المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التأليف في عصر محمد علي: - في الأدب الحديث - جـ ١

[عمر الدسوقي]

الفصل: ‌ التأليف في عصر محمد علي:

5-

‌ التأليف في عصر محمد علي:

رأينا عند الكلام على الترجمة، أن النهضة الحديثة ابتدأت، والبلاد في فقرٍ عقليٍّ شنيع، وظلامٍ مطبقٍ دامسٍ، وليس ثَمَّةَ إلّا بصيص ضئيل من النور يشع من الأزهر، بيد أن أهله كفوا على كتب الأقدمين يدرسونها بطريقتهم العقيمة، ولم يكونوا على علمٍ بما وصلت إليه أوروبا من علمٍ وحضارةٍ، بعد أن جاء نابليون، ومعه العلماء الأفذاذ والباحثون العظام، بل ظلَّ الأزهر كما هو غارقًا في أحلامه القديمة، وإن اعتمد عليه محمد علي في اختيار أعضاء البعثات منه أول الأمر، وأخذت النهضة تسير في طريقٍ مختلفةٍ عن طريق الأزهر، ولم يشأ محمد علي أن يغيِّرَ من نظم الأزهر شيئًا؛ بحيث توافق مقتضيات العصر، وحاجات النهوض، بل أنشأ نظامًا علميًّا جديدًا، هو ذلك النظام المدني في التعليم الذي نجني ثمرته اليوم، وذلك أن تغيير الأزهر وتحويله إلى النظام المدنيّ عملًا شاقًّا، وفيه قضاء على ما للأزهر من سمعةٍ دينيةٍ في نفوس المسلمين في كافة الأقطار، ثم فيه تحدٍّ للشعور الديني الذي كان مسيطرًا على أذهان الناس في الشرق حينذاك.

ولم ير محمد علي بدًّا من الاستعانة بعلماء الأزهر وكتب الأزهر في مدارسه الحديثة؛ إذ لم يكن هنالك علماء في غير الأزهر يصلحون لتدريس اللغة والدين، ولم تؤلف فيهما كتب على النهج الحديث، بل كانت الكتب الأزهرية -على ما بها من غموض، ومع أنها في مستوى أرقى من مستوى المدارس الحديثة- هي الشيء الوحيد في الميدان، ولذلك اضطرت حكومة محمد علي أن تقدم الأجرومية، والسنوسية، والألفية، والشيخ خالد، وغيرها من الكتب إلى مطبعة بولاق، فطبعت منها لأول مرةٍ في مصر آلافًا من النسخ، نشرتها في مدارسها الحديثة، وفي الأزهر نفسه.

ص: 61

ولم يكن في هذه الكتب ما يشوق التلميذ، أو يحبب القراءة إليه، أو يعاونه على تفتق ذهنه، واستكمال عدته للتعلم الثانوي؛ لأنها ألفت في عصور ضعف اللغة، وفيها أمثلة بعيدة كل البعد عن بيئة التلميذ وحياته، وطريقة تأليفها عقيمة؛ إذ لا تتدرج مع معلومات التلميذ، وإنما تفرض فيه العلم من أول سطر، وتعرض أمام مشكلاتٍ في الإعراب والعقائد يخالها طلاسم، ويتبرم بها، ويكاد ييأس، كل هذا في عصرٍ كان الكتاب فيه هو كل شيء أمام التلميذ، وليس له إلّا أن يستظهره، فحفظ كتب الدين واللغة، وأعدته الطريقة فاستظهر كتب الحساب والهندسة، وغيرها من الكتب المعروفة، استعدادًا لاجتياز الامتحان.

ولم يكن المدرسون وحدهم هم الذين استعارتهم مدارس محمد علي من الأزهر، بل كان ثمة طائفةٌ أخرى، اقتضتها طريقة التدريس على يد المترجمين التي ذكرناها آنفًا1، هذه الطائفة هم المصححون الذين يصححون الأخطاء النحوية والأساليب في الكتب التي تنقل إلى اللغة العربية، ولم يكن هذا العمل سهلًا هينًا، فكثير من المترجمين، وبخاصةٍ في السنين الأولى من إنشاء المدارس، كانوا من السوريين، أو غيرهم من المتمصرين كالأرمن والمغاربة، ولا ريب أن لغتهم كانت على شيءٍ كثيرٍ من الضعف، فقلَّمَا وُثِقَ بكتابتهم وترجمتهم، ولا سيما في موادٍّ لم يدروسها من قبل، هذا إلى أن العلوم الحديثة كانت تنقل لأول مرةٍ من اللغات الأوربية إلى اللغة العربية، وقد هجر الأزهر من زمنٍ بعيدٍ دراسة هذه المواد، فاضطروا إلى مراجعة الكتب القديمة في الحساب والفلك والهندسة والطب، وغيرها من التي ترجمت، أو ألفت في العصر العباسي، وذلك لأن مهمتهم لم تكن قاصرةً على تصحيح العبارة اللغوية، بل تعدتها إلى اختيار الكلمات الفنية المناسبة.

وقد أفادت اللغة العربية من عملهم هذا فائدة جليلة، وحين أعجزتهم الترجمة، ولم يهتدو إلى مقابل للكلمة الأجنبية في العربية عمدوا إلى تعريبها، وتركوها كما هي، مع تحريفٍ يسيرٍ يناسب اللسان العربيّ، أو بدون تحريف.

1 راجع ص22 من هذا الكتاب.

ص: 62

وبذلك ازدادت ثروة اللغة العربية، واتسع أمامها المجال لدراسة المواد الحديثة وتعريبها والتأليف فيها، وقد ألف بعضهم في ذلك كتبًا تعين المترجمين والمؤلفين؛ مثل الشيخ: محمد عمر التونسي في كتابه "الشذور الذهبية في الألفاظ الطبية".

كان لابد لمصر في أول نهضتها من الاعتماد على هذا القبس الضئيل الذي يشعُّ من الأزهر، ولقد رأينا إلى أي حدٍّ كان هذا الاعتماد، ولكن حين استطاع نظام محمد علي أن يقف على قدميه، ويؤتي ثمرته، ويتخرج في مدرسة الهندسة والطب وغيرها شبابٌ جمعوا بين الثقافتين، حاول محمد علي أن يتخلص من تأثير الأزهر على نظامه، ورأينا في أخريات عهده محاولةً لتأليف كتب في اللغة والدين على طريقة حديثة، وهذه الكتب وإن لم تبلغ مستوى الكتب الأزهرية في الجودة؛ بحيث يمكنها التغلب عليها، إلّا أنها كانت نزعة إلى التحرر من الأزهر، ورأينا أيضا مدرسي الحساب من خريجي الهندسة، وبعض مدرسي اللغات العربية، يؤخذون من نوباغ المتخرجين في مدرسة الألسن.

وهكذا ابتدأت الهوة تزداد اتساعًا بين تعليم الأزهر والتعليم الحديث، حتى أوشكت الصلة أن تزول فما بينهما، بل رأينا -على العكس- أن الأزهر يقتبس من النظم الجديدة في التعليم، ويحاول الشيخ العروسي شيخ الأزهر في عهد محمد علي، أن يدخل الطب في الأزهر بمعاونة كلوت بك، لولا أن عاجلته المنية.

كان التعليم الحديث في عهد محمد علي بالمجان في كافة المدارس؛ سواء كانت ابتدائية أو ثانوية أو عالية، وكانت الحكومة تنفق على التلاميذ، وتتولَّى أمورهم من مسكنٍ، ومأكلٍ، وملبسٍ، وتجري على كثير منهم الأرزاق والمرتبات، بيد أن الأهالي لم يطمئنوا إلى إسلام أولادهم للمدارس والتعليم في بادئ الأمر، بل نفروا من ذلك نفورًا شديدًا، حتى لجأت الحكومة في بعض الأحيان إلى إدخال التلاميذ في المدارس قسرًا.

ص: 63

ولكن ما لبثت الناس في مصر أن لمسوا فائدة التعليم، وكيف ينقل أولادهم من حال الضعف الجسمي والعقلي والخلقي، إلى مستوًى رفيعٍ من الحياة، فأقلعوا عن المعارضة، بل أقبلوا على التعليم بنفوس راضية.

وقد بلغ عدد التلاميذ في عهد محمد علي بجميع مدارس القطر المصريّ على اختلاف أنواعها، تسعة آلاف تلميذ، تتولى الحكومة النفقة عليهم في كل شيء، وتعطي لهم بعض الرواتب1.

كانت نهضة محمد علي علميةً حربيةً -كما مر بنا؛ لأن البلاد في رأيه لم تكن في حاجة للآداب حاجتها للعلوم والنهوض بالجيش، ومسايرة الحضارة الأوربية العلمية في الطب والهندسة والرياضيات والفنون العسكرية، وكان محمد علي نفسه يؤثر اللغة التركية على اللغة العربية في التعليم أول الأمر، ولكنه اضطر إلى أن يجعل اللغة العربية لغة الدراسة، فكانت هذه الخطوة الأولى في إحياء اللغة، ثم أنشأ مطبعة بولاق سنة 1822 -كما ذكرنا، قد عكفت منذ عصره حتى اليوم على إحياء الكتب القديمة، وإن كان اهتمامها بكتب الآداب في عهد محمد على زهيدًا؛ لأنها كانت في شغل بطبع مؤلفات رجال البعثات في الفنون التي تخصصوا بها، ولم تتجه إلى إحياء التراث العربيّ القديم إلّا في عصر إسماعيل -كما سيأتي.

وأغلب الكتب التي ظهرت في عصر محمد علي كانت كتبًا مترجمةً في شتَّى العلوم والفنون، ولم تؤلف إلّا كتب قليلة ليست ذات شأن، مثل كتب الرحلات التي دَوَّنَ فيها أعضاء البعثات مشاهداتهم بأوربا، ككتاب رفاعة بك "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وما شاكله، أما الكتب العلمية البحتة فكان أغلبها ترجمة، وقد اننتشرت هذه الكتب كثيرًا بتشجيع محمد علي لمترجميها ومكافأتهم مكافأة سخية، وبطبعها على نفقة الدولة في مطبعة بولاق.

1 راجع كتاب "لمحة عامة إلى مصر" تأليف كلوت بك، ج2 ص519، وتاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي، ص451 ج3.

ص: 64

ويروى عن محمد علي أنه لما عاد أعضاء البعثة الأولى إلى مصر استقبلهم بديوانه بالقلعة، وسلَّمَ كلًّا منهم كتابًا بالفرنسية في المادة التي درسها بأوربا، وطلب إليهم أن يترجموا تلك الكتب إلى العربية، وأمر بإبقائهم في القلعة، وألّا يؤذن لهم بمغادرتها حتى يتموا ترجمة ما عهد به إليهم، فترجموها، وأمر بطبعها وتوزيعها على المدارس التي وضعت لها تلك الكتب1.

وكان للوقائع المصرية التي أنشأها محمد علي فضلٌ في تذليل الأسلوب العربيّ للأخبار الصحفية، وكانت على عهده تنشر أخبار الحكومة ومصالحها، وبعض الأنباء الخارجية، وكان يحررها نوابغ العلماء في عهده.

كل هذا ولا شك قد مهد اللغة نوعًا ما للعصر الثاني في النهضة، وهو عصر إسماعيل، وهيأ جيلًا من العلماء والمفكرين، ومحبي الفنون والآداب، قادوا مصر في عهد إسماعيل إلى مدى واسع من الرقيِّ والتعليم.

على أن النهضة السورية اتجهت وجهةً أدبيةً من أول أمرها بخلاف النهضة المصرية، وقد وقفنا على الدوافع التي حولت نهضة مصر إلى وجهة علمية، أما الأسباب التي جعلت نهضة سورية أدبيةً، فهي أن المبشرين كانوا حملة مشاعل تلك النهضة أول الأمر، وكان همهم نشر التعاليم الدينية طبقًا للمذاهب المسيحية الغربية، وقد عنوا بترجمة التوارة، وظلَّ الجدل الدينيُّ مسيطرًا على الصحافة السورية ومجالس الأدب ثمة ردحًا طويلًا من الزمن، ولعل هذا يعلل لنا سبق السوريين في الصحافة، وإتقانهم لإخراجها وتبويبها، وقد ظهرت ثمرة هذا الميل الأدبيّ عند السوريين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولنا إليه عودة.

1 راجع تاريخ الحركة القومية للرافعي، ج3 ص537.

ص: 65