الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الأول
المقدمات
الطبعة الأولى
…
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
مقدمة الطبعة الأولى:
في مستهلِّ القرن التاسع عشر، أخذت مصر والبلاد العربية تستيقظ من سباتٍ طويلٍ، وتفرك عيونًا طالت هجعتها، وتنظر دهشةً إلى دنيا حافلةً بالجديد في نظم العيش، ووسائل التغلب على قوى الطبيعة، وتذليلها للإنسان؛ بالمخترعات الحديثة، وفي نظم الفكر، وعالم المعاني، والآداب، وما خلقه أدباء الغرب من صور ودبجوه من كتب؛ ونظموه من شعر، وسطروه من علمٍ مبنيٍّ على التجارب الممحصة، ومن حقائق مؤيدة بالبراهين الساطعة، منذ ذلك الوقت، ومصر والبلاد العربية تزداد بالغرب صلة، وبأهله تعرفًا، وبحضارته وثقافته ولوعًا، ولم تنس ماضيها وتراثها المجيد من الحضارة والثقافة، فأحيت ما ورثته عن العرب من آداب ضخمة، وأخذت تتناول من القديم، وتتناول من الجديد، وتمزج بين الثقافتين.
وكان اتصالها بالغرب عن طرقٍ كثيرةٍ: فمن بعثات ترى رأي العين، وتتلقى العلم عى أساتذة مختصين ثمة، وتعود فتنقل صورًا جديدةً من العادات والحياة، وأفكارًا وآراءً لم تكن موجودةً من قبل، ومن ترجماتٍ لآثار العلماء الغربيين، ورجال الأدب والفكر والفن والقانون، يطَّلِعُ عليها جمهرة المتعلمين من الشعوب العربية، ويدرسونها فيستقر ما بها من آراءٍ في عقول الناس نتيجة التداول، ومرور الزمن، وتصير من تراث الأمة العقليّ؛ تظهر دون تعمد على ألسنة الخطباء، وعلى أسلات الأقلام، وفي ثنايا الأبيات الشعرية، والصور الفنية، وبذلك يتخذ الأدب والفن لونًا جديدًا يميزه عن العصور السابقة، ويطبعه بطابع خاص.
وكان التعليم المدني الذي وضع محمد علي أسسه في مصر، ونمَّاه إسماعيل، واشتد عوده وآتى أكله بعد ثورتنا القومية في سنة 1919، من أعظم العوامل التي ساعدت على اتصال الشرق بالغرب؛ وكذلك فعلت النهضة التعليمية في سوريا، وفي لبنان على الأخص، ومجهودات الإرساليات التبشيرية في هذا المضمار لا تنكر، وصار الطالب العربي في مدارس القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، حتى وهو في مرحلة الدراسة الثانوية يلم بشيء كثير من الأدب الغربيّ، ويطَّلِعُ على بعض صوره: من قصة، وشعر، ومقالة، وحياة أدباء، ويستوعب كل هذا، ويؤدي فيه امتحانًا، ثم يخزنه في عقله الواعي، أو في عقله غير الواعي؛ ولن يستطيع أن يتخلص من تأثيره حين يتكلم، وحين يكتب، وحين يقرض الشعر، وحين يفكر وحده، دع جانبًا دراسة التخصص في الجامعات، وما تقوم به الهيئات والأفراد من بحوثٍ وترجماتٍ، ونهضة الصحافة والتجديد في مادتها بنقل كثير من ألوان الصحافة الغربية وأبوابها لجمهرة القراء وعامة الشعب.
وليس الغرب أمة واحدة، ذات ثقافة واحدة، ولكنه أمم شتًّى، ولها أذواق مختلفة، وآداب متباينة، ولغات عديدة، ولكل شعب أسلوبه في التفكير، وفلسفةٌ خاصةُ في الحياة، ولم يكن اتصال مصر والبلاد العربية قاصرًا على شعب غربيٍّ دون آخر، بل اتصلنا بكل بلاد الغرب إن لم يكن عن طريق البعثات، فعن طريق الترجمة: اتصلنا بفرنسا، وانجلترا، وألمانيا، وإيطاليا وروسيا، وأسبانيا، والولايات المتحدة، وغيرها، وعرفنا صورًا وألوانًا من آداب كلٍّ، وفلسفة كلٍّ، ولا سيما في الحقبة الأخيرة، بعد ما انتشر الطيران، وازداد العالم اتصالًا بعضه ببعض.
ومن العسير أن نحدد مدى تأثر الأدب العربيّ بكل ثقافةٍ من هذه الثقافات، بيد أننا نستطيع أن نقول على وجه التقريب: إننا تأثرنا بادئ الأمر بالحضارة الفرنسية، فنقلنا عنها كل ما يتصل بأسباب الحياة من طب وهندسة، وعلوم تجاربة، وقانون، وما شاكل هذا؛ وإن مصر تأثرت بالثقافة الإنجليزية، ثم بالثقافة الفرنسية، ثم أخذت ألوانًا من ثقافاتٍ أخرى دون أن يكون لها تأثير كبير، أما لبنان: فبالثقافة الفرنسية، ثم بالثقافة الأمريكية والإنجليزية، ثم سوى ذلك من الثقافات.
هذا التيار الغربيّ القويّ الذي يجري في حياة الأمة العربية العقلية والأدبية، وينافسه تيارٌ آخر حبيبٌ إلى نفوس الأمة، ويمتُّ إلى ماضيها المجيد، ويعرض الشخصيات المألوفة لديها، الأثيرة عندها، التي تبعث فيها العزة والكرامة، وتقوي من شخصيتها، وتزيد في اعتدادها بنفسها، وذلك هو الأدب العربيّ القديم، وهو أدبٌ قويٌ ضخمٌ غاصٌّ بكثيرٍ من آيات الفن ومعجزاته، وهو قريبٌ من نفسية الشعب العربيّ، ويستطيع أن يتمثله بيسر ومسرةٍ، قريبٌ من فكره وعاداته، وعقيدته، ومزاجه، وشعوره، فلا بدع إذا عظم هذا التيار، واشتد وزاحم تيار الثقافة الغربية مزاحمةً عنيفةً.
والأدباء في العالم العربيّ -في خلال قرن من الزمن- قد تباينوا في تأثرهم بهذين التيارين: فمنهم من اقتصر على القديم بحكم ثقافته وبيئته، والعوامل الاجتماعية الخاصة المحيطة به، وإن لم ينج من التأثر بالأفكار الشائعة، والألوان الأدبية المترجمة في الصحف والمجلات، ودور العلم، ولكن غلب القديم عليه في خياله وموضوعه وأسلوبه، وطريقة عرضه؛ ومنهم مَنْ كانت ألوان الثقافة الغربية غالبةً على أدبه، فتقرأ له وكأنما تقرأ لأديبٍ فرنسيّ أو إنجليزيّ يكتب بالعربية؛ ومنهم مَنْ حاول الجمع بين القديم والجديد، فحذق من القديم متانة الأسلوب، وطلاوة العبارة، ووضوح الغرض، وأخذ من الجديد حسن العرض، وطرافة الموضوع، أما الفكرة فتارةً يأخذها من هنا، وتارةً يأخذها من هناك.
هذا، وقد حاول بعض أدباء العربية في السنوات الأخيرة محاكاة المدارس الأدبية الأوروبية، التي نشأت بتطور تلك الأمم في الحياة والمدنية، والتي كانت أثرًا لعوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة.
حاولوا محاكاتها دون أن تحفظهم إلى هذه المحكاة، أو تدفعهم إلى لونٍ خاصٍّ من الأدب دافع قهريةً، كما كان في الغرب، ولكنه حب التجديد، والتقليد للأدب الغربيّ فحسب.
ولذلك رأينا مَنْ يقلِّدُ المدرسة الإبداعية "Romantiame"، ومن يدعي أنه من المدرسة الواقعية "Realisme"، ومن يحاول أن يكون من المدرسة الرمزية "Symbolisme" إلى آخر ما هناك من مدارس.
وأدب هؤلاء المغرقين في التجديد، والمغرمين بالتقليد، هو أدب غربيٌّ صرفٌ، جاء في ثوبٍ عربيٍّ ضعيف النسيج، ملونٌ بألوان صارخةٍ يمجُّهَا الذوق العربيّ.
هذه الأنماط المختلفة من الأدباء، وهذه الألوان المتباينة من الأدب، في عصرٍ ازدحم بالعلوم والثقافات، يجعل مهمة مؤرخ الأدب عسيرةً في تعرف طريقه: في درسها وتقسيمها وحصرها، وإصدار أحكام عامة عليها، وتبيان كل مدرسة، والفريق الذي ينتمي إليها في كل بلاد العروبة، ولا سيما النهضة اليوم عامة، وهناك عشرات من الأدباء اللامعين يستحقون الدراسة، ولابد لمؤرخ الأدب كذلك من التعرض للعوامل السياسية والاجتماعية التي أثَّرت في الأدب العربيّ الحديث، وتتبع نمو هذا الأدب منذ عصر محمد علي، حين كان يحاول التخلص من القيود التي كُبِّلَ بها في عصور الانحطاط، إلى أن قوي، ووقف على قدميه حرًّا طليقًا، ثم إلى أن صار ماردًا عملاقًا في جيلنا الحاضر.
وأشهد أن هذا العمل الضخم يحتاج إلى دراساتٍ واسعةٍ قبل أن يَتِمَّ ويصيرَ عملًا تاريخيًّا علميًّا له قيمته: فمن دراسةٍ لتأثر الشعر العربيّ الحديث بالثقافة الغربية؛ من حيث الفكرة والخيال، والغرض والصورة، ومن دراسةٍ للكلمات الدخيلة والمعربة التي استعملها الأدباء، ومن دراسةٍ لتطور القصة في الأدب العربيّ قديمًا وحديثًا، ومن دراسةٍ للأساليب الأدبية المتأثرة بالأساليب الغربية، ومن دراسةٍ لتطور النثر العربيّ، وأدب المقالة، إلى غير ذلك من الدراسات المنظمة المسهبة التي تأخذ جزءًا خاصًّا من هذا العمل الضخم، وتبحثه وتصدر عليه أحكامًا مدعومةً بالأدلة والنماذج، لتعين مؤرخ الأدب حين يتعرض إلى المدارس الأدبية في العصر الحديث، ورجال كل مدرسة.
ولست أزعم أنني ضليعٌ بهذا العبء وحدي، وأنني حين أقدم هذا الكتاب للقارئ العربيّ قمت بهذه الدراسات المستفيضة، وانتهيت من الأحكام العامة التي تؤدي إليها هذه الدراسات، ولكن هذا الكتاب ليس إلّا محاضراتٍ ألقيتها على طلبة كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وحاولت أن أعرض عليهم فيها نماذج من هذه التيارات المتباينة في الأدب الحديث، وأسرد عليهم فيها كيف نما هذا الأدب وتطوّر، في إجمالٍ واختصارٍ.
وقد ألحُّوا عليَّ إلحاحًا شديدًا في أن أقدمه للمطبعة، حتى ينتفعوا به، وينتفع غيرهم فيما يزعمون، ولقد ترددت طويلًا قبل أن أستجيب لرغبتهم، لاعتقادي أن هذا العمل يتطلب جهدًا عنيفًا، ووقتًا طويلًا، وأن الأولى به أن يظل دراسةً حتى تستوفي عدتها، وتكمل أهبتها، وتوضع في قالبها على صورة كتاب.
فإنا لا أعفي كتابي هذا من التقصير، وإذا لم يستوعب الأدب الحديث ومدارسه، وكل الشخصيات الأدبية الجديرة بالدرس، فإني أول المعترفين بذلك، والمعتذرين عن تقصيره، والذي يشفع لي عند القراء أنها محاولة لدرس الأدب الحديث؛ علَّ فيهم مَنْ يكون أقوى مني منه، وأطول باعًا، فيستوفي الموضوع، ويلمَّ بكل أطرافه، أو يكون فيهم مَنْ تستهويه ناحية خاصة، أو أديب بعينه؛ فيتخذه مجالًا لدراسته، وتزويد المكتبة العربية بها، فيعين على تحديد معالم أدبنا المعاصر.
وبعد، فإن المعاصرة حجاب، وقد أتعرض في كتابي هذا بالنقد لبعض الأحياء من الأدباء، والتعريف بآثارهم الأدبية، وقد يكون في كلامي ما لا يروقهم، أو يثقل عليهم، ولكني سألزم نفسي قول الحقِّ مجردًا عن الأهواء والغايات، ثم إني مجتهدٌ، فإن أصبت فلي ثوابان، وإلّا فلن أعدم ثواب الاجتهاد، ولن تحول المعاصرة بيني وبين تقرير الحقيقة، والله الموفق للصواب.
عمر الدسوقي.
مقدمة
الطبعة السابعة:
لم أزل منذ صدرت الطبعة الأولى لهذا الجزء من الكتاب عام 1948، أواصل دراسة الأدب الحديث، وأبحث عن مصادره، وقد تسنَّى لي في هذه الحقبة الاطلاع على كثير من المراجع، وإني أتقدم اليوم بالطبعة السابعة إلى قراء العربية، وفيها زياداتٌ كثيرةٌ في كل بابٍ من أبواب الكتاب، وإفاضةٌ في تراجم الشعراء والكتاب.
على أن هذه المرحلة من الأدب الحديث لا تزال في حاجةٍ إلى الدراسة، واستقصاء المصادر، حتى تظهر واضحةً مجلوَّةً لدارس الأدب، فلست أزعم أن الكتاب قد بلغ الكمال أو قاربه، وإني سأظل عاكفًا على الاستزادة من الأدب الحديث، حتى أبلغ بالكتاب الغاية التي أصبو إليها -إن شاء الله.
ومما يحفزني على ذلك، ما وجدته في جمهرة القراء من تشجيع؛ حتى نفدت الطبعات السابقة في أمدٍ وجيزٍ، على الرغم مما تلاقيه الكتب الأدبية من انصراف عنها، وزهد فيها، وإني أقابل هذا التشجيع بالشكر راجيًا أن يوفقني الله إلى إرضاء العلم وجمهور الأدباء، وطلاب البحث، والله الموفق للصواب.
عمر الدسوقي.
الفصل الأول: البعث
مدخل
…
الفصل الأول: البعث
1-
قبيل البعث:
ظلت مصر وبلاد العروبة ثلاثة قرونٍ تحت حكم الأتراك، وهي في ظلامٍ دامسٍ، وجهلٍ فاضحٍ، تعاني مرارة الظلم، وقسوة البغي.
قَلِّبْ ما شئت من أسفار التاريخ، فلن ترى إلّا صفحاتٍ سوداء قاتمة، تنبعث منها روائح الاستبداد والبطش، وستسمع صراخ المظلومين يضم الآذان، وتلمح دماء الفلاحين في كل صقع تسيل تحت سياط الجباة، وتتمثل لك بلاد العروبة تخنقها يدٌ غاشمةٌ، أصابعها: الفقر، والمرض، والجهل، والذلة، والانحلال.
لم يكن لولاة الأتراك هَمٌّ إلّا استدرار الأموال بأية وسيلة، غير معيرين صرخاتِ الشعوب العربية التفاتًا، وغير مهتمين بما يقاسونه من ضنكٍ وبؤسٍ وفاقةٍ وجهلٍ، واشتد الخلف بين أمراء المماليك، وسلبوا الوالي سلطته، وشنوها حربًا شعواء كلٌّ على أخيه، ينازعه السلطة والجاه، والضحية في هذا النزاع كله هُمْ أبناء البلاد، فلا غرو إذا أقفرت من أهلها، وقد جاء القرن التاسع عشر، وسكان مصر أقل من ثلاثة ملايين، أكثرهم من العرب المسلمين، ويليهم الأقباط، ثم الأتراك، وكان الحاكم يفيد من الأستانة، ويقيم بالقلعة، ويدعو للخليفة، ويضرب باسمه النقود.
ولكن السلطة الفعلية كانت في يد المماليك، وهم أخلاطٌ من الأتراك والشراكسة، وجميع ثروة البلاد وإداراتها في أيديهم، ولم يكن لهم عصبية؛ لأنهم لم يتوارثوا الملك إلّا نادرًا، وإنما الغلبة للقوي، فضربةٌ موفقةٌ من حسام أحدهم، تكسبه الصدارة بين أبناء جلدته، ولم يكن حظه السعيد يغير من أخلاقه، فهو في منصب الوالي تتقمصه روح العبد الوضيع، وليس له من هَمٍّ إلّا الاستيلاء على النساء والخيل والأموال.
وكان الفلاح المسكين يُغْزَى وتُنْهَبُ أمواله، ولم يكن التاجر المصريّ أو الأوروبيّ الغريب بأحسن منه حالًا1، ولا ريب في أن الحالة الاجتماعية والأدبية تتأثر إلى حَدٍّ كبيرٍ بالحالة السياسية: فرعيةٌ هُمْلٌ، ورعاةٌ مستبدون، وهيهات أن يكون للأدب نصيبٌ في مثل هذه البيئة الجاهلة.
وقد زار "فولني" الرَّحَّالة الفرنسيّ مصر، وبلاد الشرق العربيّ، وتركيا، في أخريات القرن الثامن عشر، فراعه ما بها من جهلٍ مطبقٍ، وفسادٍ شائع، وهو في هذا يقول:"الجهل عامٌّ في هذه البلاد، وفي كل بلد تابع لتركيا، وقد عَمَّ كل الطبقات، ويتجلى في كل العوامل الأدبية، وفي الفنون الجميلة، حتى الصناعات اليدوية تراها في حالةٍ بدائيةٍ، ويندر أن تجد في القاهرة من يصلح الساعة، وإذا وُجِدَ فهو أجنبيّ".
ويقول في موضعٍ آخر: "ولَّى عصر الخلفاء، وليس من الأتراك أو العرب اليوم علماء في الرياضيات أو الفلك، أو الموسيقى، أو الطب، ويندر فيهم من يحسن الحجامة، ويستخدمون النار في الكيّ، وإذا عثروا بمتطببٍ أجنبيٍّ عدُّوه من آلهة الطب، وصار علم الفلك والنجوم شعوذةً وتنجيمًا، وإذا قيل لعلمائهم ورهبانهم: إن الأرض تدور، عدُّوا ذلك كفرًا؛ لأنه -في زعمهم- يخالف كتب الديانات".
ولم تكن تركيا أحسن حالًا من البلاد الخاضعة لسلطانها، وحسبك أنه حينما أراد بعض النابهين من الأتراك في القرن الثامن عشر2 إدخال المطبعة لأول مرةٍ في تركيا، وجَدٍّ من ولاة الأمور، وجمهور الشعب عنتًا وإرهاقًا، واضطر إلى استصدار فتوى شرعية، بعد أن بذل إبراهيم بك صهر السلطان مجهودًا كبيرًا، وقد سمحت الفتوى بطبع الكتب غير الدينية، ثم أفتى علماء الشرع بعد ذلك -حين ظهرت فائدة المطبعة- بطبع كتب الدين اعتمادًا على أن الأمور بمقاصدها".
1 The Begining of the Egyptian question and the Rise of Mohamed Ali by prof Shafik Cherbal. p.2.
2 هو محمد حلبي، سفير الدولة العثمانية بباريس.
وقد حرم الأتراك مصر أغلى كنوزها؛ فنقولوا أكثر الكتب التي كانت بخزائن المدارس إلى بلادهم، ثم نقلوا كثيرًا من العلما، والأدباء، والأمراء، والمهندسين، والورّاقين، وأرباب الحرف، وقد ذكر ابن إياس أسماء كثير من هؤلاء، وقال: إنهم يبلغون ألفًا وثمانمائة، وصادفهم النحس، فغرقت بهم بعض السفن التي كانت تقلهم، فمات كثير منهم، مع أن ابن إياس1، أرَّخ لمصر حتى أوائل الاحتلال العثماني، ولم يشهد الاحتلال في أوج جبروته، وما جرَّه على البلاد من نكباتٍ.
وكان من نتائج هذا الاحتلال كذلك: أن قلت أموال الأوقاف التي كانت محبوسةً على العلماء وطلبة العلم، فتفرق الطلاب، وانفضت سوق العلم، ولم يبق منه إلّا ذماء يسير بالأزهر، ومن البديهيّ أن اللغة العربية لم تجد في هذا العصر المظلم من يشد أزرها، ويثيب الشعراء والكتاب المحتفين بها؛ لأن اللغة التركية طغت وصارت اللغة الرسمية في الدواوين، وفشت على ألسنة الناس، ولأن الحكام لا يفهمون العربية، ولا يقدرونها قدرها، ولا يميزون بين الجيد والغَثِّ من الكلام، حتى يلجأ إليهم الشعراء مادحين.
ولم يعد في استطاعة كثيرٍ من الكُتَّاب أن يسلموا من اللحن الفاحش، أو يأتوا بالمفهوم المقبول، بل عَزَّ عليهم اللفظ الجزل والأسلوب القويّ، فلجئوا للزخرف والمحسنات يخفون بها عوار كلامهم، وقد أكثروا من هذه الحلى اللفظية حتى استغلق الكلام، وأتوا بالغَثِّ السَّمَجِ الذي إن حَسُنَ فيه شيءٌ، كالسرقة واغتصابًا من آثار من سبقوهم من الكُتَّابِ.
وحسبنا أن نقدم بعض نماذج دليلًا على ما وصلت إليه اللغة وآدابها نثرًا ونظمًا من الركة والضعف.
1 هو ابن إياس الجركسيّ الحنبليّ، من رجال القرن التاسع والعاشر للهجرة، وله كتاب "بدائع الزهور في وقاع الدهور" دَوَّنَ فيه تاريخ مصر حتى سنة 248هـ 1521م، ولغته ضعيفة أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى.
1-
قال عبد الوهّاب الحلبيّ في رسالة إلى الشهاب الخفاجيّ:
"لقد طفحت أفئدة العلماء بشرًا، وارتاحت أسرار الكاتبين سرًّا وجهرًا، وأفعمت من المسرة صدور الصدور، وطارت الفضائل بأجنحة السرور، بيمن قدوم مَن اخضرت رياض التحقيق بإقدامه، وغرقت بحار التدقيق من سحائب أقلامه".
2-
قال عبد الرحمن الجبرتي، من النثر المرسل مبينًا نشأة مدرسة الهندسة في عهد محمد علي:
"لمَّا رغب الباشا في إنشاء محلٍّ لمعرفة علم الحساب والهندسة والمساحة، تعيَّنَ المترجم رئيسًا ومعلمًا لمن يكون متعلمًا بذلك المكتب، وذلك أنه تداخل بتحيلاته؛ لتعليم مماليك الباشا الكتابة والحساب ونحو ذلك، ورتَّبَ له خروجًا وشهريًّا، ونجب تحت يده المماليك في معرفة الحسابيات ونحوها، وأعجب الباشا ذلك فذاكره، وحسن له بأن يفرد مكانًا للتعليم، ويضم إلى مماليكه مَنْ يريد التعليم من أولاد الناس، فأمر بإنشاء ذلك المكتب، وأحضر له أشياء من آلات الهندسة والمساحة والهيئة الفلكية من بلاد الإنكليز وغيرهم".
3-
ولم يكن الشعر -إذا صح أن نسميه شعرًا- أرقى حالًا من النثر، وإنما كان صناعةً لفظيةً غثَّةً.
وهاك مثلًا مما قاله عبد الله الشبراوي1، يرثي أحمد الدلنجاوي، المتوفى سنة 1123هـ:
سألت الشعر هل لك من صديقٍ
…
وقد سكن الدلنجاوي لحده
فصاح وخَرَّ مغشيًّا عليه
…
وأصبح ساكنًا في القبر عنده
فقلت لما أراد الشعر أقصر
…
فقد أرَّختُ مات الشعر بعده
441 601 81
1 كان عبد الله الشبراوي من أكابر شيوخ الأزهر، واشتهر بقوله هذا النوع من الشعر، وتوفي سنة 1172هـ.
ومن ذلك قول الشهاب الخفاجي1:
فديتك يا مَنْ بالشجاعة يرتدي
…
وليس لغير السمر في الحرب يغرس
فإن عشق الناس المها وعيونها
…
من الدل في روض المحاسن تنعس
فدرعك قد ضمتك ضمة عاشق
…
وصارت جميعًا أعينًا لك تحرس
ومن هذه النماذج المتقدمة للأدب قبيل النهضة، ندرك كيف كان النهوض صعبًا بطيئًا، ويحتاج إلى عناءٍ طويلٍ، وصبرٍ كثيرٍ، وزمنٍ مديدٍ ليبلغ أشده ويؤتي أكله.
2-
البعث:
هبَّت مصر من سباتها العميق فزعةً مذعورةً حين دوَّت في آفاقها مدافع نابليون سنة 1798م، وأخذت تقلب الطرف دهشةً في هذه الجيوش العجيبة، والوجوه الغريبة، فكان ذلك أول عهدها بالفرنجة منذ عصر صلاح الدين الأيوبي. ولكن شتَّان بين العهدين، ففي الأول كانت قويةً عزيزةً لا تزال فيها أثارةٌ من علم وأدب، وكانت أوربا لا تزال تتحسس طريقها نحو النور؛ فاقتبست من مهد العروبة، وأفادت علمًا وحضارةً، وأخذت ترقى صُعُدًا في سلم المدنية بخطواتٍ ثابتةٍ سريعةٍ، بينما أخذت مصر تهوي وتنحدر رويدًا رويدًا، ويتراكم عليها الجهل والغفلة حتى جاءها "نابليون" وهي في الدرك الأسفل.
اصطحب "نابليون" معه كل عدد الاستعمار والاستغلال والإيقاظ، وكانت دهشة المصريين جدَّ عظيمةٍ مما رأوا من مظاهر هذه المدينة؛ إذ أنشأ نابليون مسرحًا للتمثيل، كانوا يمثلون فيه روايةً فرنسيةً كل عشر ليالٍ، ومدارس لأولاد الفرنسيين، وجريدتين، ومصانع، ومعملًا للورق، وأسس
1 هو أحمد بن محمد بن شهاب الدين الخفاجيّ المصريّ، ولد بسرياقوس، وتَلَقَّى دروسه بالقاهرة، ثم رحل مع أبيه إلى الحرمين، ثم الأستانة، ثم عُيِّنَ قاضيًا للعسكر بمصر، ثم استقال، وسافر إلى دمشق فحلب فالأستانة، وتوفي سنة 1069هـ، ومن أشهر مؤلفاته:"ريحانة الألباب" يشتمل على تراجم أدباء عصره، ثم "شفاء الغليل بما في لغة العرب من الدخيل".
مراصد فلكية، وأماكن للأبحاث الرياضية، والنقش والتصوير في حارة الناصرية، وأسس مكتبة عامة، وقد جمعت بعض كتبها من المساجد والأضرحة، وفيها كثيرٌ من الكتب الفرنسية التي أحضرتها الحملة معها ليفد إليها كل من يريد المطالعة، وكان القائمون بأمرها يرحبون بمن يدخلها من المصريين، وكان بها عدد كبير من الكتب العربية، وأنشأ المَجْمَعَ العلميَّ المصريَّ على نظام المَجْمَعْ العلميِّ الفرنسيِّ، في أغسطس سنة 1798، وكان من أغراضه:
1-
نشر المدنية، وبعث العلوم والمعارف بمصر.
2-
دراسة المسائل والأبحاث التاريخية والطبيعية والصناعية، ونشر هذه الأبحاث في مجلة المَجْمَعِ التي تنشأ لهذا الغرض.
3-
إبداء رأيه في الأمور التي تستشيره فيها الحكومة.
وكان المجمع يتألف من أربعة أقسام: قسم الرياضيات، وقسم الطبيعيات، وقسم الاقتصاد السياسيّ، وقسم الآداب والفنون، ويتألف كلُّ قسمٍ من اثني عشر عضوًا.
وقد أفاد هذا المجمع مصر والتاريخ بآثاره وأعمال رجاله، وصارت أبحاث أعضائه هي النواة الأولى لكل بحث خاصٍّ بمصر، ولا بدع إذا ظلَّ المجمع العلميّ هو الأثر الباقي حتى اليوم من آثار حملة نابليون، وذلك لجليل فائدته، وهذا ما دعا بعض المؤرخين إلى القول بأن حملة نابليون على مصر، كانت علميَّةً أكثر منها حربيةً1:
وبذل الفرنسيون غاية جهدهم في تقريب المصريين إليهم، وترغيبهم في أسباب الحضارة، وفي الجبرتي وصفٌ مستفيضٌ لكل هذا، حتى موائد الفرنسيين، وكيف يأكلون ويشربون ويلبسون، وما شاهده من سائر أعمالهم العلمية والكيمائية، وكتبهم المصورة وأدواتهم، وهو يمثِّلً بدهشته هذه حالَ كلِّ عربيٍّ في أيامه.
1 تاريخ مصر السياسيّ، لمحمد رفعت ج1 ص39.
ولقد ظَنَّ كثيرٌ ممن شاهدوا التجارب العلمية التي أجراها الفرنسيون في معاملهم سحرًا1، بيد أن كل هذا ذهب بذهابهم سنة 1801م.
كانت حملة نابليون هزةً عنيفةً لمصر، أيقظتها من سباتهات الطويل العميق، وبيَّنَت لها أنها تعيش في عالمٍ آخر، وأن الدنيا تسير، وأهلها واقفون غارقون في أحلامهم، يجترون ماضيهم، ولا يدركون مساويهم، ويظنون أنهم الناس وأن غيرهم لا شيء.
وقد نَظَّمَ نابليون شئون مصر الداخلية تنظيمًا حسنًا، يشهد له بالنبوغ الإدرايّ، فوق نبوغه الحربيِّ، على الرغم من قصر المدة التي أقامها بمصر، فأنشأ الدواوين في مصر والمدن الكبرى، وانتخب لها أكفأ المصريين، واختيار من بين المصريين المسيحيين رجال المالية والإدارة، بيد أن شراسة رجال الحملة، واستهتارهم بالشعب المصريّ، ودينه وتقاليده، وانتهاكهم حرمات الأهالي جهارًا، ونهبهم القرى الآمنة، وإفزاع أهلها، وفرض الضرائب على الأوقاف الخيرية التي كان يصرف ريعها على المساجد وطلاب العلم، وفرضها كذلك على المنازل، جعل كل قلوب المصريين تنفر من نابليون وإصلاحاته، وعلمه، وتنظر إليه نظرة الغاصب المستبد، ولقد ثار المصريون في أكتوبر سنة 1798؛ فأخمد ثورتهم في قسوةٍ عارمةٍ، وعنفٍ وغلظةٍ، وانتهك حرمة المساجد الإسلامية2، وعبثًا حاول بعد ذلك أن يتألف قلوبهم، أو يستميلهم إلى المدنية الغربية، وإن كلفوا بها بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر، واتخذوا ما وضعه لهم أساسًا للإصلاح الداخليّ2.
1 وصف الجبرتي بعض ما رآه في أحد هذه المعامل بقوله: "ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان، أن بعض المتقدمين لذلك، أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة، فصبَّ منها شيئًا في كأسٍ، ثُمَّ صَبَّ عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعلَا الماء وصعد منه دخان ملون حتى انقطع، وجَفَّ ما في الكاس، وصار حجرًا أصفر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا، أخذناه بأيدينا ونظرناه، ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرًا أزرق، وبأخرى فجمد حجرًا ياقوتيًّا".
2 Professor Shafik Gherbal. pp. 73.5.
3 لمحة عامة إلى مصر، لكلوت بك، ج2، ص255-268.
وفي ذلك يقول المؤرخ الإنجليزي ألجود "Elgood":
"لقد ترك الاحتلال الفرنسيُّ في مصر أثرًا لا يمحى، فقد ظلَّ المصريون يعجبون بنابليون بعد خروجه من ديارهم، وظلَّت طرق الإدراة الفرنسية مهيمنةً على حكومة مصر، وظلَّت عادات التفكير الفرنسية تسيطر على الطبقة المستنيرة بمصر، وإنَّ ما خَلَّفَته الحملة الفرنسية في مصر خلال ثلاثة أعوام لاغير، لمن أضخم ما يتسنى إنجازه في هذا الأمد الوجيز1".
ثم أتيحت لمصر الفرصة لكي تنهض وتتبوأ مركزها بين أمم العالم المتمدين، باستيلاء محمد علي على عرش مصر، وحاول أن ينشئ دولةً قويةً خالصةً لنفسه ولذريته من بعده، فأفادت مصر من مجهوداته في هذا السبيل، وإن حكمها حكمًا استبداديًّا خالصًا.
كان محمد علي طموحًا، يريد أن يرى مصر ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها، لا تقل في حضارتها وقوتها عن دول أوروبا، فوضع أسس نهضةٍ شاملةٍ: في الجيش، والصناعة، والزراعة، والتعليم، والإدارة، حتى يكون البعث عامًّا، يدفع بعضه بعضًا، ولا يعنينا في مقامنا هذا إلّا ما يَمَسُّ اللغة والأدب.
وقد وجد محمد علي أن خير وسيلةٍ تنهض بالشعب المصريّ وترفعه إلى مستوى الأمم الناهضة، الاهتمام بالتعليم، وقد سلك في سبيل تعليم الشعب كلَّ الطرق الناجحة: فمن بعثاتٍ وطباعةٍ، وفتح مدارس، ونقل آثار الأمم الغربية في العلوم والآداب، وتأسيس الصحافة لتنير الحياة أمام الشعب.
البعثات:
جاء محمد علي إلى مصر جنديًّا في الحملة التي اشتركت في إخراج الفرنسيين منها سنة 1801م، ولم يمض عليه أربع سنواتٍ حتى استولى على مصر سنة 1805م؛ بعد أن ثار المصريون بقيادة الزعيم العالم السيد عمر مكرم على واليهم التركيّ خورشيد لعسفه واستبداده؛ فقرروا عزله.
1 The Transit of Egypt.by P.G. Eigood. P. Edward & Co. Londor 1928.
وكان محمد علي قد تقرَّبَ إليهم، وأظهر حرصًا على استرضائهم، والاستجابة لكلِّ ما يأمرون به، والخضوع لهم، فاغتروا بمظهره وخداعه، وبايعوه بالولاية، وعلى رأسهم زعيم مصر الشعبيّ السيد عمر مكرم، ولكنه ما لبث أن تَنَكَّرَ لهذا الزعيم الذي وضع بين يديه عرش مصر، خوفًا من منافسته، وتخلُّصًا من رقابته، وحسدًا لمكانته فنفاه.
ورأي كذلك أنه لن يستقيم له الأمر حتى يقضي على المماليك لتمردهم وكثرة شغبهم، فأبادهم1؛ وأنه لابد له من جيشٍ قويٍّ يُقِرُّ به الأمن، ويصون هيبة الحكم في الداخل، ويدفع به غارة المغيرين من الخارج، فانتدب طائفةً من أساتذة الفنون العسكرية بأوروبا، وأرسلهم مع مماليكه إلى أطراف الصعيد؛ ليدربوهم هناك.
وفي سنة 1815 أسس مدرسةً حربيةً إعداديةً، واتخذ لها قصر ابن العيني مكانًا، وكان كل تلامذتها في أول الأمر من غير المصريين، إلّا أنهم لم ينجحوا، فالتفت إلى المصريين، ونقلها إلى أبي زعبل، وأكثر بها من الأساتذة الفرنسيين؛ وتعجلًا للفائدة، كان قد سبق وأرسل في سنة 1813 طائفةً من شبان المماليك لدارسة الفنون العسكرية بإيطاليا، وفي سنة 1818 أرسل بعثةً أخرى إلى انجلترا؛ لدارسة علم الحيل "الميكانيكا" وغيرها.
ورأى محمد علي أن الجيش في حاجةٍ إلى أطباء يأسون جراحات الجند، ويقاومون الأوبئة، ويعنون بالمرضى، وأن الطب لا أثر له ألبتة، فخاصة المصريين كانوا يعتمدون في هذا على المأثور من نسخ الأدوية في الكتب القديمة، وعلى ما تمخضت عنه التجارب، ومنها الكيّ والحجامة، وأما الدهماء فكانوا في عامة شأنهم يعوذون بمدعي الطب من الدجالين والمشعوذين والسحرة، أو يقنعون من طلب الاستشفاء بزيارة الأضرحة، فأنشأ في سنة 1826 مدرسة الطبِّ في جهة أبي زعبل، وأقام بجوارها مستشفًى كبيرًا لمعالجة المرضى، ولتمرين الطلبة، واستقدم لها أساتذة من الغرب؛ وجعل رياستها إلى الدكتور "كلوت بك الفرنسيّ".
1 احتال عليهم ودعاهم إلى وليمة بالقلعة -وكانت مقر الوالي حينذاك- ثم أوقع بهم بعد أم أمنوا، فقضى عليهم، وكان ذلك في سنة 1226هـ 1811م.
وكان الطلاب في هذه المدرسة من المصريين وغيرهم، واختير كثير من أولئك من بين نوابغ طلاب الأزهر، ثم نقلت هذه المدرسة إلى قصر ابن العيني في سنة 1838.
وقد كان لمدرسة الطب أثرٌ لا يُنْكَرُ في بعث اللغة العربية والنهوض بها، واتصالها بالعلم الحديث؛ لأن فصيح اللغة فوق أنه قد غُمَّ على الناس وعلى المصريين بخاصةٍ من عهد بعيد، وأن آدابها ومظاهر بلاغتها قد دَبَّ إليها الضعف والانحلال إلى حدٍّ كبيرٍ، فإنها قد تخلفت عن متابعة العلم حقبًا طويلةً؛ فلما استوى العلم وأدرك، إذا هو في وادٍ، وإذا حظّ الناس من لغة العرب في وادٍ آخر.
وحين فوجئت مصر بهذه العلوم التي حذقها الغرب منذ عدة قرون، تشايعها الألفاظ هناك، وتدارجها الصيغ، وتطبع لها المصطلحات التي تهيئها الهيئات العلمية المنظمة، تبين العسر أشد العسر في تعليم هذه العلوم الحديثة لطلابٍ يجهلون لغات أهلها، وخاصةٍ من معلمين لا يعرفون العربية، ولو عرفوها ما تهيأ لهم أن يدرسوا بها لعجزها عن أداء الكثير والقليل مما تهيأ لهم أن تؤديه، ليس في متناول اليد، بل إنه يحتاج إلى كثرة مراجعة، وشدة تنقيب، ويحتاج إلى علماء عندهم شغف بالاطلاع، ورغبة في البحث، وجَلَدٌ على العمل؛ لهذا دعت الضرورة أول الأمر أن يقام بين الأساتذة وتلاميذهم جماعةٌ من المترجمين، يستمعون الدرس في اللغات الأجنبية، ثم يؤدونه إلى هؤلاء بالعربية، وكان هؤلاء المترجمون من المغاربة والسوريين والأرمن وغيرهم.
ولقد عانوا كثيرًا في القيام بهذه المهمة الشاقة، ولكن كان علمهم هذا أول دعامةٍ في صرح النهضة الحديثة، فلقد حفَّزَّهم ذلك إلى مراجعة معجمات اللغة، والكتب الفنية القديمة؛ كمفردات ابن البيطار، وقانون ابن سينا، وكليات ابن رشد، وغيرها من الكتب العربية لاستخراج المصطلحات العلمية، أو لصياغة ما يؤدي مطالب العلم الحديث، إذا عجز القديم عن أدائه، وإذا كانت قد غلبتهم الألفاظ الأجنبية في كثيرٍ من الأحيان، ففضلهم في عقد الصلة بين الشرق والغرب لا يجحد.
رأى محمد علي أن تشمل نهضته جميع نواحي الحياة؛ فأكثر من إنشاء المدارس العالية والابتدائية، وقد بدأ بالمدارس العالية، وكان على حقٍّ فيما فعل؛ حتى يجد بجنبه جماعةً من المتخصصين في المواد المختلفة، يشرفون على مراحل التعليم الأخرى، ويسيرون بالنهضة سريعًا، فأسَّسَ مدرسةً للصيدلية، وأخرى للهندسة في القلعة، ثم نقلت إلى بولاق، ومدرسةً للولادة والتمريض، ورأى أن الحاجة ماسَّةً إلى أساتذة متخصصين عالمين بعلوم الغرب وثقافته، فجلب الأساتذة من فرنسا في كل فنٍّ من الفنون، ولكنه أدرك أن النهضة الحقة لا تتم إلّا على يد أبناء البلاد، فأكثر من البعثات، وفي سنة 1826 أرسل بعثةً إلى فرنسا، عدتها أربعة وأربعون طالبًا، ذكر أسماؤهم "المسيو جومار"1 -وقد عهد إليه محمد علي بالإشراف على بعثاته- في المجلة الأسيوية، Journal -Asiatipue 2 وقد تخصصوا في شتَّى العلوم والفنون: من حقوق، وعلوم سياسية، وهندسة حربية، وطب، وزراعة، وتاريخ طبيعيٍّ، وميكانيكا، وكيمياء، وطباعة، وحفر، وغير ذلك مما استلزمته النهضة الحديثة، ومن أشهرهم وأعظمهم أثرًا، إمام البعثة الشيخ: رفاعة الطهطاوي، وسنترجم له فيما بعد لجليل قدره وعظم أياديه على الترجمة والنهضة والأدبية.
ثم توالت البعثات، ومن أشهرها البعثة الطبية الكبرى في سنة 1832، وقد اختير طلبتها من نابهي مدرسة الطب المصرية، ومن نوابغ رجالها محمد علي البقلي، وفي سنة 1844 أرسلت بعثةٌ ضمَّت خمسةً من أمراء أسرة محمد علي، ومنهم الأمير إسماعيل3، ولذا سميت ببعثة الأنجال، وهي أكبر بعثات محمد علي، وآخر بعثاته الكبرى، وقد اختار تلامذتها سليمان باشا الفرنساوي من نوابغ تلاميذ المدرس المصرية، ومن أجل هذه البعثة فتح محمد علي مدرسةً بباريس، ومن أشهر رجالها علي مبارك باشا، وحسن أفلاطون باشا، ومحمد عارف باشا، ومحمد شريف باشا.
1 كان مهندسًا في الجيش الفرنسيّ بمصر، وعضوًا في المجمع العلميِّ أيام حملة نابليون.
2 عدد أغسطس سنة 1828 ص109.
3 الخديوي إسماعيل فيما بعد.
وقد أرسل محمد علي إحدى عشرة بعثةً، آخرها سنة 1847، وكان شديد العناية بأعضاء البعثات، يتقصى أنباءهم، ويشرف على دراستهم باهتمام، ويكتب لهم من حينٍ لآخر رسائل يستحثهم فيها على العمل والاجتهاد، وينبههم إلى واجباتهم؛ وذلك لشدة حاجته في نهضته إلى من يقف بجانبه، وينفذ مشروعاته الضخمة، وقد ذكر رفاعة الطهطاوي نموذجًا من الرسائل التي وجهها محمد علي إلى طلبة البعثات، ويوبخهم فيها على تقصيرهم، ويحثهم على الاجتهاد، وبتعجلهم في قطف ثمار تحصيلهم1.
كان لهذه البعثات كلها أثرٌ بالغٌ في تقدُّم مصر ونهضتها، وإرسال نور العلم دافقًا قويًّا في ربوعها، كما كان لها أعظم الفضل في إحياء اللغة، وجعلها مسايرةً للعلم الحديث، بما ترجم أعضاؤها من كتبٍ، وما أدخلوه من مصطلحات، وما ألفوه في شتَّى نواحي العلم.
الترجمة:
اقتضت النهضة أن تنقل كنوز الغرب إلى اللغة العربية، فأسست في سنة 1836 مدرسة الإدارة والألسن، وعهد بالإشراف عليها لرفاعة الطهطاوي، ولما كان تاريخها مرتبطًا به، ونهضة الترجمة في عصر محمد علي وخلفائه ثمرة جده وكده، رأينا أن نترجم له ترجمةً موجزةً، فحياته حياة مدرسة الإدارة والألسن: لأنها وجدت بفضله، وانتهت بخروجه منها.
1 راجع الرسالة: في تخليص الإبريز لتلخيص باريز، لرفاعة بك ص151، وفي تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي ج3 ص455.
رفاعة الطهطاوي:
1801-1873
هو إمام النهضة العلمية في مصر الحديثة غير مدافع، وهبه الله لمصركي يزوّدها بنور العلم؛ فكان مشعلًا ساطعًا بدَّدَ الجهل وسُدْفَته، وأنار الطريق لآلاف العقول والقلوب، ووضع اللبنات الأولى القوية في صرح ثقافتنا الحديثة.
أُوتِيَ القلب الذكي، والعقل الصافي، والنشاط الموفور، والبصيرة النفاذة، والعزيمة المبرمة؛ فما أضاع ساعةً منذ وضع رجليه على سُلَّمِ الباخرة التي أقلته إلى فرنسا إلّا وأمامه الهدف الذي رسمه لنفسه ولوطنه، وظلَّ هذا دبأه إلى أن انطفأ مشعل حياته.
هو مصريٌّ صميمٌ، من أقصى الصعيد، يتصل نسبه من جهة أبيه بسيدنا الحسين رضي الله عنه، وقد أشار إلى هذا النسب قوله:
حسينيّ السلالة قاسميٌّ
…
بطهطا معشري وبها مهادي1
ومن جهة أمه بالأنصار الخزرجية، ولد في طهطا، وكان أجداده من ذوي اليسار وممن تولوا مناصب القضاء بمصر، ثم أخنى عليهم الدهرن وحينما وُلِدَ كانت أسرته في عسر، فنشأ نشأةً معتادةً بين أبوين فقيرين، وقرأ القرآن، وتلقَّى العلوم الدينية، كما يتلقاها عامة طلبة العلم في عصره، ودخل الأزهر كما دخله غيره، وصار من علمائه كما صار كثيرون، ولكن ذكاءه وحبه للعلم، وإقباله على التحصيل، لفت إليه نظر الشيخ حسن العطار شيخ الجامع الأزهر في ذياك الوقت، وكان الشيخ العطار من أفذاذ عصره في العلم والأدب والفنون الحديثة، فاقتدى به تلميذه الشيخ رفاعة، فقرأ كثير من كتب الأدب، ومهر في فنونه وهو بعد في الأزهر، ثم تولَّى التدريس سنتين؛ ظهر فيهما استعداده للتعليم والتثقيف؛ إذ أحبه تلاميذه حبًّا جمًّا، وتتعلقوا به وبدروسه. ويقول صالح بك مجدي في هذا2.
1 قاسميّ: نسبة إلى أجداده أبي القاسم الحسين، وهو من أولياء طهطا المشهورين، راجع في نسبه الخطط التوفيقة لعلي مبارك ج13، ص51-56.
2 في رسالته "حلية الزمن بمناقب خادم الوطن" وهي ترجمة حياة رفاعة بك، كتبها صالح مجدي أحد تلاميذه.
"وكان رحمه الله حسن الإلقاء؛ بحيث ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه، وقد اشتغل في الجامع الأزهر بتدريس كتبٍ شتَّى: في الحديث والمنطق والبيان والبديع والعروض وغير ذلك، وكان درسه غاصًّا بالجمِّ الغفير من الطلبة، وما منهم إلّا من استفاد منه، وبرع في جميع ما أخذوه عنه، لما علمت من أنه كان حسن الأسلوب سهل التعبير، مدققًا، محققًا، قادرًا على الإفصاح بطرق مختلفة؛ بحيث يفهم درسه الصغير والكبير بلا مشقةٍ ولا تعبٍ، ولا كدٍّ ولا نصبٍ".
ثم عُيِّنَ واعظًا وإمامًا لإحدى فرق الجيش في سنة 1828، فاعتاد حياةً جديدةً عنوانها: النظام والطاعة، ومحبة الوطن والدفاع عنه، ومواجهة الأخطار، وقد كان لذلك أثر كبير في حياته، فعاش محبًّا للنظام، في كل ما تولاه: في تلقي العلوم، وفي التأليف والتعريب، وفي حسن تنظيم المعاهد التي تولَّى إدراتها، شغوفًا بوطنه مخلصًا له طول حياته.
وكان من حسن حظِّه وحظ مصر أن طلب محمد علي إلى الشيخ العطار أن يختار له من علماء الأزهر إمامًا للبعثة الأولى، يرى فيه اللياقة لتلك الوظيفة1، فوقع الاختيار على الشيخ رفاعة.
ولم يكن مطلوبًا من إمام البعثة أن يحصِّلَ شيئًا من علوم الفرنسيين، ولكن حسبه أن يؤدي مهمته من وعظ الطلاب وإرشادهم إلى ما فيه خيرهم، ونصحهم إذا ضلت بهم السبل، وإمامتهم حين الصلاة، ولكن الشيخ رفاعة كان ذا نفسٍ طموح، فما أن أقامت به وبصحبه الباخرة من مصر حتى ابتدأ يتعلم؛ فأجلُّوه وأَكْبَرُوه، ومنهم المستشرق المشهور "البارون دي ساسي"2. "كوسان دي برسفال"3.
1 الخطط التوفيقية ج13 ص54.
2 ولد بباريس سنة 1758، وتوفي سنة 1838، راجع آثاره وخدماته للأدب العربيّ في كتاب "المستشرقون" لنجيب العفيفي ص37.
3 ولد سنة 1759، وتوفي سنة 1853، راجع "المستشرقون" ص26.
واهتم في دراسته بالتاريخ والجغرافية، والفلسفة والأدب، فقرأ "فولتير"، و"رسو"، "وراسين"، و"ومومنتسكيو" وغيرهم، وقرأ بعض الكتب في علم المعادن وفنون الحرب والرياضيات، ومالت نفسه وهو بباريس إلى التأليف والتعريب، فوضع رحلته وسماها:"تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وقد كان أستاذه العطار قد أوحى إليه بذلك، وعرَّبَ نحو اثنتي عشرةَ رسالة في مختلف الفنون والعلوم: من هندسة، ومعادن، وطبيعة، وتاريخ، وتقويم، وميثولوجيا، وعلم الصحة، والأخلاق، وترجم كذلك في باريس كتابه "قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر".
وهو أول من كتب من المصريين في المباحث الدستورية، مع أن هذه المباحث كانت مجهولةً في تاريخ مصر القوميّ، وذلك أنه درس في أثناء إقامته بباريس بنظام الحكم في فرنسا؛ وعرَّبَ في كتابه "تخليص الإبريز" دستور فرنسا في ذلك الحين، وما تضمنه من نظام المجلسين واختيار أعضائهما، وحقوق الأمة أفرادًا وجماعات، ولم يكن يكتفي بالتعريف، بل كان يعلق بما يدل على سعة فهم وصحة حكم، وميل فطريّ للنظم الحرة1. وكان للشيخ رفاعة في باريس موضع إعجاب أساتذته وإكبارهم، لتمام رجولته، ونضج عقله، وحسن تصرفه، وشدة إقباله على الدرس والتحصيل، والعمل على نفع أمته، وفيه يقول المستشرق الفرنسيّ المشهور "سلفستر دي ساسي": إن الشيخ رفاعة "أحسن صرف زمنه مدة إقامته بفرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة، وتمكَّن منها كل التمكن، حتى تأهل لأن يكون نافعًا بلاده.. وله عنده مزية عظيمة ومحبة جسمية2".
1 ومن ذلك تعليقه على موقف الملك "شارل" المباشر لمَّا قامت الثورة في باريس قال: "فلما اشتد الأمر وعلم الملك بذلك وهو خارج، فأمر بجعل المدينة محاصرة حكمًا، وجعل قائد العسرك أميرًا من أعداء الفرنساوية، مشهورًا عندهم بالخيانة لمذهب الحرية، مع أن هذا خلاف الكياسة والسياسة والرياسة، فقد دلهَّم هذا على أن الملك ليس جليل الرأي، فإنه لو كان كذلك لأظهر أمارات العفو والسماح، فإن عفو الملك أبقى للمُلْكِ، ولما ولي على عساكره إلّا جماعة عقلاء أحبابًا له وللرعية، غير مبغوضين ولا أعداء، مع أن استصلاح العدو أحزم من استهلاكه، ويحسن قول بعضهم:
عليك بالحلم وبالحياء
…
والرفق بالمذنب والإغضاء
إن لم تقل عثرة من يقال
…
يوشك أن يصيبك الجهال
2 تخليص الإبريز، ص154.
3 حلية الزمن، ص10.
وذكر السيد صالح مجدي تلميذه ومؤرخ حياته في كتاب "حلية الزمن": وقال لي من أثق به ممن كانمعه بباريس: "أنه كان يؤدي الفرائض والسنن، ولم يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وواظب على تلاوة القرآن1".
كان رفاعة قبل أني يغادر مصر يظن أن العلم كله قد جمع في الأزهر، وأنه سيحرم الاغتراف من هذا النبع العذب، وفي ذلك يقول:
"ولكن يتبين له به أن ذهب إلى باريس، واتصل بثقافة الغرب، أن وطنه في حاجةٍ ملحةٍ إلى معرفة هذه الثقافة الجديدة ليرقى وينهض، وأنه لا يكفيه علم الأزهر، ولذلك جَدَّ في الترجمة، حتى ليخيل للمرء أنه يريد أن ينقل كل شيء إلى اللغة العربية وإلى مصر، ولا بدع، فكل شيء أمام ناظريه جديد، وعلى عقله غريب".
ثم عاد إلى مصر سنة 1831، بعد ست سنوات قضاها مكبًّا على الدرس والتحصيل: يطالع، ويقرأ، ويكتب ويعرب، ويجالس العلماء ويسجالهم البحث والمناظرة، وينعم النظر في أحوال الشعوب الأوروبية وتاريخها، وأسباب حضارتها وتقدمها، واستقرَّ عزمه وهو في باريس، على أن يخدم بلاده عن طريق نقل العلوم الغربية إلى مواطنيه، فتتسع أفكارهم، وتنمو مدراكهم، مقتفيًا في ذلك آثار الدولة العباسية؛ إذ بدأت نهضة العلوم والمعارف في عهدها بترجمة كتب اليونان إلى العربية.
ولقد برَّ بوعده؛ فملأ البلاد علمًا وحكمةً، وحمل نواة النهضة وخدمتها بتأليفه وتعاريبه وتلاميذه الذين تخرجوا على يديه في مدرسة الألسن وغيرها.
أعماله بعد عودته:
لما رجع ولي منصب الترجمة، وتدريس اللغة الفرنسية في مدرسة الطب بأبي زعبل، ثم انتقل إلى مدرسة المدفعية بطرة، وعهد إليه ترجمة العلوم الهندسية والفنون الحربية، ثم وقع وباءٌ في القاهر اضطره إلى السفر لطهطا بلدته، فمكث بها ستين يومًا، ترجم في خلالها مجلدًا من جغرافية "ملتبرون" Nalt Bron وعاد به إلى القاهرة، وقدَّمَه لمحمد علي، فأكرمه ورقاه.
1 المصدر السابق ص97.
عرف الشيخ رفاعة في باريس مدرسة اللغات الشرقية، والتي أسست لدراسة لغات الاستشراق، وكان يسمِّيها في كتابه مدرسة الألسن، فوجب أن تؤسس في مصر مدرسة للألسن تواجه مطالبها وتناسب أغراضها، ورأى في أعضاء البعثات -مهما كثر عددهم- لن يقوموا بكل ما تتطلبه النهضة من جهود، فلابد من إيجاد طبقةٍ من العلماء الاكفاء في الآداب العربية، واللغات الأجنبية، ليضطلعوا بمهمة تعريب الكتب، وليكونوا صلةً بين الثقافة الشرقية والثقافة الغربية.
إننا بالبعثة ننقل بعض المصريين إلى أروبا، وبهذه المدرسة ننقل علم أوربا إلى مصر، فاقترح الشيخ على محمد علي إنشاء مدرسة الألسن، وكان من مزايا محمد علي أن يُسَرَّ بالاقتراح الجيد، وينفذه فورًا، فعهد إلى الشيخ رفاعة بوضع المشروع وتنفيذه، وبذلك أنشئت مدرسة الألسن، وكان مكانها "سراي الدفتردار" حيث كان فندق "شبرد القديم" وتقع بجوار قصر الألفي بك، الذي أقام به نابليون، ثم محمد علي، واختار لها الشيخ خمسين طالبًا من نوابغ طلاب المكاتب المصرية، وفي هذه المدرسة التي تولى الشيخ نظارتها ظهر نبوغه عالمًا محققًا، ورئيسًا قديرًا، ومعلمًا كفؤًا، ومربيًا ممتازًا.
وكانت المدرسة كليةً تدرس فيها آداب العربية، واللغات الأجنبية، وخاصة الفرنسية والتركية والفارسية، ثم الإيطالية والإنجليزية، وعلوم التاريخ، والجغرافية، والشريعة الإسلامية، والشرائع الأجنبية، فكانت أسبه شيء بكلية للآداب والحقوق مجتمعتين، وكان نهج المدرسة علميًّا ومفيدًا، فلم يكن دروسًا تكتب في دفاتر وتهمل، بل يمرن الطلبة على الترجمة في كتب نافعة، فإذا استغلقت عليهم جملةً لجئوا إلى شيخهم يذللها لهم، ثم عرضوا ما ترجموا على أستاذ اللغة العربية يصحح لهم لغتهم، وخاصةً الشيخ محمد قطة العدوي، فقد كان ساعده الأيمن في هذه المدرسة، لما رُزِقَه من موهبةٍ جليلة في التدريس بلغة سهلة، وعبارةٍ فصيحةٍ، وقدرةٍ على تصحيح عبارات الطلبة فيما يترجمون، فإذا
أتموا الكتاب، أو الكتب، رُوجِعَتْ، ثم قُدِّمَت إلى المطبعة لتطبع، فتكون أثرًا خالدًا1.
وأحيل على رفاعة بك مع إدارة المدرسة إدارة عدة معاهد: المدرسة التجهيزية، ومعهد الفقه والشريعة الإسلامية، ومعهد المحاسبة، ومدرسة الإدارة الإفرنجية، والتفتيش على مدارس الأقاليم، وتحرير الوقائع المصرية، وبعد سنواتٍ تخرجت الدفعة الأولى في مدرسة الألسن؛ فتلقفتهم مصالح الدولة المختلفة، وابتدءوا يفيضون وأستاذهم على مصر من بحور الغرب وكنوز ثقافته، ما كان دعامة لنهضتنا الحالية.
ظلَّ الشيخ سبعة عشرًا عامًا وهو دائب في عمله لا يمل ولا يكل، وفي كلِّ آونةٍ يضاف إليه عمل جديد يتقبله بصدرٍ رحبٍ وعزيمةٍ قويةٍ، وكلما زاد اجتهاده ونتاجه زاده أولو الأمر مكافأةً وتقديرًا؛ فمنحه محمد عأتموا الكتاب، أو الكتب، رُوجِعَتْ، ثم قُدِّمَت إلى المطبعة لتطبع، فتكون أثرًا خالدًا1.
وأحيل على رفاعة بك مع إدارة المدرسة إدارة عدة معاهد: المدرسة التجهيزية، ومعهد الفقه والشريعة الإسلامية، ومعهد المحاسبة، ومدرسة الإدارة الإفرنجية، والتفتيش على مدارس الأقاليم، وتحرير الوقائع المصرية، وبعد سنواتٍ تخرجت الدفعة الأولى في مدرسة الألسن؛ فتلقفتهم مصالح الدولة المختلفة، وابتدءوا يفيضون وأستاذهم على مصر من بحور الغرب وكنوز ثقافته، ما كان دعامة لنهضتنا الحالية.
ظلَّ الشيخ سبعة عشرًا عامًا وهو دائب في عمله لا يمل ولا يكل، وفي كلِّ آونةٍ يضاف إليه عمل جديد يتقبله بصدرٍ رحبٍ وعزيمةٍ قويةٍ، وكلما زاد اجتهاده ونتاجه زاده أولو الأمر مكافأةً وتقديرًا؛ فمنحه محمد علي رتبة "أميرالاي" و 1300 قرش في الشهر، و350 فدانًا في طهطا، ولكن الدنيا لا تدوم على حالٍ، فما أن مات محمد علي، وتولَّى عباس الأول الحكم، حتى أغلق المدارس جميعها إلّا القليل، وألغى مدرسة الألسن والشيخ رفاعة معها، بحجة الاقتصاد في النفقات، ولأن حاشية السوء لما رأت ميل الوالي إلى محاربة التعليم والعلماء خاضوا في الشيخ رفاعة وطريقته، ورموه بالعقم، فنفاه عباس الأول إلى السودان تحت ستار إنشاء مدرسة ابتدائية هناك، وتعيينه ناظرًا لها، ومعه طائفةٌ من أكابر العلماء.
ولم تكن الخرطوم كما هي اليوم في نظافتها ومبانيها، وتوفر وسائل العيش بها، وإنما كانت مدينةً صغيرةً تصعب الحياة فيها على من ألف حياة باريس والقاهرة، وعلى كل من يشرف على التعليم كله بمصر، فإذا هو يشرف على مدرسةٍ ابتدائيةٍ صغيرةٍ بالخرطوم.
1 يقول أحمد عبيد مترجم كتاب "الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر""كانت تحت إرشاد مدير مدرسة الألسن السيد رفاعة، فأجاد تربيتي كغيري حتى حسن حالي، واجتهادي في نيل المعالي بين أمثالي، واقتضى رأيه المؤيد، وحزمه المعضد، أن أترجم كتابًا من كتب التاريخ؛ فاختار ملكًا من ملوك الإفرنج، تعلو همته على المريخ، وهو كتاب بطرس الأكبر، وفضله أشهر من أن يذكر، لمؤلفه الشهير المسمى: "فولتير" الذي يعد بين أكابرهم أعظم حجة، وإن كان عن الأديان بعيد المحجة، فجاء التعريب بحمد الله على أحسن حالٍ، وأتَمَّ منوالٍ، وقد شرعت في نقله من الفرنسية إلى العربية، مع إعانته لي في حل مشكلاته، وما عسر عَلَيَّ من غوامضه ومعضلاته، وقد صرفت في ترجمته على صعوبته الهمة، وسهرت في مطالعته وفهمه الليالي المدلهمة
…
إلخ".
لي رتبة "أميرالاي" و 1300 قرش في الشهر، و350 فدانًا في طهطا، ولكن الدنيا لا تدوم على حالٍ، فما أن مات محمد علي، وتولَّى عباس الأول الحكم، حتى أغلق المدارس جميعها إلّا القليل، وألغى مدرسة الألسن والشيخ رفاعة معها، بحجة الاقتصاد في النفقات، ولأن حاشية السوء لما رأت ميل الوالي إلى محاربة التعليم والعلماء خاضوا في الشيخ رفاعة وطريقته، ورموه بالعقم، فنفاه عباس الأول إلى السودان تحت ستار إنشاء مدرسة ابتدائية هناك، وتعيينه ناظرًا لها، ومعه طائفةٌ من أكابر العلماء.
ولم تكن الخرطوم كما هي اليوم في نظافتها ومبانيها، وتوفر وسائل العيش بها، وإنما كانت مدينةً صغيرةً تصعب الحياة فيها على من ألف حياة باريس والقاهرة، وعلى كل من يشرف على التعليم كله بمصر، فإذا هو يشرف على مدرسةٍ ابتدائيةٍ صغيرةٍ بالخرطوم.
_________
1 يقول أحمد عبيد مترجم كتاب "الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر""كانت تحت إرشاد مدير مدرسة الألسن السيد رفاعة، فأجاد تربيتي كغيري حتى حسن حالي، واجتهادي في نيل المعالي بين أمثالي، واقتضى رأيه المؤيد، وحزمه المعضد، أن أترجم كتابًا من كتب التاريخ؛ فاختار ملكًا من ملوك الإفرنج، تعلو همته على المريخ، وهو كتاب بطرس الأكبر، وفضله أشهر من أن يذكر، لمؤلفه الشهير المسمى: "فولتير" الذي يعد بين أكابرهم أعظم حجة، وإن كان عن الأديان بعيد المحجة، فجاء التعريب بحمد الله على أحسن حالٍ، وأتَمَّ منوالٍ، وقد شرعت في نقله من الفرنسية إلى العربية، مع إعانته لي في حل مشكلاته، وما عسر عَلَيَّ من غوامضه ومعضلاته، وقد صرفت في ترجمته على صعوبته الهمة، وسهرت في مطالعته وفهمه الليالي المدلهمة
…
إلخ".
وحَزَّ في نفس الشيخ أن يجازى على إحسانه بالإساءة، وأن يطعن الجاهلون في صلاح وطريقته، وقد أينعت وآتت أكلها شيهًّا لذيذًا، يزيد في نماء البلاد العقليّ، ونهضتها نحو الكمال، وأخذ يستغيث ويندب حظه، والموت يخطف أعوانه كل يومٍ حتى لم يبق إلّا نصفهم، وكان يستغيث أولًا بمن يأنس منهم روح الجد والعمل لخير مصر، حتى إذا عجز هؤلاء عن إغاثته، لجأ إلى أولياء الله الصالحين، وأنبيائه المطهرين، ومن قصيدةٍ له أرسلها إلى حسن باشا كتخدا مصر1.
مهازيل الفضائل خادعوني
…
وهل في حربهم يكبو جوادي
وزخرف قولهم إذا موهوه
…
على تزييفه نادى المنادي
قياس مدارسي -قالوا- عقيم
…
بمصر فما النتيجة من بعادي
ثم يذكر أشهر مترجماته ومؤلفاته فيقول:
على عدد التواتر معرباتي
…
تفي بفنون سلمٍ أو جهاد
وملطبرون يشهد وهو عدل
…
ومنتسكو يقر بلا تمادي
ومغترفو قراح فرات درسي
…
قد اقترحوا سقاية كل صادي
ولاح لسان باريس كشمس
…
بقاهرة المعز على عمادي
ويزفر زفرة حارةً على ما صار إليه أمره، وعلى بعده عن أولاده وأهله فيقول:
رحلت بصفة المغبون عنها
…
وفضلي في سواها في المزاد
وما السودان قط مقام مثلي
…
ولاسلماي فيه ولا سعادي
وقد فارقت أطفالًا صغارًا
…
بطهطا دون عودي واعتيادي
أفكر فيهمو سرًّا وجهرًا
…
ولا سمري يطيب ولا رقادي
أريد وصالهم والدهر يأبى
…
مواصلتي ويطمع في عنادي
1 مباهج الألباب المصرية، ص265-268.
وهذه القصيدة على وزن وقافية:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّا
…
ولكن لا حياة لمن تنادي
وحين يئس من مثل هذه الاستغاثات، أخذ يخمس قصيدة لسيدي عبد الرحيم البرعي في مدح النبيّ عليه السلام، مطلعها:
حل الغرام لصب دمعه دمه
…
حيران توجده الذكرى وتعدمه
ويقول فيها:
"رفاعة" يشتكي من عصبة سخرت
…
لما أتى أبحر العرفان قد زخرت
فارفع ظلامة نفس عدلك ادخرت
…
وهاك جوهر أبيات بك افتخرت
جاءت إليك بخط الذنب ترقمه
وظل الشيخ في منفاه أربع سنوات، وكان رفاعة وهو في السودان برمًا بقمامه ومصيره، ولكن رأيه في السودان حين هدأت ثائرته، وعاد إلى وطنه، يدل على بصيرةٍ وحكمةٍ، وفي ذلك يقول: "فمتى زالت من السودان وسائل الوخامة والسقامة، ودخلت أهاليها بحسن الإدارة في دائرة الاستقامة، صارت هي والديار المصرية في العمار كالتوأمين، وفي إيناع الأثمار صنوين، حتى ينشد لسان حالهما:
نحن غصنان ضمنا الوجد جميـ
…
عًا في الحب ضم النطاق
في جبين الزمان منك ومني
…
غرة كوكبية النفلاق1
1 مباهج الألباب المصرية، ص263.
ولم يعد لمصر إلّا بعد أن توفي عباس، وتولى سعيد أريكة مصر؛ فعينه وكيلًا للكلية الحربية، ثم ناظرًا لها، ومديرًا لمدرسة الهندسة، ومدرسة العمارة، مع الاحتفاظ برئاسة قلم الترجمة، بيد أن هذه المدارس جميعها ألغيت في سنة 1860، كما ألغي قلم الترجمة، فظل الشيخ بدون منصبٍ حتى عهد إسماعيل، حين هبَّت على العلم والتعليم نسمةٌ من الحياة فبعثته قويًّا فتيًّا، وأعيد قلم الترجمة بنظارة المعارف العمومية، وتولى رئاسته من جديد رفاعة بك سنة 1863، وعُيِّنَ عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، الذي كان يعرف حينذاك بـ "قومسيون المدارس" وكان لهذا المجلس فضلٌ كبيرٌ في تنظيم التعليم، على عهد إسماعيل.
رفاعة والقانون:
حينما فكرت الحكومة في إصلاح نظام القضاء على عهد إسماعيل، رأت أن تبدأ بترجمة القوانين الفرنسية المعروفة بـ "الكود" وهو قانون نابليون، وكانت هذه مهمة عسيرة، تتطلب إلمامًا واسعًا بالقوانين الفرنسية، وأحكام الشريعة الإسلامية، لاختيار المصطلحات الفقهية المطابقة لمثيلاتها في القانون الفرنسيّ، هذا كله يحتاج إلى صبرٍ طويلٍ، ومثابرةٍ وهمةٍ.
ولم تجد الحكومة خيرًا من رفاعة وتلاميذه، ليقوم بهذه المهمة الجليلة، فقام بهذا العمل مع بعض من نجباء خريجي مدرسة الألسن، وأخرجوه في مجلدين كبيرين.
رفاعة والمرأة:
وهو أول من نادى بتعليم المرأة وتثقيفها، ووضع كتابًا مشتركًا لتثقيف البنات والبنين على السواء، وسماه:"المرشد الأمين للبنات والبنين" وهو كتاب في الأخلاق والتربية والآداب.
بل دعا إلى اشتراك المرأة في أعمال الرجال على قدر طاقتها، ويقول في هذا:"ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معًا.. فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك، فإن هذه مما يزيدهن أدبًا وعقلًا، ويجعلهن بالمعارف أهلًا، ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي؛ فيتعظمن في قلوبهم ويعظم مقامهن، وليمكن للمرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة؛ فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء، وافتعال الأقاويل، فالفعل يصون المرأة عَمَّا لا يلطيق، ويقربها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة مذمومةً في حق الرجال، فهي مذمةٌ عظيمةٌ في حق النساء" وقد طبع كتابه هذا في سنة 1872، وأسست أول مدرسة لتعليم البنات في مصر سنة 1873، أسستها إحدى زوجات إسماعيل، على أن دعوة رفاعة إلى تعليم المرأة والنهوض بها ترجع إلى ما قبل هذا بكثير، ولكن لم يستجب لدعوته من يلبيها ويعمل على تنفيذها.
وفاته:
ظل هذا العالم الجليل يدأب ويجد في نشر الثقافة وفتح أبواب العلم والنور للأمة المصرية، حتى توفي سنة 1290 هـ 1873م، وله من العمر 75 سنة.
وقد بقي تلاميذه من بعده، وطريقته التي استَنَّها، وكتبه التي ألفها وترجمها، تهيب بالأمة أن تسير على سنته، وأن تنقل من آثار الغرب ما يزيل صدأ السنين عن عقول طالت غفلتها.
صفاته:
كان رفاعة عربيُّ الصفات، يتمثل فيه الكرم والجرأة والحزم، وتفرس الأمور، أخصّ مزاياه الشمم والإباء، واعتداده بنفسه، وصراحته عند مجابهة أولي الأمر بما ينفع وطنه.
وكانت له أفكار تخشاها الأسرة الحاكمة، وقد صرح بها في مواطن كثيرة من كتبه، فكان يدعو إلى العدالة الاجتماعية، وألّا يستبد مالك الأرض بزراعتها، فزارعها هو في حقيقة الأمر أولى الناس للانتفاع بها، وكان يلمح تلميحات -لا تخفى على ذوي الفطن- إلى استبداد أسرة محمد علي وحاشيته، ويدعو إلى الشورى وغير ذلك مما يرتئيه الرجل المصلح العامر القلب بالإيمان، والعقل بالأفكار النيرة، ولعل هذه الصفات تفسر لنا تأخر رفاعة في سلم الترقي الحكومي ونيل الألقاب، بينهما قد سبقه بعض تلاميذه في هذا المضمار، وكان يمثل أخلاق العلماء ببعده عن مظاهر الخيلاء والغرور، بل كان زاهدًا جوادًا، متواضعًا، محبًا للخير، وكان يتقد وطنيةً وغيرةً على بلاده، وله في ذلك كثير من الأشعار الحماسية، يشيد فيها بمصر وعظمة جيشها، ومن هذا قوله يخاطب الجنود:
يا أيها الجنود
…
والقادة الأسود
إنْ أمَّكم حسود
…
يعود هامي المدمع
فكم لكم حروب
…
بنصركم تئوب
لم تثنكم خطوب
…
ولا اقتحام معمع
وكم شهدتم من وغى
…
وكم هزمتم من بغى
فمن تعدى وطغى
…
على حماكم يصرع
وتتجلى روحه الوطنية في ترجمة نشيد فرنسا القوميّ "المارسليز"، لأنه أحبه، وهاج عاطفته، وكان يكثر من عباراته الوطنية وخدمة الوطن في مؤلفاته.
وفي الوطن يقول: "الوطن هو عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، وهو البلد الذي نشأته تربته، وغذاه هواؤه، ورباه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه1".
1 المرشد الأمين، ص90.
ويقول عن مصر في زهوٍ وإعجابٍ:
"ولا يشكُّ أحدٌ أن مصر وطنٌ شريفٌ، إن لم نقل: إنها أشراف الأمكنة، فهي أرض الشرف والمجد في القديم والحديث، وكم ورد في فضلها من آياتٍ بيناتٍ، وآثار وحديث، فما كأنها إلّا صورة جنة الخلد، منقوشة في عرض الأرض، بيد الحكمة الإلهية التي جمعت محاسن الدنيا فيها، حتى تكاد أن تكون صورتها في أرجائها ونواحيها، بلدة معشوقة السكنى، رحبة المثوى
…
إلخ"1.
ويقول عن واجب الفرد نحو وطنه في كتابه "المرشد الأمين" كذلك:
"فالوطنيّ المخلص في حب الوطن، يفدي وطنه بجميع منافع نفسه، ويخدمه ويبذل جميع ما يملك، ويدفع عنه كل ما تعرض له بضرر، كما يدفع الوالد عن ولده الشر، فينبغي أن تكون نية أبناء الوطن دائمًا متوجهة في حق وطنهم إلى الفضيلة والشرف، ولا يرتكبون شيئًا مما يخلُّ بحقوق أوطانهم، فيكون ميلهم إلى ما فيه النفع والصلاح، كما أن الوطن نفسه يحمي ابنه من جميع ما يضر به"2.
وتلك لعمري نغمة جديدة لم يألفها الشرق العربيّ بعامة، ومصر بخاصةٍ؛ لأن الوطن عندهم لم يكن محدود المعالم، فكل بلاد الإسلام بلادهم، يدينون بالولاء للخليفة، ولم يكن يعنيهم من أمر أوطانهم والفناء في سبيلها شيء.
كانت هذه النغمة، وذلك الحديث عن الوطن، وواجب المواطن، أول لبنة في بناء الأدب القوميّ المصريّ الحديث، جعلت أنظار الأدباء فيما بعد يعنون بهذا الوطن، ويتملون جماله، ويعبرون عن آلام أهله وأمانيهم، وإن لم يحدث ذلك سريعًا لانتشار الأمية، وقيام معوقاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ كثيرةٍ، وحسب رفاعة أنه سبق زمانه، وتحدث حديثًا عن الوطن تخاله لجدته قد قيل في أيامنا هذه.
1 نفس المرجع، ص31.
2 نفس المرجع، ص93 وما بعدها.
وكان بجانب هذا أديبًا، وشاعرًا رقيقًا إذا قيس بأهل عصره، ويدل على ذلك ما روي من أن السفينة التي أقلته إلى أوربا ظلت خمسة أيام بجزيرة صقلية تتزود من الماء والخضر، ولم يسترع انتباه الشيخ بمجامع قبله إلّا دق نواقيس الكنائس.
وفي إحدى الليالي دعا صديقًا من أصدقائه من أعضاء البعثة، ممن يعرف فيه الظرف والأدب، واقتراح عليه أن يشتركا في إنشاء مقامة على غرار مقامات البديع أو الحريري، ويكون موضوعها ثلاثة أشياء: حوار حول: "أن الطبيعة السليمة تميل إلى استحسان الذات الجميلة مع العفاف"، "سكر المحب من عيني محبوبه"، ثم "تأثر النفوس بضرب الناقوس" إذا كان من يضربه ظريفًا، وأخذ ينشيء الشعر في مقاماته حول هذه المعاني، فقال في المعنى الأول:
أصبو إلي كل ذي جمال
…
ولست من صبوتي أخاف
وليس لي في الهوى ارتياب
…
وإنما شيمتي العفاف
وقال في المعنى الثاني:
قد قلت لمَّا بدا والكأس في يده
…
وجوهر الخمر فيها شبه خديه
حسبي نزاهة طرفي في محاسنه
…
ونشوتي من معاني سحر عينيه
وفي المعنى الثالث:
مذ جاء يضرب بالناقوس قلت له:
…
من علم الظبي ضربًا بالنواقيس
وقلت للنفس أي الضرب يؤلمك
…
ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي
ومما يدل على هذا المزاج الأدبيّ ترجمته لبعض الشعر الفرنسيّ، وتأليفه كتاب "تعريب الأمثال في تأديب الأطفال"، وترجمته رثاء فولتير الشاعر للويس الرابع عشر، الذي يقول فيه:
"ولم يتول قبله ملك من تلك العصابة، ولا ساواه غيره في تربية الرعية بهذه المثابة، فالفخار شعاره، والمجد دثاره، وكان أحظى الملوك باكتساب الطاعة من رعاياه والانقياد، كما كان أعظمهم في الهيبة عن الأخدان والأضداد، وربما كان دونهم في مثل الرعية إليه، ومحبتهم له بانعطاف القلوب عليه، فطالما رأيناه تتقلب عليه صروف الزمان، وتتلاعب به حوادث الحدثان، وهو عند النصرة يظهر الفخار، ويتجلد عند الهزيمة، ولا يظهر بمظهر الذل والانكسار، فقد أرهب عنده عشرين أمة عليه تعصبت، وعلى قتاتله تحالفت وتحزبت، وبالجملة فهو أعظم الملوك في حياته، وكما كان عظيم العبرة عند مماته1".
وترجمة رفاعة لتليماك تدل على اتجاهه الحديث في الأدب، فتليماك رواية فرنسية اسمها: Les Aventure de Telemaque كتبها قسيس فرنسيّ يُدْعَى فنلون Fenelon وقد سمى رفاعة الرواية "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك" ولعل الأدب العربي الحديث لم يعرف روايةً فرنسيةً ترجمت قبل تليماك، ولقد أراد رفاعة أن يوجه أذهان الناشئة إلى أهمية القصة في الأدب، وأنها لونٌ من ألوانه، لم يعبأ به العرب من قبل، وأنها ستكون جليلة الشأن في التربية.
ويقول رفاعة عن كتابه تليماك الذي ترجمه وهو في السودان: "إن تعريب تليماك، بكل من في حماك، أو ليس إنه مشتمل على الحكايات النفائس، وفي ممالك أوربا وغيرها عليه مدار التعليم في المكاتب والمدارس، فإنه دون كل كتاب، مشحون بأركان الآداب، ومشتمل على ما به كسب أخلاق النفوس الملكية، وتدبير السياسات الملكية"2.
ومن هذه الأمثلة وغيرها مما مَرَّ بك، ترى أن رفاعة قد حمل لواء النهضة الجديدة في الأدب، وأنه جدد في أغراضه، كما جدد في أسلوبه، وإن لم يتخلص جملة من كل تلك القيود القديمة، والزخارف اللفظية، ورفاعة لم يكن ذلك الشاعر الفحل، ولكنه كان أديبًا سلمت له بعض الأبيات التي تدل على ذوق سليم، وتدل على أنها تباشير الشعر الجديد.
1 مناهج الألباب المصرية، ص220.
2 مواقع الأفلاك، ص24.
ولم يكن رفاعة يفتخر بالشعر، ويعده من بضاعته الجيدة.
وما نظم القريض برأس مالي
…
ولا سندي أراه ولا سنادي1
وإن برع في نظم الأناشيد الوطنية من مثل قوله:
يا حزبنا قم بنا نسود
…
فنحن في حربنا أسود
عند اللقا بأسنا شديد
…
هام عدانا لنا حصيد
حامي حمى مصرنا سعيد
…
في عصره مجدنا يعود
بجنده المجند وسيفه المهند
…
ونصره المؤيد وعزه المشيد
في عصره مجدنا يعود
1 مباهج الألباب، ص 269.
3-
الطباعة والصحافة:
الكتب غذاء العقول، وإذا لم يتيسر للعقل غذاؤه أجدب، والأمة التي تجدب عقولها لا تعرف كيف تحيا حياة الأناسيِّ، وتكون أمة من سائمة.
ولا ريب أن الكتب تُيَسّرُ ويسهل على الناس اقتناؤها والانتفاع بها، والاستنارة بمصابيحها، إذا كثرت وانتشرت، وساعد أولو الأمر على إذاعة الثقافة.
وقد كان القائمون على شئون مصر في مبدأ نهضتها، من أولئك الذين ألهموا حب الخير، ورزقوا العقل المفكر، والنظر الثاقب، فعملوا على نشر الطباعة في مصر.
ليست مطبعة بولاق أول مطبعةٍ عربيةٍ في العالم، ولكن أول مطبعة عربية ظهرت، كانت في "فانو" بإيطاليا، حيث أمر بها الباب "يوليوس الثاني" وأخذت تعمل في سنة 1514 في عهد البابا "ليون العاشر".
وأول كتاب عربيٍّ طُبِعَ في هذه السنة، هو كتابٌ دينيٌّ -كما هو منتظر- ثم سفر الزبور سنة 1516، وبعد قليلٍ طبع القرآن في البندقية، ولكن الطبعة أحرقت خشية أن يؤثِّر على عقائد المسيحيين، وطبع كتاب القانون لابن سينا في روما سنة 1593 في مجلد ضخم، وتعددت المطابع العربية في أوربا، وطبعت فيها مئات من الكتب العربية وغيرها1.
أما الطباعة العربية في الشرق، فأسبق الأمم إليها الدولة العثمانية، وقد مَرَّ بك كيف اضطر من أراد إدخال المطبعة الأولى لأخذ فتوى من علماء الدين، وأول كتابٍ طبع بالعربية في الآستانة كان سنة 1728.
وكانت للسوريين محاولات سابقة لهذا التاريخ؛ إذ طُبِعَ الإنجيل في حلب بالعربية سنة 1706، وأقدم مطبعة عربية في الشام هي مطبعة "ماريو حنا" الصايغ، في "الشوير" للروم الملكانيين، أنشئت سنة 1145هـ- 1732م، ثم مطبعة القديس "جارجيوس" للروم الأرثوذكس، في بيروت سنة 1167هـ-1753م، ولكن مطبوعات هاتين المطبعتين لم تتعد بعض كتب الدين، ولم يكن لهما أثر يذكر في نشر الثقافة العربية، ولا في النهضة الحديثة.
وأهم مبطعة انبعث منها النور متدفقًا فياضًا، يبدد الظلام الحالك المطبق على عقول الأمة العربية، هي تلك المطبعة الضخمة التي أسست في بولاق سنة 1822، وهي إلى اليوم تعد أكبر مبطعة عربية في العالم.
نعم! إن مصر قد عرفت الطباعة المصرية قبل محمد علي؛ لأن نابليون كان قد أحضر معه مطبعة عربية، وحاول أن يصدر بها تلك النشرة المعروفة "بالتنبيه" التي لم تصدر فعلًا2، وإنما الذي صدر هو "سلسلة التاريخ" وكان يحررها السيد إسماعيل الخشاب.
1 راجع جروجي زيدان، في كتاب آداب اللغة العربية، ج4 ص44.
2 راجع عبد الرحمن الرافعي، في تاريخ الحركة القومية، الجزء الأول، ص145، والجزء الثاني، ص223، 228، ج3 ص538.
وكانت سجلًا لمحاضر جلسات الديوان والحوادث الهامة، بيد أن أثر مطبعة نابليون زال بخروج الحملة الفرنسية من مصر، واشترى محمد علي مطبعتهم، فكانت نواةً مطبعة بولاق الشهيرة، أما مطابع تركيا فكانت أسبق إلى نشر الكتب الأدبية والعلمية من سواها، فطُبِعَ هناك القاموس المحيط سنة 1814، وطُبِعَتْ كافية ابن الحاجب سنة 1819، وجملة ما نشر من الكتب الأدبية واللغوية لا يزيد على أربعين كتابًا حتى سنة 18301.
لم يكن اتجاه محمد علي أدبيًّا، ولكن معظم اهتمامه كان بالعلوم والجيش والإدارة، ولذلك؛ كان نتاج مطبعة بولاق في أوائل أمرها علميًّا بحتًا، ومن أوائل الكتب التي طبعت بها قاموس طلياني عربي، وكتاب الأجرومية في النحو، ورسالة الفنون الحربية مترجمةً إلى التركية، وكتاب صباغة الحرير من الإيطالية، ثم سيرة الإسكندر الأكبر.
وفي الحق، لم تخرج مطبعة بولاق شيئًا ذا قيمةٍ من الكتب الأدبية إلّا في عهد إسماعيل، حينما أخذت النهضة الأدبية تشتد وتقوى، على أن مطبوعات استامبول كانت في نموٍّ واطرادٍ، ولا يزال لطباعتها في آذاننا رنة حتى اليوم.
ومن أشهر المطابع التي كان لها أثر ملموس في يالنهضة الأدبية بالشرق العربيّ، المطبعة الأمريكية ببيروت سنة 1834، ومطبعة الآباء اليسوعييين ببيروت كذلك، سنة 1848.
وتعد الأخيرة أكبر المطابع في سوريا، وأعظامها إتقانًا، وفيها حروف عربية، وإفرنجية، ويونانية، وسريانية، وعبرية وأرمينية.
الصحافة:
الصحافة من أسس النهضة الأدبية الحديثة، وعامل من أهم العوامل في مقاومته اللغة العامية، وانتشار اللغة الفصحى، ومجال واسع لنشر الأبحاث الأدبية، والعلمية، والسياسية، والتاريخية، والاجتماعية، ولقد تدرجت في نموّها من عصر محمد علي حتى اليوم.
1 راجع مجلة الشرق 3، 1900م.
أنشأ الفرنسيون إبان مقامهم في عهد نابليون صحيفتين فرنسيتين: العشار المصري "La Decade Egyptinne" وهي جريدةٌ علميةٌ اقتصاديةٌ، تنشر فيها أبحاث المجمع العلمي ومناقشات أعضائه، وتصدر كل عشرة أيام، وبريد مصر "Lecourrier de L'Egypt" وهي الصحيفة الرسمية للحملة الفرنسية، وتصدر كل أربعة أيام، وقد ذهبتا بانقضاء الحملة الفرنسية، كما أنهم نشروا سلسلة تاريخية حررها السيد إسماعيل الخشاب.
وقد أشرنا إليها سابقًا، وقد ذهبت كذلك بانقضاء حملتهم.
كانت هذه محاولات بدائية في الصحافة، فلما جاء محمد علي أصدر أول صحيفةٍ عربيةٍ سنة 1822، حين أصدر "جنرال الخديو"، وكان يطبع في مطبعة القلعة بالقاهرة، ويصدر كل مرة في مائة نسخة باللغتين العربية والتركية، متمضنًا الأخبار الحكومية، وبعض القصص من ألف ليلة وليلة، وكان يرسل إلى رجال الدولة الذين يهم الحاكم أن يقفوا منه على أحوال البلاد، وظلت تصدر لمحمد علي وحده بعد أن ظهرت الوقائع المصرية، وكان الغرض من تزويده ببعض القصص جذب القراء إليه، ثم أنشأ في سنة 1828 جريدة الوقائع المصرية، وكانت تصدر أول أمرها بالتركية والعربية معًا، وأخيرًا اقتصرت على العربية، ولا تزال تصدر حتى اليوم.
ولم يكن صدورها في عهد محمد علي منتظمًا، وكان يشرف على تحريرها الشيخ العطار شيخ الأزهر، وكان صديقًا للشيخ إسماعيل الخشاب محرر "سلسلة التاريخ".
وتكاد الوقائع تكون مقصورةً على الأخبار الرسمية، وكان محمد علي شديد الاهتمام بالوقائع، يودُّ أن يراها في قوة تحريرها وحسن إخراجها، وغزارة مادتها، مثل تلك الجرائد التي كانت تأتيه من أوربا، وتقرأ له، وقد أرسل ذات مرة يعنف المسئولين عن تحريرها؛ لأنهم نشروا خبرًا تافهًا لا يليق بمقام الجريدة الرسمية للدولة.
وجاء في كتابه: "لقد أخذنا العجب في درج مثل هذه الحوادث القبيحة، فإذا علمتم ذلك فعليكم من الآن فصاعدًا أن تدرجوا الحوادث اللائقة بالنشر، وتتجنبوا نشر ما لا يليق نشره، وأن تلاحظوا ذلك بكل تدقيق واهتمام؛ لأنه من مقتضى ذمة خدمتكم، ومطلوبي أن تكونوا بعدئذ على انتباه وبصيرة"1.
وقد حرص محمد علي على أن يرى مسودات الجريدة، ويبدي فيها رأيه قبل أن تنشر2، وبذا كان محمد علي أول صحفيٍّ بمصر، وكانت مهمته أشبه بمهمة رئيس التحرير في الجرائد اليومية اليوم، فكان يشير بالمقالات، ويحذف ما لا يراه لائقًا بكرامة الصحيفة، ولا يبخل عليها بمالٍ أو رجالٍ، ويأمر أن يلي أمر طبعها عمال مهرة لا تشوب كفايتهم شائبة.
وقد تعاقب على تحريرها منذ ذلك الوقت نخبة من كبار الأدباء منهم: مختار بك، مدير المدارس في عهد محمد علي، وبغوص بك، موضع ثقته في المسائل العليا، وأحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين، صاحب السفينة، والشيخ رفاعة الطهطاوي، والشيخ محمد عبده، والشيخ أحمد عبد الرحيم، والشيخ عبد الكريم سلمان، وغيرهم.
وقد تعطلت الوقائع بعد محمد علي، ما بين 1849- 1863، ولم تصدر جريدة غيرها، وذلك راجع إلى عزوف عباس وسعيد عن النهضة ووسائلها، ولكنها استأنفت حياتها في عهد إسماعيل.
تعقيب:
كانت نهضة محمد علي -كما رأينا من كل ما تقدم- علميةً حربيةً، ولم يلتفت للأدب أدنى التفاتة، وذلك لأنه لم يكن بحاجةٍ للأدب كحاجته لجيشٍ قويٍّ يدعم به عرشه، ويؤسس دولته، ويدافع به عن نفسه.
1 محفوظات عابدين، وثيقة رقم 51، في 14 من جمادى اللآخرة 1248هـ، دفتر 48 معية سنية.
2 راجع محفوظات عابدين، وثيقة رقم 799، في 19 من جمادى الآخرة 1251هـ، دفتر 66 معية تركي.
وكان كل شيء في مصر، وكل البعثات من طبيةٍ وهندسيةٍ وصناعيةٍ وغيرها، ترمي إلى خدمة الجيش، ورجال الجيش، ومع ذلك، فقد كانت هذه النهضة الحربية أساسًا للنهضة العلمية الأدبية التي ظهرت في عهد إسماعيل، فالمدارس التي فتحت في عهد محمد علي، والكتب التي ترجمت، والبعثات التي تزودت من علوم أوربا، واطلعت على حضارتها، أسهمت كلها في النهضة التالية، وساعدت على نجاحها، فلم يكن كبار المفكرين في عهد إسماعيل إلّا شبّانًا في عهد محمد علي، ولقد أفادوا مصر فيما بعد أكبر فائدة، وفي طليعتهم رفاعة الطهطاوي، ومحمد علي البقلي، وإسماعيل الفلكي، ومحمود الفلكي، وعلي مبارك.
وتعلَّم هؤلاء في عصر محمد علي، وقادوا الحركة الفكرية في عهد إسماعيل، ففضل هذا العصر على النهضة الأدبية من هذه الناحية أَجَلّ من أن ينكر، على الرغم من أن اللغة الرسمية للدولة كانت التركية، ولكن اللغة العربية أخذت منذ ذلك الحين تنمو وتشتد، حتى استطاعت بعد زمنٍ وجيزٍ أن تقضي على التركية في الديوان، ثم تصير لغة الأدب الحيِّ الذي ينبض بالقوة، ويعبر عن الحضارة الحديثة؛ لكثرة ما ترجم إليها من آثار الغرب، وكثرة ما أحيا من تراث العرب، والفضل في ذلك لهذه الأسس التي بنيت عليها نهضتنا الحديثة.
وعلى الرغم من مظاهر النهضة المختلفة، فإن محمد علي لم يكن يقصد نفع مصر والمصريين، وإنما كان يريد استغلالهم على أسوأ طريق؛ فحكمهم بالقهر، وأطاح بالرءوس الكبيرة في البلاد، وجمع كل عقود التمليك، ووزع الأرض الزراعية توزيعًا جديدًا، كان لأقاربه وأنصاره من غير المصريين منها النصيب الأكبر، ومن هنا جاء الإقطاع الحديث بشروره وآثامه.
كما أنه جعل مصر مزرعةً كبرى يجني وحده خيراتها، وينفق من تلك الخيرات على الجيش الذي يعده لتمكين ملكه وتثبيت عرشه، وتوسيع نفوذه.
وقد أخذ ما كان للمساجد من أموال، وأخذ من أوقاف الأزهر ما لو بقي له اليوم لكان ذا شأن كبير في إصلاحه، والنهوض به.
ولقد أساء محمد علي إلى المصريين وأذلهم، وصار يجبي منهم الأموال بالعسف، ويسوقهم سوق الأنعام للجندية التي يحارب بها السلطان أو الوهابيين في نجد، وفَضَّل عليهم الأجانب الذين جلبهم لمعاونته في تدبير شئون البلاد، وأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم في الامتياز متعديًا حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة العثمانية، حتى صار كل صعلوكٍ منهم، لم يكن يملك قوت يومه، ملكًا أو كاللملك في بلادنا، يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل؛ فصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم، وتمتع الأجنبيّ بحقوق الوطنيّ التي حرمها، وانقلب الوطنيّ غريبًا في داره، غير مطمئنٍ في قراره، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان: ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة، وذل سامهم الأجنبيّ إياه ليصل إلى ما يريد منهم، غير واقف عند حَدٍّ، أو مردود إلى شريعة1.
1 مذكرات محمد عبده، ص49-50.
4-
الأدب في عهد محمد علي:
لا نستطيع أن نقول أن الأدباء الذين ظهروا في عهد محمد علي هم أثر النهضة العلمية في عصره، ولكنهم ولا شكَّ أفادوا منها، مع أنهم من آثار العصر السابق، اطلعوا في عصر محمد علي على أشياء كثيرة لم يروها من قبل، وأحاطت بهم نهضة شاملة، مع ذلك، فقد كانوا مكبلين بقيود الألفاظ والزخارف في كتبابتهم وشعرهم إلّا القليل، ومن هؤلاء:
1-
الشيخ حسن العطار1:
من أسرة مغربيةٍ، نزحت إلى القاهرة، فوُلِدَ بها سنة 1180هـ 1866م، وكان أبوه عطَّارًا، فتبع أباه في تجارته أول الأمر، ولكن الله قد أودع قلبه حب الأدب والعلم، فلم يضن عليه والده بالمساعدة على تحصيلها، وجَدَّ الولد، وحصل منهما الشيء الكثير، ووعى ما حَصَّلَ، وتتلمذ على أكابر علماء عصره؛ كالشيخ الأمير والشيخ الصبان.
وفي أيامه دخل الفرنسيون، فاتصل بهم، وأفاد منهم بعض الفنون الشائعة ببلادهم، وعَلَّمَ بعضهم اللغة العربية، ثم ارتحل إلى الشام، وسكن دمشق زمنًا.
وتَجَوَّلَ في بلادٍ كثيرةٍ يفيد ويستفيد، ثم آب إلى مصر، فأقرَّ له علماؤها بالفضل، وعُهِدَ إليه بتحرير الوقائع المصرية، ثم تولَّى التدريس بالأزهر، ثم صار شيخًا له بعد الشيخ العروسي سنة 1246، فأحسن إدراته، وظلَّ في منصبه إلى أن توفي سنة 1250هـ- 1835م، وكان محمد علي يجلُّه ويكرمه لما امتاز به من التفوق في العلوم العصرية والأدبية وفنونها، ويقول عنه تلميذه رفاعة الطهطاوي في كتابه "مباهج الآدب المصرية":"كانت له مشاركة في كثير من هذه العلوم الجغرافية، فقد وجدت بخطه هوامش جليلة على كتاب تقويم البلدان، لإسماعيل أبي الفداء سطان حماة.. وله هوامش أيضًا وجدتها بأكثر التواريخ على طبقات الأطباء وغيرها، وكان يطلِّعُ دائمًا على الكتب المعرَّبة من تواريخ على طبقات الأطباء وغيرها، وكان له ولوعٌ شديدٌ بسائر المعارف البشرية"2".
وقد خلَّف عدة مؤلفاتٍ في النحو والبيان والمنطق والطب، وله في البلاغة حاشيةٌ على السمرقندية، وله كتاب في الإنشاء والمرسلات، طبع مرارًا بمصر، وجمع ديوان ابن سهل الإشبيلي وبوبه، وكان على إلمامٍ بعلم الفلك، وله رسالة في كيفية العمل بالأسطرلاب، وكان يحسن عمل المزاول الليلية والنهارية، وقد اشتهر بالأدب والشعر.
وكان صديقًا للسيد إسماعيل الخشاب، واستمرت صحبتهما بعد عودة الشيخ العطار من الشام -حتى كانا يبيتان معًا- إلى أن مات الخشاب، وللعطار ديوان شعرٍ، وروى له الجبرتي كثيرًا، وكان على صلة بكثير من أدباء عصره، ومنهم المعلم بطرس كرامة اللبناني، وقد قال فيه كرامة لما لقيه بمصر:
قد كنت أسمع عنكم كل نادرة
…
حتى رأيتك يا سؤلي ويا أربي
والله ما سمعت أذني بما نظرت
…
لديك عيناني من فضل ومن أدب
1- راجع ترجمته في الخطط التوفيقية، ج4 ص48، وتاريخ آداب اللغة العربية، ج: ص222، وكنز الجوهر في تاريخ الأزهر، لسلمان رصد الزياتي ص138، وعصر محمد علي للرافعي، ص472.
2-
مباهج الألباب المصرية، ص375.
ومن نثر الشيخ العطار:
"أما بعد، فإن أحسن وشي رقمته الأقلام، وأبهى زهر تفتحت عنه الأكمام، عاطر سلام يفوح بعبير المحبة نفحه، ويشرق في سماء الطروس صبحه.
سلام كزهر الروض أو نفحة الصبا
…
أو الراح تجلى في يد الرشأ الألمي
سلام عاطر الأردان، تحمله الصبا سارية على الرند والبان، إلى مقام حضرة المخلص الوداد، الذي هو عندي بمنزلة العين والفؤاد، صاحب الأخلاق الحميدة، حلية الزمان الذي حلى معصمه وجيده
…
إلخ".
ومن شعره قوله يتغزل:
ألزمت نفسي الصبر فيك تأسيًا
…
والصبر أصعب ما يقاد نجيبه
وبليت منك بكل لاح لو تبدَّى
…
نحو طودٍ أثقلته كروبه
أفلا رثيت لعاشق لعبت به
…
أيدي المنون ونازعته خطوبه
أنت النعيم له ومن عجب
…
تعذبه وتمرضه، وأنت طبيبه
وهو شعر إذا قيس بعصره دل على روح أديب، وذوق شاعر، كما أن النثر، وإن كان مسجوعًا، إلّا أنه غير مثقل بالحلى اللفظية، مما يدل على بعض التطور في كل من النثر والشعر، نعم، إن في النثر تكلفًا وتعمدًا للسجع، فإذا كان السلام عاطر الأردان، فلابد أن تحمله الصبا ساريةً على الرند والبان، إلى غير ذلك مما يذكرنا بسجع القاضي الفاضل، وتذليل المعاني للألفاظ، وخفاء شعور الكاتب والشاعر تحت هذه الزخارف الكثيرة، على أن الشيخ العطار مع هذا، من أحسن كُتَّابِ عصره وشعرائه ديباجة، وأقلهم تكلفًا.
2-
الشيخ حسن قويدر:
تلميذ العطار، ولد 1204هـ-1789م، وهو مغربيّ الأصل كأستاذه، ونزح أهله إلى بلدة الخليل بالشام، وجاء والده إلى القاهرة وأقام بها، فولد فيها المترجم، ونال شهرة عظيمة في العلوم، وكان مع ذلك يشتغل بالتجارة، وصارت
له مع أهل الشام صلات تجارية، ومن تأليفه شرحه المطول على منظومة الشيخ العطار في النحو، وكان قد قرظها من قبل بقوله:
منظومة الفاضل العطار قد عبقت
…
منها القلوب بريا نهكة عطره
لو لم تكن روضة في النحو يانعة
…
لما جنى الفكر منها هذه الثمرة
وله كتاب إنشاء ومراسلات، وكتاب نيل الأرب في مثلثات العرب، وهو مزدوجات ضمنها الألفاظ المثلثة الحركات، المختلفات المعاني، كمثلثات قطرب، وقد طبع بمصر، ونقله إلى الإيطالية المستشرق "إريك فيتو" قنصل إيطاليا ببيروت، وهو أرجوزة طويلة مطلعها.
يقول من أساء واسمه حسن
…
لكن له ظن بمولا حسن
فكم لملواه عليه من منن
…
بالعد لا تدخل تحت الحصر
ويقول في المنظومة:
جمعت فيها الكلمات اللاتي
…
تكون في الشكل مثلثات
أبدًا بالمفتوح ثم آتي
…
بالضم لكن بعد ذكر الكسر
وهاك مثلًا من مثلثاته:
أجمة الحَلْفاء هي الأباء
…
والامتناع من كذا إباء
والغيث كان يا أخي أباء
…
وهو كراهة الطعام فادر
وهي ألفان ومائتان وعشرة أبيات، ومن مطبوعات جمعية المعارف.
وكان مشهورًات بالتأريخ الشعري، وقد أرَّخ وفاته وهو مريض سنة 1263هـ بقوله:"رحمة الله على حسن قويدر" ومما يُرْوَى من شعره قول:
يا طالب النصح خذ مني محبرة
…
تلقى إليها على الرغم المقاليد
عروسة من بنات الفكر قد كسيت
…
ملاحة، ولها في الخد توريد
كأنها وهي بالأمثال ناطقة
…
طير له في صميم القلب تغريد
واحذر من الناس لا تركن إلى أحد
…
فالخِلُّ في مثل هذا العصر مفقود
بواطن الناس في ذا الدهر قد فسدت
…
فالشر طَبْعٌ لهم والخير تقليد
وله قصيدة تسمى: المزدوجة جاء منها، وهي طويلة:
رأيت بدرًا فوق غصن مائس
…
يخطر في خضر من الملابس
ويسحر العقل بطرفٍ ناعسٍ
…
وهو بشوش الوجه غير عابسٍ
كأن ماء الحسن منه يجري
خاطرت لما أن رأيته خطر
…
وحار فكري في بها ذاك الحور
وقلت لا والله ما هذا بشر
…
ومن بشمس قاسهه أو القمر
فليس عندي بالقياس يدري
وهو شعركما ترى، قريب المعاني جدًّا، ليس فيه من الخيال شيء، وهو إن خلا من المحسنات البديعية إلّا أنه غير متين النسج، بل هو قريب من الكلام المعتاد، وكل تشبيهاته قديمة.
وقد رثاه محمد صفوت الساعاتي بقصيدة مطلعها:
بكت عيون العلا وانحطت الرتَبُ
…
ومزقت شملها من حزنها الكتب
2-
السيد علي الدوريش:
تُوفِيَ سنة 1270هـ-1853م.
وهو السيد علي الدرويش بن إبراهيم المصري، وُلِدَ بالقاهرة سنة 1211هـ، ونشأ بها، وأُغْرِمَ بالأدب، وحفظ كثيرًا من الشعر، وأصاب شهرةً كبيرةً في زمانه، وله عدد وفير من المقطوعات الغنائية، واتصل بأمراء أسرة محمد علي، وعُرِفَ بشاعر عباس الأول، ولم يكن يتكسب بالشعر؛ لأن الله رزقه حظًّا من الثروة، فاكتفى بما لديه.
وله من المؤلفات "الدرج والدرك"، وضعه في مدح من اشتهر في أيامه بحميد المزايا وكريم الصفات، وكتاب "محاسن الميل لصور الخيل" وضعه بأمر عباس الأول، ذكر فيه محاسن الخيل ومساوئها، و"سفينة الأدب".
وشعره يمثل لنا عصره؛ من حيث الولوع بالمحسنات البديعية، يحشرها حشرًا، ويتكلفها تكلفًا، ومعانيه وأخيلته لا تدل على شاعرية ممتازة إذا قيست بشعر عصرنا، ولكنه بالنسبة لعصره كان طليعة الشعراء، وقد اشتهر بالتواريخ الشعرية، وله ديوان طبعه تلميذه مصطفى سلامة النجاري في 482 صفحة، وقد جمع كل ما قاله السيد على الدرويش من شعر ونثر.
ومن نثره قوله في مقامة الفضيلة والرذيلة:
"وفقك الله لما يرضاه، وعصمك في موجب الذم، ومن لا يتحاشاه، إن الفضيلة والرذيلة صفتان متضادتان، ونوع الإنسان مجبول على الميل للأولى، والفرار من الأخرى على حسب آراء العباد، وعوائد البلاد، فربما كانت الفضيلة عند قوم رذيلة عند آخري، وكانت الرذيلة عند أممٍ فضيلة عند غيرهم من المتأخرين، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، مع تفاوت في طباعهم، وأشكالهم، وصنائعهم، فمنهم ذو الطبع السليم، ومنهم الذميم، ولا سبيل إلى ترغيب الأول ليجتهد في الازدياد، وترهيب الثاني لينطبع على أن يتحاشى بالاعتياد، لا باللسان، الآتي بسحر البيان، فقد جاء في الحديث: "إن إيمان المرء ليربوا إذا مدح، وربما
يصح الجسم إذا جرح، فمن ذلك كان المدح على المحاسن تذكيرًا، والذم على القبائح تنفيرًا، وكلاهما مطلوب شرعًا، ومرغوب فرعًا، فيستقيظ الغافل، ويقبل الكمال الكامل".
ومن شعره قطعةٌ قالها في منفلوط "وهي من قرى الصعيد":
سعيد من نأى عنه الصعيد
…
صعود ما لطالعه سعود
وردنا منفلوط فلا سقاها
…
وردناها فأظمأنا الورود
فما لي قد بعثت لقوم عاد
…
كأني صالح وهم ثمود
أراهم ينظرون إليّ شزرًا
…
كعيسى حين تنظره اليهود
فما لي منهم خِلٌّ ودودٌ
…
ولي من طبعهم خلٌّ ودود
ويقول في الهرمين:
انظر إلى الهرمين واعلم أنني
…
فيما أراه منهما مبهوت
رسخا على صدر الزمان وقلبه
…
لم ينهضا حتى الزمان يموت
ومن شعره يصف الجراد الذي اجتاح مصر سنة 1259هـ:
فترى الجراد على الجريد
…
مكللًا مثلَ الثمر
ورقشٌ تراها إنها
…
نارٌ تلظَّى بالشجر
لواحة للأرض لا
…
تبقي النبات ولا تذر
وصغيرةٌ في حجمها
…
لكنها إحدى الكبر
الأرضُ كانت جنة
…
فالآن ترمي بالشرر
نزل الجراد بها كما
…
نزل القضاء أو القدر
4-
المعلم بطرس كرامة:
وهو من شعراء سوريا في عهد محمد علي، وُلِدَ في حمص سنة 1188هـ 1774م، وجاء لبنان واتصل بالأمير بشير الشهابي، وتُوفِيَ سنة 1268هـ 1851م، ومن شعره يصف ينبوع الصفا، وقد مد "بيت الدين" مقر الأمير بشير بماء هذا الينبوع:
صاح قد وافى الصفا يروي الظما
…
بشرابٍ كوثريّ العس "كذا"
وأفاض الشهد في روض الحمى
…
لجلا الغم وبرء الأنفس
حبذا الفوار عنه حين راق
…
فأرانا ماؤه ذوب اللجين
نَزَّه القلب عن الهم، وراق
…
بسنا صافي صفاه كلّ عين
نثره الدر بفيض واندفاق
…
وسقى الوراد أهنا الأطيبين
قد جرى عذبًا فأغنى الندما
…
بزلال من رحيق الأكؤس
وعلى الأغصان أبقى النِّعَما
…
فزهت مثل ندامى العُرُس1
وقال يصف باقة زهر أهداها له الأمير بشير:
وقال يصف باقة زهر من ميلك منحتها
…
معطرةَ الأرواح مثلَ ثنائه
فأبيضاها يحكي جميل خصاله
…
واصفرُها يحكي نضار عطائه
وأزرقها عين تشاهد فضله
…
وأحمرها يحكي دماء عدائه
1 قد نظم الشاعر هذه القصيدة على منوال الموشح الأندلسيّ المشهور، لابن سهل الإشبيليّ، ومطلعه.
جادك الغيث إذا الغيث همى
…
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلّا حلمًا
…
بالكرى أو خلسة المختلس
وقال يهنيء إبراهيم باشا بفتح عكا:
فتحٌ به الفتح القريب موكد
…
وكواكب النصر المبين توقد
ما المجد إلّا بالحسام ولم يدم
…
شرف الفتى ما لم يصنه مهند
ما يوم عكة لم تذع ذكرًا لما
…
غبر الزمان به وما يتجدد
يوم به الحرب العوان تضرمت
…
بقنابل مثل الصواعق ترعد
رجمت بشهب كراتها الأسوار من
…
لهب فدك الشامخ المتوطد
ورمت بصدر بورجها قلل الفضا
…
تلك المدافع فهي طورًا تسجد
فتخال والهيجاء تلهب حولها
…
نار الجحيم بجوها تتصعد
سبقت إليها الصبح أسد عرينة
…
وبغير صبحٍ حرابهم لم يهتدوا
من كل أروع قد تعود في الوغى
…
أخذ الكمأة وما يقول السيد
وتراه يبسهم للكفاح كأنما
…
ورد الحمام لديه نعم المورد
وثبوا على الأسوار، ثم تسنموا الـ
…
أبراج السيف الصقيل مجرد
وتجلد القوم العدة وإنما
…
لم يجدهم عند العراك تجلد
5-
الشيخ ناصيف البازجي:
هو الشيخ ناصيف بن عبد الله اليازجي، وُلِدَ بكفر شيما بلبنان، سنة 1800م، واشتغل أول أمره بالعلوم والطب، ولكن الأدب غلب عليه، واتصل بالأمير بشير الشهابي، فاتخذه كاتم سره، ولما دالت دولة الأمير بشير انقطع للتأليف ومراسلة الأدباء، ونظم الشعر، وقد خلَّف عدة مؤلفات، من أشهرها:
1-
مقاماته الستون المعروفة بمجمع البحرين، عارض فيها مقامات الحريري، ويقول في إحداها المعروفة بالمقمامة الخزرجية:
"قال سهيل بن عباد: دخلت بلاد العرب في التماس بعض الأدب، فقصدت نادي الأوس والخزرج، لأتفرج وأتخرج، وآخذ من ألسنتهم بعض المنهج، فلما صرت في بهرة1 النادي، أخذ بمجام فؤادي، فجلست بين القوم ساعة، وأنا
1 بهرة النادي: وسطه.
أحدق إلى الجماعة، وإذا شيخنا ميمون بن خزام، قد تَصَدَّرَ في ذلك المقام، وهو يقول: من أراد أن يعرف جهينه1 أو شاعر مزينه2، فليحضر ليسمع ويرى، فإن كل الصيد في جوف الفرا3، فعمد إليه رجل وقال: أطرق كرى، إن النعامة في القرى4 إلخ".
ومن نثره المرسل قوله:
"وكان الملوك ومن يليهم في الأيام القديمة يعرفون كثيرًا من العلوم ويتمكنون منها، حتى كان منهم من يخطيء العلماء في بعض المسائل؛ ولذلك كانوا يعتنون بشأن العلم والعلماء ويعرفون حقهم، وكانوا يقيمون مدارس في علوم شتَّى، حيثما وجدوا لها موضعًا، ويغرمون المشايخ والطلبة بالعطايا والإحسان، فكان الناس يدخلون فيها أفواجه، ويعكفون على تحصيل ما يستطيعون من العلوم، حتى إذا استتم الرجل علمه خرج إلى منصب، أو وظيفة عند السلطان، متمتعًا ببسطة الجاه والمال، ومستغنيًا عن جميع المهمات والأشغال، فيفرغ للتوسع في العلوم، وإنشاء المصنفات فيها، وبذلك يكون مثالًا لغيره في طلب العلم والتجرد له".
2-
وله كتاب فصل الخطاب في الصرف والنحو، وله شرح على ديوان المتنبي، أتمه ابنه الشيخ إبراهيم، واسمه العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب.
3-
وله ديوان شعر في ثلاثة أجزاء: أحدهما: نفحة الريحان، وثانيها: فاكهة الندماء، وثالثها: ثالث القمرين.
وشعره يجمع بين الرقة والمتانة، ومن شعره في بخيل:
1 جهينة: قبيلة قتل رجل منها قتيلًا، ومر بامرأته وهي تبحث عنه فقال:
تناشد كل حي عن حصين
…
وعند جهينة الخبر اليقين
2 هو زهير بن أبي سلمى.
3 الفرا: حمار الوحش، ومن صاده أغناه عن كل صيد سواه، ويضرب بهذه الكلمة المثل.
4 الكرى: الكروان: أخفض رأسك ولا تتكبر، فإن النعامة وهي أكبر منك قد صيدت وحبست في القرى.
قد قال قومٌ إن خبزك حامض
…
والبعض أثبت بالحلاوة حكمه1
كذب الجميع بزعمهم في طعمه
…
من ذاقه يومًا ليعرف طعمه؟
وقال في الزهر:
مر النسيم على الرياض مسلمًا
…
سحرًا فرد هزارها مترنما
وحنى إليه الزهر مفرق رأسه
…
أدبًا، ولو ملك الكلام تكلما
يا حبذا ماء الغدير وشمسه
…
تعطيه دينارًا فيقلب درهما
وقال يرثي صديقًا:
قد كنت أنتظر البشرى برؤيته
…
فجاءني غير ما قد كنت أنتظر
إن كان قد فات شهد الوصل منه فقد
…
رضيت بالصبر لكن كيف أصطبر
أحب شيء لعيني حين أذكره
…
دمع، وأطيب شيء عندها السهر
هذا الصديق الذي كانت مودته
…
كالكوثر العذب لا يغتالها كدر
لا غرو أن أحزان الزوراء مصرعه
…
فحزنه فوق لبنان له قدر
وقال يمدح محمد علي "باشا" ويهنئه بفتح عكا:
يا فاتح القطرين أنت محمد
…
هل دون فتحك في البلاد مسدد؟
أنت العلي كما يقال ونسله
…
منك المعالي لم تزل تتولد
لما بعثت من الكنانة سهمها
…
حلفت عليه أنه لا يصرد
ما زالت النار التي وقدت له
…
بردًا عليه وناره لا تبرد
من مثل إبراهيم إلّا سيفه
…
يوم الكريهة والقنا المتأود
1 أل لا تدخل على بعض في صحيح اللغة، وعجب أن يفوت ذلك على الشيخ ناصيف، وهو العالم اللغوي.
ولقد ضربت حصون عكاء التي
…
كانت لهيبتها الفرائص ترعد
الله أكبر ليس دونك قلعة
…
تحمي ولا حصن أشم ممرد
وتحصنت منك الأسود فلا تلم
…
قومًا بإغلاق الحصون استنجدوا
أسألت "عبد الله1" أين قلاعه
…
ورجاله وفؤاده المتوقد؟
ومما كنا نحفظه في الصغر للشيخ ناصيف اليازجي، قوله في عروس الزهر "الوردة":
هذي عروس الزهر نقطها الندى
…
بالدر فابتسمت ونادت معبدًا
لما تفتق سترها عن رأسها
…
عبث الحياء بخدها فتوردا
فتح البنفسج مقلة مكحولة
…
غمز الهزار بها فقام وغردا
وتبرجت ورق الحمام بطوقها
…
لما رأين التاج يعلو الهدهدا
بلغ الأزاهر أن ورد جنانها
…
ملك الزهور فقابلته سجدا
فَرَنَا الشقيق بأعين مُحْمَرَّةٍ
…
غضبًا وأبدى منه قلبًا أسودا
بسط الغدير الماء حتى مسه
…
برد النسائم قارسًا فتجمدا
ورأى النبات على جوانب أرضه
…
مهدًا رطيبًا لينًا فتوسدا
يا صاحبي تعجبًا لملابس
…
قد حاكها من لم يمد لها يدا
كل الثياب يحول لون صباغها
…
وصباغ هذي حين طال تجددا
وفي هذه القصيدة خيال جميل، وسهولة لفظ، ورقة وصف، تجعل مثل ناصيف اليازجي يقف وحده بين شعراء عصره، كما يقف وحده بين كتاب جيله؛ لمتانة عبارته، وحسن صياغته، ولأنه ترسل في كتابته على خلاف المعهود في زمنه.
ومن جميل شعره الذي يدل على رقة حسٍّ، ودماثة عاطفةٍ، قوله يرثي ولده حبيبًا:
1 يقصد عبد الله الجزار، والي عكا حينذاك.
ذهب الحبيب فيا حشاشة ذوبي
…
أسفًا عليه ويا دموع أجيبي
ربيته للبين حتى جاءه
…
في جنح ليلٍ خاطفًا كالذيب
يا أيها الأم الحزينة أجملي
…
صبرًا فإن الصبر خير طبيب
لا تخلعي ثوب الحداد ولازمي
…
ندبًا عليه يليق بالمحبوب
إني وقفت على جوانب قبره
…
أسقي ثراه بدمعي المصبوب
ولقد كتبت له على صفحاته
…
يا لوعتي من ذلك المكتوب
الشهاب الألوسي:
هو أبو الثناء شهاب الدين محمود الألوسي، وُلِدَ ببغداد سنة 1217هـ-1802م، وتوفي 170هـ-1854م.
وكان إمامًا في التفسير والإفتاء، وعالمًا ضليعًا باللغة، وكاتبا بليغًا، وخطيبًا مصقعًا، وقد حظي بشهرة عظيمة في عصره، وصار مقصد الأدباء والمتأدبين، وطلاب التفسير والفقه.
وقد كثر حاسدوه وشانئوه بغداد، واضهده الوالي التركي، فقام برحلةٍ إلى الآستانة، يبث شكواه لأولي الأمر، ويعرض عليهم تفسيره المشهور "روح المعاني"، ولقي في رحلته من الإكرام ما أنساه غلظة الوالي، وسجل رحلته بعد عودته لبغداد في ثلاثة كتب.
كان سريع الخاطر، منطلق الذهن في الكتابة والتحرير، وقيل: إن أقل ما كان يكتبه في الليلة من مؤلفاته ورقتان كبيرتان، وله عدة كتب في التفسير والفقه والمنطق والأدب واللغة، ومن أشهرها:
1-
روح المعاني في التفسير، وهو تسعة أجزاء، ويعد خير كتبه، ومن أحسن التفاسير المتداولة، وقد طبع مرةً على نفقة ولده السيد نعمان خير الدين بمطبعة بولاق بمصر سنة 1301هـ.
2-
شرح السلم في المنطق.
3-
كشف الطرة عن الغرة، وهو شرح على درة الغواص للحريري.
4-
وله كتاب في المقامات، طبع في كربلاء.
ومن نثره يصف القسطنطينية:
"بلدة مونقة الأرجاء، رائعة الأنحاء، ذات قصور تضيق عن تصويرها الأذهان، وتتجاذب الحسن هي وقصور الجنان، وربة رياض أريضة، وأهوية صحيحة مريضة، وقد تغنت أطيارها فتمايلت طربًا أشجارها، وبكت أمطارها فتضاحكت أزهارها، وطاب نسيمها، فصحَّ مزاج إقليمها، وليتك رأيت ما فيها من الرياض الأنيقة، والأشجار المتهدلة الوريقة، وقد ساقت إليها أرواح الجنائب، زقاق حمر السحائب، فسقت مروجها مدام الطل، فنشأ على أزهارها حباب كاللؤلؤ المنحلّ، فلما رويت من الصهباء أشجارها، رنحها مع النسيمات المسكية خمارها، فتدانت ولا تداني المحبين، وتعانقت ولا تعانق العاشقين، يلوح من خلالها شقيق، كأنه جمرات من آثار حريق، ويتخللها بهر يبهر ناظره.
وكأن النرجس الغض بها
…
أعين العين وما فيهن غمض
ومن نثره قوله يحذر أولاده من الدجاجلة وأبالسة التضليل:
"يا بني! بعض الناس ذئاب، عليهم من جلود الشاة ثياب، فلا تخدعوا بمتماوت تغنجت كالهلوك كلمته، ولانت كالصعلوك عريكته، وولع الذبول بقمامته، فتناطحت تفاحة كتفه ورمانة هامته، وربما لزق ذقنه بصدره، وأصاخ بسمعه نحوه بسره، وحمل سبحة من ذوات الأذناب، وجعلها شبكةً، وأعمل فيها سبابته تنقر حباتها كما تنقر الحب الديكة.
قريب الخطو تحسبه لهون
…
وليس مقيدًا يمشي بقيد
فوأبى! لقد رأيت في هؤلاء المتماوتين من هو أَمَرُّ من أبي مرة، وأضر منه بألف مرة.
وقد جربتهم فرأيت منهم
…
خبائث بالمهيمن تستجير1
ومن شعره قوله في العراق:
أهيم بآثار العراق وذكره
…
وتغدو عيوني من مسرتها عبرى
وألثم أخفافًا وطئن ترابه
…
وأكحل أجفانًا برتبته العطرى
وأسهر أرعى في الدياجي كواكبًا
…
تمر إذا سارت على ساكني الزورا
وأنشق ريح الشرق عند هبوبها
…
أداوي بها يا مي مهجاتي الحرا
ومنه قوله:
وإذا الفتى بلغ السمك بفضله
…
كانت كأعداد النجوم عداه
ورموه عن حسد بكل كريهة
…
لكنهم لا ينقصون علاه
ومن المعاصرين لأبي الثناء الألوسي الشاعر الأخرس البغدادي، وقد اشتهر بشعره الثائر على الأوضاع الفاسدة ببغداد، وهناك مقطوعة قصيرة قالها حوالي سنة 1803، يصور بها العراق بأنه صار موردًا عذبًا للكلاب، بينما تذاد الأسود عن نميره، ولم يعد يجد الأحرار فيه موئلًا، بل ضاق بكل حر أبي، وتحكم فيه الأوغاد والطغاة.
ودهر أعاني كل يوم خطوبه
…
وذلك دأبي يا أميم ودأبه
مسوق إلى ذي اللب في الناس رزؤه
…
ووقف على الحر الكريم مصابه
وحسبك مني صبر أروع ماجد
…
بمستوطن ضاقت بمثلي رحابه
تذاد عن الماء النمير أسوده
…
وقد تبلغ العذب الفرات كلابه
وأعظم بها دهياء وهي عظيمة
…
إذا اكتنف الضرغام بالذل غابه
متى ينجلي هذا الظلام الذي أرى
…
ويكشف عن وجه الصباح نقابه؟
1 تجد نماذج لشعره في كتاب "أعلام العراق" لمحمد بهجة الأثري، ص24، وما بعدها.
وتلمع بعد اليأس بارقة المنى
…
ويصدق من وعد الرجاء كذابه
ومن لي بدهر لا يزال محاربي
…
تفل مواضيه وتنبو حرابه
عقور على شلوى يعض بنابه
…
وتعدو علينا بالعوادي ذائبه1
تعقيب:
ذكرنا آنفًا أن هذا الأدب وليد العصر السابق، وأنه لم يتأثر أدنى تأثر بالحركة العلمية التي حمل محمد علي لواءها في مصر، كما رفع رجال الإرساليات التبشيرية هذا اللواء في بعض بلاد الشام؛ لأن هذه الحركات فضلًا عن أنها كانت في بدء نشأتها، بحيث لم يستفد بها هؤلاء الرجال الذين ترجمنا لهم، والذين هم خير من أنجب عصرهم، فإن هذه الحركات كانت علميةً لا تُعْنَى بالأدب إلّا القليل.
والنماذج التي أوردناها لهؤلاء الأدباء من شعرٍ ونثرٍ، تفصح عن تعلق أكثرهم بتلك الحلى المتكلفة، والزخارف اللفظية، والمعنوية، والتي تضحي بالفكرة في سبيل المحسن المقصود، والفكرة في ذاتها ضحلة، والخيال يكاد يكون معدومًا، وما بها من معنًى فهو مأخوذ من السابقين، وليته ظهر واضحًا كما ظهر عند المتقدمين من الشعراء، ولكنه توارى تحت ستارٍ كثيفٍ من المحسنات الثقيلة، والنسج ضعيف إلّا القليل.
وأما الأغراض فهي تلك المقاصد التقليدية التي صار عليها الأدباء من قديم، ولم يظهر فيما رأينا أية بادرة للروح القومية ويقظة الشعوب، والأغراض العامة، وإفصاح الشاعر عما يجيش في نفسه هو من حزنٍ وألمٍ، وفرحٍ ولذةٍ، مما يلاقيه في الحياة، بحيث يبدو مستقلًّا في شخصيته عن أميرٍ يُمْدَحُ، أو عظيم يُرْثَى، وربما كان عند بعض شعراء الشام أو العراق في ذلك الوقت -كما رأيت- كلف بالطبيعة ووصفها؛ لأن الشاعر الحساس لا يملك أن يغمض عينه مهما كانت من الضعف، أو ألا ينجذب ذوقه مهما كان عليه من المرض، أمام هذه الطبيعة الفياضة بالفتن والمحاسن في بلاد الشام، والطبيعة ثمة تغري على القول:
تبدل كل آونة لبوسًا
…
خيال العبقري به يضل
بيد أن وصف الطبيعة، وإن دلَّ على حسٍّ مرهفٍ، وتأثرٍ بجمالٍ، فإن الصياغة والمعاني تئن من الضعف والركة، ولم يلم لهم إلّا القليل مما تبدو عليه آثار العافية والصحة والجمال.
1 مجموع الأخرس، ص88-90، والديوان ص52-54.
5-
التأليف في عصر محمد علي:
رأينا عند الكلام على الترجمة، أن النهضة الحديثة ابتدأت، والبلاد في فقرٍ عقليٍّ شنيع، وظلامٍ مطبقٍ دامسٍ، وليس ثَمَّةَ إلّا بصيص ضئيل من النور يشع من الأزهر، بيد أن أهله كفوا على كتب الأقدمين يدرسونها بطريقتهم العقيمة، ولم يكونوا على علمٍ بما وصلت إليه أوروبا من علمٍ وحضارةٍ، بعد أن جاء نابليون، ومعه العلماء الأفذاذ والباحثون العظام، بل ظلَّ الأزهر كما هو غارقًا في أحلامه القديمة، وإن اعتمد عليه محمد علي في اختيار أعضاء البعثات منه أول الأمر، وأخذت النهضة تسير في طريقٍ مختلفةٍ عن طريق الأزهر، ولم يشأ محمد علي أن يغيِّرَ من نظم الأزهر شيئًا؛ بحيث توافق مقتضيات العصر، وحاجات النهوض، بل أنشأ نظامًا علميًّا جديدًا، هو ذلك النظام المدني في التعليم الذي نجني ثمرته اليوم، وذلك أن تغيير الأزهر وتحويله إلى النظام المدنيّ عملًا شاقًّا، وفيه قضاء على ما للأزهر من سمعةٍ دينيةٍ في نفوس المسلمين في كافة الأقطار، ثم فيه تحدٍّ للشعور الديني الذي كان مسيطرًا على أذهان الناس في الشرق حينذاك.
ولم ير محمد علي بدًّا من الاستعانة بعلماء الأزهر وكتب الأزهر في مدارسه الحديثة؛ إذ لم يكن هنالك علماء في غير الأزهر يصلحون لتدريس اللغة والدين، ولم تؤلف فيهما كتب على النهج الحديث، بل كانت الكتب الأزهرية -على ما بها من غموض، ومع أنها في مستوى أرقى من مستوى المدارس الحديثة- هي الشيء الوحيد في الميدان، ولذلك اضطرت حكومة محمد علي أن تقدم الأجرومية، والسنوسية، والألفية، والشيخ خالد، وغيرها من الكتب إلى مطبعة بولاق، فطبعت منها لأول مرةٍ في مصر آلافًا من النسخ، نشرتها في مدارسها الحديثة، وفي الأزهر نفسه.
ولم يكن في هذه الكتب ما يشوق التلميذ، أو يحبب القراءة إليه، أو يعاونه على تفتق ذهنه، واستكمال عدته للتعلم الثانوي؛ لأنها ألفت في عصور ضعف اللغة، وفيها أمثلة بعيدة كل البعد عن بيئة التلميذ وحياته، وطريقة تأليفها عقيمة؛ إذ لا تتدرج مع معلومات التلميذ، وإنما تفرض فيه العلم من أول سطر، وتعرض أمام مشكلاتٍ في الإعراب والعقائد يخالها طلاسم، ويتبرم بها، ويكاد ييأس، كل هذا في عصرٍ كان الكتاب فيه هو كل شيء أمام التلميذ، وليس له إلّا أن يستظهره، فحفظ كتب الدين واللغة، وأعدته الطريقة فاستظهر كتب الحساب والهندسة، وغيرها من الكتب المعروفة، استعدادًا لاجتياز الامتحان.
ولم يكن المدرسون وحدهم هم الذين استعارتهم مدارس محمد علي من الأزهر، بل كان ثمة طائفةٌ أخرى، اقتضتها طريقة التدريس على يد المترجمين التي ذكرناها آنفًا1، هذه الطائفة هم المصححون الذين يصححون الأخطاء النحوية والأساليب في الكتب التي تنقل إلى اللغة العربية، ولم يكن هذا العمل سهلًا هينًا، فكثير من المترجمين، وبخاصةٍ في السنين الأولى من إنشاء المدارس، كانوا من السوريين، أو غيرهم من المتمصرين كالأرمن والمغاربة، ولا ريب أن لغتهم كانت على شيءٍ كثيرٍ من الضعف، فقلَّمَا وُثِقَ بكتابتهم وترجمتهم، ولا سيما في موادٍّ لم يدروسها من قبل، هذا إلى أن العلوم الحديثة كانت تنقل لأول مرةٍ من اللغات الأوربية إلى اللغة العربية، وقد هجر الأزهر من زمنٍ بعيدٍ دراسة هذه المواد، فاضطروا إلى مراجعة الكتب القديمة في الحساب والفلك والهندسة والطب، وغيرها من التي ترجمت، أو ألفت في العصر العباسي، وذلك لأن مهمتهم لم تكن قاصرةً على تصحيح العبارة اللغوية، بل تعدتها إلى اختيار الكلمات الفنية المناسبة.
وقد أفادت اللغة العربية من عملهم هذا فائدة جليلة، وحين أعجزتهم الترجمة، ولم يهتدو إلى مقابل للكلمة الأجنبية في العربية عمدوا إلى تعريبها، وتركوها كما هي، مع تحريفٍ يسيرٍ يناسب اللسان العربيّ، أو بدون تحريف.
1 راجع ص22 من هذا الكتاب.
وبذلك ازدادت ثروة اللغة العربية، واتسع أمامها المجال لدراسة المواد الحديثة وتعريبها والتأليف فيها، وقد ألف بعضهم في ذلك كتبًا تعين المترجمين والمؤلفين؛ مثل الشيخ: محمد عمر التونسي في كتابه "الشذور الذهبية في الألفاظ الطبية".
كان لابد لمصر في أول نهضتها من الاعتماد على هذا القبس الضئيل الذي يشعُّ من الأزهر، ولقد رأينا إلى أي حدٍّ كان هذا الاعتماد، ولكن حين استطاع نظام محمد علي أن يقف على قدميه، ويؤتي ثمرته، ويتخرج في مدرسة الهندسة والطب وغيرها شبابٌ جمعوا بين الثقافتين، حاول محمد علي أن يتخلص من تأثير الأزهر على نظامه، ورأينا في أخريات عهده محاولةً لتأليف كتب في اللغة والدين على طريقة حديثة، وهذه الكتب وإن لم تبلغ مستوى الكتب الأزهرية في الجودة؛ بحيث يمكنها التغلب عليها، إلّا أنها كانت نزعة إلى التحرر من الأزهر، ورأينا أيضا مدرسي الحساب من خريجي الهندسة، وبعض مدرسي اللغات العربية، يؤخذون من نوباغ المتخرجين في مدرسة الألسن.
وهكذا ابتدأت الهوة تزداد اتساعًا بين تعليم الأزهر والتعليم الحديث، حتى أوشكت الصلة أن تزول فما بينهما، بل رأينا -على العكس- أن الأزهر يقتبس من النظم الجديدة في التعليم، ويحاول الشيخ العروسي شيخ الأزهر في عهد محمد علي، أن يدخل الطب في الأزهر بمعاونة كلوت بك، لولا أن عاجلته المنية.
كان التعليم الحديث في عهد محمد علي بالمجان في كافة المدارس؛ سواء كانت ابتدائية أو ثانوية أو عالية، وكانت الحكومة تنفق على التلاميذ، وتتولَّى أمورهم من مسكنٍ، ومأكلٍ، وملبسٍ، وتجري على كثير منهم الأرزاق والمرتبات، بيد أن الأهالي لم يطمئنوا إلى إسلام أولادهم للمدارس والتعليم في بادئ الأمر، بل نفروا من ذلك نفورًا شديدًا، حتى لجأت الحكومة في بعض الأحيان إلى إدخال التلاميذ في المدارس قسرًا.
ولكن ما لبثت الناس في مصر أن لمسوا فائدة التعليم، وكيف ينقل أولادهم من حال الضعف الجسمي والعقلي والخلقي، إلى مستوًى رفيعٍ من الحياة، فأقلعوا عن المعارضة، بل أقبلوا على التعليم بنفوس راضية.
وقد بلغ عدد التلاميذ في عهد محمد علي بجميع مدارس القطر المصريّ على اختلاف أنواعها، تسعة آلاف تلميذ، تتولى الحكومة النفقة عليهم في كل شيء، وتعطي لهم بعض الرواتب1.
كانت نهضة محمد علي علميةً حربيةً -كما مر بنا؛ لأن البلاد في رأيه لم تكن في حاجة للآداب حاجتها للعلوم والنهوض بالجيش، ومسايرة الحضارة الأوربية العلمية في الطب والهندسة والرياضيات والفنون العسكرية، وكان محمد علي نفسه يؤثر اللغة التركية على اللغة العربية في التعليم أول الأمر، ولكنه اضطر إلى أن يجعل اللغة العربية لغة الدراسة، فكانت هذه الخطوة الأولى في إحياء اللغة، ثم أنشأ مطبعة بولاق سنة 1822 -كما ذكرنا، قد عكفت منذ عصره حتى اليوم على إحياء الكتب القديمة، وإن كان اهتمامها بكتب الآداب في عهد محمد على زهيدًا؛ لأنها كانت في شغل بطبع مؤلفات رجال البعثات في الفنون التي تخصصوا بها، ولم تتجه إلى إحياء التراث العربيّ القديم إلّا في عصر إسماعيل -كما سيأتي.
وأغلب الكتب التي ظهرت في عصر محمد علي كانت كتبًا مترجمةً في شتَّى العلوم والفنون، ولم تؤلف إلّا كتب قليلة ليست ذات شأن، مثل كتب الرحلات التي دَوَّنَ فيها أعضاء البعثات مشاهداتهم بأوربا، ككتاب رفاعة بك "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" وما شاكله، أما الكتب العلمية البحتة فكان أغلبها ترجمة، وقد اننتشرت هذه الكتب كثيرًا بتشجيع محمد علي لمترجميها ومكافأتهم مكافأة سخية، وبطبعها على نفقة الدولة في مطبعة بولاق.
1 راجع كتاب "لمحة عامة إلى مصر" تأليف كلوت بك، ج2 ص519، وتاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي، ص451 ج3.
ويروى عن محمد علي أنه لما عاد أعضاء البعثة الأولى إلى مصر استقبلهم بديوانه بالقلعة، وسلَّمَ كلًّا منهم كتابًا بالفرنسية في المادة التي درسها بأوربا، وطلب إليهم أن يترجموا تلك الكتب إلى العربية، وأمر بإبقائهم في القلعة، وألّا يؤذن لهم بمغادرتها حتى يتموا ترجمة ما عهد به إليهم، فترجموها، وأمر بطبعها وتوزيعها على المدارس التي وضعت لها تلك الكتب1.
وكان للوقائع المصرية التي أنشأها محمد علي فضلٌ في تذليل الأسلوب العربيّ للأخبار الصحفية، وكانت على عهده تنشر أخبار الحكومة ومصالحها، وبعض الأنباء الخارجية، وكان يحررها نوابغ العلماء في عهده.
كل هذا ولا شك قد مهد اللغة نوعًا ما للعصر الثاني في النهضة، وهو عصر إسماعيل، وهيأ جيلًا من العلماء والمفكرين، ومحبي الفنون والآداب، قادوا مصر في عهد إسماعيل إلى مدى واسع من الرقيِّ والتعليم.
على أن النهضة السورية اتجهت وجهةً أدبيةً من أول أمرها بخلاف النهضة المصرية، وقد وقفنا على الدوافع التي حولت نهضة مصر إلى وجهة علمية، أما الأسباب التي جعلت نهضة سورية أدبيةً، فهي أن المبشرين كانوا حملة مشاعل تلك النهضة أول الأمر، وكان همهم نشر التعاليم الدينية طبقًا للمذاهب المسيحية الغربية، وقد عنوا بترجمة التوارة، وظلَّ الجدل الدينيُّ مسيطرًا على الصحافة السورية ومجالس الأدب ثمة ردحًا طويلًا من الزمن، ولعل هذا يعلل لنا سبق السوريين في الصحافة، وإتقانهم لإخراجها وتبويبها، وقد ظهرت ثمرة هذا الميل الأدبيّ عند السوريين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولنا إليه عودة.
1 راجع تاريخ الحركة القومية للرافعي، ج3 ص537.
الفصل الثاني: النهضة
التعليم
…
الفصل الثاني: النهضة
النهضة:
عصر إسماعيل على الرغم من مساوئه السياسية والاجتماعية، هو العصر الذي أينعت فيه النهضة الأدبية، وأورقت، وبشَّرَت بثمارٍ طيبةٍ حلوةٍ، وكان عهده الباب الذي دلف منه الأدب إلى الرياضة الغناء في عصرنا الحاضر، وذلك لأن إسماعيل وضع أسسًا متينةً لنهضةٍ شاملةٍ، بعد أن مضت فترة ركودٍ كادت تعصف بما غرسه محمد علي، وتعود بمصر القهقريّ إلى عصور الظلمات، وذلك أيام الواليين عباس وسعيد؛ إذ كانا من دعاة الرجعية، فألغى عباس حين توليته كل المدارس العالية إلّا المدرسة الحربية.
والأدب في عصر إسماعيل مدينٌ في نهضته ورقيه وسيره نحو التحرر من أغلال الماضي في صورته ومعناه إلى عدة عوامل لا نستطيع إغفالها، أو التقليل من أثرها، وسنلقي عليها نظرةً عاجلةً، حتى يكون إدراكنا لتطور الأدب في مصر والبلاد العربية إدراكًا صحيحًا.
1-
التعليم:
استوى إسماعيل على أريكة مصر سنة 1863، وما بها إلّا مدرسة ابتدائية واحدة، ومدرسة حربية، وأخرى طبية، وثالثة للصيدلة، وأوقفت البعثات، واستغنى عن خدمات من عاد من رجالها، وكان إسماعيل ذا طموح، ترسَّم في نهضته إلى حدٍّ ما خطوات جده محمد علي، وأراد أن يرى مصر قطعةً من أوروبا في ظرف وجيز، فأعاد البعثات سيرتها الأولى، حتى بلغ عدد أعضائها في عصره اثنين وسبعين ومائة، فأعاد مدرسة البعثات بباريس؛ لأنه عرف فائدتها أيام أن كان طالبًا هناك.
وأخذت الحياة تدب إلى كل أنواع التعليم، فأعيدت المدراس العالية التي كانت على عهد محمد علي كالهندسة والطب، وزيد عليها مدرسة الحقوق، وكانت تسمى مدرسة: الإدراة والألسن، "بدلًا من مدرسة الإدارة القديمة".
وقد أسهمت مدرسة الحقوق في النهضة اللغوية والأدبية، فالمذكرات التي يعدها المحامون، ووكلاء النيابة، ولغة المرافعات والدفاع، والخطابة القانونية، قد تحسنت كثيرًا، وأدخلت في اللغة كلمات عديدة لم تكن مستعملةً من قبل.
وظلَّ رجال الحقوق والقانون يقودون مصر في ميدان السياسة حقبةً طويلةً من الزمن، ولكنَّهم وللأسف قد أثروا بعقليتهم الجدلية، وتبريتهم النظرية، وإصلاحاتهم القانونية اللفظية في حياة الأمة أثرًا بليغًا، وأبعدوها عن جادة الصواب، وألقوا بها في لجةِ الجدلِ والتناحر الحزبيِّ، والتشدق بالإصلاح، ونأوا بها عن الحياة العلمية المنتجة، وعلى هذا الموضوع ليس يعينا في كتابنا هذا، وإنما الذي يلفت أنظارنا هو نهضة الخطابة واللغة على يد من تَخَرَّجَ في هذه المدرسة، ولا سيما في عصرنا الحاضر.
ومن المدارس التي أنشئت في عهد إسماعيل، وكان لها أكبر الفضل في نهضة اللغة العربية والآداب، مدرسة دار العلوم، التي أشار بها علي مبارك، وافتتحها في سنة 1871، وقد رأينا ما كانت تعانيه مدارس محمد علي الحديثة من فقرٍ في الكتب المدرسية المنظمة، والمدرسين الأكفاء، الذين جمعوا بين العلم القديم والحديث، وعرفوا النظام، ونالوا حظًّا من طرق التربية، وأن ذلك الفقر التربويّ كان معوقًا لنهضة الآداب، بيد أن دار العلوم سدت هذا الفراغ، فقد كان طلبتها يُخْتَارون من متقدمي طلبة الأزهر ونابغيهم، وينشئون تنشئةً لغويةً وأدبيةً وشرعيةً، مع قسطٍ وفير من العلوم الحديثة، وطرق التربية.
ولقد أدت دار العلوم ورسالتها للأمة واللغة وللدين على الوجه الأكمل، فحفظت اللغة وصانتها، وقوتها وأيدت دعائمها، وأحيت مواتها، وجددت في أساليبها، ونفضت عن تراثها المجيد غبار القرون، وقدمته للناس رائعًا جذابًا، وعكف أبناؤها على تعليم النشء، وتقويم ألسنتهم، وتدريب أقلامهم، وتزويدهم بذخائر نفيسة من مختارات الشعر والنثر، وتقديم الكتب التي تنهج نهجًا علميًّا نفسيًّا يتمشى مع الطفل وملكاته وغرائزه، فكانت بحقٍّ خير ما أسدى علي مبارك من خدمات للغة العربية.
ولا تزال دار العلوم تقوم بنصيبها الوفير في نهضة التعليم واللغة، وتعتمد عليها جامعتا القاهرة والإسكندرية وعين شمس في دارسة الآداب والنصوص وقواعد اللغة، وما زال بنوها في الطليعة من الكُتَّابِ والمؤلفين، يجارون بتأليفهم تيار النهضة الحديثة، ويمشون مع الزمن خطوةً خطوةً، وقد تَخَرَّجَ على أيديهم زعماء النهضة في كل ميادين الحياة.
وفي عهد إسماعيل، أنشئت أول مدرسة للبنات، وذلك في سنة 1873، حيث أسست السيدة "جشم آفت هانم" ثالثة زوجات إسماعيل، مدرسة السيوفية، وكان بها حين افتتاحها مائتا تلميذة، وبلغ عددهن في السنة الثالثة أربعمائة تلميذة، يتعلمن بالمجان، فضلًا عن القيام بمأكلهن وملبسهن، وكنَّ يتعلمن القراءة والكتابة ويحفظن القرآن الكريم، ويدرسن الحساب والجغرافيا والتاريخ والتطريز والنسيج.
وقبل مدرسة السوفية كانت البلاد خُلُوًّا من مدرسةٍ للبنات، إلّا مدرسة للولادة، ولم يشغها إلّا البنات الحبشيات، واستنكف المصريات من دخولها، ومدرسة إنجليزية أسستها مس "وتلي" سنة 1806، وقد نجحت بعد عشر سنواتٍ من الجهاد، في جذب كثير من الفتيات المصريات إليها، وكذلك كان الجهل متخذًا من رؤوس فتيات مصر ونسائها أعشاشًا، إلّا مَنْ حرص أهلها على تعلميها في البيت، وقليل ما هن.
وقد خطا تعليم البنات منذ مدرسة السيوفية خطواتٍ واسعةٍ في مصر، وتعددت ألوانه ومدارسه، وزاحمت الفتاة الفتى في الجامعة، واقتحمت الكليات المستعصية، ولست هنا في مقام النقد، ومناقشة طريقة تعليم الفتيات ذلك التعليم النظريّ، ومنافسة البنين في كل شيء، ولكن مما لا شك فيه أن تعليم المرأة ونهوضها دعامة متينة في النهضة الاجتّماعية والأدبية، والأم المتعلمة تربأ بابنها أن يكون فريسة الجهل، وتسعى في جهدها أن تنيله حظًّا مهما كان يسيرًا من نور العلم.
وقد أنشأت الحكومة بجانب هذه المدارس كثيرًا من المدارس الصناعية
والخصوصية، كمدرسة المساحة والمحاسبة، ومدرسة الزراعة، ومدرسة العميان والبكم.
أما عن المدارس الابتدائية: فقد زاد عددها، بلغ أربعين مدرسة، وقد صار للأقباط زيادة على ذلك اثنتا عشرة مدرسة، وافتتحوا مدرستين لتعليم البنات، واحدة بالأزبكية والأخرى "بحارة السقايين" وقد وهبهم إسماعيل ألفًا وخمسمائة فدان، ينفق ريعها على مدارسهم.
وأنشأ الحكومة كذلك عدة مدارس ثانوية؛ منها مدرسة رأس التين في سنة 1862، والمدرسة الخديوية سنة 1868، وأعادت ديوان المدارس، وهو نواة وزارة التربية والتعليم، بعد أن ألغاه سعيد، ليشرف على التعليم ويرعاه، ويدخل على نظمه وأساليبه التحسينات التي تساير الحياة.
ومن الوسائل التي ساعدت على النهضة الأدبية والعلمية في عصر إسماعيل دار الكتب، وناهيك بما لها من أثر في نشر العلم وتحبيب الاطلاع وتسهيله، ومعاونة المؤلفين والباحثين، ومساعدة الناشرين والطابعين على استنساخ نفائس الكتب وإشاعتها بين الناس.
لقد كانت الكتب قبل ذلك مبعثرةً في المساجد، يتولى أمرها خدمٌ لا يقدرونها قدرها؛ ففرطوا فيها، وتسرَّب كثير من كنوزها الأدبية والعلمية إلى مكاتب أوربا، وأهين كثير من الكتب القديمة باستعمالها في دكاكين البدالين وغيرهم.
همَّت الحكومة بتأسيس دار الكتب؛ فجمعت هذه الكنوز المبعثرة في المساجد والتكايا والزوايا والأضرحة وغيرها، وضمت إليها ألفي كتابٍ اشترتها من مكتبة المرحوم حسن "باشا" المانسترلي، ولما مات شقيق الخديو إسماعيل، الأمير مصطفى فاضل، وكان من أكبر هواة الكتب في الشرق، ابتاعت الحكومة من مكتبته ما يربى على ثلاثة آلاف كتاب، وضمتها إلى دار الكتب، فكان ذلك نواةً لهذه المؤسسة العظيمة، التي أخذت بعد ذلك تنمو وتزداد، وتجلب لها الكتب من الشرق والغرب، وتضم إليها المكتبات الكبيرة، مثل مكتبة المرحوم أحمد تيمور وغيرها.
وقد ضم القسم الأدبيّ الذي كان يشرف على إحياء الكتب القديمة بمطبعة
بولاق إلى دار الكتب، وعكف منذ سنين على تصحيح وإخراج أمهات الكتب الأدبية من أمثال: الأغاني، ونهاية الأرب، والنجوم الزاهرة،
…
وغيرها.
2-
الجمعيات العلمية:
إذا كثرت الجمعيات العلمية في أمةٍ دل ذلك على حيويتها ويقظتها، ورغبتها في السير نحو الكمال، وغير معتمدةٍ على الحكومة في غذائها العقليّ، فإذا اضطرب أمر الحكومات، أو وليها من لا يحسن القيام بشئون الحكم، لا يصاب الشعب بالشلل العقليّ، ولكن يمضي في طريقه قُدُمًا، ويتثقف ويستعد للنضال في سبيل الحياة السعيدة، بهمم أفراده اليقظين، والجمعيات القوية المنظمة.
وقد بدأت تباشير هذه اليقظة العقلية في عهد إسماعيل، وبرهنت مصر على أنها آخذةً بأسباب النهضة الصحيحة، وأنها مستعدةً للنضج الفكريّ، ولو توانت الحكومة في الإصلاح، أو قصرت في الأخذ بأسبابه، ومن أوائل من عنوا بنشر الكتب القديمة والمخطوطات:
1-
المرحوم رفاعة الطهطاوي متأثرًا بطريقة صديقه المستشرق الفرنسيّ "سلفستر دي ساسي"، وعن مجهود رفاعة في إحياء الكتب القديمة يقول العلامة علي مبارك:
"ولرغبته في نشر العلوم، وسعة دائرتها، وحبه عموم النفع بها، استدعى مع بعض أفراد الحكومة المصرية من المرحوم سعيد باشا، وكان له ميل إلى المترجم رحمه الله، صدور الأمر بطبع جملة كتب عربية على طرف الحكومة، عم الانتفاع بها في الأزهر وغيره، منها: تفسير الفخر الرازي، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، والمقامات الحريرية، وغير ذلك من الكتب التي كانت عديمة الوجود في ذلك الوقت فطبعت1".
2-
المجمع العلمي: وقد أسس على عهد الفرنسيين سنة 1798، وألغي عند
1 الخطط التوفيقية، ترجمة رفاعة ج13، ص55-56.
جلائهم، ولكنه أعيد في عصر سعيد، وظلَّ يعمل مدة حكم إسماعيل، مؤديًا رسالته في نشر المباحث العلمية. ولا يزال حتى اليوم قائمًا، وإن تغير اسمه إلى مجلس المعارف المصريّ، ومقره وزارة الأشغال، وله مجلة تنشر أبحاثه، وقد تكلمنا عنه آنفًا1.
3-
جمعية المعارف سنة 1868، وهي أول جمعيةٍ علميةٍ مصريةٍ ظهرت لنشر الثقافة عن طريق التأليف والترجمة والنشر، وأسسها محمد باشا عارف، وأسهم في تأسيسها عددٌ كبيرٌ من أعيان البلاد، وقد اقتنت مطبعة، وقامت بطبع طائفة من أمهات الكتب في التاريخ والفقه والأدب2.
ولقيت الجمعية تشجيعًا عظيمًا، حتى بلغ عدد أعضائها ستين وستمائة عضوٍ من الطبقة الممتازة في الأمة3.
وظلَّت الجمعية تعمل، وتؤدي رسالتها الثقافية، إلى أن اشتد النزاع السياسيّ بين الخديو إسماعيل، والأمير عبد الحليم؛ لتنافسهما على أريكة مصر، وكان عارف باشا من أنصار حليم باشا، ففرَّ إلى الآستانة خوفًا من إسماعيل، وبذهابه انحلت الجمعية، وكان عارف أديبًا، ويروى له قوله:
ألم تعلم بأن سماء فكري
…
تلوح بأفقها شمس المعارف
تفرس والدي في المزايا
…
فيوم ولدت لقبني بعارف
3-
الجمعية الجغرافية سنة 1875، وتعد من أهم المنشآت العلمية بمصر، وتُعْنَى بالأبحاث الجغرافية والعلمية وتدوينها، ونشرها، ولها مجلةٌ دوريةٌ تنشر أبحاثها، وما تقوم به من اكتشافات، ولا تزال قائمة إلى اليوم.
4-
الجمعية الخيرية الإسلامية، أنشئت أول الأمر بالإسكندرية سنة 1878، حين دفعت الحماسة جماعة من المتعلمين بالثغر -رأوا طغيان الأجانب، واشتداد نفوذهم، واستئثارهم بمرافق البلد- إلى تأسيسها، وكانت تعقد الاجتماعات ليلًا، ويتبادل أعضاؤها الخطب، وقبيل افتتاحها انضم إليهم السيد عبد الله نديم، فكلفته الجمعية العمل على تأسيس مدرسةٍ حرةٍ يتعلم فيها أبناء المسلمين، وينشئون تنشئةً صالحةً، وظلت الجمعية والمدرسة تتقدمان حتى قامت الثورة العرابية، فتفرق القائمون بأمرها.
وقد أنشيء على غرار هذه الجمعية التعلمية جمعية باسمها في القاهرة، وأخرى بدمياط، أما الجمعية الحالية، فقد أسست سنة 1982، على غرار الجمعية الأولى حين اشتدت الحاجة إليها، وكان الداعي إلى تأسيسها الإمام الشيخ محمد عبده، وسنعود إلى الكلام عنها في ترجمته -إن شاء الله.
1 راجع ص16 من هذا الكتاب.
2 من هذه الكتب: أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير في خمسة مجلدات، وتارج العروس من شرح جواهر القاموس، وتاريخ ابن الوردي، وشرح التنوير على سقط الزند، وديوان ابن خفاجة، وديوان ابن المعتز، والبيان والتبيين للجاحظ، وشرح الشيخ خالد على البردة، ورسائل بديع الزمان الهمذاني، وغير ذلك من الكتب.
3 كان من أعضائها: إبراهيم المويليح، وأحمد فارس الشدياق، والشيخ حسونة النواوي، والدكتور محمد شافعي، ومصطفى رياض، والشيخ بدراوي عاشور، وتجد ثبتًا بأسماء أعضاء الجمعية، في آخر "الفتح الوهبيّ" وراجع كتاب عصر إسماعيل لعبد الرحمن الرافعي، ج1 ص256، وجورجي زيدان في كتاب آداب اللغة ج4 ص78.
3-
الصحافة:
وتعد الصحافة من أقوى عوامل النهوض بالشعب في عقليته، ولغته، وعلمه، والإصلاح الاجتماعيّ الذي يأخذ بيده صواب الكمال، وقد تحررت اللغة من آفاتها القديمة التي ورثتها عن عصور الانحطاط، ولا سيما السجع والمحسنات والزخرف اللفظيّ والركاكة، على يد الصحافة.
انقضى عصر محمد علي كما رأينا، وليس بمصر سوى صحيفةٍ واحدةٍ هي الواقائع المصرية، وكانت موضوعاتها قاصرةً على الأخبار الحكومية، ولغتها لا تكاد تستقيم من الركة، ولكننا نشاهد في عصر إسماعيل نهضةً جديدةً واسعةً، عظيمة الأثر في الصحافة.
سبق السوريون في بلادهم بإصدار صحف سياسية، وصدرت مرآة
الأحوال، بحلب سنة 1855، وإن لم تعمِّر أكثر من عام واحد، ثم صدرت حديقة الأخبار، ببيروت سنة 1858، وظلت تصدر حتى سنة 1909، وكانت يومًا لسان الحكومة الرسميّ، ثم خطت الصحافة خطوةً أوسع في سبيل الرقيّ بصدور الجوائب لصاحبها أحمد فارس الشدياق، بالآستانة سنة 1860، وقد طلعت على الناس بأسلوبٍ جديد في الكتابة العربية، وافتَنَّ صاحبها في تحريرها، وتخير موضوعاتها.
فجمعت بين السياسة والأدب بشتَّى ضروبه وأبوابه، بما في ذلك القصائد البليغة لكبار شعراء العربية، فذاعت، وأقبل الناس على قراءتها بشغفٍ بالغٍ، لم تدع بلدًا عربيًّا، بل إسلاميًّا إلّا دخلته، وقد سافرت كذلك إلى كثير من بلدان الغرب، واقتبسوا منها، وحكو عنها، وظلت تعمل حتى سنة 1884، أما صاحبها:
أحمد فارس الشدياق:
هو من رواد النهضة الحديثة في الأدب، وممن سبق بفكره، وقلمه، وعلمه، أبناء زمانه لكثرة ما قرأ، وجرب ورأى بعينيه، وسمع بأذنيه؛ لأنه جاب بلادًا عديدة، وعرف لغاتٍ شتَّى، وأفاد مما رأى، ومما قرأ وعرف، فكان نادرةً من نوادر عصره.
وُلِدَ بقرية عشقون في لبنان سنة 1219هـ-1804م، من أسرة مارونية مشهورة، ثم انتقل والده إلى قرية "الحدث" بالقرب من بيروت، وتيتم فارس بن منصور "وعرف فيما بعد باسم: أحمد فارس الشدياق" وهو صغير، وكانت تتراءى عليه علامات النجابة؛ فأتقن صناعة الخط، وجعل ينسخ الكتب بنفسه، ولغيره، طلبًا للرزق.
وكان له أخٌ يسمى: "أسعد" على حظٍّ وفيرٍ من العلم والذكاء، وعليه تلقى فارس دروسه الأولى، وأفاد منه فائدةً جليلةً، ووجهه وجهةً صالحةً، وغرس في نفسه محبة العلم.
ثم اضهد "سعد" من بطريك المورانة، وسيم ألوانًا من العذاب، لتغيير
مذهبه المارونيّ إلى المذهب الإنجيليّ، حتى مات بأحد الأديرة، وهو في عنفوان شبابه، فأثر موته على فارس، وحزَّ في نفسه، فكره الإقامة ببلاد الشام، وأعلن سخطه على المارون، فجدّوا في أثره لينكلوا به، بيد أنه لجأ إلى المبشرين الأمريكيين ببيروت، فأحسنوا مقدمه، وبعثوا به إلى مصر ليعلم أعضاء بعثتهم فيها اللغة العربية.
وفي مصر، تعرف على الشيخ محمد شهاب، محرر الوقائع المصرية، فلازمه وقرأ عليه طائفة من كتب اللغة والأدب، وقرأ على غيره كتبًا في المنطق والنحو، حتى تمكَّن من سائر علوم العربية، وتقرَّب من كبار علماء مصر، ومن معية الخديوي، ثم أفسح له مجال الكتابة في الوقائع، فأخذ يدبج فيها المقالات الممتازة بأسلوبٍ جديدٍ لم يألفه المصريون من قبل، وهو الأسلوب المرسل الرصين، ثم أسند إليه تحرير الوقائع مدة.
وبعد ذلك سافر إلى "مالطة" سنة 1834، بدعوةٍ من الأمريكان، ليعلِّم في مدراسهم هنالك، فمكث بها أربعة عشر عامًا، عكف في أثنائها على التدريس، والتأليف، ونشر الكتب وتصحيحها، إلى أن طلبته جمعية ترجمة "التوراة" بلندن؛ ليساعد في التعريب والضبط والتنقيح، فسافر إليها سنة 1848، وأقام بها مدةً مكنته من تعلم اللغة الإنجليزية، وتعرف أحوال الإنجليز وبلادهم معرفةً دقيقةً، ثم سافر إلى باريس بعد أن نال الحماية البريطانية، وتجنس بالجنسية الإنجليزية.
وقد سجَّل رحلته إلى أوربا في كتابه "كشف المخبا عن أحوال أوربا"، وقد ألَّفَ في أثناء مقامه بأوربا كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق" والفارياق لفظ متقطع من "فارس الشدياق".
ولما زار باي تونس باريس، ووزَّع في فرنسا كثيرًا من الأموال على الفقراء، مدحه الشدياق بقصيدة طويلة حببته إليه، فاستدعاه للإقامة معه بتونس، وكان قد مدح السلطان عبد المجيد كذلك بقصيدةٍ طويلةٍ حسنت لديه، فاستدعاه للآستانة، ولكنه فضَّل الذهاب إلى تونس أولًا، فأرسل إليه "الباي" باخرةً حربيةً لحضوره عليها.
وقد وقعت بينه وبين شيخ الإسلام في تونس مجادلاتٍ في العقائد الدينية
أدت إلى اعتناقه الإسلام، وسمى نفسه:"أحمد فارس"، وتكنَّى "بأبي العباس"، وكان يقول في هذا.
"لعمري ما كنت أحسب أن الدهر ترك للشعر سوقًا ينفق فيها، ولكن إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا لم يعقه عنه الشعر ولا غيره".
وتولَّى عند الباي أرفع المناصب، واشتهر اسمه، فطلبته الآستانة مرةً أخرى، فلبّى الدعوة، وهناك ألحق بديوان الترجمة، وتولّى الإشراف على التصحيح بدار الطباعة.
ويقال: إن الخديوي إسماعيل هو الذي أشار عليه في أثناء زيارته للآستانة بإنشاء "الجوائب" وكان معجبًا به، فقام بإنشائها سنة 1861، واشتركت فيها الحكومة المصرية بألفي نسخة.
وقد قدم مصر سنة 1866، وهو شيخ هرم، في عهد الخديوي توفيق، فقوبل بكل إجلالٍ وترحابٍ، واجتمع به كثيرون من الأدباء ورجال الصحافة، فبهرهم على الرغم من شيخوخته بتوقد قريحته، وسرعة بديهته، وحلاوة سمره وطلاوته، ورقة حاشيته، ورشيق عبارته، ثم عاد إلى الآستانة، فتوفي بها سنة 1887، ونقلت جثته إلى سوريا، ودفن بقرية الحازمية على مقربة من بيروت.
والشدياق من أوئل الذين اهتموا بالأبحاث اللغوية في العصر الحديث، وله كتاب "الجاسوس على القاموس"، وهو كذلك من أوائل الكُتَّاب المترسلين، الذين خاضوا في كل موضوع، وأفادوا الأدب واللغة بأبحاثهم ومقالاتهم، وله عدة كتبٍ، كان لها في زمانه وبعد زمانه شأن يذكر، منها:
1-
"الواسطة في أحوال مالطة" وقد وصف فيه هذه الجزيرة وصفًا دقيقًا، وأبان فيه عن أصل اللغة التي ينطق بها زهلها، وبيَّنَ أنها اللغة العربية شيبت بلهجات الغزاة الفاتحين وألحانهم.
2-
"كشف المخبا عن أحوال أوربا" فَصَّلَ فيه سياحته في بلاد الإنجليز
وغيرها من الأقطار الأوربية، ووصف عادات الإنجليز وآدابهم، وأخلاقهم، وتاريخ تمدينهم، وسر تقدمهم بأسلوبٍ شائقٍ طليّ.
3-
"الساق على الساق فيما هو الفارياق" وهو كتابٌ ممتعٌ، سيق في أسلوبٍ قصصيٍّ، وذكر فيه تاريخ حياته، وأحوال الخاصة، وما عاناه في دهره، وفي معركته مع الحياة والأيام، وخلط فيه الجد بالهزل، والسجع بالترسل، والعلم بالأدب، وأغرب فيه وأطرب، وذهب في تدبيجه وصياغته كل مذهب، طبع بباريس 1855.
4-
سر الليالي في القلب والإبدال.
5-
"الجاسوس على القاموس" وضعه لاستدراك ما فات الفيروز آبادي في قاموسه، وما وَهِمَ فيه من الألفاظ، وهو مطبوع.
6-
"منتهى العجب في خصائص لغة الأدب"، في أسرار اللغة، وخصائص الحروف ومدلولاتها، ولكنه ذهب فريسة النار، وهو بعد مخطوط لم يطبع.
7-
"الجوائب" وقد اشتركت فيها مصر بألفي نسخة، وكان باي تونس يمدها بخمسمائة جنيه سنويًا، وتلقت مثل هذه الإعانة من السلطان عبد العزيز، وكانت تصدر أسبوعيًّا، وقد نالت شهرةً عظيمةً -كما ذكرنا آنفًا، وهي الجريدة الوحيدة التي جاهرت بالدفاع عن الخديوي إسماعيل في دار الخلافة، حينما خلع سنة 1879، ورثته يوم وفاته، ولم يخش سطوة الحكومة العثمانية، ويقال: إن السفارة الإنجليزية بالآستانة دفعت لصحابها ألف جنيه، نظير إذاعة المنشور الذي أصدره الباب العالي، فيه عصيان عرابي باشا سنة 1882، وأن ذلك كان من أسباب إخفاق عرابي.
وقد جمع سليم بن أحمد فارس منتخبات من الجوائب ونشرها في سبعة أجزاء.
8-
لأحمد فارس كتب مدرسية كثيرة منها: الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنجليزية، والسند الراوي في الصرف الفرنساوي، واللفيف في كل معنى طريف.
9-
وله ديوان شعر لم يطبع.
وقد عُنِيَ الشدياق -كما رأينا من مؤلفاته- بالأبحاث اللغوية، ومن ذلك كتابه "الجاسوس على القاموس" الذي حاول فيه أن يستدرك على صاحب "القاموس" ماجاء في معجمه من قصورٍ وإبهامٍ وإيجازٍ وريهامٍ وعسرٍ في مراجعة الأفعال ومشتقاتها، وذلك بأن يؤلف في اللغة كتابًا سهل الترتيب، واضح التعاريف، شاملًا للألفاظ التي استعملها الأدباء والكُتَّاب، وكل من اشتهر بالتأليف.
وقد دعاه إلى ذلك أمران:
أولهما: مزاحمة اللغات الأجنبية للغة العربية واللسان؛ فكادت تجلي عنه أهله، وتحجب عنهم ظله، وتحبس وابله وطله؛ لأن ترتيب كتب لغاتهم أسهل، والوصول إليها أعجل، ولا سيما أنها قليلة المشتقات، وليس في تعريف ألفاظها كبير اختلاف في الروايات، أما من يتعاطون من التجارة، ويحملون عبء الإمارة، فإنهم يزعمون أن اللغة العربية لا تصلح في هذا الزمن لهاتين الخطتين، فلابد بكلام الأجانب وإن أدى إلى الحطتين، فمن ثَمَّ مست الحاجة إلى زيادة تفصيل لمفردات لغتنا ومركباتها، وتبيين لأصولها من متفرعاتها
…
إلخ".
وثانيهما: رغبة في حَثِّ أهل العربية على حب لغتهم الشريفة، وحَثِّ أهل العلم على تحرير كتابٍ فيها، خالٍ من الإخلال، مقرب كما يطلبه الطالب منها دون كلال، فإني رأيت جميع كتب اللغة مشوشة الترتيب، كثر ذلك أو قلّ، وخصوصًا كتاب "القاموس" الذي عليه اليوم المعول".
وقد أثار في هذا الكتاب موضوعاتٍ لا تزال موضع بحثٍ حتى يومنا هذا، وقد حاول في غير هذا الكتاب أن يدافع عن اللغة العربية، وأن يعمل على تزويدها بالمصطلحات الفنية، فهو في الوقت الذي يمتدح فيه اللغة العربية لسهولة ألفاظها ووضوحها، نراه يعترف بأن مفردات العربية غير تامةٍ فيما يتعلق بما استحدث بعد العرب الذين وضعوا اللغة من فنون وصناعات، مما لم يكن يخطر ببالهم، ولكن ذلك في رأيه مما لا يشين اللغة؛ إذ لا يحتمل أن واضع اللغة يضع أسماء لمسمياتٍ غير موجودة، وإنما الشين علينا الآن في أن نستعير هذه الأسماء
الأجنبية، على قدرتنا على صوغها من لغتنا، على أن أكثر هذه الأسماء هو من قبيل اسم المكان أو الآلة، وصوغ اسم المكان والآلة في العربية مطرد من كل ثلاثي".
وقد حثَّ على استخدام "النحت" والإكثار منه؛ لإثراء اللغة كما فعلت اللغات الأجنبية الأخرى، وذلك حتى نستغني عن استعمال الدخيل.
ومن روائع أدبه قوله يصف مصر في كتابه "الساق على الساق":
"ومن خواصِّها أن أسواقها لا تشبه رجالها ألبنه، فإن لأهلها لطافة وظرافة، وأدبًا وكياسة وشمائل، وأخلاقًا زكية، وأسواقها عارية عن ذلك رأسًا.
ومنها: أن العالم عالم، والأديب أديب، والفقيه فقيه، والشاعر شاعر، والفاسق فاسق، والفاجر فاجر، ومن ذلك أن البنات اللائي يستخدمن في "الميرى" لحمل الآجر، والجبس، والتراب، والطين، والحجر، والخشب، وغير ذلك، يحملنه على رءوسهن، وهن فَرِحَات، جامحات، سابحات، صادحات، مادحات، وغير ترحات، ولا دالحات1، ولا رازحات، ولا كالحات، ولا نائحات، ومن كان نصيبها من الأجر نظمت عليه "موالًا" أجيرًا، أو من الجبس غنت له أغنية جبيسةً، كأنما هن سائرات في زفاف عروس.
ومن ذلك أن "الرنيطة" فيها تَنْمِي وتعظم، وتغلظ وتضخم، وتتسع وتطول، وتعرض وتعمق، فإذا رأيتها على رأس لابسها حسبتها "شونة"2، قال "الفارياق": وكثيرًا ما كنت أتعجب من ذلك وأقول: كيف صح في الإمكان، وبدا للعيان أن مثل هذه الرءوس الدميمة، الضيئلة الذميمة، الخسيسة اللئيمة، المستنكرة المشئومة، المستقذرة المهوعة3 المستقيمة المستفظعة، المستسمجة المستشنعة، والمسترزلة المستبشعة.
1 من دلح كمنع: مشى بحمله متقبض الخطو لثقله، وسحابة دلوح: كثيرة الماء.
2 الشونة: كما جاء في القاموس مخزن الغلال، مصرية.
3 الهوعة: من هوعته ما أكل، إذا قيأته إياه.
هواء مصر، وكبرها إلى هذا المقدار، وقد طالما كانت في بلادها لا تساوي قارورة الفراش، ولا توازن ناقورة الفرَّاش، وكيف كانت هناك كالتراب، فأصبحت هنا كالتبر؟ يا هواء مصر، يا نارها، يا ماءها، يا ترابها1 صيري طربوشي هذا "برنيطة"، وإن يكن أحسن منها عند الله والناس وأفضل، وأجمل وأمثل، وللعين أبهى وأكمل، وعلى الرأس أطبق، وبالجسم أليق.. قال: فلم يغن عني النداء شيئًا، وبقي رأسي مطربشًا، وطرف دهري مطرفشًا2.
ومن خصائصها أيضًا أن البغاث بها يستنسر، والذباب يستصقر، والناقة تستبعر، والجحش يستمهر، والهر يستنمر، بشرط أن تكون هذه الحيوانات مجلوبة إليها من بلاد بعيدة.
ومن ذلك أن كثيرًا من أهلها يرون أن كثيرة الأفكار في الرأس يكثر عنها الهموم والأكدار، أو بالعكس، وأن العقل الطويل يتناول البعيد من الأمور، كما أن الرجل الطويل يتناول البعيد من الثمر وغيره، وأن تلك الكثرة سبب في الإقلال، فما دام النور موقدًا، فلابد أن تفقد الفتيلة، ولا يمكن إبقاؤها إلّا بإطفاء النور، أو كالماء في الوادي، فإذا دام الماء جاريًا فلابد أن ينصب في البحر، فمتى حقن بقي، أو كالفلوس في الكيس، فما دام المفلس أي: صاحب الفلوس يمد يده إلى كيسه، وينفق منه، فني ما عنه، إلّا أن تربط يده عن الكيس، أو يربط الكيس عن يده، فمن ثَمَّ اصطلحوا على طريقةٍ لتوقيف جريان العقل في ميدان الدماغ حينًا من الأحيان، ليتوفر لهم في غيره، وذلك بشرب شيء من الحشيش، أو بمضغه، أو بالنظر إليه، أو بذكر اسمه، فحين يتعاطونه تغيب عنهم الهموم، ويحضر السرور، وتولي الأحزان، ويرقص المكان".
1 يشير بالهواء والنار والتراب والماء إلى العناصر الأربعة، التي كان يعتقد الفلاسفة القدماء أنها أصل المواد.
2 الطرف العين: وطرفشت العين: أظلمت وضعفت، وفلان نظر وكسر عينيه.
وفي الحق لم يدع أحمد فارس شيئًا من أهل مصر وعاداتهم إلّا وصفه وصفًا دقيقًا بذلك الأسلوب المرح، وهذا التهكم المحبوب، وله نظراتٌ نافذاتٌ حين يتكلم على الأجانب، وكيف صار لهم الحول والسلطان، مع أنهم كانوا في بلادهم أفاقين مفلسين، وحين يعبِّر عن فلسفة الحشاشين، وكيف يعملون جادين مخلصين على تغييب العقل، وهو الذي يهدي الإنسان سواء السبيل.
وأنت ترى في أسلوبه السجع، والترسل، والسهولة، والتوعر، والكلمات العامية، والكلمات الغريبة التي لا تستعمل إلّا في المعاجم، وكأنه قصد إلى إحيائها، وكما كان يفعل أصحاب المقامات، لولا طرافة الموضوع، وصدق الوصف، ومما يلفت الأنظار في أدب أحمد فارس أنه كان قوي الملاحظة، معنيًّا بأحوال الشعوب وطرق حياتهم، والموازنة بين الشعوب التي زارها، والشعوب العربية، وله فصولٌ ممتعة في كتابه "الساق على الساق" عن الإنجليز وبلادهم، والفرنسيين وأحوالهم، ومما قاله في الموازنة بين الأدب الغربيّ والعربيّ قوله:
"فإنهم أول ما يبتدئون المدح يوجهونه إلى المخاطب، ويجعلونه ضربًا من التاريخ، فيذكرون فيه مساعي الممدوح، ومقاصده، وفضله على مَنْ تقدَّمَه من الملوك، بتعديد أسمائهم، ولما ترجم "مسيو دوكان" قصيدتي التي مدحت بها المرحوم أحمد باشا، والي تونس، وطبعها مع الترجمة، كان بعضهم يسألني "هل اسم الباشا "سعاد"؟ وذلك لقولي: "زارت سعاد وثوب الليل مسدول" فكنت أقول: لا، بل هو اسم امرأة، فيقول السائل:"وما مدخل المرأة بينك وبين الباشا؟ " وهو في الحقيقة أسلوب غريب للعرب، قال العلامة الدسوقي:"اعلم أنه قد جرت عادة الشعراء أنهم إذا أرادوا مدح إنسانٍ أن يذكروا قبله الغزل؛ لأجل تهييج القريحة وتحريك النفس للشعر، والمبالغة في الوصف، وترويح النفس ورياضتها" قلت: كما أن الإفرنج ينكرون علينا هذه العادة، كذلك ينكرون المبالغة في وصف الممدوح، وأما تشبيهه بالبحر والسحاب والأسد، والطود، والبدر، والسيف، فذلك عندهم من التشبيه المبتذل، ولا يعرضون له بالكرم، وبأن عطاياه تصل إلى البعيد، فضلًا عن القريب، فهم إذا مدحوا ملوكهم، فإنما يمدحونهم للناس، لا لأن يصل مدحهم إليهم".
ومن فكاهاته التهكمية، ونقداته اللاذعة، ما قاله عن علم النحو وتعلمه، قال أحد التلميذين: ألا قبحًا لذوي الخواطر البليدة، والفطن البعيدة، وكيف لا يتعلم الناس كلهم فن النحو، وهو أسهل من حك ما تحت الحقو، أما والله لو كانت العلوم كلها مثله، لما غادرت منها كبيرًا ولا صغيرًا إلّا استوعبته كله، ولكني سمعت أن النحو إنما هو مفتاح العلوم، ولا يعد منها فلابد أن يكون غيره أصعب منه.
فقال له معلمه: لا تقل هكذا، بل النحو أساس العلوم، وكل العلوم مفتقرة إليه افتقار البناء إلى الأساس، ألَا ترى أن أهل بلادنا لا يعلمون سواه، ولا يعرجون على غيره؟ وعندهم أن من تَمَكَّن منه، فقد تَمَكَّن من معرفة خصائص الموجودات كلها، ولذلك لا يؤلفون إلّا فيه، وإنما يحصل فيه خلاف بنيهم في تقديم بعض الأبواب على بعض، وفي توضيح ما كان مبهمًا منه بأدلةٍ وشواهد، واختلفوا أيضًا في الشواهد، فمن قال إنها مفتعلة، ومن قائل إنها ضرورة أو شاذة، بيد أن المآل واحد، وهو أن العالم لا يسمى عالمًا إلّا إذا كان متمكنًا من النحو، مستقصيًا لجميع وقائعه، ولا يكاد يستتب أمر إلّا به، ولو قلت مثلًا: ضرب "زيد عمرو" من غير رفع زيد، ونصب عمرو، فما يكون ضربه حقًّا، ولا يصح الاعتماد على هذا الإخبار، فإن حقيقة فعل الضرب متوقفة على علم كون زيد مرفوعًا، وجميع اللغات التي ليس فيها علامات الرفع، فهي خالية عن الإفادة التامة، وإنما يفهم الناس بعضهم بعضًا من دون هذه العلامة، عن دربة واتفاق، فلا معول على كتبهم وإن كثرت، ولا على علومهم وإن جلت".
وأخذ المعلم يثني على النحو ثناءً عظيمًا، ويبين أنه هداه إلى مسألةٍ حار فيها حيرةً عجيبةً، فسأله تلميذه: وما هذه الفائدة يا أستاذي؟ قال: قد طالما كان يخامرني الريب في قضية خلود النفس، فكنت أميل إلى ما قالته الفلاسفة، ومن أنه كل ما كان له ابتداء فهو متناهٍ، فلما رأيت النحو له ابتداء، وليس له انتهاء قست النفس عليه فزال عني والحمد لله ذلك الإبهام" وفي هذا الكلام لذعات حادة للنحاة لا تخفى على اللبيب.
وهكذا نجد أحمد فارس في كل ما كتبه يخلط الجد بالهزل، ويتهكم تهكمًا مريرًا على الأوضاع التي لا تروقه، وقد قال عن كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق":
هذا كتابي للظريف ظريفًا
…
طلق اللسان وللسخيف سخيفًا
أودعته كلمًا وألفاظًا حلت
…
وحشوته نقطًا زهت وحروفًا
وبداهةً وفكاهةً ونزاهة
…
وخلاعةً، وقناعةً وعزوفًا
كالجسم فيه كل عضوٍ تعشق الـ
…
مستور منه وتحمد المكشوفا
فصلته لكن على عقلي فما
…
مقياس عقلك كان لي معروفًا
وقد وضع أحمد فارس كل تجاربه وعلمه وفنه، وقلمه الظريف القوي المتمكن من مختلف أساليب اللغة في إخراج "الجوائب" فكانت من الصحف الأولى في العالم، وله يرجع فضل السبق في تعبيد العربية وتذليلها بأسلوبه المرسل الطليق، كما أنه من أوائل الذين مُلِئَت قلوبهم بغضًا للأجانب، فهم عن حق أغراضهم الدنيئة، وسلقهم بلسان حاد، وحَرَّضَ على إخراجهم من ديار العرب والشرق، وقد خَصَّ مصر بحبٍّ وفيرٍ، وكان مثلًا في الصحافة انتهجه المصريون، وحذوا حذوه، فلا بدع أن كان من رواد النهضة الحديثة.
كل ذلك حفَّزَ المصريين إلى الاهتمام بالصحافة، ووجدوا من إسماعيل صدرًا رحبًا للنقد السياسيّ، اللهم إلّا ما يمس شخصه، فلصحابه الويل والثبور كما حدث لمدير الأهرام سنة1889، حين أشار إلى مالٍ صرف من الخزينة، ولم يعلم مصيره، وكاد إسماعيل يبطش به، وبجريدته، لولا أن ارتمى في حضن فرنسا فحمته، كما وجدوا إسماعيل تشجيعًا للحركة الأدبية، وميلًا للأدب والفن والعلم، ومن الصحف المصرية التي ظهرت في عهد إسماعيل:
1 -
مجلة اليعسوب:
وهي أولى هذه الصحف المصرية، وهي مجلةٌ طبيةٌ أصدرها الدكتوران: محمد علي البقلي، وإبراهيم الدسوقي، وكانت شهرية عربية اللغة، وهذا يدلنا على عظم المحاولة التي ان يبذلها أطباء البعثات العلمية في تذليل اللغة العربية للمصطلحات العلمية، والاستعانة بالكتب القديمة، وبوضع كلمات من عندهم-
على سبيل الاشتقاق- ولقد كانت هذه المجلة الأولى من نوعها في الشرق، ولكنها للأسف لم تعمِّرْ طويلًا، ومنها نماذج بدار الكتب، وكان ظهورها سنة 1865.
2-
مجلة روضة المدارس:
أنشأها العلامة علي مبارك سنة 1870، حين كان وزيرًا للمعارف المصرية، وهي من أجلِّ أعماله خدمةً للغة والأدب، وكانت الوزارة تتولى إصدارها والإنفاق عليها، وقد أسست لإحياء الآداب العربية، ونشر المعارف الحديثة، وأسندت رئاسة تحريرها للعالم الأديب رفاعة الطهطاوي، فقد رأى علي مبارك أن رفاعة أجدر الناس أن يتولى الإشراف على روضة المدارس، وفي ذلك يقول:"لما كان حضرة رفاعة بك ناظر قلم الترجمة بديوان المدارس، وهوالمشار إليه بين أرباب المعارف بالبنان، والمعترف بدرجة فضله الرفيعة كل إنسان، ناسب أن يجعل هذه الصحيفة تحت نظارته، لتتحلى من معلوماته بالدر الثمين، وينشر علمها، فيتلقاه محب المعارف باليمين".
وقد صَدَّرَ رفاعة بك أول عدد منها بمقالٍ بَيَّنَ فيه الهدف الذي تسعى إليه المجلة، والخطة التي تسير عليها لبلوغ هذا الهدف، ومما جاء في هذا المقال قوله:"بحيث تكون فيها الفوائد المتنوعة، والمسائل المتأصلة والمتفرعة، أقرب تناولًا للمطلع المستفيد، وأسهل مأخذًا لمن يعانيها من قريب الفهم والبعيد، بقلم سهل العبارة، واضح الإشارة، وألفاظٍ فصحيةٍ غير حوشيةٍ، ولا متجسمةٍ لصعب التراكيب، ومعانٍ رجيحة تنفرط في سلك مستحسن الأساليب".
وقال: "وقد تنزهت صحيفتنا هذه مما سوى ما يخص نشر فائدة علمية، ومحمدة أثرية، مما يقع عليه الاختيار، ولا ضرر فيها ولا ضرار، فليس من وظائفها تقييد الأحوال السياسية الوقتية، والأفعال الرئاسية والإدارية".
ومن الذين أسهموا في تحرير المجلة: عبد الله فكري، الذي أحيلت عليه العلوم العربية والفنون الأدبية، و"بروكش" ناظر مدرسة اللسان المصريّ القديم، وخُصَّ بالتاريخ، وإسماعيل الفكلي، وعُهِدَ إليه بالفلك، ومحمد قدري، وخُصَّ بالجغرافية والأخلاق والعقائد، وأحمد ندا، وعُهِدَ إليه ببيان المواد النباتية، والشيخ عثمان مدوخ، وطُلِبَ منه إمداد المجلة بغرائب النوادر والمضحكات والألغاز والأحاجي والنكات، وأُحِيلَ على مباشر تحريرها الكلام على محروسة مصر القاهرة، وذكر أخطاطها وشوارعها، وأُحِيلَت كافة العلوم الرياضية على مدرسي المدارس، وما يراد منه في القابل، ويذكر اسم صاحبه حتى لا يضيع عمل عامل1.
وقد ضُمَّ إلى هيئة التحرير بعد إنشائها السيد مجدي، وكيل ديوان المدراس، والشيخ حسونة النواوي، مدرس الفقه وعلم الكلام بمدرسة الألسن، وصار فيما بعد شيخًا للأزهر، وأسنتدت مباشرة تحريرها وترتيب مقالاتها على علي فهمي ولد رفاعة "بك"، وكان مدرس الإنشاء بمدرسة الإدارة والألسن، واتخذت المجلة شعارها:
تعلم العلم واقرأ
…
تحز فخار النبوة
فالله قال ليحيى
…
"خذ الكتاب بقوة"
فكانت هذه المجلة ميدانًا يتبارى فيه فطاحل الكتاب في ذلك العصر، وقد عنيت -كما رأيت- بالمباحث الطريفة في العلم والأدب والاجتماع والفلك والتاريخ والرياضيات، وكانت تصدر مرتين في الشهر، وظلت تصدر ثماني سنوات، فمهدت السبيل للصحافة الحديثة، وكانت توزع بالمجان على جميع التلاميذ، وقد أفسحت أعمدتها للطلبة ينشرون أبحاثهم الجيدة فيها، فعودتهم بذلك الاطلاع والكتابة والبحث، وبذل الجهد المستقل عن أساتذتهم.
ومن الأمثلة على تشجيع المجلة للتلاميذ ما نشرته "للشاب النجيب، إسماعيل أفندي صبري، أحد تلاميذ مدرسة الإدراة وقتئذ"، وقد صار فيما بعد الشاعر المشهور إسماعيل "باشا" صبري.
1 العدد الأول من مجلة روضة المدارس.
فمن ذلك قصديته في مدح الخديو إسماعيل، بالعدد العشرين من السنة الأولى، مطلعها:
سفرت فلاح لنا هلال سعود
…
ونما الغرام بقلبي المعمود
وقصيدة أخرى، بالعدد الخامس من السنة الثانية، قال فيها:
أغُرَّتُك الغراء أم طلعة البدر
…
وقامتك الهيفاء أم عادل السمر
وشعرك أم ليل تراخى سدوله
…
وثغرك أم عقد تنظم من در
وقصيدة أخرى، بالعدد الثالث والعشرين من السنة الثانية، استهلَّها بقوله:
لا والهوى العذري والوجد
…
عذل عذولي فيك لا يجدي
إني مع الصد وطول الجفا
…
باقٍ على الميثاق والعهد
وغير ذلك ما يعد تقدمى وباكورة للشعر الحديث1.
3-
أما الصحف السياسية بمصر: فأقدمها ظهورًا جريدة "وادي النيل" أنشأها الكاتب الأديب الشاعر عبد الله أبو السعود2، وكانت تصدر مرتين في الأسبوع على شكل المجلات، ثم ألغتها الحكومة في سنة 1883، بيد أنها استأنفت جهادها وحياتها باسم جديد هو "روضة الأخبار" التي أصدرها محمد أنسي، نجل عبد الله أبي السعود، وكان والده يحرر القسم السياسيّ بها إلى آخر حياته.
4-
وتليها في الظهور جريدة "نزهة الأفكار" سنة 1869، لمنشئها إبراهيم المويلحي، ومحمد عثمان جلال، وناهيك بهما في ذلك العصر فحولة قلم، وجزالة أسلوب، وطرافة موضوع، وحلاوة نكتة، وكانت هذه الجريدة أسبوعية، ولكن لسوء الحظ لم يصدر إلّا عددان، وضاق بها إسماعيل ذرعًا، فعطلها حين نصحه بذلك أحد وزرائه خشيةَ أن تثير لهجتها الخواطر ضده.
1 راجع تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي، ج3 ص489، ترجمة رفاعة الطهطاوي وعصر إسماعيل له كذلك، ج2 ص262، وديوان إسماعيل صبري 2-10، وأعداد مجلة روضة المدارس.
2 توفي سنة 1878، وهو من أوائل تلاميذ رفاعة الطهطاوي، واشتغل بالتدريس بدار العلوم، واشتهر بالترجمة والكتابة في التاريخ، وصار عضوًا بمجلس الاستئناف.
5-
وأنشأ بعض الأقباط بمصر في سنة 1877، جريدة "الوطن"، وكانت سياسيةً وطنيةً تميل إلى التحرر، ثم نزح عقب حوادث سنة 1860، في سوريا1 جماعةٌ من الأدباء الذين فروا بحريتهم من الاضطهاد، وجاءوا وقلوبهم تغص بالحقد والإحن على تركيا، وفي نفوسهم ميل إلى الحرية، والتنفيس عن الآراء المكبوتة، وقد شجعهم إسماعيل على الإقامة بمصر، والإسهام في نهضتها، ولا نستطيع أن ننكر ما أسدوه للصحافة ولنشر الثقافة من خدمات.
ومن أوائل الذين وفدوا إلى مصر عقب هذه الحوادث الدامية:
أديب إسحق:
وهو فلتة من فلتات الزمن، استطاع مع حداثة سنه أن يتوهج في سماء الأدب والسياسة والخطابة نجمًا ساطعًا، وأن يكون مدرسةً إنشائيةًَ يحتذيها الأباء والخطباء، وكان من الذين امتلأ قلوبهم بحب مصر والشرق، ورأى الأجانب الطامعين، والمرتزقة والأفاقين، فأضرمها عليهم نارًا مشبوبة، لا تخمد لها جذوةٌ في كل مكان حلَّ به، وقد ارتحل وشُرِّدَ في سبيل مبدأه، وفيض وطنيته، وحرارة أسلوبه، حتى احترق صغيرًا ومات، ولما ينته العقد الثالث من عمره.
ولد أديب إسحق سنة 1856، من أبوين سوريين، ونشأ بلبنان، وتعلم العربية والفرنسية في مدرسة الآباء العازاريين، واضطر إلى الكدح في سبيل بريد بيروت، وقد ظهرت ميوله الأدبية في حداثته، فعهد إليه وهو في السابعة عشرة بتحرير جريدة "التقدم".
وكان إلى عمله الصحفيّ يترجم عن الفرنسية ويؤلف، وانتمى إلى جمعية "زهرة الآداب"، ثم صار رئيسًا لها فيما بعد، وقد ترجم "أندروماك" لراسين، وساعد صديقه "سليم نقاش" في تأليف المسرحيات، وتمثيلها، ولحق به في الإسكندرية.
1 في هذه السنة زاد اضطهاد الأتراك لمسيحي سوريا، وقامت مذابح في جبل لبنان، ذهب ضحيتها عدد كبير من المسيحيين، واضطر كثير من سكان القرى بجبل لبنان إلى الهجرة، وذلك لأن نصارى الشام قد أظهروا ولاءهم لإبراهيم باشا، وكرههم للحكم التركي أيام وجوده بينهم، فلما سحبت الجيوش المصرية ظلوا على ولائهم لمصر، فانتقم الأتراك منهم شر انتقام.
وكانت فرقتهما التمثيلية من أوائل الفرق العربية، وعرف أديب رواية "شارلمان" وأعجب بها المصريون إعجابًا عظيمًا1 وألف رواية "غرائب الاتفاق".
وحَنَّ إلى الصحافة فذهب إلى القاهرة، واتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني، وأنشأ هو وصديقة سليم نقاش جريدة "مصر" سنة 1877، وكانت أسبوعيةً، وقد تأثرا فيها بتعاليم جمال الدين الأفغاني، وأسلوبه الملتهب، أنشآها وهما مفلسان لا يملكان غير عشرين "فرنكًا" بيد أن أسلوبها وقوة بيانها، وجدة أفكارها، ودعوتها الجريئة للحرية، قد ضمنت لها الإقبال، والرواج، ورحَّبَ بها الذين يحبون القلم القويّ، والأسلوب الجزل، والأفكار الجريئة، واندفع كاتبها كالبركان يرسل نارًا، ونورًا، وينفس عن نفسه ما طالما كبت فيها وهو ببيروت، وما ذاقه وقومه من اضطهادٍ وظلمٍ على أيدي الأتراك، فحركت الهمم وأعادت للأسلوب الرفيع عزته.
وقد وجد أديب إسحاق، وسليم نقاش في رواج مصر، ما شجعهما على إصدار جريدة يومية سمياها "التجارة"، وكانت لا تقل عن أختها حماسةً وقوةً، ونشر فيها جمال الدين الأفغاني بعض المقالات، تارةً ممهورة بتوقيعه، وتارة بتوقيع مستعارٍ، وقد ألغاهما رياض باشا سنة 1880.
ولكن ذلك لم يثن من عزيمة "أديب إسحاق" فهاجر إلى باريس، واستأنف جهاده، وإصدر ثمة جريدة "القاهرة" بالعربية، وقال في مقالها الأول:"ما تغيرت الحقيقة بتغير الاسم، بل هي مصر خادمة مصر".
وقد حرص في أثناء مقامه بباريس على معرفة عدد كبير من ساسة فرنسا وعلمائها، حتى روى فيكتور هوجو أنه قال لمن كانوا في حضرته، على أثر انصراف أديب:"هذا نابغة الشرق"، ولكن برد باريس، وإسرافه على نفسه في كل شيء، قد جنى على صدره، فرجع إلى لبنان ملتمسًا الشفاء، وعاد إلى تحرير جريدة "التقدم" مرة أخرى.
1- M. Sapry: La Genese de L. Esprit National Egyption p128.
وحين تغيرت الأحوال في مصر، دُعِيَ إليها، وعُيِّنَ مديرًا لقلم الإنشاء والترجمة بوزارة المعارف، وسُمِحَ لجريدة مصر بالظهور، وشغل وظيفةً أخرى بجانب وظيفته الأولى؛ حيث عُيِّنَ كاتب سر مجلس شورى القوانين، وحين قامت الثورة العرابية واشتد لظاها، عاد إلى بيروت، ثم رجع إلى الإسكندرية، ثم اشتد به مرض الصدر، فعاد إلى لبنان؛ حيث مات بقرية الحدث بالقرب من بيروت، وهو في التاسعة والعشرين من عمره سنة 1885، وهي قريبة من القرية التي دفن فيها أحمد فارس الشدياق، وهكذا جمع الموت بين علمين من أعلام النهضة الحديثة، ورواد الفكر والأدب الجديد.
وكان أديب إسحاق نارًا مسلطة على الاستعمار، والذل والعبودية، وقد التقى بجمال الدين فزادت حماسته واضطرمت النار في فؤاده، فأخرجها شواظًا ملتهبًا في كلماتٍ تصب الحمم على الأعداء، وتثير الهمم الفاترة. لقد نادى بوجوب اتحاد الأمم العربية، فسبق زمنه قرنًا، أو ما يقرب من قرنٍ، وفي ذلك يقول: "ما ضر زعماء هذه الأمة لو سارت بينهم الرسائل بتعيين الوسائل، ثم حشدوا إلى مكانٍ يتذاكرون فيه ويتحاورون، ثم ينادون بأصواتٍ متفقة المقاصد كأنها من فمٍ واحد، قد جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، وهبت الحاصبة، تليها العاصفة، فذرت حقوقنا فصارت هباءً منثورًا، ولمت بناء القارعة، ووقعت الواقعة، فصرنا كأن لم نغن بالأمس، ولم نكن شيئًا مذكورًا، فهل ننشد الضالة، ونطلب المنهوب، لا تقوم بأمر ذلك فئة بدون فئة، ولا نتعصب لمذهب دون مذهب، فنحن في الوطن إخوان، وتجمعنا جامعة اللسان، وكلنا وإن تعدد الأفراد إنسان.
أيحسبون أن ذلك الصوت لا يكون له من صدًى، أم يخافون أن يذهب ذلك الاجتهاديّ سدًى، أم لا يعلمون أن مثل هذا الاجتماع، منزهًا عن المقاصد الدينية، منحصرًا في العصبية الجنسية والوطنية، مؤلفًا من أكثر النحل العربية، يزلزل الدنيا اضطرابًا، ويستميل الدول جذبًا وإرهابًا، فتعود للعرب الضالة التي ينشدون، والحقوق التي يطلبون، ولا خوف على زعمائهم ولا هم يحزنون".
إن هذا ولا ريب تفكير مشرق، وقلب يتجه الاتجاه السليم، الذي يجب أن تسير فيه الأمة العربية منذ أن رأت الغرب الجشع يطمع، ويحد براثنه لينهشها الواحدة تلو الأخرى، ولو فعلت ذلك من أواسط القرن التاسع عشر ما أصابها اليوم ما أصابها.
وكان أديب ممن يعشق حرية الرأي وينادي بالدستور، وقد كتب مقالًا يرد فيه على الشيخ حمزة فتح الله، محرر جريدة "البرهان" في سنة 1881، حين دعا الشيخ إلى حكم الفرد يوم افتتاح مجلس النواب، فقال له أديب:
صفحًا لصرف الدهر عن هفواته
…
إن كان هذا اليوم من حسناته
وكيف لا؟ وهو حاجة النفس، وأمنية القلب، منذ توجه الخاطر إلى السياسة الوطنية، وانصرف العزم إلى إحياء الهمم، وانعقدت النية على حفظ الحقوق، واتحدت الوجهة في القيام بالواجبات، وهو النشأة التي كست الوطن رداء الفتوة قشيبًا، وهو البنية التي غرست للأمة غصن الأمل رطيبًا، وهو ما رجوناه زمانًا، ودافعنا الزمن فيه، وتمنيناه أعوامًا، وغلبنا الحدثان عليه، فيها حسنه من يوم رد فائت البهاء، وأحيا مائت الرجاء، وأعاد شباب الأمة، وسدل ستور النعمة، وأظهرت مقاصد الأمير، وأيَّد مساعي الوزير، وقضى لبانات النبهاء، وحقق أماني النزهاء1".
وكان أديب مغرمًا بمصر، محبًّا لها حبًّا ملك شغاف قلبه، مثله في ذلك مثل الشدياق، ولا بدع، فقد آنته في غربته، وأعطته الحرية التي حرمها في وطنه، وأفسحت له مجال العمل، وقدرت جهده، حتى منحه الخديوي الرتبة الثالثة بيده، وأنزلت كفاءته منزلتها، فعينته في الوظائف الكبيرة، ثم إنها ملجأ الأحرار، وزعيمة الشرق العربيّ، ونهوضها -كما كان ذلك رأي أستاذه جمال الدين- نهوض للعرب أجمعين، وفي مصر يقول أديب: "ومصر، ولا حياء في الحب، بلد تركت فيه زهرة أيام الشباب، وخلفت غرس الآداب، وهززت غصن الأماني رطيبًا،
1 جريدة مصر في 29 من يناير 1882.
ولبست ثوب الآمال قشيبًا، فما عدلت بي عن حبكها النكبة، ولا أنستني عهدها الغربة، ولست أول محب زاده البعد وجدًا، ولم ينكث على العهد عهدًا، فحذار أهل مصر إن العدو لكم بالمرصاد، وإنكم لمحفوفون بالعيون والأرصاد".
واستمع إليه يقول في الحزب الوطنيّ وأمانيه وأنه "يريد أن يكون المصريّ في مقام الإنسان، مستقلًّا بوجوده متمتعًا باستقلاله، فائزًا بحقوقه، نهاضًا بواجباته، وتريدونه بمنزلة الحيوان، يساق للموت، فإن عجز فللسلخ، ويطلب أن يكون الوطنيّ آمنًا في دراه، مساويًا لجاره، ويستغل زرعه، ويستدر ضرعه، وتلتمسون أن يكون غريبًا في آله، مصادرًا بماله، يطعم من يحرمه، ويؤمِّنُ من يروعه، ويحفظ من يضيعه1".
وكان أديب من ألد أعداء الأجانب، وإليك بعض نفثاته الحارة ضد صحيفةٍ مواليةٍ للأجانب، وقد كانت تشيد بإلغائهم بعض الضرائب؛ لتمكن أقدامهم في احتلال مصر: "فهل خفي عن تلك الصحف أنه ليس من شفقة الصياد على الطير إلقاؤه الحب بين يديها؟ أوتعلم أن القائل بهمجية المصريين، المعتقد بانحطاط مدراكهم، لا يطعمهم هذه الفتات، إلّا ليسهل على الإنجليز هضم قوتهم والتهام ثروتهم!.
كلا! إن الجرائد المصرية لا تجهل حقيقة الأمر، ولكنها لا تستطيع التصريح، علمًا بأن اللص العازم على سرقة الحقوق الوطنية يكره النور، فإذا حاولت إظهاره سارع إلى إطفائه بتعطيلها وإلغائها.
يا أهل مصر:
إني محدثكم حديثًا غريبًا: إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهرالأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وإغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها".
1 جريدة مصر في 29 من يناير 1882.
كان أديبُ جنديًّا من جنود الحرية، ومصر، والعروبة، ولما عُطِّلَتْ جريدة التجارة أسبوعين أول الأمر، دبج مقالًا جاء فيه:"ولئن ساءنا أن جاءنا ذلك الإخطار بلوم، وعقاب أليم، لقد سرنا أن تكون الجرائد موضوعًا للنظر، ومجالًا للنقد، ولم نر في القصاص شيئًا يستعين به اللائم، أو مصابًا يعتضد به الشامت، فإن "التجارة" تحسب حب الوطن دينًا والمدافعة عنه جهادًا، فإن عاشت فهي سعيدة، وإن ماتت فهي شهيدة، ولقد آتاها الله النعمتين، وأتاح لها الحسنيين، فعاشت به، وماتت عليه، وستبعث بعد أسبوعين، رافلةً في ثوب الشهادة، مزينةً بحلى السعادة، على الرغم من أنوف حاسديها، الذين أَوَّلُوا كلامنا إلى ما لم نقصد، وسعوا بها بما لم يخطر على قلوبنا، وحاولوا إطفاء نور الحق، ويأبى الله إلّا أن يتم نوره ولو كره المبطلون1".
ولم يثنه تعطل جريدته ونزوحه إلى باريس عن غايته المثلى، وهي العمل على إيقاظ الشرق العربيّ، والدعوة للحرية، وطرد الأجانب من البلاد، وقد أعلن خطة جريدته "القاهرة" التي أصدرها بباريس، بقوله:"إني لا أقصد إلى الانتقام، وإنما أروم مقاومة الباطل ونصرة الحق، والمدافعة عن الشرق وآله، وعن الفضل ورجاله، فمَسْلَكِي أن أكشف حقائق الأمور، ملتزمًا جانب التصريح، متجافيًا عن التعريض والتلميح، وأن أجلو مبادئ الحرية، وآراء ذوي النقد، ومقصدي أن أثير بقية الحمية الشرقية، وأهيج فضالة الدم العربيّ، وأرفع الغشاوة عن أعين الساذجين، وأحيي الغيرة في قلوب العارفين، ليعلم قومي أن لهم حقًّا مسلوبًا فيلتمسوه، ومالًا منهوبًا فيطلبوه، وليخرجوا من خطة الخسف، وينبذوا عنهم كل مدلس يشتري بحقوقهم ثمنًا قليلًا، ويذيقوا الخائنين عذابًا وبيلًا، وليستصغروا الأنفس والنفائس في جنب حقوقهم، وليستميتوا في مجاهدة الذين يبيعون أبدانهم وأموالهم وأوطانهم وآلهم".
وأسلوب أديب أسلوبٌ قويٌّ متينٌ، افْتَنَّ في تدبيجه وانتقاء ألفاظه، وحلَّاه بالسجع على عادة كتاب ذلك الوقت، ولكنه ليس بالسجع السخيف المتعمد، ولكنه سجعٌ قريبٌ من سجع ابن العميد، والصاحب بن عباد، والصابي، لا من سجع الحريريّ والقاضي الفاضل.
1- التجارة، العدد187، في 13 من فبراير 1879.
إنه حقًّا حفل بالأسلوب كما حفل بالمعنى، وأحيا الكتابة العربية المنمقة القوية أيام كانت في القرن الرابع الهجريّ، ونقول مع "مارون عبود"1:"أما الذي يتراءى لي من آثاره الكتابية ومن أسلوبه، فهو أنه ناريّ الشعور، ومتَّقِدُ الخاطر، ثوريٌّ من الطراز الأول، كأنه كان في رفقة الحَجَّاج يوم دخل الكوفة وقد انتشر النهار، يرسل عباراته فتئز أزيز السهم، وقد فأرق الوتر جمل كأنها مقطوعة على نمط واحد، لا هي بالطويلة ولا هي بالقصيرة، يشد بعضها بعضًا فتؤلف مقالته كتيبةً جامحةً، إذا راعيتها منفردة لا تحس لها مفعولًا عظيمًا، ولكنها تؤلف كلًّا تخرج منه النفس، وقد ملاها هذا الكلام اندفاعًا واستبسالًا".
ويقول: "نثرٌ كأنه الشعر يرصِّعُه بأبياتٍ، إما من الشعر القديم، وإما من نظمه هو، فيأتي مقاله عجاجًا زاخرًا حين يحتد ويشتد كقوله: هو الظلم حتى تمطر السماء بلاءً، فتنبت الأرض عناءً، فلا تجد على سطحها إلّا جسومها ضاوية، في ديار خاوية، وقلوبا تحترق في بلاد تحت رق".
وهو يراعي الموسيقى في نثره أكثر من شعره؛ فيتعمد ما كانت تتعمده مدرسة ابن العميد من أفعالٍ مختلفةٍ، تتحرك لها الجملة فتحرك قارئها توًّا، وإن ذهب أثرها من عقله بعد حين كقوله:
"هو الجهل حتى تضيع الأخطار، وتفنى الأقدار، وتبطل الهمم، ويعفو القلم، ويدرس الفهم، ويستعلي الخامل، ويستولي الجاهل، وتنخفض الرءوس، وتنقض النفوس، وحتى ترمي:
بكل أرض وطئتها أمم
…
ترعى بعبد كأنها غنم
يستخشن الخز حين يلبسه
…
وكان يبري بظفره القلم
ومن شعره الذي جرى مجرى الأمثال، وإن لم يكن من الشعراء المجلين، وإن اشتهر بنثره أكثر مما اشتهر بشعره قوله:
1 مجلة الكتاب فبراير 1948.
قتل أمريء في غابة
…
جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن
…
مسالة فيها نظر
والحق للقوة لا
…
يعطاه إلّا مَنْ ظفر
ومن ذلك قوله:
حسب المرأة قوم آفةً
…
من يدانيها من الناس هلك
ورآها غيرهم أمنية
…
ملك النعمة فيها من ملك
فتمنى معشر لو نبذت
…
وظلام الليل مشتد الحلك
وتمنى غيرهم لو جعلت
…
في جبين الليث أو قلب الفلك
وصواب القول لا يجهله
…
حاكم في مسلك الحق سلك
إنما المرأة مرآة بها
…
كل ما تنظهر منك ولك
فهي شيطان إذا أفسدتها
…
وإذا أصلحتها فهي ملك
إذا كان الشدياق قد وضع أسس المقالة الحديثة في الجوائب، وهجر الأسلوب المرصَّعَ المسجوع في الكتابة الصحفية، واقتفى أثره كثيرون شغلوا بالصحافة، ورأوا ذلك أدنى لأن يفهموا من جمهرة القراء، وأسرع في الإبانة عن المعاني الكثيرة التي يريدون الإفضاء بها واستقصاءها، فإن فضل أديب إسحق على الأسلوب الأدبيّ لا ينكر، وقد قلده كثيرون ممن كتبوا المقالة، وكانوا من أنصار الشدياق بادي الأمر، وعلى نهجه جرى جبران، ونجيب حداد، وغيرهما من أفاضل السوريين، ولكن الصحافة لم تحتمل هذا الأسلوب، ورجعت إلى البساطة في التعبير، وإن ظلَّ أسلوب أديب الذي أحيا به كتابة القرن الرابع نموذجًا للأدباء في أواخر القرن الماضي، وأوائل القرن الحاضر.
ومن السوريين الصحفيين سليم الحموي، صاحب جريدة "الكوكب الشرقيّ" سنة 1783، ولكنها كانت قصيرة العمر، ومنهم سليم وبشارة تقلا، وقد أصدرا "الأهرام" بالإسكندرية سنة 1875، وقد لاقت أول أمرها عقبات جمة،
ثم نالت حظًّا كبيرًا من الرواج، وكانت تصدر أسبوعيًّا في بدء ظهورها، ثم صدرت بجانبها جريدة يومية تسمى:"صدى الأهرام" فلما عُطِّلَتْ الجريدة اليومية، انفردت الأهرام بالظهور، ودأبت تصدر حتى اليوم، فهي أقدم الصحف المصرية السياسية، وإليها يرجع الفضل في تقدم الصحافة المصرية، وأخذها بكل جديدٍ من صحافة الغرب.
ولقد كانت المقالة أهم شيء في الصحفية، حتى خرجت الأهرام على ذلك في سنة 1912، وقدمت الأخبار على المقالة، والأهرام أول من عُنِيَ بالحوادث المصورة، ولقد ازداد حجمها أحيانًا في عهد جبرائيل تقلا، حتى بلغ عشرين صفحة، وقد عنيت عنايةً فائقةً بالأخبار الخارجية، وصارت نموذجًا لصحف الشرق العربيّ كله.
ومنهم سليم عنحوري، وقد أصدر جريدة سياسية سماها:"مرآة الشرق" ولكن تنحى عنها في سنة 1879، وتولاها إبراهيم اللقاني بإيعازٍ من السيد جمال الدين الأفغاني، وقد أنشأ الشيخ يعقوب صنوع اليهوديّ صحيفتين سياسيتين، وهما "مرآة الأحوال" صدرت في لندن سنة 1876، و"أبو نضارة" صدرت في القاهرة سنة 1877، ويعقوب صنوع إسرائيلي مصريّ، ولد سنة 1839، وكان يتقن التوراة، وقرأ الإنجيل، والقرآن، وتعلم في إيطاليا على نفقة أحمد باشا يكن، وهو أول من أنشأ مسرحًا عربيًّا في القاهرة سنة 1870، وأعجب به الخديو إسماعيل، وكان يسميه:"موليير مصر"، منحه المنح، وأمده بالعون، وحضر بعض تمثيلياته تشجيعًا له، وقد ألف نحو اثنتين وثلاثين مسرحية في موضوعات جدية وهزلية، وسافر إلى أوربا سنة 1884 وبقي فيها فترة، ولما عاد إلى مصر اتصل بالسيد جمال الدين والشيخ محمد عبده، وكان يعلمهما الفرنسية.
وكانت "أبو نضارة" من الصحف المعارضة لإسماعيل، وكان صاحبها ميَّالًا للفكاهة والدعابة، وقيل: إن اليسد جمال الدين هو الذي أوحى إليه بإصدار جريدته لانتقاد سياسة إسماعيل.
وكانت "أبو نضارة" أول جريدة هزلية سياسية صدرت بمصر، وقد نفاه إسماعيل فرحل إلى باريس، واستأنف إصدار جريدته بأسماء مختلفة، معارضًا الخديوي ومنتقدًا أعماله، ولم يخل عدد منها من صور تعرِّضُ تعريضًا شديدًا بالخديوي إسماعيل، فلقيت رواجًا، واستمرَّ الشيخ صنوع يصدر جريدته إلى ما بعد الاحتلال، وكان معاديًا للإنجليز، وتوفي سنة 1912.
وعلى العموم، فقد بلغ عدد الصحف التي ظهرت في عهد إسماعيل ما يقرب من عشرين صحيفة، ومعظمها ظهر في آواخر أيامه، وقد أطلق لها الحرية في الكتابة، وكان يميل إلى هذه الحرية في آخريات عهده حين اصطدم بالمطامع الأوربية، وكانت هذه الصحف تندد بسياسة الأوربيين وجشعهم، ونواياهم، وتشعر الناس بتدخلهم السياسيّ، وتحمل عليهم حملات شديدة اللهجة، فكان ذلك يروق إسماعيل، ولكن لم يكن يرضى أن يتعرض كاتبٌ ما لسياسته الخاصة أو لشخصه.
تعقيب:
هذا النهضة الصحفية خلصت اللغة من أسرها القديم، وأوضارها التي ورثتها من عصور الضعف، وخاضت في موضوعات شتَّى كما ذكرنا، وسلس الأسلوب، واحتذى الصحفيون أسلوب ابن خلدون في مقدمته، وذلك الأسلوب المرسل السهل، وإذا وازنَّا بين أسلوب النثر الصحفيّ في هذا العهد الذي نتحدث عنه، وأسلوب الكتابة في العصر السابق، وجدنا البَوْنَ شاسعًا، وقد مرَّت بك نماذج من هذه الكتابة الصحفية، يتجلى فيها أثر التحرر اللغويّ والفكريّ، وقوة البيان، وطرافة الموضوع، وإليك ما قال بعض قادة النهضة الصحفية في الحثِّ على العلم والاهتمام بالبيان، وطريقة الكتابة، راسمين للشادين في الصحافة الطريقة القويمة.
1-
يقول أحمد فارس الشدياق:
"من الناس مَنْ يتعلم، وهو مجبولٌ على صفات حميدةٍ فيزداد هدًى ورشدًا وورعاً ودماثة أخلاق، وحسن تصرف، واستقامة طبعٍ، ونزاهة نفسٍ، وصفاء عقيدةٍ، وإخلاص مودةٍ، وسلامة نيةٍ، وعفة قلبٍ ولسانٍ، وانبساط يدٍ؛ فمثله كمثل الجوهر الشفاف إذا قابله شعاع الشمس، أوكمثل إناءٍ من زجاجٍ نظيفٍ صافٍ إذا وضع فيه الماء لم يتغير من طبعه شيئًا، فتراه دائمًا مقبلًا على نفع الناس، ساعيًا في إصلاح شئونهم، وتسنية أحوالهم، باذلًا أقصى جهده في تسكين خواطرهم، ولَمِّ شعثهم، وتأليف مفرقهم، وتسلية حزينهم، وإرشاد غاويهم، وتأييد ضعيفهم، وليس من همه التردد على أبواب الأمراء والخضوع لحجابهم
…
إلخ1".
2-
ويقول أديب إسحق:
"الكتابة صناعةٌ يراد بها التعبير عن الخواطر والمحسوسات بوضعٍ صحيحٍ، وأسلوبٍ صريحٍ، فهي ذات ثلاثة أركان: الخاطر المراد إيضاحه وهو الإنشاء، والوضع الذي يبدو به ذلك الإيضاح وهو البيان، والكيفية التي تحصل بها ذلك وهو الأسلوب".
ويقول أديب إسحق كذلك:
"رأيت أن أصرف العناية إلى تهذيب العبارة وتقريب الإشارة، لتقريب المعنى في الأفهام، من أقرب وأعذب وجوه الكلام، وانتقاء اللفظ الرشيق للمعنى الرقيق، متجنبًا من الكلام ما كان غريبًا وحشيًّا ومبتذلًا سوقيًّا، فإن التهافت على الغريب عجز، وفساد التركيب بالخروج عن دائرة الإنشاء داءٌ إذا سرى في القراء والمطالعين، أدى إلى فساد عام، وأغلق على الطلبة معاني كتب العلم، والتنازل إلى ألفاظ العامة، يقضي بإماتة اللغة، وإضاعة محاسنها، وإن في لغة القوم لدليلًا على حالهم".
وقد عدل أديب إسحق عن أسلوبه المنمق في أخريات حياته، ولا سيما في بعض مقالاته الصحفية، وفي ذلك يقول:
1 مجالي الغرر ج2 ص177.
"قد التزمت لهذا المطلب أسلوب التقرير، وعدلت فيه عن منهج الخطابة الشعرية، لاعتقادي بأن الأسلوب الخطابيّ، وإن كان أسرع تأثيرًا في القلوب، وأحسن وقعًا في الأذهان، إلّا أنه قد يميل بالكاتب إلى جانب التخيل الوهميّ في مكان التقرير العلميّ، فيرتفع بيانه عن المدراك التي سيقت إليها الملكات الحسية، فلم يبق بها من محلٍّ لملكة الخيال المسماة شعرًا، فيفوت الغرض المقصود من البيان والبلاغة، وهو تقرير المعاني في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام، ولهذا سأرسل فيه الكلام إرسال مقرر مبين، ولا أتكلفه تكلف منمق مزين، فإن أحكام التقرير منافية لهذا التمويه الذي يسمونه بديعًا".
ويقول: "النثر هو الكلام المطلق المرسل عفو القريحة بلا كلفة ولا صنعة، إلّا ما يكون من وضع الكلام في مواضعه، وإيثار ما يألفه السمع والطبع منه، فهو من هذا الوجه مقدَّمٌ على سائر أنواع الكلام، بل هو الأصل في الإنشاء، وما سواه فرع منه، فإنه طبيعيّ أصيلٌ، وما دونه صناعيٌّ حادثٌ، والأصل في الطبيعة لا محالة، يدل على ذلك أن هذا الكلام المقفى الذي يسمونه سجعًا لا يكاد يوجد في غير اللسان العربيّ، فلو كان طبيعيًّا لوجب أن يكون في جميع اللغات، أو في المعدودة منها أصولًا على الأقل1".
3-
ويقول السيد عبد الله النديم، في العدد الأول من جريدة "التنكيت والتبكيت"2.
"إليكم يراعي فاستخدموه في مقترحات أفكاركم العالية، وصحيفتي فاملئوها بآدابكم المألوفة، وبدائعكم الرائقة، فاليراع وطني يخاطب القوم بلغتهم، ويطيعهم فيما يأمرون به، والصحيفة عربية، لا تبخل بالعطاء، ولا ترد الهدية، وأنتم كرام اللغة وأخوان الوطنية، فشدوا عضد أخيكم بالقبول والإغضاء عن العيوب، وساعدوه بأفكار توسع دائرة التهذيب، وتفتح أبواب الكمال، وكونوا معي في المشرب الذي التزمته، والمذهب الذي انتحلته: أفكار تحليلية، وفوائد
1 مجالي الغرر ج2 ص6.
2 صدرت سنة 1881، وراجع سلافة النديم ص77.
تاريخية، وأمثال أدبية، وتبكيت ينادي بقبح الجهالة، وذم الخرافات، ولنتعاون بهذه الخدمة على محو ما صرنا به مثلةً في الوجود، من ركوب متن الغواية، واتباع الهوى اللذين أضلانا سواء السبيل".
وترى من هذه النماذح كيف كان القوم يجاهدون في سبيل العلم وتفتيح الأذهان المغلقة، وتحبيب الناس في الثقافة، والإشارة بفضل المتعلمين في زمنٍ كانت فيه الأمة لا تزال تحبو في طريق النور، وكيف وضعوا أسس تحرر اللغة من أسر السجع والتكلف، ورسموا قواعد الإنشاء الصحيح لمن يريد أن يتخذ الكتابة حرفةً، وكيف سخَّرُوا القلم القويَّ الجرئَ في خدمة الوطن، وجعلوا الصحف ميدانًا للأفكار الطيبة، والأدب الرفيع، والدعوات الإصلاحية الحرة، وبذلك كانت الصحافةُ منارةً من منارات النهضة العربية الأدبية، ارتفعت هذه المنارة في عهد إسماعيل، وظلَّت ترسل النور قويًّا يبدد سدفة الجهل ويهدي الضالين إلى اليوم.
4-
الطباعة:
نهضت الطباعة نهضةً عظيمةً في عهد إسماعيل؛ إذ وجهت الحكومة عنايتها إلى مطبعة بولاق، وما زالت بها حتى صارت أرقى مطبعةٍ في الشرق، وأسست مصنعًا للورق يمد مصالحها المختلفة بالورق في سنة 1871، ويزود المشتغلين بالعلم والطباعة والتجار بكل ما يحتاجون إليه، ولقد سهل هذا الأمر على المشتلغين بالعلوم، وشجعهم على النتاج المتصل، وكاد نتاج الورق بمصر يعطل ما يرد من أوربا حينذاك.
وأنشئت بجوار مطبعة بولاق عدة مطابع أهلية؛ أهمها: مطبعة جميعة المعارف التي تكلمنا عنها آنفًا، ثم المطبعة الأهلية القبطية التي جلبها من أوربا الأنبا كرلس الرابع سنة 1860 في عهد سعيد باشا، ومطبعة "وادي النيل" لمحمد أبي السعود أفندي، ومطبعة "مجلة روضة المدارس" والمطبعة الوطنية بالإسكندرية
…
وغير ذلك من المطابع التي كان لها الفضل الأكبر في نشر الكتب الحديثة، وتيسير الاطلاع، والنهوض باللغة والأدب وشئون التعليم.
5-
الترجمة والتأليف:
كانت التركية لا تزال ذات سطوةٍ في مصر حتى عصر إسماعيل، ولكنه عمد إلى تمصير الحكومة ولغتها، حتى يسهل انفصاله عن الدولة العثمانية، وأصدر أمرًا بجعل صور الأمر واللوائح وكل ما سبق صدروه من الإجراءات منذ عهد محمد علي عربيةً، كما أمر بطبعها، فما كان منها عربيًّا يطبع كما هو، وما كان تركيًّا تطبع معه ترجمته العربية1، ولقد كان الأمر باستعمال اللغة العربية أداة التعبير الحكومية سابقًا لأوانه، لافتقار البلاد لعددٍ كبيرٍ ممن يحذقون اللغة العربية، ولا سيما بعد ذلك الركود الذي أصاب التعليم على يد عباس وسعيد، ثم إن ترجمة هذه القوانين الكثيرة التي صدرت منذ عهد محمد علي تحتاج إلى وقتٍ طويل، ولذلك ظلَّت للتركية بعض السطوة، وإن أخذت تدريجيًّا تفسح مكانها للعربية، حتى أوشكت أن تحلَّ محلها نهائيًا في أخريات عصر إسماعيل.
ومما ساعد على الاهتمام بالترجمة في عهد إسماعيل ازدياد النفوذ الأجنبيّ، وكثرة من وفدوا إلى مصر من هؤلاء الأجانب تجارًا ومغامرين، ولا سيما بعد فتح قناة السويس، فأنشئوا المصارف والدور التجارية الكبرى، ودخلوا في خدمة الحكومة مديرين وفنينين، وعلي الأخصِّ حين اضطربت مالية البلاد.
1 حركة التركمة بمصر لجاك ص62.
واهتم إسماعيل باللغة الفرنسية اهتمامًا زائدًا؛ لأنها كانت منذ عهد محمد علي هي اللغة التعليمية الأولى لرجال البعثات.
وظل الأمر في تدريس المواد العلمية كما كان في عهد محمد علي محتاجًا إلى واسطةٍ بين التلاميذ والمدرس الأجنبيّ، ولكن حينما أعيدت مدرسة الألسن سنة 1868، وأخذ تلاميذ رفاعة الطهطاوي يشرفون عليها، نهضت الترجمة نوعًا ما، وتولَّى رفاعة بك رئاسة قلم الترجمة، واشترك في تعريب القانون الفرنسيّ مع عبد الله أبي السعود وغيره.
واستمرت حركة الترجمة في أوائل عهد إسماعيل مصبوغةً بالصبغة العلمية، ومعظم ما تُرْجِمَ حينذاك كان في العلوم؛ كالهندسة والطب والصناعات العسكرية وغيرها، وذلك لشدة حاجة البلاد إلى هذا النوع من التعليم. وإن كان بعض تلاميذ رفاعة قد اهتموا بالنواحي الأدبية من قانونٍ وتاريخٍ وأدبٍ.
فنجد عبد الله أبا السعود الصحفيّ والسياسيّ يترجم "نظم اللآليء في السلوك في من حكم فرنسا من الملوك" و"قناصة أهل العصر في خلاصة تاريخ مصر"، تأليف "أوغست ماربيت بك"، وباشر ترجمة تاريخ عام مطول واسمه "الدرس التام في التاريخ العام"، و"تاريخ الديار المصرية في عهد الدولة المحمدية العلوية" تأليف "برنار الفرنسيّ".
وممن كان لهم أثر في الترجمة والأدب العربية، وكان صاحب مدرسةٍ لها نهجها الخاص، واحتذى حذوها الأدباء من بعده.
محمد عثمان جلال:
وهو مصريٌّ من صميم الريف، ولد في "ونا القس" بمديرية بني سويف سنة 1828، وتلقى العلم في مدرسة قصر العيني، ثم في مدرسة الألسن، وكان من نبهاء تلامذة رفاعة الطهطاوي، وشغل عدة مناصب حكومية، وكان آخر ما تولاه منها منصب القضاء في المحاكم المختلطة سنة 1881، وتوفي سنة 1898 عن سبعين سنة.
امتاز محمد عثمان جلال بأنه يمثِّل الروح المصرية أتَمَّ تمثيلٍ في خفتها، وحبها للنكتة، ومرحها الجم، وقد اختلط كثيرًا بالعامة، وعرف أمثالهم ونوادرهم، ومواعظهم، وعرف كذلك ميولهما الفطرية، وحبهم للقصص العربية، وامتاز أيضًا بأنه كان أديبًا مطبوعًا، ثائرًا على المدرسة التقليدية التي تحاكي أدب القديم في محسناته وفخامته، وموضوعاته، فكان يعتمد أولًا على تجربته الشخصية، يستوحيها ويتسلهمها، ويعبر عما يحسه وعما يهديه إليه فكره، فهو في أدبه يمثل القاهرة والريف المصريّ، لا بغداد ولا قرطبة، ولا البلاد العربية وصحراءها، وهذا لعمري هو الأدب الصادق، ولولا ما شاب أدبه من إسفافٍ في اللفظ، وجنوحٍ إلى العامية، إفراطًا منه في مصريته، لكان من أفذاذ الأدباء المصريين، وأصحاب المبادئ في الأدب، وقد نقد في كتابه "العيون اليواقظ" هؤلاء الذين يدعون إلى الأدب التقليديّ، ولا يستلهمون مشاعرهم الخاصة، وأساليبهم المبتكرة:
يقولون ما هذا الكتاب وما به
…
أكاذيب أقوال البهائم في قبح
وقد زعموا أن البلاغة لم تكن
…
بأحسن مما قيل في القد والرمح
وتشبيه لون الخد بالورد واللظى
…
وتمثيل نور الوجه إن لاح بالصبح1
وقد غالى في مصريته وثورته على الأدب القديم، فأكثر من استعمال العامية، سواء في كتبه الموضوعة، أو في ترجمته للروايات المسرحية.
ومن أشهر كتبه التي تمثل هذه الروح المصرية المرحة، وتدل على شدة تأثره بعامة الشعب في أمثالهم، كتابه الذي أشرنا إليه سابقًا، وهو "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ"، الذي ترجم به أمثال "لافونتين" La Fontaine شعرًا2، وقد شحنه محمد عثمان جلال بكثير من الأمثال العامية، من مثل قوله:
1 العيون اليواقط في الأمثال والمواعظ ص102.
2 لافتونتين: شاعر فرنسي مشهور، ولد في سنة 1621، وتوفي بباريس سنة 1695، وقد اشتهر بكتابة القصص، والأمثال، أما "القصص" فقد أهمل فيه الأخلاق، ولكنه ممتلئ بالحيوية، وكتاب الأمثال هو أشهر الكتابين، ولا يزال حتى اليوم ذا منزلة عظيمة في عالم الأدب، وقد نظم فيه كثيرًا من القصص الرمزية، وقصصًا على ألسنة الحيوان؛ من أمثال تلك التي في كليلة ودمنة، بل إن كثيرًا منها مأخوذة من كليلة ودمنة الذي ترجم إلى كل اللغات الأوربية منذ القرن الرابع عشر.
راجع "Nouveau Petit La Illustre".
فإنما تأخذ من سماطي
…
ما تأخذ الريح من البلاط1
وقوله:
واحذر مدى الأيام كل ساهي
…
فإن تحت رأسه الدواهي2
وقوله:
إن كان بالتوت غضبان
…
هلبت يرضيه شرابه3
وقوله:
صدقني حاجة ما تهمك
…
وصى عليها جوز أمك4
ولغته في هذا الكتاب إما عامية دراجة، أو عربية قريبة من العامية، ومن أمثلة هذه القصص قوله:
كان البخيل عنده دجاجة
…
تكفيه طول الدهر شر الحاجة
في كل يوم مر تعطيه العجب
…
وهي تبيض بيضة من الذهب
فظن يوما أن فيها كنزًا
…
وأنه يزداد منه عزًّا
فقبض الدجاجة المسكين
…
وكان في يمينه سكين
وشقها نصفين من غفلته
…
إذ هي كالدجاج في حضرته
ولم يجد كنزًا ولا لقيه
…
بل رمة في حجره مرمية
فقال لا شك بأن الطمعا
…
ضيع للإنسان ما قد جمع
وقد كان لهذا الكتاب تأثير كبير في أدب الأطفال في عصرنا الحاضر، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الأطفال من قصة مأخوذة منه بنصها، أو محرَّفَة بعض التحريف أو منثورة، بل إن بعض المشتغلين بكتب الأطفال لم يتحرجوا في أن ينسبوا بعض قصصه إلى أنفسهم، وعلى مواله نسج شوقي كثيرًا من القصص الرمزية أو قصص الحيوان.
1 العيون اليواقظ ص149.
2 ص164.
3 ص 99.
4 ص 176.
ويقال: إن قصص "لافونتين" هذه التي ترجمها محمد عثمان جلال مأخوذة من قصص "إيسوب1".
هذا وقد ترجم عثمان جلال بعض رويات "موليير2" الهزلية: "الأربع روايات من نخب التياترات؛ منها رواية "ترتوف"، وسماها: "الشيخ متلوف" ومثلت مرارًا على المسرح المصري، ومنها: "النساء العالمات" وقد مصَّرَ أشخاص هذه الروايات وكتبها باللغة العامية.
وترجم كذلك بعض رويات "راسين3" وسماها: "الروايات المفيدة في علم التراجيدة" وقد قال في مقدمتها: "وجعلت نظمها يفهمه العموم، فإن اللغة الدراجة أنسب لهذا المقام، وأوقع في النفس عند الخواص والعوام4".
وألَّفَ محمد عثمان جلال روايةً بالعامية عن الخدم والمخدومين، ويقول الاستاذ العقاد عن ملكة عثمان القصصية عند الحديث عن هذه الرواية:"قد كان له ملكة قيمة في فن القصة والرواية المسرحية، فكانت هذه الملكة تنزع به إلى نظم الزجل غالبًا، والشعر أحيانًا، في وصف ما يقع له من النوادر والفكاهات والرياضيات، ومن ذلك زجله في الأزهار، وزجله في المأكولات، وأقوم منهما كليهما روايته المسرحية عن المخدومين والخدم، وهي باكورة في وضع الروايات المصرية، وتمثيل البيت المصريّ، والمجتمع الوطني، يندر ما يقاربها في بابها بين روايات هذا الجيل، وبحقٍّ يسمى محمد عثمان جلال أبا المسرحيات الوطنية في العصر الحديث5".
1 "إيسوب": صاحب هذه الخرافات يوناني، ولد بعد تأسيس روما بمائتي سنة، وكان عبدًا رقيقًا، وإليه تنسب هذه القصص التي قليلت على ألسنة الحيوان، وكثير منها شرقيّ: هندي، وصيني، وفارسي، وعربي، وقد ترجم قسيس إغريقي في القرن الرابع عشر كثيرًا من القصص الشرقية ونسبها إلى إيسوب.
(Masterpiece Librery of Short Stories Vol. I.P.15) .
2 موليير Moliere شاعر فرنسي، ولد بباريس سنة 1622، واشتهر برواياته التمثيلية الهزلية، ومن أشهرها: النساء المتحذلقات، والطبيب رغم أنفه، وترتوف، ومدرسة النساء، وتوفي سنة 1673 (Petit Larouse Illu Stre) .
وراجع كتابنا "المسرحية: نشأتها وتاريخها وأصوله - فصل الملهاة".
3 راسين Racine شاعر فرنسي، اشتهر بمآسيه ولد سنة 1639، وكان صديقًا لموليير، وللافنونتين، وقد بلغ المثل الأعلى في كتابة المأساة المسرحية على الطريقة "الكلاسكية" الاتباعية، ومن أشهر مآسيه: أندروماك، وقد ترجمها أديب إسحاق كما مر بنا، ، "باجازيت أو بابا زيد" وآتيل، وتوفي في سنة 1699 "راجع كتابنا المسرحية".
4 مقدمة الروايات المفيدة في علم التراجيدة.
5 شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، للعقاد ص117.
وقد يحار المرء في تحليل هذا الاتجاه الذي انحرف إليه عثمان جلال، وإيثاره اللغة العامية مع تمكنه من اللغة الفصحى، أما الدكتور طه حسين: فيرى أن ذلك لضعفه في اللغة العربية، وذلك حين يقول:"فأخذ الذوق يتغير، وكان تغيره قويًّا، ظهر في مظهرين مختلفين، أحدهما: إيثار اللغة العامية على لغة الأدب العصريّ، والآخر: إيثار اللغة القديمة، والأساليب القديمة على لغة العصر وأساليبه، ورأينا رجلًا كعثمان جلال قد أعجبه الأدب الفرنسيّ، وأراد أن ينقل إلى قومه صورًا منه، ولم يكن من الأدب القديم على حظٍّ قويٍّ، ورأى أن الأدب العصريَّ أدنى إلى الموت من أن يحتمل هذا الأدب الفرنسيّ، فيترجم لقومه، أو قل: ينقل إلى قومه تمثيل موليير في الزجل العاميّ، لا في الشعر العربيّ1".
على أن هذا الكلام على ما به من وجاهةٍ لا يؤخذ على إطلاقه، فمحمد عثمان جلال قد ترجم "بول وفرجيني" كما سنذكر فيما بعد، بأسلوب عربيٍّ فصيحٍ، كما قال كثيرًا من الشعر باللغة الفصحى، فهو لم يكن بهذه المنزلة من الضعف اللغويّ حتى يعجز عن ترجمة أمثال لافونتين، وهزليات موليير، ومآسي راسين، ويضع رواية باللغة العامية.
ولعل من الأسباب غير ما ذكره الدكتور طه حسين، عِظَمِ تأثره بالروح المصرية في كل شيء، وتعصبه للهجة العامية التي هي لغة جمهرة الشعب، وقد يكون ذلك لغرض تجاريٍّ بحت؛ إذ لم يجد الأدب الرفيع سوقًا رائجةً، فأقبل على التحدث إلى جمهرة الشعب باللغة التي يفهمونها لعلهم يقبلون على كتبه، وليس أدل على رواج هذه الكتب التي تكتب بالعامية من قول الشيخ محمد عبده، "ومنها الكتب المضرة بالأدب والأخلاق، كتب الأكاذيب الصرفة، وهي ما يذكر فيها تاريخ أقوام على غير الواقع، وتارةً تكون بعبارةٍ سخيفةٍ مخلةٍ بقوانين اللغة، ومن هذا القبيل كتب أبو زيد وعنترة العبسيّ، وإبراهيم بن حسن، والظاهر بيبرس، والمشتغلون بهذا القسم أكثر من الكثير، وقد طبعت كتبه مئات المرات، ونفق سوقها، ولم يكن بين الطبعة والثانية إلّا زمن قليل2".
1 حافظ وشوقي ص4.
2 تاريخ الأستاذ محمد عبده، لمحمد رشيد رضا، ص416.
ويقول عثمان جلال مؤيدًا هذا الرأي حين حاول نشر "العيون اليواقظ":
"واشتغلت بإتمام العيون اليواقظ، وعرضتها على الوالي بواسطة المرحوم مصطفى فاضل، وكان أوصلني إليه محمد علي الحكيم، فما أثمر غرسها، فاتفقت مع فرنساويّ له مطبعة من الحجر، يسمى: يوسف بير، وعهدته بطبعها فتعهد، ثم أخلف ما وعد، فكلفت مطبعة أكبر من مطبعته، وصرفت عليها ما جمعت، ونشرتها، ثم بعد الحمار وبعتها، وقلت في ذلك:
راجي المحال عبيط
…
وآخر الزمر طيط
والناس فاثنان بخت
…
مروج وقليط
والعلم من غير حظ
…
لا شك جهل بسيط1
وقد يكون من الأسباب التي دعته إلى ترجمة المسرحيات وكتابتها باللغة الدارجة، إقبال الفرق التمثيلية على هذا النوع دون سواه، ولا سيما بعد أن أغلقت أبواب "الأوبرا" التي كان يشجعها إسماعيل، ويهب الممثلين فيها والمؤلفين لها بعض المال، ويحضر الروايات بنفسه، وكان التأليف حينذاك باللغة الفصحى، فلما أغلقت الأوبرا أبوابها؛ إذ عد التمثيل ترفًا وإسرافًا، وأنشئت الفرق الخاصة، واعتمدت على الجمهور، اضطرت إلى مجاراته في لغته، وإلى التأليف له بالعامية حتى يقبل على مسارحها.
وإذا أحسنَّا الظن بعثمان جلال قلنا: إنه جارى المصلحين في نزولهم إلى مستوى الشعب حتى يكون لكلامهم أثره، ولم ينظروا للأدب إلّا بمقدار ما يؤثر في النفوس، وقد رأى عثمان جلال انتشار الأدب الرخيص، وإقبال الجمهور على سماعه في المقاهي؛ من أمثال قصة أبو زيد، وعنترة، والظاهر بيبرس، وغيرها، فأثر أن يوجد لهم أدبًا اسمى موضوعًا، ولكن لابد من كتابته باللغة التي يفهمونها، ولا سيما حين منعت الحكومة طبع كتب الأدب الرخيص؛ إذ وجدت فيها ضررًا عظيمًا، ولبَّت نداء المصلحين بمنع تداولها2.
1 الخطط التوفيقية ج12 ص64.
2 الوقائع المصرية، العدد 1109، 11 مايو 1881.
وربما كان من حسن الظن بعثمان جلال أنه قلَّدَ أدباء الغرب في إنطاقهم أشخاص رواياتهم بلهجاتهم المألوفة، ورأى أنه ليس من المعقول أن ينطق الخادم مثلًا اللغة العربية الفصحى، ولما كان جمهرة أبطاله من عامة الشعب، لجأ إلى العامية لتكون شخصياتهم مطابقة لواقع الحياة، خاليةً من التكلف والصنعة.
ومهما يكن من أمرٍ، فإن هذا النوع من الأدب لم يكتب له الخلود؛ لأن اللغة العامية، وإن كانت قريبةً من الشعب، تنبض بالحياة، وتجدد كل يوم، فهي لغةٌ لا أصل لها، ولا نظام، ولا قاعدة، ولذلك أهمل كل ما كتب بها، وإن كنت لا أبرئ محمد عثمان جلال من مملأته للإنجليز في حملتهم على اللغة العربية، وترويجهم للغة الدارجة؛ لأنه كان إبَّان عصر القوة -عصر إسماعيل- يكتب بالفصحى، فلما انقضى هذا العهد، ورأى المحتلين يشجعون اللغة العامية، ويعاضدهم المبشرون والمستشرقون أمثال: مارتمان Martman، ويشجعونه على الكتابة والتأليف باللغة العامية، وهم أصحاب الحول والطول، وعلى طريقته تلك1.
وقد كان لمحمد عثمان جلال ومسرحياته، وكتابته باللغة العامية أثرٌ في الجيل الذي أتى بعده؛ إذ حذا حذوه "هيكل" في رواية "زينب"، التي نشرها أول الأمر سنة 1914 باللغة العامية، ومحمد تيمور ومحمود تيمور فيما أخرجا من قصص، ولكن زينب أهملت كذلك؛ لأنها كتبت بالعامية، ويقول الأستاذ المازني في شأنها:"وأعتقد أن الدكتور هيكل يوافقني الآن على ذلك -أنه لو كتبها باللغة الفصحى -فإن فيها عاميًّا غير قليل- لكان أثرها أسرع في إزخار هذا التيار الجديد"2.
ولم يجرؤ هيكل، كما لم يجرؤ من قبله محمد عثمان جلال، وقد كتبا باللغة العامية، على الجهر بأنهما ألفا هذه الروايات العامية، وإلّا انحطت منزلتهما الأدبية، ولذلك نرى عثمان جلال يرمز إلى اسمه بالحروف الأولى "م. ع.ج" على الروايات "المفيدة في علم التراجيدة" و"الأربع روايات من نخب التياترات"، كما
1 The Encyclopecia of Islam. Vol. II P. 985.
2 الأهرام 19 مارس سنة 1938، كلمة المازني في تكريم هيكل.
يكني هيكل عن نفسه حين نشر "زينب" لأول مرةٍ بقوله: "زينب -مناظر وأخلاق ريفية- بقلم مصري فلاح"، ذلك لعلمهما بأن اللغة العامية ليست لها مكانة، وأنهما يحاولان بعثها وخلقها، ولكن هيهات.
ومن الكتب التي ترجمها محمد عثمان جلال عن الفرنسية رواية "بول وفرجيني" للكاتب الفرنسيّ "برناردين دي سان بيير"1، وقد صبغها عثمان جلال بالصبغة المصرية كعادته، وسماها:"الأماني والمنة، في حديث قبول وورد جنة"، وتصرف فيها بالزيادة والنقصان، ولكنه حرص في كثير من الأحيان على روح الرواية وأصلها، وقد قال في تصدير الكتاب:"أخرجته من الطباع الإفرنجية، وجعلته على عوائد الأمة العربية، فمن تصحفه بعين النقد، رأى القد على القد، ومن قاسه بمقياس المقابلة، وطبق آخره وأوله، رأى فذًّا قرن بتوأم، وعلم أن من ترجم فقد ترجم، ثم كتبته على ورق الحنة، وسميته قبول وورد جنة، لمقارنة مخرج الاسمين، ومطابقته في لفظة اللغتين".
ولقد ترجمت هذه الرواية بعد ذلك عدة تراجم، أشهرها ترجمة المنفلوطي التي سماها:"الفضيلة"، وقد خلع عليها ثوبًا قشيبًا من أدبه وأسلوبه، وترجمته يغلب عليها الروح الأجنبيّ، وينقصها الروح المصريّ الذي اشتهر به عثمان جلال2.
وكان لعمثان جلال الفضل في تنبيه الأدباء إلى هذه الرواية، وحاول كثير منهم ترجمتها كما ذكرنا، وقد التزم عثمان جلال الأسلوب المسجوع، والقصير الفقرات، السهل العبارة، واستمع إليه يصف حال ورد جنة قبل فراقها لقبول، وسفرها إلى خالتها.
"ولما جاء العشاء، وجلس الكل على المائدة، وكان جلوسهم بغير فائدة؛ إذ كان لكل شأن يغنيه، وشاغل يشغله ويلهيه، ويأكلون قليلًا، ولا يقولون قليلًا، ثم
1 برنادرين دي سان بيير Bermardin De Sanit Pierr كاتب فرنسي من دعاة الرجوع إلى الطبيعة، ولد في سنة 1737، وتوفي سنة 1814، ومن أشهر كتبه: بول وفرجيني، ودراسة الطبيعة.
2 H.R Gibb. B.S.O.S. Vol. VII Part. P.2-3.
ما أسرع ما قامت ورد جنة أولًا، وجلست في مكانٍ غير بعيدٍ في الخلاء، فتبعها قبول، وجلس بجانبها، ومكثت تراقبه، ومكث يراقبها، وانقضت عليهما ساعة، وهما ساكنان، ولبعضهما ملتفتان.
وكانت ليلة نيرة، ذات سماء مقمرة، زائدة الإتحاف والألطاف، لا يرسمها رسام، ولا يصفها وصاف، قد نزل البدر منها منزلة القلب، ونشر أشعته على الشرق والغرب، فما يستره إلّا أثر الضباب، وبعض سحاب، كأنه حين تجلى على بساط الخضرة، بدرٌ عليه من الفضة بدرة، وكان الريح ممسكًا نفسه، والليل مطلقًا همسه، فلا يسمع في الغابات ولا في الوديان، لا صوت إنسانٍ ولا صوت حيوان، إلّا مناغاة الطيور في أوكارها، ومداعبتها مع صغارها، مسرورين بضيائه، وسكون الجو في جميع أرجائه".
وكان عثمان جلال كثيرًا ما ينطق قبول وورد جنة بالشعر العربيّ الفصيح، مع اعترافه بأنها "لم يتعلما الكتابة ولا القراءة" بل نشأ على السذاجة والبراءة، فلا يفكران في أزمانٍ مضت، ولا ليالٍ انقضت، بل قام بعقولهما الصغيرة، أن الدنيا قد انحصرت في هذه الجزيرة، وأن لا لذة لهما فوق لذتهما، ولا شغل إلّا حب أمهاتهما"1.
ومن ذلك الشعر قول ورد جنة، تذكر لهف الأمهات على أولادهن، ولذلك قبل أن تسافر إلى خالتها لتبتدئ تعلمها الدنيا:
يا ويح قلبي على نساء
…
قد لقبوهن بالأمهات
يحملن طول الزمان هَمًّا
…
على البنين أو البنات
وكل خير لهن ماضٍ
…
وكل ضيرٍ لهن آتٍ
ما تم حظٌّ لهن إلّا
…
بدَّلَه الله بالممات
1 الأماني والمنة ص18.
فقال لها قبول، وقد أحسن أن يقول:
وحق حبي لك يا أختاه
…
وما اعترى قلبي وما أتاه
لترين اليوم أمهاتنا
…
ولنبيتن معًا في بيتنا1
وأسلوب عثمان جلال في "بول وفرجيني" كما ترى من الأساليب الخالية من التعقيد، والتي تنطلق في يسر ورشاقة، ويدل على تمكنه من اللغتين الفرنسية والعربية، فقد حصر على الأصل كل الحرص، وأداه بخير أداء، ولولا تمصيره لأشخاص الرواية، وجعله الكنيسة مسجدًا، وبرج ناقوسها مئذنة، وصبغها بالصبغة المصرية الخالصة، لجاءت ترجمته مثلًا في الترجمة؛ إذ أضفى عليها من الأمانة، وخفة الظل، وسهولة اللفظ شيئًا كثيرًا.
ومن الذين اشتهروا بالترجمة خليفة محمود، وقد ترجم "إتحاف الملوك الألبا بتقديم الجمعيات في بلاد أوربا"، وكتاب "إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الإمبراطور شرلكان" وترجم محمد أحمد عبد الرزاق كتاب "غاية الأدب في خلاصة تاريخ العرب" تأليف المؤرخ الفرنسيّ "سيديللو"، وترجم بشارة شديد رواية "الكونت دي موت كريستو" تأليف:"إسكندر دوماس"، وجاءت بعبارة بسيطة ليكون ذلك سهلًا على عامة الناس، كما يقول المترجم.
وترجم حسن عاصم خطبة "رينان" الفرنسيّ، وموضوعها "الدين الإسلاميّ والأمة العربية"، وترجم مراد مختار من التركية "قصة أبي علي بن سينا، وشقيقه أبي الحارث، وما حصل منهما من نوادر العجائب، وشوارد الغرائب".
وهذه أهم الكتب الأدبية التي ترجمت في عصر إسماعيل، ويقول قدري باشا: إن مستوى الترجمة قد هبط بمصر بعد أن أغلقت مدرسة الألسن، ولم يخلفها معهد آخر لتخريج العلماء الأكفاء في التعريب، ولذلك استعانت الحكومة بالأجانب.
المصدر السابق ص29.
نعم إن مدرسة الألسن قد أعيدت في عهد إسماعيل -كما ذكرنا، بيد أن تخريج المترجمين لم يكن موضع عناية، ولا سيما بعد أن حولت إلى مدرسةٍ للحقوق سنة 1886.
أما التأليف فقد خطا خطواتٍ لا بأس بها، ولا سيما في القانون والتاريخ والعلوم، فقد ألف قدري باشا ثلاثة كتب، رتب فيها أحكام الشريعة الإسلامية في المعاملات المدنية والأحوالت الشخصية والوقف، على مذهب أبي حنيفة، وصاغها في شكل مواد قانونية، وهي كتاب "مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان" في المعاملات الشرعية، وكتاب "الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية"، وكتاب "قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف".
أما التأليف في العلوم، فهناك عشرات الكتب من تأليف علي البقلي، والشافعي، ومحمد بيومي، وصالح مجدي، ومحمد سليمان، وهو أول من برع في الترجمة من الإنجليزية.
وقد ذكر قدري باشا1 أن تلاميذ رفاعة بك عرَّبُوا نحو ألف كتاب، أو رسالة في مختلف العلوم والفنون، وأن جميع الذين نبغوا في الترجمة كانت لهم مؤلفات قيمة.
هذا، وقد توسعت حكومة إسماعيل في فتح المدارس والمعاهد على اختلاف أنواعها ودرجاتها، واقتضى ذلك تنسيق العلوم والمواد المختلفة لصغار التلاميذ، فألفت الكتب العربية شاملةً كل نواحي العلم، من: حساب وجغرافيا وتاريخ وطبيعة كيمياء وحيوان وحياة ولغة، إلى غير ذلك مما مهَّدَ السبيل لبلوغ النهضة ذورتها في عصرنا الحالي.
1 تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي، ص511.
6-
النهضة في بلاد الشام:
لا نستطيع أن نغفل أثر السوريين في الأدب إبان القرن التاسع عشر وفي عصرنا الحاضر، ولقد ساعدهم على النهوض، ومكنهم من خدمة اللغة حرصهم على التعليم، ووجود الإرساليات التبشيرية.
والباحث في نهضة سوريا التعليمية يعجب أشد العجب؛ لأن الأتراك تركوا البلاد تتخبط في ديجور مطبقٍ من الجهالة ردحًا طويلًا من الزمن، ولم ينشئوا من المدارس إلّا القليل الذي لا يكاد يذكر، وهي مدارس لا يجاوز ما تلقنه لتلاميذها مبادئ العلوم، وكان أكثر الذين بنوا مدارس دمشق غرباء عنهم، وقد ظلت المدارس التي أسست في عهد ملوك الطوائف مفتوحةً للطلاب قبل زمن الأتراك، بيد أن الناس قد فسدوا في القرون الأخيرة، وتوفروا على التهام تلك المدارس وأوقافها.
وكان معظم هذه المدارس دينية؛ فمدرسة للفقه الحنفيّ، وأخرى للشافعيّ، وثالثة للمالكيّ، ورابعة للحنبليّ، ومنها مدراس لدارسة القرآن وتجويده، ومنها دور الحديث، وكان هناك مدرسة للطب، وأخرى للصيدلة، غير أن كل هذه المدارس قد أُغْلِقَت بعد دخول الأتراك بلاد الشام1.
ولما رأى الأتراك أن مصر ولبنان قد سارتا خطواتٍ واسعةٍ في درج النهضة العلمية، لم يستطيعوا أن يغمضوا أعينهم عن التأخر والفساد والجهل الذي كان فاشيًا في سوريا، وقد وُكِّلَ إليهم أمرها، فأسسوا في أخريات أيامهم مدرسةً للحقوق، هي اليوم أحدى كليات الجامعة السورية، وأنشئوا مدرسة التجهيز والمعلمين سنة 1304هـ-1882م2.
وفي سنة 1321هـ-1900م صدرت إرادة السلطان عبد الحميد بإنشاء مدرسةٍ طبية بدمشق، وأن يخصص لبنائها عشرة آلاف ليرة، ومثلها لنفقاتها ولوازمها، وذلك لأن بيروت أخذت تخرج أبناء البلاد في مدرستيها الأجنبيتين الأمريكية واليسوعية3.
1 خطط الشام لكرد علي، ص69 ج6.
2 راجع خطط الشام لكرد علي، ص102 ج6.
3 نفس المرجع ص104.
أما غير دمشق من مدن الشام فكانت مقفرةً من المدارس تقريبًا إلّا حلب، وهي أكبر مدن سوريا، وقد عمرت قديمًا بكثير من المدراس، ولكنها خربت على يد العثمانيين، وجاء في تقويم 1332هـ-1912 أن بحلب الشهباء اثنتنين وثلاثين مدرسة، وما نظن العامر منها يتجاوز العشر1.
وإذا كانت دمشق وحلب لم يسعدهما الحظ بالنهوض السريع، فإن نصارى لبنان كانوا أسبق إلى اليقظة من إخوانهم المسلمين في دمشق وغيرها، بفضل الإرساليات التبشيرية، ولصلة النصارى الدائمة بأوربا المسيحيحة، يستمدون منها القوة ضد الدولة العثمانية المغتصبة.
وكان التعليم في لبنان -كما كان غيره- دينيًّا، ومن أوائل المدارس التي أسست فيه "مدرسة عين ورقة" سنة 1789، وكانت ديرًا، ثم حُوّلَت إلى مدرسة، وكانت تدرس فيها اللغة السريانية، والعربية، والفصاحة، والمنطق، واللاهوت.
ولكن المدارس لم تنتشر، والنهضة لم تعم البلاد إلّا في الربع الثاني من القرن التاسع عشر، حين أسست مدرسة "عينطورا" سنة 1834م، ولا تزال مفتوحة الأبواب حتى اليوم، وقد تعَلَّم فيها عدد من زعماء النهضة اللبنانية الحالية.
ولما وفد على لبنان الدكتور "فانديك" الأمريكيّ مبشرًا بالدين المسيحيّ، والمذهب البروتستانتي، ورأى البلاد في حاجةٍ للمدارس العلمية، أنشأ مدرسة "عبية" سنة 1847.
كانت كل هذه المدارس في الجبل؛ لأنه موئل المسيحية، فلما وقعت مذابح سنة 1860، ونزح كثير من أهل الجبال إلى بيروت، ابتدأت الإرساليات تفتح المدارس فيها، ومن ذلك الوقت تبتدئ النهضة الحقيقية بلبنان.
وأقدم مدرسة أنشئت ببيروت كانت للبنات اليتامى اللاتي فقدن آباءهن في مذابح سنة 1860، وأسستها "مسز طمسن" في تلك السنة، ثم المدرسة الكلية الإنجليزية الأمريكية للبنات سنة 1861.
1 خطط الشام لكرد علي، ص11 ج6.
وقد كان لهاتين المدرسيتن أثر عظيم في النهضة؛ لأن تعليم الأم أول خطوةٍ في تعليم الشعب، وقد كثرت مدارس البنات في لبنان خاصةً، بعد ذلك كثرة ملحوظة، ولا ريب في أن الأم المتعلمة لن ترضى لأولادها الجهل.
ومن أوائل مدارس البنين: المدرسة الوطنية، للمعلم بطرس البستاني، في سنة 1863، وكانت ممتازة بصبغتها الوطنية، وحرية الدين، ولكنها تعطلت سنة 1876، وأنشئت المدرسة البطريركية، للروم الكاثوليك، سنة 1865، ومدرسة الحكمة في السنة نفسها، وهي للطائفة المارونية، وأقدم المدارس الإسلامية هي كلية المقاصد الخيرية الإسلامية، سنة 1880.
أما التعليم العالي فيتمثل في الكلية الأمريكية والكلية اليسوعية، وقد أنشئت الأولى ببيروت سنة 1866، وبها الآن فروع للطب، والفلك، وطب الأسنان، والتجارة، والآثار، والآداب، ولها قسمٌ إعداديّ وثانويّ، وبها مرصد فلكي، ولما قوي نفوذ الإنجليز في الشرق بعد الحرب العالمية الأولى، وصار تعلم الإنجليزية ضروريًّا اتسعت الجامعة الأمريكية، وزاد إقبال الطلاب عليها، وقصدوها من كل البلاد العربية، وبها ما يقرب من خمسة آلاف طالب، وقد اتسعت مبانيها، ،ألحق بها مستشفى عظيم، ولها عناية بالمؤلفات العربية1.
أما الكلية اليسوعية: فقد نقلت إلى بيروت سنة 1874، وتعلم اللغات، والآداب، والطبيعيات، والرياضيات، وبها ثلاث شعب رئيسية: الحقوق والطب والهندسة، ولها مستشفى كبير، والتعليم فيها باللغة الفرنسية، وبها مكتبة من أنفس المكتبات العربية، ومطبوعات اليسوعيين ذات شهرة عظيمة.
كان لهذه النهضة التعليمية في لبنان أثر بالغ في ثقافة الشعب، والإقبال على القراءة، والتنافس في أسباب الرقي بين الطوائف المختلفة، كل طائفة تسعى لأن تبز الأخرى وتحتل دونها مركزًا أدبيًّا ممتازًا في القطر الصغير.
1 من أشهر أساتذتها الذين عرفناهم الرئيس "دودج" والأستاذ بولس الخولي، أستاذ التربية، والأستاذ أنيس المقدسي، أستاذ الأدب العربي، والدكتور قطسنطين زريق "وكان مديرًا للجامعة السورية"، والدكتور شارل مالك، وقد صار وزيرًا مفوضًا بالولايات المتحدة، والدكتور أسد رستم، ناشر مخطوطات الشام في عهد محمد علي، والدكتور مصطفى الخالدي.
ولكن كثيرًا من أدباء لبنان في القرن التاسع عشر قد آثروا الهجرة إلى مصر، لاضهاد تركيا المسلمة لهم، ولضيق المجال أمام تفوقهم في بلادهم، ومن أشهر مَنْ وفد على مصر من هؤلاء الأدباء، غير من ذكرنا سابقًا من الصحفيين: جورج زيدان، وطانيوس عبده، وأديب إسحاق، وسركيس، ويعقوب صروف، وفارس نمر1.
وقد نشر زيدان في مجلة الهلال كثيرًا من البحوث المترجمة، واختصت المقتطف بالأبحاث العلمية، ومن أشهر آثار اللبنايين في الترجمة تعريب الإلياذة شعرًا، وقام بهذا العمل الضخم سليمان البستاني2.
ولكن الأسف قد طغت الفرنسية على أهالي لبنان بعد الحرب العالمية الأولى، حينما خضعت بلادهم لحكم فرنسا، ففرضت الفرنسية في جميع المدارس، تُعَلِّم بها كل المواد ما عدا اللغة العربية، فاستعجمت ألسنة شبابهم وأدبائهم، وركت أساليبهم، وضعفت الترجمة إلى حد كبير، ولا سيما المسيحيين، أما المسلمون فقد انصرفوا للتجارة، وإن كانوا أصلح لغة من إخوانهم، ولولا شعراء الجيل الماضي وأدباؤه؛ لتأخرت منزلة لبنان في الأدب، على أن هذا الوضع قد تغير نوعًا ما بعد الثورة 1945، واستقلال لبنان، وأخذت النهضة الأدبية فيه تشتد وتقوى، وأسست فيه دور نشر قوية، وظهرت ثمة بعض الصحف الأدبية الراقية، وإن كان أثر الثقافات الأجنبية في نتاج أدبائه واضحًا كل الوضوح، وأخذ كثيرٌ منهم يقلد المذاهب الأدبية الأوربية بحماسة ظاهرة.
1 وسنترجم لهم في الأجزء التالية من كتاب الأدب الحديث إن شاء الله.
2 ولد سنة 1856، وتوفي سنة 1925، وابتدأ في ترجمة الإلياذة سنة 1887 بالقاهرة، وتعلم اليونانية ليترجم الإلياذة. زونظمها في أحد عشر ألف بيت غير متقيد بوزن واحد ولا قافية واخدة بل استعمل كل ضروب الشعر وبحوره، وانتهى من نظمها سنة 1895، وشرحها وعلق عليها بألف بيت من الشعر وبكثير من القصص العربية، وانتهى من شرحها سنة 1902، ونشرت لأول مرة كاملةً بشرحها ومقدمتها سنة 1904.