الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يرتجل الخطابة لسهولة منحاه وتدفق كلامه، وتناسق عباراته، إلّا حين يكتب الخطب المنبرية، أو المقامات المصنوعة.. على أنك قد تقول ما بدا لك في شعر عبد الله نديم وفي خطبه وفي كتاباته وفي تحقيقه العلمي وملكاته الأدبية، ولكنك لا تستطيع أن تنكر عليه أنه كان أعجب نموذج من نماذج الشخصيات في تاريخ الأدب المصري الحديث".
أما نحن فقد أصدرنا حكمنا عليه في هذه الترجمة، ووفينا أدبه درسًا، وبينَّا خصائصه كما ظهر لنا من آثاره القليلة التي أبقى عليها الزمان.
4-
أحمد عرابي:
إذا كان جمال الدين الأفغاني قد أثَّرَ في مصر بتعاليمه وفلسفته ووحي تجاربه التي أفادها من رحلاته الكثيرة، وإذا كان قد قصد إلى إيجاد قطرٍ قويٍّ من أقطار الإسلام يكون نواةً لوحدة إسلامية كبرى، ويعيد للمسلمين سالف مجدهم وغابر عزهم، وإذا كان قد مهَّدَ للثورة العرابية، وهيأ النفوس لها؛ فإن أحمد عرابي لا يقل عنه خطرًا ولا أثرًا، وأغلب الظن أنهما لم يلتقيا، وإن اتفقا في كثير من الأمور، واختلفا في الغاية والوسيلة.
أما الغاية: فإن أحمد عرابي كان همه الأول تخليص المصريين من العذاب والذل والاستبداد والسخرة والاستغلال، واستصفاء مصر لأهلها ينعمون بخيرها وبرها، ويعيشون فيها أحرارًا على قدم المساواة مع هؤلاء الذين شاءت الأقدار أن يكونوا حكامًا لها، ولم يكن يهدف إلى تكوين وحدة إسلامية، بل لم يكن متعصبًا تعصبًا دينيًّا ألبتة، وأما الوسيلة: فإنه لجأ إلى عامة الشعب لا إلى الخاصة من المثقفين، ولم يكن يميل إلى العنف، وإنما اضطر إليه اضطرارًا ردًّا للعدوان، ودفاعًا عن الحقوق المهضمومة والنفوس المظلومة.
ولم يكن تلاميذ جمال الدين وعلى رأسهم محمد عبده، راضين عنه أول الأمر، بل كانوا ينظرون إليه بازدراء، ويعدونه زعيم غوغاء، وإن أرغمتهم الحوادث والشعور الوطنيّ الجارف على أن ينضووا تحت لوائه، ويخوضوا معه غمار الثورة.
في أحمد عرابي يتمثل العنصر المصري الأصيل بصفاته الجسمية والخلقية، وفيه تركزت آمال الأمة وآلامها، وتعد ثورته أول ثورة مصرية واعية على الظلم الذي طال أمده، وتعد ثورة شعب لا ثورة فرد، ولم يكن أحمد عرابي إلّا لسان ذلك الشعب يعبر عن أحساسيسه، ويترجم عن أماله وآلامه، فاكتسب بذلك عداوة الخديو وآل بيته، وعداوة الأرستقراطية الكاذبة التي مكن لها بمصر، والتي كانت تتمثل في المماليك والجراكسة والأتراك، هؤلاء الذين كانوا ينظرون إلى الفلاح المصريّ بعين الزراية والاحتقار، وهم ينعمون بكده وثمرة شقائه، وعداوة الإنجليز الذين حاربهم، وأظهر خبث طويتهم وسوء نيتهم، والذين كانوا يتربصون بمصر الدوائر، ويدبرون لها المكايد منذ أن هزموا في معركة رشيد سنة 1807.
نشأته وشخصيته:
تضافرت عدة عناصر على تكوين شخصية عرابي، وجعلته أصدق مَثَلٍ للفلاح المصريّ المكافح المضطهد، الذي يشعر بالظلم، ويأنف منه، ويطالب بالحرية والكرامة في قوة وصرامة.
ولد بقرية "هرية رزنة" بالقرب من الزقازيق سنة 1841، من أسرة تنتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعتز بانتسبها إليه، وكان والده محمد عرابي على شيءٍ من العلم والدين، معروفًا بالتقوى، وكان فقيه القرية، يقرئ أطفالها القرآن، ويعلمهم مبادئ القراءة والكتابة، وعلى يديه تعلم ابنه أحمد حتى حفظ القرآن، ثم دخل الأزهر، ومكث به أربع سنوات، وعاد بعدها ليكدح في الحقل كما يكدح ذووه.
ثم شاء الله أن يعده لشيء آخر، حين أراد "سعيد" أن ينهض بالجيش، وأن يجند أبناء العمد والمشايخ وأعيان الفلاحين، وكان يميل إلى المصريين، ويعدهم أساس مصر، ولا سبيل إلى نهضتها إلّا بهم، فجند أحمد عرابي، وسرعان ما ظهر تفوقه، وترقى بسرعةٍ خاطفةٍ حتى وصل إلى رتبة "قائمقام" وهي رتبة لم
يصل إليها فلاح قبله، وذلك بفضل ذكائه وطموحه، ويقول عن نفسه في تلك الأيام:"وكنت أطمع إلى منصب عالٍ يماثل منصب مديريتنا"1.
بيد أنه مكث في هذه الرتبة تسعة عشر عامًا، أي: طوال حكم إسماعيل كله، وذلك لأن إسماعيل كان على النقيض من سعيد، يؤثر الجراكسة بالترقية، ويزدري المصريين، وأحسَّ عرابي بالظلم، وابتدأ يطالب بحقه2 فاضطهد، وكان رئيسه خسرو كما يقول عرابي "رجلًا جاهلًا، متعصبًا لجنسه الجركسيّ تعصبًا زائدًا على حد المعقول، متفانيًا في الحقد على إقصائي من مركزي3" وفصل عرابي من الجيش ظلمًا وتعسفًا، ولكنه لم يستكن للضيم، وظلَّ يطالب بحقه، فعين في وظيفةٍ مدنيةٍ قام بشئونها في همةٍ وأمانةٍ، وجوزي عليها بالتقاعد من غير معاش "فيالله من أمر، وأصعب تلك المكافآت المقلوبة على النفوس الحساسة الشريفة، وما أكثر العجائب في الحكومات المطلقة المستبدة الظالمة"4.
وثار عرابي، ولم يهدأ حتى أعيد للجيش، وشعر بمرارة الظلم وقسوته، زاده شعورًا باضطهاد المصريين اشتراكه وزملائه في حملة الحبشة، حيث لمسوا من قوادهم ضعفًا وخيانةً، ولم يجد هو وزملاؤه عطفًا من أولي الأمر، بل اضطهادًا لهم، ومحاباة للأجانب الذين اصطفاهم الخديو بالرتب والنياشين والجواري الحسان، والأراضي الواسعة الخصبة، والبيوت الرحبة، وحباهم بالأمور الكثيرة، والحلى الثمينة من دم المصريين المساكين وعرق جبينهم"5.
كانت نشأته الريفية، وتربيته الدينية، وإحساسه بالاضطهاد؛ لأنه فلاح مصريّ، من أهم العناصر التي كونت شخصيته، أضف إلى ذلك أنه تأثر بكتاب أهدي إليه عن نابليون والثورة الفرنسية، وبقراءته في التاريخ العربيّ، وبخطبة ألقاها "سعيد" يشيد فيها بالمصريين وضرورة تربيتهم حتى ينفعوا بلادهم،
1 من تاريخه الذي قدمه إلى بلنت، التاريخ السري، ص344.
2 الرافعي: الثورة العرابية، ص78.
3 كشف الستار لأحمد عرابي، ص21.
4 نفس المرجع، ص22.
5 نفس المرجع، ص49.
ويتسغنوا عن الأجانب، ويقول عرابي: إنه اعتبر هذه الخطبة أول حجر في أساس نظام "مصر للمصريين"1 وكان ياورًا لسعيد، ورافقه في رحلته للحجاز، وتأثر بآرائه في "المساواة بين الطبقات، وفي الاحترام الواجب للفلاح باعتباره العنصر الأساسيّ المجد في الجيش المصري3".
وبدأ عرابي منذ عودته عن حرب الحبشة يعمل على توحيد صفوف الضباط المصريين في الجيش والتفافهم حوله، وإشعارهم بالظلم الواقع عليهم، وحرمانهم الترقية، بينما يتمتع بها سواهم من الأجانب.
ومن الصفات المميزة لشخصية عرابي شدة إيمانه، فلم يعرف عنه أن هذه الصفة فارقته حتى في أشد ساعات الضنك والشدة، وكان شديد التدين، حتى عرف بين الجند حنيئذ بالشيخ أحمد عرابي، ويقول عنه محمد عبده، وكان دائم الزراية به.
ما كان أحسنه شيخًا بزاوية
…
يغشى النساء بوعظ كان يمليه3
كانت العاطفة الدينية قوية جدًّا في نفسه، ولكنه لم يكن متعصبًا، وهذه العاطفة الدينية من خصائص الفلاح المصريّ، ولا سيما في تلك الأزمان، وكان عرابي يمجد الإنسانية عامةً، لا يتعصب تعصبًا أعمى، يقول بلنت بعد أن ذكر تمجيد عرابي للورد بيرون؛ لدفاعه عن حرية أهل اليونان:"وقد عنيت بذكر هذه النقطة لدلالتها على عطف عرابي على الإنسانية كلها، وعدم تفريقه في ذلك بين الأجناس والأديان4. وكان بلنت يعد هذه الإنسانية في عرابي أحد عيوبه، وسببًا من أسباب إخفاقه في حرب الإنجليز5، وإليها أشار "جريجوري" في حديثه معه، ومن الأسس التي أقام عليها "برودلي" دفاعه عن عرابي "مروءته وتطرفه في الإنسانية6".
1 نفس المرجع، ص15.
2 بلنت: التاريخ السري، ص98.
3 تاريخ محمد عبده لرشيد رضا، ج1 ص14.
4 بلنت: ص284.
5 بلنت: ص99، 114، 128 وما بعدها.
6 نفس المرجع ص232.
ومن مظاهر هذه الإنسانية أنه بعد أن أطلق الجند سراحه عنوة من سجن قصر النيل الذي حسبه فيه الجراكسة، وهموا بالفتك بهم، ولكن عرابي حمى هؤلاء الذين آذوه وسجنوه ولولاه لكانت مذبحة.
ومن سمات شخصية عرابي صفاته الجسمية، فقد كان طويل القامة، عظيم الهامة، ثقيل الأطراف، بطيء الحركة نوعًا، كأنه يمثل تلك القوة العظيمة التي اشتهر بها الفلاح العامل1، وكان شديد البنية متين التركيب، تلوح على وجهه أمارات الشهامة العسكرية، وسمات الهيبة والوقار، والجد مع القوة والبأس.
كان عرابي كثير الاهتمام بالتاريخ، قرأ سيرة نابليون والثورة الفرنسية كما ذكرنا آنفًا، ويوجه إليها اهتمامًا كبيرًا، وقرأ قدرًا كافيًا من تواريخ الدول، وعظماء الأمم في الشرق والغرب، كما كان يقرأ كثيرًا في نهج البلاغة، ومنه استمد قدرته الخطابية والتعبيرية، ويقول بلنت عن آراء عرابي:"إنها تعتمد على العلم بالتاريخ، وعلى تقاليد الأفكار العربية الحرة الموروثة من أيام حرية الإسلام".
كما كان يعرف كثيرًا عن إيطاليا وجهادها في سبيل وحدتها واستقلالها، ويعجب أشد الإعجاب بـ "غريبالدي"، ويمكن أن نقول: إن ثقافة عرابي كانت دينية أدبية تاريخية في حدود مطالعاته العربية.
لقد نال قدرًا ضئيلًا من الثقافة، ولكنها خصوبة ذهنه أحالت هذه البذور القليلة أشجارًا ضخمة مثمرة، وأتت أكلها وطنيةً دافقةً، وفهمًا للحرية والديمقراطية والمساواة، وتقديرًا للحقوق العامة وقواعد الإدارة والنظام2.
يقول العقاد3: "ويلوح لنا أن الرجل مخلوق من طينة العبقرية التي يمتحن صاحبها بشقوتها، كما يمتحن بنعمتها وفضلها، على أن العلامة التي لا تخطئ من علامات العبقرية هي الخصوبة الذهنية، وهي أن يثمر الذهن محصولًا وافرًا من بذور قليلة، وقد كانت الدروس التي تلقها عرابي في صباه قسطًا مشتركًا بينه وبين كل صبيٍّ من صبيان القرى، حضر مبادئ القراءة والحساب وما إليها في الكتاتيب وأروقة الأزهر المعدة للمبتدئين، ولكننا نقرأ أقواله في الحكم النيابي والمبادئ الديمقراطية والحقوق العامة وقواعد الإدارة والنظام، فيتمثل أمامنا حظٌّ وافرٌ من الفهم والمعرفة، لا يتهيأ للكثيرين ممن أحاطوا بالمعلومات المستفيضة في هذه الشئون.
1 التاريخ السري ص 104، Broodely: How we Defended. pp. 62.
2 بلنت: ص129.
3 العقاد: 11 يوليو ص107.