق عند هبوبها

أداوي بها يا مي مهجاتي الحرا

ومنه قوله:

وإذا الفتى بلغ السمك بفضله

كانت كأعداد النجوم عداه

ورموه عن حسد بكل كريهة

لكنهم لا ينقصون علاه

ومن المعاصرين لأبي الثناء الألوسي الشاعر الأخرس البغدادي، وقد اشتهر بشعره الثائر على الأوضاع الفاسدة ببغداد، وهناك مقطوعة قصيرة قالها حوالي سنة 1803، يصور بها العراق بأنه صار موردًا عذبًا للكلاب، بينما تذاد الأسود عن نميره، ولم يعد يجد الأحرار فيه موئلًا، بل ضاق بكل حر أبي، وتحكم فيه الأوغاد والطغاة.

ودهر أعاني كل يوم خطوبه

وذلك دأبي يا أميم ودأبه

مسوق إلى ذي اللب في الناس رزؤه

ووقف على الحر الكريم مصابه

وحسبك مني صبر أروع ماجد

بمستوطن ضاقت بمثلي رحابه

تذاد عن الماء النمير أسوده

وقد تبلغ العذب الفرات كلابه

وأعظم بها دهياء وهي عظيمة

إذا اكتنف الضرغام بالذل غابه

متى ينجلي هذا الظلام الذي أرى

ويكشف عن وجه الصباح نقابه؟

1 تجد نماذج لشعره في كتاب "أعلام العراق" لمحمد بهجة الأثري، ص24، وما بعدها.

ص: 59

وتلمع بعد اليأس بارقة المنى

ويصدق من وعد الرجاء كذابه

ومن لي بدهر لا يزال محاربي

تفل مواضيه وتنبو حرابه

عقور على شلوى يعض بنابه

وتعدو علينا بالعوادي ذائبه1

تعقيب:

ذكرنا آنفًا أن هذا الأدب وليد العصر السابق، وأنه لم يتأثر أدنى تأثر بالحركة العلمية التي حمل محمد علي لواءها في مصر، كما رفع رجال الإرساليات التبشيرية هذا اللواء في بعض بلاد الشام؛ لأن هذه الحركات فضلًا عن أنها كانت في بدء نشأتها، بحيث لم يستفد بها هؤلاء الرجال الذين ترجمنا لهم، والذين هم خير من أنجب عصرهم، فإن هذه الحركات كانت علميةً لا تُعْنَى بالأدب إلّا القليل.

والنماذج التي أوردناها لهؤلاء الأدباء من شعرٍ ونثرٍ، تفصح عن تعلق أكثرهم بتلك الحلى المتكلفة، والزخارف اللفظية، والمعنوية، والتي تضحي بالفكرة في سبيل المحسن المقصود، والفكرة في ذاتها ضحلة، والخيال يكاد يكون معدومًا، وما بها من معنًى فهو مأخوذ من السابقين، وليته ظهر واضحًا كما ظهر عند المتقدمين من الشعراء، ولكنه توارى تحت ستارٍ كثيفٍ من المحسنات الثقيلة، والنسج ضعيف إلّا القليل.

وأما الأغراض فهي تلك المقاصد التقليدية التي صار عليها الأدباء من قديم، ولم يظهر فيما رأينا أية بادرة للروح القومية ويقظة الشعوب، والأغراض العامة، وإفصاح الشاعر عما يجيش في نفسه هو من حزنٍ وألمٍ، وفرحٍ ولذةٍ، مما يلاقيه في الحياة، بحيث يبدو مستقلًّا في شخصيته عن أميرٍ يُمْدَحُ، أو عظيم يُرْثَى، وربما كان عند بعض شعراء الشام أو العراق في ذلك الوقت -كما رأيت- كلف بالطبيعة ووصفها؛ لأن الشاعر الحساس لا يملك أن يغمض عينه مهما كانت من الضعف، أو ألا ينجذب ذوقه مهما كان عليه من المرض، أمام هذه الطبيعة الفياضة بالفتن والمحاسن في بلاد الشام، والطبيعة ثمة تغري على القول:

تبدل كل آونة لبوسًا

خيال العبقري به يضل

بيد أن وصف الطبيعة، وإن دلَّ على حسٍّ مرهفٍ، وتأثرٍ بجمالٍ، فإن الصياغة والمعاني تئن من الضعف والركة، ولم يلم لهم إلّا القليل مما تبدو عليه آثار العافية والصحة والجمال.

1 مجموع الأخرس، ص88-90، والديوان ص52-54.

ص: 60